المجتبى عليه السلام بين وميض الحرف ووهج القافية

المؤلف:


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: المكتبة الأدبيّة المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-153-2
الصفحات: ٢٢١
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

أو ليس أولى بنا عندما ندرس صلح الإمام الحسن عليه‌السلام أو غير صلح الإمام الحسن ، أو ثورة السجّاد أو ثورة الباقر والصادق أن نجعل هذه الأحداث السياسية امتدادات معاصرة لنا ؟

يا ترى ما هو الدرس الذي نستفيده من صلح الإمام الحسن عليه‌السلام سياسياً في حياتنا السياسية المعاصرة ؟

إنّنا بحاجة إلى ( إثارة ) .. إنّنا بحاجة إلى سياسة تعيش معنا ، هكذا علمنا أئمتنا وأشركونا في حدثهم.

هل أوفينا أم لم نوف أم يجب علينا الإيفاء ؟ هذا حديثكم أنتم !

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

١٠١
 &

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMojtaba-Wamidh-Harf-Wahj-Ghafiehimagesrafed.jpg

١٠٢
 &

حدود العصمة

الشيخ حسين البدر

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ، الذي قدّر فهدى ، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

مقدمة البحث :

لا شك ولا ريب أنّ العصمة ترتبط بالعلم ارتباطاً وثيقاً ، وإن كان هناك اُمور اُخر ترتبط بها أيضاً ، فكلّما وجد العلم والإحاطة قلَّ الخطأ بل ينعدم ، والعكس صحيح فكلّما عدم العلم والإحاطة ازداد الخطأ ، فعليه ما هو مقدار العلم الذي كان لدى المعصومين عليهم‌السلام لتتحدد على ضوئه عصمتهم عليهم‌السلام ؟

ثم هنا أسئلة تُثار :

هل يمكن أن يخطىء النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله فيأمر بتأبير النخل مثلاً في غير

١٠٣
 &

وقته أو بكيفية معينة فيخرّب الثمر ويفسد ، لأنّه انكشف خطؤه أم لا ؟

هل أخطأ أمير المؤمنين عليه‌السلام حين قعد عن قتال القوم ؟

هل أخطأ الإمام الحسن عليه‌السلام حين صالح ؟

هل أخطأ الشهيد أبو عبد الله عليه‌السلام حين قام بالثلة القليلة من أصحابه وأهل بيته عليهم‌السلام وفي سوق النساء والأطفال ؟

أسئلة عديدة فهل أخطأ هذا الإمام حين قام وأصاب ذلك حين قعد ؟ هذا ما يدور حوله فلك هذه كلمة في ثلاثة أقطاب :

القطب الأوّل : عصمتهم عليهم‌السلام.

القطب الثاني : في مقامهم عليهم‌السلام.

القطب الثالث : في سبب تضييق اُفق العصمة لديهم عليهم‌السلام ، وبعبارة اُخرى : هل تختص عصمتهم عليهم‌السلام في حدود تبليغ الأحكام ام تتجاوزه إلى الموضوعات بل الجزئيات العادية.

كانت الأسئلة المتقدمة من كون هذا الموطن موطن قعود أو نهوض أو موطن صلح أم لا ، شبهات موضوعية ، ومثال العاديات هل يخطىء في مسألة رياضية لا ربط لها بالحكم الشرعي فيكون كبقية الناس أم لا ؟ العصمة كان النقاش فيها مع الطرف الآخر مع غير الإمامية الإثني عشرية ، وقد أشبع هذا البحث نقضاً وإبراماً مع العامّة ، والعنوان العريض الذي عرف به المذهب الإمامي الإثنا عشري الجعفري هو أنّ العصمة لهم عليهم‌السلام لا حدود لها على مستوى الأحكام أو الموضوعات أو غيرها لعدم الفصل قديماً ، وأن اُثير مؤخّراً إلى أن وصل إلى درجة التبنّي ..

وما نُقِل عن الصدوق رحمه‌الله من جواز الإسهاء لا يخل ولا ينافي كون ما قلناه عنواناً عريضاً عرف به المذهب الإمامي الجعفري الاثنا عشري.

١٠٤
 &

إذا عرفت ذلك فنقول وبالله المستعان :

القطب الأول : العصمة في سعة اُفقها.

الدليل الأوّل : الكتاب وفيه آيات.

الاُولى : قوله تعالى : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) (٥) ، التبيان والبيان معناه واحد وهو التوضيح والوضوح ، وقبل الاستدلال لا بأس ببيان أمر وهو : أنّ البيان لكل شيء تارة يمكن تصوره بإعطاء الكليات من قِبَل الله عزّ وجل وإيكال التطبيق على الجزئيات إلى المنزل عليه الكتاب كاملة ، واُخرى ببيان الجزئيات بشكل مباشر ، أي من غير توسّط الكليات ، كما ربّما يميل إلى ذلك العلّامة السيد الطباطبائي قدس‌سره لكن بشكل خاص لا يحيط به إلّا أهل القرآن ومَن خوطب به وهم المعصومون بمَن فيهم الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، ومن هذا المنطلق قد أشار السيد الشهيد رحمه‌الله إلى أنّه يمكن الحدس بالأحداث المستقبلية من خلال التوافر على دراسة قصص الاُمم الغابرة المذكورة في القرآن الكريم.

تقريب الاستدلال بالآية الشريفة : أنّ ( شيء ) في الآية عام لا يخص الأحكام فقط ، بل يشملها ويشمل الموضوعات والجزئيات رياضية وهندسية وطبية ، لها علاقة بالأحكام أو لم تكن ، فهو مبين لها وكاشف عنها أمّا على نحو القوانين الكلية أو على نحو الجزئيات بشكل خاص كما ذكرنا ، وبما أنّ الحامل للقرآن والمبين له هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام وبضميمة حديث الثقلين ، وغيرها ممّا دلّ على قرنهم بالقرآن وإيداعه عندهم يتم الاستدلال من أنّهم لا بد أن يحيطوا بذلك الكل وذلك الشمول المذكور في الآية لكي يتم البيان للمستخلف عليهم والمبيّن لهم.

الآية الثانية : قوله تعالى : ( وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ .. ) (٦) ، وهذا بالإضافة إلى اشتمالها على الاستدلال المتقدم ، قد عدّدت اُموراً عادية من دبيب الدابة وطيران الطائر

١٠٥
 &

بجناحيه أيضاً ، ولا بد أن يحيط خليفة الله عزّ وجل في الأرض بذلك بما يتناسب وعظم خطر الخلافة ومقامها الإلٰهي.

الآية الثالثة : ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ ) (٧) ، على بعض الروايات أنّه أمير المؤمنين عليه‌السلام وما عنده صار إلى من بعده من الأئمة الطاهرين عليهم‌السلام.

الدليل الثاني : الإجماع : والمقصود هنا الضرورة ومعقده عدم التفصيل بين الأحكام أو غيرها ، بل في بعض كلمات القوم التصريح بعصمتهم في غير الأحكام أيضاً يلاحظ ذلك عند دفاعهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في قصد أمره بالتأبير.

الدليل الثالث : الفطرة أو اللّطف ، ويستدعي تقديم أمر وهو ان خليفة الله في الأرض إنّما جعل لأجل التقريب إلى الله عزّ وجل والتبعيد عن معصيته تعالى ، إذا عرفت ذلك فنقول ان فرض إمكان خطأ الخليفة ينافي الغرض الذي من أجله جعل الإمام وذلك أنّ الخطأ جهل ونقص ، والنقص ينفّر ذوي الطباع السليمة وذلك حتى في المسائل العادية كما هو ملحوظ في حياتنا ، فلو كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الأئمة عليهم‌السلام بل حتى الصديقة الطاهرة فاطمة عليها‌السلام يخطئون لكان ذلك مصادماً للمعادلة المذكورة ، فتنفر الطباع منهم فينتفي الغرض وهو التقريب إلى الله عزّ وجل والتبعيد عن معصيته ، وعلى العكس تماماً لو لم نفرض فيه الخطأ فانّ الانشداد إليه إلٰهياً أشد ، ثم ان ذلك العبقري الذي وصل في الذكاء والاختراع غايته مَن سيكون قدوته غير الخليفة ؟ وعليه لا بدَّ أن يكون الخليفة أكمل مَن على وجه الأرض ، بل من في الكون بعد الله عز وجل. ومن هذا كلّه يجب توجيه ما ظاهره الجهل في عبارات المعصومين عليهم‌السلام إن أمكن بمثل إظهار الكرامة للناس أو تقرير أمر على حذو ( أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ ) (٨) تعالى الله أن يكون جاهلاً فيصدر منه هذا السؤال ، وإلّا رُدّ لأهله ، ثم أن في قبال ما ظاهره الجهل مواقف تدل على سعة علمهم كإخبارهم عن اسم الشخص وما جاء لاجله

١٠٦
 &

ابتداء ، وأمثال ذلك وممّا يوجب الأنس بذلك ما سيذكر في القطب الثاني.

الدليل الرابع : الروايات ومنها ما ورد في اُصول الكافي ج ١ كتاب الحجة ، ذكر الأرواح التي في الأئمة عليهم‌السلام : محمد بن يحيى عن أحمد عن الحسين بن سعيد عن حماد بن عيسى عن إبراهيم اليماني عن جابر الجعفي قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : يا جابر انّ الله تبارك وتعالى خلق ثلاثة أصناف وهو قول الله عز وجل : ( وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً ... إلى وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) (٩) فالسابقون هم رسل الله عليهم‌السلام وخاصة الله من خلقه ، جعل فيهم خمسة أرواح أيّدهم بروح القدس فيه عرفوا الأشياء الحديث وما بعده فيه أسرار عظيمة فليراجع ثمة ، وكذا الباب الذي قبله.

القطب الثاني : مقامهم عليهم‌السلام ويعرف من الآيات كقوله تعالى : ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) (١٠) ، وأعظم به من مقام ! ومن الروايات ما ورد في اُصول الكافي : ابو محمّد بن العلاء رحمه‌الله رفعه عن عبد العزيز بن مسلم قال كنّا مع الرضا عليه‌السلام بمرو فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا فأداروا أمر الإمامة ، والحديث طويل نقتصر على محل الشاهد « هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الاُمّة فيجوز فيها اختيارهم ، إنّ الإمامة أجلّ قدراً وأعظم شأناً وأعلى مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بقولهم ، أو ينالوها بآرائهم ... » (١١) الحديث ، والباب يشتمل على أحاديث صحيحة بنفس المضمون فليراجع.

وباب إنّ الأئمة عليهم‌السلام هم العلامات التي ذكرها الله عز وجل في كتابه : الحسين بن محمّد عن معلى بن محمّد عن الوشاء قال سألت الرضا عليه‌السلام عن قوله الله تعالى : ( وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) (١٢) ، قال نحن العلامات والنجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهم الآيات والذكر في الكتاب كما جاء في بعض الروايات (١٣).

القطب الثالث : إنّ سبب القول بخطئهم في غير الأحكام ، هو إنّما ليكون

١٠٧
 &

مدخلاً في خلخلة مقامهم عليهم‌السلام فيكونوا هم وغيرهم على حدٍّ سواء ، فتقبل كلمة ذلك الغير ومنصبه وتبرّر أخطاؤه وزلّاته (١٤).

هذا ومن خلال العرض السابق نصل إلى أنّ ما اُثير من الطعن في شخصية الإمام الزكي الحسن بن علي أمير المؤمنين عليهما‌السلام وصلحه مع معاوية لعنه الله لا واقع له من الناحية الفنية والاعتقادية.

الهوامش

(٥) سورة النحل آية ٨٩.

(٦) الأنعام آية ٣٨.

(٧) سورة يس آية ١٢.

(٨) سورة المائدة آية ١٦٦.

(٩) ج ١ ص ٢٧١.

(١٠) سورة البقرة آية ٣٠.

(١١) اُصول الكافي ج ١ ص ١٩٨ كتاب الحجة.

(١٢) سورة النحل آية ١٦.

(١٣) ج ١ ص ٢٠٦ من نفس المصدر.

(١٤) اُصول الكافي ج ١ ص ٢٠٧ و٢١٠.

١٠٨
 &



معطيات رسائل الإمام الحسن عليه‌السلام إلى معاوية

الشيخ نزار سنبل

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين :

المدخل

أراني لا أخطىء الواقع إن أنا قلت : بأنّ الدور الذي جاء عقيب شهادة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام هو من أخطر الأدوار التاريخية التي مرّت على أهل البيت عليهم‌السلام وشيعتهم ، إن لم يكن أخطرها ، وإنّه المنعطف الثاني الخطير في مسير الدولة الإسلامية وقد زاد في هوّة المنعطف الأوّل كثيراً ، وإنّ الحالة الاجتماعية والسياسية التي رافقت هذا الشرخ العظيم في جسد الاُمّة المسلمة ، كانت متردية إلى أبعد الحدود ، والله وحده يعلم مدى المعاناة التي عاناها الإمامان الحسن والحسين عليهما‌السلام في سبيل إصلاح ذلك الوضع السيء ، يقتفيان خطى أبيهما

١٠٩
 &

العظيم عليه‌السلام في الذب عن كرامة الاُمّة وحريم الإسلام.

ويمكن طرح الفكرة بصورة أوضح من خلال اُمور :

١ ـ إنّ شهادة الإمام علي عليه‌السلام ـ زعيم الدولة الإسلامية ـ كانت في محراب المسجد الجامع ، وفي أعظم شهور الله حرمة وهو شهر رمضان ، عقيب مؤامرة دبرها نفر من الخوارج.

٢ ـ بلغ خبر شهادة الإمام عليه‌السلام الشام فعقد معاوية اجتماعاً طارئاً دعا فيه دهاة العرب الذين أخذوا على أنفسهم أن لا يعلو صوت لآل أبي طالب عليه‌السلام الذي هو صوت الإسلام الحقيقي ، ليُحكموا الخطط ويحوكوا المؤامرات ضد الإمام الحسن عليه‌السلام وحكومته كما ستعرف بعض ذلك عن قريب.

٣ ـ إنّ المناوئين الآخرين الذين نقضوا أو تخلّفوا عن بيعة الإمام علي عليه‌السلام يتربصون به وبأهل بيته الدوائر ، سواء من كان في المدينة ومَن خرج منها.

٤ ـ التمزق الشديد داخل عاصمة الإمام عليه‌السلام ، واختلاف الأهواء والمطامع والمشارب واُسلوب التفكير بين أفراد المجتمع الكوفي وما يتبعه من المدن والقرى والقبائل.

٥ ـ الاختلاف الكبير بين أهداف الإمام عليه‌السلام الطامح لإعلاء كلمة الله وإرساء الحق والعدل بين المنظومة الإنسانية ، وبين ما يفكر فيه بعض الشخصيات من عاصمته في ما يعود نفعه إلى مصلحته الشخصية أو مصلحة قبيلته.

كل هذه الاُمور وغيرها والتي غابت عنّا وعن ذاكرة التاريخ ، كان لها الدور الكبير في صنع القرار واتخاذ الموقف في سياسة الإمام الحسن عليه‌السلام الحربية والسلمية ، وقد بحث الكتّاب والمؤرخون عن حياة الإمام الحسن عليه‌السلام واستوعبوا الكثير من جوانبها ، وخرجوا بنتائج ، كل بما يمليه عليه مذهبه ومشربه وطريقته في البحث.

١١٠
 &

ومن الاُمور التي كان من المفترض أن تتصدّر قائمة الأبحاث وتعنى بالدراسة والتحليل هي رسائل الإمام الحسن عليه‌السلام إلى معاوية ، إلّا أنّنا لم نرّ من ذلك شيئاً يذكر مع قيمتها التاريخية والسياسية والوثائقية ، ممّا حدا بي إلى أن ألقي شيئاً من الضوء على هذه الرسائل حتى نتعرّف معطياتها وجانباً من منهج سياسة الإمام الحسن عليه‌السلام.

والجدير بالذكر إنّني حاولتُ في هذا البحث أن أتعامل مع النص وما يحيط به من ظروف ، بدون أن أترسّم خطى أحد لأخذ رأيه أو كيفية طرحه واُسلوب تعامله مع النص ، حتى تكون النتائح أقرب إلى النص منها إلى رأي الآخرين وأفكارهم.

وليكن معلوماً لدى القارىء الكريم أنّ الرسائل المتبادلة بين الإمام عليه‌السلام ومعاوية لم تصلنا مرتّبة في كتب التاريخ من ناحية الزمان ، بل جاءت مبعثرة غير منتظمة عدا ما ورد في معادن الحكمة للكاشاني (١) حسب تتبّعي ، إلّا أنّ الملتفِت لمجريات الحوادث يستطيع ترتيبها حسب زمان صدورها ولو ظنّاً بنسبة مرتفعة ، هذا وقد اختلفت نسخها في المصادر ، لذا سوف أكتفي بالأوسع مضموناً منها.

الرسالة الاُولى :

كتب الإمام الحسن عليه‌السلام إلى معاوية مع جندب بن عبد الله الأزدي :

« من الحسن بن علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان سلام عليك فإنّي أحمد الله الذي لا إلٰه إلّا هو.

أمّا بعد فإنّ الله عزّ وجل بعث محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله رحمة للعالمين ، ومنّة للمؤمنين ، توفّاه الله غير مقصّر ولا وان ، بعد أن أظهر الله به الحق ، ومحق به الشرك ، وخصّ قريشاً خاصّة ، فقال له : ( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ) (٢) فلمّا توفي تنازعت سلطانه العرب ، فقالت قريش : نحن قبيلته واُسرته وأولياؤه لا يحلّ لكم أن تنازعونا

١١١
 &

سلطان محمّد وحقّه ، فرأت العرب أنّ القول ما قالت قريش ، وأنّ الحجّة لهم في ذلك على مَن نازعهم أمر محمّد ، فأنعمت لهم ، وسلمت إليهم ، ثم حاججنا قريشاً بمثل ما حاجّت به العرب ، فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها ، إنّهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالانتصاف والاحتجاج.

فلمّا صرنا أهل بيت محمّد وأولياءه إلى محاجتهم وطلب النصف باعدونا ، واستولوا بالإجماع على ظلمنا ومراغمتنا والعنت عليهم لنا ، فالموعد الله وهو الولي النصير.

ولقد تعجبّنا لتوثّب المتوثّبين علينا في حقّنا وسلطان نبينا وإن كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام ، وأمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدين ، أن يجد المنافقون والأحزاب في ذلك مغمزاً يثلمونه به ، أو يكون لهم بذلك سبب إلى ما أرادوا من إفساده.

فاليوم فليتعجّب المتعجّب من توثّبك يا معاوية على أمر لستَ من أهله ، لا بفضل في الدين معروف ، ولا أثر في الإسلام محمود ، وأنت ابن حزب من الأحزاب ، وابن أعدى قريش لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكتابه والله حسيبك ، فسترد فتعلم لمَن عقبى الدار.

وبالله لتلقينّ عمّا قليل ربّك ، ثم ليجزينّك بما قدمت يداك وما الله بظلام للعبيد.

إنّ عليّاً لما مضى لسبيله ـ رحمة الله عليه يوم قبض ، ويوم منّ الله عليه بالإسلام ، ويوم يُبعث حيّاً ـ ولّاني المسلمون الأمر بعده.

فأسأل الله أن لا يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئاً ينقصنا به في الآخرة ممّا عنده من كرامة.

وإنّما حملني على الكتاب إليك الإعذار فيما بيني وبين الله عزّ وجل في

١١٢
 &

أمرك ، ولك في ذلك إن فعلته الحظ الجسيم ، والصلاح للمسلمين.

فدع التمادي في الباطل ، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي ، فإنّك تعلم أنّي أحقّ بهذا الأمر منك عند الله وعند كلّ أواب حفيظ ، ومَن له قلب منيب ، واتق الله ودع البغي ، واحقن دماء المسلمين ، فوالله ما لك من خير في أن تلقى الله من دمائهم بأكثر ممّا أنت لاقيه به ، وادخل في السلم والطاعة ، ولا تنازع الأمر أهله ومَن هو أحقّ به منك ، ليطفىء الله النائرة بذلك ، ويجمع الكلمة ، ويصلح ذات البين ، وإن أبيت إلّا التمادي في غيّك سرتُ إليك بالمسلمين ، فحاكمتُك حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين » (٣).

زمن الرسالة :

ضرب الإمام علي عليه‌السلام في محراب مسجد الكوفة في الليلة التاسعة عشرة من شهر رمضان المبارك وانتقل إلى جوار ربّه في الليلة الحادية والعشرين منه في سنة ٤٠ هـ ، وبويع الإمام الحسن عليه‌السلام بالخلافة في صبيحة تلك الليلة بعد أن خطب في الناس وأبّن الفقيد العظيم أمير المؤمنين عليه‌السلام بقوله بعد الحمد والثناء : « لقد قبض هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل ولا يدركه الآخرون بعمل ، ولقد كان يجاهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيقيه بنفسه ... إلى أن قال : أيّها الناس مَن عرفني فقد عرفني ، ومَن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي ، وأنا ابن النبي ، وأنا ابن البشير النذير ، وأنا ابن الداعي إلى الله بإذنه ، وأنا ابن السراج المنير ، وأنا من أهل البيت الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، وأنا من أهل بيت افترض الله مودّتهم على كلّ مسلم ... » (٤).

ثم قام ابن عباس فحفز المسلمون على بيعته قائلاً : « معاشر المسلمين هذا ابن نبيّكم وصي إمامكم فبايعوه » فتمّت البيعة له.

١١٣
 &

فمن المحتمل قوياً أن تكون هذه الرسالة بعد البيعة بقليل فتكون في العشر الأواخر من شهر رمضان أو أوائل شهر شوّال.

ظرف الرسالة :

هي الظروف نفسها التي ذكرنا مجملها في المدخل مع ملاحظة الأزمة السياسية الخانقة الي أعقبت الحروب الثلاثة ـ الجمل ، صفّين ، النهروان ـ والتي خاضها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، مع مَن نقض بيعته ومن تخلّف عنها ، والتي ملأت قلوب الكثيرين حقداً وبغضاً للإمام عليه‌السلام وأهل بيته عليهم‌السلام وأصحابه ، كما امتلأت قلوب المشركين من قبل ، يضاف لها هنا بأنّ ظرف الدولة الإسلامية بعد استشهاد قائدها بهذه الصورة لم يكن ظرفاً عادياً بل كان حسّاساً وملتهباً ، مضافاً إلى أنّه ظرف لقاء الإمام الحسن عليه‌السلام مع معاوية وجهاً لوجه ، وانّه امتداد للصراع بين الكوفة والشام ، فانّ الإمام الحسن عليه‌السلام يمثّل خطّ أبيه الإمام بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من معنى « وجدتُكَ بعضي بل وجدتُك كلي » (٥) ، والطرف المقابل لا زال هو معاوية الذي يطمع في الملك وبقاء السلطة في يده واستمرارها في بني اُمية من بعده.

معطيات الرسالة :

تعتبر هذه الرسالة وثيقة تاريخية مهمّة جداً وتحمل بين حروفها معاني كثيرة ، وتفتح آفاقاً واسعة لدارسي التاريخ الإسلامي في تلك الحقبة من الزمان شريطة أن يرتفعوا بقلمهم عن نوازع المؤرّخ التقليدي ، والتاريخ الرسمي كما يستفاد منها معطيات عدّة منها :

الأوّل : أنّ الإمام عليه‌السلام ابتدأ الرسالة بعد الحمد لله سبحانه ، بأنّ الله بعث

١١٤
 &

محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله رحمة للعالمين ..

فكأنّ الإمام عليه‌السلام يشير بهذا المطلع إلى شيئين :

١ ـ إنّ منصب الخلافة الإسلامية موقع يخلف منصب الرسالة فلا يستحقّه كلّ أحد ، بل لا بد أن يكون أمره بيد السماء ، كما أنّ هناك صفات ينبغي تواجدها في شخص الخليفة كما هي متوفرة في شخص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى يتسنّى له أن يقوم بمهمة زعامة المسلمين الكبرى وقيادة الدولة الإسلامية بأمان ، وأن تكون له الأهلية والقدرة على إحقاق الحق وبطلان الباطل ، لمعرفتها أوّلاً ، وحمله للروحية الإسلامية التي تقبل ذلك ثانياً ، وفي هذا إشارة خفية لعدم اتصاف معاوية بهذه الاُمور المطلوب تواجدها في شخص الخليفة.

٢ ـ إنّ الرسالة الإسلامية قد ووجهت بالعداء من المشركين ولا سيما مشركي قريش من مبدأ مسيرتها وإنطلاقها ، وحاول المشركون ـ الذين كنتَ منهم يا معاوية ـ وأدها في مهدها ، فما توانى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في القيام بما اُمر به ، وإظهار الرسالة وإبرازها إلى نور الوجود ، ولقد قال كلمته المشهورة التي دكّت كبرياء قريش وزلزلت الأرض تحت أقدامهم : « والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك » (٦) ، بينما بذلتم جهدكم في إخفائها ، فكيف تريد اليوم أن تتولّى مهام الأمر الذي كنتَ تحاربه بالأمس وتجهد في دفنه وإطفائه ؟!

وليس استبعاد أمثال معاوية عن أمر الخلافة بأمر غريب بل هو عين الحكمة والصواب ، فان مَن كانت حاله هي هذه في مبدأ أمره إلى سنين كثيرة مضت من عمره تخللتها الحروب والدماء ، لا بد أن يتأثّر بالبيئة التي كان يعيش في محيطها ، والأفكار التي تربّى عليها بحيث تبقى رواسبها في نفسه فيتحرك حسب إملائها من حيث يشعر أو لا يشعر ، ثم ما حال المسلمين الذين كانوا ضدّه في المواجهة وهم يرون أنّ أميرهم

١١٥
 &

اليوم هو الرجل الذي حاربهم على كلمة التوحيد بالأمس ؟

وقد رسم الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رحمه‌الله نفسية معاوية ومَن أسلم معه يوم الفتح فقال في رسالة بعثها إلى الإمام الحسن عليه‌السلام : « واعلم انّك تحارب مَن حارب الله ورسوله في ابتداء الإسلام حتى ظهر أمر الله ، فلمّا وحّد الرب ومحق الشرك وعزّ الدين أظهروا الإيمان وقرأوا القرآن مستهزئين بآياته ، وقاموا إلى الصلاة وهم كسالى وأدّوا الفرائض وهم كارهون ، فلمّا رأوا أنّه لا يعزّ في الدين إلّا الأتقياء الأبرار توسّموا بسيماء الصالحين ليظنّ بهم المسلمون خيراً ، فما زالوا بذلك حتى شركوهم في أماناتهم وقالوا حسابهم على الله ، فان كانوا صادقين فإخواننا في الدين وإن كانوا كاذبين كانوا بما اقترفوا هم الأخسرين ، وقد منيت بأولئك وبأبنائهم وأشباههم ، والله ما زادهم طول العمل إلّا غيّاً ولا زادهم ذلك لأهل الدين إلّا مقتا .. » (٧).

الثاني : أرّخ الإمام عليه‌السلام للنقطة المهمة التي بها ظهر المهاجرون على الأنصار في سقيفة بني ساعدة ، وبالأحرى انتصرت بها قريش على الأنصار وسائر العرب ، وكان لهم بها منطق القوّة ، وهي احتجاجهم بأنّهم شجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّهم أهله وأقرباؤه ، وقد ذكّر الإمام عليه‌السلام معاوية بأنّ هذا الأمر وهي الخلافة إنّما ذهبت عن الأنصار ويمّمت صوب قريش الذين وضعوك في هذا الموضع بتأميرهم إيّاك على الشام لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله منهم ، فلم تكن للأنصار حجّة تصلح أن تناهض تلك الحجّة.

ولعل ذكر الإمام عليه‌السلام لهذا الحدث التاريخي في رسالته هذه إشارة منه إلى أنّ الذي أطمع معاوية وأمثاله في الخلافة هي وقائع السقيفة ، ولو أعطيت صاحبها الشرعي من ذلك الحين لما آلت لأمثال معاوية ، ولما حدّثته نفسه بها يوماً من الأيام وهو من هو ، ممّن عُرف بالحقد والكيد للإسلام ونبي المسلمين ، كما أنّ

١١٦
 &

الذي أطمع الزبير وطلحة بها جعلهم في الشورى من قِبَل الخليفة الثاني ، وقد صرّح بهذا المعنى الإمام نفسه عليه‌السلام في كلام له مع معاوية حيث قال : « وأقسم بالله لو أنّ الناس بايعوا أبي حين فارقهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأعطتهم السماء قطرها ، والأرض بركتها ، وما طمعتَ فيها يا معاوية ، ولما خرجت من معدنها تنازعتها قريش بينها ، فطمعت فيها الطلقاء وأبناء الطلقاء : أنت وأصحابك » (٨).

الثالث : بين الإمام عليه‌السلام انّهم ـ أهل البيت عليهم‌السلام ـ قد حاجوا قريشاً بمثل ما حاجت به سائر العرب فلم ينصفوهم إنصاف العرب لهم ، فأفصح الإمام عليه‌السلام في هذه الوثيقة عن أمر ذي بال من حياة الإمام علي عليه‌السلام بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وحين تولي غيره لقيادة الاُمّة المسلمة ، وهو أمر الاحتجاج من قِبَله عليه‌السلام على القوم ، خلافاً لما عليه كثير من مؤرخي أهل السنة وكتّابهم الذين ذهبوا إلى أنّ الإمام علياً عليه‌السلام لو كان هو صاحب الحقّ والأمر كما تزعم الشيعة لما سكت عن حقّه ، ولما بايع القوم وكان عليه أن يحاججهم في ذلك ، فاعتبروا عدم احتجاجه عليه‌السلام أمراً مسلّماً بينهم ، فهذه الرسالة إحدى الوثائق التي بيّنت احتجاج أهل البيت عليهم‌السلام على مَن تولّى زمام الأمر دونهم ، فقد كانت هناك مجموعة من الاحتجاجات مثل قول الإمام علي عليه‌السلام : « احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة » (٩) ، وما يُنسَب إليه من الشعر :

فإن كنتَ بالقربى حججتَ خصيمهم

فغيرك أولى بالنبي وأقربُ

وإن كنتَ بالشورى ملكتَ اُمورهم

فكيف بهذا والمشيرون غيّبُ

وما روي أنّ الإمام علي عليه‌السلام أتى إلى أبي بكر وهو يقول : « أنا عبد الله وأخو رسوله » فقيل له بايع أبا بكر.

فقال : « أنا أحقّ بهذا الأمر منكم ، وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الأنصار ، واحتججتم عليه بالقرابة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتأخذونه منّا أهل البيت

١١٧
 &

غصباً ، ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمّد منكم ، فأعطوكم المقادة وسلّموا إليكم الإمارة ، وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار ، نحن أولى الناس برسول الله حيّاً وميتاً ، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون ، وإلّا فبوؤا بالظلم وأنتم تعلمون » (١٠).

وقول السيدة الزهراء عليها‌السلام في خطبتها المعروفة : « فلمّا اختار الله لنبيه دار أنبيائه ومأوى أصفيائه ظهرت فيكم حسيكة النفاق وسمل جلباب الدين ونطق كاظم الغاوين ونبغ خامل الأقلين وهدر فنيق المبطلين فخطر في عرصاتكم وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم فألفاكم لدعوته مستجيبين وللغرة فيه ملاحظين ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً وأحمشكم فألفاكم غضاباً فوسمتم غير إبلكم وأوردتم غير شربكم هذا والعهد قريب .. » ، وفيها : « ويحكم أنّى زحزحوها ـ الخلافة ـ عن رواسي الرسالة ، وقواعد النبوة ، ومهبط الوحي الأمين » وفيها : « ألا قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض ، وأبعدتم مَن هو أحقّ بالبسط والقبض ».

ومن المحتمل انّه عليه‌السلام إنّما بيّن هذا الجانب لمعاوية لعلمه عليه‌السلام بأنّ معاوية أراد بثّ هذه الشبهة في نفوس العامّة ، بحيث اتّخذه المؤرخون أمراً مسلّماً فيما بعد.

الرابع : يظهر من قول الإمام عليه‌السلام : « ولقد تعجّبنا من توثّب المتوثّبين علينا في حقّنا .. الخ » أنّ أحقيّة الإمام علي عليه‌السلام للسلطة الدينية والزمنية بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بلا فصل ، وانّه الخليفة المنصوب من قِبَل السماء ، أمر لا خفاء فيه على أحد ، بحيث كان من الوضوح والاشتهار أن أثار التخلّف عنه وإنكاره التعجّب والاستغراب في نفوس أهل البيت عليهم‌السلام والخلّص من المسلمين ، فإنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قد ركّز فكرة خلافة الإمام علي عليه‌السلام بعده في نفوس المسلمين عامّة وخاصّة ، وربّى المسلمين على ذلك في كثير من المواقف الحرجة التي ألمت

١١٨
 &

بالمسلمين ، بل وفي أماكن الدعة والراحة أيضاً ، وربّى الإمام علياً عليه‌السلام على ذلك أيضاً بإعطائه قيادة جيوش الإسلام وعدم تأمير أحد عليه في كلّ المواقع التي حضرها ، وباختصاصه بالعلم الذي ينفتح له من كلّ باب منه ألف باب وبغيره ، ولو غضّ الطرف عن جميع ذلك فلا يمكن أن يغض النظر عن بيعة الغدير وتنصيب الإمام علي عليه‌السلام خليفة شرعياً للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ووليّاً على المسلمين بعد وفاته ، تلك البيعة التي لم يمض عليها إلّا شهران وعشرة أيام قبل وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي مدة قصيرة في حساب الزّمن لا تكفي لنسيان الحدث غير المهم فضلاً عن مثل هذا الحدث العظيم المحاط بمجموعة من الظروف المكانية والزمانية والنفسية التي تغرسه في أذهان الحاضرين إلى أبد الآبدين.

ويوضح هذا الأمر شعر عتبة بن أبي لهب أو غيره ممّن عاصر حوادث السقيفة وآخر آيام الرسالة :

ما كنتُ أحسبُ أنّ الأمر منصرفٌ

عن هاشم ثمَّ منها عن أبي حسن (١١)

الخامس : انّ الذي قعد بالإمام علي عليه‌السلام عن اتخاذ طريق المواجهة العسكرية بينه وبين مَن تولّى شؤون الاُمّة وهو مَن هو في الشجاعة والإقدام وهم مَن هم ، إنّما هو الحفاظ على الدين الإسلامي وخوفاً عليه أن تلين له قناة وهو الذي سقى عوده بدمه حتى اخضرَّ ورقه ونمت أغصانه ، وضحّى من أجله بأعظم أيام حياته ، وبذل له كل ما في وسعه ، وكان ساعد القائد الأعظم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فانّ هناك مَن يتربّص به الدوائر ويبغي له الغوائل « وأمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدِّين ، أن يجد المنافقون والأحزاب في ذلك مغمزاً يثلمونه به ، أو يكون لهم بذلك سبب إلى ما أرادوا من إفساده ».

ويظهر هذا المعنى في موقف الإمام علي عليه‌السلام من أبي سفيان بعد حوادث السقيفة مباشرة ، فقد جاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : « لمّا اجتمع

١١٩
 &

المهاجرون على بيعة أبي بكر ، أقبل أبو سفيان وهو يقول : أمَا والله إنّي لأرى عجاجة لا يطفئُها إلّا الدم ، يا لعبد مناف ، فيمَ أبو بكر من أمركم ! أين المستضعفان أين الأذلّان ـ يعني علياً والعباس ـ ما بال هذا في أقلّ حيّ من قريش ، ثُمَّ قال لعلي : إبسط يدك أبايعك ، فوالله إن شئت لأملأنّها على أبي فضيل ـ يعني أبا بكر ـ خيلاً ورجالاً ، فامتنع علي عليه‌السلام فلمّا يئس منه قام عنه وهو ينشد شعر المتلمس :

ولا يقيمُ على ضيمٍ يُرادُ بهِ

إلّا الأذلّان عيرُ الحيِّ والوتدُ

هذا على الخسفِ مربوطٌ برمّتهِ

وذا يُشَجُّ فلا يَرثي لهُ أحد (١٢)

وفي رواية الطبري زجره الإمام عليه‌السلام وقال : « أنتَ طالما بغيتَ على الإسلام شرّاً لا حاجة لنا بنصيحتكَ » (١٣).

فلقد كان الإمام علي عليه‌السلام يقرأ النفوس ، وينظر من وراء الغيب بنور الإيمان حين امتنع من اُطروحة أبي سفيان ، وإن كانت بهذا الشكل المثير ، فانّ أبا سفيان لم يسلم إلّا خوفاً من السيف كما يظهر لمَن تصفّح أوراق التاريخ ، وقد أظهر ما تبطنه سريرته في خلافة عثمان ، فإنّه كان جالساً في مجلس الخليفة يوماً من الأيام ومعه رهط من بني اُمية فقال : تداولوها يا بني اُميّة تداول الولدان الكرة فوالله ما من جنة ولا نار (١٤).

السادس : جرّد الإمام الحسن عليه‌السلام معاوية بن أبي سفيان عن صلاحيته للخلافة الإسلامية بأيّ نحو كان ، وأبرزه للمجتمع الإسلامي ولكل مَن قرأ هذه الرسالة على مدى التاريخ بثوبه الشفّاف الذي لا يستر له عورة ، فهو ليس بصاحب فضل في الدّين معروف حتّى يمكن له القول : بأنّي آمنتُ أوّل الناس أو أسلمتُ وسائر الناس عاكفون على أصنامهم وما إلى ذلك ! ولا له أثر في الإسلام محمود ، إذ لم يُعرَف بقيادة جيش ولا بلاء في حرب ولا .. ولا .. مضافاً إلى أنّه ابن حزب من الأحزاب التي تألّبت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لقتاله في محاولة فاشلة لمحو

١٢٠