أحكام القرآن - ج ٤

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٧

في الصحراء فهؤلاء يمكنهم أخذ أموال السابلة قبل أن يلحقهم الغوث فباينوا بذلك المختلس ومن ليس له امتناع في أحكامهم ولو وجب أن يستوي حكم المصر وغيره لوجب استواء حكم الرجل الواحد والجماعة ومعلوم أن الرجل الواحد لا يكون محاربا في المصر لعدم الامتناع منه فكذلك ينبغي أن يكون حكم الجماعة في المصر لفقد الامتناع منهم على أهل المصر وأما إذا كانوا في الصحراء فهم ممتنعون غير مقدور عليهم إلا بالسلب والقتال فلذلك اختلف حكمهم وحكم من في المصر فإن قال قائل إن كان الاعتبار بما ذكرت فواجب أن يكون العشرة من اللصوص إذا اعترضوا قافلة فيها ألف رجل غير محاربين إذ قد يمكنهم الامتناع عليهم قيل له صاروا محاربين بالامتناع والخروج سواء قصدوا القافلة أو لم يقصدوها فلا يزول عنهم هذا الحكم بعد ذلك بكون القافلة ممتنعة منهم كما لا يزول بكون أهل الأمصار ممتنعين منهم وأجرى أبو يوسف على اللصوص في المصر حكم المحاربين لامتناعهم والخروج على وجه المحاربة لأخذ المال فلا يختلف حكمهم بالمصر وغيره كما أن سائر ما يوجب الحد من الزنا والسرقة والقذف والقتل لا يختلف أحكام فاعليها بالمصر وغيره.

(فصل) واعتبر أصحابنا في إيجاب قطع المحارب مقدار المال المأخوذ بأن يصيب كل واحد منهم عشرة دراهم واعتبر الشافعى ربع دينار كما اعتبره في قطع السارق ولم يعتبره مالك لأنه يرى إجراء الحكم عليها بالخروج قبل أخذ المال.

(فصل) وقال أصحابنا إذا كان الذي ولى القتل وأخذ المال بعضهم كان حكم جميعهم حكم المحاربين يجرى الحكم عليهم وذلك لأن حكم المحاربة والمنعة لم يحصل إلا باجتماعهم جميعا فلما كان السبب الذي تعلق به حكم المحاربة وهو المنعة حصل باجتماعهم جميعا وجب أن لا يختلف حكم من ولى القتل منهم ومن كان عونا أو ظهيرا والدليل عليه أن الجيش إذا غنموا من أهل الحرب لم يختلف فيه حكم من ولى القتال منهم ومن كان منهم ردأ وظهيرا ولذلك لم يختلف حكم من قتل بعصا أو بسيف إذ كان من لم يل القتال يجرى عليه الحكم.

باب قطع السارق

قال الله تعالى (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) روى سفيان عن جابر عن

٦١

عامر قال قراءة عبد الله فاقطعوا أيديهما* وروى ابن عوف عن إبراهيم في قراءتنا فاقطعوا أيمانهما قال أبو بكر لم تختلف الأمة في أن اليد المقطوعة بأول سرقة هي اليمين فعلمنا أن مراد الله تعالى بقوله (أَيْدِيَهُما) أيمانهما فظاهر اللفظ في جمعه الأيدى من الإثنين يدل على أن المراد اليد الواحدة من كل واحد منهما كقوله تعالى (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) لما كان لكل واحد منهما قلب واحد أضافه إليها بلفظ الجمع كذلك لما أضاف الأيدى إليهما بلفظ الجمع دل على أن المراد إحدى اليدين من كل واحد منهما وهي اليمنى* وقد اختلف في قطع اليسرى في المرة الثالثة وفي قطع الرجل اليمنى في الرابعة وسنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى ولم تختلف الأمة في خصوص هذه الآية لأن اسم السارق يقع على سارق الصلاة قال النبي صلّى الله عليه وسلّم إن أسوأ الناس سرقة هو الذي يسرق صلاته قيل له يا رسول الله وكيف يسرق صلاته قال لا يتم ركوعها وسجودها ويقع على سارق اللسان روى ليث بن سعد قال حدثنا يزيد بن أبى حبيب عن أبى الخير مرثد بن عبد الله عن أبى رهم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال أسرق السارق الذي يسرق لسان الأمير فثبت بذلك أنه لم يرد كل سارق والسرقة اسم لغوى مفهوم المعنى عند أهل اللسان بنفس وروده غير محتاج إلى بيان وكذلك حكمه في الشرع وإنما علق بهذا الاسم حكم القطع كالبيع والنكاح والإجارة وسائر الأمور المعقولة معانيها من اللغة قد علقت بها أحكام يجب اعتبار عمومها بوجود الاسم إلا ما قام دليل خصوصه فلو خلينا وظاهر قوله (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) لوجب إجراء الحكم على الاسم إلا ما خصه الدليل إلا أنه قد ثبت عندنا أن الحكم متعلق بمعنى غير الاسم يجب اعتباره في إيجابه وهو الحرز والمقدار فهو مجمل من جهة المقدار يحتاج إلى بيان من غيره في إثباته فلا يصح من أجل ذلك اعتبار عمومه في إيجاب القطع في كل مقدار والدليل على إجماله وامتناع اعتبار عمومه ما حدثنا عبد الباقي قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا عبد الرحمن بن المبارك قال حدثنا وهيب عن أبى واقد قال حدثني عامر بن سعد عن أبيه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا تقطع يد السارق إلا في ثمن المجن وروى ابن لهيعة عن أبى النضر عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال لا تقطع يد السارق إلا فيما بلغ ثمن المجن فما فوقه وروى سفيان عن منصور عن مجاهد عن عطاء عن أيمن الحبشي قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أدنى ما يقطع فيه السارق

٦٢

ثمن المجن فثبت بهذه الأخبار أن حكم الآية في إيجاب القطع موقوف على ثمن المجن فصار ذلك كوروده مع الآية مضموما إليها وكان تقديرها والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما إذا بلغت السرقة ثمن المجن وهذا لفظ مفتقر إلى البيان غير مكتف بنفسه في إثبات الحكم وما كان هذا سبيله لم يصح الاحتجاج بعمومه ووجه آخر يدل على إجمالها في هذا الوجه وهو ما روى عن السلف في تقويم المجن فروى عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وأيمن الحبشي وأبى جعفر وعطاء وإبراهيم في آخرين أن قيمته كانت عشرة دراهم وقال ابن عمر قيمته ثلاثة دراهم وقال أنس وعروة والزهري وسليمان بن يسار قيمته خمسة دراهم وقالت عائشة ثمن المجن ربع دينار ومعلوم أنه لم يكن ذلك تقويما منهم لسائر المجان لأنها تختلف كاختلاف الثياب وسائر العروض فلا محالة أن ذلك كان تقويما للمجن الذي قطع فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعلوم أيضا أنهم لم يحتاجوا إلى تقويمه من حيث قطع فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم إذ ليس في قطع النبي صلّى الله عليه وسلّم في شيء بعينه دلالة على نفى القطع عما دونه كما أن قطعه السارق في المجن غير دال على أن حكم القطع مقصور عليه دون غيره إذ كان ما فعله بعض ما تناوله لفظ العموم على حسب حدوث الحادثة فإذا لا محالة قد كان من النبي صلّى الله عليه وسلّم توقيف لهم حين قطع السارق على نفى القطع فيما دونه فدل ذلك على إجمال حكم الآية في المقدار كدلالة الأخبار التي قدمناها لفظا من نفى القطع عما دونه قيمة المجن فلم يجز من أجل ذلك اعتبار عموم الآية في إثبات المقدار ووجب طلب معرفة قيمة المجن الذي قطع فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم وليس إجمالها في المقدار بموجب إجمالها في سائر الوجوه من الحرز وجنس المقطوع فيه وغير ذلك بل جائز أن يكون عموما في هذه الوجوه مجملا في حكم المقدار فحسب كما أن قوله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) عموم في جهة الأموال الموجب فيها الصدقة مجمل في المقدار الواجب منها وكان شيخنا أبو الحسن يذهب إلى أن الآية مجملة من حيث علق فيها الحكم بمعان لا يقتضيها اللفظ من طريق اللغة وهو الحرز والمقدار والمعان المعتبرة في إيجاب القطع متى عدم منها شيء لم يجب القطع مع وجود الاسم لأن اسم السرقة موضوع في اللغة لأخذ الشيء على وجه الاستخفاء ومنه قيل سارق اللسان وسارق الصلاة تشبيها بأخذ الشيء على وجه الاستخفاء والأصل فيه ما ذكرنا وهذه المعاني التي ذكرنا اعتبارها في الإيجاب القطع

٦٣

لم يكن الاسم موضوعا لها في اللغة وإنما ثبت ذلك من جهة الشرع فصارت السرقة في الشرع اسما شرعيا لا يصح الاحتجاج بعمومه إلا فيما قامت دلالته* واختلف في مقدار ما يقطع فيه السارق فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والثوري لا قطع إلا في عشرة دراهم فصاعدا أو قيمتها من غيرها وروى عن أبى يوسف ومحمد أنه لا قطع حتى تكون قيمة السرقة عشرة دراهم مضروبة وروى الحسن بن زياد عن أبى حنيفة أنه إذا سرق ما يساوى عشرة دراهم مما يجوز بين الناس قطع وقال مالك والأوزاعى والليث والشافعى لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا وقال الشافعى فلو غلت الدراهم حتى يكون الدرهمان بدينار قطع إلا في ربع دينار وإن كان ذلك نصف درهم وإن رخصت الدنانير حتى يكون الدينار بمائة درهم قطع في ربع دينار وذلك خمسة وعشرون درهما وروى عن الحسن البصري أنه قال لا يقطع في درهم واحد وهو قول شاذ قد اتفق الفقهاء على خلافه وقال أنس بن مالك وعروة والزهري وسليمان بن يسار لا يقطع إلا في خمسة دراهم وروى نحوه عن عمر وعلى أنهما قالا لا يقطع إلا في خمسة وقال ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأيمن الحبشي وأبو جعفر وعطاء وإبراهيم لا قطع إلا في عشرة دراهم قال ابن عمر يقطع في ثلاثة دارهم وروى عن عائشة القطع في ربع دينار وروى عن أبى سعيد الخدري وأبى هريرة قالا لا تقطع اليد إلا في أربعة دراهم* والأصل في ذلك أنه لما ثبت باتفاق الفقهاء من السلف ومن بعدهم أن القطع لا يجب إلا في مقدار متى قصر عنه لم يجب وكان طريق إثبات هذا الضرب من المقادير التوقيف أو الاتفاق ولم يثبت التوقيف فيما دون العشرة وثبت الاتفاق في العشرة أثبتناها ولم نثبت ما دونها لعدم التوقيف والاتفاق فيه ولا يصح الاحتجاج بعموم قوله (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) لما بينا أنه مجمل بما اقترن إليه من توقيف الرسول صلّى الله عليه وسلّم على اعتبار ثمن المجن ومن اتفاق السلف على ذلك أيضا فسقط الاحتجاج بعمومه ووجب الوقوف عند الاتفاق في القطع في العشرة ونفيه عما دونها لما وصفنا وقد رويت أخبار توجب اعتبار العشرة في إيجاب القطع منها ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبى قال حدثنا نصر بن ثابت عن الحجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا قطع فيما دون عشرة دراهم وقد سمعنا أيضا في سنن ابن قانع

٦٤

حديثا رواه بإسناده له عن زحر بن ربيعة عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لا تقطع اليد إلا في دينار أو عشرة دراهم وقال عمرو بن شعيب قلت لسعيد بن المسيب إن عروة والزهري وسليمان بن يسار يقولون لا تقطع اليد إلا في خمسة دراهم فقال أما هذا فقد مضت السنة فيه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشرة دراهم قاله ابن عباس وأيمن الحبشي وعبد الله بن عمر وقالوا كان ثمن المجن عشرة دراهم فإن احتجوا بما روى عن ابن عمر وأنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قطع في مجن قيمة ثلاثة دراهم وبما روى عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال تقطع يد السارق في ربع دينار قيل له أما حديث ابن عمر وأنس فلا دلالة فيه على موضع الخلاف لأنهما قوماه ثلاثة دراهم وقد قومه غيرهما عشرة فكان تقديم الزائد أولى وأما حديث عائشة فقد اختلف في رفعه وقد قيل إن الصحيح منه أنه موقوف عليها غير مرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم لأن الإثبات من الرواة رووه موقوفا وروى يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لا تقطع يد السارق إلا في ثمن المجن ثلث دينار أو نصف دينار فصاعدا وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن يد السارق لم تكن تقطع في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أدنى من ثمن المجن وكان المجن يومئذ له ثمن ولم تكن تقطع في الشيء التافه فهذا يدل على أن الذي كان عند عائشة من ذلك القطع في ثمن المجن وأنه لم يكن عندها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم غير ذلك إذ لو كان عندها عن رسول الله في ذلك شيء معلوم المقدار من الذهب أو الفضة لم تكن بها حاجة إلى ذكر ثمن المجن إذ كان ذلك مدركا من جهة الاجتهاد ولاحظ للاجتهاد مع النص وهذا يدل أيضا على أن ما روى عنها مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم إن ثبت فإنما هو تقدير منها لثمن المجن اجتهادا وقد روى حماد بن زيد عن أيوب عن عبد الرحمن بن القاسم عن عمرة عن عائشة قالت تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا قال أيوب وحدث به يحيى عن عمرة عن عائشة ورفعه فقال له عبد الرحمن بن القاسم إنها كانت لا ترفعه فترك يحيى رفعه فهذا يدل على أن من رواه مرفوعا فإنما سمعه من يحيى قبل تركه الرفع ثم لو ثبت هذا الحديث لعارضه ما قدمناه من الرواية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من وجوه مختلفة في نفى القطع عن سارق ما دون العشرة وكان يكون حينئذ خبرنا أولى لما فيه من حظر القطع عما دونها وخبرهم مبيح له وخبر الحظر أولى من خبر الإباحة وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لعن الله السارق يسرق الحبل

٦٥

فيقطع فيه ويسرق البيضة فيقطع فيها فربما ظن بعض من لا روية له أنه يدل على أن ما دون العشرة يقطع فيه لذكر البيضة والحبل وهما في العادة أقل قيمة من عشرة دراهم وليس ذلك على ما يظنه لأن المراد بيضة الحديد وقد روى عن على بن أبى طالب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قطع في بيضة من حديد قيمتها أحد وعشرون درهما ولأنه لا خلاف بين الفقهاء أن سارق بيضة الدجاج لا قطع عليه وأما الحبل فقد يكون مما يساوى العشرة والعشرين وأكثر من ذلك.

(فصل) وأما اعتبار الحرز فالأصل فيه ما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا قطع على خائن رواه ابن عباس وجابر وهو يشتمل على نفى القطع في جميع ما ائتمن الإنسان فيه فمنها أن الرجل إذا ائتمن غيره على دخول بيته ولم يحرز منه ماله لم يجب عليه القطع إذا خانه لعموم لفظ الخبر ويصير حينئذ بمنزلة المودع والمضارب وقد نفى النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله لا قطع على خائن وجوب القطع على جاحد الوديعة والمضاربة وسائر الأمانات ويدل أيضا على نفى القطع عن المستعير إذا جحد العارية وما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قطع المرأة التي كانت تستعير المتاع وتجحده فلا دلالة فيه على وجوب القطع على المستعير إذا خان إذ ليس فيه أنه قطعها لأجل جحودها للعارية وإنما ذكر جحود العارية تعريفا لها إذ كان ذلك معتادا منها حتى عرفت به فذكر ذلك على وجه التعريف وهذا مثل ما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال للرجلين أحدهما يحجم الآخر في رمضان أفطر الحاجم والمحجوم فذكر الحجامة تعريفا لهما والإفطار واقع بغيرها وقد روى في أخبار صحيحة أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت وهي هذه المرأة التي ذكر في الخبر أنها كانت تستعير المتاع وتجحده فبين في هذه الأخبار أنه قطعها لسرقتها ويدل على اعتبار الحرز أيضا حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه سئل عن حريسة الجبل فقال فيها غرامة مثلها وجلدات نكال فإذا أواها المراح وبلغ ثمن المجن ففيه القطع وقال ليس في الثمر المعلق قطع حتى يأويه الجرين فإذا أواه الجرين ففيه القطع إذا بلغ ثمن المجن ودلالة هذا الخبر على وجوب اعتبار الحرز أظهر من دلالة الخبر الأول وإن كان كل واحد منهما مكتفيا بنفسه في وجوب اعتباره ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في أن الحرز شرط في القطع وأصله من السنة ما وصفنا والحرز عند أصحابنا ما بنى للسكنى وحفظ الأموال من الأمتعة

٦٦

وما في معناها وكذلك الفساطيط والمضارب والخيم التي يسكن الناس فيها ويحفظون أمتعتهم بها كل ذلك حرز وإن لم يكن فيه حافظ ولا عنده وسواء سرق من ذلك وهو مفتوح الباب أم لا باب له إلا أنه محجر بالبناء وما كان في غير بناء ولا خيمة ولا فسطاط ولا مضرب فإنه لا يكون حرزا إلا أن يكون عنده من يحفظه وهو قريب منه بحيث يكون حافظ له وسواء كان الحافظ نائما في ذلك الموضع أو مستيقظا والأصل في كون الحافظ حرزا له وإن كان في مسجد أو صحراء حديث صفوان بن أمية حين كان نائما في المسجد ورداؤه تحت رأسه فسرقه سارق فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بقطعه ولا خلاف أن المسجد ليس بحرز فثبت أنه كان محرزا لكون صفوان عنده ولذلك قال أصحابنا لا فرق بين أن يكون الحافظ نائما أو مستيقظا لأن صفوان كان نائما وليس المسجد عندهم في ذلك كالحمام فمن سرق من الحمام لم يقطع وكذلك الخان والحوانيت المأذون في دخولها وإن كان هناك حافظ من قبل أن الإذن موجود في الدخول من جهة مالك الحمام والدار فخرج الشيء من أن يكون محرزا من المأذون له في الدخول ألا ترى أن من أذن لرجل في دخول داره أن الدار لم تخرج من أن تكون حرزا في نفسها ولا يقطع مع ذلك المأذون له في الدخول لأنه حين أذن له في الدخول فقد ائتمنه ولم يحرز ماله عنه كذلك كل موضع يستباح دخوله بإذن المالك فهو غير حرز من المأذون له في الدخول وأما المسجد فلم يتعلق إباحة دخوله بإذن آدمي كالمفازة والصحراء فإذا سرق منه وهناك حافظ له قطع وحكى عن مالك أن السارق من الحمام يقطع إن كان هناك حافظ له* قال أبو بكر لو وجب قطع السارق من الحانوت والمأذون له في الدخول إليه لأن صاحب الحانوت حافظ له ومعلوم أن إذنه له في دخوله قد أخرجه من أن يكون ماله فيه محرزا فكان بمنزلة المؤتمن ولا فرق بين الحمام والحانوت والمأذون في دخوله فإن قال قائل يقطع السارق من الحانوت والخان المأذون له* قيل له هو كالخائن للودائع والعواري والمضاربات وغيرها إذ لا فرق بين ما ذكرنا وبينها وقد ائتمنه صاحبه بأن لم يحرزه كما ائتمنه في إيداعه وقال عثمان التي إذا سرق من الحمام قطع* واختلف في قطع النباش فقال أبو حنيفة والثوري ومحمد والأوزاعى لا قطع على النباش وهو قول ابن عباس ومكحول وقال الزهري اجتمع رأى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في زمن كان مروان أميرا

٦٧

على المدينة أن النباش لا يقطع ويعزر وكان الصحابة متوافرين يومئذ وقال أبو يوسف ابن أبى ليلى وأبو الزناد وربيعه يقطع وروى مثله عن ابن الزبير وعمر بن عبد العزيز والشعبي والزهري ومسروق والحسن والنخعي وعطاء وهو قول الشافعى والدليل على صحة القول الأول أن القبر ليس بحرز والدليل عليه اتفاق الجميع على أنه لو كان هناك دراهم مدفونة فسرقها لم يقطع لعدم الحرز والكفن كذلك فإن قيل إن الأحراز مختلفة فمنها شريحة البقال حرز لما في الحانوت والإصطبل حرز للدواب وللأموال ويكون الرجل حرزا لما هو حافظ له وكل شيء من ذلك حرزا لما يحفظ به ذلك الشيء في العادة ولا يكون حرزا لغيره فلو سرق دراهم من إصطبل لم يقطع ولو سرق منه دابة قطع ذلك القبر هو حرز للكفن وإن لم يكن حرزا الدراهم* قيل له هذا كلام فاسد من وجهين أحدهما أن الأحراز على اختلافها في أنفسها ليست مختلفة في كونها حرزا لجميع ما يجعل فيها لأن الإصطبل لما كان حرزا للدواب فهو حرز للدراهم والثياب ويقطع فيما يسرقه منه وكذلك حانوت البقال هو حرز لجميع ما فيه من ثياب ودراهم وغيرها فقول القائل الإصطبل حرز للدواب ولا يقطع من سرق منه دراهم غلط والوجه الآخر أن قضيتك هذه لو كانت صحيحة لكانت مانعة من إيجاب قطع النباش لأن القبر لم يحفر ليكون حرزا للكفن فيحفظ به وإنما يحفر لدفن الميت وستره عن عيون الناس وأما الكفن فإنما هو للبلى والهلاك ودليل آخر وهو أن الكفن لا مالك له والدليل عليه أنه من جميع المال فدل على أنه ليس في ملك أحد ولا موقوف على أحد فلما صح أنه من جميع المال وجب أن لا يملكه الوارث كما لا يملكون ما صرف في الدين الذي هو من جميع المال ويدل عليه أيضا أن الكفن يبدأ به على الديون فإذا لم يملك الوارث ما يقضى به الديون فهو أن لا يملك الكفن أولى وإذا لم يملكه الوارث واستحال أن يكون الميت مالكا وجب أن لا يقطع سارقه كما لا يقطع سارق بيت المال وأخذ الأشياء المباحة التي لا ملك لها* فإن* قال قائل جواز خصومة الوارث المطالبة بالكفن دليل على أنه ملكه* قيل له الإمام يطالب بما يسرق من بيت المال ولا يملكه ووجه آخر وهو أن الكفن يجعل هناك للبلى والتلف لا للقنية والتبقية فصار بمنزلة الخبز واللحم والماء الذي هو للإتلاف لا للتبقية فإن قال قائل القبر حرز للكفن لما روى عبادة بن الصامت عن أبى ذر قال قال رسول

٦٨

الله صلّى الله عليه وسلّم كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف يعنى القبر قلت الله ورسوله أعلم قال عليك بالصبر فسمى القبر بيتا وقال حماد بن أبى سليمان يقطع النباش لأنه دخل على الميت بيته وروى مالك عن أبى الرحال عن أمه عمرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لعن المختفى والمختفية وروت عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال من اختفى ميتا فكأنما قتله وقال أهل اللغة المختفى النباش* قيل له إنما سماه بيتا على وجه المجاز لأن البيت موضوع في لغة العرب لما كان مبنيا ظاهرا على وجه الأرض وإنما سمى القبر بيتا تشبيها بالبيت المبنى ومع ذلك فإن قطع السارق ليس معلقا بكونه سارقا من بيت إلا أن يكون ذلك البيت مبنيا ليحرز به ما يجعل فيه وقد بينا أن القبر ليس بحرز ألا ترى أن المسجد يسمى بيتا قال الله تعالى (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) ولو سرق من المسجد لم يقطع إذا لم يكن له حافظ وأيضا فلا خلاف أنه لو كان في القبر دراهم مدفونة فسرقها لم يقطع وإن كان بيتا فعلمنا أن قطع السرقة غير متعلق بكونه بيتا وأما ما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لعن الله المختفى وما روى أنه قال من اختفى ميتا فكأنما قتله فإن هذا إنما هو لعن له واستحقاق اللعن ليس بدليل على وجوب القطع لأن الغاصب والكاذب والظالم كل هؤلاء يستحقون اللعن ولا يجب قطعهم وقوله من اختفى ميتا فكأنما قتله فإنه لم يوجب به قطعا وإنما جعله كالقاتل وإن كان معناه محمولا على حقيقة لفظه فواجب أن نقتله وهذا لا خلاف فيه ولا تعلق لذلك بالقطع.

باب من أين يقطع السارق

قال الله تعالى (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) واسم اليد يقع على هذا العضو إلى المنكب والدليل عليه أن عمارا تيمم إلى المنكب بقوله تعالى (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) ولم يخطئ من طريق اللغة وإنما لم يثبت ذلك لورود السنة بخلافه ويقع على اليد إلى مفصل الكف أيضا قال الله تعالى (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) وقد عقل به ما دون المرفق وقال تعالى لموسى (أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) ويمتنع أن يدخل يده إلى المرفق ويدل عليه أيضا قوله تعالى (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) فلو لم يقع الاسم على ما دون المرافق لما ذكرها إلى المرافق وفي ذلك دليل على وقوع الاسم إلى الكوع فلما كان الاسم يتناول هذا العضو إلى المفصل وإلى المرفق وإلى المنكب

٦٩

اقتضى عموم اللفظ القطع من المنكب إلى أن تقوم الدلالة على أن المراد ما دونه وجائز أن يقال إن الاسم لما تناولها إلى الكوع ولم يجز أن يقال إن ذلك بعض اليد بل يطلق عليه اسم اليد من غير تقييد وإن كان قد يطلق أيضا على ما فوقه إلى المرفق تارة وإلى المنكب أخرى ثم قال تعالى (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) وكانت اليد محظورة في الأصل فمتى قطعناها من الفصل فقد قضينا عهدة الآية لم يجز لنا قطع ما فوقه إلا بدلالة كما لو قال أعط هذا رجالا فأعطاه ثلاثة منهم فقد فعل المأمور به إذ كان الاسم يتناولهم وإن كان اسم الرجال يتناول ما فوقهم* فإن قال قائل يلزمكم في التيمم مثله بقوله تعالى (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) وقد قلتم فيه إن الاسم لما تناول العضو إلى المرفق اقتضاه العموم ولم ينزل عنه إلا بدليل قيل له هما مختلفان من قبل أن اليد لما كانت محظورة في الأصل ثم كان الاسم يقع على العضو إلى المفصل وإلى المرفق لم يجز لنا قطع الزيادة بالشك ولما كان الأصل الحدث واحتاج إلى استباحة الصلاة لم يزل أيضا إلا بيقين وهو التيمم إلى المرفق ولا خلاف بين السلف من الصدر الأول وفقهاء الأمصار أن القطع من المفصل وإنما خالف فيه الخوارج وقطعوا من المنكب لوقوع الاسم عليه وهم شذوذ لا يعدون خلافا وقد روى محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قطع يد سارق من الكوع وعن عمر وعلى أنهما قطعا اليد من المفصل ويدل على أن دون الرسغ لا يقع عليه اسم اليد على الإطلاق قوله تعالى (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) ولم يقل أحد أنه يقتصر بالتيمم على ما دون المفصل وإنما اختلفوا فيما فوقه واختلفوا في قطع الرجل من أى موضع هو فروى عن على أنه قطع سارقا من خصر القدم وروى صالح السمان قال رأيت الذي قطعه على رضى الله عنه مقطوعا من أطراف الأصابع فقيل له من قطعك فقال خير الناس قال أبو رزين سمعت ابن عباس يقول أيعجز من رأى هؤلاء أن يقطع كما قطع هذا الأعرابى يعنى نحوه فلقد قطع فما أخطأ يقطع الرجل ويذر عقبها وروى مثله عن عطاء وأبى جعفر من قولهما وعن عمر رضى الله عنه في آخرين يقطع الرجل من المفصل وهو قول فقهاء الأمصار والنظر يدل على هذا القول لاتفاقهم على قطع اليد من المفصل الظاهر وهو الذي يلي الزند وكذلك الواجب قطع الرجل من المفصل الظاهر الذي يلي الكعب الناتي وأيضا لما اتفقوا على أنه لا يترك

٧٠

له من اليد ما ينتفع به للبطش ولم يقطع من أصول الأصابع حتى يبقى له الكف كذلك ينبغي أن لا يترك له من الرجل العقب فيمشى عليه لأن الله تعالى إنما أوجب قطع اليد ليمنعه الأخذ والبطش بها وأمر بقطع الرجل ليمنعه المشي بها فغير جائز ترك العقب للمشي عليه ومن قطع من المفصل الذي هو على ظهر القدم فإنه ذهب في ذلك أن هذا المفصل من الرجل بمنزلة مفصل الزند من اليد لأنه ليس بين مفصل أصابع الرجل مفصل غيره كما أنه ليس بين مفصل الزند ومفصل أصابع اليد مفصل غيره فلما وجب في اليد قطع أقرب المفصل إلى مفصل الأصابع كذلك وجب أن يقطع في الرجل من أقرب المفاصل إلى مفصل الأصابع والقول الأول أظهر لأن مفصل ظهر القدم غير ظاهر كظهور مفصل الكعب من الرجل ومفصل الزند من اليد فلما وجب قطع مفصل اليد ظاهر منه كذلك يجب أن يكون في الرجل لما استوعبت اليد بالقطع وجب استيعاب الرجل أيضا والرجل كلها إلى مفصل الكعب بمنزلة الكف إلى مفصل الزند وأما القطع من أصول أصابع الرجل فإنه لم يثبت عن على من جهة صحيحة وهو قول شاذ خارج عن الاتفاق والنظر جميعا* واختلف في قطع اليد اليسرى والرجل اليمنى فقال أبو بكر الصديق وعلى ابن أبى طالب وعمر بن الخطاب حين رجع إلى قول على لما استشاره وابن عباس إذا سرق قطعت يده اليمنى فإذا سرق بعد ذلك قطعت رجله اليسرى فإذا سرق لم يقطع وحبس وهو قول أبى حنيفة وأبى يوسف وروى عن عمر أنه تقطع يده اليسرى بعد الرجل اليمنى فإن سرق قطعت رجله اليمنى فإن سرق حبس حتى يحدث التوبة وعن أبى بكر مثل ذلك إلا أن عمر قد روى عنه الرجوع إلى قول على كرم الله وجهه وقال مالك والشافعى تقطع اليد اليسرى بعد الرجل اليسرى والرجل اليمنى بعد ذلك ولا يقتل إن سرق بعد ذلك وروى عن عثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وعمر بن عبد العزيز أنهم قتلوا سارقا بعد ما قطعت أطرافه وروى سفيان عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن أبا بكر أراد أن يقطع الرجل بعد اليد والرجل فقال له عمر السنة اليد وروى عبد الرحمن ابن يزيد عن جابر عن مكحول أن عمر قال لا تقطعوا يده بعد اليد والرجل ولكن احبسوه عن المسلمين وقال الزهري انتهى أبو بكر إلى اليد والرجل وروى أبو خالد الأحمر عن حجاج عن سماك عن بعض أصحابه أن عمر استشارهم في السارق فأجمعوا على أنه تقطع يده

٧١

اليمنى فإن عاد فرجله اليسرى ثم لا يقطع أكثر من ذلك وهذا يقتضى أن يكون ذلك إجماعا لا يسع خلافه لأن الذي يستشيرهم عمر هم الذين ينعقد بهم الإجماع وروى سفيان عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن أبا بكر الصديق قطع اليد بعد قطع اليد والرجل في قصة الأسود الذي نزل بأبى بكر ثم سرق حلى أسماء وهو مرسل وأصله حديث ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن رجلا خدم أبا بكر فبعثه مع مصدق وأوصاه به فلبث قريبا من شهر ثم جاءه وقد قطعه المصدق فلما رآه أبو بكر قال له ما لك قال وجدنى خنت فريضة فقطع يدي فقال أبو بكر إنى لا أراه يخون أكثر من ثلاثين فريضة والذي نفسي بيده لئن كنت صادقا لأقيدنك منه ثم سرق حلى أسماء بنت عميس فقطعه أبو بكر فأخبرت عائشة أن أبا بكر قطعه بعد قطع المصدق يده وذلك لا يكون إلا قطع الرجل اليسرى وهو حديث صحيح لا يعارض بحديث القاسم ولو تعارضا لسقطا جميعا ولم يثبت بهذا الحديث عن أبى بكر شيء ويبقى لنا الأخبار الأخر التي ذكرناها عن أبى بكر والاقتصار على الرجل اليسرى* فإن قيل روى خالد الحذاء عن محمد بن حاطب أن أبا بكر قطع يدا بعد* يد ورجل* قيل له لم يقل في السرقة ويجوز أن يكون في قصاص وقد روى عن عمر بن الخطاب مثل ذلك وتأويله ما ذكرناه فحصل من اتفاق السلف وجوب الاقتصار على اليد والرجل وما روى عنهم من مخالفة ذلك فإنما هو على وجهين إما أن يكون الحكاية في قطع اليد بعد الرجل أو قطع الأربع من غير ذكر السرقة فلا دلالة فيه على القطع في السرقة أو يكون مرجوعا عنه كما روى عن عمر ثم روى عنه الرجوع عنه وقد روى عن عثمان أنه ضرب عنق رجل بعد ما قطع أربعته وليس فيه دلالة على قول المخالف لأنه لم يذكر أنه قطعه في السرقة ويجوز أن يكون قطعه من قصاص* ويدل على صحة قول أصحابنا قوله تعالى (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) وقد بينا أن المراد أيمانهما وكذلك هو في قراءة ابن مسعود وابن عباس والحسن وإبراهيم وإذا كان الذي تتناوله الآية يدا واحدة لم تجز الزيادة عليها إلا من جهة التوقيف أو الاتفاق وقد ثبت الاتفاق في الرجل اليسرى واختلفوا بعد ذلك في اليد اليسرى فلم يجز قطعها مع عدم الاتفاق والتوقيف إذ غير جائز إثبات الحدود إلا من أحد هذين الوجهين ودليل آخر وهو اتفاق الأمة على قطع الرجل بعد اليد وفي ذلك دليل على أن اليد اليسرى غير مقطوعة أصلا لأن العلة في العدول عن

٧٢

اليد اليسرى بعد اليمنى إلى الرجل في قطعها على هذا الوجه إبطال منفعة الجنس وهذه العلة موجودة بعد قطع الرجل اليسرى ومن جهة أخرى أنه لم تقطع رجله اليمنى بعد رجله اليسرى لما فيه من بطلان منفعة المشي رأسا كذلك لا تقطع اليد اليسرى بعد اليمنى لما فيه من بطلان البطش وهو منافع اليد كالمشى من منافع الرجل ودليل آخر وهو اتفاق الجميع على أن المحارب وإن عظم جرمه في أخذ المال لا يزاد على قطع اليد والرجل لئلا تبطل منفعة جنس الأطراف كذلك السارق وإن كثر الفعل منه بأن عظم جرمه فلا يوجب الزيادة على قطع اليد والرجل فإن قال قائل قوله عز وجل (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) يقتضى قطع اليدين جميعا ولو لا الاتفاق لما عدلنا عن اليد اليسرى في السرقة الثانية إلى الرجل اليسرى قيل له أما قولك إن الآية مقتضية لقطع اليد اليسرى فليس كذلك عندنا لأنها إنما اقتضت يدا واحدة لما ثبت من إضافتها إلى الإثنين بلفظ الجمع دون التثنية وإن ما كان هذا وصفه فإنه يقتضى يدا واحد منهما ثم قد اتفقوا أن اليد اليمنى مرادة فصار كقوله تعالى فاقطعوا أيمانهما فانتفى بذلك أن تكون اليسرى مرادة باللفظ فيسقط الاحتجاج بالآية في إيجاب قطع اليسرى وعلى أنه لو كان لفظ الآية محتملا لما وصفت لكان اتفاق الأمة على قطع الرجل بعد اليمنى دلالة على أن اليسرى غير مرادة إذ غير جائز ترك المنصوص والعدول عنه إلى غيره* واحتج موجبو قطع الأطراف بما رواه عبد الله ابن رافع قال أخبرنى حماد بن أبى حميد عن محمد بن المنكدر عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أتى بسارق قد سرق فأمر به أن تقطع يده ثم أتى به مرة أخرى قد سرق فأمر به أن تقطع رجله حتى قطعت أطرافه كلها وحماد بن أبى حميد ممن يضعف وهو مختصر* وأصله ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد بن عقيل الهلالي حدثنا جدي عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال جيء بسارق إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال اقتلوه فقالوا يا رسول الله إنما سرق فقال اقطعوه قال فقطع ثم جيء به الثانية فقال اقتلوه فقالوا يا رسول الله إنما سرق قال اقطعوه قال فقطع ثم جيء الثالثة فقال اقتلوه فقالوا يا رسول الله إنما سرق قال اقطعوه ثم أتى به الرابعة فقال اقتلوه فقالوا يا رسول الله إنما سرق قال اقطعوه ثم أتى به الخامسة فقال اقتلوه قال جابر فانطلقنا به فقتلناه ورواه معشر عن مصعب بن ثابت بإسناد مثله وزاد

٧٣

خرجنا به إلى مربد النعم فحملنا عليه النعم فأشار بيده ورجليه فنفرت الإبل عنه فلقيناه بالحجارة حتى قتلناه ورواه يزيد بن سنان حدثني هشام بن عروة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسارق فقطع يده ثم أتى به قد سرق فقطع رجله ثم أتى به قد سرق فأمر بقتله ورواه حماد بن سلمة عن يوسف بن الحارث بن حاطب أن رجلا سرق على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اقتلوه فقال القوم إنما سرق فقال اقطعوه فقطعوه ثم سرق على عهد أبى بكر الصديق فقطعه حتى قطعت قوائمة كلها ثم سرق الخامسة فقال أبو بكر كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعلم به حين أمر بقتله فأمر به فقتل والذي ذكرناه من حديث مصعب بن ثابت هو أصل الحديث الذي رواه حماد بن أبى حميد وفيه الأمر بقتله بديا ومعلوم أن السرقة لا يستحق بها القتل فثبت أن قطع هذه الأعضاء لم يكن على وجه الحد المستحق بالسرقة وإنما كان على جهة تغليظ العقوبة والمثلة كما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قصة العرنيين أنه قطع أيديهم وأرجلهم وسملهم وليس السمل حدا في قطاع الطريق فلما نسخت المثلة نسخ بها هذا الضرب من العقوبة فوجب الاقتصار على اليد والرجل لا غير ويدل على أن قطع الأربع كان على وجه المثلة لا على الحد أن في حديث جابر أنهم حملوا عليه النعم ثم قتلوه بالحجارة وذلك لا يكون حدا في السرقة بوجه.

باب ما لا يقطع فيه

قال أبو بكر عموم قوله (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) يوجب قطع كل من تناول الاسم في سائر الأشياء لأنه عموم في هذا الوجه وإن كان مجملا في المقدار إلا أنه قد قامت الدلالة من سنة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وقول السلف واتفاق فقهاء الأمصار على أنه لم يرد به العموم وأن كثيرا مما يسمى آخذه سارقا لا قطع فيه واختلف الفقهاء في أشياء منه.

ذكر الاختلاف في ذلك

قال أبو حنيفة ومحمد لا قطع في كل ما يسرع إليه الفساد نحو الرطب والعنب والفواكه الرطبة واللحم والطعام الذي لا يبقى ولا في الثمر المعلق والحنطة في سنبلها سواء كان لها حافظ أو لم يكن ولا قطع في شيء من الخشب إلا الساج والقنا ولا قطع في الطين والنورة

٧٤

والجص والزرنيخ ونحوه ولا قطع في شيء من الطير ويقطع في الياقوت والزمرد ولا قطع في شيء من الخمر ولا في شيء من آلات الملاهي وقال أبو يوسف يقطع في كل شيء سرق من حرز إلا في السرقين والتراب والطين وقال مالك لا يقطع في الثمر المعلق ولا في حريسة الجبل وإذا أواه الجرين ففيه القطع وكذلك إذا سرق خشبة ملقاة فبلغ ثمنها ما يجب فيه القطع ففيه القطع وقال الشافعى لا قطع في الثمر المعلق ولا في الجمار لأنه غير محرز فإن أحرز ففيه القطع رطبا كان أو يابسا وقال عثمان البتى إذا سرق الثمر على شجره فهو سارق يقطع* قال أبو بكر روى مالك وسفيان الثوري وحماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان أن مروان أراد قطع يد عبد وقد سرق وديا فقال رافع ابن خديج سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لا قطع في ثمرة ولا كثر وروى سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن محمد بن حبان عن عمه واسع بن حبان بهذه القصة فأدخل ابن عيينة بين محمد بن حبان وبين رافع واسع بن حبان ورواه الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد عن محمد بن حبان عن عمة له بهذه القصة وأدخل الليث بينهما عمة له مجهولة ورواه الدراوردى عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن أبى ميمونة عن رافع بن خديج عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مثله فجعل الدراوردى بين محمد بن يحيى ورافع أبا ميمونة فإن كان واسع بن حبان كنيته أبو ميمونة فقد وافق ابن عيينة وإن كان غيره فهو مجهول لا يدرى من هو إلا أن الفقهاء قد تلقت هذا الحديث بالقبول وعملوا به فثبت حجته بقولهم له كقوله لا وصية لوارث واختلاف التابعين لما تلقاه العلماء بالقبول ثبتت حجته ولزم العمل به* وقد تنازع أهل العلم معنى قوله لا قطع في ثمر ولا كثر فقال أبو حنيفة ومحمد هو على كل ثمر يسرع إليه الفساد وعمومه يقتضى ما يبقى منه وما لا يبقى إلا أن الكل متفقون على القطع فيما قد استحكم ولا يسرع إليه الفساد فخص ما كان بهذا الوصف من العموم وصار ذلك أصلا في نفى القطع عن جميع ما يسرع إليه الفساد وروى الحسن عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لا قطع في طعام وذلك ينفى القطع عن جميع الطعام إلا أنه خص ما لا يسرع إليه الفساد بدليل وقال أبو يوسف ومن قدمنا قوله أن نفيه القطع عن الثمر والكثر لأجل عدم الحرز فإذا أحرز فهو وغيره سواء وهذا تخصيص بغير دلالة* وقوله ولا كثر أصل في ذلك أيضا لأن الكثر قد قيل فيه وجهان أحدهما الجمار والآخر النخل الصغار وهو عليهما جميعا

٧٥

فإذا أراد به الجمار فقد نفى القطع عنه لأنه مما يفسد وهو أصل في كل ما كان في معناه وإن أراد به النخل فقد دل على نفى القطع في الخشب فنستعملهما على فائدتيهما جميعا وكذلك قال أبو حنيفة لا قطع في الخشب إلا الساج والقنا وكذلك يجيء على قوله في الأبنوس وذلك أن الساج والأبنوس لا يوجد في دار الإسلام إلا مالا فهو كسائر الأموال وإنما اعتبر ما يوجد في دار الإسلام مالا من قبل أن الأملاك الصحيحة هي التي توجد في دار الإسلام وما كان في دار الحرب فليس بملك صحيح لأنها دار إباحة وأملاك أهلها مباحة فلا يختلف فيها حكم ما كان منه مالا مملوكا وما كان منه مباحا فلذلك سقط اعتبار كونها مباحة في دار الحرب فاعتبر حكم وجودها في دار الإسلام فلما لم توجد في دار الإسلام إلا مالا كانت كسائر أموال المسلمين التي ليست مباحة الأصل فإن قال قائل النخل غير مباح الأصل قيل له هو مباح الأصل في كثير من المواضع كسائر الجنس المباح الأصل وإن كان بعضها مملوكا بالأخذ والنقل من موضع إلى موضع وقد روى عمر وبن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمر قال جاء رجل من مزينة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله كيف ترى في حريسة الجبل قال هي عليه ومثلها والنكال وليس في شيء من الماشية قطع إلا ما أواه المراح فإذا أواه المراح فبلغ ثمن المجن ففيه قطع اليد وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثله وجلدات النكال قال يا رسول الله كيف ترى في الثمر المعلق قال هي ومثله معه والنكال وليس في شيء من السمر المعلق قطع إلا ما أواه الجرين فما أخذه من الجرين فبلغ ثمن المجن ففيه القطع وما لم يبلغ ففيه غرامة مثله وجلدات النكال فنفى في حديث رافع بن خديج القطع عن الثمر رأسا ونفى في حديث عبد الله بن عمر القطع عن الثمر إلا ما أواه الجرين* وقوله حتى يأويه الجرين يحتمل معنيين أحدهما الحرز والآخر الإبانة عن حال استحكامه وامتناع إسراع الفساد إليه لأنه لا يأويه الجرين إلا وهو مستحكم في الأغلب وهو كقوله تعالى (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) ولم يرد به وقوع الحصاد وإنما أراد به بلوغه وقت الحصاد وقوله صلى الله عليه وسلّم لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ولم يرد به وجود الحيض وإنما أخبر عن حكمها بعد البلوغ وقوله إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة ولم يرد به السن وإنما أراد الإحصان وقوله في خمس وعشرين بنت مخاض أراد دخولها في السنة الثانية وإن لم يكن بأمها مخاض لأن الأغلب إذا صارت كذلك كان بأمها مخاض وكذلك قوله حتى يأويه

٧٦

الجرين يحتمل أن يريد به بلوغ حال الاستحكام فلم يجز من أجل ذلك أن يخص حديث رافع بن خديج في قوله لا قطع في ثمر ولا كثر وإنما لم يقطع في النورة ونحوها لما روت عائشة قالت لم يكن قطع السارق على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الشيء التافه يعنى الحقير فكل ما كان تافها مباح الأصل فلا قطع فيه والزرنيخ والجص والنورة ونحوها تافه مباح الأصل لأن أكثر الناس يتركونه في موضعه مع إمكان القدرة عليه وأما الياقوت والجوهر فغير تافه وإن كان مباح الأصل بل هو ثمين رفيع ليس يكاد يترك في موضعه مع إمكان أخذه فيقطع فيه وإن كان الأصل كما يقطع في سائر الأموال لأن شرط زوال القطع المعينان جميعا من كونه تافها في نفسه ومباح الأصل وأيضا فإن الجص والنورة ونحوها أموال لا يراد بها القنية بل الإتلاف فهي كالخبز واللحم ونحو ذلك والياقوت ونحوه مال يراد به القنية والتبقية كالذهب والفضة* وأما الطير فإنما لم تقطع فيه لما روى عن على وعثمان أنهما قالا لا يقطع في الطير من غير خلاف من أحد من الصحابة عليهما وأيضا فإنه مباح الأصل فأشبه الحشيش والحطب* واختلف في السارق من بيت المال فقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد والشافعى لا يقطع من سرق من بيت المال وهو قول على وإبراهيم النخعي والحسن وروى ابن وهب عن مالك أنه يقطع وهو قول حماد بن أبى سليمان وروى سفيان عن سماك بن حرب عن ابن عبيد بن الأبرص أن عليا أتى برجل سرق مغفرا من الخمس فلم يرد عليه قطعا وقال له فيه نصيب وروى وكيع عن المسعودي عن القاسم أن رجلا سرق من بيت المال فكتب فيه سعد إلى عمر فكتب إليه عمر ليس عليه قطع له في نصيب ولا نعلم عن أحد من الصحابة خلاف ذلك وأيضا لما كان حقه وحق سائر المسلمين فيه سواء فصار كسارق مال بينه وبين غيره فلا يقطع واختلف فيمن سرق خمرا من ذمي أو مسلم فقال أصحابنا ومالك والشافعى لا قطع عليه وهو قول الثوري وقال الأوزاعى في ذمي سرق من مسلم خمرا أو خنزيرا غرم الذمي ويجد فيه المسلم* قال أبو بكر الخمر ليست بمال لنا وإنما أمر هؤلاء أن نترك مالا لهم بالعهد والذمة فلا يقطع سارقها لأن ما كان مالا من وجه وغير مال من وجه فإن أقل أحواله أن يكون ذلك شبهة في درء الحد عن سارقه كمن وطئ جارية بينه وبين غيره وأيضا فإن المسلم معاقب على اقتناء الخمر وشربها مأمور بتخليلها أو صبها فمن أخذها فإنما

٧٧

أزال يده عما كان عليه إزالته عنه فلا يقطع* واختلف فيمن أقر بالسرقة مرة واحدة فقال أبو حنيفة وزفر ومالك والشافعى والثوري إذا أقر بالسرقة مرة واحدة قطع وقال أبو يوسف وابن شبرمة وابن أبى ليلى لا يقطع حتى يقر مرتين والدليل على صحة القول الأول ما روى عبد العزيز بن محمد الدراوردى عن يزيد بن صفية عن محمد بن عبد الرحمن ابن ثوبان عن أبى هريرة قال أتى بسارق إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله هذا سرق فقال ما أخا له سرق فقال السارق بلى قال فاذهبوا به فاقطعوه فقطع ورواه غير الدراوردى عن محمد بن عبد الرحمن عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يذكر فيه أبا هريرة منهم الثوري وابن جريج ومحمد ابن إسحاق قال أبو بكر وعلى أى وجه حصلت الرواية من وصل أو قطع فحكمها ثابت لأن إرسال من أرسله لا يمنع صحة وصل من وصله ومع ذلك لو حصل مرسلا لكان حكمه ثابتا لأن المرسل والموصول سواء عندنا فيما يوجبون من الحكم فقد قطع النبي صلّى الله عليه وسلّم بإقراره مرة واحدة * فإن قال قائل إنما قطعه بشهادة الشهود لأنهم قالوا سرق* قيل له لو كان كذلك لاقتصر عليها ولم يلقنه الجحود فلما قال بعد قولهم سرق وما أخا له سرق ولم يقطعه حتى أقر ثبت أنه قطع بإقراره دون الشهادة فإن احتجوا بما روى حماد بن سلمة عن إسحاق عن عبد الله بن أبى طلحة عن أبى المنذر مولى أبى ذر عن أبى أمية المخزومي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتى بلص اعترف اعترافا ولم يوجبوا معه المتاع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما أخا لك سرقت قال بلى يا رسول الله فأعادها عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرتين أو ثلاثا قال بلى فأمر به فقطع ففي هذا الحديث أنه لم يقطعه بإقراره مرة واحدة وهو أقوى إسنادا من الأول* قيل له ليس في هذا الحديث بيان موضع الخلاف وذلك أنه لم يذكر فيه* إقرار السارق مرتين أو ثلاثا قبل أن يقر ثم أقر* فإن قيل فقد ذكر فيه أنه اعترف اعترافا فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك مرتين أو ثلاثا ويحتمل أيضا أن يكون الاعتراف قد حصل منه عند غير النبي صلّى الله عليه وسلّم فلا يوجب ذلك القطع عليه وأيضا لو ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أعاد عليه ذلك بعد الإقرار الأول لما دل على أن الإقرار الأول لم يوجب القطع إذ ليس يمتنع أن يكون القطع قد وجب وأراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يتوصل إلى إسقاطه بتلقينه الرجوع عنه* فإن قيل روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال ما ينبغي لوال أمر أن يؤتى الحد إلا أقامه فلو كان القطع واجبا بإقراره بديا لما اشتغل النبي صلّى الله عليه وسلّم بتلقينه الرجوع عن الإقرار

٧٨

ولسارع إلى إقامته* قيل له ليس وجوب القطع مانعا من استثبات الإمام إياه فيه ولا موجبا عليه قطعه في الحال لأن ما عزا قد أقر عند النبي صلّى الله عليه وسلّم بالزنا أربع مرات فلم يرجمه حتى استثبته وقال لعلك قبلت لعلك لمست وسأل أهله عن صحة عقله وقال لهم أبه جنة ولم يدل ذلك على أن الرجم لم يكن قد وجب بإقراره أربع مرات فليس إذا في هذا الخبر ما يعترض به على خبر أبى هريرة الذي ذكر فيه أنه أمر بقطعه حين أقر ومعلوم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يقدم على إقامة حد لم يجب بعد وليس يمتنع أن يؤخر إقامة حد قد وجب مستثبتا لذلك ومتحريا بالاحتياط والثقة فيه* ويدل على صحة ما ذكرنا أيضا حديث ابن لهيعة عن يزيد بن أبى حبيب عن عبد الرحمن بن ثعلبة الأنصارى عن أبيه أن عمرو بن سمرة أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله إنى سرقت جملا لبنى فلان فأرسل إليهم النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا إنا فقدنا جملا لنا فأمر به النبي صلّى الله عليه وسلّم فقطعت يده ففي هذا الخبر أيضا قطعه بإقراره مرة واحدة* ومن جهة النظر أيضا أن السرقة المقر بها لا تخلو من أن تكون عينا أو غير عين فإن كانت عينا ولم يجب القطع بإقرار الأول فقد وجب ضمانها لا محالة من قبل أن حق الآدمي فيه يثبت بإقراره مرة واحدة ولا يتوقف على الإقرار ثانيا وإذا ثبت الملك للمقر له ولم يثبت القطع صار مضمونا عليه وحصول الضمان ينفى القطع وإن كانت السرقة ليست بعين قائمة فقد صارت دينا بالإقرار الأول وحصولها دينا في ذمته ينفى القطع على ما وصفنا* فإن قال قائل إذا جاز أن يكون حكم أخذه بديا على وجه السرقة موقوفا في القطع على نفى الضمان وإثباته فهلا جعلت حكم إقراره موقوفا في تعلق الضمان به على وجوب القطع وسقوط* قيل له نفس الأخذ عندنا على وجه السرقة يوجب القطع فلا يكون موقوفا وإنما سقوط القطع بعد ذلك يوجب الضمان ألا ترى أنه إذا ثبتت السرقة بشهادة الشهود كان كذلك حكمها فإن لم يكن الإقرار بديا موجبا للقطع فينبغي أن يوجب الضمان ووجوب الضمان ينفى القطع إذ كان إقراره الثاني لا ينفى ما قد حصل عليه من الضمان النافى للقطع بإقراره الأول* فإن قيل ينتقض هذا الاعتلال بالإقرار بالزنا لأن إقراره الأول بالزنا إذا لم يوجب حدا فلا بد من إيجاب المهر به لأن الوطء في غير ملك لا يخلو من إيجاب حد ومهر ومتى انتفى الحد وجب المهر وإقراره الثاني والثالث والرابع لا يسقط المهر الواجب بديا بالإقرار الأول وهذا يؤدى إلى سقوط اعتبار عدد الإقرار في الزنا فلما صح وجوب اعتبار عدد الإقرار

٧٩

في الزنا مع وجود العلة المانعة من اعتبار عدد الإقرار في السرقة بان به فساد اعتلالك* قيل له ليس هذا مما ذكرناه في شيء وذلك أن سقوط الحد في الزنا على وجه الشبهة لا يجب به مهر لأن البضع لا قيمة له إلا من جهة عقد أو شبهة عقد ومتى عرى من ذلك لم يجب مهر ويدل عليه اتفاقهم جميعا على أنه لو أقر بالزنا مرة واحدة ثم مات أو قامت عليه بينة بالزنا فمات قبل أن يحد لم يجب عليه المهر في ماله ولو مات بعد إقراره بالسرقة مرة واحدة لكانت السرقة مضمونة عليه باتفاق منهم جميعا فقد حصل من قولهم جميعا إيجاب الضمان بالإقرار مرة واحدة وسقوط المهر مع الإقرار بالزنا من غير حد واحتج الآخرون بما روى الأعمش عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن على أن رجلا أقر عنده بسرقة مرتين فقال شهدت على نفسك بشهادتين فأمر به فقطع وعلقها في عنقه ولا دلالة في هذا الحديث على أن مذهب على رضى الله عنه أنه لا يقطع إلا بالإقرار مرتين إنما قال شهدت على نفسك بشهادتين ولم يقل لو شهدت بشهادة واحدة لما قطعت وليس فيه أيضا أنه لم يقطع حتى أقر مرتين* ومما يحتج به لأبى يوسف من طريق النظر أن هذا لما كان حدا يسقط بالشبهة وجب أن يعتبر عدد الإقرار فيه بالشهادة فلما كان أقل من يقبل فيه شهادة شاهدين وجب أن يكون أقل ما لا يصح به إقراره مرتين كالزنا اعتبر عدد الإقرار فيه بعدد الشهود وهذا يلزم أبا يوسف أن يعتبر عدد الإقرار في شرب الخمر بعدد الشهود وقد سمعت أبا الحسن الكرخي يقول إنه وجد عن أبى يوسف في شرب الخمر أنه لا يحد حتى يقر مرتين كعدد الشهود ولا يلزم عليه حد القذف لأن المطالبة به حق لآدمى وليس كذلك سائر الحدود وهذا الضرب من القياس مدفوع عندنا فإن المقادير لا تؤخذ من طريق المقاييس فيما كان هذا صفته وإنما طريقها التوقيف والاتفاق.

باب السرقة من ذوى الأرحام

قال أبو بكر قوله تعالى (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) عموم في إيجاب قطع كل سارق إلا ما خصه الدليل على النحو الذي قدمنا وعلى ما حكينا عن أبى الحسن ليس بعموم وهو مجمل محتاج فيه إلى دلالة من غيره في إثبات حكمه ومن جهة أخرى على أصله أن ما ثبت خصوصه بالاتفاق لا يصح الاحتجاج بعمومه وقد بينا ذلك في أصول الفقه وهو مذهب محمد بن شجاع إلا أنه وإن كان عموما عندنا لو خلينا ومقتضاه فقد قامت

٨٠