أحكام القرآن - ج ٤

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٧

من الواحد وهو معنى قوله (ونحن عصبة) ومع إنهم كانوا أنفع له بتدبير أمر الدنيا لأنهم كانوا يقومون بأمواله ومواشيه فذهبوا إلى أن اصطفاءه إياه بالمحبة دونهم وتقديمه عليهم ذهاب عن الطريق الصواب قوله تعالى (اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم) الآية فإنهم تآمروا فيما بينهم على أحد هذين من قتل أو تبعيد له عن أبيه وكان الذي استجازوا ذلك واستجرءوا من أجله عليه قولهم (وتكونوا من بعده قوما صالحين) فرجوا التوبة بعد هذا الفعل وهو نحو قوله تعالى (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) قيل في التفسير أنه يعزم على المعصية رجاء التوبة بعدها فيقول أفعل ثم أتوب وفي ذلك دليل على أن توبة القاتل مقبولة لأنهم قالوا وتكونوا من بعده قوما صالحين وحكاه الله عنهم ولم ينكره عليهم قوله تعالى (قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجب) لما تآمروا على أحد شيئين من قتل أو إبعاد عن أبيه أشار عليهم هذا القائل حين قالوا لا بد من أحد هذين بأنقص الشرين وهو الطرح في جب قليل الماء ليأخذه بعض السيارة وهم المسافرون فلما أبرموا التدبير وعزموا عليه نابوا للتلطف في الوصول إلى ما أرادوا فقالوا (يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف) إلى آخر الآيتين وقوله تعالى (أرسله معنا غدا يرتع ويلعب) قيل في يرتع يرعى وقيل إن الرتع الاتساع في البلاد ويقال يرتع في المال أى هو يتسع به في البلاد واللعب هو الفعل المقصود به التفرج والراحة من غير عاقبة له محمودة ولا قصد فيه لفاعله إلا حصول اللهو والفرح فمنه ما يكون مباحا وهو ما لا إثم فيه كنحو ملاعبة الرجل أهله وركوبه فرسه للتطرب والتفرج ونحو ذلك ومنه ما يكون محظورا وفي الآية دلالة على أن اللعب الذي ذكروه كان مباحا لو لا ذلك لأنكره يعقوب عليه السلام عليهم فلما سألوه إرساله معهم قال (إنى ليحزننى أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون) فذكر لهم حزنه لذهابهم به لبعده عن مشاهدته وإنه خائف مع ذلك أن يأكله الذئب فاجتمع عليه في هذه الحال شيئان الحزن والخوف فأجابوه بأنه يمتنع أن يأكله الذئب وهم جماعة وإن ذلك لو وقع لكانوا خاسرين قوله تعالى (وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون) قال ابن عباس لا يشعرون بأنه يوسف في وقت ينبئهم وكذلك قال الحسن أوحى الله إليه وهو في الجب فأعطاه النبوة وأخبره أنه ينبئهم بأمرهم هذا قوله تعالى (وجاؤ أباهم عشاء يبكون) روى أن الشعبي كان جالسا

٣٨١

للقضاء فجاءه رجل يبكى ويدعى أن رجلا ظلمه فقال رجل بحضرته يوشك أن يكون هذا مظلوما فقال الشعبي إخوة يوسف خانوا وظلموا كذبوا وجاءوا أباهم عشاء يبكون فأظهروا البكاء لفقد يوسف ليبرئوا أنفسهم من الخيانة وأوهموه أنهم مشاركون له في المصيبة ويلقنوا ما كان أظهره يعقوب عليه السلام لهم من خوفه على يوسف أن يأكله الذئب فقالوا (إنا ذهبنا نستبق) يقال ننتضل من السباق في الرمي وقيل نستبق بالعدو على الرجل (وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا) يعنى بمصدق وجاءوا بقميص عليه دم فزعموا أنه دم يوسف قوله تعالى (بدم كذب) يعنى مكذوب فيه قال ابن عباس ومجاهد قال لو كان أكله الذئب لخرقه فكانت علامة الكذب ظاهرة فيه وهو صحة القميص من غير تخريق وقال الشعبي كان في قميص يوسف ثلاث آيات الدم والشق وإلقاؤه على وجه أبيه فارتد بصيرا وقال الحسن لما رأى القميص صحيحا قال يا بنى والله ما عهدت الذئب حليما قوله تعالى (قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا) يدل على أن يعقوب عليه السلام قطع بخيانتهم وظلمهم وأن يوسف لم يأكله الذئب لما استدل عليه من صحة القميص من غير تخريق وهذا يدل على أن الحكم بما يظهر من العلامة في مثله في التكذيب أو التصديق جائز لأنه عليه السلام قطع بأن الذئب لم يأكله بظهور علامة كذبهم قوله تعالى (فصبر جميل) يقال إنه صبر لا شكوى فيه وفيه البيان عما تقتضيه المصيبة من الصبر الجميل والاستعانة بالله عند ما يعرض من الأمور القطعية المجزية فحكى لنا حال نبيه يعقوب عليه السلام عند ما ابتلى بفقد ولده العزيز عنده وحسن عزائه ورجوعه إلى الله تعالى والاستعانة به وهو مثل قوله تعالى (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة) الآية ليقتدى به عند نزول المصائب قوله تعالى (قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة) قال قتادة والسدى لما أرسل دلوه تعلق بها يوسف فقال المدلى يا بشر اى هذا غلام قال قتادة بشر أصحابه بأنه وجد عبدا وقال السدى كان اسم الرجل الذي ناداه بشرى وقوله (وأسروه بضاعة) قال مجاهد والسدى أسره المدلى ومن معه في باقى التجار لئلا يسئلوهم الشركة فيه برخص ثمنه وقال ابن عباس أسره أخوته وكتموا أنه أخوهم وتابعهم على ذلك لئلا يقتلوه والبضاعة القطعة من المال تجعل للتجارة وقيل في معنى أسروه بضاعة أنهم اعتقدوا فيه التجارة

٣٨٢

وروى شعبة عن يونس عن عبيد عن الحسن عن على أنه قضى باللقيط أنه حر وقرأ (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين) وروى الزهري عن سنين أبى جميلة قال وجدت منبوذا على عهد عمر فقال عمر عسى الغويرا بؤسا فقيل إنه لا يتهم فقال هو حر ولك ولاؤه وعلينا رضاعه فمعنى قوله عسى الغويرا بؤسا الغوير تصغير غار وهو مثل معناه عسى أن يكون جاء البأس من قبل الغار فاتهم عمر الرجل وقال عسى أن يكون الأمر جاء من قبلك في هذا الصبى اللقيط بأن يكون من مائك فلما شهدوا له بالستر أمره بإمساكه وقال ولاؤه لك وجائز أن يريد بالولاء هاهنا إمساكه والولاية عليه وإثبات هذا الحق له كما لو كان عبدا له فأعتقه لأنه تبرع بأخذه وإحيائه والإحسان إليه وقد أخبر عمر أنه حر فلا يخلو من أن يكون ذلك على وجه الإخبار بأنه حر الأصل ولا رق عليه أو إيقاع حرية عليه من قبله ومعلوم أن عمر لم يملكه ولم يكن عبدا له فيعتقه فعلمنا أنه أراد الإخبار بأنه حر لا يجرى عليه رق وإذا كان حر الأصل لم يجز أن يثبت ولاؤه لإنسان فعلمنا أنه أراد بقوله لك ولاؤه أى لك ولايته في الإمساك والحفظ وما روى عن عمر وعائشة أنهما قالا في أولاد الزنا اعتقوهم وأحسنوا إليهم فإنما معناه احكموا بأنهم أحرار وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يجزى ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه وذلك إخبار منه بوقوع العتاق بالملك لا يحتاج إلى استئنافه وقد روى المغيرة عن إبراهيم في اللقيط يجده الرجل قال إن نوى أن يسترقه كان رقيقا وإن نوى الحسبة عليه كان عتيقا وهذا لا معنى له لأنه إن كان حرا لم يصر رقيقا بنية الملتقط وإن كان عبدا لم يصر عتيقا بنيته أيضا وأيضا إن الأصل في الناس الحرية وهو الظاهر ألا ترى أن من وجدناه يتصرف في دار الإسلام أنا نحكم بحريته ولا نجعله عبدا إلا ببينة تشهد بذلك أو بإقراره وأيضا فإن اللقيط لا يخلو من أن يكون ولد حرة أو أمة فإن كان ولد حرة فهو حر وغير جائز استرقاقه وإن كان ولد أمة فهو عبد لغير الملتقط فلا يجوز لنا أن نتملكه ففي الوجوه كلها لا يجوز أن يكون اللقيط عبدا للملتقط وأيضا فإن الرق طارئ والأصل الحرية كشيء علمناه ملكا لإنسان وادعى غيره زواله إليه فلا تصدقه لأنه يدعى معنى طارئا كذلك حكم الملتقط فيما يثبت له من رق اللقيط وأيضا لما كان لقطة المال لا توجب للملتقط ملكا فيها مع العلم بأنه ملك في الأصل كان التقاط اللقيط الذي لا يعلم رقه أحرى أن

٣٨٣

لا يوجب للملتقط ملكا وقد روى حماد بن سلمة عن عطاء الخراساني عن سعيد بن المسيب أن رجلا تزوج امرأة فولدت لأربعة أشهر فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لها صداقها بما استحل من فرجها وولدها مملوك له وهو حديث شاذ غير معمول عليه لأن أكثر ما فيه أنه ولد زنا إذا كان من حرة فهو حر ولا خلاف بين الفقهاء في أن ولد الزنا واللقيط حران قوله تعالى (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة) قال الفراء الثمن ما يثبت في الذمة بدلا من البياعات من الدراهم والدنانير قال أبو بكر ظاهر الكلام يدل عليه لأنه سمى الدراهم ثمنا بقوله (وشروه بثمن) وقول الفراء مقبول من طريق اللغة فإذا أخبر أن الثمن اسم لما يثبت في الذمة من الوجه الذي ذكرنا ثم سمى الله تعالى الدراهم ثمنا اقتضى ذلك ثبوتها في الذمة متى جعلت بدلا في عقود البياعات سواء عينها أو أطلقها ولم يعينها لأنها لو تعينت بالتعيين لخرجت من أن تكون ثمنا إذ كانت الأعيان لا تكون أثمانا في الحقيقة إلا أن يجريها الإنسان مجرى الإبدال فيسميها ثمنا على معنى البدل تشبيها بالثمن وإذا ثبت ذلك وجب أن لا تتعين الدراهم والدنانير لأن في تعيينها سلب الصفة التي وصفها الله بها من كونها ثمنا إذ الأعيان لا تكون أثمانا والبخس النقص يقال بخسه حقه إذا نقصه وقوله (دراهم معدودة) روى عن ابن مسعود وابن عباس وقتادة قالوا كانت عشرين درهما وعن مجاهد اثنان وعشرون درهما وقيل إنما سماها معدودة لقلتها وقيل عدوها ولم يزنوها وقيل كانوا لا يزنون الدراهم حتى تبلغ أوقية وأوقيتهم أربعون درهما وقال ابن عباس ومجاهد إخوته كانوا حضورا فقالوا هذا عبد لنا أبق فاشتروه منهم وقال قتادة باعه السيارة قوله تعالى (وكانوا فيه من الزاهدين) قيل إن إخوته كانوا في الثمن من الزاهدين وإنما كان غرضهم أن يغيبوه عن وجه أبيهم وقوله تعالى (وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته اكرمى مثواه عسى أن ينفعنا) روى عن عبد الله قال أحسن الناس فراسة ثلاثة العزيز حين قال لامرأته أكرمى مثواه عسى أن ينفعنا وابنة شعيب حين قالت في موسى يا أبت استأجره وأبو بكر الصديق حين ولى عمر قوله تعالى (ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما) قيل في معنى الأشد أنها القوة من ثماني عشرة إلى ستين سنة وقال ابن عباس الأشد ابن عشرين سنة وقال مجاهد ابن ثلاث وثلاثين سنة* قوله تعالى (ولقد همت به وهم بها) روى عن الحسن به بالعزيمة وهم بها من جهة الشهوة ولم يعزم وقيل هما جميعا بالشهوة

٣٨٤

لأن الهم بالشيء مقاربته من غير مواقعة والدليل على أن هم يوسف بها لم يكن من جهة العزيمة وإنما كان من جهة دواعي الشهوة قوله (معاذ الله إنه ربى أحسن مثواى) وقوله (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) فكان ذلك إخبارا ببراءة ساحته من العزيمة على المعصية وقيل إن ذلك على التقديم والتأخير ومعناه لو لا أن رأى برهان ربه هم بها وذلك لأن جواب لو لا لا يجوز أن يتقدمه لأنهم لا يجيزون أن نقول قد أتيتك لو لا زيد وجائز أن يكون على تقديره تقديم لو لا قوله تعالى (لو لا أن راى برهان ربه) قال ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد رأى صورة يعقوب عاضا على أنامله وقال قتادة نودي يا يوسف أنت مكتوب في الأنبياء وتعمل عمل السفهاء وروى عن ابن عباس أنه رأى الملك وقال محمد بن كعب هو ما علمه من الدلالة على عقاب الزنا قوله تعالى (وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل) الآية روى عن ابن عباس وأبى هريرة وسعيد بن جبير وهلال بن يسار أنه صبي في المهد وروى عن ابن عباس أيضا والحسن وابن أبى مليكة وعكرمة قالوا هو رجل وقال عكرمة إن الملك لما رأى يوسف مشقوق القميص على الباب قال ذلك لابن عم له فقال إن كان قميصه قد من قبل فإنه طلبها فامتنعت منه وإن كان من دبر فإنه فر منها وطلبته ومن الناس من يحتج بهذه الآية في الحكم بالعلامة في اللقطة إذا ادعاها مدع ووصفها وقد اختلف الفقهاء في مدعى اللقطة إذا وصف علامات فيها فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والشافعى لا يستحقها بالعلامة حتى يقيم البينة ولا يجبر الملتقط على دفعها إليه بالعلامة ويسعه أن يدفعها وإن لم يجبر عليه في القضاء وقال ابن القاسم في قياس قول مالك يستحقها بالعلامة ويجبر على دفعها إليه فإن جاء مستحق فاستحقها ببينة لم يضمن الملتقط شيئا وقال مالك وكذلك اللصوص إذا وجد معهم أمتعة فجاء قوم فادعوها وليست لهم بينة أن السلطان يتلوم في ذلك فإن لم يأت غيرهم دفعه إليهم وكذلك الآبق وقال الحسن بن حي يدفعها إليه بالعلامة وقال أصحابنا في اللقيط إذا ادعاه رجلان ووصف أحدهما علامة في جسده إنه أولى من الآخر وقال أبو حنيفة ومحمد في متاع البيت إذا اختلف فيه الرجل والمرأة إن ما يكون للرجال فهو للرجل وما كان للنساء فهو للمرأة وما كان للرجل والمرأة فهو للرجل فحكموا فيه بظاهر هيئة المتاع وقالوا في المستأجر والمؤاجر إذا اختلفا في مصراع

٣٨٥

باب موضوع في الدار أنه إن كان وفقا لمصراع معلق في البناء فالقول قول رب الدار وإن لم يكن وفقا له فالقول قول المستأجر وكذلك إن كان جذع مطروح في دار وعليه نقوش وتصاوير موافقة لنقوش جذوع السقف ووفقا لها فالقول قول رب الدار وإن كانت مخالفة لها فالقول قول المستأجر وهذه مسائل قد حكموا في بعضها بالعلامة ولم يحكموا بها في بعض ولا خلاف بين أصحابنا أن رجلين لو تنازعا على قربة وهما متعلقان بها وأحدهما سقاء والآخر عطار أنه بينهما نصفين ولا يقضى للسقاء بذلك على العطار فأما قولهم في اللقطة فإن الملتقط له يد صحيحة والمدعى لها يريد إزالة يده وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه وكون الذي في يده ملتقطا لا يخرج المدعى من أن يكون مدعيا فلا يصدق على دعواه إلا ببينة إذ ليست له يد والعلامة ليست ببينة لأن رجلا لو ادعى ما لا في يد رجل وأعطى علامته والذي في يده غير ملتقط لم يكن ذكر العلامة بينة يستحق بها شيئا* وأما قول أصحابنا في الرجلين يدعيان لقيطا كل واحد يدعى أنه ابنه ووصف أحدهما علامة في جسده فإنما جعلوه أولى استحسانا من قبل أن مدعى اللقيط يستحقه بدعواه من غير علامة ويثبت النسب منه بقوله وتزول يد من هو في يده فلما تنازعه اثنان صار كأنه في أيديهما لأنهما قد استحقا أن يقضى بالنسب لهما لو لم يصف أحدهما علامة في جسده فلما زالت يد من هو في يده صار بمنزلته لو كان في أيديهما من طريق الحكم جميعه في يد هذا وجميعه في يد هذا فيجوز حينئذ اعتبار العلامة ونظيره الزوجان إذا اختلفا في متاع البيت لما كان لكل واحد يد في الجميع اعتبر أظهرهما تصرفا وآكدهما يدا وكذلك المستأجر له يد في الدار والمؤاجر أيضا له يد في جميع الدار فلما استويا في اليد في الجميع كان الذي تشهد له العلامة الموافقة لصحة دعواه أولى وكان ذلك ترجيحا لحكم يده لا أنه يستحق به الحكم له بالملك كما يستحق بالبينات فهذه المواضع التي اعتبروا فيها العلامة إنما اعتبروها مع ثبوت اليد لكل واحد من المدعيين في الجميع فصارت العلامة من حجة اليد دون استحقاق الملك بالعلامة وأما المدعيان إذا كان في أيديهما شيء من المتاع وأحدهما ممن يعالج مثله وهو من آلته التي يستعملها في صناعته فإنه معلوم أن في يد كل واحد منهما النصف وأن ما في يد هذا ليس في يد الآخر منه شيء فلو حكمنا لأحدهما بظاهر صناعته أو بعلامة معه لكنا قد استحققنا عليه يدا هي له دونه فهما فيه بمنزلة

٣٨٦

رجل إسكاف ادعى قالب خف في يد صيرفي فلا يستحق يد الصيرفي لأجل أن ذلك من صناعته ومسألة اللقطة هي هذه بعينها لأن المدعى لا يد له وإنما يريد استحقاق يد الملتقط بالعلامة ومعلوم أنه لا يستحقها بالدعوى إذا لم تكن معه علامة فكذلك العلامة لا يجوز أن يستحق بها يد الغير وأما ما روى في حديث زيد بن خالد أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلّم عن اللقطة فقال اعرف عفاصها ووعاءها ووكاءها ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها فإنه لا دلالة فيه على أن مدعيها يستحقها بالعلامة لأنه يحتمل أن يكون إنما أمره بمعرفة العفاص والوعاء والوكاء لئلا يختلط بماله وليعلم أنها لقطة وقد يكون يستدل به على صدق المدعى فيسعه دفعها إليه وإن لم يلزم في الحكم وقد يكون لذكر العلامة ولما يظهر من الحال تأثير في القلب يغلب في الظن صدقه ولكنه لا يعمل عليه في الحكم وقد استدل يعقوب عليه السلام على كذب أخوة يوسف بأنه لو أكله الذئب لخرق قميصه وقد روى عن شريح وأياس بن معاوية أشياء نحو هذا روى ابن أبى نجيح عن مجاهد قال اختصم إلى شريح امرأتان في ولد هرة فقالت إحداهما هذه ولد هرتى وقالت الأخرى هذه ولد هرتى فقال ألقوها مع هذه فإن درت وقرت واسبطرت فهي لها وإن هرت وفرت وازبأرت فليس لها وروى حماد بن سلمة قال أخبرنى مخبر عن إياس بن معاوية أن امرأتين ادعتا كبة غزل فخلا بإحداهما وقال علام كببت غزلك فقالت على جوزة وخلا بالأخرى فقالت على كسرة خبز فنقضوا الغزل فدفعوه إلى التي أصابت وهذا الذي كان يفعله شريح وإياس من نحو هذا لم يكن على وجه إمضاء الحكم به وإلزام الخصم إياه وإنما كان على جهة الاستدلال بما يغلب في الظن منه فيقرر بعد ذلك المبطل منهما وقد يستحى الإنسان إذا ظهر مثل هذا من الإقامة على الدعوى فيقر فيحكم عليه بالإقرار قوله تعالى (قال أحدهما إنى أرانى أعصر خمرا) قيل فيه إضمار عصير العنب للخمر وذلك لأن الخمر المائعة لا يتأتى فيها العصر وقيل معناه أعصر ما يؤول إلى الخمر فسماه باسم الخمر وإن لم يكن خمرا على وجه المجاز وجائز أن يعصر من العنب خمرا بأن يطرح العنب في الخابية ويترك حتى ينش ويغلى فيكون ما في العنب خمرا فيكون العصر للخمر على وجه الحقيقة وقال الضحاك في لغة تسمى العنب خمرا قوله تعالى (نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين) قال قتادة كان يداوى مريضهم ويعزى حزينهم ويجتهد في عبادة

٣٨٧

ربه وقيل كان يعين المظلوم وينصر الضعيف ويعود المريض وقيل من المحسنين في عبارة الرؤيا لأنه كان يعبر لغيرهما قوله تعالى (قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله) الآية قال ابن جريج عدل عن تأويل الرؤيا إلى الإخبار بهذا لما رأى على أحدهما فيه من المكروه فلم يدعاه حتى أخبرهما به وقيل إنما قدم هذا ليعلما ما خصه الله تعالى من النبوة وليقبلا إلى طاعة الله وقد كان يوسف عليه السلام فيما بينهم قبل ذلك زمانا فلم يحك الله عنه أنه ذكر لهم شيئا من الدعاء إلى الله وكانوا قوما يعبدون الأوثان وذلك لأنه لم يطمع منهم في الاستماع والقبول فلما رآهم مقبلين إليه عارفين بإحسانه أمل منهم القبول والاستماع فقال (يا صاحبى السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) الآية وهو من قوله تعالى (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) وترقب وقت الاستماع والقبول من الدعاء إلى سبيل الله بالحكمة وإنما حكى الله ذلك لنا لنقتدى به فيه قوله تعالى (وقال للذى ظن أنه ناج منهما اذكرنى عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه) الظن هاهنا بمعنى اليقين لأنه علم يقينا وقوع ما عبر عليه الرؤيا وهو كقوله تعالى (إنى ظننت أنى ملاق حسابيه) ومعناه أيقنت وقوله (فأنساه الشيطان) هذه الهاء تعود على يوسف على ما روى عن ابن عباس وقال الحسن وابن إسحاق على الساقي وفيه بيان أن لبثه في السجن بضع سنين إنما كان لأنه سأل الذي نجا منهما أن يذكره عند الملك وكان ذلك منه على جهة الغفلة فإن كان التأويل على ما قال ابن عباس إن الشيطان أنسى يوسف عليه السلام ذكر ربه يعنى ذكر الله تعالى وأن الأولى كان في تلك الحال أن يذكر الله ولا يشتغل بمسئلة الناجي منهما أن يذكره عند صاحبه فصار اشتغاله عن الله تعالى في ذلك الوقت سببا لبقائه في السجن بضع سنين وإن كان التأويل إن الشيطان أنسى الساقي فلان يوسف لما سأل الساقي ذلك لم يكن من الله توفيق للساقى وخلاه ووساوس الشيطان وخواطره حتى أنساه ذكر ربه أمر يوسف وأما البضع فقال ابن عباس هو من الثلاث إلى العشر وقال مجاهد وقتادة إلى التسع وقال وهب لبث سبع سنين قوله تعالى (قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين) فإنا قد علمنا أن الرؤيا كانت صحيحة ولم تكن أضغاث أحلام لأن يوسف عليه السلام عبرها على سنى الخصب والجدب وهو يبطل قول من يقول إن الرؤيا على أول ما تعبر لأن القوم قالوا هي أضغاث أحلام ولم

٣٨٨

تقع كذلك ويدل على فساد الرواية بأن الرؤيا على رجل طائر فإذا عبرت وقعت قوله تعالى (وقال الملك ائتونى به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك) الآية يقال إن يوسف عليه السلام إنما لم يجبهم إلى الذهاب إلى الملك حتى رد الرسول إليه بأن يسئل عن النسوة اللاتي قطعن أيديهن لتظهر براءة ساحته فيكون أجل في صدره عند حضوره وأقرب إلى قبول ما يدعوه إليه من التوحيد وقبول ما يشير به عليه قوله تعالى (ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب) قال الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك هذا من قول يوسف يقول إنى إنما رددت الرسول إليه في سؤال النسوة ليعلم العزيز أنى لم أخنه بالغيب وإن كان ابتداء الحكاية عن المرأة فإنه رد الكلام إلى الحكاية عن قول يوسف لظهور الدلالة على المعنى وذلك نحو قوله (وكذلك يفعلون) وقبله حكاية عن المرأة (وجعلوا أعزة أهلها أذلة) وقوله (فما ذا تأمرون) وقبله حكاية قول الملأ (يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره) قوله تعالى (إن النفس لأمارة بالسوء) يعنى إن النفس كثيرة النزاع إلى السوء فلا يبرئ نفسه وإن كان لا يطاوعها وقد اختلف الناس في قائل هذا القول فقال قائلون هو من قول يوسف وقال آخرون هو من قول المرأة الأمارة الكثيرة الأمر بالشيء والنفس بهذه الصفة لكثرة ما تشتهيه وتنازع إليه مما يقع الفعل من أجله وقد كانت إضافة الأمر بالسوء إلى النفس مجازا في أول استعماله ثم كثر حتى سقط عنه اسم المجاز وصار حقيقة فيقال نفسي تأمرنى بكذا وتدعوني إلى كذا من جهة شهوتي له وإنما لم يصح أن يأمر الإنسان نفسه في الحقيقة لأن في الأمر ترغيبا للمأمور بتمليك ما لا يملك ومحال أن يملك الإنسان نفسه في الحقيقة لأن في الأمر ترغيبا للمأمور بتمليك ما لا يملك ومحال أن يملك الإنسان نفسه ما لا يملكه لأن من ملك شيئا فإنما يملك ما هو مالكه قوله تعالى (وقال الملك ائتونى به أستخلصه لنفسى فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين) هذا الملك لما كان من أهل العقل والدراية لم يرعه من يوسف منظره الرائع البهج كما راع النساء لقلة عقولهن وضعف أحلامهن وأنهن إنما نظرن إلى ظاهر حسنه وجماله دون علمه وعقله وإن الملك لم يعبأ بذلك ولكنه لما كلمه ووقف على كماله ببيانه وعلمه قال (إنك اليوم لدينا مكين أمين) فقال يوسف (اجعلنى على خزائن الأرض إنى حفيظ عليم) فوصف نفسه بالعلم والحفظ وفي هذا دلالة على أنه جائز للإنسان أن يصف نفسه بالفضل عند من لا يعرفه وإنه ليس من المحظور من تزكية النفس في قوله تعالى (فلا تزكوا أنفسكم) قوله تعالى (ائتونى بأخ

٣٨٩

لكم من أبيكم ـ إلى قوله ـ فإن لم تأتونى به فلا كيل لكم عندى) يقال إن الذي اقتضى طلبه للأخ من أبيهم مفاوضته لهم بالسؤال عن أخبارهم فلما ذكروا إيثار أبيهم له عليهم بمحبته إياه مع حكمته أظهر أنه يحب أن يراه وأن نفسه متطلعة إلى علم السبب في ذلك وكان غرضه في ذلك التوصل إلى حصوله عنده وكان قد خاف أن يكتموا أباه أمره إن ظهر لهم أنه يوسف وأن يتوصلوا إلى أن يحولوا بينه وبين الاجتماع معه ومع أخيه فأجرى تدبيره على تدريج لئلا يهجم عليهم ما يشتد اضطرابهم معه قوله تعالى (يا بنى لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة) قال ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك والسدى كانوا ذوى صورة وجمال فخاف عليهم العين وقال غيرهم خاف عليهم حسد الناس لهم وأن يبلغ الملك قوتهم وبطشهم فيقتلهم خوفا على ملكه وما قالته الجماعة يدل على أن العين حق وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال العين حق قوله تعالى (جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون) قيل أمر يوسف بعض أصحابه بأن يجعل الصاع في رحل أخيه ثم قال قائل من الموكلين بالصيعان وقد فقدوه ولم يدروا من أخذه أيتها العير إنكم لسارقون على ظن منهم أنهم كذلك ولم يأمرهم يوسف بذلك فلم يكن قول هذا القائل كذبا إذ كان مرجعه إلى غالب ظنه وما هو عنده وفيما توصل يوسف عليه السلام به إلى أخذ أخيه دلالة على أنه جائز للإنسان التوصل إلى أخذ حقه من غيره بما يمكنه الوصول إليه بغير رضا من عليه الحق قوله تعالى (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) روى عن يحيى بن يمان عن يزيد بن زريع عن عطاء الخراساني وأنا به زعيم قال كفيل قال أبو بكر ظن بعض الناس أن ذلك كفالة عن إنسان وليس كذلك لأن قائل ذلك جعل حمل بعير أجرة لمن جاء بالصاع وأكده بقوله (أنا به زعيم) يعنى ضامن قال الشاعر :

وإنى زعيم إن رجعت مسلما

بسير يرى منه الفرانق أزورا

أى ضامن لذلك فهذا القائل لم يضمن عن إنسان شيئا وإنما ألزم نفسه ضمان الأجرة لرد الصاع وهذا أصل في جواز قول القائل من حمل هذا المتاع إلى موضع كذا فله درهم وأن هذه إجارة جائزة وإن لم يكن يشارط على ذلك رجلا بعينه وكذلك قال محمد بن الحسن في السير الكبير إذا قال أمير الجيش من ساق هذه الدواب إلى موضع كذا أو قال من حمل هذا المتاع إلى موضع كذا فله كذا إن هذا جائز ومن حمله استحق الأجر

٣٩٠

وهذا معنى ما ذكر في هذه الآية وقد ذكر هشام عن محمد أيضا فيمن كانت في يده دار لرجل يسكنها فقال إن أقمت فيها بعد يومك هذا فأجره كل يوم عشرة دراهم عليك أن هذا جائز وإن أقام فيها بعد هذا القول لزمه كل يوم ما سمى فجعل سكناه بعد ذلك رضا وكان ذلك إجارة وإن لم يقاوله باللسان وفي الآية دلالة على ذلك لأنه قد أخبر أن من رد الصاع استحق الأجر وإن لم يكن بينهما عقد إجارة بل فعله لذلك بمنزلة قبول الإجارة وعلى هذا قالوا فيمن قال لآخر قد استأجرتك على حمل هذا المتاع إلى موضع كذا بدرهم أنه إن حمله استحق الدرهم وإن لم يتكلم بقبولها فإن قيل إن هذا لم يكن إجارة لأن الإجارة لا تصح على حمل بعير وإن كانت إجارة فهي منسوخة لأن الإجارة لا تجوز في شريعة نبينا صلّى الله عليه وسلّم إلا بأجر معلوم قيل له هو أجر معلوم لأن حمل بعير اسم لمقدار ما من الكيل والوزن كقولهم كارة ووقر ووسق ونحو ذلك ولما لم ينكر يوسف عليه السلام ذلك دل على صحنه وشرائع من قبلنا من الأنبياء حكمها ثابت عندنا ما لم تنسخ قوله تعالى (قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه) قال الحسن وأبو إسحاق ومعمر والسدى كان من عادتهم أن يسترقوا السارق فكان تقديره جزاؤه أخذ من وجد في رحله رقيقا فهو جزاء عندنا كجزائه عندكم فلما وجد في رحل أخيه أخذه على ما شرط أنه جزاء سرقته فقالوا خذ أحدنا مكانه عبدا روى ذلك عن الحسن وهذا يدل على أنه قد كان يجوز في ذلك الوقت استرقاق الحر بالسرقة وكان يجوز للإنسان أن يرق نفسه لغيره لأن إخوة يوسف عليه السلام بذلوا واحدا منهم ليكون عبدا بدل أخى يوسف وقد روى عن عبد سرق أن النبي صلّى الله عليه وسلّم باعه في دين عليه وكان حرا فجائز أن يكون هذا الحكم قد كان ثابتا إلى أن نسخ على لسان نبينا صلّى الله عليه وسلّم وفيما قص الله علينا من قصة يوسف وحفظه للأطعمة في سنى الجدب وقسمته على الناس بقدر الحاجة دلالة على أن للأئمة في كل عصر أن يفعلوا مثل ذلك إذا علموا هلاك الناس من القحط قوله تعالى (ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا) إنما أخبروا عن ظاهر الحال لا عن باطنها إذ لم يكونوا عالمين بباطنها ولذلك قالوا (وما كنا للغيب حافظين) فكان في الظاهر لما وجد الصاع في رحله أنه هو الآخذ له فقالوا (وما شهدنا إلا بما علمنا) يعنى من الأمر الظاهر لا من الحقيقة وهذا يدل على جواز إطلاق اسم العلم من طريق الظاهر

٣٩١

وإن لم يعلم حقيقة وهو كقوله (فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار) ومعلوم أنا لا نحيط بضمائرهن علما وإنما هو على ما يظهر من إيمانهن وقد قيل في قوله (وما كنا للغيب حافظين) معنيان أحدهما ما روى عن الحسن ومجاهد وقتادة ما كنا نشعر أن ابنك سيسرق والآخر ما قدمنا وهو أنا لا ندري باطن الأمر في السرقة* فان قيل لم جاز له استخراج الصاع من رحل أخيه على حال يوجب تهمته عند الناس مع براءة ساحته وغم أبيه وإخوته به قيل له لأنه كان في ذلك ضروب من الصلاح وقد كان ذلك عن مواطأة من أخيه له على ذلك وتلطف في إعلام أبيه بسلامتهما ولم يكن لأحد أن يتهمه بالسرقة مع إمكان أن يكون غيره جعله في رحله ولأن الله تعالى أمره بذلك تعريضا ليعقوب عليه السلام للبلوى بفقده أيضا ليصبر فيتضاعف ليعقوب عليه السلام الثواب الجزيل بصبره على فقدهما وفيما حكى الله تعالى من أمر يوسف وما عامل به إخوته في قوله (فلما جهزهم بجهازهم ـ إلى قوله ـ كذلك كدنا ليوسف) دلالة على إجازة الحيلة في التوصل إلى المباح واستخراج الحقوق وذلك لأن الله تعالى رضى ذلك من فعله ولم ينكره وقال في آخر القصة (كذلك كدنا ليوسف) ومن نحو ذلك قوله تعالى (وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث) وكان حلف أن يضربها عددا فأمره الله تعالى بأخذ الضغث وضربها به ليبر في يمينه من غير إيصال ألم كبير إليها ومن نحوه النهى عن التصريح بالخطبة وإباحة التوصل إلى إعلامها رغبته بالتعريض ومن جهة السنة حديث أبى سعيد الخدري وأبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه استعمل رجلا على خيبر فأتاه بتمر فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكل تمر خيبر هكذا فقال لا والله إنما نأخذ الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاثة قال فلا تفعل بع الجميع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم تمرا كذا روى ذلك مالك بن أنس عن عبد المجيد بن سهيل عن سعيد بن المسيب عن أبى سعيد وأبى هريرة فحظر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم التفاضل في التمر وعلمه كيف يحتال في التوصل إلى أخذ هذا التمر ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلّم لهند خذي من مال أبى سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف فأمرها بالتوصل إلى أخذ حقها وحق ولدها وروى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا أراد سفرا ورى بغيره وروى يونس ومعمر عن الزهري قال أرسلت بنوا قريظة إلى أبى سفيان بن حرب أن ائتونا فإنا سنغير على بيضة المسلمين من ورائهم فسمع ذلك نعيم بن مسعود وكان موادعا للنبي صلّى الله عليه وسلّم

٣٩٢

وكان عند عيينة حين أرسلت بذلك بنوا قريظة إلى الأحزاب أبى سفيان وأصحابه فأقبل نعيم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره خبرها وما أرسلت بنوا قريظة إلى الأحزاب فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعلنا أمرنا بذلك فقام نعيم يكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال وكان نعيم رجلا لا يكتم الحديث فلما ولى من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذاهبا إلى غطفان قال عمر يا رسول الله ما هذا الذي قلت إن كان أمرا من أمر الله فامضه وإن كان هذا رأيا رأيته من قبل نفسك فإن شأن بنى قريظة أهون من أن تقول شيئا يؤثر عنك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بل هذا رأى إن الحرب خدعة وروى أبو عثمان النهدي عن عمر قال إن في معاريض الكلام لمندوحة عن الكذب وروى الحسن بن عمارة عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قال ما يسرني بمعاريض الكلام حمر النعم وقال إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه للملك حين سأله عن سارة فقال من هي منك قال هي أختى لئلا بأخذها وإنما أراد أختى في الدين وقال للكفار إنى سقيم حين تخلف ليكسر آلهتهم وكان معناه إنى سأسقم يعنى أموت كما قال الله تعالى (إنك ميت) فعارض بكلامه عما سألوه عنه إلى غيره على وجه لا يلحق فيه الكذب فهذه وجوه أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها بالاحتيال في التوصل إلى المباح وقد كان لو لا وجه الحيلة فيه محظورا وقد حرم الله الوطء بالزنا وأمرنا بالتوصل إليه بعقد النكاح وحظر علينا أكل المال بالباطل وأباحه بالشرى والهبة ونحوها فمن أنكر التوصل إلى استباحة ما كان محظورا من الجهة التي أباحته الشريعة فإنما يرد أصول الدين وما قد ثبتت به الشريعة فإن قيل حظر الله تعالى على اليهود صيد السمك يوم السبت فحبسوا السمك يوم السبت وأخذوه يوم الأحد فعاقبهم الله عليه قيل له قد أخبر الله تعالى أنهم اعتدوا في السبت وهذا يوجب أن يكون حبسها في السبت قد كان محظورا عليهم ولو لم يكن حبسهم لها في السبت محرما لما قال (اعتدوا منكم في السبت) قوله تعالى (يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر ـ إلى قوله ـ وتصدق علينا) لما ترك يوسف عليه السلام النكير عليهم في قوله (مسنا وأهلنا الضر) دل ذلك على جواز إظهار مثل ذلك عند الحاجة إليه وأنه لا يجرى مجرى الشكوى من الله تعالى وقوله (فأوف لنا الكيل) فدل على أن أجرة الكيال على البائع لأن عليه تعيين المبيع للمشتري ولا يتعين إلا بالكيل وقد قالوا له فأوف لنا الكيل فدل على أن الكيل قد كان عليه فإن قيل نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن بيع الطعام

٣٩٣

حتى يجزى فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشترى وهذا يدل على أن الكيل على المشترى لأن مراده الصاع الذي اكتال به البائع من بائعه وصاع المشترى هو ما اكتاله المشترى الثاني من البائع قيل له قوله صاع البائع لا دلالة فيه على أن البائع هو الذي اكتال وجائز أن يريد به الصاع الذي كال البائع به بائعه وصاع المشترى الذي كاله له بائعه فلا دلالة فيه على الاكتيال على المشترى وإذا صح ذلك فيما وصفنا من الكيل فواجب أن يكون أجرة الوزان على المشترى لأن عليه تعيين الثمن للبائع ولا يتعين إلا بوزنه فعليه أجرة الوزان وأما أجرة الناقد فإن محمد بن سماعة روى عن محمد أنه قبل أن يستوفيه البائع فهو على المشترى لأن عليه تسليم الثمن إليه صحيحا وإن كان قد قبضه البائع فأجرة الناقد على البائع لأنه قد قبضه وملكه فعليه أن يبين أن شيئا منه معيب يجب رده قوله تعالى (وتصدق علينا) قال سعيد بن جبير إنما سألوا التفضل بالنقصان في السعر ولم يسئلوا الصدقة وقال سفيان بن عيينة سألوا الصدقة وهم أنبياء وكانت حلالا وإنما حرمت على النبي صلّى الله عليه وسلّم وكره مجاهد أن يقول في دعائه اللهم تصدق على لأن الصدقة إنما هي ممن يبتغى الثواب قوله تعالى (قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون) فيه إخبار إنهم كانوا جاهلين عند وقوع الفعل منهم وإنهم لم يكونوا جاهلين في هذا الوقت فمن الناس من يستدل بذلك على أنهم فعلوا ذلك قبل البلوغ لأنهم لو فعلوه بعد البلوغ مع أنهم لم تظهر منهم توبة لكانوا جاهلين في الحال وإنما أراد جهالة الصبا لا جهالة المعاصي وقول يوسف (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم) يدل على أنهم فعلوه بعد البلوغ وأن ذلك كان ذنبا منهم يجب عليهم الاستغفار منه وظاهر الكلام يدل على أنهم تابوا بقولهم (لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين) ويدل عليه قولهم (يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين) ولا يقول مثله من فعل شيئا في حال الصغر قبل أن يجرى عليه القلم وقوله (يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا) إنما جاز لهم مسألة الاستغفار مع حصول التوبة لأجل المظلمة المعلقة بعفو المظلوم وسؤال ربه أن لا يؤاخذه بما عامله ويجوز أن يكون إنما سأله أن يبلغه بدعائه منزلة من لم يكن في جناية قوله تعالى (سوف أستغفر لكم ربى) روى عن ابن مسعود وإبراهيم التيمي وابن جريج وعمرو بن قيس أنه أخر الاستغفار لهم إلى السحر لأنه أقرب إلى إجابة الدعاء وروى عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم

٣٩٤

أنه أخر ذلك إلى ليلة الجمعة وقيل إنما سألوه أن يستغفر لهم دائما في دعائه قوله تعالى (وخروا له سجدا) يقال إن التحية للملوك كانت السجود وقيل إنهم سجدوا لله شكرا له على ما أنعم به عليهم من الاجتماع مع يوسف على الحال السارة وأرادوا بذلك التعظيم ليوسف فأضاف السجود إلى يوسف مجازا كما يقال صلّى للقبلة وصلّى إلى غير القبلة يعنى إلى تلك الجهة وقول يوسف (هذا تأويل رءياى من قبل) يعنى سجود الشمس والقمر والكواكب فكان السجود في الرؤيا هو السجود في اليقظة وكان الشمس والقمر والكواكب أبويه وإخوته ويقال في قوله (ورفع أبويه على العرش) أن أمه كانت ماتت وتزوج خالته روى ذلك عن السدى وقال الحسن وابن إسحاق كانت أمه باقية وروى عن سليمان وعبيد الله بن شداد كانت المدة بين الرؤيا وبين تأويلها أربعين سنة وعن الحسن كانت ثمانين سنة وقال ابن إسحاق ثماني عشرة سنة فإن قيل إذا كانت رؤيا الأنبياء صادقة فهلا تسلى يعقوب بعلمه بوقوع تأويل رؤيا يوسف قيل له لأنه رآها وهو صبي وقيل لأن طول الغيبة عن الحبيب يوجب الحزن كما يوجبه مع الثقة بالالتقاء في الآخرة قوله تعالى (وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون) يعنى وكم من آية فيهما لا يفكرون فيها ولا يستدلون بها على توحيد الله وفيه حث على الاستدلال على الله تعالى بآياته ودلائله والفكر فيما يقتضيه من تدبير مدبرها العالم بها القادر عليها وأنه لا يشبهها وذلك في تدبير الشمس والقمر والنجوم والرياح والأشجار والنبات والنتاج والحيوان وغير ذلك مما هو ظاهر للحواس ومدرك بالعيان قوله تعالى (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) روى عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وما يؤمن أكثرهم بالله في إقرارهم بأن الله خلقه وخلق السموات والأرض إلا وهو مشرك بعبادة الوثن وقال الحسن هم أهل الكتاب معهم شرك وإيمان وقيل ما يصدقون بعبادة الله إلا وهم يشركون الأوثان في العبادة وقد دلت الآية على أن مع اليهودي إيمانا بموسى وكفرا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم لأنها قد دلت على أن الكفر والإيمان لا يتنافيان من وجهين مختلفين فيكون فيه كفر من وجه وإيمان من وجه إلا أنه لا يحصل اجتماعهما على جهة إطلاق اسم المؤمن واستحقاق ثواب الإيمان لأن ذلك ينافيه الكفر وكذلك قوله (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) قد أثبت لهم الإيمان ببعض

٣٩٥

الكتاب والكفر ببعض آخر فثبت بذلك جواز أن يكون معه كفر من وجه وإيمان من وجه آخر وغير جائز أن يجتمع له صفة مؤمن وكافر لأن صفة مؤمن على الإطلاق صفة مدح وصفة كافر صفة ذم ويتنافى استحقاق الصفتين معا على الإطلاق في حال واحدة قوله تعالى (قل هذه سبيلى أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى) فيه بيان أنه مبعوث بدعاء الناس إلى الله عز وجل على بصيرة من أمره كأنه يبصره بعينه وأن من اتبعه فذلك سبيله في الدعاء إلى الله عز وجل وفيه الدلالة على أن على المسلمين دعاء الناس إلى الله تعالى كما كان على النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك قوله تعالى (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم من أهل القرى) قيل من أهل الأمصار دون البوادي لأن أهل الأمصار أعلم واحكم وأحرى بقبول الناس منهم وقال الحسن لم يبعث الله نبيا من أهل البادية قط ولا من الجن ولا من النساء قوله تعالى (حتى إذا استياس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا) اليأس انقطاع الطمع وقوله (كذبوا) قرئ بالتخفيف وبالتثقيل فإذا قرئ بالتخفيف كان معناه ما روى عن ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك قالوا ظن الأمم أن الرسل كذبوهم فيما أخبروهم به من نصر الله تعالى لهم وإهلاك أعدائهم وروى عن حماد بن زيد عن سعيد بن الحبحاب قال حدثني إبراهيم بن أبى حرة الجزري قال صنعت طعاما فدعوت ناسا من أصحابنا فيهم سعيد بن جبير وأرسلت إلى الضحاك بن مزاحم فأبى أن يجيء فأتيته فلم أدعه حتى جاء قال فسأل فتى من قريش سعيد ابن جبير فقال له يا أبا عبد الله كيف تقرأ هذا الحرف فإنى إذا أتيت عليه تمنيت أنى لا أقرأ هذه السورة (حتى إذا استياس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا) قال نعم حتى إذا استيئس الرسل من قومهم أن يصدقوهم وظن المرسل إليهم أن الرسل كذبوا مخففة فقال الضحاك ما رأيت كاليوم قط رجلا يدعى إلى علم فيتلكأ لو رحلت في هذا إلى اليمن كان قليلا وفي رواية أخرى أن مسلم بن يسار سأل سعيدا عنه فأجابه بذلك فقام إليه مسلم فاعتنقه وقال فرج الله عنك كما فرجت عنى ومن قرأ (كذبوا) بالتشديد كان معناه أيقنوا أن الأمم قد كذبوهم فكذبنا عمهم حتى لا يفلح أحد منهم روى ذلك عن عائشة والحسن وقتادة آخر سورة يوسف.

٣٩٦

سورة الرعد

(بسم الله الرحمن الرحيم)

قوله تعالى (وفي الأرض قطع متجاورات) قال ابن عباس ومجاهد والضحاك الأرض السبخة والأرض العذبة (ونخيل صنوان) قال ابن عباس والبراء بن عازب ومجاهد وقتادة النخلات أصلها واحد قوله تعالى (يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل) فيه أوضح دلالة على بطلان مذهب أصحاب الطبائع لأنه لو كان حدوث ما يحدث من الثمار بطبع الأرض والهواء والماء لوجب أن يتفق ما يحدث من ذلك لاتفاق ما يوجب حدوثه إذ كانت الطبيعة الواحدة توجب عندهم اتفاق ما يحدث منها ولا يجوز أن توجب فعلين مختلفين متضادين فلو كان حدوث هذه الأشياء المختلفة الألوان والطعوم والأراييح والأشكال من إيجاب الطبيعة لاستحال اختلافها وتضادها مع اتفاق الموجب لها فثبت أن المحدث لها قادر مختار حكيم قد أحدثها على اختلافها على علم منه بها وهو الله تعالى قوله تعالى (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) روى عن ابن عباس وسعيد ومجاهد والضحاك الهادي هو الله تعالى وروى عن مجاهد أيضا وقتادة الهادي نبي كل أمة وعن ابن عباس أيضا الهادي الداعي إلى الحق وعن الحسن وقتادة وأبى الضحى وعكرمة الهادي محمد صلّى الله عليه وسلّم وهذا هو الصحيح لأن تقديره إنما أنت منذر وهاد لكل قوم والمنذر هو الهادي والهادي أيضا هو المنذر قوله تعالى (وما تغيض الأرحام وما تزداد) قال ابن عباس والضحاك وما تنقص من الأشهر التسعة وما تزداد فإن الولد يولد لستة أشهر فيعيش ويولد لسنتين فيعيش وقال الحسن وما تنقص بالسقط وما تزداد بالتمام وقال الفراء الغيض النقصان ألا تراهم يقولون غاضت المياه إذا نقصت وقال عكرمة إذا غاضت وقال ما غاضت الرحم بالدم يوما إلا زاد في الحمل وقال مجاهد الغيض وما رأت الحامل من الدم في حملها وهو نقصان من الولد والزيادة ما زاد على تسعة أشهر وهو تمام النقصان وهو الزيادة وزعم إسماعيل بن إسحاق أن التفسير إن كان على ما روى عن مجاهد وعكرمة فهو حجة منه في أن الحامل تحيض قال لأن كل دم يخرج من الرحم فليس يخلو من أن يكون حيضا أو نفاسا وأما دم الاستحاضة فهو من عرق وهذا الذي ذكره ليس بشيء لأن الدم الخارج من الرحم قد يكون حيضا ونفاسا وقد يكون غيرهما وقوله صلّى الله عليه وسلّم في

٣٩٧

دم الاستحاضة أنه دم عرق غير مانع أن يكون بعض ما يخرج من الرحم من الدم قد يكون دم الاستحاضة لأنه صلّى الله عليه وسلّم قال إنما هو دم عرق انقطع أوداء عرض فأخبر أن دم الاستحاضة قد يكون من داء عرض وإن لم يكن من عرق وأيضا فما الذي يحيل أن يكون دم العرق خارجا من الرحم بأن ينقطع العرق فيسيل الدم إليها ثم يخرج فلا يكون حيضا ولا نفاسا* ثم قال فلا يقال إن الحامل لا تحيض إلا بخبر عن الله أو عن رسوله لأنه حكاية عن غيب ونسى أن قضيته توجب أن لا يقال أنها تحيض إلا بخبر عن الله وعن الرسول لأنه حكاية عن غيب على حسب موضوعه وقاعدته بل قد يسوغ لمن نفى الحيض عن الحامل ما لا يسوغ لمن أثبته لأنا قد علمنا أنها كانت غير حائض فإذا رأت الدم واختلفوا أنه حيض أو غير حيض وفي إثبات الحيض إثبات أحكام فغير جائز إثباته حيضا إلا بتوقيف وواجب أن تكون باقية على ما كانت عليه من عدم الحيض حتى يثبت الحيض بتوقيف أو اتفاق إذ كان في إثبات الدم حيضا إثبات حكم لا سبيل إلى علمه إلا من طريق التوقيف وأيضا فإن قولنا حيض هو حكم الدم خارج من الرحم وقد يوجد الدم خارجا من الرحم على هيئة واحدة فيحكم لما رأته في أيامها بحكم الحيض ولما رأته في غير أيامها بحكم الاستحاضة وكذلك النفاس فإذا كان الحيض ليس بأكثر من إثبات أحكام الدم يوجد في أوقات ولم يكن الحيض عبارة عن الدم فحسب دون ما يتعلق به من الحكم وإثبات الحكم بخروج دم لا يعلم إلا من طريق التوقيف فلم يجز أن يجعل هذا الحكم ثابتا لدم الحامل إذ لم يرد به توقيف ولا حصل عليه اتفاق ثم قال إسماعيل عطفا على قوله لا يقال إن الحامل لا تحيض إلا بخبر عن الله أو عن رسوله لأنه حكاية عن غيب ولا يلزم ذلك من قال أنها تحيض لأن الله تعالى قد قال (ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض) فلما قيل النساء لزم في ذلك العموم لأن الدم إذا خرج من فرجها فالحيض أولى به حتى يعلم غيره قال أبو بكر قوله (ويسئلونك عن المحيض) ليس فيه بيان صفة الحيض بمعنى يتميز به عن غيره وقوله تعالى (قل هو أذى) إنما هو إخبار عما يتعلق بالمحيض من ترك الصلاة والصوم واجتناب الرجل جماعها وإخبار عن نجاسة دم الحيض ولزوم اجتنابه ولا دلالة فيه على وجوده في حال الحمل وعدمه وقوله لما قيل النساء لزم في ذلك العموم لا معنى له لأنه قال (فاعتزلوا النساء في المحيض)

٣٩٨

وقوله في المحيض ليس فيه بيان أن الحيض ما هو ومتى ثبت المحيض وجب الاعتزال وإنما اختلفا في أن الدم الخارج في وقت الحمل هل هو حيض أم لا وقول الخصم لا يكون حجة لنفسه وقوله إن الدم إذا خرج من فرجها فالحيض أولى به دعوى مجردة من البرهان ولخصمه أن يقول إن الدم إذا خرج من فرجها فغير الحيض أولى به حتى يقوم الدليل على أنه حيض لوجودنا دما خارجا من الرحم غير حيض فلم يحصل من جميع هذا الكلام إلا دعاوى مبنية بعضها على بعض وجميعها مفتقر إلى دليل يعضدها وقد روى مطر الوراق عن عطاء عن عائشة أنها قالت في الحامل ترى الدم إنها لا تدع الصلاة وروى حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد قال لا يختلف فيه عندنا عن عائشة أنها كانت تقول في الحامل ترى الدم أنها تمسك عن الصلاة حتى تطهر وهذا يحتمل أن تريد به الحامل التي في بطنها ولدان فولدت أحدهما أن النفاس من الأول وأنها تدع الصلاة حتى تطهر على ما يقول أبو حنيفة وأبو يوسف في ذلك حتى يصحح الخبرين جميعا عنها وعند أصحابنا أن الحامل لا تحيض وإن ما رأته من دم فهو استحاضة وعند مالك والشافعى تحيض فالحجة لقولنا ما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في سبايا أرطاس لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرئ بحيضة والاستبراء هو معرفة براءة الرحم فلما جعل الشارع وجود الحيض علما لبراءة الرحم لم يجز وجوده مع الحبل لأنه لو جاز وجوده معه لم يكن وجود الحيض علما لبراءة الرحم ويدل عليه أيضا قوله صلّى الله عليه وسلّم في طلاق السنة فليطلقها طاهرا من غير جماع أو حاملا قد استبان حملها فلو كانت الحامل تحيض لفصل بين جماعها وطلاقها بحيضة كغير الحامل وفي إباحته صلّى الله عليه وسلّم إيقاف الطلاق على الحامل بعد الجماع من غير فصل بينه وبين الطلاق بحيضة دلالة على أنها لا تحيض آخر سورة الرعد.

سورة إبراهيم

(بسم الله الرحمن الرحيم)

قوله عز وجل (تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها) روى أبو ظبيان عن ابن عباس قال غدوة وعشية وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال هي النخلة تطعم في كل ستة أشهر وكذلك روى عن مجاهد وعامر وعكرمة وروى الليث بن سعد وسليمان بن أبى كثير عن على قال أرى الحين سنة وكذلك روى عن الحكم وحماد من قولهما وكذلك روى

٣٩٩

عن عكرمة في رواية من قوله وقال سعيد بن المسيب الحين شهران من حين تصرم النخل إلى أن تطلع وروى عنه أن النخلة لا تكون فيها أكلها إلا شهرين وروى عنه أن الحين ستة أشهر وروى القاسم بن عبد الله عن أبى حازم عن ابن عباس أنه سئل عن الحين فقال (تؤتى أكلها كل حين) ستة أشهر (ليسجننه حتى حين) ثلاث عشرة سنة لتعلمن نبأه بعد حين يوم القيامة وروى هشام بن حسان عن عكرمة أن رجلا قال إن فعلت كذا وكذا إلى حين فغلامه حر فأتى عمر بن عبد العزيز فسأله فسألنى عنها فقلت إن من الحين حين لا يدرك قوله (وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين) فأرى أن يمسك ما بين صرام النخل إلى حملها فكأنه أعجبه وروى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن (تؤتى أكلها كل حين) قال ما بين ستة الأشهر أو السبعة قال أبو بكر الحين اسم يقع على وقت مبهم وجائز أن يراد به وقت مقدر قال الله تعالى (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) ثم قال (وحين تظهرون) فهذا على وقت صلاة الفجر ووقت الظهر ووقت المغرب على اختلاف فيه لأنه قد أريد به فعل الصلاة المفروضة في هذه الأوقات فصار حين في هذا الموضع اسما لأوقات هذه الصلوات ويشبه أن يكون ابن عباس في الرواية التي رويت عنه في الحين أنه غدوة وعشية ذهب إلى معنى قوله تعالى (حين تمسون وحين تصبحون) ويطلق ويراد به أقصر الأوقات كقوله تعالى (وسوف يعلمون حين يرون العذاب) وهذا على وقت الرؤية وهو وقت قصير غير ممتد ويطلق ويراد به أربعون سنة لأنه روى في تأويل قوله تعالى (هل أتى على الإنسان حين من الدهر) أنه أراد أربعين سنة والسنة والستة الأشهر والثلاث عشرة سنة والشهران على ما ذكرنا من تأويل السلف للآية كله محتمل فلما كان ذلك كذلك ثبت أن الحين اسم يقع على وقت مبهم وعلى أقصر الأوقات وعلى مدد معلومة بحسب قصد المتكلم ثم قال أصحابنا فيمن حلف أن لا يكلم فلانا حينا أنه على ستة أشهر وذلك لأنه معلوم أنه لم يرد به أقصر الأوقات إذ كان هذا القدر من الأوقات لا يحلف عليه في العادة ومعلوم أنه لم يرد به أربعين سنة لأن من أراد الحلف على أربعين سنة حلف على التأبيد من غير توقيت ثم كان قوله تعالى (توتى أكلها كل حين بإذن ربها) لما اختلف السلف فيه على ما وصفنا كان أقصر الأوقات فيه ستة أشهر لأن من حين الصرام إلى وقت أوان الطلع ستة أشهر وهو أولى من اعتبار

٤٠٠