أحكام القرآن - ج ٤

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٧

الحسن بن صالح إذا كانت الغنم ثلاثمائة شاة وشاة ففيها أربع شياه وإذا كانت أربعمائة شاة وشاة ففيها خمس شياه وروى إبراهيم نحو ذلك وقد ثبتت آثار مستفيضة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقول الأول دون قول الحسن بن صالح واختلف في صدقة العوامل من الإبل والبقر فقال أصحابنا والثوري والأوزاعى والحسن بن صالح والشافعى ليس فيها شيء وقال مالك والليث فيها صدقة والحجة للقول الأول ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا حسن بن إسحاق التستري قال حدثنا حمويه قال حدثنا سوار بن مصعب عن ليث عن طاوس عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال ليس في البقر العوامل صدقة وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبد الله بن محمد النفيلى قال حدثنا زهير قال حدثنا أبو إسحاق عن عاصم بن ضمرة وعن الحارث الأعور عن على رضى الله عنه قال زهير أحسبه قيل النبي صلّى الله عليه وسلّم قال وفي البقر في كل ثلاثين تبيع وفي الأربعين مسنة وليس على العوامل شيء وأيضا روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال ليس في النخة ولا في الكسعة ولا في الجبهة صدقة وقال أهل اللغة النخة البقر العوامل والكسعة الحمير والجبهة الخيل وأيضا فإن وجوب الصدقة فيما عدا الذهب والفضة متعلق بكونه مرصدا للنماء من نسلها أو من أنفسها والسائمة يطلب نماؤها إما من نسلها أو من أنفسها والعاملة غير مرصدة للنماء وهي بمنزلة دور الغلة وثياب البذلة ونحوها وأيضا الحاجة إلى علم وجوب الصدقة في العوامل كهي إلى السائمة فلو كان من النبي صلّى الله عليه وسلّم توقيف في إيجابها في العاملة لورد النقل به متواترا في وزن وروده في السائمة فلما لم يرد بذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا عن الصحابة نقل مستفيض علمنا أنه لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلّم توقيف في إيجابها بل قد وردت آثار عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في نفى الصدقة عنها منها ما قدمناه ومنها ما روى يحيى بن أيوب عن المثنى بن الصباح عن عمرو بن دينار أنه بلغه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال ليس في ثور المثيرة صدقة وروى عن على وجابر بن عبد الله وإبراهيم ومجاهد وعمر بن عبد العزيز والزهري نفى صدقة البقر العوامل ويدل عليه حديث أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كتب لأبى بكر الصديق كتابا في الصدقات هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المسلمين فمن سألها من المؤمنين على وجهها فليعطها ومن سئل فوقها فلا يعطه صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين فيها شاة فنفى بذلك الصدقة عن غير السائمة لأنه ذكر السائمة ونفى الصدقة عما عداها فإن قيل روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في خمس

٣٦١

من الإبل شاة وذلك عموم يوجب في السائمة وغيرها قيل له يخصه ما ذكرنا ولم يقل بقول مالك في إيجابه الصدقة في البقر العوامل أحد قبله.

(فصل) قال أصحابنا وعامة أهل العلم في أربعين شاة مسان وصغار مسنة وقال الشافعى لا شيء فيها حتى تكون المسان أربعين ثم يعتد بعد ذلك بالصغار ولم يسبقه إلى هذا القول أحد وقد روى عاصم بن ضمرة عن على عن النبي صلّى الله عليه وسلّم صدقات المواشي فقال فيه ويعد صغيرها وكبيرها ولم يفرق بين النصاب وما زاد وأيضا الآثار المتواترة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في أربعين شاة شاة ومتى اجتمع الصغار والكبار أطلق على الجميع الاسم فيقال عنده أربعون شاة فاقتضى ذلك وجوبها في الصغار والكبار إذا اجتمعت وأيضا لم يختلفوا في الاعتداد بالصغار بعد النصاب لوجود الكبار معها فكذلك حكم النصاب واختلف في الخيل السائمة فأوجب أبو حنيفة فيها إذا كانت إناثا أو ذكورا وإناثا في كل فرس دينارا وإن شاء قومها وأعطى عن كل مائتي درهم خمسة دراهم وقال أبو يوسف ومحمد ومالك والثوري والشافعى لا صدقة فيها وروى عروة السعدي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في الخيل السائمة في كل فرس دينار وحديث مالك عن زيد بن أسلم عن أبى صالح السمان عن أبى هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذكر الخيل وقال هي ثلاثة لرجل أجر ولآخر ستر وعلى رجل وزر فأما الذي هي له ستر فالرجل يتخذها تكرما وتجملا ولا ينسى حق الله في رقابها ولا في ظهورها فأثبت في الخيل حقا وقد اتفقوا على سقوط سائر الحقوق سوى صدقة السوائم فوجب أن تكون هي المرادة فإن قيل يجوز أن يريد زكاة التجارة قيل له قد سئل عن الحمير بعد ذكره الخيل فقال ما أنزل الله على فيها إلا الآية الجامعة (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) فلم يوجب فيها شيئا ولو أراد زكاة التجارة لأوجبها في الحمير فإن قيل في المال حقوق سوى الزكاة فيجوز أن يكون أراد حقا غيرها والدليل عليه حديث الشعبي عن فاطمة بنت قيس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في المال حق سوى الزكاة وتلا قوله تعالى (ليس البر أن تولوا وجوهكم) وروى سفيان عن أبى الزبير عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه ذكر الإبل فقال إن فيها حقا فسئل عن ذلك فقال إطراق فحلها وإعارة دلوها ومنيحة سمينها فجائز أن يكون الحل المذكور في الخيل مثل ذلك قيل له لو كان كذلك لما اختلف حكم الحمير والخيل

٣٦٢

لأن هذا الحق لا يختلفان فيه فلما فرق النبي صلّى الله عليه وسلّم بينهما دل على أنه لم يرد به ذلك وأنه إنما أراد الزكاة وعلى أنه قد روى أن الزكاة نسخت كل حق كان واجبا حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا حسن بن إسحاق التستري قال حدثنا على بن سعيد قال حدثنا المسيب بن شريك عن عبيد المكتب عن عامر عن مسروق عن على قال نسخت الزكاة كل صدقة وأيضا قد روى أن أهل الشام سألوا عمر أن يأخذ الصدقة من خيلهم فشاور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم فقال له على لا بأس ما لم تكن جزية عليهم فأخذها منهم وهذا يدل على اتفاقهم على الصدقة فيها لأنه شاور الصحابة ومعلوم أنه لم يشاورهم في صدقة التطوع فدل على أنه أخذها واجبة بمشاورة الصحابة وإنما قال على لا بأس ما لم تكن جزية عليهم لأنه لا يؤخذ على وجه الصغار بل على وجه الصدقة واحتج من لم يوجبها بحديث على رضى الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق وحديث أبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة وهذا عند أبى حنيفة على خيل الركوب ألا ترى أنه لم ينف صدقتها إذا كانت للتجارة بهذا الخبر واختلف في زكاة العسل فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والأوزاعى إذا كان في أرض العشر ففيه العشر وقال مالك والثوري والحسن بن صالح والشافعى لا شيء فيه وروى عن عمر بن عبد العزيز مثله وروى عنه الرجوع عن ذلك وأنه أخذ منه العشر حين كشف عن ذلك وثبت عنده ما روى فيه وروى ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب أنه قال بلغني أن في العسل العشر قال ابن وهب وأخبرنى عمرو بن الحارث عن يحيى بن سعيد وربيعة بذلك وقال يحيى إنه سمع من يقول فيه العشر في كل عام بذلك مضت السنة قال أبو بكر ظاهر قوله تعالى (خذ من أموالهم صدقة) يوجب الصدقة في العسل إذ هو من ماله والصدقة إن كانت مجملة فإن الآية قد اقتضت إيجاب صدقة ما وإذا وجبت الصدقة كانت العشر إذ لا يوجب أحد غيره ويدل عليه من جهة السنة ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن أبى شعيب الحراني قال حدثنا موسى بن أعين عن عمرو بن الحارث المصرى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال جاء هلال أحد بنى متعان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعشور نحل له وسأله أن يحمى واديا له يقال له سلبة فحمى له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك الوادي فلما ولى عمر بن الخطاب كتب سفيان بن وهب إلى عمر بن الخطاب يسئله عن ذلك فكتب

٣٦٣

عمر إن أدى إليك ما كان يؤدى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من عشور نحله فأحم له سلبة وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من يشاء وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا عبد الله بن أحمد قال حدثنا أبى قال حدثنا وكيع عن سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى عن أبى سيارة المتعى قال قلت يا رسول الله إن لي نحلا قال أد العشر قال فقلت يا رسول الله أحمها لي فحماها لي وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا محمد بن شاذان قال حدثنا معلى قال أخبرنى عبد الله بن عمرو عن عبد الكريم عن عمر بن شعيب قال كتب إلينا عمر بن عبد العزيز يأمرنا أن نعطى زكاة العسل ونحن بالطواف العشر يسند ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم * وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن يعقوب إمام مسجد الأهواز قال حدثنا عمر بن الخطاب السجستاني قال حدثنا أبو حفص العبدى قال حدثنا صدقة عن موسى بن يسار عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كل عشرة أزقاق من العسل زق ولما أوجب النبي صلّى الله عليه وسلّم في العسل العشر دل ذلك على أنه أجراه مجرى الثمر وما تخرجه الأرض مما يجب فيه العشر فقال أصحابنا إذا كان في أرض العشر ففيه العشر وإذا كان في أرض الخراج فلا شيء فيه لأن الثمرة في أرض الخراج لا يجب فيها شيء وإذا كان في أرض العشر يجب فيها العشر فكذلك العسل وقد استقصينا القول في هذه المسائل ونظائرها من مسائل الزكاة في شرح مختصر أبى جعفر الطحاوي وإنما ذكرنا هنا جملا منها بما يتعلق الحكم فيه بظاهر الآية وقوله تعالى (خذ من أموالهم صدقة) يدل على أن أخذ الصدقات إلى الإمام وأنه متى أداها من وجبت عليه إلى المساكين لم يجزه لأن حق الإمام قائم في أخذها فلا سبيل له إلى إسقاطه وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يوجه العمال على صدقات المواشي ويأمرهم بأن يأخذوها على المياه في مواضعها وهذا معنى ما شرطه النبي صلّى الله عليه وسلّم لوفد ثقيف بأن لا يحشروا ولا يعشروا يعنى لا يكلفون إحضار المواشي إلى المصدق ولكن المصدق يدور عليهم في مياههم ومظان مواشيهم فيأخذها منهم وكذلك صدقة الثمار وأما زكوات الأموال فقد كانت تحمل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبى بكر وعمر وعثمان فقال هذا شهر زكواتكم فمن كان عليه دين فليؤده ثم ليزك بقية ماله فجعل لهم أداؤها إلى المساكين وسقط من أجل ذلك حق الإمام في أخذها لأنه عقد عقده إمام من أئمة العدل فهو نافذ على الأمة لقوله صلّى الله عليه وسلّم ويعقد عليهم أو لهم ولم يبلغنا أنه بعث سعاة على زكوات الأموال كما بعثهم

٣٦٤

على صدقات المواشي والثمار في ذلك لأن سائر الأموال غير ظاهرة للإمام وإنما تكون مخبوأة في الدور والحوانيت والمواضع الحريزة ولم يكن جائز للسعاة دخول أحرازهم ولم يجز أن يكلفوهم إحضارها كما لم يكلفوا إحضار المواشي إلى العامل بل كان على العامل حضور موضع المال في مواضعه وأخذ صدقته هناك فلذلك لم يبعث على زكاة الأموال السعاة فكانوا يحملونها إلى الإمام وكان قولهم مقبولا فيها ولما ظهرت هذه الأموال عند التصرف بها في البلدان أشبهت المواشي فنصب عليها عمال يأخذون منها ما وجب من الزكاة ولذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله أن يأخذوا مما يمر به المسلم من التجارات من كل عشرين دينارا نصف دينار ومما يمر به الذمي يؤخذ منه من كل عشرين دينارا دينار ثم لا يؤخذ منه إلا بعد حول أخبرنى بذلك من سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم وكتب عمر ابن الخطاب إلى عماله أن يأخذوا من المسلم ربع العشر ومن الذمي نصف العشر ومن الحربي العشر وما يؤخذ من المسلم من ذلك فهو الزكاة الواجبة تعتبر فيها شرائط وجوبها من حول ونصاب وصحة ملك فإن لم تكن الزكاة قد وجبت عليه لم تؤخذ منه فاحتذى عمر بن الخطاب في ذلك فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم في صدقات المواشي وعشور الثمار والزروع إذ قد صارت أموالا ظاهرة يختلف بها في دار الإسلام كظهور المواشي السائمة والزروع والثمار ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ولا خالفه فصار إجماعا مع ما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث عمر بن عبد العزيز الذي ذكرناه فإن قيل روى عطاء بن السائمة عن جرير بن عبد الله عن جده أبى أمه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليس على المسلمين عشور إنما العشور على أهل الذمة وروى حميد عن الحسن عن عثمان بن أبى العاص أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لوفد ثقيف لا تحشروا ولا تعشروا وروى إسرائيل عن إبراهيم بن المهاجر عن عمرو بن حريث عن سعيد بن زيد قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا معشر العرب احمدوا الله إذ دفع عنكم العشور وروى أن مسلم بن يسار قال لابن عمر أكان عمر يعشر المسلمين قال لا قيل له ليس المراد بذكر هذه العشور الزكاة وإنما هو ما كان يأخذه أهل الجاهلية من المكس وهو الذي أريد في حديث محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبى حبيب عن عبد الرحمن بن شماسة عن عقبة ابن عامر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يدخل الجنة صاحب مكس يعنى عاشرا وإياه عنى الشا عر بقوله :

٣٦٥

وفي كل أموال العراق أتاوة

وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم

فالذي نفاه النبي صلّى الله عليه وسلّم من العشر هو المكس الذي كان يأخذه أهل الجاهلية فأما الزكاة فليست بمكس وإنما هو حق وجب في ماله يأخذه الإمام فيضعه في أهله كما يأخذ صدقات المواشي وعشور الأرضين والخراج وأيضا يجوز أن يكون الذي نفى أخذه من المسلمين ما يكون مأخوذا على وجه الصغار والجزية ولذلك قال إنما العشور على أهل الذمة يعنى ما يؤخذ على وجه الجزية ومن الناس من يحتج للفرق بين صدقات المواشي والزروع وبين زكاة الأموال أنه قال في الزكاة (وآتوا الزكاة) ولم يشرط فيها أخذ الإمام لها وقال في الصدقات (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم) وقال (إنما الصدقات للفقراء والمساكين ـ إلى قوله ـ والعاملين عليها) ونصب العامل يدل على أنه غير جائز له إسقاط حق الإمام في أخذها وقال صلّى الله عليه وسلّم أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم فإنما شرط أخذه في الصدقات ولم يذكر مثله في الزكوات ومن يقول هذا يذهب إلى أن الزكاة وإن كانت صدقة فإن اسم الزكاة أخص بها والصدقة اسم يختص بالمواشي ونحوها فلما خص الزكاة بالأمر بالإيتاء دون أخذ الإمام وأمر في الصدقة بأن يأخذها الإمام وجب أن يكون أداء الزكوات موكولا إلى أرباب الأموال إلا ما يمر به على العاشر فإنه يأخذها باتفاق السلف ويكون أخذ الصدقات إلى الأئمة قوله تعالى (وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) روى شعبة عن عمرو بن مرة عن ابن أبى أوفى قال كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا أتاه رجل بصدقة ماله صلّى عليه قال فأتيته بصدقة مال أبى فقال اللهم صل على آل أبى أوفى وروى ثابت ابن قيس عن خارجة بن إسحاق عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتيكم ركب مبغضون فإن جاءوكم فرحبوا بهم وخلوا بينهم وبين ما يبغون فإن عدلوا فلأنفسهم وإن ظلموا فعليهم وارضوهم فإن تمام زكاتكم رضاهم وليدعوا لكم وروى سلمة ابن بشير قال حدثنا البختري قال أخبرنى أبى أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أعطيتم الزكاة فلا تنسوا ثوابها قالوا وما ثوابها قال يقول اللهم اجعلها مغنما ولا تجعلها مغرما وهذه الأخبار تدل على أن المراد بقوله تعالى (وصل عليهم) هو الدعاء وقوله (سكن لهم) يعنى والله أعلم مما تسكن قلوبهم إليه وتطيب به نفوسهم فيسارعون إلى أداء الصدقات الواجبة رغبة في ثواب الله وفيما ينالونه من بركة دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم

٣٦٦

وكذلك ينبغي لعامل الصدقة إذا قبضها أن يدعو لصاحبها اقتداء بكتاب الله وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم.

قوله تعالى (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا) الآية روى عن جماعة من السلف إنهم كانوا اثنى عشر رجلا من الأوس والخزرج قد سموا استأذنوا النبي صلّى الله عليه وسلّم في بناء مسجد لليلة الشاتية والمطر والحر ولم يكن ذلك قصدهم وإنما كان مرادهم التفريق بين المؤمنين وأن يتحزبوا فيصلى حزب في مسجد وحزب في مسجد آخر لتختلف الكلمة وتبطل الألفة والحال الجامعة وأرادوا به أيضا ليكفروا فيه بالطعن على النبي صلّى الله عليه وسلّم والإسلام فيتفاوضون فيما بينهم من غير خوف من المسلمين لأنهم كانوا يخلون فيه فلا يخالطهم فيه غيرهم قوله تعالى (وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل) قال ابن عباس ومجاهدا أراد به أبا عامر الفاسق وكان يقال له أبو عامر الراهب قبل وكان شديد العداوة للنبي صلّى الله عليه وسلّم عنادا وحسدا لذهاب رئاسته التي كانت في الأوس قبل هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة فقال للمنافقين سيأتى قيصر وآتيكم بجند فأخرج به محمدا وأصحابه فبنوا المسجد إرصادا له يعنى مترقبين له وقد دلت هذه الآية على ترتيب الفعل في الحسن أو القبح بالإرادة وأن الإرادة هي التي تعلق الفعل بالمعاني التي تدعو الحكمة إلى تعليقه به أو تزجر عنها لأنهم لو أرادوا ببنائه إقامة الصلوات فيه لكان طاعة لله عز وجل ولما أراد به ما أخبر الله تعالى به عنهم من قصدهم وإرادتهم كانوا مذمومين كفارا قوله تعالى (لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه) فيه الدلالة على أن المسجد المبنى لضرار المؤمنين والمعاصي لا يجوز القيام فيه وأنه يجب هدمه لأن الله نهى نبيه صلى الله عليه وسلّم عن القيام في هذا المسجد المبنى على الضرار والفساد وحرم على أهله قيام النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه إهانة لهم واستخفافا بهم على خلاف المسجد الذي أسس على التقوى وهذا يدل على أن بعض الأماكن قد يكون أولى بفعل الصلاة فيه من بعض وأن الصلاة قد تكون منهية عنها في بعضها ويدل على فضيلة الصلاة في المسجد بحسب ما بنى عليه في الأصل ويدل على فضيلتها في المسجد السابق لغيره لقوله (أسس على التقوى من أول يوم) وهو معنى قوله تعالى (أحق أن تقوم فيه) لأن معناه أن القيام في هذا المسجد لو كان من الحق الذي يجوز لكان هذا المسجد الذي أسس على التقوى أحق بالقيام فيه من غيره وذلك

٣٦٧

أن مسجد الضرار لم يكن مما يجوز القيام فيه لنهى الله تعالى نبيه عن ذلك فلو لم يكن المعنى ما ذكرنا لكان تقديره لمسجد أسس على التقوى أحق أن تقوم فيه من مسجد لا يجوز القيام فيه ويكون بمنزلة قوله فعل الفرض أصلح من تركه وهذا قد يسوغ إلا أن المعنى الأول هو وجه الكلام وقد اختلف في المسجد الذي أسس على التقوى ما هو فروى عن ابن عمر وسعيد بن المسيب أنه مسجد المدينة وروى عن أبى بن كعب وأبى سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال هو مسجدى هذا وروى عن ابن عباس والحسن وعطية أنه مسجد قباء قوله تعالى (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) فيه دلالة على أن فضيلة أهل المسجد فضيلة للمسجد وللصلاة فيه وقوله (يحبون أن يتطهروا) روى عن الحسن قال يتطهرون من الذنوب وقيل فيه التطهر بالماء حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن العلاء قال حدثنا معاوية بن هشام عن يونس بن الحارث عن إبراهيم بن أبى ميمونة عن أبى صالح عن أبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال نزلت هذه الآية في أهل قباء (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) قال كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية وقد حوى هذا الخبر معنيين أحدهما أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء والثاني أن الاستنجاء بالماء أفضل منه بالأحجار وقد تواترت الأخبار عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بالاستنجاء بالأحجار قولا وفعلا وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه استنجى بالماء قوله تعالى (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) أطلق الشرى فيه على طريق المجاز لأن المشترى في الحقيقة هو الذي يشترى مالا يملك والله تعالى مالك أنفسنا وأموالنا ولكنه كقوله تعالى (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) فسماه شرى كما سمى الصدقة قرضا لضمان الثواب فيهما به فأجرى لفظه مجرى ما لا يملكه العامل فيه استدعاء إليه وترغيبا فيه قوله تعالى (السائحون) قيل إنهم الصائمون روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال سياحة أمتى الصوم وروى عن عبد الله بن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد أنه الصوم وقوله تعالى (والحافظون لحدود الله) هو أتم ما يكون من المبالغة في الوصف بطاعة الله والقيام بأوامره والانتهاء عن زواجره وذلك لأن لله تعالى حدودا في أوامره وزواجره وما ندب إليه ورغب فيه أو أباحه وما خير فيه وما هو الأولى في تحرى موافقة أمر الله وكل هذه حدود الله فوصف تعالى هؤلاء القوم بهذا الوصف

٣٦٨

ومن كان كذلك فقد أدى جميع فرائضه وقام بسائر ما أراده منه وقد بين في الآية التي قبلها المرادين بها وهم الصحابة الذين بايعوه تحت الشجرة وهي بيعة الرضوان بقوله تعالى (فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به) ثم عطف عليه التائبون فقد بينت هذه الآية منزلة هؤلاء رضى الله عنهم من الدين والإسلام ومحلهم عند الله تعالى ولا يجوز أن يكون في وصف العبيد بالقيام بطاعة الله كلام أبلغ ولا أفخم من قوله تعالى (والحافظون لحدود الله) قوله تعالى (لقد تاب الله على النبى والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة) والعسرة هي شدة الأمر وضيقه وصعوبته وكان ذلك في غزوة تبوك لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج في شدة الحر وقلة من الماء والزاد والظهر فخص الذين اتبعوه في ساعة العسرة بذكر التوبة لعظم منزلة الاتباع في مثله وجزيل الثواب الذي يستحق بها لما لحقهم من المشقة مع الصبر عليها وحسن البصيرة واليقين منهم في تلك الحال إذ لم تغيرهم عنها صعوبة الأمر وشدة الزمان وأخبر تعالى عن فريق منهم بمقاربة ميل القلب عن الحق بقوله (من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم) والزيغ هو ميل القلب عن الحق فقارب ذلك فريق منهم ولما فعلوا ولم يؤاخذهم الله به وقبل توبتهم وبمثل الحال التي فضل بها متبعيه في حال العسرة على غيرهم فضل بها المهاجرين على الأنصار وبمثلها فضل السابقين على الناس لما لحقهم من المشقة ولما ظهر منهم من شدة البصيرة وصحة اليقين بالاتباع في حال قلة عدد من المؤمنين واستعلاء أمر الكفار وما كان يلحقهم من قبلهم من الأذى والتعذيب قوله تعالى (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) قال ابن عباس وجابر ومجاهد وقتادة هم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع قال مجاهد خلفوا عن التوبة وقال قتادة خلفوا عن غزوة تبوك وقد كانوا هؤلاء الثلاثة تخلفوا عن غزوة تبوك فيمن تخلف وكانوا صحيحي الإسلام فلما رجع النبي صلّى الله عليه وسلّم من تبوك جاء المنافقون فاعتذروا وحلفوا بالباطل وهم الذين أخبر الله عنهم (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم) وقال (يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) فأمر تعالى بالإعراض عنهم ونهى عن الرضا عنهم إذ كانوا كاذبين في اعتذارهم مظهرين لغير ما يبطنون وأما الثلاثة فإنهم كانوا مسلمين صدقوا عن أنفسهم وقالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم إنا تخلفنا من غير عذر وأظهروا التوبة والندم فقال لهم رسول

٣٦٩

الله صلّى الله عليه وسلّم إنكم قد صدقتم عن أنفسكم فامضوا حتى أنظر ما ينزل الله تعالى فيكم فأنزل الله في أمرهم التشديد عليهم وأمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن لا يكلمهم وأن يأمر المسلمين أن لا يكلموهم فأقاموا على ذلك نحو خمسين ليلة ولم يكن ذلك على معنى رد توبتهم لأنهم قد كانوا مأمورين بالتوبة وغير جائز في الحكمة أن لا تقبل توبة من يتوب في وقت التوبة إذا فعلها على الوجه المأمور به ولكنه تعالى أراد تشديد المحنة عليهم في تأخير إنزال توبتهم ونهى الناس عن كلامهم وأراد به استصلاحهم واستصلاح غيرهم من المسلمين لئلا يعودوا ولا غيرهم من المسلمين إلى مثله لعلم الله فيهم بموضع الاستصلاح وأما المنافقون الذين اعتذروا فلم يكن فيهم موضع استصلاح بذلك فلذلك أمر بالإعراض عنهم فثبت بذلك أن أمر الناس بترك كلامهم وتأخير إنزال توبتهم لم يكن عقوبة وإنما كان محنة وتشديدا في أمر التكليف والتعبد وهو مثل ما نقوله في إيجاب الحد الواجب على التائب مما قارب أنه ليس بعقوبة وإنما هو محنة وتعبد وإن كان الحد الواجب بالفعل بديا كان يكون عقوبة لو أقيم عليه قبل التوبة قوله تعالى (حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت) يعنى مع سعتها (وضاقت عليهم أنفسهم) يعنى ضاقت صدورهم بالهم الذي حصل فيها من تأخير نزول توبتهم ومن ترك النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين كلامهم ومعاملتهم وأمر أزواجهم باعتزالهم قوله تعالى (وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه) يعنى أنهم أيقنوا أن لا مخلص لهم ولا معتصم في طلب الفرج مما هم فيه إلا إلى الله وأنه لا يملك ذلك غيره ولا يجوز لهم أن يطلبوا ذلك إلا من قبله العبادة له والرغبة إليه فحينئذ أنزل الله تعالى على نبيه قبول توبتهم وكذلك عادة الله تعالى فيمن انقطع إليه وعلم أنه لا كاشف لهمه غيره أنه سينجيه ويكشف عنه غمه وكذلك حكى جل وعلا عن لوط عليه السلام في قوله (ولما جاءت رسلنا لوطا سىء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب ـ إلى أن قال ـ لو أن لى بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) فتبرأ من الحول والقوة من قبل نفسه ومن قبل المخلوقين وعلم أنه لا يقدر على كشف ما هو فيه إلا الله تعالى حينئذ جاءه الفرج فقالوا (إنا رسل ربك لن يصلوا إليك) وقال تعالى (ومن يتق الله يجعل له مخرجا) ومن ينو الانقطاع إليه وقطع العلائق دونه فمتى صار العبد بهذه المنزلة فقد جعل الله له مخرجا لعلمه بأنه لا ينفك من إحدى منزلتين إما أن يخلصه مما هو فيه وينجيه كما حكى عن الأنبياء عند بلواهم مثل قول أيوب

٣٧٠

(أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب) فالتجأ إلى الله في الخلاص مما كان يوسوس إليه الشيطان بأنه لو كان له عند الله منزلة لما ابتلاه بما ابتلاه به ولم يكن صلوات الله عليه قابلا لوساوسه إلا أنه كان يشغل خاطره وفكره عن التفكر فيما هو أولى به فقال الله له عند ذلك (اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب) فكذلك كل من اتقى الله بأن التجأ إليه وعلم أنه القادر على كشف ضره دون المخلوقين كان على إحدى الحسنيين من فرج عاجل أو سكون قلب إلى وعد الله وثوابه الذي هو خير له من الدنيا وما فيها قوله تعالى (ثم تاب عليهم ليتوبوا) يعنى والله أعلم تاب على هؤلاء الثلاثة وأنزل توبتهم على نبيه صلّى الله عليه وسلّم ليتوب المؤمنون من ذنوبهم لعلمهم بأن الله تعالى قابل توبتهم قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) روى ابن مسعود قال يعنى لازم الصدق ولا تعدل عنه إذ ليس في الكذب رخصة وقال نافع والضحاك مع النبيين والصديقين بالعمل الصالح في الدنيا وقال تعالى في سورة البقرة (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر ـ إلى قوله ـ أولئك الذين صدقوا) وهذه صفة أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم المهاجرين والأنصار ثم قال في هذه الآية (وكونوا مع الصادقين) فدل على لزوم اتباعهم والاقتداء بهم لإخباره بأن من فعل ما ذكر في الآية فهم الذين صدقوا وقال في هذه الآية (وكونوا مع الصادقين) فدل على قيام الحجة علينا بإجماعهم وأنه غير جائز لنا مخالفتهم لأمر الله إيانا باتباعهم وقوله تعالى (لقد تاب الله على النبى والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة) فيه مدح لأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم الذين غزوا معه من المهاجرين والأنصار وإخبار بصحة بواطن ضمائرهم وطهارتهم لأن الله تعالى لا يخبر بأنه قد تاب عليهم إلا وقد رضى عنهم ورضى أفعالهم وهذا نص في رد قول الطاعنين عليهم والناسبين بهم إلى غير ما نسبهم الله إليه من الطهارة ووصفهم به من صحة الضمائر وصلاح السرائر رضى الله عنهم* قوله تعالى (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله) قد بينت هذه الآية وجوب الخروج على أهل المدينة مع رسول الله في غزواته إلا المعذورين ومن أذن له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في القعود ولذلك ذم المنافقين الذين كانوا يستأذنون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في القعود في الآيات المتقدمة وقوله (ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه) أى يطلبون المنفعة بتوقية أنفسهم دون نفسه بل كان الفرض عليهم

٣٧١

أن يقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأنفسهم وقد كان من المهاجرين والأنصار من فعل ذلك وبذل نفسه للقتل ليقي بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم* قوله تعالى (ولا يطؤن موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا) فيه الدلالة على أن وطء ديارهم بمنزلة النيل منهم وهو قتلهم أو أخذ أموالهم أو إخراجهم عن ديارهم هذا كله نيل منهم وقد سوى بين وطء موضع يغيظ الكفار وبين النيل منهم فدل ذلك على أن وطء ديارهم وهو الذي يغيظهم ويدخل الذل عليهم هو بمنزلة نيل الغنيمة والقتل والأسر وفي ذلك دليل على أن الاعتبار فيما يستحقه الفارس والراجل من سهامهما بدخول أرض الحرب لانحيازه الغنيمة والقتال إذ كان الدخول بمنزلة حيازة الغنائم وقتلهم وأسرهم ونظيره في الدلالة على ما ذكرنا قوله تعالى (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) فاقتضى ذلك اعتبار إيجاف الخيل والركاب في دار الحرب ولذلك قال على رضى الله عنه ما وطئ قوم في عقر دارهم إلا ذلوا قوله تعالى (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) روى عن ابن عباس أنه نسخ قوله (فانفروا ثبات أو انفروا جميعا) وقوله (انفروا خفافا وثقالا) فقال تعالى ما كان لهم أن ينفروا في السرايا ويتركوا النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة وحده ولكن تبقى بقية لتتفقه ثم تنذر النافرة إذا رجعوا إليهم وقال الحسن لتتفقه الطائفة النافرة ثم تنذر إذا رجعت إلى قومها المتخلفة وهذا التأويل أشبه بظاهر الآية لأنه قال تعالى (فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) فظاهر الكلام يقتضى أن تكون الطائفة النافرة هي التي تتفقه وتنذر قومها إذا رجعت إليهم وعلى التأويل الأول الفرقة التي نفرت منها الطائفة هي التي تتفقه وتنذر الطائفة إذا رجعت إليها وهو بعيد من وجهين أحدهما أن حكم العطف أن يتعلق بما يليه دون ما يتقدمه فوجب على هذا أن يكون قوله (منهم طائفة ليتفقهوا) أن تكون الطائفة هي التي تتفقه وتنذر ولا يكون معناه من كل فرقة تتفقه في الدين تنفر منهم طائفة لأنه يقتضى إزالة ترتيب الكلام عن ظاهره وإثبات التقديم والتأخير فيه والوجه الثاني أن قوله (ليتفقهوا في الدين) الطائفة أولى منه بالفرقة النافرة منها الطائفة وذلك لأن نفر الطائفة للتفقه معنى مفهوم يقع النفر من أجله والفرقة التي منها الطائفة ليس تفقهها لأجل خروج الطائفة منها لأنها إنما تتفقه بمشاهدة النبي صلّى الله عليه وسلّم ولزوم حضرته لا لأن الطائفة نفرت

٣٧٢

منها فحمل الكلام على ذلك يبطل فائدة قوله تعالى (ليتفقهوا في الدين) فثبت أن التي تتفقه هي الطائفة النافرة من الفرقة المقيمة في بلدها وتنذر قومها إذا رجعت إليها وفي هذه الآية دلالة على وجوب طلب العلم وأنه مع ذلك فرض على الكفاية لما تضمنت من الأمر بنفر الطائفة من الفرقة للتفقه وأمر الباقين بالقعود لقوله (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) وقد روى زياد بن ميمون عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طلب العلم فريضة على كل مسلم وهذا عندنا ينصرف على معنيين أحدهما طلب العلم فيما يبتلى به الإنسان من أمور دينه فعليه أن يتعلمه مثل من لا يعرف حدود الصلاة وفروضها وحضور وقتها فعليه أن يتعلمها ومثل من ملك مائتي درهم فعليه أن يتعلم ما يجب عليه فيها وكذلك الصوم والحج وسائر الفروض والمعنى الآخر أنه فرض على كل مسلم إلا أنه على الكفاية إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين وفيه دلالة على لزوم خبر الواحد في أمور الديانات التي لا تلزم الكافة ولا تعم الحاجة إليها وذلك لأن الطائفة لما كانت مأمورة بالإنذار انتظم فحواه الدلالة عليه من وجهين أحدهما أن الإنذار يقتضى فعل المأمور به وإلا لم يكن انذارا والثاني أمره إيانا بالحذر عند إنذار الطائفة لأن قوله تعالى (لعلهم يحذرون) معناه ليحذروا وذلك يتضمن لزوم العمل بخبر الواحد لأن الطائفة اسم يقع على الواحد وقد روى في تأويل قوله تعالى (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) أنه أراد واحدا وقال تعالى (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) ولا خلاف أن الإثنين إذا اقتتلا كانا مرادين بحكم الآية ولأن الطائفة في اللغة كقولك البعض والقطعة من الشيء وذلك موجود في الواحد فكان قوله (من كل فرقة منهم طائفة) بمنزلته لو قال بعضها أو شيء منها فدلالة الآية ظاهرة في وجوب قبول الخبر المقصر عن إيجاب العلم وإن كان التأويل ما روى عن ابن عباس أن الطائفة النافرة إنما تنفر من المدينة والتي تتفقه إنما هي القاعدة بحضرة النبي صلّى الله عليه وسلّم فدلالتها أيضا قائمة في لزوم قبول خبر الواحد لأن النافرة إذا رجعت أنذرتها التي لم تنفر وأخبرتها بما نزل من الأحكام وهي تدل أيضا على لزوم قبول خبر الواحد بالمدينة مع كون النبي صلّى الله عليه وسلّم بها لإيجابها الحذر على السامعين بنذارة القاعدين قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة) خص الأمر بالقتال للذين يلونهم من الكفار وقال في أول السورة (فاقتلوا

٣٧٣

المشركين حيث وجدتموهم) وقال في موضع آخر (وقاتلوا المشركين كافة) فأوجب قتال جميع الكفار ولكنه خص بالذكر الذين يلوننا من الكفار إذ كان معلوما أنه لا يمكننا قتال جميع الكفار في وقت واحد وإن الممكن منه هو قتال طائفة فكان من قرب منهم أولى بالقتال ممن بعد لأن الاشتغال بقتال من بعد منهم مع ترك قتال من قرب لا يؤمن معه هجم من قرب على ذراري المسلمين ونسائهم وبلادهم إذا خلت من المجاهدين فلذلك أمر بقتال من قرب قبل قتال من بعد وأيضا لا يصح تكليف قتال الأبعد إذ لاحد للأبعد يبتدأ منه القتال كما للأقرب وأيضا فغير ممكن الوصول إلى قتال الأبعد إلا بعد قتال من قرب وقهرهم وإذ لا لهم فهذه الوجوه كلها تقتضي تخصيص الأمر بقتال الأقرب وقوله تعالى (وليجدوا فيكم غلظة) فيه أمر بالغلظة على الكفار الذين أمرنا بقتالهم في القول والمناظرة والرسالة إذ كان ذلك يوقع المهابة لنا في صدورهم والرعب في قلوبهم ويستشعرون منابه شدة الاستبصار في الدين والجد في قتال المشركين ومتى أظهروا لهم اللين في القول والمحاورة استجرءوا عليهم وطمعوا فيهم فهذا حد ما أمر الله به المؤمنين من السيرة في عدوهم آخر سورة التوبة.

سورة يونس

(بسم الله الرحمن الرحيم)

قوله عز وجل (قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لى أن أبدله من تلقاء نفسى إن أتبع إلا ما يوحى إلى) قيل في قوله تعالى (لا يرجون لقاءنا) وجهان أحدهما لا يخافون عقابنا لأن الرجاء يقام مقام الخوف ومثله قوله (ما لكم لا ترجون لله وقارا) قيل معناه لا تخافون لله عظمة والوجه الآخر لا تطمعون في ثوابنا كقولهم تاب رجاء لثواب الله وخوفا من عقابه والفرق بين الإتيان بغيره وبين تبديله أن الإتيان بغيره لا يقتضى رفعه بل يجوز بقاؤه معه وتبديله لا يكون إلا برفعه ووضع آخر مكانه أو شيء منه وكان سؤالهم لذلك على وجه التعنت والتحكم إذ لم يجدوا سببا آخر يتعلقون به ولم يجز أن يكون الأمر موقوفا على اختيارهم وتحكمهم لأنهم غير عالمين بالمصالح ولو جاز أن يأتى بغيره أو يبدله بقولهم لقالوا في الثاني مثله في الأول وفي الثالث مثله في الثاني فكان يصير دلائل الله تعالى تابعة لمقاصد السفهاء وقد قامت الحجة عليهم

٣٧٤

بهذا القرآن فإن لم يكن يقنعهم ذلك مع عجزهم فالثاني والثالث مثله وربما احتج بهذه الآية بعض من يأبى جواز نسخ القرآن بالسنة لأنه قال (قل ما يكون لى أن أبدله من تلقاء نفسى) ومجيز نسخ القرآن بالسنة مجيز لتبديله من تلقاء نفسه وليس هذا كما ظنوا وذلك لأنه ليس في وسع النبي صلّى الله عليه وسلّم تبديل القرآن بقرآن مثله ولا الإتيان بقرآن غيره وهذا الذي سأله المشركون ولم يسئلوه تبديل الحكم دون اللفظ والمستدل بمثله في هذا الباب مغفل وأيضا فإن نسخ القرآن لا يجوز عندنا إلا بسنة هي وحى من قبل الله تعالى قال الله عز وجل (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى) فنسخ حكم القرآن بالسنة إنما هو نسخ بوحي الله لا من قبل النبي صلّى الله عليه وسلّم قوله تعالى (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم) الآية ربما احتج بعض الأغبياء من نفاة القياس بهذه الآية في إبطاله لأنه زعم أن القائس يحرم بقياسه ويحل وهذا جهل من قائله لأن القياس دليل الله تعالى كما أن حجة العقل دليل الله تعالى وكالنصوص والسنن كل هذه دلائل فالقائس إنما يتبع موضع الدلالة على الحكم فيكون الله هو المحلل والمحرم بنصبه الدليل عليه فإن خالف في أن القياس دليل الله عز وجل فليكن كلامه معنا في إثباته فإذا ثبت ذلك سقط سؤاله وإن لم يقم الدليل على إثباته فقد اكتفى في إيجاب بطلانه بعدم دلالة صحته فلا يعتقد أحد صحة القياس إلا وهو يرى أنه دليل الله تعالى وقد قامت بصحته ضروب من الشواهد ولا نعلق للآية في نفى القياس ولا إثباته وربما احتجوا أيضا في نفيه بقوله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وهذا شبيه بما قبله لأن القائسين يقولون القول بالقياس مما أتانا الرسول به وأقام الله الحجة عليه من دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة فليس لهذه الآية تعلق بنفي القياس قوله تعالى (ربنا ليضلوا عن سبيلك) قيل فيه وجهان أحدهما أنها لام العاقبة كقوله تعالى (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) والآخر لئلا يضلوا عن سبيلك فحذفت لا كقوله تعالى (ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما) أى لئلا تضل وقوله (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) أى لئلا تقولوا وقوله (يبين الله لكم أن تضلوا) معناه أن لا تضلوا قوله تعالى (قد أجيبت دعوتكما) أضاف الدعاء إليهما وقال أبو العالية وعكرمة ومحمد بن كعب والربيع بن موسى كان موسى يدعو وهارون يؤمن فسماهما الله داعيين وهذا يدل

٣٧٥

على أن آمين دعاء وإذا ثبت أنه دعاء فإخفاؤه أفضل من الجهر به لقوله تعالى (ادعوا ربكم تضرعا وخفية) آخر سورة يونس عليه السلام.

سورة هود

(بسم الله الرحمن الرحيم)

قوله عز وجل (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار) فيه إخبار أن من عمل عملا للدنيا لم يكن له به في الآخرة نصيب وهو مثل قوله (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب) ومثله ما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال بشر أمتى بالسناء والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عملا للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب وهذا يدل على أن ما سبيله أن لا يفعل إلا على وجه القربة لا يجوز أخذ الأجرة عليه لأن الأجرة من حظوظ الدنيا فمتى أخذ عليه الأجرة فقد خرج من أن يكون قربة بمقتضى الكتاب والسنة وقيل في قوله (نوف إليهم أعمالهم) فيها وجهان أحدهما أن يصل الكافر رحما أو يعطى سائلا أو يرحم مضطرا أو نحو ذلك من أعمال البر فيجعل الله له جزاء عمله في الدنيا بتوسعة الرزق وقرة العين فيما خول ودفع مكاره الدنيا روى عن مجاهد والضحاك والوجه الثاني من كان يريد الحياة الدنيا بالغزو مع النبي صلّى الله عليه وسلّم للغنيمة دون ثواب الآخرة فإنه يستحق نصيبه وسهمه من المغنم وهذا من صفة المنافقين فإن كان التأويل هو الثاني فإنه يدل على أن الكافر إذا شهد القتال مع المسلمين استحق من الغنيمة نصيبا وهذا يدل أيضا على أنه جائز الاستعانة بالكفار في قتال غيرهم من الكفار وكذلك قال أصحابنا إذا كانوا متى غلبوا كان حكم الإسلام هو الجاري عليهم دون حكم الكفر ومتى حضروا رضخ لهم وليس في الآية دلالة على أن الذي يستحقه الكافر بحضور القتال هو السهم أو الرضخ قوله تعالى (ولا ينفعكم نصحى إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم) يحتج به في أن الشرط المعترض حكمه أن يكون مقدما على ما قبله في المعنى وهو قول القائل إن دخلت الدار إن كلمت زيدا فعبدي حر أنه لا يحنث حتى يكلم ثم يدخل لأن قوله إن كلمت شرط معترض على الشرط الأول قبل استتمام جوابه كقوله (إن كان الله يريد أن يغويكم) شرط اعترض على قوله

٣٧٦

(إن أردت أن أنصح لكم) قبل استتمام الجواب فصار تقديره ولا ينفعكم نصحى إن كان الله يريد أن يغويكم إن أردت أن أنصح لكم وهذا المعنى فيه خلاف بين أبى يوسف ومحمد والفراء في مسائل قد ذكرناها في شرح الجامع الكبير وقوله (يريد أن يغويكم) أى يخيبكم من رحمته يقال غوى يغوى غيا ومنه (فسوف يلقون غيا) وقال الشاعر :

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره

ومن يغو لا يعدم من الغي لائما

وحدثنا أبو عمر غلام ثعلب عن ثعلب عن ابن الأعرابى قال يقال غوى الرجل يغوى غيا إذا فسد عليه أمره أو فسد هو في نفسه قال ومنه قوله تعالى في قصة آدم (وعصى آدم ربه فغوى) أى فسد عليه عيشه في الجنة قال أبو بكر وهذا يؤول إلى المعنى الأول وذلك أن الخيبة فيها فساد العيش فقوله (يغويكم) يفسد عليكم عيشكم وأمركم بأن يخيبكم من رحمته قوله تعالى (واصنع الفلك بأعيننا ووحينا) يعنى بحيث نراها فكأنها ترى بأعين على طريق البلاغة والمعنى بحفظنا إياك حفظ من يراك ويملك دفع السوء عنك وقيل بأعين أو أوليائنا من الملائكة الموكلين بك وقوله (ووحينا) يعنى على ما أوحينا إليك من صفتها وحالها ويجوز بوحينا إليك أن اصنعها وقوله تعالى (فإنا نسخر منكم كما تسخرون) مجاز وإنما أطلق ذلك لأن جزاء الذم على السخرية بالمقدار المستحق كقوله تعالى (وجزاء سيئة سيئة مثلها) وقوله تعالى (قالوا انا معكم إنما نحن مستهزؤن الله يستهزى بهم) وقال بعضهم معناه فإنا نستجهلكم كما تستجهلون قوله تعالى (ونادى نوح ربه فقال رب إن ابنى من أهلى) سمى ابنه من أهله وهذا يدل على أن من أوصى لأهله بثلث ماله أنه على من هو في عياله ابنا كان أو زوجة أو أخا أو أجنبيا وكذلك قال أصحابنا والقياس أن يكون للزوجة خاصة ولكن استحسن فجعله لجميع من تضمنه منزله وهو في عيال وقول نوح عليه السلام يدل على ذلك وقال الله تعالى في آية أخرى (ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ونجيناه وأهله من الكرب العظيم) فسمى جميع من ضمه منزله وسفينته من أهله وقول نوح عليه السلام إن ابني من أهلى يعنى من أهلى الذي وعدتني أن تنجيهم فأخبر الله تعالى أنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم قوله تعالى (إنه عمل غير صالح) قيل فيه معناه ذو عمل غير صالح فجاء على المبالغة في الصفة كما قالت الخنساء :

ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت

فإنما هي إقبال وإدبار

٣٧٧

تعنى ذات إقبال وإدبار أو مقبلة ومدبرة وروى عن ابن عباس ومجاهد وإبراهيم قال سؤالك هذا عمل غير صالح وقرأ الكسائي (إنه عمل غير صالح) على الفعل ونصب غير وروى عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك إنه كان ابنه لصلبه لأنه قال تعالى (ونادى نوح ابنه) وقال (إنه ليس من أهلك) يعنى ليس من أهل دينك وروى عن الحسن ومجاهد أنه لم يكن ابنه لصلبه وكان لغير رشدة وقال الحسن وكان منافقا يظهر الإيمان ويسر الكفر وقيل إنه كان ابن امرأته وإنما كان نوح يدعوه إلى الركوب مع نهى الله عز وجل إياه أن يركب فيها كافر لأنه كان ينافق بإظهار الإيمان وقيل إنه دعاه على شريطة الإيمان كأنه قال آمن واركب معنا قوله تعالى (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) نسبهم إلى الأرض لأن أصلهم وهو آدم خلق من تراب الأرض والناس كلهم من آدم عليه السلام وقيل إن معناه إنه خلقكم في الأرض وقوله (واستعمركم فيها) يعنى أمركم من عمارتها بما تحتاجون إليه وفيه الدلالة على وجوب عمارة الأرض للزراعة والغراس والأبنية وروى عن مجاهد معناه أعمركم بأن جعلها لكم طول أعماركم وهذا كقول القائل أعمرتك دارى هذه يعنى ملكتك طول عمرك وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم من أعمر عمرى فهي له ولورثته من بعده والعمرى هي العطية إلا أن معناها راجع إلى تمليكه طول عمره فأجاز النبي صلّى الله عليه وسلّم العمرى والهبة وأبطل الشرط في تمليكه عمره لأنهم كانوا يعقدون ذلك على أنه بعد موته يرجع إلى الواهب قوله تعالى (قالوا سلاما قال سلام) معنى الأول سلمت سلاما ولذلك نصبه والثاني جوابه عليكم سلام وكذلك رفعه ومعناهما واحد إلا أنه خولف بينهما لئلا يتوهم متوهم الحكاية وفيه الدلالة على أن السلام قد كان تحية أهل الإسلام وإنه تحية الملائكة وقوله تعالى (قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلى شيخا إن هذا لشىء عجيب) فإنها مع علمها بأن ذلك في مقدور الله تعجبت بطبع البشرية قبل الفكر والروية كما ولى موسى عليه السلام مدبرا حين صارت العصاحية حتى قيل له (أقبل ولا تخف إنك من الآمنين) وإنما تعجبت لأن إبراهيم عليه السلام يقال إنه كان له في ذلك الوقت مائة وعشرون سنة ولسارة تسعون سنة قوله تعالى (أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت) يدل على أن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم من أهل بيته لأن الملائكة قد سمت امرأة إبراهيم من أهل بيته وكذلك قال الله تعالى في مخاطبة أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله

٣٧٨

(ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا ـ إلى قوله ـ وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) قد دخل فيه أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم لأن ابتداء الخطاب لهن* قوله تعالى (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط) يعنى لما ذهب عنه الفزع جادل الملائكة حتى قالوا إنا أرسلنا إلى قوم لوط لنهلكهم فقال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله يروى ذلك عن الحسن وقيل إنه سألهم فقال أتهلكونهم إن كان فيها خمسون من المؤمنين قالوا لا ثم نزلهم إلى عشرة فقالوا لا يروى ذلك عن قتادة ويقال جادلهم ليعلم بأى شيء استحقوا عذاب الاستئصال وهل ذلك واقع بهم لا محالة أم على سبيل الإخافة ليقبلوا إلى الطاعة* ومن الناس من يحتج بذلك في جواز تأخير البيان لأن الملائكة أخبرت أنها تهلك قوم لوط ولم تبين المنجين منهم ومع ذلك فإن إبراهيم عليه السلام جادلهم وقال لهم أتهلكونهم وفيهم كذا رجلا فيستدلون بذلك على جواز تأخير البيان وهذا ليس بشيء لأن إبراهيم سألهم عن الوجه الذي به استحقوا عذاب الاستئصال وهل ذلك واقع بهم لا محالة أو على سبيل التخويف ليرجعوا إلى الطاعة قوله تعالى (أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشؤا) وإنما قيل أصلوتك تأمرك لأنها بمنزلة الآمر بالخير والناهي عن الشر كما قال تعالى (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) وجائز أن يكون أخبرهم بذلك في حال الصلاة فقال أصلوتك تأمرك بما ذكرت وعن الحسن أدينك يأمرك أى فيه الأمر بهذا قوله تعالى (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) والركون إلى الشيء هو السكون إليه بالأنس والمحبة فاقتضى ذلك النهى عن مجانسة الظالمين ومؤانستهم والإنصات إليهم وهو مثل قوله تعالى (فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) وقوله تعالى (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) قيل فيه لا يهلكهم بظلم صغير يكون منهم وقيل بظلم كبير يكون من قليل منهم كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم إن الله لا يهلك العامة بذنوب الخاصة وقيل لا يهلكهم وهو ظالم لهم كقوله (إن الله لا يظلم الناس شيئا) وفيه إخبار بأنه لا يهلك القرى وأهلها مصلحون وقال تعالى في آية أخرى (وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة) فدل ذلك على أن الناس يصيرون إلى غاية الفساد عند اقتراب الساعة ولذلك يهلكهم الله وهو مصداق قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق قوله تعالى

٣٧٩

(ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة) قال قتادة يجعلهم مسلمين وذلك بالإلجاء إلى الإيمان وإنما يكون الإلجاء بالمنع لأنهم لو راموا خلافه منعوا منه مع الاضطرار إلى حسنه وعظم المنفعة به قوله تعالى (ولا يزالون مختلفين) قال مجاهد وعطاء وقتادة والأعمش أى مختلفين في الأديان يهودي ونصراني ومجوسي ونحو ذلك من اختلاف المذاهب الفاسدة وروى عن الحسن في الأرزاق والأحوال من تسخير بعضهم لبعض قوله تعالى (إلا من رحم ربك) إنما هو استثناء من المختلفين بالباطل بالإطلاق في الإيمان المؤدى إلى الثواب فإنه ناج من الاختلاف بالباطل قوله تعالى (ولذلك خلقهم) روى عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك خلقهم للرحمة وروى عن ابن عباس أيضا والحسن وعطاء خلقهم على علم منه باختلافهم وهي لام العاقبة قالوا وقد تكون اللام بمعنى على كقولك أكرمتك على برك ولبرك بي آخر سورة هود عليه السلام.

سورة يوسف

(بسم الله الرحمن الرحيم)

قوله عز وجل (إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إنى رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين) فيه بيان صحة الرؤيا من غير الأنبياء لأن يوسف عليه السلام لم يكن نبيا في ذلك الوقت بل كان صغيرا وكان تأويل الكواكب أخوته والشمس والقمر أبويه وروى ذلك عن الحسن قوله تعالى (لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا) علم إنه إن قصها عليهم حسدوه وطلبوا كيده وهو أصل في جواز ترك إظهار النعمة وكتمانه عند من يخشى حسده وكيده وإن كان الله قد أمر بإظهاره بقوله تعالى (وأما بنعمة ربك فحدث) قوله تعالى (ويعلمك من تأويل الأحاديث) فإن التأويل ما يؤول إليه بمعنى ويرجع إليه وتأويل الشيء هو مرجعه وقال مجاهد وقتادة تأويل الأحاديث عبارة الرؤيا وقيل تأويل الأحاديث في آيات الله ودلائله على توحيده وغير ذلك من أمور دينه قوله تعالى (إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا) الآية تفاوضوا فيما بينهم وأظهروا الحسد الذي كانوا يضمرونه لقرب منزلته عند أبيهم دونهم وقالوا (إن أبانا لفى ضلال مبين) يعنون عن صواب الرأى لأنه كان أصغر منهم وكان عندهم أن الأكبر أولى بتقديم المنزلة من الأصغر ومع ذلك فإن الجماعة من البنين أولى بالمحبة

٣٨٠