أحكام القرآن - ج ٤

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٧

سقوط اعتباره إذ كان في اعتباره ما يؤديه إلى إسقاطه وقد اختلف أبو يوسف ومحمد فيمن أوصى بثلث ماله للفقراء فقال أبو يوسف يجزيهم وضعه في فقير واحد وقال محمد لا يجزى إلا في اثنين فصاعدا شبهه أبو يوسف بالصدقات وهو أقيس واختلف في موضع أداء الزكاة فقال أصحابنا أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد تقسم صدقة كل بلد في فقرائه ولا يخرجها إلى غيره وإن أخرجها إلى غيره فأعطاها الفقراء جاز ويكره وروى على الرازي عن أبى سليمان عن ابن المبارك عن أبى حنيفة قال لا بأس بأن يبعث الزكاة من بلد إلى بلد آخر إلى ذي قرابته قال أبو سليمان فحدثت به محمد بن الحسن فقال هذا حسن وليس لنا في هذا سماع عن أبى حنيفة قال أبو سليمان فكتبه محمد بن الحسن عن ابن المبارك عن أبى حنيفة وذكر الطحاوي عن ابن أبى عمران قال أخبرنا أصحابنا عن محمد بن الحسن عن أبى سليمان عن عبد الله بن المبارك عن أبى حنيفة قال لا يخرج الرجل زكاته من مدينة إلى مدينة إلا لذي قرابته وقال أبو حنيفة في زكاة الفطر يؤديها حيث هو وعن أولاده الصغار حيث هم وزكاة المال حيث المال وقال مالك لا تنقل صدقة المال من بلد إلى بلد إلا أن تفضل فتنقل إلى أقرب البلدان إليهم قال ولو أن رجلا من أهل مصر حلت زكاته عليه وماله بمصر وهو بالمدينة فإنه يقسم زكاته بالمدينة ويؤدى صدقة الفطر حيث هو وقال الثوري لا تنقل من بلد إلى بلد إلا أن لا يجد من يعطيه وكره الحسن بن صالح نقلها من بلد إلى بلد وقال الليث فيمن وجبت عليه زكاة ماله وهو ببلد غير بلده أنه إن كانت رجعته إلى بلده قريبة فإنه يؤخر ذلك حتى يقدم بلده فيخرجها ولو أداها حيث هو رجوت أن تجزى وإن كانت غيبته طويلة وأراد المقام بها فإنه يؤد زكاته حيث هو وقال الشافعى إن أخرجها إلى غير بلده لم يبن لي أن عليه الإعادة قال أبو بكر ظاهر قوله تعالى (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) يقتضى جواز إعطائها في غير البلد الذي فيه المال وفي أى موضع شاء ولذلك قال أصحابنا أى موضع أدى فيه أجزأه ويدل عليه أنا لم نر في الأصول صدقة مخصوصة بموضع حتى لا يجوز أداؤها في غيره ألا ترى أن كفارات الأيمان والنذور وسائر الصدقات لا يختص جوازها بأدائها في مكان دون غيره وروى عن طاوس أن معاذا قال لأهل اليمن ائتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم في الصدقة مكان الذرة والشعير فإنه أيسر عليكم وخير لمن بالمدينة من المهاجرين والأنصار فهذا يدل على أنه كان ينقلها من اليمن

٣٤١

إلى المدينة وذلك لأن أهل المدينة كانوا أحوج إليها من أهل اليمن وروى عدى بن حاتم أنه نقل صدقة طيئ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبلادهم بالبعد من المدينة ونقل أيضا عدى ابن حاتم والزبرقان بن بدر صدقات قومهما إلى أبى بكر الصديق رضى الله عنه من بلاد طيئ وبلاد بنى تميم فاستعان بها على قتال أهل الردة وإنما كرهوا نقلها إلى بلد غيره إذا تساوى أهل البلدين في الحاجة لما روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن أعلمهم أن الله قد فرض عليهم حقا في أموالهم يؤخذ من أغنيائهم ويرد في فقرائهم وذلك يقتضى ردها في فقراء المأخوذين منهم وإنما قال أبو حنيفة إنه يجوز له نقلها إلى ذي قرابته في بلد آخر لما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا على بن محمد قال حدثنا أبو سلمة قال حدثنا حماد بن سلمة عن أيوب وهشام وحبيب عن محمد بن سيرين عن سلمان بن عامر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال صدقة الرجل على قرابته صدقة وصلة وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا موسى بن زكريا قال حدثنا أحمد بن منصور قال حدثنا عثمان بن صالح حدثنا ابن لهيعة عن عطاء عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب أنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الصدقة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن الصدقة على ذي القرابة تضاعف مرتين وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث زينب امرأة عبد الله حين سألته عن صدقتها على عبد الله وأيتام بنى أخ لها في حجرها فقال لك أجران أجر الصدقة وأجر القرابة وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا على بن الحسين ابن يزيد الصدائى قال حدثنا أبى قال حدثنا ابن نمير عن حجاج عن الزهري عن أيوب ابن بشير عن حكيم بن حزام قال قلت يا رسول الله أى الصدقة أفضل قال على ذي الرحم الكاشح فثبت بهذه الأخبار أن الصدقة على ذي الرحم المحرم وإن بعدت داره أفضل منها على الأجنبى فلذلك قال يجوز نقلها إلى بلد آخر إذا أعطاها ذا قرابته وإنما قال أصحابنا في صدقة الفطر إنه يؤديها عن نفسه حيث هو وعن رفيقه وولده حيث هم لأنها مؤداة عنهم فكما تؤدى زكاة المال حيث المال كذلك تؤدى صدقة الفطر حيث المؤدى عنه.

فيما يعطى مسكين واحد من الزكاة

كان أبو حنيفة يكره أن يعطى إنسان من الزكاة مائتي درهم وإن أعطيته أجزأك ولا بأس بأن تعطيه أقل من مائتي درهم قال وإن يغنى بها إنسانا أحب إلى وروى هشام عن أبى يوسف في رجل له مائة وتسعة وتسعون درهما فتصدق عليه بدرهمين أنه يقبل واحدا

٣٤٢

ويرد واحدا فقد أجاز له أن يقبل تمام المائتين وكره أن يقبل ما فوقها وأما مالك بن أنس فإنه يرد الأمر فيه إلى الاجتهاد من غير توقيف وقول ابن شبرمة فيه كقول أبى حنيفة وقال الثوري لا يعطى من الزكاة أكثر من خمسين درهما إلا أن يكون غارما وهو قول الحسن بن صالح وقال الليث يعطى مقدار ما يبتاع به خادما إذا كان ذا عيال والزكاة كثيرة ولم يحد الشافعى شيئا واعتبر ما يرفع الحاجة* قال أبو بكر قوله تعالى (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) ليس فيه تحديد مقدار ما يعطى كل واحد منهم وقد علمنا أنه لم يرد به تفريقها على الفقراء على عدد الرءوس لامتناع ذلك وتعذره فثبت أن المراد دفعها إلى بعض أى بعض كان وأقلهم واحد ومعلوم أن كل واحد من أرباب الأموال مخاطب بذلك فاقتضى ذلك جواز دفع كل واحد منهم جميع صدقته إلى فقير واحد قل المدفوع أو كثر فوجب بظاهر الآية جواز دفع المال الكثير من الزكاة إلى واحد من الفقراء من غير تحديد لمقداره وأيضا فإن الدفع والتمليك يصادفانه وهو فقير فلا فرق بين دفع القليل والكثير لحصول التمليك في الحالتين للفقير وإنما كره أبو حنيفة أن يعطى إنسانا مائتي درهم لأن المائتين هي النصاب الكامل فيكون غنيا مع تمام ملك الصدقة ومعلوم أن الله تعالى إنما أمر بدفع الزكوات إلى الفقراء لينتفعوا بها ويتملكوها فلا يحصل له التمكين من الانتفاع إلا وهو غنى فكره من أجل ذلك دفع نصاب كامل ومتى دفع إليه أقل من النصاب فإنه يملكه ويحصل له الانتفاع بها وهو فقير فلم يكرهه إذ القليل والكثير سواء في هذا الوجه إذا لم يصر غنيا فالنصاب عند وقوع التمليك والتمكين من الانتفاع وأما قول أبى حنيفة وأن يغنى بها إنسان أحب إلى فإنه لم يرد به الغنى الذي تجب عليه به الزكاة وإنما أراد أن يعطيه ما يستغنى به عن المسألة ويكف به وجهه ويتصرف به في ضرب من المعاش واختلف فيمن أعطى زكاته رجلا ظاهره الفقر فأعطاه على ذلك ثم تبين أنه غنى فقال أبو حنيفة ومحمد يجزيه وكذلك إن دفعها إلى ابنه أو إلى ذمي وهو لا يعلم ثم علم أنه يجزيه وقال أبو يوسف لا يجزيه وذهب أبو حنيفة في ذلك إلى ما روى في حديث معن بن يزيد أن أباه أخرج صدقة فدفعها إليه ليلا وهو لا يعرفه فلما أصبح وقف عليه فقال ما إياك أردت واختصما إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال له لك ما نويت يا يزيد وقال لمعن لك ما أخذت ولم يسئله أنويتها من الزكاة أو غيرها بل قال لك ما نويت فدل على جوازها إن نواها زكاة

٣٤٣

وأيضا فإن الصدقة على هؤلاء قد تكون صدقة صحيحة من وجه في غير حال الضرورة وهو أن يتصدق عليهم صدقة التطوع فأشبهت من هذا الوجه الصلاة إلى الكعبة إذا أداها باجتهاد صحيح ثم تبين أنه أخطأها كانت صلاته ماضية إذ كانت الصلاة إلى غير جهة الكعبة قد تكون صلاة صحيحة من غير ضرورة وهو المصلى تطوعا على الراحلة فكان إعطاء الزكاة باجتهاد مشبها لأداء الصلاة باجتهاد على النحو الذي ذكرنا فإن قيل إنما يشبه مسألة الزكاة من توضأ بماء يظنه طاهرا ثم علم أنه كان نجسا فلا تجزيه صلاته لأنه صار من اجتهاد إلى يقين كذلك مؤدى الزكاة إلى غنى أو ابنه أو ذمي إذا علم فقد صار من اجتهاد إلى يقين فبطل حكم اجتهاده ووجبت عليه الإعادة قيل له ليس كذلك لأن الوضوء بالماء النجس لا يكون طهارة بحال فلم يكن للاجتهاد تأثير في جوازه وترك القبلة جائز في أحوال فمسئلتنا بما ذكرناه أشبه فإن قيل الصلاة قد تجوز في الثوب النجس في حال ومع ذلك فلو أداها باجتهاد منه في طهارة الثوب ثم تبين النجاسة بطلت صلاته ووجبت عليه الإعادة ولم يكن جواز الصلاة في الثوب النجس بحال موجبا لجواز أداءها بالاجتهاد متى صار إلى يقين النجاسة قيل له أغفلت معنى اعتلالنا لأنا قلنا إن ترك القبلة جائز من غير ضرورة كجواز إعطاء هؤلاء من صدقة التطوع من غير ضرورة فكانا متساويين من هذا الوجه ألا ترى أنه لا ضرورة بالمصلى على الراحلة في فعل التطوع كما لا ضرورة بالمتصدق صدقة التطوع على ما ذكرنا فلما استويا من هذا الوجه اشتبها في الحكم وأما الصلاة في الثوب النجس فغير جائزة إلا في حال الضرورة ويستوي فيه حكم مصلى الفرض أو متنفل فلذلك اختلفا.

باب دفع الصدقات إلى صنف واحد

قال الله تعالى (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) الآية فروى أبو داود الطيالسي قال حدثنا أشعث بن سعيد عن عطاء عن سعيد بن جبير عن على وابن عباس قالا إذا أعطى الرجل الصدقة صنفا واحدا من الأصناف الثمانية أجزأه وروى مثل ذلك عن عمر بن الخطاب وحذيفة وعن سعيد بن جبير وإبراهيم وعمر بن عبد العزيز وأبى العالية ولا يروى عن الصحابة خلافه فصار إجماعا من السلف لا يسع أحدا خلافه لظهوره واستفاضته فيهم من غير خلاف ظهر من أحد من نظرائهم عليهم وروى الثوري عن إبراهيم بن

٣٤٤

ميسرة عن طاوس عن معاذ بن جبل إنه كان يأخذ من أهل اليمن العروض في الزكاة ويجعلها في صنف واحد من الناس وهذا قول أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد وزفر ومالك ابن أنس وقال الشافعى تقسم على ثمانية أصناف إلا أن يفقد صنف فتقسم في الباقين لا يجزى غيره وهذا قول مخالف لقول من قدمنا ذكره من السلف ومخالف للآثار والسنن وظاهر الكتاب قال الله تعالى (إن تبدوا الصدقات فنعما هى وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) وذلك عموم في جميع الصدقات لأنه اسم للجنس لدخول الألف واللام عليه فاقتضت الآية دفع جميع الصدقات إلى صنف واحد من المذكورين وهم الفقراء فدل على أن مراد الله تعالى في ذكر الأصناف إنما هو بيان أسباب الفقر لا قسمتها على ثمانية ويدل عليه أيضا قوله تعالى (فى أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) وذلك يقتضى جواز إعطاء الصدقة هذين دون غيرهما وذلك ينفى وجوب قسمتها على ثمانية وأيضا فإن قوله تعالى (إنما الصدقات للفقراء) عموم في سائر الصدقات وما يحصل منها في كل زمان وقوله تعالى (للفقراء) إلى آخره عموم أيضا في سائر المذكورين من الموجودين ومن يحدث منهم ومعلوم أنه لم يرد منهم قسمة كل ما يحصل من الصدقة في الموجودين ومن يحدث منهم لاستحالة إمكان ذلك إلى أن تقوم الساعة فوجب أن يجزى إعطاء صدقة عام واحد لصنف واحد وإعطاء صدقة عام ثان لصنف آخر ثم كذلك صدقة كل عام لصنف من الأصناف على ما يرى الإمام قسمته فثبت بذلك أن صدقة عام واحد أو رجل واحد غير مقسومة على ثمانية وأيضا لا خلاف أن الفقراء لا يستحقونها بالشركة وأنه جائز أن يحرم البعض منهم ويعطى البعض فثبت أن المقصد صرفها في بعض المذكورين فوجب أن يجوز إعطاؤها بعض الأصناف كما جاز إعطاؤها بعض الفقراء لأن ذلك لو كان حقا لهم جميعا لما جاز حرمان البعض وإعطاء البعض قال أبو بكر ويدل عليه ما روى في حديث سلمة بن صخر حين ظاهر من امرأته ولم يجد ما يطعم فأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن ينطلق إلى صاحب صدقة بنى زريق ليدفع إليه صدقاتهم فأجاز النبي صلّى الله عليه وسلّم دفع صدقاتهم إلى سلمة وإنما هو من صنف واحد وفي حديث عبيد الله بن عدى بن الخيار في الرجلين اللذين سألا النبي صلّى الله عليه وسلّم من الصدقة فرآهما جلدين فقال إن شئتما أعطيتكما ولم يسئلهما من أى الأصناف هما ليحسبهما من الصنف ويدل على أنها مستحقة بالفقر قوله صلّى الله عليه وسلّم

٣٤٥

أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم وقال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن أعلمهم أن الله تعالى فرض عليهم حقا في أموالهم يؤخذ من أغنيائهم ويرد في فقرائهم فأخبر أن المعنى الذي به يستحق جميع الأصناف هو الفقر لأنه عم جميع الصدقة وأخبر أنها مصروفة إلى الفقراء وهذا اللفظ مع ما تضمن من الدلالة يدل على أن المعنى المستحق به الصدقة هو الفقر وأن عمومه يقتضى جواز دفع جميع الصدقات إلى الفقراء حتى لا يعطى غيرهم بل ظاهر اللفظ يقتضى إيجاب ذلك لقوله صلّى الله عليه وسلّم أمرت فإن قيل العامل يستحقه لا بالفقر قيل له لم يكونوا يأخذونها صدقة وإنما تحصل الصدقة للفقراء ثم يأخذها العامل عوضا من عمله لا صدقة كفقير تصدق عليه فأعطاها عوضا عن عمل عمل له وكما كان يتصدق على بريرة فتهديه للنبي صلّى الله عليه وسلّم هدية للنبي وصدقة لبريرة فإن قيل فإن المؤلفة قلوبهم قد كانوا يأخذونها صدقة لا بالفقر قيل له لم يكونوا يأخذونها صدقة وإنما كانت تحصل صدقة للفقراء فيدفع بعضها إلى المؤلفة قلوبهم لدفع أذيتهم عن فقراء المسلمين وليسلموا فيكونوا قوة لهم فلم يكونوا يأخذونها صدقة بل كانت تحصل صدقة فتصرف في مصالح المسلمين إذ كان مال الفقراء جائزا صرفه في بعض مصالحهم إذ كان الإمام يلي عليهم ويتصرف في مصالحهم فأما ذكر الأصناف فإنما جاء به لبيان أسباب الفقر على ما بينا والدليل عليه أن الغارم وابن السبيل والغازي لا يستحقونها إلا بالحاجة والفقر دون غيرهما فدل على أن المعنى الذي به يستحقونها هو الفقر* فإن قيل روى عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن زياد بن نعيم أنه سمع زياد بن الحارث الصدائى يقول أمرنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قوم فقلت أعطنى من صدقاتهم ففعل وكتب لي بذلك كتابا فأتاه رجل فقال أعطنى من الصدقة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن الله عز وجل لم يرض بحكم نبي ولا غيره حتى حكم فيها من السماء فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك منها قيل له هذا يدل على صحة ما قلنا لأنه قال إن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك فبان أنها مستحقة لمن كان من أهل هذه الأجزاء وذكر فيه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كتب للصدائى بشيء من صدقة قومه ولم يسئله من أى الأصناف هو فدل ذلك على أن قوله إن الله تعالى جزأها ثمانية أجزاء معناه ليوضع في كل جزء منها جميعها إن رأى ذلك الإمام ولا يخرجها عن جميعهم وأيضا فليس تخلو الصدقة من أن تكون مستحقة بالاسم أو بالحاجة أو بهما

٣٤٦

جميعا وفاسد أن يقال هي مستحقة بمجرد الاسم لوجهين أحدهما أنه يوجب أن يستحقها كل غارم وكل ابن سبيل وإن كان غنيا وهذا باطل والوجه الثاني إنه كان يجب أن يكون لو اجتمع له الفقر وابن السبيل أن يستحق سهمين فلما بطل هذان الوجهان صح أنها مستحقة بالحاجة فإن قيل قوله تعالى (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) الآية يقتضى إيجاب الشركة فلا يجوز إخراج صنف منها كما لو أوصى بثلث ماله لزيد وعمرو وخالد لم يحرم واحد منهم قيل له هذا مقتضى اللفظ في جميع الصدقات وكذلك نقول فيعطى صدقة العام صنفا واحدا ويعطى صدقة عام آخر صنفا آخر على قدر اجتهاد الإمام ومجرى المصلحة فيه وإنما الخلاف بيننا وبينكم في صدقة واحدة هل يستحقها الأصناف كلها وليس في الآية بيان حكم صدقة واحدة وإنما فيها حكم الصدقات كلها فنقسم الصدقات كلها على ما ذكرنا فنكون قد وفينا الآية حقها من مقتضاها واستعملنا سائر الآي التي قدمنا ذكرها والآثار عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وقول السلف فذلك أولى من إيجاب قسمة صدقة واحدة على ثمانية ورد أحكام سائر الآي والسنن التي قدمنا وبهذا المعنى الذي ذكرنا انفصلت الصدقات من الوصية بالثلث لأعيان لأن المسلمين لهم محصورون وكذلك والثلث في مال معين فلا بد من أن يستحقوه بالشركة وأيضا فلا خلاف أن الصدقات غير مستحقة على وجه الشركة للمسلمين لاتفاقهم على جواز إعطاء بعض الفقراء دون بعض ولا جائز إخراج بعض الموصى لهم وأيضا لما جاز التفضيل في الصدقات لبعض على بعض ولم يجز ذلك في الوصايا المطلقة كذلك جاز بعض الأصناف كما جاز حرمان بعض الفقراء ففارق الوصايا من هذا الوجه وأيضا لما كانت الصدقة حقا لله تعالى لا لآدمى بدلالة أنه لا مطالبة لآدمى يستحقها لنفسه فأى صنف أعطى فقد وضعها موضعها والوصية لأعيان حق لآدمى لا مطالبة لغيرهم بها فاستحقوها كلهم كسائر الحقوق التي للآدميين ويدل على ذلك أن الله أوجب في الكفارة إطعام مساكين ولو أعطى الفقراء جاز فكذلك جائز أن يعطى ما سمى للمساكين في آية الصدقات للفقراء والوصية مخالفة لذلك لأنه لو أوصى لزيد لم يعط عمرو.

قوله تعالى (ومنهم الذين يؤذون النبى ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك يقولون هو صاحب أذن يصغى إلى كل أحد وقيل إن أصله من أذن يأذن إذا سمع قول الشاعر :

٣٤٧

في سماع يأذن الشيخ له

وحديث مثل ما ذي مشار

ومعناه أذن صلاح لكم لا أذن شر وقوله (يؤمن للمؤمنين) قال ابن عباس يصدق المؤمنين ودخول اللام هاهنا كدخوله في قوله (قل عسى أن يكون ردف لكم) ومعناه ردفكم وقيل إنما أدخلت اللام للفرق بين إيمان التصديق وإيمان الأمان فإذا قيل ويؤمن للمؤمنين لم يعقل به غير التصديق وهو كقوله تعالى (قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم) أى لن نصدقكم وكقوله (وما أنت بمؤمن لنا) ومن الناس من يحتج بذلك في قبول خبر الواحد لأخبار الله تعالى عن نبيه أنه يصدق المؤمنين فيما يخبرونه به وهذا لعمري يدل على قبوله في أخبار المعاملات فأما أخبار الديانات وأحكام الشرع فلم يكن النبي صلّى الله عليه وسلّم محتاجا إلى أن يسمعها من أحد إذ كان الجميع عنه يأخذون وبه يقتدون فيها قوله تعالى (والله ورسوله أحق أن يرضوه) قيل إنه إنما رد ضمير الواحد في قوله (يرضوه) لأن رضا الله ينتظم رضا الرسول إذ كل ما رضى الله فقد رضيه الرسول فترك ذكر ضمير الرسول لدلالة الحال عليه وقيل إن اسم الله تعالى لا يجمع مع اسم غيره في الكناية تعظيما بإفراد الذكر وقد روى أن رجلا خطب بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم قم فبئس الخطيب أنت فأنكر الجمع بين اسم الله وبين اسمه في الكناية وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم النهى عن جمع اسم غير الله إلى اسمه بحرف الجمع فقال لا تقولوا إن شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا إن شاء الله ثم شاء فلان قوله تعالى (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم) قال الحسن ومجاهد كانوا يحذرون فحملاه على معنى الإخبار عنهم بأنهم يحذرون وقال غيرهما صورته صورة الخبر ومعناه الأمر تقديره ليحذر المنافقون وقوله تعالى (إن الله مخرج ما تحذرون) إخبار من الله بإخراج إضمار السوء وإظهاره وهتك صاحبه بما يخذله الله به ويفضحه وذلك إخبار عن المنافقين وتحذير لغيرهم من سائر مضمرى السوء وكاتميه وهو في معنى قوله (والله مخرج ما كنتم تكتمون) قوله تعالى (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ـ إلى قوله ـ إن نعف) فيه الدلالة على أن اللاعب والجاد سواء في إظهار كلمة الكفر على غير وجه الإكراه لأن هؤلاء المنافقين ذكروا أنهم قالوا ما قالوا لعبا فأخبر الله عن كفرهم باللعب بذلك وروى عن الحسن وقتادة أنهم قالوا في غزوة تبوك أيرجو هذا الرجل أن

٣٤٨

يفتح قصور الشام وحصونها هيهات هيهات فأطلع الله نبيه على ذلك فأخبر أن هذا القول كفر منهم على أى وجه قالوه من جد أو هزل فدل على استواء حكم الجاد والهازل في إظهار كلمة الكفر ودل أيضا على أن الاستهزاء بآيات الله وبشيء من شرائع دينه كفر فاعله قوله تعالى (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض) أضاف بعضهم إلى بعض باجتماعهم على النفاق فهم متشاكلون متشابهون في تعاضدهم على النفاق والأمر بالمنكر والنهى عن المعروف كما يضاف بعض الشيء إليه لمشاكلته للجملة قوله تعالى (ويقبضون أيديهم) فإنه روى عن الحسن ومجاهد عن الإنفاق في سبيل الله وقال قتادة عن كل خير وقال غيره عن الجهاد في سبيل الله وجائز أن يكونوا قبضوا أيديهم عن جميع ذلك فيكون المراد جميع ما احتمله اللفظ منه وقوله (نسوا الله فنسيهم) فإن معناه أنهم تركوا أمره والقيام بطاعته حتى صار ذلك عندهم بمنزلة المنسى إذ لم يستعملوا منه شيئا كما لا يعمل بالمنسى وقوله (فنسيهم) معناه أنه تركهم من رحمته وسماه باسم الذنب لمقابلته لأنه عقوبة وجزاء على الفعل وهو مجاز كقولهم الجزاء بالجزاء وقوله (وجزاء سيئة سيئة مثلها) ونحو ذلك قوله تعالى (يا أيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) روى عبد الله بن مسعود قال جاهدهم بيدك فإن لم تستطع فبلسانك وقلبك فإن لم تستطع فاكفهر في وجوههم وقال ابن عباس جاهد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان وقال الحسن وقتادة جاهد الكفار بالسيف والمنافقين بإقامة الحدود وكانوا أكثر من يصيب الحدود قوله تعالى (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم) فيه إخبار عن كفار المنافقين وكلمة الكفر كل كلمة فيها جحد لنعمة الله أو بلغت منزلتها في العظم وكانوا يطعنون في النبوة والإسلام ويقال إن القائل لكلمة الكفر الجلاس بن سويد بن الصامت قال إن كان ما جاء به محمد حقا لنحن شر من الحمير ثم حلف بالله ما قال روى ذلك عن مجاهد وعروة وابن إسحاق وقال قتادة نزلت في عبد الله بن أبى بن سلول حين قال (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) وقال الحسن كان جماعة من المنافقين قالوا ذلك وفيما قص الله علينا من شأن المنافقين وإخباره عنهم باعتقاد الكفر وقوله ثم تبقيته إياهم واستحياؤهم لما كانوا يظهرون للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين من الإسلام دلالة على قبول توبة الزنديق المسر للكفر والمظهر للإيمان قوله تعالى (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من

٣٤٩

فضله لنصدقن) إلى آخر الآيتين فيه الدلالة على أن من نذر نذرا فيه قربة لزمه الوفاء به لأن العهد هو النذر والإيجاب نحو قوله إن رزقني الله ألف درهم فعلى أن أتصدق منها بخمس مائة ونحو ذلك فانتظمت هذه الآية أحكاما منها أن من نذر نذرا لزمه الوفاء بنفس المنذر لقوله تعالى (فلما آتاهم من فضله بخلوا به) فعنفهم على ترك الوفاء بالمنذور بعينه وهذا يدل على بطلان قول من أوجب في شيء بعينه كفارة يمين وأبطل إيجاب إخراج المنذور بعينه ويدل أيضا على جواز تعليق النذر بشرط مثل أن يقول إن قدم فلان فلله على صدقة أو صيام ويدل أيضا على أن النذر المضاف إلى الملك إيجاب في الملك وإن لم يكن الملك موجودا في الحال وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لا نذر فيما لا يملك ابن آدم وجعله الله تعالى نذرا في الملك وألزمه الوفاء به فثبت بذلك أن النذر في غير ملك أن يقول لله على أن أتصدق بثوب زيد أو نحوه وهو يدل على أن من قال لأجنبية إن تزوجتك فأنت طالق أنه مطلق في نكاح لا قبل النكاح كما كان المضيف للنذر إلى الملك ناذرا في الملك ونظير ذلك في إيجاب نفس المنذور على موجبه قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) فاقتضى ذلك فعل المقول بعينه وإخراج كفارة يمين ليس هو المقول بعينه ونحوه قوله تعالى (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم) والوفاء بالعهد إنما هو فعل المعهود بعينه لا غير وقوله (وأوفوا بعهدى أوف بعهدكم) وقوله (يوفون بالنذر) فمدحهم على فعل المنذور بعينه ومن نظائره قوله تعالى (وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها) والابتداع قد يكون بالقول وبالفعل فاقتضى ذلك إيجاب كل ما ابتدعه الإنسان من قربة قولا أو فعلا لذم الله تارك ما ابتدع من القربة وقد روى نحو ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في النذر وهو قوله من نذر نذرا وسماه فعليه الوفاء به ومن نذر نذرا ولم يسمه فعليه كفارة يمين قوله تعالى (فأعقبهم نفاقا في قلوبهم) قال الحسن بخلهم بما نذروه أعقبهم النفاق وقال مجاهد أعقبهم الله ذلك بحرمان التوبة كما حرم إبليس ومعناه نصب الدلالة على أنه لا يتوب أبدا ذما له على ما كسبته يده وقوله (إلى يوم يلقونه) قيل فيه يلقون جزاء بخلهم ومن ذهب إلى أن الله أعقبهم رد الضمير إلى اسم الله تعالى قوله تعالى (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم)

٣٥٠

فيه إخبار بأن استغفار النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم لا يوجب لهم المغفرة ثم قال (إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) ذكر السبعين على وجه المبالغة في اليأس من المغفرة وقد روى في بعض الأخبار أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما نزلت هذه الآية قال لأزيدن على السبعين وهذا خطأ من راويه لأن الله تعالى قد أخبر أنهم كفروا بالله ورسوله فلم يكن النبي صلّى الله عليه وسلّم ليسئل الله مغفرة الكفار مع علمه بأنه لا يغفر لهم وإنما الرواية الصحيحة فيه ما روى أنه قال لو علمت أنى لو زدت على السبعين غفر لهم لزدت عليها وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم استغفر لقوم منهم على ظاهر إسلامهم من غير علم منه بنفاقهم فكانوا إذا مات الميت منهم يسئلون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الدعاء والاستغفار له فكان يستغفر لهم على أنهم مسلمون فأعلمه الله تعالى أنهم ماتوا منافقين وأخبر مع ذلك أن استغفار النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم لا ينفعهم قوله تعالى (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره) فيه الدلالة على معان أحدها فعل الصلاة على موتى المسلمين وحظرها على موتى الكفار ويدل أيضا على القيام على القبر إلى أن يدفن وعلى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد كان يفعله وقد روى وكيع عن قيس بن مسلم عن عمير بن سعد أن عليا قام على قبر حتى دفن وروى سفيان الثوري عن أبى قيس قال شهدت علقمة قام على قبر حتى دفن وروى جرير بن حازم عن عبد الله بن عبيد بن عمير أن ابن الزبير كان إذا مات له ميت لم يزل قائما حتى ندفنه فهذا يدل على أن السنة لمن حضر عند القبر أن يقوم عليه حتى يدفن ومن الناس من يستدل بذلك على جواز الصلاة على القبر وجعل قوله (ولا تقم على قبره) قيام الصلاة على القبر وهذا خطأ من التأويل لأنه تعالى قال (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره) فنهى عن القيام على القبر كنهيه عن الصلاة على الميت عطفا عليه فغير جائز أن يكون المعطوف هو المعطوف عليه بعينه وأيضا فإن القيام ليس هو عبارة عن الصلاة وإنما يريد هذا القائل أن يجعله كناية عنها وغير جائز أن تذكر الصلاة بصريح اسمها ثم يعطف عليها القيام فيجعله كناية عنها فثبت بذلك أن القيام على القبر غير الصلاة وأيضا روى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال سمعت عمر بن الخطاب يقول لما توفى عبد الله بن أبى جاء ابنه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال هذا أبى يا رسول الله قد وضعناه على شفير قبره فقم فصل عليه فوثب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووثبت معه فلما قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقام الناس خلفه تحولت وقمت في صدره وقلت يا رسول الله

٣٥١

على عبد الله بن أبى عدو الله القائل يوم كذا كذا وكذا أعد أيامه الخبيثة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لتدعنى يا عمر إن الله خيرنى فاخترت فقال (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) الآية فو الله لو أعلم يا عمر أنى لو زدت على سبعين مرة أن يغفر له لزدت ثم مشى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معه وقام على قبره حتى دفن ثم لم يلبث إلا قليلا حتى أنزل الله ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره فو الله ما صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أحد من المنافقين ولا قام على قبره بعده فذكر عمر في هذا الحديث الصلاة والقيام على القبر جميعا فدل على ما وصفنا وروى عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أراد أن يصلى على عبد الله بن أبى فأخذ جبريل بثوبه فقال (لا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره) قوله تعالى (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله) هذا عطف على ما تقدم من ذكر الجهاد في قوله (لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم) ثم عطف عليه قوله (وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم) فذمهم على الاستئذان في التخلف عن الجهاد من غير عذر ثم ذكر المعذورون من المؤمنين فذكر الضعفاء وهم الذين يضعفون عن الجهاد بأنفسهم لزمانة أو عمى أو سن أو ضعف في الجسم وذكر المرضى وهم الذين بهم أعلال مانعة من النهوض والخروج للقتال وعذر الفقراء الذين لا يجدون ما ينفقون وكان عذر هؤلاء ومدحهم بشريطة النصح لله ورسوله لأن من تخلف منهم وهو غير ناصح لله ورسوله بل يريد التضريب والسعى في إفساد قلوب من بالمدينة لكان مذموما مستحقا للعقاب ومن النصح لله تعالى حث المسلمين على الجهاد وترغيبهم فيه والسعى في إصلاح ذات بينهم ونحوه مما يعود بالنفع على الدين ويكون مع ذلك مخلصا لعمله من الغش لأن ذلك هو النصح ومنه التوبة النصوح قوله (ما على المحسنين من سبيل) عموم في أن كل من كان محسنا في شيء فلا سبيل عليه فيه ويحتج به في مسائل مما قد اختلف فيه نحو من استعار ثوبا ليصلى فيه أو دابة ليحج عليها فتهلك فلا سبيل عليه في تضمينه لأنه محسن وقد نفى الله تعالى السبيل عليه نفيا عاما ونظائر ذلك مما يختلف في وجوب الضمان عليه بعد حصول صفة الإحسان له فيحتج به نافو الضمان ويحتج مخالفنا في إسقاط ضمان الجمل الصئول إذا قتله من خشي أن يقتله بأنه محسن في قتله للجمل وقال الله تعالى (ما على المحسنين من سبيل)

٣٥٢

ونظائره كثيرة قوله تعالى (فأعرضوا عنهم إنهم رجس) هو كقوله (إنما المشركون نجس) لأن الرجس يعبر به عن النجس ويقال رجس نجس على الاتباع وهذا يدل على وجوب مجانبة الكفار وترك موالاتهم ومخالطتهم وإيناسهم وتقويتهم وقوله تعالى (يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) يدل على أن الحلف على الاعتذار ممن كان متهما لا يوجب الرضا عنه وقبول عذره لأن الآية قد اقتضت النهى عن الرضا عن هؤلاء مع أيمانهم وقال في هذه الآية (يحلفون) ولم يقل بالله وقال في الآية الأولى (سيحلفون بالله) فذكر اسم الله في الحلف في الأولى واقتصر في الآية الثانية على ذكر الحلف فدل على أنهما سواء وقال في موضع آخر (يحلفون على الكذب وهم يعلمون) وكذلك قال الله تعالى في القسم فقال في موضع (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) وقال في موضع آخر (إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين) فاكتفى بذكر الحلف عن ذكر اسم الله تعالى وفي هذا دليل على أنه لا فرق بين قول القائل أحلف وبين قوله أحلف بالله وكذلك قوله أقسم وأقسم بالله قوله تعالى (الأعراب أشد كفرا ونفاقا واجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله) أطلق هذا الخبر عن الأعراب ومراده الأعم الأكثر منهم وهم الذين كانوا يواطئون المنافقين على الكفر والنفاق وأخبر أنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله وذلك لقلة سماعهم للقرآن ومجالستهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم فهم أجهل من المنافقين الذين كانوا بحضرة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنهم قد كانوا يسمعون القرآن والأحكام فكان الأعراب أجهل بحدود الشرائع من أولئك وكذلك هم الآن في الجهل بالأحكام والسنن وفي سائر الأعصار وإن كانوا مسلمين لأن من بعد من الأمصار وناء عن حضرة العلماء كان أجهل بالأحكام والسنن ممن جالسهم وسمع منهم ولذلك كره أصحابنا إمامة الأعرابى في الصلاة ويدل على أن إطلاق اسم الكفر والنفاق على الأعراب خاص في بعضهم دون بعض قوله تعالى في نسق التلاوة (ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول) الآية قال ابن عباس والحسن صلوات الرسول استغفاره لهم وقال قتادة دعاؤه لهم بالخير والبركة وقوله تعالى (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان) فيه الدلالة على تفضيل السابق إلى الخير على التالي لأنه داع إليه بسبقه والتالي تابع له فهو إمام له وله

٣٥٣

مثل أجره كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة وكذلك السابق إلى الشر أسوأ حالا من التابع له لأنه في معنى من سنه وقال الله تعالى (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) يعنى أثقال من اقتدى بهم في الشر وقال الله تعالى (من أجل ذلك كتبنا على بنى إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا) وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم ما من قتيل ظلما إلا وعلى ابن آدم القاتل كفل من دمه لأنه أول من سن القتل وقد اختلف فيمن نزلت الآية فروى عن أبى موسى وسعيد بن المسيب وابن سيرين وقتادة أنها نزلت في الذين صلوا إلى القبلتين وقال الشعبي فيمن بايع بيعة الرضوان وقال غيرهم فيمن أسلم قبل الهجرة وقوله تعالى (وممن حولكم من الأعراب منافقون ـ الآية إلى قوله ـ سنعذبهم مرتين) قال الحسن وقتادة في الدنيا وفي القبر (ثم يردون إلى عذاب عظيم) وهو عذاب جهنم وقال ابن عباس في الدنيا بالفضيحة لأن النبي صلى الله عليه وسلّم ذكر رجالا منهم بأعيانهم والأخرى في القبر وقال مجاهد بالقتل والسبي والجوع وقوله تعالى (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم) والاعتراف الإقرار بالشيء عن معرفة لأن الإقرار من قر الشيء إذا ثبت والاعتراف من المعرفة وإنما ذكر الاعتراف بالخطيئة عند التوبة لأن تذكر قبح الذنب أدعى إلى إخلاص التوبة منه وأبعد من حال ما يدعى إلى التوبة ممن لا يدرى ما هو ولا يعرف موقعه من الضرر فأصح ما يكون من التوبة أن تقع مع الاعتراف بالذنب ولذلك حكى الله تعالى عن آدم وحواء عند توبتهما (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) وإنما قال (عسى الله أن يتوب عليهم) ليكونوا بين الطمع والإشفاق فيكونوا أبعد من الاتكال والإهمال وقال الحسن عسى من الله واجب وفي هذه الآية دلالة على أن المذنب لا يجوز له اليأس من التوبة وإنما يعرض ما دام يعمل مع الشر خير لقوله تعالى (خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا) وإنه متى كان للمذنب رجوع إلى الله في فعل الخير وإن كان مقيما على الذنب إنه مرجو الصلاح مأمون خير العاقبة وقال الله تعالى (ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) فالعبد وإن عظمت ذنوبه فغير جائز له الانصراف عن الخير يائسا من قبول توبته لأن التوبة

٣٥٤

مقبولة ما بقي في حال التكليف فأما من عظمت ذنوبه وكثرت مظالمه وموبقاته فأعرض عن فعل الخير والرجوع إلى الله تعالى يائسا من قبول توبته فإنه يوشك أن يكون ممن قال الله عز وجل (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون).

وروى أن الحسن بن على قال لحبيب بن مسلمة الفهري وكان من أصحاب معاوية رب مسير لك في غير طاعة الله فقال أما مسيري إلى أبيك فلا فقال الحسن بلى ولكنك اتبعت معاوية على عرض من الدنيا يسير والله لئن قام بك معاوية في دنياك لقد قعد بك في دينك ولو كنت إذ فعلت شرا قلت خيرا كنت ممن قال الله (خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم) ولكنك أنت ممن قال الله (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) وهذه الآية نزلت في نفر تخلفوا عن تبوك قال ابن عباس كانوا عشرة فيهم أبو لبابة بن عبد المنذر فربط سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد إلى أن نزلت توبتهم وقيل سبعة فيهم أبو لبابة قوله تعالى (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) ظاهره رجوع الكناية إلى المذكورين قبله وهم الذين اعترفوا بذنوبهم لأن الكناية لا تستغني عن مظهر مذكور قد تقدم ذكره في الخطاب فهذا هو ظاهر الكلام ومقتضى اللفظ وجائز أن يريد به جميع المؤمنين وتكون الكناية جميعا لدلالة الحال عليه كقوله تعالى (إنا أنزلناه في ليلة القدر) يعنى القرآن وقوله (ما ترك على ظهرها من دابة) وهو يعنى الأرض وقوله (حتى توارت بالحجاب) يعنى الشمس فكنى عن هذه الأمور من غير ذكرها مظهرة في الخطاب لدلالة الحال عليها كذلك قوله (خذ من أموالهم صدقة) يحتمل أن يريد به أموال المؤمنين وقوله (تطهرهم وتزكيهم بها) يدل على ذلك فإن كانت الكناية عن المذكورين في الخطاب من المعترفين بذنوبهم فإن دلالته ظاهرة على وجوب الأخذ من سائر المسلمين لاستواء الجميع في أحكام الدين إلا ما خصه الدليل وذلك لأن كل حكم حكم الله ورسوله به في شخص أو على شخص من عباده أو غيرها فذلك الحكم لازم في سائر الأشخاص إلا قام دليل التخصيص فيه وقوله تعالى (تطهرهم) يعنى إزالة نجس الذنوب بما يعطى من الصدقة وذلك لأنه لما أطلق اسم النجس على الكفر تشبيها له بنجاسة الأعيان أطلق في مقابلته وإزالته اسم التطهير كتطهير نجاسة الأعيان بإزالتها وكذلك حكم الذنوب في إطلاق اسم النجس عليها وأطلق اسم التطهير على إزالتها بفعل ما يوجب تكفيرها

٣٥٥

فأطلق اسم التطهير عليهم بما يأخذه النبي صلّى الله عليه وسلّم من صدقاتهم ومعناه أنهم يستحقون ذلك بأدائها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه لو لم يكن إلا فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم في الأخذ لما استحقوا التطهير لأن ذلك ثواب لهم على طاعتهم وإعطائهم الصدقة وهم لا يستحقون التطهير ولا يصيرون أزكياء بفعل غيرهم فعلمنا أن في مضمونه إعطاء هؤلاء الصدقة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فلذلك صاروا بها أزكياء متطهرين وقد اختلف في مراد الآية هل هي الزكاة المفروضة أو هي كفارة الذنوب التي أصابوها فروى عن الحسن أنها ليست بالزكاة المفروضة وإنما هي كفارة الذنوب التي أصابوها وقال غيره هي الزكاة المفروضة والصحيح أنها الزكوات المفروضات إذ لم يثبت أن هؤلاء القوم أوجب الله عليهم صدقة دون سائر الناس سوى زكوات الأموال وإذا لم يثبت بذلك خبر فالظاهر أنهم وسائر الناس سواء في الأحكام والعبادات وإنهم غير مخصوصين بها دون غيرهم من الناس ولأنه إذا كان مقتضى الآية وجوب هذه الصدقة على سائر الناس لتساوى الناس في الأحكام إلا من خصه دليل فالواجب أن تكون هذه الصدقة واجبة على جميع الناس غير مخصوص بها قوم دون قوم وإذا ثبت ذلك كانت هي الزكاة المفروضة إذ ليس في أموال سائر الناس حق سوى الصدقات المفروضة وقوله (تطهرهم وتزكيهم بها) لا دلالة فيه على أنها صدقة مكفرة للذنوب غير الزكاة المفروضة لأن الزكاة أيضا تطهر وتزكى مؤديها وسائر الناس من المكلفين محتاجون إلى ما يطهرهم ويزكيهم وقوله (خذ من أموالهم) عموم في سائر الأصناف ومقتض لأجل البعض منها إذ كانت من مقتضى التبعيض وقد دخلت على عموم الأموال فاقتضت إيجاب الأخذ من سائر أصناف الأموال بعضها ومن الناس من يقول إنه متى أخذ من صنف واحد فقد قضى عهدة الآية والصحيح عندنا هو الأول وكذلك كان يقول شيخنا أبو الحسن الكرخي قال أبو بكر وقد ذكر الله تعالى إيجاب فرض الزكاة في مواضع من كتابه بلفظ مجمل مفتقر إلى البيان في المأخوذ والمأخوذ منه ومقادير الواجب والموجب فيه ووقته وما يستحقه وما ينصرف فيه فكان لفظ الزكاة مجمل في هذه الوجوه كلها وقال تعالى (خذ من أموالهم صدقة) فكان الإجمال في لفظ الصدقة دون لفظ الأموال لأن الأموال اسم عموم في مسمياته إلا أنه قد ثبت أن المراد خاص في بعض الأموال دون جميعها والوجوب في وقت من الزمان دون سائره ونظيره قوله تعالى (فى أموالهم حق معلوم للسائل

٣٥٦

والمحروم) وكان مراد الله تعالى في جميع ذلك موكولا إلى بيان الرسول صلّى الله عليه وسلّم وقال تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن بشار قال حدثني محمد بن عبد الله الأنصارى قال حدثنا صرد بن أبى المنازل قال سمعت حبيبا المالكي قال قال رجل لعمران بن حصين يا أبا نجيد إنكم لتحدثوننا بأحاديث ما نجد لها أصلا في القرآن فغضب عمران وقال للرجل أوجدتم في كل أربعين درهما درهما ومن كل كذا وكذا شاة شاة ومن كذا وكذا بعيرا كذا وكذا أوجدتم هذا في القرآن قال لا قال فعمن أخذتم هذا أخذتموه عنا وأخذناه عن نبي الله صلى الله عليه وسلّم وذكر أشياء نحو هذا فمما نص الله تعالى عليه من أصناف الأموال التي تجب فيها الزكاة الذهب والفضة بقوله (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) فنص على وجوب الحق فيهما بأخص أسمائها تأكيدا وتبيينا ومما نص عليه زكاة الزرع والثمار في قوله (وهو الذي أنشأ جنات معروشات ـ إلى قوله ـ كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده) فالأموال التي تجب فيها الزكاة الذهب والفضة وعروض التجارة والإبل والبقر والغنم السائمة والزرع والثمر على اختلاف من الفقهاء في بعض ذلك وقد ذكر بعض صدقة الزرع والثمر في سورة الأنعام وأما المقدار فإن نصاب الورق مائتا درهم ونصاب الذهب عشرون دينارا وقد روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلّم وأما الإبل فإن نصابها خمس منها ونصاب الغنم أربعون شاة ونصاب البقر ثلاثون وأما المقدار الواجب ففي الذهب والفضة وعروض التجارة ربع العشر إذا بلغ النصاب وفي خمس من الإبل شاة وفي أربعين شاة شاة وفي ثلاثين بقرة تبيع وقد اختلف في صدقة الخيل وسنذكره بعد هذا إن شاء الله وأما الوقت فهو حول الحول على المال مع كمال النصاب في ابتداء الحول وآخره وأما من تجب عليه فهو أن يكون المالك حرا بالغا عاقلا مسلما صحيح الملك لا دين عليه يحيط بماله أو بما لا يفضل عنه مائتا درهم حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي قال قرأت على مالك بن أنس عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه قال سمعت أبا سعيد الخدري يقول قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليس فيما دون خمس ذود صدقة وليس فيما دون خمس أواق صدقة وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سليمان بن داود المهري قال أخبرنا ابن

٣٥٧

وهب قال أخبرنى جرير بن حازم عن أبى إسحاق عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعور عن على بن أبى طالب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال فإذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم وليس عليك شيء في الذهب حتى يكون لك عشرون دينارا فإذا كانت لك عشرون دينارا وحال عليها الحول ففيها نصف دينار وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول وهذا الخبر في الحول وإن كان من أخبار الآحاد فإن الفقهاء قد تلقته بالقبول واستعملوه فصار في حيز المتواتر المواجب للعلم وقد روى عن ابن عباس في رجل ملك نصابا أنه يزكيه حين يستفيده وقال أبو بكر وعلى وعمر وابن عمر وعائشة لا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول ولما اتفقوا على أنه لا زكاة عليه بعد الأداء حتى يحول عليه الحول علمنا أن وجوب الزكاة لم يتعلق بالملك دون الحول وأنه بهما جميعا يجب وقد استعمل ابن عباس خبر الحول بعد الأداء ولم يفرق النبي صلّى الله عليه وسلّم بينه قبل الأداء وبعده بل نفى إيجاب الزكاة في سائر الأموال نفيا عاما إلا بعد حول الحول فوجب استعماله في كل نصاب قبل الأداء وبعده ومع ذلك يحتمل أن لا يكون ابن عباس أراد إيجاب الأداء بوجود ملك النصاب وأنه أراد جواز تعجيل الزكاة لأنه ليس في الخبر ذكر الوجوب واختلف فيما زاد على المائتين من الورق فروى عن على وابن عمر فيما زاد على المائتين بحسابه وهو قول أبى يوسف ومحمد ومالك والشافعى وروى عن عمر أنه لا شيء في الزيادة حتى تبلغ أربعين درهما وهو قول أبى حنفية ويحتج من اعتبر الزيادة أربعين بما روى عبد الرحمن ابن غنم عن معاذ بن جبل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وليس فيما زاد على المائتي درهم شيء حتى يبلغ أربعين درهما وحديث على عن النبي صلّى الله عليه وسلّم هاتوا زكاة الرقة من كل أربعين درهما درهما وليس فيما دون خمس أواق صدقةفوجب استعمال قوله في كل أربعين درهم درهما على أنه جعله مقدار الواجب فيه كقوله صلّى الله عليه وسلّم وإذا كثرت الغنم ففي كل مائة شاة شاة ويدل عليه من جهة النظر أن هذا مال له نصاب في الأصل فوجب أن يكون له عفو بعد النصاب كالسوائم ولا يلزم أبا حنيفة ذلك في زكاة الثمار لأنه لا نصاب له في الأصل عنده وأبو يوسف ومحمد لما كان عندهما أن لزكاة الثمار نصابا في الأصل ثم لم يجب اعتبار مقدار بعده بل الواجب في القليل والكثير كذلك الدراهم والدنانير ولو سلم لهما ذلك كان قياسه على السوائم أولى منه على الثمار لأن السوائم يتكرر وجوب الحق فيها بتكرر السنين

٣٥٨

وما تخرج الأرض لا يجب فيه الحق إلا مرة واحدة ومرور الأحوال لا يوجب تكرار وجوب الحق فيه فإن قيل فواجب أن يكون ما يتكرر وجوب الحق فيه أولى بوجوبه في قليل ما زاد على النصاب وكثيره مما لا يتكرر وجوب الحق فيه قيل له هذا منتقض بالسوائم لأن الحق يتكرر وجوبه فيها ولم يمنع ذلك اعتبار العفو بعد النصاب ومما يدل على أن قياسه على السوائم أولى من قياسه على ما تخرجه الأرض أن الدين لا يسقط العشر وكذلك موت رب الأرض ويسقط زكاة الدراهم والسوائم فكان قياسها عليها أولى منه على ما تخرجه الأرض واختلف فيما زاد من البقر على أربعين فقال أبو حنيفة فيما زاد بحسابه وقال أبو يوسف ومحمد لا شيء فيه حتى يبلغ ستين وروى أسد بن عمر عن أبى حنيفة مثل قولهما وقال ابن أبى ليلى ومالك والثوري والأوزاعى والليث والشافعى كقول أبى يوسف ومحمد ويحتج لأبى حنيفة بقوله تعالى (خذ من أموالهم صدقة) وذلك عموم في سائر الأموال لا سيما وقد اتفق الجميع على أن هذا المال داخل في حكم الآية مراد بها فوجب في القليل والكثير بحق العموم وقد روى عنه الحسن بن زياد أنه لا شيء في الزيادة حتى تبلغ خمسين فتكون فيها مسنة وربع مسنة ويحتج لقوله المشهور أنه لا يخلو من إثبات الوقص تسعا فينتقل إليه بالكسر وليس ذلك في فروض الصدقات أو يجعل الوقص تسعة عشر فيكون خلاف أوقاص البقر فلما بطل هذا وهذا ثبت القول الثالث وهو إيجابه في القليل والكثير من الزيادة وروى عن سعيد بن المسيب وأبى قلابة والزهري وقتادة إنهم كانوا يقولون في خمس من البقر شاة وهو قول شاذ لاتفاق أهل العلم على خلافه وورود الآثار الصحيحة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ببطلانه وروى عاصم بن ضمرة عن على في خمس وعشرين من الإبل خمس شياه وقد أنكره سفيان الثوري وقال على أعلم من أن يقول هذا هذا من غلط الرجال وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بالآثار المتواترة أن فيها ابنة مخاض ويجوز أن يكون على بن أبى طالب أخذ خمس شياه عن قيمة بنت مخاض فظن الراوي أن ذلك فرضها عنه واختلف في الزيادة على العشرين ومائة من الإبل فقال أصحابنا جميعا تستقبل الفريضة وهو قول الثوري وقال ابن القاسم عن مالك إذا زادت على عشرين ومائة واحدة فالمصدق بالخيار إن شاء أخذ ثلاث بنات لبون وإن شاء حقتين وقال ابن شهاب إذا زادت واحدة ففيها ثلاث بنات لبون إلى أن

٣٥٩

تبلغ ثلاثين ومائة فتكون فيها حقة وابنتا لبون يتفق قول ابن شهاب ومالك في هذا ويختلفان فيما بين واحد وعشرين ومائة إلى تسع وعشرين ومائة وقال الأوزاعى والشافعى ما زاد على العشرين والمائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة قال أبو بكر قد ثبت عن على رضى الله عنه من مذهبه استئناف الفريضة بعد المائة والعشرين بحيث لا يختلف فيه وقد ثبت عنه أيضا أنه أخذ أسنان الإبل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين سئل فقيل له هل عندكم شيء من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال ما عندنا إلا ما عند الناس وهذه الصحيفة فقيل له وما فيها فقال فيها أسنان الإبل أخذتها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولما ثبت قول على باستئناف الفريضة وثبت أنه أخذ أسنان الإبل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم صار ذلك توقيفا لأنه لا يخالف النبي صلّى الله عليه وسلّم وأيضا قد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في الكتاب الذي كتبه لعمرو بن حزم استئناف الفريضة بعد المائة والعشرين وأيضا غير جائز إثبات هذا الضرب من المقادير إلا من طريق التوقيف أو الاتفاق فلما اتفقوا على وجوب الحقتين في المائة والعشرين عند الزيادة لم يجز لنا إسقاط الحقتين لأنهما فرض قد ثبت بالنقل المتواتر واتفاق الأمة إلا بتوقيف أو اتفاق فإن قيل روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في آثار كثيرة وإذا زادت الإبل على مائة وعشرين ففي كل خمسين حقة وفي كل أربعين ابنة لبون قيل له قد اختلفت ألفاظه فقال في بعضها وإذا كثرت الإبل ومعلوم أن الإبل لا تكثر بزيادة الواحدة فعلم أنه لم يرد بقوله وإذا زادت الإبل إلا زيادة كثيرة يطلق على مثلها أن الإبل قد كثرت بها ونحن قد نوجب ذلك عند ضرب من الزيادة الكثيرة وهو أن تكون الإبل مائة وتسعين فتكون فيها ثلاث حقاق وبنت لبون وأيضا فموجب تغيير الفرض بزيادة الواحد لا يخلو من يغيره بالواحدة الزائدة فيوجب فيها وفي الأصل أو يغيره فيوجب في المائة والعشرين ولا يوجب في الواحدة الزائدة شيئا فإن أوجب في الزيادة مع الأصل ثلاث بنات لبون فهو لم يوجب في الأربعين ابنة لبون وإنما أوجبها في أربعين وفي الواحدة وذلك خلاف قوله صلّى الله عليه وسلّم وإن كان إنما يوجب تغيير الفرض بالواحدة فيجعل ثلاث بنات لبون في المائة والعشرين والواحدة عفو فقد خالف الأصول إذ كان العفو لا يغير الفرض واختلف في فرائض الغنم فقال أصحابنا ومالك والثوري والأوزاعى والليث والشافعى في مائتين وشاة ثلاث شياه إلى أربعمائة فتكون فيها أربع شياه وقال

٣٦٠