أحكام القرآن - ج ٤

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٧

ظاهر الآية أخبار روى موسى بن عبيدة قال حدثني عمران بن أبى أنس عن مالك بن أوس بن الحدثان عن أبى ذر قال سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول في الإبل صدقتها من جمع دينارا أو درهما أو تبرأ أو فضة لا يعده لغريم ولا ينفقه في سبيل الله فهي كي يكوى بها يوم القيامة قال قلت أنظر ما يجيء عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإن هذه الأموال قد فشت في الناس فقال أما تقرأ القرآن (والذين يكنزون الذهب والفضة) الآية فاقتضى ظاهره أن في الإبل صدقتها لا جميعها وهي الصدقة المفروضة وفي الذهب والفضة إخراج جميعهما وكذلك كان مذهب أبى ذر رحمة الله عليه أنه لا يجوز ادخار الذهب والفضة وروى محمد ابن عمر عن أبى سلمة عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا يمر على ثلاثة وعندي منه شيء أن لا أجد أحدا يقبله منى صدقة إلا أن أرصده لدين على فذكر في هذا الحديث أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يحب ذلك لنفسه واختار إنفاقه ولم يذكر وعيد تارك إنفاقه وروى قتادة عن شهر بن حوشب عن أبى أمامة قال توفى رجل من أهل الصفة فوجد معه دينار فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم كية وجائز أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم علم أنه أخذ الدينار من غير حله أو منعه من حقه أو سأله غيره بإظهار الفاقة مع غناه عنه كما روى عنه صلّى الله عليه وسلّم من سأل عن ظهر غنى فإنما يستكثر من جمر جهنم فقلنا وما غناه يا رسول الله قال أن يكون عند أهله ما يغديهم ويعشيهم وكان ذلك في وقت شدة الحاجة وضيق العيش ووجوب المواساة من بعضها لبعض وقد روى عن عمر بن عبد العزيز أنها منسوخة بقوله تعالى (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم) قال أبو بكر قد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بالنقل المستفيض إيجابه في مائتي درهم خمسة دراهم وفي عشرين دينارا نصف دينار كما أوجب فرائض المواشي ولم يوجب الكل فلو كان إخراج الكل واجبا من الذهب والفضة لما كان للتقدير وجه وأيضا فقد كان في الصحابة قوم ذوو يسار ظاهر وأموال جمة مثل عثمان وعبد الرحمن بن عوف وعلم النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك منهم فلم يأمرهم بإخراج الجميع فثبت أن إخراج الجميع الذهب والفضة غير واجب وأن المفروض إخراجه هو الزكاة إلا أن تحدث أمور توجب المواساة والإعطاء نحو الجائع المضطر والعاري المضطر أو ميت ليس له من يكفنه أو يواريه وقد روى شريك عن أبى حمزة عن عامر عن فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال في المال حق سوى الزكاة وتلا قوله تعالى (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل

٣٠١

المشرق والمغرب) الآية وقوله تعالى (ولا ينفقونها في سبيل الله) يحتمل أن يريد به ولا ينفقون منها فحذف من وهو يريدها وقد بينه بقوله (خذ من أموالهم صدقة) فأمر بأخذ بعض المال لا جميعه وليس في ذلك ما يوجب نسخ الأول إذ جائز أن يكون مراده ولا ينفقون منها وأما الكنز فهو في اللغة كبس الشيء بعضه على بعض قال الهذلي :

لا در درى إن أطعمت نازلكم

قرف الحتى وعندي البر مكنوز

ويقال كنزت التمر إذا كبسته في القوصرة وهو في الشرع لما لم يؤد زكاته وروى عن عمر وابن عباس وابن عمر والحسن وعامر والسدى قالوا ما لم يؤد زكاته فهو كنز فمنهم من قال وإن كان ظاهرا وما أدى زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا ومعلوم أن أسماء الشرع لا تؤخذ إلا توقيفا فثبت أن الكنز اسم لما لم يؤد زكاته المفروضة وإذا كان كذلك كان تقدير قوله (والذين يكنزون الذهب والفضة) الذين لا يؤدون زكاة الذهب والفضة ولا ينفقونها يعنى الزكاة في سبيل الله فلم تقتض الآية إلا وجوب الزكاة فحسب وقد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبى شيبة حدثنا يحيى بن يعلى المحاربي حدثنا أبى حدثنا غيلان عن جعفر بن إياس عن مجاهد عن ابن عباس قال لما نزلت هذه الآية (والذين يكنزون الذهب والفضة) كبر ذلك على المسلمين فقال عمر أنا أفرج عنكم فانطلق فقال يا نبي الله إنه كبر على أصحابك هذه الآية فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم قال فكبر عمر ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته فأخبر في هذا الحديث أن المراد إنفاق بعض المال لا جميعه وأن قوله (والذين يكنزون) المراد به منع الزكاة وروى ابن لهيعة قال حدثنا دراج عن أبى الهيثم عن أبى سعيد قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت الحق الذي يجب عليك فأخبر في هذا الحديث أيضا أن الحق الواجب في المال هو الزكاة وروى سهيل بن أبى صالح عن أبيه عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما من صاحب كنز لا يؤدى زكاة كنزه إلا جيء به يوم القيامة وبكنزه فيحمى به جنبه وجبينه حتى يحكم الله بين عباده فأخبر في هذا الحديث أن الحق الواجب في الكنز هو الزكاة دون غيره وإنه لا يجب جميعه وقوله فيحمى بها جنبه وجبهته يدل على أنه أراد معنى قوله

٣٠٢

(والذين يكنزون الذهب والفضة ـ إلى قوله ـ فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم) يعنى لم تؤدوا زكاته وحدثنا عبد الباقي حدثنا بشر بن موسى حدثنا عبد الله بن صالح حدثنا عبد العزيز بن أبى سلمة الماجشون عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن الذي لا يؤدى زكاته يمثل له شجاع أقرع له زبيبتان يلزمه أو يطوقه فيقول أنا كنزك أنا كنزك فأخبر أن المال الذي لا تؤدى زكاته هو الكنز ولما ثبت بما وصفنا أن قوله (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) مراده منع الزكاة أوجب عمومه إيجاب الزكاة في سائر الذهب والفضة إذ كان الله إنما علق الحكم فيهما بالاسم فاقتضى إيجاب الزكاة فيهما بوجود الاسم دون الصنعة فمن كان عنده ذهب مصوغ أو مضروب أو تبر أو فضة كذلك فعليه زكاته بعموم اللفظ ويدل أيضا على وجوب ضم الذهب إلى الفضة لإيجابه الحق فيهما مجموعين في قوله (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) وقد اختلف الفقهاء في زكاة الحلي فأوجب أصحابنا فيه الزكاة وروى مثله عن عمرو ابن مسعود رواه سفيان الثوري عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود وروى عن جابر وابن عمر وعائشة لا زكاة في الحلي وهو قول مالك والشافعى وروى عن أنس بن مالك أن الحلي تزكى مرة واحدة ولا تزكى بعد ذلك وقد ذكرنا وجه دلالة الآية على وجوبها في الحلي لشمول الاسم له* وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم آثار في إيجاب زكاة الحلي منها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى امرأتين في أيديهما سواران من ذهب فقال أتعطين زكاة هذا قالت لا قال أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار فأوجب الزكاة في السوار وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عيسى قال حدثنا عتاب عن ثابت بن عجلان عن عطاء عن أم سلمة قالت كنت ألبس أوضاحا من ذهب فقلت يا رسول الله أكنز هو فقال ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكى فليس بكنز وقد حوى هذا الخبر معنيين أحدهما وجوب زكاة الحلي والآخر أن الكنز ما لم تؤد زكاته وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن إدريس الرازي حدثنا عمرو بن الربيع بن طارق حدثنا يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن أبى جعفر أن محمد بن عمرو بن عطاء أخبره عن عبد الله ابن شداد بن الهاد أنه قال دخلنا على عائشة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت دخل على رسول الله

٣٠٣

صلى الله عليه وسلّم فرأى في يدي فتحات من ورق فقال ما هذا يا عائشة فقلت صنعتهن أتزين لك يا رسول الله قال أتؤدين زكاتهن قلت لا أو ما شاء الله قال هو حسبك من النار فانتظم هذا الخبر معنيين أحدهما وجوب زكاة الحلي والآخر أن المصوغ يسمى ورقا لأنها قالت فتحات من ورق فاقتضى ظاهر قوله في الرقة ربع العشر إيجاب الزكاة في الحلي لأن الرقة والورق واحد ويدل عليه من جهة النظر أن الذهب والفضة يتعلق وجوب الزكاة فيهما بأعيانهما في ملك من كان من أهل الزكاة لا بمعنى ينضم إليهما والدليل عليه أن النقر والسبائك تجب فيهما الزكاة وإن لم تكن مرصدة للنماء وفارقا بهذا غيرهما من الأموال لأن غيرهما لا تجب الزكاة فيهما بوجود الملك إلا أن تكون مرصدة للنماء فوجب أن لا يختلف حكم المصوغ والمضروب وأيضا لم يختلفوا أن الحلي إذا كان في ملك الرجل تجب فيه الزكاة فكذلك إذا كان في ملك المرأة كالدراهم والدنانير وأيضا لا يختلف حكم الرجل والمرأة فيما يلزمهما من الزكاة فوجب أن لا يختلفا في الحلي* فإن قيل الحلي كالنقر* العوامل وثياب البذلة* قيل له قد بينا أن ما عداهما يتعلق وجوب الزكاة فيهما بأن يكون مرصدا للنماء فما لم يوجد هذا المعنى لم تجب والذهب والفضة لأعيانهما بدلالة الدراهم والدنانير والنقر والسبائك إذا أراد بهما القنية والتبقية لا طلب النماء وأيضا لما لم يكن للصنعة تأثير فيهما ولم يغير حكمهما في حال وجب أن لا يختلف الحكم بوجود الصنعة وعدمها* فإن قيل زكاة الحلي عاريته قيل له هذا غلط لأن العارية غير واجبة والزكاة واجبة فبطل أن تكون العارية زكاة وأما قول أنس بن مالك أن الزكاة تجب في الحلي مرة واحدة فلا وجه له لأنه إذا كان من جنس ما تجب فيه الزكاة وجبت في كل حول.

(فصل) وقد دلت الآية على وجوب الزكاة في الذهب والفضة بمجموعهما فاقتضى ذلك وجوب ضم بعضها إلى بعض وقد اختلف الفقهاء في ذلك فقال أصحابنا يضم أحدهما إلى الآخر فإذا كمل النصاب بها زكى واختلف أصحابنا في كيفيته فقال أبو حنيفة يضم بالقيمة كالعروض وقال أبو يوسف ومحمد يضم بالأجزاء وقال ابن أبى ليلى والشافعى لا يضمان وروى الضم عن الحسن وبكير بن عبد الله بن الأشج وقتادة والدليل على وجوب الزكاة فيهما مجموعين قوله تعالى (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) فأوجب الله تعالى فيهما الزكاة مجموعين لأن قوله (ولا ينفقونها) قد

٣٠٤

أراد به إنفاقهما جميعا ويدل على وجوب الضم أنهما متفقان في وجوب الحق فيهما وهو ربع العشر فكانا بمنزلة العروض المختلفة إذا كانت للتجارة لما كان الواجب فيها ربع العشر ضم بعضها إلى بعض مع اختلاف أجناسها وقد قال الشافعى فيمن له مائة درهم وعرض للتجارة يساوى مائة درهم أن الزكاة واجبة عليه فضم العرض إلى المائة مع اختلاف الجنسين لاتفاقهما في وجوب ربع العشر وليس الذهب والفضة كالجنسين من الإبل والغنم لأن زكاتهما مختلفة فإن قيل زكاة خمس من الإبل مثل زكاة أربعين شاة ولم يكن اتفاقهما في الحق الواجب موجبا لضم أحدهما إلى الآخر قيل له لم نقل أن اتفاقهما في المقدار الواجب يوجب ضم أحدهما إلى الآخر وإنما قلنا أن اتفاقهما في وجوب ربع العشر فيهما هو المعنى الموجب للضم كعروض التجارة عند اتفاقهما في وجوب ربع العشر وقت الضم والإبل والغنم ليس الواجب فيهما ربع العشر لأن الشاة ليست ربع العشر من خمس من الإبل ولا ربع العشر من أربعين شاتا أيضا لأنه جائز أن يكون الغنم خيارا ويكون الواجب فيها شاة وسطا فيكون أقل من ربع عشرها فهذا إلزام ساقط فإن احتجوا بقوله صلّى الله عليه وسلّم ليس فيما دون خمس أواق صدقة وذلك يوجب الزكاة فيها سواء كان معها ذهب أو لم يكن قيل له كما لم يمنع قوله ليس فيما دون خمس أواق صدقة وجوب ضم المائة إلى العروض وكان معناه عندك إذا لم يكن معه غيره من العروض كذلك نقول نحن في ضمه إلى الذهب* قوله تعالى (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا ـ إلى قوله ـ حرم) لما قال تعالى في مواضع أخر (الحج أشهر معلومات) وقال (يسئلونك عن الأهلة قل هى مواقيت للناس والحج) فعلق بالشهور كثيرا من مصالح الدنيا والدين وبين في هذه الآية هذه الشهور وإنما تجرى على منهاج واحد لا يقدم المؤخر منها ولا يؤخر المقدم وقال (إن عدة الشهور عند الله) وذلك يحتمل وجهين أحدهما أن الله وضم هذه الشهور وسماها بأسمائها على ما رتبها عليه يوم خلق السموات والأرض وأنزل ذلك على أنبيائه في كتبه المنزلة وهو معنى قوله (إن عدة الشهور عند الله) وحكمها باق على ما كانت عليه لم يزلها عن ترتيبها تغيير المشركين لأسمائها وتقديم المؤخر وتأخير المقدم في الأسماء منها وذكر ذلك لنا لنتبع أمر الله فيها ونرفض ما كان عليه أمر الجاهلية من تأخير أسماء الشهور وتقديمها وتعليق الأحكام على الأسماء التي رتبوها عليها ولذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم

٣٠٥

في حجة الوداع ما رواه ابن عمر وأبو بكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في خطبته بالعقبة أيها الناس إن الزمان قد استدار قال ابن عمر فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وقال أبو بكرة قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وأن النسيء زيادة في الكفر الآية قال ابن عمر وذلك إنهم كانوا يجعلون صفر عاما حراما وعاما حلالا ويجعلون المحرم عاما حلالا وعاما حراما وكان النسيء من الشيطان فأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن الزمان يعنى زمان الشهور قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وأن كل شهر قد عاد إلى الموضع الذي وضعه الله به على ترتيبه ونظامه وقد ذكر لي بعض أولاد بنى المنجم أن جده وهو أحسب محمد بن موسى المنجم الذي ينتمون إليه حسب شهور الأهلة منذ ابتداء خلق الله السموات والأرض فوجدها قد عادت في موقع الشمس والقمر إلى الوقت الذي ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قد عاد إليه يوم النحر من حجة الوداع لأن خطبته هذه كانت بمنى يوم النحر عند العقبة وإنه حسب ذلك في ثماني سنين فكان ذلك اليوم العاشر من ذي الحجة على ما كان عليه يوم ابتداء الشهور والشمس والقمر في ذلك اليوم في الموضع الذي ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قد عاد الزمان إليه مع النسيء بالذي قد كان أهل الجاهلية ينسئون وتغيير أسماء الشهور ولذلك لم تكن السنة التي حج فيها أبو بكر الصديق هي الوقت الذي وضع الحج فيه وإنما قال رجب مضر بين جمادى وشعبان دون رمضان الذي يسميه ربيعة رجب وأما الوجه الآخر في معنى قوله (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله) فهو أن الله قسم الزمان اثنى عشر قسما فجعل نزول الشمس في كل برج من البروج الإثنى عشر قسما منها فيكون قطعها للفلك في ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وربع يوم فيجيء نصيب كل قسم منها بالأيام ثلاثين يوما وكسر قسم الأزمنة أيضا على مسير القمر فصار القمر يقطع الفلك في تسعة وعشرين يوما ونصف يوم وجعل السنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوما وربع يوم فكان قطع الشمس للبرج مقاربا لقطع القمر للفلك كله وهذا معنى قوله تعالى (الشمس والقمر بحسبان) وقال تعالى (وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب) فلما

٣٠٦

كانت السنة مقسومة على نزول الشمس في البروج الإثنى عشر وكان شهورها اثنى عشر واختلفت السنة الشمسية والقمرية في البروج الإثنى عشر وكانت شهورها اثنى عشر واختلفت السنة الشمسية والقمرية في الكسر الذي بينهما وهو أحد عشر يوما بالتقريب وكانت شهور القمر ثلاثين وتسعة وعشرين فيما يتعلق بها من أحكام الشرع ولم يكن لنصف اليوم الذي هو زيادة على تسعة وعشرين يوما حكم فكان ذلك هو القسمة التي قسم الله تعالى السنة في ابتداء وضع الخلق ثم غيرت الأمم العادلة عن كثير من شرائع الأنبياء هذا الترتيب فكانت شهور الروم بعضها ثمانية وعشرين وبعضها ثمانية وعشرين ونصفا وبعضها واحدا وثلاثين وذلك على خلاف ما أمر الله تعالى من اعتبار الشهور في الأحكام التي تتعلق بها ثم كانت الفرس شهورها ثلاثين إلا شهرا واحدا وهو بادماه فإنه خمسة وثلاثون ثم كانت تكبس في كل مائة وعشرين سنة شهرا كاملا فتصير السنة ثلاثة عشر أخبر الله تعالى أن عدة شهور السنة اثنا عشر شهرا لا زيادة فيها ولا نقصان وهي الشهور القمرية التي إما أن تكون تسعة وعشرين وإما أن تكون ثلاثين ولذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم الشهر تسع وعشرون والشهر ثلاثون وقال صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين فجعل الشهر برؤية الهلال فإن اشتبه لغمام أو قترة فثلاثون فأعلمنا الله بقوله (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض) يعنى إن عدة شهور السنة اثنا عشر شهرا لا زيادة عليها وأبطل به الكبيسة التي كانت تكبسها الفرس فتجعلها ثلاثة عشر شهرا في بعض السنة وأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن انقضاء الشهور برؤية الهلال فتارة تسعة وعشرون وتارة ثلاثون فأعلمنا الله في هذه الآية أنه كذلك وضع الشهور والسنين في ابتداء الخلق أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم عود الزمان إلى ما كان عليه وأبطل به ما غيره المشركون من ترتيب الشهور ونظامها وما زاد به في السنين والشهور وإن الأمر قد استقر على ما وضعه الله تعالى في الأصل لما علم تبارك وتعالى من تعلق مصالح الناس في عبادتهم وشرائعهم بكون الشهور والسنين على هذا الوجه فيكون الصوم تارة في الربيع وتارة في الصيف وأخرى في الخريف وأخرى في الشتاء وكذلك الحج لعلمه بالمصلحة في ذلك* وقد روى في الخبر أن صوم النصارى كان كذلك فلما رأوه يدور في بعض السنين إلى الصيف اجتمعوا إلى أن نقلوه إلى زمان الربيع وزادوا في

٣٠٧

العدد وتركوا ما تعبدوا به من اعتبار شهور القمر مطلقة على ما يتفق من وقوعها في الأزمان وهذا ونحوه مما ذمهم الله تعالى به وأخبر أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله في اتباعهم أوامرهم واعتقادهم وجوبها دون أوامر الله تعالى فضلوا وأضلوا وقوله تعالى (منها أربعة حرم) وهي التي بينها النبي صلّى الله عليه وسلّم بأنها ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب والعرب تقول ثلاثة سرد وواحد فرد وإنما سماها حرما لمعنيين أحدهما تحريم القتال فيها وقد كان أهل الجاهلية أيضا يعتقدون تحريم القتال فيها وقال الله تعالى (يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير) والثاني تعظيم انتهاك المحارم فيها بأشد من تعظيمه في غيرها وتعظيم الطاعات فيها أيضا وإنما فعل الله تعالى ذلك لما فيه من المصلحة في ترك الظلم فيها لعظم منزلتها في حكم الله والمبادرة إلى الطاعات من الاعتمار والصلاة والصوم وغيرها كما فرض صلاة الجمعة في يوم بعينه وصوم رمضان في وقت معين وجعل بعض الأماكن في حكم الطاعات ومواقعة المحظورات أعظم من حرمة غيره نحو بيت الله الحرام ومسجد المدينة فيكون ترك الظلم والقبائح في هذه الشهور والمواضع داعيا إلى تركها في غيره ويصير فعل الطاعات والمواظبة عليها في هذه الشهور وهذه المواضع الشريفة داعيا إلى فعل أمثالها في غيرها للمرور والاعتياد وما يصحب الله العبد من توفيقه عند إقباله إلى طاعته وما يلحق العبد من الخذلان عند إكبابه على المعاصي واشتهاره وأنسه بها فكان في تعظيم بعض الشهور وبعض الأماكن أعظم المصالح في الاستدعاء إلى الطاعات وترك القبائح ولأن الأشياء تجر إلى أشكالها وتباعد من أضدادها فالاستكثار من الطاعة يدعو إلى أمثالها والاستكثار من المعصية يدعو إلى أمثالها قوله تعالى (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) الضمير في قوله (فيهن) عند ابن عباس راجع إلى الشهور وقال قتادة هو عائد إلى الأربعة الحرم وقوله (وقاتلوا المشركين كافة) يحتمل وجهين أحدهما الأمر بقتال سائر أصناف أهل الشرك إلا من اعتصم منهم بالذمة وأداء الجزية على ما بينه في غير هذه الآية والآخر الأمر بأن تقاتلهم مجتمعين متعاضدين غير متفرقين ولما احتمل الوجهين كان عليهما إذ ليسا متنافيين فتضمن ذلك الأمر بالقتال لجميع المشركين وأن يكونوا مجتمعين متعاضدين على القتال وقوله (كما يقاتلونكم كافة) يعنى أن جماعتهم يرون ذلك فيكم ويعتقدونه ويحتمل كما يقاتلونكم مجتمعين وهذه الآية في

٣٠٨

معنى قوله (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) متضمنة لرفع العهود والذمم التي كانت بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وبين المشركين وفيها زيادة معنى وهو الأمر بأن نكون مجتمعين في حال قتالنا إياهم قوله تعالى (إنما النسىء زيادة في الكفر) فالنسىء التأخير ومنه البيع بنسيئة وأنسات البيع أخرته و (ما ننسخ من آية أو ننسها) أى نؤخرها ونسئت المرأة إذا حبلت لتأخر حيضها ونسأت الناقة إذ دفعتها في السير لأنك زجرتها عن التأخر والمنسأة العصا في هذا الموضع ما كانت العرب تفعله من تأخير الشهور فكان يقع الحج في غير وقته واعتقاد حرمة الشهور في غير زمانه فقال ابن عباس كانوا يجعلون المحرم صفرا وقال ابن أبى نجيح وغيره كانت قريش تدخل في كل ستة أشهر أياما يوافقون ذا الحجة في كل ثلاث عشر سنة فوفق الله تعالى لرسوله في حجته استدارة زمانهم كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض فاستقام الإسلام على عدد الشهور ووقف الحج على ذي الحجة* وقال ابن إسحاق كان ملك من العرب يقال له القلمس واسمه حذيفة أول من أنسأ النسيء أنسأ المحرم فكان يحله عاما ويحرمه عاما فكان إذا حرمه كانت ثلاث حرمات متواليات وهي العدة التي حرم الله في عهد إبراهيم صلوات الله عليه فإذا أحله دخل مكانه صفر في المحرم لتواطئ العدة يقول قد أكملت الأربعة كما كانت لأنى لم أحل شهرا إلا قد حرمت مكانه شهرا فحج النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وقد عاد المحرم إلى ما كان عليه في الأصل فأنزل الله تعالى (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا) فأخبر الله أن النسيء الذي كانوا يفعلونه كفر لأن الزيادة في الكفر لا تكون إلا كفرا لاستحلالهم ما حرم الله وتحريمهم ما أحل الله فكان القوم كفارا باعتقادهم الشرك ثم ازدادوا كفرا بالنسيء.

باب فرض النفير والجهاد

قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ـ إلى قوله ـ إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم) اقتضى ظاهر الآية وجوب النفير على من يستنفر وقال في آية بعدها (انفروا خفافا وثقالا) فأوجب النفير مطلقا غير مقيد بشرط الاستنفار فاقتضى ظاهره وجوب الجهاد على كل مستطيع له وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد

٣٠٩

قال حدثنا أبو اليمان وحجاج كلاهما عن جرير بن عثمان عن عبد الرحمن بن ميسرة وابن أبى بلال عن راشد الحبرانى أنه وافى المقداد بن الأسود وهو يجهز قال فقلت يا أبا الأسود قد أعذر الله إليك أو قال قد عذرك الله يعنى في القعود عن الغزو فقال أتت علينا سورة براءة انفروا خفافا وثقالا قال أبو عبيد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن ابن سيرين أن أبا أيوب شهد بدرا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ثم لم يتخلف عن غزاة المسلمين إلا عاما واحدا فإنه استعمل على الجيش رجل شاب ثم قال بعد ذلك وما على من استعمل على فكان يقول قال الله (انفروا خفافا وثقالا) فلا أجدنى إلا خفيفا أو ثقيلا وبإسناده قال أبو عبيد حدثنا يزيد عن حماد بن سلمة عن على بن زيد عن أنس بن مالك أن أبا طلحة قرأ هذه الآية (انفروا خفافا وثقالا) قال ما أرى الله إلا يستنفرنا شبانا وشيوخا جهزوني فجهزناه فركب البحر ومات في غزاته تلك فما وجدنا له جزيرة تدفنه فيها أو قال يدفنونى فيها إلا بعد سابعه قال أبو عبيد حدثنا حجاج عن أبى جريج عن مجاهد في هذه الآية قال قالوا فينا الثقيل وذو الحاجة والصنعة والمنتشر عليه أمره قال الله تعالى (انفروا خفافا وثقالا) فتأول هؤلاء هذه الآية على فرض النفير ابتداء وإن لم يستنفروا والآية الأولى يقتضى ظاهرها وجوب فرض النفير إذا استنفروا وقد ذكر في تأويله وجوه أحدها أن ذلك كان في غزوة تبوك لما ندب إليه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم الناس إليها فكان النفير مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فرضا على من استنفر وهو مثل قوله (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه) قالوا وليس كذلك حكم النفير مع غيره وقيل إن هذه الآية منسوخة حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن محمد المروزى قال حدثنا على بن الحسين عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم) و (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله) نسختها الآية التي تليها (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) وقال آخرون ليس في واحدة منهما نسخ وحكمهما ثابت في حالين فمتى لم يقاوم أهل الثغور العدو واستنفروا ففرض على الناس النفير إليهم حتى يسيحوا الثغور وإن استغنى عنهم باكتفائهم بمن هناك سواء استنفروا أو لم يستنفروا ومتى قام الذين في وجه العدو بفرض الجهاد واستغنوا بأنفسهم عمن

٣١٠

وراءهم فليس على من وراءهم فرض الجهاد إلا أن يشاء من شاء منهم الخروج للقتال فيكون فاعلا للفرض وإن كان معذورا في القعود بديا لأن الجهاد فرض على الكفاية ومتى قام به بعضهم سقط عن الباقين وقد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبى شيبة قال حدثنا جرير بن منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يوم الفتح مكة لا هجرة ولكن جهاد ونية وإن استنفرتم فانفروا فأمر بالنفير عند الاستنفار وهو موافق لظاهر قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض) وهو محمول على ما ذكرنا من الاستنفار للحاجة إليهم لأن أهل الثغور متى اكتفوا بأنفسهم ولم تكن لهم حاجة إلى غيرهم فليس يكادون يستنفرون ولكن لو استنفرهم الإمام مع كفاية من في وجه العدو من أهل الثغور وجيوش المسلمين لأنه يريد أن يغزو أهل الحرب ويطأ ديارهم فعلى من استنفر من المسلمين أن ينفروا وهذ هو موضع الخلاف بين الفقهاء في فرض الجهاد فحكى عن ابن شبرمة والثوري في آخرين أن الجهاد تطوع وليس بفرض وقالوا (كتب عليكم القتال) ليس على الوجوب بل على الندب كقوله تعالى (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين) وقد روى فيه عن ابن عمر نحو ذلك وإن كان مختلفا في صحة الرواية عنه وهو ما حدثنا جعفر بن محمد بن الحكم قال حدثنا جعفر ابن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا على بن معبد عن أبى المليح الرقى عن ميمون بن مهران قال كنت عند ابن عمر فجاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله عن الفرائض وابن عمر جالس حيث يسمع كلامه فقال الفرائض شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصيام رمضان والجهاد في سبيل الله قال فكان ابن عمر غضب من ذلك ثم قال الفرائض شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصيام رمضان قال ابن اليمان قال حدثنا أبو عبيد حدثنا حجاج عن ابى جريج قال قلت لعطاء أواجب الغزو على الناس فقال هو وعمرو بن دينار ما علمناه وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد ومالك وسائر فقهاء الأمصار إن الجهاد فرض إلى يوم القيامة إلا أنه فرض على الكفاية إذا

٣١١

قام به بعضهم كان الباقون في سعة من تركه وقد ذكر أبو عبيد أن سفيان الثوري كان يقول ليس بفرض ولكن لا يسع الناس أن يجمعوا على تركه ويجزى فيه بعضهم على بعض فإن كان هذا قول سفيان فإن مذهبه أنه فرض على الكفاية وهو موافق لمذهب أصحابنا الذي ذكرناه ومعلوم في اعتقاد جميع المسلمين أنه إذا خاف أهل الثغور من العدو ولم تكن فيهم مقاومة لهم فخافوا على بلادهم وأنفسهم وذراريهم أن الفرض على كافة الأمة أن ينفر إليهم من يكف عاديتهم عن المسلمين وهذا لا خلاف فيه بين الأمة إذا ليس من قول أحد من المسلمين إباحة القعود عنهم حين يستبيحوا دماء المسلمين وسبى ذراريهم ولكن موضع الخلاف بينهم أنه متى كان بإزاء العدو مقاومين له ولا يخافون غلبة العدو عليهم هل يجوز للمسلمين ترك جهادهم حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية فكان من قول ابن عمر وعطاء وعمرو بن دينار وابن شبرمة أنه جائز للإمام والمسلمين أن لا يغزوهم وأن يقعدوا عنهم وقال آخرون على الإمام والمسلمين أن يغزوهم أبدا حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية وهو مذهب أصحابنا ومن ذكرنا من السلف المقداد بن الأسود وأبو طلحة في آخرين من الصحابة والتابعين وقال حذيفة بن اليمان الإسلام ثمانية أسهم وذكر سهما منها الجهاد وحدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج قال قال معمر كان مكحول يستقبل القبلة ثم يحلف عشر أيمان أن الغزو واجب ثم يقول إن شئتم زدتكم وحدثنا جعفر قال حدثنا جعفر حدثنا أبو عبيد حدثنا عن عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن العلاء بن الحارث أو غيره عن ابن شهاب قال كتب الله الجهاد على الناس غزوا أو قعودا فمن قعد فهو عدة إن استعين به أعان وإن استنفر نفر وإن استغنى عنه قعد وهذا مثل قول من يراه فرضا على الكفاية وجائز أن يكون قول ابن عمر وعطاء وعمرو بن دينار في أن الجهاد ليس بفرض يعنون به أنه ليس فرضه متعينا على كل أحد كالصلاة والصوم وأنه فرض على الكفاية والآيات الموجبة لفرض الجهاد كثيرة فمنها قوله تعالى (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) فاقتضى ذلك وجوب قتالهم حتى يجيبوا إلى الإسلام وقال (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم) الآية وقال (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) الآية وقال (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم) وقال (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)

٣١٢

و (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) وقال (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله) وقال (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم) وقال (فانفروا ثبات أو انفروا جميعا) وقال (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب اليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله باموالكم وأنفسكم) فأخبر أن النجاة من عذابه إنما هي بالإيمان بالله ورسوله وبالجهاد في سبيله بالنفس والمال فتضمنت الآية الدلالة على فرض الجهاد من وجهين أحدهما أنه قرنه إلى فرض الإيمان والآخر الإخبار بأن النجاة من عذاب الله به وبالإيمان والعذاب لا يستحق إلا بترك الواجبات وقال (كتب عليكم القتال وهو كره لكم) ومعناه فرض كقوله (كتب عليكم الصيام) فإن قيل هو كقوله (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين) وإنما هي ندب ليست بفرض قيل له قد كانت الوصية واجبة بهذه الآية وذلك قبل فرض الله المواريث ثم نسخت بعد الميراث ومع ذلك فإن حكم اللفظ الإيجاب إلا أن تقوم دلالة للندب ولم تقم الدلالة في الجهاد أنه ندب قال أبو بكر فأكد الله تعالى فرض الجهاد على سائر المكلفين بهذه الآية وبغيرها على حسب الإمكان فقال لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلم (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين) فأوجب عليه فرض الجهاد من وجهين أحدهما بنفسه ومباشرة القتال وحضوره والآخر بالتحريض والحث والبيان لأنه صلّى الله عليه وآله وسلم لم يكن له مال فلم يذكر فيما فرضه عليه إنفاق المال وقال لغيره (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم) فألزم من كان من أهل القتال وله مال فرض الجهاد بنفسه وماله ثم قال في آية أخرى (وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله) فلم يخل من أسقط عنه فرض الجهاد بنفسه وماله للعجز والعدم من إيجاب فرضه بالنصح لله ورسوله فليس أحد من المكلفين إلا وعليه فرض الجهاد عن مراتبه التي وصفنا وقد روى في تأكيد فرضه أخبار كثيرة فمنها ما حدثنا عن عمرو بن حفص السدوسي قال حدثنا عاصم بن على قال حدثنا قيس بن الربيع عن جبلة بن سحيم عن مؤثر بن عفازة عن بشير بن الخصاصية قال أتيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أبايعه فقلت له علام

٣١٣

تبايعني يا رسول الله فمد رسول الله يده فقال على أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وتصلى الصلوات الخمس المكتوبات لوقتهن وتؤدى الزكاة المفروضة وتصوم رمضان وتحج البيت وتجاهد في سبيل الله فقلت يا رسول الله كلا لا أطيق إلا اثنتين إيتاء الزكاء فما لي إلا حمولة أهلى وما يقومون به وأما الجهاد فإنى رجل جبان فأخاف أن تخشع نفسي فأفر فأبوء بغضب من الله فقبض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يده وقال يا بشير لا جهاد ولا صدقة فبم تدخل الجنة فقلت يا رسول الله أبسط يدك فبسط يده فبايعته عليهن وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال حدثنا حجاج قال حدثنا حماد أخبرنا حميد عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم فأوجب الجهاد بكل ما أمكن الجهاد به وليس بعد الإيمان بالله ورسوله فرض آكد ولا أولى بالإيجاب من الجهاد وذلك أنه بالجهاد يمكن إظهار الإسلام وأداء الفرائض وفي ترك الجهاد غلبة العدو ودروس الدين وذهاب الإسلام إلا أن فرضة على الكفاية على ما بينا فإن احتج محتج بما روى عاصم بن زيد بن عبد الله بن عمر عن واقد بن محمد عن أبيه عن ابن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بنى الإسلام على خمس فذكر الشهادتين والصلاة والزكاة والحج وصوم رمضان فذكر هذه الخمس ولم يذكر فيه الجهاد وهذا يدل على أنه ليس بفرض قال أبو بكر وهذا حديث في الأصل موقوف على ابن عمر رواه وهب عن عمر بن محمد عن زيد عن أبيه عن ابن عمر أنه قال وجدت الإسلام بنى على خمس وقوله وجدت دليل على أنه قاله من رأيه وجائز أن يجد غيره ما هو أكثر منه وقول حذيفة بنى الإسلام على ثمانية أسهم أحدها الجهاد يعارض قول ابن عمر* فإن قيل فقد روى عبيد الله بن موسى قال أخبرنا حنظلة بن أبى سفيان قال سمعت عكرمة ابن خافد يحدث طاوسا قال جاء رجل إلى ابن عمر فقال يا أبا عبد الرحمن لا تغزوا فقال إنى سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول بنى الإسلام على خمسة فهذا حديث مستقيم السند مرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قيل له جائز أن يكون إنما اقتصر على خمسة لأنه قصد إلى ذكر ما يلزم الإنسان في نفسه دون ما يكون منه فرضا على الكفاية ألا ترى أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإقامة الحدود وتعلم علوم الدين وغسل الموتى وتكفينهم ودفنهم كلها فروض ولم يذكرها النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فيما بنى عليه الإسلام ولم يخرجه ترك ذكره من أن يكون

٣١٤

فرضا لأنه صلّى الله عليه وآله وسلم إنما قصد إلى بيان ذكر الفروض اللازمة للإنسان في خاصة نفسه في أوقات مرتبة ولا ينوب غيره عنها فيه والجهاد فرض على الكفاية على الحد الذي بينا فلذلك لم يذكره وقد روى ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ما يدل على وجوبه وهو مما لاحدثنا عن عبد الله بن شيروبه قال حدثني إسحاق بن راهويه قال أخبرنا جرير عن ليث بن أبى سليم عن عطاء عن ابن عمر قال لقد أتى علينا زمان وما نرى أن أحدا منا أحق بالدينار والدرهم من أخيه المسلم حتى أن الدينار والدرهم اليوم أحب إلى أحدنا من أخيه المسلم وقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد أدخل الله عليهم ذلا لا ينزعه عنهم حتى يراجعوا دينهم وحدثنا عن خلف بن عمرو العكبري قال حدثنا المعلى بن مهدى حدثنا عبد الوارث حدثنا ليث عن عبد الملك بن أبى سليمان عن عطاء عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم نحوه فقد اقتضى هذا اللفظ وجوب الجهاد لإخباره بإدخال الله الذل عليهم بذكر عقوبة على الجهاد والعقوبات لا تستحق إلا على ترك الواجبات وهذا يدل على أن مذهب ابن عمر في الجهاد فرض على الكفاية وإن الرواية التي رويت عنه في نفى فرض الجهاد إنما هي على الوجه الذي ذكرنا من أنه غير متعين على كل حال في كل زمان ويدل على أنه فرض على الكفاية قوله تعالى (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) وقوله (فانفروا ثبات أو انفروا جميعا) وقوله (لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا) (وعد الله الحسنى) فلو كان الجهاد فرضا على كل أحد في نفسه لما كان القاعدون موعودين بالحسنى بل كانوا يكونوا مذمومين مستحقين للعقاب بتركه وحدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان حدثنا أبو عبيد حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله عز وجل (فانفروا ثبات أو انفروا جميعا) وفي قوله (انفروا خفافا وثقالا) قال نسختها (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) قال تنفر طائفة وتمكث طائفة مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال فالماكثون هم الذين يتفقهون في الدين وينذرون إخوانهم إذا رجعوا إليهم من الغزو بما نزل من قضاء الله وكتابه وحدوده وحدثنا جعفر بن محمد قال أخبرنا جعفر

٣١٥

ابن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبد الله بن صالح عن معاية بن صالح عن على بن أبى طلحة عن ابن عباس في هذه الآية قال يعنى من السرايا كانت ترجع وقد نزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فتمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بعدهم ويبعث سرايا أخر قال فذلك قوله (ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) فثبت بما قدمنا لزوم فرض الجهاد وأنه فرض على الكفاية وليس بلازم لكل أحد في خاصة نفسه وماله إذا كفاه ذلك غيره قوله تعالى (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم) الآية روى عن الحسن ومجاهد والضحاك شبانا وشيوخا وعن أبى صالح أغنياء وفقراء وعن الحسن مشاغيل وغير مشاغيل وعن ابن عباس وقتادة نشاطا وغير نشاط وعن ابن عمر ركبانا ومشاة وقيل ذا صنعة وغير ذي صنعة قال أبو بكر كل هذه الوجوه يحتمله اللفظ فالواجب يعمها إذ لم تقم دلالة التخصيص وقوله (وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله) فأوجب فرض الجهاد بالمال والنفس جميعا فمن كان له مال وهو مريض أو مقعد أو ضعيف لا يصلح للقتال فعليه الجهاد بماله بأن يعطيه غيره فيغزو به كما أن من له قوة وجلد وأمكنه الجهاد بنفسه كان عليه الجهاد بنفسه وإن لم يكن ذا مال ويسار بعد أن يجد ما يبلغه ومن قوى على القتال وله مال فعليه الجهاد بالنفس والمال ومن كان عاجزا بنفسه معدما فعليه الجهاد بالنصح لله ولرسوله بقوله (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله) وقوله تعالى (ذلكم خير لكم) مع أنه لا خير في ترك الجهاد قيل فيه وجهان أحدهما خير من تركه إلى المباح في الحال التي لا يتعين عليه فرض الجهاد والآخر أن الخير فيه لا في تركه وقوله تعالى (إن كنتم تعلمون) قيل فيه إن كنتم تعلمون الخير في الجملة فاعلموا أن هذا خير وقيل إن كنتم تعلمون صدق الله فيما وعد به من ثوابه وجنته قوله تعالى (سيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم) الآية لما أكذبهم الله في قوله (لو استطعنا لخرجنا معكم) دل على أنهم كانوا مستطيعين ولم يخرجوا وهذا يدل على بطلان مذهب الجبر في أن المكلفين غير مستطيعين لما كلفوا في حال التكليف قبل وقوع الفعل منهم لأن الله تعالى قد أكذبهم في نفيهم الاستطاعة عن أنفسهم قبل الخروج وفيه دلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه أخبر أنهم سيحلفون فجاؤا فحلفوا كما أخبر أنه سيكون منهم قوله تعالى (عفا

٣١٦

الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا) العفو ينصرف عن وجوه أحدها التسهيل والتوسعة كقوله صلّى الله عليه وآله وسلم أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله والعفو الترك كقوله صلّى الله عليه وآله وسلم احفوا الشوارب واعفوا اللحى والعفو الكثرة كقوله تعالى (حتى عفوا) يعنى كثروا وأعفيت فلانا من كذا وكذا إذا سهلت له تركه والعفو الصفح عن الذنب وهو إعفاؤه من تبعته وترك العقاب عليه وهو مثل الغفران في هذا الموضع وجائز أن يكون أصله التسهيل فإذا عفا عن ذنبه فلم يستقص عليه وسهل عليه الأمر وكذلك سائر الوجوه التي تنصرف عليها هذه الكلمة يجوز أن يكون أصلها الترك والتوسعة ومن الناس من يقول إنه كان من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ذنب صغير في إذنه لهم ولهذا قال الله تعالى (عفا الله عنك لم أذنت لهم) إذ لا يجوز أن تقول لم فعلت ما جعلت لك فعله كما لا يجوز أن تقول لم فعلت ما أمرتك بفعله قالوا فغير جائز إطلاق العفو عما قد جعل له فعله كما لا يجوز أن يعفو عنه ما أمره به وقيل إنه جائز أن لا تكون منه معصية في الإذن لهم لا صغيرة ولا كبيرة وإنما عاتبه بأن قال لم فعلت ما جعلت لك فعله مما غيره أولى منه إذ جائز أن يكون مخيرا بين فعلين وأحدهما أولى من الآخر قال الله تعالى (فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن) فأباح الأمرين وجعل أحدهما أولى وقد روى شعبة عن قتادة في قوله (عفا الله عنك لم أذنت لهم) كانت كما تسمعون ثم أنزل الله في سورة النور (وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه ـ إلى قوله ـ فأذن لمن شئت منهم) فجعله الله تعالى رخصة في ذلك وروى على بن أبى طلحة عن ابن عباس في قوله (إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله ـ إلى قوله ـ يترددون) هذا بعينه للمنافقين حين استأذنوه للقعود عن الجهاد من غير عذر وعذر الله المؤمنين فقال (وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه) وروى عطاء الخراساني عن ابن عباس قوله (إنما يستاذنك الذين لا يؤمنون بالله) قال نسخها قوله (واذا كانوا معه على امر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه ـ إلى قوله ـ فأذن لمن شئت منهم) فجعل الله تعالى رسوله بأعلى النظرين قال أبو بكر جائز أن يكون قوله تعالى (عفا الله عنك لم أذنت لهم) في قوم من المنافقين لحقتهم تهمة فكان يمكن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم استبراء أمرهم بترك الإذن لهم فينظر نفاقهم إذا لم يخرجوا بعد الأمر بالخروج ويكون ذلك حكما ثابتا في أولئك ويدل عليه

٣١٧

قوله (حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين) ويكون قوله (وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه) وقوله (فأذن لمن شئت منهم) في المؤمنين الذين لو لم يأذن لهم لم يذهبوا فلا تكون إحدى الآيتين ناسخة للأخرى قوله تعالى (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ـ إلى قوله ـ بأموالهم) الآية يعنى لا يستأذنك المؤمنون في التخلف عن الجهاد لأن لا يجاهدوا وأضمر لا في قوله (أن يجاهدوا) لدلالة الكلام عليه وهذا يدل على أن الاستيذان في التخلف كان محظورا عليهم ويدل على صحة تأويل قوله (أن يجاهدوا) أنه على تقدير كراهة أن يجاهدوا وهو يئول إلى المعنى الأول لأن إضمار لا فيه وإضمار الكراهة سواء وهذه الآية أيضا تدل على وجوب فرض الجهاد بالمال والنفس جميعا لأنه قال تعالى (أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم) فذمنهم على الاستئذان في ترك الجهاد بهما والجهاد بالمال يكون على وجهين أحدهما إنفاق المال في إعداد الكراع والسلاح والآلة والراحلة والزاد وما جرى مجراه مما يحتاج إليه لنفسه والثاني إنفاق المال على غيره مما يجاهد ومعونته بالزاد والعدة ونحوها* والجهاد بالنفس على ضروب منها الخروج بنفسه ومباشرة القتال ومنها بيان ما افترض الله من الجهاد وذكر الثواب الجزيل لمن قال به والعقاب لمن قعد عنه ومنها التحريض والأمر ومنها الأخبار بعورات العدو وما يعلمه من مكايد الحرب وسداد الرأى وإرشاد المسلمين إلى الأولى والأصلح في أمر الحروب كما قال الحباب بن المنذر حين نزل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ببدر فقال يا رسول الله أهذا رأى رأيته أم وحى فقال بل رأى رأيته قال فإنى أرى أن تنزل على الماء وتجعله خلف ظهرك وتعور الآبار التي في ناحية العدو ففعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ذلك ونحو ذلك من كل قول يقوى أمر المسلمين ويوهن أمر العدو فإن قيل فأى الجهادين أفضل أجهاد النفس والمال أم جهاد العلم قيل له الجهاد بالسيف مبنى على جهاد العلم وفرع عليه لأنه غير جائز أن يعدوا في جهاد السيف ما يوجبه العلم فجهاد العلم أصل وجهاد النفس فرع والأصل أولى بالتفضيل عن الفرع فإن قيل تعلم العلم أفضل أم جهاد المشركين قيل له إذا خيف معرة العدو وإقدامهم على المسلمين ولم يكن بإزائه من يدفعه فقد تعين فرض الجهاد على كل أحد فالاشتغال في هذه الحال بالجهاد أفضل من تعلم العلم لأن ضرر العدو إذا وقع

٣١٨

بالمسلمين لم يمكن تلافيه وتعلم العلم ممكن في سائر الأحوال ولأن تعلم العلم فرض على الكفاية لا على كل أحد في خاصة نفسه ومتى لم يكن بإزاء العدو من يدفعه عن المسلمين فقد تعين فرض الجهاد على كل أحد وما كان فرضا معينا على الإنسان غير موضع عليه في التأخير فهو أولى من الفرض الذي قام به غيره وسقط عنه بعينه وذلك مثل الاشتغال بصلاة الظهر في آخر وقتها هو أولى من تعلم علم الدين في تلك الحال إذ كان الفرض قد تعين عليه في هذا الوقت فإن قام بفرض الجهاد من فيه كفاية وغنى فقد عاد فرض الجهاد إلى حكم الكفاية كتعلم العلم إلا أن الاشتغال بالعلم في هذه الحال أولى وأفضل من الجهاد لما قدمنا من علو مرتبة العلم على مرتبة الجهاد فإن ثبات الجهاد بثبات العلم وأنه فرع له ومبنى عليه فإن قيل هل يجوز الجهاد مع الفساق قيل له إن كل أحد من المجاهدين فإنما يقوم بفرض نفسه فجائز له أن يجاهد الكفار وإن كان أمير الجيش وجنوده فساقا وقد كان أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يغزون بعد الخلفاء الأربعة مع الأمراء الفساق وغزا أبو أيوب الأنصارى مع يزيد اللعين وقد ذكرنا حديث أبى أيوب أنه لم يتخلف عن غزاة للمسلمين إلا عاما واحدا فإنه استعمل على الجيش رجل شاب ثم قال بعد ذلك وما على من استعمل على فكان يقول قال الله تعالى (انفروا خفافا وثقالا) فلا أجدنى إلا خفيفا أو ثقيلا فدل على أن الجهاد واجب مع الفساق كوجوبه مع العدول وسائر الآي الموجبة لفرض الجهاد لم يفرق بين فعله مع الفساق ومع العدول الصالحين وأيضا فإن الفساق إذا جاهدوا فهم مطيعون في ذلك كما هم مطيعون لله في الصلاة والصيام وغير ذلك من شرائع الإسلام وأيضا فإن الجهاد ضرب من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ولو رأينا فاسقا يأمر بمعروف وينهى عن منكر كان علينا معاونته على ذلك فكذلك الجهاد فالله تعالى لم يخص بفرض الجهاد العدول دون الفساق فإذا كان الفرض عليهم واحدا لم يختلف حكم الجهاد مع العدول ومع الفساق قوله تعالى (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة) والعدة ما يعده الإنسان ويهيئه لما يفعله في المستقبل وهو نظير الأهبة وهذا يدل على وجوب الاستعداد للجهاد قبل وقت وقوعه وهو كقوله (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل) وقوله تعالى (ولكن كره الله انبعاثهم) يعنى خروجهم كان يقع على وجه الفساد وتخذيل المسلمين وتخويفهم من العدو والتضريب بينهم والخروج

٣١٩

على هذا الوجه معصية وكفر فكرهه الله تعالى وثبطهم عنه إذ كان معصية والله لا يجب الفساد وقوله تعالى (وقيل اقعدوا مع القاعدين) أى مع النساء والصبيان وجائز أن يكون النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال لهم اقعدوا مع القاعدين وجائز أن يكون قال بعضهم لبعض قوله تعالى (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) الآية فيه بيان وجه خروجهم لو خرجوا وإخبار أن المصلحة للمسلمين كانت في تخلفهم وهذا يدل على أن معاتبة الله لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلم في قوله (لم أذنت لهم) أن الله علم أنه لو لم يأذن لهم لم يخرجوا أيضا فيظهر للمسلمين كذبهم ونفاقهم وقد أخبر الله تعالى أو خروجهم لو خرجوا على هذا الوجه كان يكون معصية وفسادا على المؤمنين* وقوله (ما زادوكم إلا خبالا) والخبال الاضطراب في الرأى فأخبر الله تعالى أنهم لو خرجوا لسعوا بين المؤمنين في التضريب وإفساد القلوب والتخذيل عن العدو فكان ذلك يوجب اضطراب آرائهم فإن قال قائل لم قال (ما زادوكم إلا خبالا) ولم يكونوا على خبال يزاد فيه قيل له يحتمل وجهين أحدهما أنه استثناء منقطع تقديره ما زادوكم قوة لكن طلبوا لكم الخبال والآخر أنه يحتمل أن يكون قوم منهم قد كانوا على خبال في الرأى لما يعرض في النفوس من التلون إلى أن استقر على الصواب فيقويه هؤلاء حتى يصير خبالا معدولا به عن صواب الرأى قوله تعالى (ولأوضعوا خلالكم) قال الحسن ولأوضعوا خلالكم بالنميمة لإفساد ذات بينكم وقوله تعالى (يبغونكم الفتنة) فإن الفتنة هاهنا المحنة باختلاف الكلمة والفرقة ويجوز أن يريد به الكفر لأنه يسمى بهذا الاسم لقوله تعالى (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) وقوله (والفتنة أشد من القتل) وقوله (وفيكم سماعون لهم) قال الحسن ومجاهد عيون منهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم وقال قتادة وابن إسحاق قابلون منهم عند سماع قولهم قوله تعالى (لقد ابتغوا الفتنة من قبل) يعنى طلبوا الفتنة وهي هاهنا الاختلاف الموجب للفرقة بعد الألفة وقوله تعالى (وقلبوا لك الأمور) يعنى به تصريف الأمور وتقليبها ظهرا لبطن طلبا لوجه الحيلة والمكيدة في إطفاء نوره وإبطال أمره فأبى الله تعالى إلا إظهار دينه وإعزاز نبيه وعصمه من كيدهم وحيلهم قوله تعالى (ومنهم من يقول ائذن لى ولا تفتنى) قال ابن عباس ومجاهد نزلت في الجد بن قيس قال ائذن لي ولا تفتني ببنات بنى الأصفر فإنى مستهتر بالنساء وكان ذلك حين دعاهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إلى غزوة تبوك وقال الحسن وقتادة وأبو عبيدة لا تؤثمنى بالعصيان

٣٢٠