أحكام القرآن - ج ٤

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٧

وجاء أحد منكم من الغائط وذلك يكون بعد دخول الوقت قيل له هذا غلط من قبل أن قوله (إِذا قُمْتُمْ) معناه إذا أردتم القيام وأنتم محدثون فهذه جملة مكتفية بنفسها في إيجاب الوضوء للحدث ثم استأنف حكم عادم الماء فقال (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ ـ إلى قوله ـ فَتَيَمَّمُوا) وهذه أيضا جملة مفيدة مستقلة بنفسها غير مفتقرة إلى تضمينها بغيرها وما كان هذا وصفه من الكلام ففي تضمينه بغيره تخصيص له وذلك غير جائز إلا بدلالة فوجب أن يكون شرط المجيء من الغائط في إباحة التيمم مقرا على بابه وأن لا يضمن بغيره وأيضا فإن حكم كل جواب علق بشرط أن يرجع إلى ما يليه ولا يرجع إلى ما تقدم إلا بدلالة والذي يلي ذلك هو شرط المجيء من الغائط وأيضا كما جاز الوضوء قبل الوقت وجب أن يجوز التيمم كذلك لأنه طهارة لم يوجد بعدها حدث فإن قيل المستحاضة لا تصلّى بوضوء فعلته قبل الوقت قيل له يجوز ذلك عندنا لأنها لو توضأت قبل الزوال كان لها أن تصلّى به إلى خروج وقت الظهر وأما إذا توضأت في وقت الظهر فإنها لا تصلى به في وقت العصر للسيلان الموجود بعد الطهارة والوقت كان رخصة لها في فعل الصلاة مع الحدث فلما ارتفعت الرخصة بخروجه وجب الوضوء للحدث المتقدم واختلف في فعل صلاتي فرض بتيمم واحد فقال يصلّى بتيممه ما شاء من الصلوات ما لم يحدث أو يجد الماء وهو مذهب الثوري والحسن بن صالح والليث بن سعد وهو مذهب إبراهيم وحماد والحسن وقال مالك لا يصلّى صلاتي فرض بتيمم واحد ولا يصلّى الفرض بتيمم النافلة ويصلّى النافلة بعد الفرض بتيمم الفرض وقال شريك بن عبد الله يتيمم لكل صلاة فرض ويصلّى الفرض والنفل وصلاة الجنازة بتيمم واحد والدليل على صحة قولنا قوله صلّى الله عليه وسلّم التراب كافيك ولو إلى عشر حجج فإذا وجدت الماء فامسسه جلدك وقال التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء فجعل التراب طهورا ما لم يجد الماء ولم يوقته بفعل الصلاة وقوله ولو إلى عشر حجج على وجه التأكيد وليس المراد حقيقة الوقت وهو كقوله تعالى (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) ليس المراد به توقيت العدد المذكور وإنما المراد تأكيد نفى الغفران* فإن قيل لم يذكر الحدث وهو ينقض التيمم كذلك فعل* الصلاة* قيل له لأن بطلانه بالحدث كان معلوما عند المخاطبين فلم يحتج إلى ذكره وإنما ذكر ما لم يكن معلوما عندهم وأكده ببقائه إلى وجود الماء وأيضا فإن المعنى المبيح للصلاة

٢١

بالتيمم بديا كان عدم الماء وهو قائم بعد فعل الصلاة فينبغي أن يبقى تيممه ولا فرق فيه بين الابتداء والبقاء إذ كان المعنى فيهما واحدا وهو عدم الماء وأيضا لما كان المسح على الخفين بدلا من الغسل كما أن التيمم بدل منه ثم جاز عند الجميع فعل صلاتين بمسح واحد جاز فعلهما أيضا بتيمم واحد وأيضا فلا يخلو المتيمم بعد فعل صلاته من أن تكون طهارته باقية أو زائلة فإن كانت زائلة فالواجب أن لا يصلّى بها نفلا لأن النفل والفرض لا يختلفان في باب الطهارة وإن كانت باقية فجائز أن يصلّى بها فرضا آخر* فإن قيل قد خفف أمر النفل عن الفرض جاز على الراحلة وإلى غير القبلة من غير ضرورة ولا يجوز فعل الفرض على هذا الوجه إلا لضرورة قيل له أنهما وإن اختلفا من هذا الوجه فلم يختلفا في أن شرط كل واحد منهما الطهارة فمن حيث جاز النفل بالتيمم الذي أدى به الفرض فواجب أن يجوز فعل فرض آخر به وإنما خفف أمر النفل في جواز فعله على الراحلة وإلى غير القبلة لأن فعل الفرض جائز على هذه الصفة في حال الضرورة وأما الطهارة فلا يختلف فيها حكم النفل والفرض في الأصول واستدل من خالف في ذلك بقوله تعالى (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ـ إلى قوله ـ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) وذلك يقتضى وجوب تجديد الطهارة على كل قائم إليها فوجب بحق العموم إيجاب تجديد التيمم لكل صلاة قيل له هذا غلط لأن قوله تعالى (إِذا قُمْتُمْ) لا يقتضى التكرار في اللغة وقد بيناه فيما سلف ألا ترى أنه لم يقتضه في استعمال الماء فكذلك في التيمم وعلى أنه أوجب التيمم في الحال التي لو كان الماء موجودا لكان مأمورا باستعماله فجعل التيمم بدلا منه فإنما يجب التيمم على الوجه الذي يجب فيه الأصل فأما حال أخرى غير هذه فليس في الآية ذكر إيجابه فيها فإذا كان الماء لو كان موجودا لم يلزمه تجديد الطهارة به للصلاة الثانية بعد ما صلّى بها الصلاة الأولى كان كذلك حكم التيمم فإن قيل التيمم لا يرفع الحدث فليس هو بمنزلة الماء الذي يرفعه فلما كان الحدث باقيا مع التيمم وجب عليه تجديده قيل له ليس بقاء الحدث علة لإيجاب تكرار التيمم لأنه لو كان كذلك لوجب عليه تكراره أبدا قبل الدخول في الصلاة لهذه العلة فلما جاز أن يفعل الصلاة الأولى بالتيمم مع بقاء الحدث كانت الثانية مثلها إذا كان التيمم مفعولا لأجل ذلك الحدث بعينه الذي يريد إيجاب التيمم من أجله وقد وقع له مرة فلا يجب ثانية وأيضا فإن هذه العلة منتقضة بالمسح على الخفين لبقاء الحدث في

٢٢

الرجل مع المسح ويجوز فعل صلوات كثيرة به وينتقض أيضا بتجويز مخالفينا صلاة نافلة بعد الفرض لوجود الحدث فإن قيل هلا جعلته كالمستحاضة عند خروج وقتها قيل له قد ثبت عندنا أن رخصة المستحاضة مقدرة بوقت الصلاة ولا نعلم أحدا يجعل رخصة التيمم مقدرة بالوقت فهو قياس فاسد منتقض وعلى أن المستحاضة مخالفة للمتيمم من قبل أنه قد وجد منها حدث بعد وضوءها والوقت رخصة في فعل الصلاة مع الحدث فإذا خرج الوقت توضأت لحدث وجد بعد طهارتها ولم يوجد في المتيمم حدث بعد تيممه فطهارته باقية واختلف في المتيمم إذا وجد الماء في الصلاة فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر إذا وجد الماء في الصلاة بطلت صلاته وتوضأ واستقبل وقال مالك والشافعى يمضى فيها وتجزيه وروى عن أبى سلمة بن عبد الرحمن أنه إذا وجد الماء قبل دخوله في الصلاة لم يلزمه الوضوء وصلّى بتيممه وهو قول شاذ مخالف للسنة والإجماع والدليل على صحة قولنا قوله تعالى (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ـ إلى قوله ـ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً) فأوجب غسل هذه الأعضاء عند وجود الماء ثم نقله إلى التراب عند عدمه فمتى وجد الماء فهو مخاطب باستعماله بظاهر الآية وعلى أن حقيقة اللفظ تقتضي وجوب الغسل بعد القيام إلى الصلاة فغير جائز أن يكون دخوله فيها مانعا من لزوم استعماله وأيضا لا يختلفون أن حكم الآية في فرض الغسل عند وجود الماء قائم عليه بعد دخوله في الصلاة لأنه لو أفسد صلاته قبل إتمامها لزمه استعمال الماء بالآية فثبت بذلك أن دخوله في الصلاة لم يسقط عنه فرض الغسل والخطاب بحكم الآية فوجب عليه بحكم الآية استعماله لبقاء فرض استعماله عليه وأيضا لا يخلو قوله تعالى (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) من أن يكون المراد به حال وجود الصلاة بعد فعل جزء منها وإرادة القيام إليها محدثا وجعل ذلك شرطا للزوم استعماله فقد وجد فعليه استعماله ولا يسقط عنه ذلك بالتيمم والدخول فيها مع وجود سبب تكليفه إذ كان المسقط لفرضه هو عدم الماء فمتى وجد فقد عاد شرط لزومه فلزمته الطهارة به ويدل عليه أيضا قوله تعالى (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) فإذا كان جنبا ودخل في الصلاة بالتيمم ثم وجد الماء لزمه بقوله (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ ـ إلى قوله ـ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) فإن قيل في نسق الخطاب (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ ـ إلى قوله ـ فَلَمْ

٢٣

تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) قيل له هما مستعملان جميعا كل واحد على شريطته فالتيمم عند عدم الماء والغسل عند وجوده وغير جائز إسقاط الغسل عند وجوده إذ كان الظاهر يوجبه ولم تفرق الآية بين حاله بعد الدخول في الصلاة أو قبله ويدل عليه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء فجعله طهورا بشريطة عدم الماء فإذا وجد الماء خرج من أن يكون طهارة ولم يفرق بين أن يكون في الصلاة أو في غيرها فإذا بطلت طهارته برؤيته الماء لم يجز أن يمضى فيها وأيضا فقال صلّى الله عليه وسلّم الماء طهور المسلم وقال صلّى الله عليه وسلّم إذا وجدت الماء فأمسسه جلدك وفي بعض الألفاظ وأمسسه بشرتك ودلالته على وصفنا من وجهين أحدهما ما ذكرنا من قوله التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء فأخبر بالحال التي يكون التراب فيها طهورا وهو أن لا يجد الماء ولم يفرق بين حاله قبل الدخول في الصلاة وبعده فإذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم خص كونه طهورا بهذه الحال دون غيرها فمتى صلّى به والماء موجود فهو مصل بغير طهور والثاني قوله صلّى الله عليه وسلّم فإذا وجدت الماء فأمسسه جلدك ولم يفرق بينه قبل الدخول وبعده فهو على الحالين يلزمه استعماله متى وجده بظاهر قوله ويدل عليه اتفاق الجميع على أن وجود الماء بعد التيمم قبل الدخول يمنع الابتداء فوجب أن يمنع البناء كما أن الحدث لما منع ابتداء الصلاة منع البناء عليها إذ كان من شرط صحتها جميعا الطهارة وأيضا فإن كونه في الصلاة لا يمنع لزوم الطهارة لأنه لو أحدث فيها لزمته الطهارة وكذلك لا يمنع لزوم سائر الفروض التي هي من شروط الصلاة مثل وجود الثوب للعريان وعتق الأمة في لزومها تغطية الرأس وخروج وقت المسح فوجب أن لا يمنع كونه في الصلاة من لزوم الطهارة بالماء عند وجوده وأيضا لما لم يجز التحريمة بالتيمم مع وجود الماء لأنه يكون فاعلا لجزء من الصلاة بالتيمم مع وجود الماء وكان هذا المعنى موجودا بعد الدخول وجب أن يمنع المضي فيها فإن قيل لو أحدث جاز البناء عندك إذا توضأ ولا تجوز التحريمة بعد الحدث قيل له لا فرق بينهما لأنه لو فعل جزأ من الصلاة بعد الحدث قبل الطهارة بطلت صلاته وإنما نجيز له البناء إذا توضأ وأنت تجيزه قبل الطهارة بالماء فإن قيل إنما اختلف حال الصلاة وقبلها في التيمم لسقوط فرض الطلب عنه بدخوله في الصلاة لأن كونه فيها ينافي فرض الطلب وأما قبل الدخول فيها ففرض الطلب قائم عليه فلذلك لزمته الطهارة إذا وجده قبل الدخول قيل له أما قولك في لزوم فرض الطلب

٢٤

قبل الدخول فيها ففاسد على ما قدمناه فيما سلف ومع ذلك فلو سلمناه لك لا لانتقض على أصلك وذلك أن بقاء فرض الطلب ينافي صحة الدخول في الصلاة عندك فلا يخلو إذا طلب ولم يجد فتيمم أن يكون فرض الطلب قائما عليه أو ساقطا عنه فإذا كان فرض الطلب قائما عليه فواجب أن لا يصح دخوله إذ كان بقاء فرض الطلب ينافي صحة الصلاة ويمنع صحة التيمم أيضا على أصلك وإن كان فرض الطلب ساقطا عنه فالواجب على قضيتك أن لا يلزمه استعمال الماء إذا وجده بعد التيمم قبل الدخول في الصلاة كما حكى عن أبى سلمة بن عبد الرحمن فلما ألزمته استعمال الماء عند وجوده بعد التيمم قبل الدخول في الصلاة مع سقوط فرض الطلب ثبت أن سقوط فرض الطلب ليس بعلة لجواز ترك استعمال الماء عند وجوده وأيضا قد اتفقوا جميعا أن الصغيرة لو اعتدت شهرا ثم حاضت انتقلت عدتها إلى الحيض لأن الشهور بدل من الحيض وإنما تكون عدة عند عدمه كما أن التيمم طهور عند عدم الماء فلما اتفقوا على استواء حالهما قبل وجوب العدة وبعده في كون الحيض عدة عند وجوده وجب أن يستوي حكم وجود الماء بعد الدخول في الصلاة وقبله وأيضا لما كان التيمم بدلا من الماء لم يجز أن يبقى حكمه مع وجود المبدل عنه كسائر الأبدال لا يثبت حكمها مع وجود الأصل فإن قيل فلو أن متمتعا وجد الهدى بعد صوم الثلاثة أيام وبعد الإحلال جاز له أن يصوم السبعة مع وجود الأصل قيل له الثلاثة بدل من الهدى لأن بها يقع الإحلال وليست للسبعة بدلا من الهدى لأن الإحلال يكون قبل السبعة* فإن قيل ليست حال الصلاة حال للطهارة فلا يلزمه استعمال الماء* قيل له فينبغي أن لا يلزمه غسل الرجلين بخروج وقت المسح وهو في الصلاة وأن لا يلزم المستحاضة الوضوء بانقطاع الدم في الصلاة وأن لا تلزمها الطهارة لو أحدث فيها لهذه العلة فإن احتجوا بقوله صلّى الله عليه وسلّم فلا ينصرف حتى يسمع صوت أو يجد ريحا قيل له لم يقل ذلك ابتداء بل بكلام متصل به وهو أنه قال إذا وجد أحدكم حركة في دبره فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا وقال إن الشيطان يخيل إلى أحدكم أنه قد أحدث فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا وقال في بعض الألفاظ لا وضوء إلا من صوت أو ريح فأما ابتداء قول منه فلا ينصرف حتى يسمع صوت أو يجد ريحا فإن ذلك لم ينقل ولم يروه أحد وإذا كان كذلك فإنما هو في الشاك في الحدث فلم يصح نجعله في غيره ممن

٢٥

لم يشك ووجد الماء وعلى أن قوله لا وضوء إلا من صوت أو ريح يقتضى ظاهره إيجاب الوضوء بوجود الماء لأن الحدث الذي عنه وجبت الطهارة باق لم يرتفع بالتيمم فإن قيل ما تقول لو تيمم ودخل في صلاة العيد أو صلاة الجنازة ثم وجد الماء قيل له ينتقض تيممه ولا يجوز له المضي عليها وتبطل صلاته إذا أمكنه استعمال الماء والدخول في الصلاة لا فرق بينهما وبين الصلاة المكتوبة وجواب آخر عما أورده من الخبر أنه مجمل لا يصح الإيجاب به لأنه مفهوم أنه لم يرد به كل صوت أو ريح يوجد في دار الدنيا وإنما أراد صوتا أو ريحا على صفة لا يدرى ما هو بنفس اللفظ فسبيله أن يكون موقوفا على دلالة فإن ادعوا فيه العموم كان دلالة لنا لأنه إذا سمع صوت الماء وجب عليه بظاهره إذ لم يفرق بين الأصوات.

(فصل) ويستدل بقوله تعالى (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) الآية على جواز الوضوء بنبيذ التمر من وجهين أحدهما قوله تعالى (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) وذلك عموم في جميع المائعات لأنه يسمى غاسلا بها إلا ما قام الدليل فيه ونبيذ التمر مما قد شمله العموم والثاني قوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) فإنما أباح التيمم عند عدم كل جزء من الماء لأنه لفظ منكر يتناول كل جزء منه سواء كان مخالطا لغيره أو منفردا بنفسه ولا يمتنع أحد أن يقول في نبيذ التمر ماء فلما كان كذلك وجب أن لا يجوز التيمم مع وجوده بالظاهر ويدل على ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم توضأ به بمكة قبل نزول آية التيمم وقبل أن نقل من الماء إلى بدل فدل ذلك على أنه بقي فيه حكم الماء الذي فيه لا على وجه البدل عن الماء إذ قد توضأ به في وقت كانت الطهارة فيه مقصورة على الماء دون غيره وقد تكلمنا في هذه المسألة في مواضع من كتبنا وروى يحيى بن كثير عن عكرمة عن ابن عباس قال الوضوء بالنبيذ الذي لا يسكر وضوء لمن لم يجد الماء وقال عكرمة النبيذ وضوء إذا لم نجد غيره وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبى العالية قال ركبت مع أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم البجر ففنى ماؤهم فتوضؤوا بالنبيذ وكرهوا ماء البحر وروى المبارك بن فضالة عن أنس أنه كان لا يرى بأسا بالوضوء بالنبيذ فهؤلاء الصحابة والتابعون قد روى عنهم جواز الوضوء بالنبيذ من غير خلاف ظهر من أحد من نظرائهم عليهم وروى عن أبى حنيفة في الوضوء بنبيذ التمر ثلاث روايات إحداها وهي المشهورة أنه يتوضأ به ولا

٢٦

يتيمم وهو قول زفر وروى عنه أنه يتوضأ به ويتيمم وهو قول محمد وروى نوح أن أبى حنيفة رجع عن الوضوء بالنبيذ وقال يتيمم ولا يتوضأ به وقال مالك والثوري وأبو يوسف والشافعى يتيمم ولا يتوضأ به وروى الحسن بن زياد عن أبى يوسف أنه يتوضأ به ويتيمم وكذلك روى عنه المعلى وقال حميد بن عبد الرحمن الرؤاسى صاحب الحسن ابن صالح يتوضأ بنبيذ التمر مع وجود الماء إن شاء وروى الوضوء بنبيذ التمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن مسعود وأبو أمامة روى عن عبد الله من طرق عدة قد بيناها في مواضع.

باب صفة التيمم

قال الله تعالى (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) منه فاختلف الفقهاء في صفته فقال أصحابنا التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين فقالوا يضرب بيديه على الصعيد يحركهما فيقبل بهما ويدبر على الصعيد ثم ينفضهما ثم يمسح بهما وجهه ثم يعيد إلى الصعيد كفه جميعا فيقبل بهما ويدبر ويرفعهما فينفضهما ثم يمسح بكل كف ظهر ذراعه الأخرى وباطنها إلى المرفقين واتفق مالك والثوري والليث والشافعى أنه ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين وروى مثله عن جابر وابن عمر وحكى بعض أصحاب مالك أنه تيمم بضربة واحدة أجزأه وحكى عن مالك أيضا أنه يتيمم إلى المرفقين فإن تيمم إلى الكوعين لم يعد وقال الأوزاعى تجزى ضربة واحدة للوجه والكوعين* وروى نحوه عن عطاء وقال الزهري يمسح يديه إلى الإبط وقال ابن أبى ليلى والحسن بن صالح يتيمم بضربتين يمسح بكل واحدة منها وجهه وذراعيه ومرفقيه وقال أبو جعفر الطحاوي لم نجد عن غيرهما أنه يمسح بكل واحدة من الضربتين وجهه وذراعيه ومرفقيه والحجة لقول أصحابنا ما روى ابن عمر وابن عباس والأسلع عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في صفة التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين واختلفت الرواية عن عمار فروى عنه عبد الرحمن بن أبزى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ضربة واحدة للوجه ولليدين وروى عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن عمار عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ضربتين وهذا أولى لأنه زائد وخبر الزائد أولى وأيضا فكما أنه لا يجوز في الوضوء الاكتفاء بماء واحد لعضوين بل عليه تجديد الماء لكل عضو كذلك الحكم في التيمم لأنهما طهارتان

٢٧

وإن كانت إحداهما مسحا والأخرى غسلا ألا ترى أنه يحتاج إلى تجديد الماء لكل رجل في المسح على الخفين وإن لم يكن غسلا وإنما قلنا إن التيمم إلى المرفقين بحديث ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وحديث الأسلع ذكرا فيه جميعا أن التيمم إلى المرفقين واختلف عن عمار فيما رواه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في صفة التيمم فروى الشعبي عن عبد الرحمن بن أبزى عن عمار أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال أوفوا التيمم إلى المرفقين وروى غيره عن سعيد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عمار قال سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن التيمم فأمرنى بضربة واحدة للوجه والكفين ورواه شعبة عن سلمة بن كهيل عن زر عن ابن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن عمار وقال فيهما ونفخ فيهما ومسح بهما وجهه وكفيه إلى المرفقين وروى سلمة عن أبى مالك عن عبد الرحمن بن أبزى عن عمار أنه تمعك في التراب في الجنابة فذكره للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال له إنما كان يكفيك أن تقول هكذا وضرب بيديه إلى الأرض ثم نفخهما ثم مسح بهما وجهه ويديه إلى نصف الذراع وروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عمار أنهم مسحوا وهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالصعيد ضربة واحدة للوجه وضربة لليدين إلى المناكب والآباط فلما اختلفت أحاديث عمار هذا الاختلاف واتفقوا أن التيمم إلى المناكب غير ثابت الحكم ومع ذلك لم يعزه عمار إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وإنما حكى فعل نفسه لم يثبت التيمم إلى المناكب وإن كان له وجه في الاحتمال وهو أنه جائر أن يكون عمار ذهب في ذلك مذهب أبى هريرة في غسله ذراعيه في الوضوء إلى إبطيه على وجه المبالغة فيه لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم إنكم الغر المحجلون من آثار الوضوء فمن أراد أن يطول غرته فليفعل فقال أبو هريرة إنى أحب أن أطيل غرتي ثم بقي من أخبار عمار مما عزاه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم الوجه والكفان ونصف الذراع إلى المرفقين فكانت رواية من روى إلى المرفقين أولى لوجوه أحدها أنه زائد على روايات الآخرين وخبر الزائد أولى والثاني أن الآية تقتضي اليدين إلى المنكبين لدخلولهما تحت الاسم فلا يخرج شيء منه إلا بدليل وقد قامت الدلالة على خروج ما فوق المرفقين فبقى حكمه إلى المرفقين والثالث أن في حديث ابن عمرو الأسلع التيمم إلى المرفقين من غير اختلاف عنهما في روايتهما وقول الزهري يمسح يديه إلى الإبط قول شاذ ومع ذلك لم يروه أحد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأما قول ابن أبى ليلى والحسن ابن صالح أنه يمسح بكل واحدة من الضربتين وجهه ويديه فخلاف

٢٨

ما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في سائر الأخبار التي ذكر فيها صفة التيمم لأن الذي روى في بعضها ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين فلم يجعل ما للوجه لليدين وما لليدين للوجه وفي بعضها ضربة واحدة لهما فقولهما خارج عن حكم الخبرين جميعا وهو مع ذلك خلاف الأصول لأن التيمم مسح فليس تكراره بمسنون كالمسح على الخفين ومسح الرأس ولو كان التكرار مسنونا فيه لكان ثلاثا كالأعضاء المغسولة وإنما قال أصحابنا في صفة التيمم أنه يضع يديه على الصعيد يقبل بهما ويدبر ليتخلل أصابعه ويصيب جميعها وإنما قالوا ينفضهما لما روى الأعمش عن سفيان عن أبى موسى أن عمارا قال وذكر قصة التيمم فقال إنه صلّى الله عليه وسلّم قال إنما يكفيك أن تصنع هكذا وضرب بيده على الأرض وفي حديث عن عبد الرحمن بن أبزى عن عمار عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه ضرب بيده إلى الأرض ثم نفخهما وفي حديث الأسلع أنه نفضهما في كل مرة والنفخ والنفض جميعا إنما هو لإزالة التراب عن يده وهذا يدل على أنه ليس المقصد فيه وصول التراب إلى وجهه ولا حصوله فيه لأنه لو كان المقصد حصول التراب في العضو لما نفضه.

باب ما يتيمم به

قال الله تعالى (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) اختلف الفقهاء فيما يجوز به التيمم فقال أبو حنيفة يجزى التيمم بكل ما كان من الأرض التراب والرمل والحجارة والزرنيخ والنورة والطين الأحمر والمرداسنج (١) وما أشبهه وهو قول محمد وزفر وكذلك يجزى بالكحل والآجر المدقوق في قولهما رواه محمد ورواه أيضا الحسن بن زياد عن أبى حنيفة وإن تيمم ببورق (٢) أو رماد أو ملح أو نحوه لم يجز عندهم وكذلك الذهب والفضة في قولهم وقال أبو يوسف لا يجزى إلا أن يكون ترابا أو رملا وإن ضرب يده على صخرة أو حائط لا صعيد عليها أجزأه في قول أبى حنيفة وقال أبو يوسف لا يجزيه وروى المعلى عن أبى يوسف أنه إن تيمم بأرض لا صعيد عليها لم يجزه وهو بمنزلة الحائط وهو قوله

__________________

(١) قول المرداسنج معرب مرداسنك بضم أوله وتسكين الراء وهو جوهر مركب من القصدير والرصاص كذا ذكره عاصم افندى في ترجمة البرهان القاطع وفي الفتاوى الهندية أنه يجوز التيمم بالمرداسنج المعدنى دون المتخذ من شيء آخر هكذا في محيط السرخسي.

(٢) قوله ببورق هو نوع من الأملاح ويقال له النطرون.

٢٩

الآخر وقال الثوري يجوز بالزرنيخ والنورة ونحوهما وكل ما كان من تراب الأرض ولا يتيمم بالآجر وقال مالك يتيمم بالحصا والجبل وكذلك حكى عنه أصحابه في الزرنيخ والنورة ونحوهما قال وإن تيمم بالثلج ولم يصل إلى الأرض أجزأه وكذلك الحشيش إذا كان ممتدا وروى أشهب عن مالك أنه لا يتيمم بالثلج وقال الشافعى يتيمم بالتراب مما تعلق باليد قال أبو بكر لما قال الله (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) وكان الصعيد اسما للأرض اقتضى ذلك جواز التيمم بكل ما كان من الأرض وأخبرنا أبو عمر غلام ثعلب عنه عن ابن الأعرابى قال الصعيد الأرض والصعيد التراب والصعيد القبر والصعيد الطريق فكل ما كان من الأرض فهو صعيد فيجوز التيمم به بظاهر الآية* فإن قيل إنما أباح التيمم بالصعيد الطيب والأرض الطيبة هي التي تنبت والجص والزرنيخ لا ينبت شيئا فليس إذا بطيب قال الله تعالى (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) قيل له إنما أراد بالطيب الطاهر المباح كقوله تعالى (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) فأفاد بذلك إيجاب التيمم بالصعيد الطاهر دون النجس وأما قوله (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ) فإنما يريد به ما ليس بسبخة لأنه قال (وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) ولا خلاف في جواز التيمم بالسبخة التي لا تخرج مثل ما يخرج غيرها فعلمنا أنه لم يرد بالطيب ما ذكرت وقد روى أبو ظبيان عن ابن عباس قال الطيب الصعيد الجرز أو قال الأرض الجرز وقال ابن جريج قال قلت لعطاء (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) قال أطيب ما حولك ويدل عليه أيضا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وهو يدل من وجهين على ما ذكرنا أحدهما إخباره أن الأرض طهور فكل ما كان من الأرض فهو طهور بمقتضى الخبر والآخر أن ما جعله من الأرض مسجدا هو الذي جعله طهورا وسائر ما ذكر هو من الأرض وهي مسجد فيجوز التيمم به بحق العموم وروى عمرو بن دينار عن سعيد بن المسيب عن أبى هريرة أن أعرابا أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا يا رسول الله إنا نكون في هذه الرمال لا نقدر على الماء ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر وفينا النفساء والحائض والجنب فقال صلّى الله عليه وسلّم عليكم بأرضكم فأفاد بذلك جوازه بكل ما كان من الأرض ولما ذكرنا من عموم الآية والخبر أجزنا التيمم بالحجر والحائط لأنه من الأرض لأنها تشتمل على أنواع مختلفة ولا يخرجها اختلاف أنواعها من كون جميعها صعيدا وقال تعالى (فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً)

٣٠

يعنى الأرض الملساء التي لا شيء عليها وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم يحشر الناس عراة حفاة في صعيد واحد يعنى الأرض المستوية التي ليس عليها شيء كقوله تعالى (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) فلا فرق بين ما عليه منها تراب أو لا تراب عليه لوقوع الاسم عليه على الإطلاق فإن قيل إن الآجر وإن كان أصله من الأرض فقد انتقل عن طبع الأرض بالطبخ وحال عن حد التراب فهو كالماء المنتقل عن حاله بما يدخل عليه من الرياحين والأصباغ حتى يحول إلى جنس آخر ويزول عنه الاسم الأول وكالزجاج فلا يجوز الوضوء به قيل له إنما لم يجز الوضوء بالماء الذي ذكرت لغلبة غيره عليه حتى أزال عنه اسم الماء وأما الآجر فلا يخالطه ما يخرجه عن حد الأرض وإنما حدثت فيه صلابة بالإحراق فهو كالحجر فلا يمتنع ذلك التيمم به وقد روى ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ضرب يده على الحائط فتيمم به وروى أنه نفض يديه حين وضعهما على التراب وأنه نفخهما فعلمنا أن المقصد فيه وضع اليد على ما كان من الأرض على أنه يحصل في يده أو وجهه شيء منه ولو كان المقصد أن يحصل في يده منه شيء لأمر بحمل التراب على يده ومسح الوجه به كما أمر بأخذ الماء للغسل أو للمسح حتى يحصل في وجهه فلما لم يأمر بأخذ التراب ونفض النبي صلّى الله عليه وسلّم يديه ونفخهما علمنا أنه ليس المقصد حصول التراب في وجهه* فإن قيل قوله تعالى (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) يقتضى حصول شيء منه في الأعضاء الممسوحة به قيل له إنما أفاد بذلك تأكيد وجوب النية فيه لأن من قد تكون لبدء الغاية كقولك خرجت من الكوفة وهذا كتاب من فلان إلى فلان فيكون معناه على هذا ليكن ابتداء الأخذ من الأرض حتى يتصل بالوجه واليد بلا فاصل يفصل بين الأخذ وبين المسح فينقطع حكم النية ويحتاج إلى تجديدها وهو كقولك توضأ من النهر يعنى أن ابتداء أخذه من النهر إلى أن اتصل بأعضاء الوضوء من غير قطع ألا ترى أنه لو أخذه من النهر في إناء وتوضأ منه لم يقل إنه توضأ من النهر ويحتمل أن يكون قوله (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) يعنى من بعضه وأفاد به أن أى بعض منه مسحتم به على جهة الإطلاق والتوسعة وأما الذهب والفضة واللؤلؤ ونحوها فلا يجوز التيمم لأنها ليست من طبع الأرض وإنما هي جواهر مودوعة فيها قال النبي صلّى الله عليه وسلّم حين سئل عن الركاز هو الذهب والفضة اللذان خلقهما الله تعالى في الأرض يوم

٣١

خلقت واللؤلؤ من الصدف والصدف من حيوان الماء وأما الرماد فهو من الخشب ونحوه ومع ذلك فليس هو من طبع الأرض ولا من جوهرها وأما الثلج والحشيش فهما كالدقيق والحبوب ونحوها فلا يجوز التيمم بها لأنها ليست من الصعيد ولا يجوز نقل الأبدال إلى غيرها إلا بتوقيف فلما جعل الله الصعيد بدلا من الماء لم يجز لنا إثبات بدل منه إلا بتوقيف ولو جاز ذلك لجاز أن يضرب يده على ثوب لا غبار عليه فيتيمم به ولا جاز التيمم بالقطن والحبوب وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا قال وترابها لنا طهور وقد اتفقوا على امتناع جوازه بالثلج والحشيش إذا وصل إلى الأرض فلو كان مما يجوز التيمم به لجاز مع وجود التراب لأن التيمم بالصعيد بدل فلا ينتقل إلى بدل غيره* فإن قيل إذا لم يصل إلى الأرض فهو كالزرنيخ والنورة والمغرة إذا كان بينه وبين الأرض قيل له الزرنيخ ونحوه من الأرض ويجوز التيمم به مع وجود التراب وعدمه وليس هو مع ذلك حائلا بيننا وبين الأرض وإنما الأرض في الأغلب حائلة بيننا وبينه فكيف يشبهه بالثلج والحشيش وإن تيمم بغبار ثوب أو لبد وقد نفضه جاز عند أبى حنيفة ولا يجوز عند أبى يوسف وإنما جاز عند أبى حنيفة لأن الغبار الذي فيه من الأرض ولا يختلف حكمه في كونه في الثياب أو على الأرض كما أن الماء لا يختلف حكمه في كونه في إناء أو نهر أو ما عصر من ثوب مبلول وذهب أبو يوسف في ذلك كله إلى أن هذا لا يسمى ترابا على الإطلاق فلا يجوز التيمم به ومن أجل ذلك لم يجز التيمم بأرض لا تراب عليها وجعلها بمنزلة الحجر على أصله وروى قتادة عن نافع عن ابن عمر أن عمر صلّى على مسح من ثلج أصابه وأرادوا أن يتيمموا فلم يجدوا ترابا فقال لينفض أحدكم ثوبه أو صفة سرجه فتيمم به وروى هشام بن حسان عن الحسن قال إذا لم يجد الماء ولم يصل إلى الأرض ضرب بيده على لبده وسرجه ثم يتيمم به قوله تعالى (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) قال أبو بكر الذي يقتضيه الظاهر مسح البعض على ما بيناه في قوله تعالى (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) وإن الباء تقتضي التبعيض إلا أن الفقهاء متفقون على أنه لا يجوز له الاقتصار على القليل منه وأن عليه مسح الكثير وذكر أبو الحسن الكرخي عن أصحابنا أنه إن ترك المتيمم من مواضع التيمم شيئا قليلا أو كثيرا لم يجزه وروى الحسن بن زياد عن أبى حنيفة أنه يجزيه إذا ترك اليسير منه وهذا

٣٢

أولى بمذهبه لأن من أصله جواز التيمم بالحجارة التي لا غبار عليها وليس عليه تخليل أصابعه بالحجارة وهذا يدل على أن ترك اليسير منه لا يضره وقال الله تعالى (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) ولا خلاف في وجوب استيعاب البيت كله وغير جائز له ترك شيء منه قوله تعالى (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) قال أبو بكر لما كان الحرج الضيق ونفى الله عن نفسه إرادة الحرج بنا ساغ الاستدلال بظاهره في نفى الضيق وإثبات التوسعة في كل ما اختلف فيه من أحكام السمعيات فيكون القائل بما يوجب الحرج والضيق محجوجا بظاهر هذه الآية وهو نظير قوله تعالى (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وقوله تعالى (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) يحتمل معنيين الطهارة من الذنوب كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا توضأ العبد فغسل وجهه خرجت ذنوبه من وجهه وإذا غسل يديه خرجت ذنوبه من يده إلى آخره كما قال تعالى (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) يحتمل التطهير من الذنوب ويحتمل التطهير من الأحداث والجنابة والنجاسة كقوله تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) وقوله تعالى (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) فانتظم لطهارة الجنابة والطهارة من النجاسة وقوله تعالى (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) فلما احتمل المعنيين فالواجب حمله عليهما فيكون المراد حصول الطهارة على سقوط اعتبار الترتيب وإيجاب النية في الوضوء فإن قيل لما ذكر ذلك عقيب التيمم فينبغي أن يدل على سقوط اعتبار النية في التيمم كما دل على سقوطها في الوضوء قيل له لما كان التيمم يقتضى إحضار النية في فحواه ومقتضاه علمنا أنه لم يرد به إسقاط ما انتظمه وأما الوضوء والغسل فلا يقتضيان النية فوجب اعتبار عمومه فيهما وعلى أن قوله (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) كلام مكتف بنفسه غير مفتقر إلى تضمينه بغيره فصح اعتبار عمومه في جميع ما انتظمه لفظه إلا ما قام دليل خصوصه.

(فصل) قال أبو بكر قد ذكرنا ما حضرنا من علم أحكام هذه الآية وما في ضمنها من الدلائل على المعاني وما يشتمل عليه من وجوه الاحتمال على ما ذهب إليه المختلفون فيها وذكرناه عن قائليها من السلف وفقهاء الأمصار وأنزل الله إياها بهذه الألفاظ المحتملة للمعاني ووجوه الدلالات على الأحكام مع أمره إيانا باعتبارها والاستدلال بها في

٣٣

قوله تعالى (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) وقوله تعالى (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فحثنا على التفكر فيه وحرضنا على الاستنباط والتدبر وأمرنا بالاعتبار لنتسابق إلى إدراك أحكامه وننال درجة المستنبطين والعلماء الناظرين ودل بما نزل من الآي المحتملة للوجوه من الأحكام التي طريق استدراك معانيها السمع على تسويغ الاجتهاد في طلبها وإن كلا منهم مكلف بالقول بما أداه إليه اجتهاده واستقر عليه رأيه ونظره وأن مراد الله من كل واحد من المجتهدين اعتقاد ما أداه إليه نظره إذ لم يكن لنا سبيل إلى استدراكه إلا من طريق السمع وكان جائزا تعبد كل واحد منهم من طريق النظر بمثل ما حصل عليه اجتهاده فوجب من أجل ذلك أن يكون من حيث جعل لفظ الكتاب محتملا للمعاني أن يكون مشرعا لكل واحد من المجتهدين ما دل عليه عنده فحوى الآية وما في مضمون الخطاب ومقتضاه من وجوه الاحتمال فانظر على كم اشتملت هذه الآية بفحواها ومقتضاها من لطيف المعاني وكثيرة الفوائد وضروب ما أدت إليه من وجوه الاستنباط وهذه إحدى دلائل إعجاز القرآن إذ غير جائز وجود مثله في كلام البشر وأنا ذاكرنا مجملا ما تقدم ذكره مفصلا ليكون أقرب إلى فهم قارئه إذا كان مجموعا محصورا والله تعالى نسأل التوفيق* فأول ما ذكرنا من حكم قوله تعالى (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) ما احتمله اللفظ من إرادة القيام والثاني ما اقتضته حقيقة اللفظ من إيجاب الغسل بعد القيام والثالث ما احتمله من القيام من النوم لأن الآية على هذه الحال نزلت والرابع اقتضاؤها إيجاب الوضوء من النوم المعتاد الذي يصح إطلاق القول فيه بأنه قائم من النوم والخامس احتمالها لإيجاب الوضوء لكل صلاة واحتمالها لطهارة واحدة لصلوات كثيرة ما لم يحدث والسادس احتمالها إذا أردتم القيام وأنتم محدثون وإيجاب الطهارة من الأحداث والسابع دلالتها على جواز الوضوء بإمرار الماء على الموضع من غير ذلك واحتمالها لقول من أوجب الدلك والثامن إيجابها بظاهرها إجراء الماء على الأعضاء وإن مسحها غير جائز على ما بينا وبطلان قول من أجاز المسح في جميع الأعضاء والتاسع دلالتها على جواز الوضوء بغير نية والعاشر دلالتها على وجوب الاقتصار بالفرض على ما واجهنا من المتوضئ بقوله تعالى (وُجُوهَكُمْ) إذ كان الوجه ما واجهك وإن المضمضة والاستنشاق غير واجبين في الوضوء والحادي عشر دلالتها على أن تخليل

٣٤

اللحية غير واجب إذ لم يكن باطنها من الوجه والثاني عشر دلالتها على نفى إيجاب التسمية في الوضوء والثالث عشر دلالتها على دخول المرافق في الغسل والرابع عشر احتمالها أن تكون المرافق غير داخلة والخامس عشر دلالتها على جواز مسح بعض الرأس والسادس عشر احتمالها لوجوب مسح الجميع والسابع عشر احتمالها لجواز مسح البعض أى بعض كان منه والثامن عشر دلالتها على أنه غير جائز أن يكون المفروض ثلاث شعرات إذ غير جائز تكليفه ما لا يمكن الاقتصار عليه والتاسع عشر احتمالها لوجوب غسل الرجلين والعشرون احتمالها لجواز المسح على قول موجبى استيعابها بالمسح والحادي والعشرون دلالتها على بطلان قول مجيزى مسح البعض بقوله (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) والثاني والعشرون دلالتها على عدم إيجاب الجمع بين الغسل والمسح وأن الواجب إنما كان أحدهما باتفاق الفقهاء والثالث والعشرون دلالتها على جواز المسح في حال لبس الخفين ووجوب الغسل في حال ظهور الرجلين والرابع والعشرون دلالتها على جواز المسح على الخفين إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان ثم أكمل الطهارة قبل الحدث لأنها من حيث دلت على المسح دلت على جوازه في جميع الأحوال إلا ما قام دليله والخامس والعشرون دلالتها على قول من أجاز المسح على الجرموقين من حيث دلت على المسح على الخفين لأن الماسح على الخفين والجرموقين جائز أن يقال قد مسح على رجليه وإن كان عليهما خفان والسادس والعشرون دلالتها على المسح على الجوربين وأنه يحتاج إلى دليل في أن المسح على الجوربين وأنه غير مراد والسابع والعشرون دلالتها على لزوم مباشرة الرأس بالمسح وامتناع جوازه على العمامة والخمار فإن قيل كان ذلك دليلا على بطلان المسح على العمامة فقوله (وَأَرْجُلَكُمْ) يدل على بطلان المسح على الخفين* قيل له لما كان قوله (وَأَرْجُلَكُمْ) محتملا للمسح والغسل وأمكننا استعمالها استعملناهما في حالين وإن كان في أحدهما مجازا لئلا نسقط واحدا منهما ولم تكن بنا حاجة إلى استعمال قوله (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) على المجاز فاستعملناه على حقيقته والثامن والعشرون دلالتها على جواز الوضوء مرة مرة وأن ما زاد فهو تطوع والتاسع والعشرون دلالتها على نفى فرض الاستنجاء وعلى جواز الصلاة مع تركه وعلى بطلان قول من أوجب الاستنجاء من الريح والثلاثون دلالتها على بطلان قول من أوجب غسل اليد قبل إدخالهما الإناء وأنه إن أدخلهما قبل أن يغسلهما لم يجزه

٣٥

الوضوء والحادي والثلاثون دلالتها على أن مسح الأذنين ليس بفرض وبطلان قول من أجاز المسح عليهما دون الرأس والثاني والثلاثون دلالتها على جواز تفريق الوضوء بإباحة الصلاة بالغسل على أى وجه حصل والثالث والثلاثون دلالتها على بطلان قول موجبى الترتيب في الوضوء والرابع والثلاثون اقتضاؤها لإيجاب الغسل من الجنابة والخامس والثلاثون دلالتها على اقتضاء هذا اللفظ لمن سمى به اجتناب أشياء إذ كانت الجنابة من مجانبة ما يقتضى ذلك اجتنابه وهو ما قد بين حكمه في غيرها والسادس والثلاثون دلالتها على استيعاب البدن كله بالغسل ووجوب المضمضة والاستنشاق فيه بقوله (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) والسابع والثلاثون دلالتها على أنه متى طهر بدنه استباح الصلاة وأن الوضوء ليس بفرض فيه والثامن والثلاثون إيجاب التيمم للحدث عند عدم الماء والتاسع والثلاثون جوازه للمريض إذا خاف ضرر الماء والأربعون جواز التيمم لغير المريض إذا خاف ضرر البرد إذ كان المعنى في المرض مفهوما وهو أنه خوف الضرر والحادي والأربعون دلالتها على جواز التيمم للجنب إذ كان قوله تعالى (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) يحتمل الجماع والثاني والأربعون احتمالها إيجاب الوضوء من مس المرأة إذ كان قوله تعالى (أَوْ لامَسْتُمُ) يحتمل الأمرين والثالث والأربعون دلالتها على أن من خاف العطش جاز له التيمم إذ كان في معنى الخائف لضرر الماء باستعماله وهو المريض والمجروح والرابع والأربعون دلالتها على أن الناسي للماء في رحله يجوز له التيمم إذ هو غير واجد للماء والله تعالى شرط استعمال الماء عند وجوده والخامس والأربعون دلالتها على أن من معه ماء لا يكفيه لوضوئه فليس عليه استعماله لأنه أمر بغسل أعضاء الوضوء ثم قال تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) يعنى ما يكفى لغسلها ولأنه لا خلاف أن من فرضه التيمم فدل على أن هذا القدر من الماء غير مراد والسادس والأربعون احتمالها لاستدلال من استدل بقوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) فذكر عدم كل جزء منه إذ كان نكرة في جواز التيمم فإذا وجد قليلا لم يجز الاقتصار على التيمم والسابع والأربعون دلالتها على سقوط فرض الطلب وبطلان قول موجبه إذ كان الوجود أو العدم لا يقتضيان طلبا فموجب الطلب زائد فيها ما ليس منها والثامن والأربعون دلالتها على أن من خاف ذهاب الوقت إن توضأ لم يجز له التيمم إذ كان واجدا للماء لأمره تعالى إيانا بالغسل عند وجود الماء

٣٦

بقوله تعالى (فَاغْسِلُوا) من غير ذكر الوقت والتاسع والأربعون دلالتها على أن المحبوس الذي لا يجد ماء ولا ترابا نظيفا أنه لا يصلّى لأن الله أمر بفعل الصلاة بأحد ما ذكره في الآية من ماء أو تراب والخمسون احتمالها لجواز التيمم للمحبوس إذا وجد ترابا نظيفا والحادي والخمسون جواز التيمم قبل دخول الوقت إذ لم يحصره بوقت وإنما علقه بعدم الماء بقوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) والثاني والخمسون دلالتها على جواز الصلوات المكتوبات بتيمم واحد ما لم يحدث أو يجد الماء بقوله تعالى (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) ثم قوله في سياقه (فَتَيَمَّمُوا) فأمر بالصلاة بالتيمم على الوجه الذي أمر بها بالوضوء فلما لم تقتض الآية تكرار الوضوء لكل صلاة لم تقتض تكرار التيمم والثالث والخمسون دلالتها على أن على المتيمم إذا وجد الماء في الصلاة الوضوء لقوله تعالى (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) على ما بينا من دلالتها على ذلك فيما سلف والرابع والخمسون مسح الوجه واليدين في التيمم واستيعابهما به* والخامس والخمسون مسح اليدين إلى المرفقين لاقتضاء قوله تعالى (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) إياها وأن ما فوق المرفقين إنما خرج بدليل والسادس والخمسون جوازه بكل ما كان من الأرض لقوله تعالى (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) والصعيد الأرض والسابع والخمسون بطلان التيمم بالتراب النجس لقوله تعالى (طَيِّباً) والنجس ليس بطيب والثامن والخمسون وجوب النية في التيمم من وجهين أحدهما أن التيمم القصد والثاني قوله تعالى (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) على ما بينا من دلالته على أن ابتداءه يكون من الأرض حتى يتصل بالوجه من غير قطع وأن استعماله لشيء آخر يقطع حكم النية وتوجب الاستيناف والتاسع والخمسون احتمالها لإصابة بعض التراب وجهه ويديه لقوله (مِنْهُ) وهو للتبعيض والستون دلالتها على بطلان قول من أجاز التيمم بالثلج والحشيش إذ ليسا من الصعيد والواحد والستون دلالة قوله تعالى (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) على إيجاب الطهارة من الخارج من السبيلين وأن دم الاستحاضة وسلس البول والمذي ونحوهما توجب الوضوء إذ كان الغائط هو المطمئن من الأرض يؤتى لكل ذلك والثاني والستون دلالة قوله تعالى (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) على جواز الغسل بسائر المائعات إلا ما خصه الدليل فيستدل به على جواز الوضوء بنبيذ التمر ويستدل به أيضا الحسن بن صالح على جوازه بالخل وما جرى مجراه ويستدل به أيضا على جواز

٣٧

الطهارة بالماء الذي خالطه شيء من الطاهرات ولم يغلب على الماء مثل ماء الورد واللبن والخل ونحو ذلك والثالث والستون دلالة قوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) على جوازه بالنبيذ إذ كان في النبيذ ماء وإنما أطلق لنا التيمم عند عدم كل جزء من الماء لذكره إياه بلفظ منكور ويستدل به أيضا من يجيز الوضوء بالماء المضاف كالمرق وخل التمر ونحوه إذا كان فيه ماء والرابع والستون دلالتها لمن يمنع المستحاضة صلاتي فرض بوضوء واحد على لزوم إعادة الوضوء لفرض ثان لقوله (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) فقد روى إذا قمتم وأنتم محدثون وهي محدثة لوجود الحدث بعد الطهارة والخامس والستون دلالتها على امتناع جواز فرضين بتيمم واحد كدلالتها في الاستحاضة إذا كان التيمم غير رافع للحدث فهو متى أراد القيام إلى الصلاة قام إليها وهو محدث والسادس والستون دلالتها على جواز التيمم في أول الوقت عند عدم الماء لقوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) وقوله (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ـ إلى قوله ـ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) فأمر بالصلاة عند دلوكها وأمر بتقديم الطهارة لها بالماء إن كان موجودا أو التراب إذا كان معدوما فاقتضى ذلك جواز التيمم في أول الوقت وقبل الوقت كما اقتضى جواز الطهارة بالماء قبل الوقت وفي أوله والسابع والستون دلالتها على امتناع جواز التيمم في الحضر للمحبوس وجواز الصلاة به لقوله تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ـ إلى قوله ـ فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً) فشرط في إباحة التيمم شيئين أحدهما المرض والآخر السفر مع عدم الماء فإذا لم يكن مسافرا وكان مقيما إلا أنه ممنوع منه بحبس فغير جائز صلاته بالتيمم فإن قيل فهو غير واجد للماء وإن كان مقيما قيل له هو كذلك إلا أنه قد شرط في جوازه شيئين أحدهما السفر الذي الأغلب فيه عدم الماء والثاني عدمه وإنما أبيح له التيمم وجواز الصلاة بتعذر وجود الماء للحال الموجبة لذلك وهو السفر لا في الحضر الذي الماء فيه موجود في الأغلب وإنما حصل المنع بفعل آدمي من غير حال العادة فيها والغالب منها عدمه والثامن والستون دلالة قوله (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) على نفى كل ما أوجب الحرج والاحتجاج به عند وقوع الخلاف عن منتحلي مذهب التضييق فيدل ذلك على جواز التيمم وإن كان معه ما إذا خاف على نفسه من العطش فيحبسه لشربه إذ كان فيه نفى الضيق والحرج وعلى نفى إيجاب الترتيب والموالاة في الطهارة وعلى نفى إيجاب

٣٨

النية فيها وما جرى مجرى ذلك والتاسع والستون دلالة قوله (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) على أن المقصد حصول الطهارة على أى وجه حصلت من ترتيب أو غيره ومن موالاة أو تفريق ومن وجوب نية أو عدمها وما جرى مجرى ذلك والسبعون دلالة قوله (فَاطَّهَّرُوا) على سقوط اعتبار تقدير الماء إذ كان المراد التطهير وعلى أن اغتسال النبي صلى الله عليه وسلّم بالصاع غير موجب اعتباره والواحد والسبعون أن قوله تعالى (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) فيه دلالة على أن المراد مسحه بالماء فهذه وجوه دلالات هذه الآية الواحدة على المعاني وضروب الأحكام منها نصوص ومنها احتمال في الطهارة التي يجب تقديمها أمام الصلاة وشروطها التي تصح بها وعسى أن يكون كثير من دلائلها وضروب احتمالها مما لم يبلغه علمنا متى يحث عنها واستقصى النظر فيها أدركها من وفق لفهمها والله الموفق.

باب القيام بالشهادة والعدل

قال الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) ومعناه كونوا قوامين لله بالحق في كل ما يلزمكم القيام به من الأمر بالمعروف والعمل به والنهى عن المنكر واجتنابه فهذا هو القيام لله بالحق وقوله [شهداء لله بالقسط] يعنى بالعدل قد قيل في الشهادة أنها الشهادات في حقوق الناس روى ذلك عن الحسن وهو مثل قوله (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) وقيل إنه أراد الشهادة على الناس بمعاصيهم كقوله تعالى (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) فكان معناه أن كونوا من أهل العدالة الذين حكم الله بأن مثلهم يكونون شهداء على الناس يوم القيامة وقيل أراد به الشهادة لأمر لله بأنه الحق وجائز أن تكون هذه المعاني كلها مرادة لاحتمال اللفظ لها وقوله تعالى (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) روى أنها نزلت في شأن اليهود حين ذهب إليهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ليستعينهم في دية فهموا أن يقتلوه وقال الحسن نزلت في قريش لما صدوا المسلمين عن المسجد الحرام* قال أبو بكر قد ذكر الله تعالى هذا المعنى في هذه السورة في قوله (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) فحمله الحسن على معنى الآية الأولى والأولى أن تكون نزلت في غيرهم وأن لا تكون تكرارا وقد تضمن ذلك الأمر بالعدل على المحق والمبطل وحكم بأن كفر الكافرين وظلمهم لا يمنع من العدل عليهم وأن لا يتجاوز في قتالهم وقتلهم ما يستحقون وأن يقتصر بهم على

٣٩

المستحق من القتال والأمر والاسترقاق دون المثلة بهم وتعذيبهم وقتل أولادهم ونساءهم قصدا لإيصال الغم والألم إليهم وكذلك قال عبد الله بن رواحة حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلّم إلى خيبر خارصا فجمعوا له شيئا من حليهم وأرادوا دفعه إليه ليخفف في الخرص إن هذا سحت وإنكم لأبغض إلى من عدتكم قردة وخنازير وما يمنعني ذلك من أن أعدل عليكم فقالوا بهذا قامت السموات والأرض* فإن قيل لما قال (هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) ومعلوم أن العدل نفسه هو التقوى فكيف يكون الشيء هو أقرب إلى نفسه قيل معناه هو أقرب إلى أن تكونوا متقين باجتناب جميع السيئات فيكون العدل فيما ذكر داعيا إلى العدل في جميع الأشياء واجتناب جميع المعاصي ويحتمل هو أقرب لاتقاء النار وقوله (هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) فقوله هو راجع إلى المصدر الذي دل عليه الفعل كأنه قال العدل أقرب للتقوى كقول القائل من كذب كان شرا له يعنى كان الكذب شرا له وقوله تعالى (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) قد اختلف في المراد بالنقيب هاهنا فقال الحسن الضمين وقال الربيع بن أنس الأمين وقال قتادة الشهيد على قومه وقبل إن أصل النقيب مأخوذ من النقب وهو الثقب الواسع فقيل نقيب القوم لأنه ينقب على أحوالهم وعن مكنون ضمائرهم وأسرارهم فسمى رئيس العرفاء نقيبا لهذا المعنى وأما قول الحسن أنه الضمين فإنما أراد به أنه الضمين لتعرف أحوالهم وأمورهم وصلاحهم وفسادهم واستقامتهم وعدولهم ليرفع ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وكذلك جعل النبي صلّى الله عليه وسلّم على الأنصار اثنى عشر نقيبا على هذا المعنى وقول الربيع بن أنس أنه الأمين وقول قتادة أنه الشهيد يقارب ما قال الحسن أيضا لأنه أمين عليهم وشهيد بما يعملون به ويجرى عليهم أمورهم وإنما نقب النبي صلّى الله عليه وسلّم النقباء لشيئين أحدهما لمراعاة أحوالهم وأمورهم وأعلامها النبي صلّى الله عليه وسلّم ليدبر فيهم بما روى والثاني أنهم إذا علموا أن عليهم نقيبا كانوا أقرب إلى الاستقامة إذ علموا أن أخبارهم تنتهي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ولأن كل واحد منهم يحتشم مخاطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما ينوبه ويعرض له من الحوائج قبله فيقوم عنه النقيب فيه وليس يجوز أن يكون النقيب ضامنا عنهم الوفاء بالعهد والميثاق لأن ذلك معنى لا يصح ضمانه ولا يمكن الضمين فعله ولا القيام به فعلمنا أنه على المعنى الأول وفي هذه الآية دلالة على قبول خبر الواحد لأن نقيب كل قوم إنما نصب ليعرف

٤٠