أحكام القرآن - ج ٤

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٧

فأن لله خمسه) ونسخ بهذا الأنفال التي جعلها للرسول في جملة الغنيمة وقد روى مجمع بن جارية أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قسم غنائم خيبر للفارس سهمين وللراجل سهما وروى ابن الفضيل عن الحجاج عن أبى صالح عن ابن عباس قال قسم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهما وهذا خلاف رواية مجمع بن جارية وقد يمكن الجمع بينهما بأن يكون قسم لبعض الفرسان سهمين وهو المستحق وقسم لبعضهم ثلاثة أسهم وكان السهم الزائد على وجه النفل كما روى سلمة بن الأكوع أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أعطاه في غزوة ذي قرد سهمين سهم الفارس والراجل وكان راجلا يومئذ وكما روى أنه أعطى الزبير يومئذ أربعة أسهم وروى سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن يحيى بن عباد ابن عبد الله بن الزبير أن الزبير كان يضرب له في الغنم بأربعة أسهم وهذه الزيادة كانت على وجه النفل تحريضا لهم على إيجاب الخيل كما كان ينفل سلب القتيل ويقول من أصاب شيئا فهو له تحريضا على القتال فإن قيل لما اختلفت الأخبار كان خبر الزائد أولى قيل له هذا ثبتت الزيادة كانت على وجه الاستحقاق فأما إذا احتمل أن تكون على وجه النفل فلم تثبت هذه الزيادة مستحقة وأيضا فإن في خبرنا إثبات زيادة لسهم الراجل لأنه كلما نقص نصيب الفارس زاد نصيب الراجل ويدل على ما ذكرنا من طريق النظر أن الفرس لما كان آلة كان القياس أن لا يسهم له كسائر الآلات فتركنا القياس في السهم الواحد والباقي محمول على القياس وعلى هذا لو حضر الفرس دون الرجل لم يستحق شيئا ولو حضر الرجل دون الفرس استحق فلما لم يجاوز بالرجل سهما واحدا كان الفرس به أولى وأيضا الرجل آكد أمرا في استحقاق السهم من الفرس بدلالة أن الرجال وإن كثروا استحقوا سهامهم ولو حضرت جماعة أفراس لرجل واحد لم يستحق إلا لفرس واحد فلما كان الرجل آكد أمرا من الفرس ولم يستحق أكثر من سهم فالفرس أحرى بذلك واختلف في البراذين فقال أصحابنا ومالك والثوري والشافعى البرذون والفرس سواء وقال الأوزاعى كانت أئمة المسلمين فيما سلف لا يسهمون للبراذين حتى هاجت الفتنة من بعد قتل الوليد بن يزيد وقال الليث للهجين والبرذون سهم واحد ولا يلحقان بالعراب قال أبو بكر قال الله تعالى (ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) وقال (فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) وقال (والخيل والبغال والحمير) لعقل باسم

٢٤١

الخيل في هذه الآيات البراذين كما عقل منها العراب فلما شملها اسم الخيل وجب أن يستويا في السهمان ويدل عليه أن راكب البرذون يسمى فارسا كما يسمى به راكب الفرس العربي فلما أجرى عليهما اسم الفارس وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم للفارس سهمان وللراجل سهم عم ذلك فارس البرذون كما عم فارس العراب وأيضا إن كان من الخيل فواجب أن لا يختلف سهمه وسهم العربي وإن لم يكن من الخيل فواجب أن لا يستحق شيئا فلما وافقنا الليث ومن قال بقوله إنه يسهم له دل على أنه من الخيل وأنه لا فرق بينه وبين العربي وأيضا لا يختلف الفقهاء في أنه بمنزلة الفرس العربي في جواز أكله وحظره على اختلافهم فيه فدل على أنهما جنس واحد فصار فرق ما بينهما كفرق ما بين الذكر والأنثى والهزيل والسمين والجواد وما دونه وأن اختلافهما في هذه الوجوه لم يوجب اختلاف سهامهما وأيضا فإن الفرس العربي وإن أجرى من كان البرذون فإن البرذون أقوى منه على حمل السلاح وأيضا فإن الرجل العربي والعجمي لا يختلفان في حكم السهام كذلك الخيل العربي والعجمي وقال عبد الله بن دينار سألت سعيد بن المسيب عن صدقة البراذين فقال سعيد وهل في الخيل من صدقة وعن الحسن أنه قال البراذين بمنزلة الخيل وقال مكحول أول من قسم للبراذين خالد بن الوليد يوم دمشق قسم للبراذين نصف سهام الخيل لما رأى من جريها وقوتها فكان يعطى البراذين سهما سهما وهذا حديث مقطوع وقد أخبر فيه أنه فعله من طريق الرأى والاجتهاد لما رأى من قوتها فإذا ليس بتوقيف وقد روى إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه قال أغارت الخيل بالشام وعلى الناس رجل من همدان يقال له المنذر بن أبى حمصة الوادعي فأدركت الخيل العراب من يومها وأدركت الكوادن من الغد فقال لا اجعل ما أدرك كما لم يدرك فكتب إلى عمر فيه فكتب عمر هبلت الوادعي أمه لقد أذكرت به أمضوها على ما قال فاحتج من لم يسهم للبراذين بذلك ولا دلالة في هذا الحديث على أن ذلك كان رأى عمر وإنما أجازه لأنه مما يسوغ فيه الاجتهاد وقد حكم به أمير الجيش فأنفذه واختلف فيمن يغزو بأفراس فقال أبو حنيفة ومحمد ومالك والشافعى لا يسهم إلا لفرس واحد وقال أبو يوسف والثوري والأوزاعى والليث يسهم لفرسين والذي يدل على صحة القول الأول أنه معلوم أن الجيش قد كانوا يغزون مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بعد ما ظهر الإسلام بفتح خيبر ومكة وحنين وغيرها من

٢٤٢

المغازي ولم يكن يخلو الجماعة منهم من أن يكون معه فرسان أو أكثر ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضرب لأكثر من فرس واحد وأيضا فإن الفرس آلة وكان القياس أن لا يضرب له بسهم كسائر الآلات فلما ثبت بالسنة والاتفاق سهم الفرس الواحد أثبتناه ولم نثبت الزيادة إلا بتوقيف إذ كان القياس يمنعه.

باب قسمة الخمس

قال الله تعالى (فأن لله خمسه وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) واختلف السلف في كيفية قسمة الخمس في الأصل فروى معاوية بن صالح عن على بن أبى طلحة عن ابن عباس قال كانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس فأربعة منها لمن قاتل عليها وخمس واحد يقسم على أربعة فربع لله والرسول ولذي القربى يعنى قرابة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من الخمس شيئا والرابع الثاني لليتامى والربع الثالث للمساكين والربع الرابع لابن السبيل وهو الضيف الفقير الذي ينزل بالمسلمين وروى قتادة عن عكرمة مثله وقال قتادة في قوله تعالى (فأن لله خمسه) قال يقسم الخمس على خمسة أسهم لله وللرسول خمس ولقرابة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم خمس ولليتامى خمس وللمساكين خمس ولابن سبيل خمس وقال عطاء والشعبي خمس الله وخمس الرسول واحد واحد قال الشعبي هو مفتاح الكلام وروى سفيان عن قيس بن مسلم قال سألت الحسن بن محمد بن الحنيفة عن قوله عز وجل (فأن لله خمسه) قال هذا مفتاح كلام ليس لله نصيب لله الدنيا والآخرة وقال يحيى بن الجزار (فأن لله خمسه) قال لله كل شيء وإنما للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم خمس الخمس وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبى العالية قال كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يؤتى بالغنيمة فيضرب بيده فما وقع فيها من شيء جعله للكعبة وهو سهم بيت الله ثم يقسم ما بقي على خمسة فيكون للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم سهم ولذوي القربى سهم ولليتامى سهم وللمساكين سهم ولابن السبيل سهم والذي جعله للكعبة هو السهم الذي لله تعالى وروى أبو يوسف عن أشعث بن سوار عن الزبير عن جابر قال كان يحمل الخمس في سبيل الله تعالى ويعطى منه نائبة القوم فلما كثر المال جعله في غير ذلك وروى أبو يوسف عن الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس أن الخمس الذي كان يقسم على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم على خمسة أسهم لله وللرسول سهم ولذوي القربى سهم ولليتامى وسهم وللمساكين سهم وابن السبيل سهم ثم قسم أبو بكر وعمر وعثمان وعلى على ثلاثة أسهم

٢٤٣

لليتامى والمساكين وابن السبيل قال أبو بكر فاختلف السلف في قسمة الخمس على هذه الوجوه قال ابن عباس في رواية على بن أبى طلحة أن القسمة كانت على أربعة سهم الله وسهم الرسول وسهم ذي القربى كان واحدا وأنه لم يكن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يأخذ من الخمس شيئا وقال آخرون قوله (لله) افتتاح كلام وهو مقسوم على خمسة وهو قول عطاء والشعبي وقتادة وقال أبو العالية كان مقسوما على ستة أسهم لله سهم يجعل للكعبة ولكل واحد من المسلمين في الآية سهم وأخبر ابن عباس في حديث الكلبي أن الخلفاء الأربعة قسموه على ثلاثة وقال جابر بن عبد الله كان يحمل من الخمس في سبيل الله ويعطى منه نائبة القوم ثم جعل في غير ذلك وقال محمد بن مسلمة وهو من المتأخرين من أهل المدينة جعل الله الرأى في الخمس إلى نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم كما كانت الأنفال له قبل نزول آية قسمة الغنيمة فنسخت الأنفال في الأربعة الأخماس وترك الخمس على ما كان عليه موكولا إلى رأى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وكما قال (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كى لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) ثم قال (وما آتاكم الرسول فخذوه) فذكر هذه الوجوه ثم قال (وما آتاكم الرسول فخذوه) فبين في آخره أنه موكول إلى رأى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وكذلك الخمس قال فيه أنه (لله خمسه وللرسول) يعنى قسمته موكولة إليه ثم بين الوجوه التي يقسمهم عليها على ما يرى ويختار ويدل على ذلك حديث عبد الواحد بن زياد عن الحجاج بن أرطاة قال حدثنا أبو الزبير عن جابر أنه سئل كيف كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يصنع بالخمس قال كان يحمل منه في سبيل الله الرجل ثم الرجل ثم الرجل والمعنى في ذلك أنه كان يعطى منه المستحقين ولم يكن يقسمه أخماسا وأما قول من قال إن القسمة كانت في الأصل على ستة وأن سهم الله كان مصروفا إلى الكعبة فلا معنى له لأنه لو كان ذلك ثابتا لورد النقل به متواترا ولكانت الخلفاء بعد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أولى الناس باستعمال ذلك فلما لم يثبت ذلك عنهم علم أنه غير ثابت وأيضا فإن سهم الكعبة ليس بأولى بأن يكون منسوبا إلى الله تعالى من سائر السهام المذكورة في الآية إذ كلها مصروف في وجوه القرب إلى الله عز وجل فدل ذلك على أن قوله (فأن لله خمسه) غير مخصوص بسهم الكعبة فلما بطل ذلك لم يخل المراد بذلك من أحد وجهين إما أن يكون مفتاحا للكلام على ما حكيناه عن جماعة من السلف وعلى وجه تعليمنا التبرك بذكر الله وافتتاح الأمور باسمه وأن

٢٤٤

يكون معناه أن الخمس مصروف في وجوه القرب إلى الله تعالى ثم بين تلك الوجوه فقال (وللرسول ولذى القربى) الآية فأجمل بديا حكم الخمس ثم فسر الوجوه التي أجملها فإن قيل لو أراد ما قلت لقال (فأن لله خمسه وللرسول ولذى القربى) ولم يكن يدخل الواو بين اسم الله تعالى واسم رسول الله قيل له لا يجب ذلك من قبل أنه جائز في اللغة إدخال الواو والمراد إلغاؤها كما قال تعالى (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء) والواو ملغاة والفرقان ضياء وقال تعالى (فلما أسلما وتله للجبين) معناه لما أسلما تله للجبين لأن قوله (فلما أسلما) يقتضى جوابا وجوابه تله للجبين وكما قال الشاعر :

بل شيء يوافق بعض شيء

وأحيانا وباطله كثير

ومعناه يوافق بعض شيء أحيانا والواو ملغاة وكما قال الآخر :

فإن رشيدا وابن مروان لم يكن

ليفعل حتى يصدر الأمر مصدرا

ومعناه فإن رشيد بن مروان وقال الآخر :

إلى الملك القرم وابن الهام

وليث الكتيبة في المزدحم

والواو في هذه المواضع دخولها وخروجها سواء فثبت بما ذكرنا أن قوله (فأن لله خمسه) على أحد المعنيين اللذين ذكرنا وجائز أن يكون جميعا مرادين لاحتمال الآية لهما فينتظم تعليمنا افتتاح الأمور بذكر الله تعالى وأن الخمس مصروف في وجوه القرب إلى الله تعالى فكان للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم سهم من الخمس وكان له الصفي وسهم من الغنيمة كسهم رجل من الجند إذا شهد القتال وروى أبو حمزة عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال وفد عبد القيس آمركم بأربع شهادة أن لا إله إلا الله وتقيموا الصلاة وتعطوا سهم الله من الغنائم والصفي واختلف السلف في سهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بعد موته فروى سفيان عن قيس بن مسلم عن الحسن ابن محمد بن الحنيفة قال اختلف الناس بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في سهم الرسول وسهم ذي القربى فقالت طائفة سهم الرسول للخليفة من بعده وقالت طائفة سهم ذي القربى لقرابة الخليفة وأجمعوا على أن جعلوا هذين السهمين في الكراع والعدة في سبيل الله قال أبو بكر سهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إنما كان له مادام حيا فلما توفى سقط سهمه كما سقط الصفي بموته فرجع سهمه إلى جملة الغنيمة كما رجع إليها ولم يعد للنوائب واختلف في سهم ذوى القربى فقال أبو حنيفة في الجامع الصغير يقسم الخمس على ثلاثة أسهم للفقراء والمساكين

٢٤٥

وابن السبيل وروى بشر بن الوليد عن أبى يوسف عن أبى حنيفة قال خمس الله والرسول واحد وخمس ذو القربى لكل صنف سماه الله تعالى في هذه الآية خمس الخمس وقال الثوري سهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من الخمس هو خمس الخمس وما بقي فللطبقات التي سمى الله تعالى وقال مالك يعطى من الخمس أقرباء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم على ما يرى ويجتهد قال الأوزاعى خمس الغنيمة لمن سمى في الآية وقال الشافعى يقسم سهم ذوى القربى بين غنيهم وفقيرهم قال أبو بكر قوله تعالى (ولذى القربى) لفظ مجمل مفتقر إلى البيان وليس بعموم وذلك لأن ذا القربى لا يختص بقرابة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم دون غيره من الناس ومعلوم أنه لم يرد بها أقرباء سائر الناس فصار اللفظ مجملا مفتقرا إلى البيان وقد اتفق السلف على أنه قد أريد أقرباء النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فمنهم من قال إن المستحقين لسهم الخمس من الأقرباء هم الذين كانت لهم نصرة وأن السهم كان مستحقا بالأمرين من القرابة والنصرة وأن من ليس نصرة ممن حدث بعد فإنما يستحقه بالفقر كما يستحقه سائر الفقراء ويستدلون على ذلك بحديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن جبير بن مطعم قال لما قسم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ذوى القربى بين بنى هاشم وبنى المطلب أتيته أنا وعثمان فقلنا يا رسول الله هؤلاء بنوا هاشم لا ننكر فضلهم بمكانك الذي وضعك الله فيهم أرأيت بنى المطلب أعطيتم ومنعتنا وإنماهم ونحن منك بمنزلة فقال صلى الله عليه وآله وسلم إنهم لم يفارقونى في جاهلية ولا إسلام وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد وشبك بين أصابعه فهذا يدل من وجهين على أنه غير مستحق بالقرابة فحسب أحدهما أن بنى المطلب وبنى عبد شمس ولو كان مستحقا بالقرابة لساوى بينهم والثاني أن فعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ذلك خرج مخرج البيان لما أجمل في الكتاب من ذكر ذي القربى وفعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إذا ورد على وجه البيان فهو على الوجوب فلما ذكر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم النصرة مع القرابة دل على أن ذلك مراد الله تعالى فمن لم يكن له منهم نصرة فإنما يستحقه بالفقر وأيضا فإن الخلفاء الأربعة متفقون على أنه لا يستحق إلا بالفقر وقال محمد بن إسحاق سألت محمد على فقلت ما فعل على رضى الله عنه بسهم ذوى القربى حين ولى فقال سلك به سبيل أبى بكر وعمر وكره أن يدعى عليه خلافهما قال أبو بكر لو لم يكن هذا رأيه لما قضى به لأنه قد خالفهما في أشياء مثل الجد والتسوية في العطايا وأشياء أخر فثبت أن رأيه ورأيهما كان سواء في

٢٤٦

أن سهم ذوى القربى إنما يستحقه الفقراء منهم ولما أجمع الخلفاء الأربعة عليه ثبتت حجته بإجماعهم لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وفي حديث يزيد بن هرمز عن ابن عباس فيما كتب به إلى نجدة الحروري حين سأله عن سهم ذي القربى فقال كنا نرى أنه لنا فدعانا عمر إلى أن نزوج منه أيمنا ونقضي منه عن مغرمنا فأبينا أن لا يسلمه لنا وأبى ذلك علينا قومنا وفي بعض الألفاظ فأبى ذلك علينا بنو عمنا فأخبر أن قومه وهم أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم رأوه لفقرائهم دون أغنيائهم وقول ابن عباس كنا نرى أنه لنا إخبار أنه قال من طريق الرأى ولاحظ للرأى مع السنة واتفاق جل الصحابة من الخلفاء الأربعة ويدل على صحة قول عمر فيما حكاه ابن عباس عنه حديث الزهري عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن المطلب بن ربيعة بن الحارث أنه والفضل بن العباس قالا يا رسول الله قد بلغنا النكاح فجئناك لتؤمرنا على هذه الصدقات فنؤدى إليك ما يؤدى العمال ونصيب ما يصيبون فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس ثم أمر محمية أن يصدقهما من الخمس وهذا يدل على أن ذلك مستحق بالفقر إذ كان إنما اقتضى لهما على مقدار الصداق الذي احتاجا إليه للتزويج ولم يأمر لهما بما فضل عن الحاجة ويدل على أن الخمس غير مستحق قسمته على السهمان وأنه موكول إلى رأى الإمام قوله صلّى الله عليه وآله وسلم مالي من هذا المال إلا الخمس والخمس مردود فيكم ولم يخصص القرابة بشيء منه دون غيرهم دل ذلك على أنهم فيه كسائر الفقراء يستحقون منه مقدار الكفاية وسد الخلة ويدل عليه قوله صلّى الله عليه وآله وسلم يذهب كسرى فلا كسرى بعده أبدا ويذهب قيصر فلا قيصر بعده أبدا والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله فأخبر أنه ينفق في سبيل الله ولم يخصص به قوما من قوم ويدل على أنه كان موكولا إلى رأى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه أعطى المؤلفة قلوبهم وليس لهم ذكر في آية الخمس فدل على ما ذكرنا ويدل عليه أن كل من سمى في آية الخمس لا يستحق إلا بالفقر وهم اليتامى وابن السبيل فكذلك ذو القربى لأنه سهم من الخمس ويدل عليه أنه لما حرم عليهم الصدقة أقيم ذلك لهم مقام ما حرم عليهم منها فوجب أن لا يستحقه منهم إلا فقير كما أن الأصل الذي أقيم هذا مقامه لا يستحقه إلا فقير فإن قيل موالي بنى هاشم لا تحل لهم الصدقة ولم يدخلوا في استحقاق السهم من الخمس قيل له هذا غلط لأن موالي بنى هاشم لهم سهم من الخمس إذ

٢٤٧

كانوا فقراء على حسب ما هو لبنى هاشم فإن قيل إذا كانت قرابة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يستحقون سهمهم بالفقر والحاجة فما وجه تخصيصه إياهم بالذكر وقد دخلوا في جملة المساكين قيل له كما خص اليتامى وابن السبيل بالذكر ولا يستحقونه إلا بالفقر وأيضا لما سمى الله الخمس لليتامى والمساكين وابن السبيل كما قال (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) الآية ثم قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إن الصدقة لا تحل لآل محمد فلو لم يسمهم في الخمس جاز أن يظن ظان أنه لا يجوز إعطاؤهم منه كما لا يجوز أن يعطوا من الصدقات فسماهم إعلاما منه لنا أن سبيلهم فيه بخلاف سبيلهم في الصدقات فإن قيل قد أعطى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم العباس من الخمس وكان ذا يسار فدل على أنه للأغنياء والفقراء منهم قيل له الجواب عن هذا من وجهين أحدهما أنه أخبر أنه أعطاهم بالنصرة والقرابة لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم إنهم لم يفارقونى في جاهلية ولا إسلام فاستوى فيه الفقير والغنى لتساويهم في النصرة والقرابة والثاني إنه جائز أن يكون النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إنما أعطى العباس لتفرقه في فقراء بنى هاشم ولم يعطه لنفسه وقد اختلف في ذوى القربى من هم فقال أصحابنا قرابة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم الذين تحرم عليهم الصدقة هم ذو قراباته وآله وهم آل جعفر وآل عقيل وولد حارث بن عبد المطلب وروى نحو ذلك عن زيد بن أرقم وقال آخرون بنو المطلب داخلون فيهم لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أعطاهم من الخمس وقال بعضهم قريش كلها من أقرباء النبي صلّى الله عليه وآله وسلم الذين سهم من الخمس إلا أن للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم أن يعطيه من رأى منهم قال أبو بكر أما من ذكرناهم فلا خلاف بين الفقهاء أنهم ذووا قربائه وأما بنو المطلب فهم وبنو عبد شمس في القرب من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم سواء فإن وجب أن يدخلوا في القرابة الذين تحرم عليهم الصدقة فواجب أن يكون بنى عبد شمس مثلهم لمساواتهم إياهم في الدرجة فأما إعطائهم الخمس فإنما خص هؤلاء به دون بنى عبد شمس بالنصرة لأنه قال لم يفارقونى في جاهلية ولا إسلام وأما الصدقة فلم يتعلق تحريمها بالنصرة عند جميع الفقهاء فثبت أن بنى المطلب ليسوا من آل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم الذين تحرم الصدقة عليهم كبني عبد شمس وموالي بنى هاشم تحرم عليهم الصدقة ولا قرابة لهم ولا يستحقون من الخمس شيئا بالقرابة وقد سألته فاطمة رضى الله عنها خادما من الخمس فوكلها إلى التكبير والتحميد ولم يعطها* فإن* قيل إنما لم يعطها لأنها ليست من ذوى قرباه لأنها أقرب إليه من ذوى قرباه* قيل له فقد خاطب عليا بمثل ذلك وهو من ذلك القربى وقال لبعض بنات عمه حين ذهبت مع فاطمة

٢٤٨

إليه تستخدمه سبقكن يتامى بدر وفي يتامى بدر من لم يكن من بنى هاشم لأن أكثرهم من الأنصار ولو استحقتا بالقرابة شيئا لا يجوز منعهما إياه لما منعهما حقهما ولا عدل بهما إلى غيرهما وفي هذا دليل على معنيين أحدهما أن سهمهم من الخمس أمره كان موكولا إلى رأى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في أن يعطيه من شاء منهم والثاني أن إعطاءهم من الخمس أو منعه لا تعلق له بتحريم الصدقة وأما من قال أن قرابة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قريش كلها فإنه يحتج لذلك بأنه لما نزلت (وأنذر عشيرتك الأقربين) قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يا بنى فهر يا بنى عدى يا بنى فلان لبطون قريش إنى نذير لكم بين يدي عذاب شديد وروى عنه أنه قال يا بنى كعب بن لؤي وأنه قال يا بنى هاشم يا بنى قصى يا بنى عبد مناف وروى عنه أنه قال لعلى اجمع لي بنى هاشم وهم أربعون رجلا قالوا فلما ثبت أن قريشا كلها من أقربائه وكان إعطاء السهم من الخمس موكولا إلى رأى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أعطاه من كان له منهم نصرة دون غيرهم * قال أبو بكر اسم القرابة واقع على هؤلاء كلهم لدعاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إياهم عند نزول قوله تعالى (وأنذر عشيرتك الأقربين) فثبت بذلك أن الاسم يتناول الجميع فقد تعلق بذوي قربى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أحكام ثلاثة أحدها استحقاق سهم من الخمس بقوله تعالى (وللرسول ولذى القربى) وهم الفقراء منهم على الشرائط التي قدمنا ذكرها عن المختلفين فيها والثاني تحريم الصدقة عليهم وهم آل على وآل العباس وآل عقيل وآل جعفر وولد الحارث بن عبد المطلب وهؤلاء هم أهل بيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ولا حظ لبنى المطلب في هذا الحكم لأنهم ليسوا أهل بيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ولو كانوا من أهل بيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لكانت بنو أمية من أهل بيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ومن آله ولا خلاف أنهم ليسوا كذلك فكذلك بنو المطلب لمساواتهم إياه في نسبهم من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم والثالث تخصيص الله تعالى لنبيه بإنذار عشيرته الأقربين فانتظم ذلك بطون قريش كلها على ما ورد به الأثر في إنذاره إياهم عند نزول الآية وإنما خص عشريته الأقربين بالإنذار لأنه أبلغ عند نزول الآية في الدعاء إلى الدين وأقرب إلى نفى المحاباة والمداهنة في الدعاء إلى الله عز وجل لأن سائر الناس إذا علموا أنه لم يحتمل عشيرته على عبادة غير الله وأنذرهم ونهاهم أنه أولى بذلك منهم إذ لو جازت المحاباة في ذلك لأحد لكانت أقرباؤه أولى الناس بها وقوله تعالى (واليتامى) فإن حقيقة اليتم هو الانفراد ومنه الرابية المنفردة تسمى يتيمة والمرأة المنفردة عن الأزواج تسمى يتيمة إلا أنه قد اختص في الناس

٢٤٩

بالصغير الذي قد مات أبوه وهو يفيد الفقر مع ذلك أيضا عند الإطلاق ولذلك قال أصحابنا فيمن أوصى ليتامى بنى فلان وهم لا يحصون أن الوصية جائزة لأنها للفقراء منهم ولا خلاف أنه قد أريد مع اليتم الفقر في هذه الآية وأن الأغنياء من الأيتام لا حظ لهم فيه ويدل على أن اليتم اسم يقع على الصغير الذي قد مات أبوه دون الكبير قوله صلّى الله عليه وآله وسلم لا يتم بعد حلم وقد قيل إن كل ولد يتيم من قبل أمه إلا الإنسان فإن يتمه من قبل أبيه وقوله تعالى (وابن السبيل) فإن المسافر المنقطع به المحتاج إلى ما يتحمل به إلى بلده وإن كان له مال في بلده فهو بمنزلة الفقير الذي لا مال له لأن المعنى في وجوب إعطائه حاجته إليه فلا فرق بين من له مالا يصل إليه وبين ما لا مال له* وأما المسكين فقد اختلف فيه وسنذكره في موضعه من آية الصدقات وفي اتفاق الجميع على أن ابن السبيل واليتيم إنما يستحقان حقهما من الخمس بالحاجة دون الاسم دلالة على أن المقصد بالخمس صرفه إلى المساكين فإن قيل إذا كان المعنى هو الفقر فلا فائدة في ذكر ذوى القربى قيل له فيه أعظم الفوائد وهو أن آل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لما حرمت عليهم الصدقة كان جائزا أن يظن ظان أن الخمس محرم عليهم كتحريمها إذ كان سبيله صرفه إلى الفقراء فأبان الله تعالى بتسميتهم في الآية عن جواز إعطائهم من الخمس بالفقر ويلزم هذا السائل أن يعطى اليتامى وابن السبيل بالاسم دون الحاجة عن قضيته بأن لو كان مستحقا بالفقر ما كان لتسميته ابن السبيل واليتيم معنى وهما إنما يستحقانه بالفقر قوله تعالى (إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا) قيل أن الفئة هي الجماعة المنقطعة عن غيرها وأصله من فأوت رأسه بالسيف إذا قطعته والمراد بالفئة هاهنا جماعة من الكفار فأمرهم بالثبات لهم وقتالهم وهو في معنى قوله تعالى (إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار) الآية ومعناه مرتب على ما ذكر في هذه من جواز التحرف للقتال أو الانحياز إلى فئة من المسلمين ليقاتل معهم ومرتب أيضا على ما ذكر بعد هذا من قوله تعالى (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله) فإنماهم مأمورون بالثبات لهم إذا كان العدو مثلهم فإن كانوا ثلاثة أضعافهم فجائز لهم الانحياز إلى فئة من المسلمين يقاتلون معهم وقوله تعالى (واذكروا الله كثيرا) يحتمل وجهين أحدهما ذكر الله تعالى باللسان والآخر الذكر بالقلب وذلك على وجهين أحدهما ذكر

٢٥٠

ثواب الصبر على الثبات لجهاد أعداء الله مشركين وذكر عقاب الفرار والثاني ذكر دلائله نعمه على عباده وما يستحقه عليهم من القيام بفرضه في جهاد أعدائه وضروب هذه الأذكار كلها تعين على الصبر والثبات ويستدعى بها النصر من الله والجرأة على العدو والاستهانة بهم وجائز أن يكون المراد بالآية جميع الأذكار لشمول الاسم لجميعها وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ما يوافقني معنى الآية ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا بشر ابن موسى قال حدثنا خلاد بن يحيى قال حدثنا سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن زيد عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لا تمنوا لقاء العدو واسئلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا واذكروا الله كثيرا وإن أجلبوا أو ضجوا فعليكم بالصمت قوله تعالى (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) أمر الله تعالى في هذه الآية بطاعته وطاعة رسوله ونهى بها عن الاختلاف والتنازع وأخبر أن الاختلاف والتنازع يؤدى إلى الفشل وهو ضعف القلب من فزع يلحقه وأمر في آية أخرى بطاعة أولاة الأمر لنفى الاختلاف والتنازع المؤديين إلى الفشل في قوله (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم في شىء فردوه إلى الله والرسول) وقال في آية أخرى (ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر) فأخبر تعالى أنه أراهم في منامهم قليلا لئلا يتنازعوا إذا رأوهم كثيرا فيفشلوا وروى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال ولن يغلب اثنى عشر ألفا من قلة إذا اجتمعت كلمتهم فتضمنت هذه الآية كلها النهى عن الاختلاف والتنازع وأخبر أن ذلك يؤدى إلى الفشل وإلى ذهاب الدولة بقوله (وتذهب ريحكم) وقيل إن المعنى ريح النصر التي يبعثها الله مع من ينصره على من يخذله وروى ذلك عن قتادة وقال أبو عبيدة تذهب دولتكم من قولهم ذهبت ريحه أى ذهبت دولته قوله تعالى (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم) تثقفنهم معناه تصادفهم وقال الحسن وقتادة وسعيد بن جبير فشرد بهم من خلفهم إذا أسرتهم فنكل بهم تنكيلا تشرد غيرهم من ناقضي العهد خوفا منك وقال غيرهم افعل بهم من القتل ما تفرق به من خلفهم عن التعاون على قتالك ويشبه أن يكون ما أمر به أبو بكر الصديق رضى الله عنه من التنكيل بأهل الردة وإحراقهم بالنيران ورميهم من رؤس الجبال وطرحهم في الآبار ذهب فيه إلى أن تأويل الآية في تشريد سائر المرتدين

٢٥١

عن التعاون والاجتماع على قتال المسلمين قوله تعالى (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء) الآية يعنى والله أعلم إذا خفت غدرهم وخدعتهم وإيقاعهم بالمسلمين وفعلوا ذلك خفيا ولم يظهروا نقض العهد فانبذ إليهم على سواء يعنى ألق إليهم فسخ ما بينك وبينهم من العهد والهدنة حتى يستوي الجميع في معرفة ذلك وهو معنى قوله (على سواء) لئلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصب الحرب وقيل (على سواء) على عدل من قول الزاجر :

فاضرب وجوه الغدر للأعداء

حتى يجيبوك إلى السواء

ومنه قيل للوسط سواء لاعتداله كما قال حسان :

يا ويح أنصار النبي ورهطه

بعد المغيب في سواء الملحدى

أى في وسطه وقد غز النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أهل مكة بعد الهدنة من غير أن ينبذ إليهم لأنهم قد كانوا نقضوا العهد بمعاونتهم بنى كناية على قتل خزاعة وكانت حلفاء للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم ولذلك جاء أبو سفيان ألى المدينة يسئل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم تجديد العهد بينه وبين قريش فلم بحبه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ألى ذلك فمن أجل ذلك لم يحتج ألى النبذ إليهم إذ كانوا قد أظهروا نقض العهد بنصب الحرب لحلفاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وروى نحو معنى الآية عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا حفص بن عمرو النمري قال حدثنا شعبة عن أبى الفيض عن سليم وقال غيره سليم بن عامر رجل من حمير قال كان بين معاوية وبين الروم عهد وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى العهد غزاهم فجاء رجل على فرس برزون وهو يقول الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدر فنظروا فإذا عمرو بن عبسة فأرسل إليه معاوية فسأله فقال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أن ينبذ إليهم على سواء فرجع معاوية وقوله تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل) أمر الله تعالى المؤمنين في هذه الآية بإعداد السلاح والكراع قبل وقت القتال إرهابا للعدو والتقدم في ارتباط الخيل استعدادا لقتال المشركين وقد روى في القوة إنها الرمي حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سعيد بن منصور قال حدثنا عبد الله بن وهب قال أخبرنى عمرو بن الحارث عن أبى على ثمامة بن شفى الهمدانى أنه سمع عقبة بن عامر الجهني يقول سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وعلى المنبر

٢٥٢

يقول (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إسماعيل بن الفضل قال حدثنا فضل بن سحتب قال حدثنا ابن أبى أويس عن سليمان بن بلال بن عمرو عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ارموا واركبوا وإن ترموا أحب إلى من أن تركبوا وكل لهو المؤمن باطل إلا رميه بقوسه أو تأديبه فرسه أو ملاعبته امرأته فإنهن من الحق وحدثنا محمد ابن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سعيد بن منصور قال حدثنا عبد الله بن المبارك قال حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال حدثني أبو سلام عن خالد بن زيد عن عقبة ابن عامر قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي به ومنبله وارموا واركبوا وإن ترموا أحب إلى من أن تركبوا ليس من اللهو ثلاثة تأديب الرجل فرسه وملاعبته أهله ورميه بقوسه ونبله ومن ترك الرمي بعد ما علمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها أو قال كفرها وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا حسين بن إسحاق قال حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن قال حدثنا عثمان بن عبد الرحمن قال حدثنا الجراح بن منهال عن ابن شهاب عن أبى سليمان مولى أبى رافع عن أبى رافع قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم من حق الولد على الوالد أن يعلمه كتاب الله والسباحة والرمي * ومعنى قوله صلّى الله عليه وآله وسلم من حق الوالد أن يعلمه كتاب الله والسباحة على قتال العدو ولم ينف به أن يكون غيره من القوة بل عموم اللفظ الشامل لجميع ما يستعان به على العدو ومن سائر أنواع السلاح وآلات الحرب وقد حدثنا عبد الباقي قال حدثنا جعفر بن أبى القتيل قال حدثنا يحيى بن جعفر قال حدثنا كثير بن هشام قال حدثنا عيسى ابن إبراهيم الثمالي عن الحكم بن عمير قال أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أن لا نخفى الأظفار في الجهاد وقال إن القوة في الأظفار وهذا يدل على أن جميع ما يقوى على العدى فهو مأمور باستعداده وقال الله تعالى (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة) فذمهم على ترك الاستعداد والتقدم قبل لقاء العدو وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في ارتباط الخيل ما يواطئ معنى الآية وهو ما حدثنا عبد الباقي بن نافع قال حدثنا الحسين بن إسحاق التستري قال حدثنا أحمد بن عمر قال حدثنا ابن وهب عن ابن لهيعة عن عبيد بن أبى حكيم الأزدى عن الحصين بن حرملة البرى عن أبى المصبح قال سمعت جابر بن عبد الله يقول قال

٢٥٣

رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم الخيل معقود في نواصيها الخير والنيل إلى يوم القيامة وأصحابها معانون قلدوها ولا تقلدوها الأوتار قال أبو بكر بين في الخبر الأول أن الخير هو الأجر والغنيمة وفي ذلك ما يوجب أن ارتباطها قربة إلى الله تعالى فإذا أريد به الجهاد وهو يدل أيضا على بقاء الجهاد إلى يوم القيامة إذ كان الأجر مستحقا بارتباطها للجهاد في سبيل الله عز وجل وقوله صلّى الله عليه وآله وسلم ولا تقلدوها الأوتار قيل فيه معنيان أحدهما خشية اختناقها بالوتر والثاني أن أهل الجاهلية كانوا إذا طلبوا بالأوتار والدخول قلدوها خيلهم الأوتار يدلون بها على أنهم طالبون بالأوتار مجتهدون في قتل من يطلبونهم بها فأبطل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم الطلب بدخول الجاهلية ولذلك قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة ألا إن كل دم ومأثرة فهو موضوع تحت قدمي هاتين وأول دم ربيعة بن الحارث.

باب الهدنة والموادعة

قال الله تعالى (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) والجنوح الميل ومنه يقال جنحت السفينة إذا مالت والسلم المسألة ومعنى الآية أنهم إن مالوا إلى المسالمة وهي طلب السلامة من الحرب فسالمهم وأقبل ذلك منهم وإنما قال (فاجنح لها) لأنه كناية عن المسالمة وقد اختلف في بقاء هذا الحكم فروى سعيد ومعمر عن قتادة أنها منسوخة بقوله تعالى (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) وروى عن الحسن مثله وروى ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني عن ابن عباس (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) قال نسختها (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ـ إلى قوله ـ وهم صاغرون) وقال آخرون لا نسخ فيها لأنها في موادعة أهل الكتاب وقوله تعالى (فاقتلوا المشركين) في عبدة الأوثان قال أبو بكر قد كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عاهد حين قدم المدينة أصنافا من المشركين منهم النضير وبنو قينقاع وقريظة وعاهد قبائل من المشركين ثم كانت بينه وبين قريش هدنة الحديبية إلى أن نقضت قريش ذلك العهد بقتالها خزاعة خلفاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ولم يختلف نقلة السير والمغازي في ذلك وذلك قبل أن يكثر أهل الإسلام ويقوى أهله فلما كثر المسلمون وقوى الدين أمر بقتل مشركي العرب ولم يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف بقوله عز وجل (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) وأمر بقتال أهل الكتاب حتى يسلموا أو يعطوا الجزية بقوله تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ـ إلى قوله ـ

٢٥٤

وهم صاغرون) ولم يختلفوا أن سورة براءة من أواخر من نزل من القرآن وكان نزولها حين بعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أبا بكر على الحج في السنة التاسعة من الهجرة وسورة الأنفال نزلت عقيب يوم بدر بين فيها حكم الأنفال والغنائم والعهود والموادعات سورة براءة مستعمل على ما ورد وما ذكر من الأمر بالمسالمة إذا مال المشركون إليها فحكم حكم ثابت أيضا وإنما اختلف حكم الآيتين لاختلاف الحالين فالحال التي أمر فيها بالمسألة هي حال قلة عدد المسلمين وكثرة عدوهم والحال التي أمر فيها بقتل المشركين وبقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية هي حال كثرة المسلمين وقوتهم على عدوهم وقد قال تعالى (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم) فنهى عن المسالمة عند القوة على قهر العدو وقتلهم وكذلك قال أصحابنا إذا قدر بعض أهل الثغور على قتال العدو ومقاومتهم لم تجز لهم مسالمتهم ولا يجوز لهم إقرارهم على الكفر إلا بالجزية وإن ضعفوا عن قتالهم جاز لهم مسالمتهم كما سالم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كثيرا من أصناف الكفار وهادنهم على وضع الحرب بينهم من غير جزية أخذها منهم قالوا فإن قووا بعد ذلك على قتالهم نبذوا إليهم على سواء ثم قاتلوهم قالوا وإن لم يمكنهم دفع العدو عن أنفسهم إلا بما يبذلونه لهم جاز لهم ذلك لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قد كان صالح عيينة بن حصن وغيره يوم الأحزاب على نصف ثمار المدينة حتى لما شاور الأنصار قالوا يا رسول الله هو أمر أمرك الله به أم الرأى والمكيدة فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا بل هو رأى لأنى رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة فأردت أن أدفعهم عنكم إلى يوم ما فقال السعدان بن عبادة وسعد بن معاذ والله يا رسول الله إنهم لم يكونوا يطعمون فيها منا إلا قرى وشرى ونحن كفار فكيف وقد أعزنا الله بالإسلام لا نعطيهم إلا بالسيف وشقاء الصحيفة فهذا يدل على أنهم إذا خافوا المشركين جاز لهم أن يدفعوهم عن أنفسهم بالمال فهذه أحكام بعضها ثابت بالقرآن وبعضها بالسنة وهي مستعملة في الأحوال التي أمر الله تعالى بها واستعملها النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فيها وهذا نظير ما ذكرنا في ميراث الحليف أنه حكم ثابت بقوله تعالى (والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) في حال عدم ذوى الأنساب وولاء العتاق فإذا كان هناك ذو نسب أو ولاء عتاقة فهم أولى من الحليف كما أن الإبن أولى من الأخ ولم يخرج من أن يكون من أهل الميراث قوله تعالى (وألف بين قلوبهم لو انفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم) الآية روى أنه أراد به

٢٥٥

الأوس والخزرج وكانوا على غاية العداوة والبغضاء قبل الإسلام فألف الله بين قلوبهم بالإسلام روى ذلك عن بشير بن ثابت الأنصارى وابن إسحاق والسدى وقال مجاهد هو كل متحابين في الله قوله تعالى (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) إلى آخر القصة حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن على بن أبى طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) قال أمر الله تعالى الرجل من المسلمين أن يقاتل عشرة من الكفار فشق ذلك عليهم فرحمهم فقال (فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين) وحدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا أبو عبيد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن ابن أبى نجيح عن عطاء عن ابن عباس قال أيما رجل فر من ثلاثة فلم يفر ومن فر من اثنين فقد فر وإنما عنى ابن عباس ما ذكر في هذه الآية وكان الفرض في أول الإسلام على الواحد قتال العشرة من الكفار لصحة بصائر المؤمنين في ذلك الوقت وصدق يقينهم ثم لما أسلم قوم آخرون خالطهم من لم يكن لهم بصائرهم ونياتهم خفف عن الجميع وأجراهم مجرى واحدا ففرض على الواحد مقاومة الاثنين قوله تعالى (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) لم يرد به ضعف القوى والأبدان وإنما المراد ضعف النية لمحاربة المشركين فجعل فرض الجميع فرض ضعفائهم وقال عبد الله بن مسعود ما ظننت أن أحدا من المسلمين يريد بقتاله غير الله حتى أنزل الله تعالى (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) فكان الأولون على مثل هذه النيات فلما خالطهم من يريد الدنيا بقتاله سوى بين الجميع في الفرض وفي هذه الآية دلالة على بطلان من أبى وجود النسخ في شريعة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وإن لم يكن قائله معتقدا بقوله لأنه قال تعالى (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) والتخفيف لا يكون إلا بزوال بعض الفرض أو النفل عنه إلى ما هو أخف منه فثبت بذلك أن الآية الثانية ناسخة للفرض الأول وزعم القائل بما ذكرنا من إنكار النسخ لأنه ليس في الآية أمر وإنما فيه الوعد بشريطة فمتى وفي بالشرط أنجز الوعد وإنما كلف كل قوم من الصبر على قدر استطاعتهم فكان على الأولين ما ذكر من مقاومة العشرين للمائتين والآخرون لم يكن لهم من نفاذ البصيرة مثل ما للأولين فكلفوا مقاومة الواحد للإثنين

٢٥٦

والمائة للمائتين قال ومقاومة العشرين للمائتين غير مفروضة وكذلك المائة للمائتين وإنما الصبر مفروض على قدر الإمكان والناس مختلفون في ذلك على مقادير استطاعتهم فليس في الآية نسخ كما زعم قال أبو بكر هذا كلام شديد الاختلال والتناقض خارج عن قول الأمة سلفها وخلفها وذلك لأنه لا يختلف أهل النقل والمفسرون في أن الفرض كان في أول الإسلام مقاومة الواحد للعشرة ومعلوم أيضا أن قوله تعالى (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) وإن كان لفظه لفظ الخبر فمعناه الأمر كقوله تعالى هو إخبارا بوقوع ذلك وإنما هو أمر بأن لا يفر الواحد من العشرة ولو كان هذا خبرا لما كان لقوله (الآن خفف الله عنكم) معنى لأن التخفيف إنما يكون في المأمور به لا في المخبر عنه ومعلوم أيضا أن القوم الذين كانوا مأمورين بأن يقاوم الواحد منهم عشرة من المشركين داخلون في قوله (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) فلا محالة قد وقع النسخ عنهم فيما كانوا تعبدوا به من ذلك ولم يكن أولئك القوم قد نقصت بصائرهم ولقل صبرهم وإنما خالطهم قوم لم يكن لهم مثل بصائرهم ونياتهم وهم المعنيون بقوله تعالى (وعلم أن فيكم ضعفا) فبطل بذلك قول هذا القائل بما وصفنا وقد أقر هذا القائل أن بعض التكليف قد زال منهم بالآية الثانية وهذا هو معنى النسخ والله أعلم بالصواب.

باب الأسارى

قال الله تعالى (ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) حدثنا محمد ابن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا أبو نوح قال أخبرنا عكرمة ابن عمار قال حدثنا سماك الحنفي قال حدثني ابن عباس قال حدثني عمر بن الخطاب قال لما كان يوم بدر فأخذ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم الفداء فأنزل الله تعالى (ما كان لنبى أن يكون له أسرى ـ إلى قوله ـ لمسكم فيما أخذتم) من الفداء ثم أحل الله الغنائم وحدثنا عبد الباقي ابن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة قال كان يوم بدر تعجل ناس من المسلمين فأصابوا من الغنائم فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لم تحل الغنائم لقوم سود الرءوس قبلكم كان النبي

٢٥٧

إذا غنم هو وأصحابه جمعوا غنائمهم فتنزل من السمائد نار فتأكلها فأنزل الله تعالى (لو لا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا) وروى فيه وجه آخر وهو ما رواه الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبى عبيدة عن عبد الله قال شاور النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أصحابه في أسارى بدر فأشار أبو بكر بالاستبقاء وأشار عمر بالقتل وأشار عبد الله بن رواحة بالإحراق فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم حين قال (فمن تبعنى فإنه منى ومن عصانى فإنك غفور رحيم) ومثل عيسى إذ قال (إن تعذبهم فإنهم عبادك) الآية ومثلك يا عمر مثل نوح إذ قال (لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) ومثل موسى إذ قال (ربنا اطمس على أموالهم) الآية أنتم عالة فلا ينفلتن منهم أحدا إلا بفداء أو ضربة عنق فقال ابن مسعود إلا سهيل بن بيضاء فإنه ذكر الإسلام فسكت ثم قال إلا سهيل بن بيضاء فأنزل الله تعالى (ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) إلى آخر الآيتين وروى عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم استشار أبا بكر وعمرو عليا في أسارى بدر فأشار أبو بكر بالفداء وأشار عمر بالقتل فهوى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قال أبو بكر ولم يهوى ما قال عمر فلما كان من الغد جئت إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان فقلت يا رسول الله أخبرنى من أى شيء تبكى أنت وصاحبك فقال أبكى للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض على عذابكم أدنى من هذا الشجرة شجرة قريبة من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله تعالى (ما كان لنبى أن يكون له أسرى) إلى آخر القصة فذكر في حديث ابن عباس المتقدم في الباب وحديث أبى هريرة أن قوله (لو لا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) إنما نزل في أخذهم الغنائم وذكر في حديث عبد الله بن مسعود وابن عباس الآخر أن الوعيد إنما كان في عرضهم الفداء على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وإشارتهم عليه به والأول ألى بمعنى الآية لقوله تعالى (لمسكم فيما أخذتم) ولم يقل فيما عرضتم وأشرتم ومع ذلك فإنه يستحيل أن يكون الوعيد في قول قاله رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى ومن الناس من يجيز ذلك على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من طريق اجتهاد الرأى ويجوز أيضا أن يكون النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أباح لهم أخذ الفداء وكان ذلك معصية صغيرة فعاتبه الله والمسلمين عليها وقد ذكر في الحديث الذي في صدر الباب أن الغنائم لم تحل قبل نبينا لأحد وفي الآية ما يدل على ذلك

٢٥٨

وهو قوله تعالى (ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) فكان في شرائع الأنبياء المتقدمين تحريم الغنائم وفي شريعة نبينا تحريمها حتى يثخن في الأرض واقتضى ظاهره إباحة الغنائم والأسرى بعد الإثخان وقد كانوا يوم بدر مأمورين بقتل المشركين بقوله تعالى (فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان) وقال تعالى في آية أخرى (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا اثخنتموهم فشدوا الوثاق) وكان الفرض في ذلك الوقت القتل حتى إذا أثخن المشركون فحينئذ إباحة الفداء وكان أخذ الفداء قبل الإثخان محظورا وقد كان أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم حازوا الغنائم يوم بدر وأخذوا الأسرى وطلبوا منهم الفداء وكان ذلك من فعلهم غير موافق لحكم الله تعالى فيهم في ذلك ولذلك عاتبهم عليه ولم يختلف نقلة السير ورواة المغازي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أخذ منهم الفداء بعد ذلك وأنه قال لا ينفلت منهم إلا بفداء أو ضربة عنق وذلك يوجب أن يكون حظر أخذ الأسرى ومفاداتهم المذكورة في هذه الآية وهو قوله تعالى (ما كان لنبى أن يكون له أسرى) منسوخا بقوله (لو لا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) فأخذ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم منهم الفداء فإن قيل كيف يجوز أن يكون ذلك منسوخا وهو بعينه الذي كانت المعاتبة من الله للمسلمين وممتنع وقوع الإباحة والحظر في شيء واحد قيل له إن أخذ الغنائم والأسرى وقع بديا على وجه الحظر فلم يملكوا ما أخذوا ثم إن الله تعالى أباحها لهم وملكهم إياها فالأخذ المباح ثانيا هو غير محظور أولا وقد اختلف في معنى قوله تعالى (لو لا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) فروى أبو زميل عن ابن عباس قال سبقت لهم الرحمة قبل أن يعلموا المعصية وروى مثله عن الحسن رواية وهذا يدل على أنهما رأيا ذلك معصية صغيرة وقد وعد الله غفرانها باجتنابهم الكبائر وكتب لهم ذلك قبل عملهم للمعصية الصغيرة وروى عن الحسن أيضا ومجاهد أن الله تعالى كان مطعما لهذه الأمة الغنيمة ففعلوا الذي فعلوا قبل أن تحل لهم الغنيمة قال أبو بكر حكم الله تعالى بأنه ستحل لهم الغنيمة في المستقبل لا يزيل عنهم حكم الحظر قبل إحلالها ولا يخفف من عقابه فلا يجوز أن يكون التأويل أن إزالة العقاب لأجل أنه كان في معلومه إباحة الغنائم لهم بعده وروى عن الحسن أيضا وعن مجاهد قالا سبق من الله أن لا يعذب قوما إلا بعد تقدمه ولم يكن تقدم إليهم فيها وهذا وجه صحيح وذلك لأنهم لم يعلموا

٢٥٩

بتحريم الغنائم على أمم الأنبياء المتقدمين وبقاء هذا الحكم عليهم من شريعة نبينا صلّى الله عليه وآله وسلم فاستباحوها على ظن منهم أنها مباحة ولم يكن قد تقدم لهم من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قول في تحريمها عليهم ولا أخبار منه إياهم بتحريمها على الأمم السالفة فلم يكن خطؤهم في ذلك معصية يستحق عليها العقاب قوله تعالى (فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا) فيه إباحة الغنائم وقد كانت محظورة قبل ذلك وقد ذكرنا حديث الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال لم تحل الغنائم لقوم سود الرءوس قبلكم وروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم وأرسلت إلى الأحمر والأبيض وأعطيت الشفاعة فأخبر صلّى الله عليه وآله وسلم في هذين الخبرين أن الغنائم لم تحل لأحد من الأنبياء وأممها قبله وقوله تعالى (فكلوا مما غنمتم) قد اقتضى وقوع ملك الغنائم لهم إذا أخذوا وإن كان المذكور في لفظ الآية هو الأكل وإنما خص الأكل بذلك لأنه معظم منافع الأملاك إذ به قوام الأبدان وبقاء الحياة وأراد بذلك تمليك سائر وجوه منافعها وهو كما قال تعالى (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) فحص اللحم بذلك والمراد جميع أجزائه لأنه مبتغى منافعه ومعظمها في لحومه وكما قال تعالى (إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) فحص البيع بالحظر في تلك الحال والمراد سائر ما يشغل عن الصلاة وكان وجه تخصيصه أنه معظم منافع التصرف في ذلك الوقت فإذا كان معظمه محظورا فما دونه أولى بذلك وذلك في مفهوم اللفظ ومثله قوله تعالى (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) فحص الأكل بالذكر ودل به على حظر الأخذ والإتلاف من غير جهة الأكل فهذا حكم اللفظ إذا ورد في مثله ولو لا الأكل موجبة للتمليك ولذلك قال أصحابنا فيمن أباح لرجل أكل طعامه أنه ليس له أن يتملكه ولا يأخذه وإنما له الأكل فحسب ولكنه لما كان في مفهوم خطاب الآية التمليك على الوجه الذي ذكرنا أوجب التمليك وقد قال الله تعالى في آية أخرى (واعلموا أنما غنمتم من شىء فأن لله خمسه) فجعل الأربعة الأخماس غنيمة لهم وذلك يقتضى التمليك وكذلك ظاهر قوله تعالى (فكلوا مما غنمتم) لما أضاف الغنيمة إليهم فقد أفاد تملكها إياهم

٢٦٠