أحكام القرآن - ج ٤

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٧

على التخيير لأن أو يقتضى ذلك كقوله تعالى في كفارة اليمين (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) وكقوله تعالى (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) وروى نحو ذلك عن ابن عباس وعطاء والحسن وإبراهيم رواية وهو قول أصحابنا وروى عن ابن عباس رواية أخرى أنها على الترتيب وروى عن مجاهد والشعبي والسدى مثله وعن إبراهيم رواية أخرى أنها على الترتيب والصحيح هو الأول لأنه حقيقة اللفظ ومن حمله على الترتيب زاد فيه ما ليس منه ولا يجوز إلا بدلالة قوله تعالى (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) روى عن ابن عباس والحسن وشريح إن عاد عمدا لم يحكم عليه والله تعالى ينتقم منه وقال إبراهيم كانوا يسئلون هل أصبت شيئا قبله فإن قال نعم لم يحكمون عليه وإن قال لا حكم عليه وقال سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد يحكم عليه أبدا وسأل عمر قبيصة بن جابر عن صيد أصابه وهو محرم فسأل عمر عبد الرحمن بن عوف ثم حكم عليه ولم يسئله هل أصبت قبله شيئا وهو قول فقهاء الأمصار وهو الصحيح لأن قوله تعالى (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ) يوجب الجزاء في كل مرة كقوله تعالى (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) وذكره الوعيد للعائد لا ينافي وجوب الجزاء ألا ترى أن الله تعالى قد جعل حد المحارب جزاء له بقوله (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) ثم عقبه بذكر الوعيد بقوله (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) فليس إذا في ذكر الانتقام من العائد نفى لإيجاب الجزاء وعلى أن قوله تعالى (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) لا دلالة فيه على أن المراد العائد إلى قتل الصيد بعد قتله لصيد آخر قبله لأن قوله (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) يحتمل أن يريد به عفا الله عما سلف قبل التحريم ومن عاد يعنى بعد التحريم وإن كان أول صيد بعد نزول الآية وإذا كان فيه احتمال ذلك لم يدل على أن العائد في قتل الصيد بعد قتله مرة أخرى ليس عليه إلا الانتقام.

(فصل) قوله تعالى (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) يحتج به لأبى حنيفة في المحرم إذا أكل من الصيد الذي لزمه جزاؤه أن عليه قيمة ما أكل يتصدق به لأن الله تعالى أخبر أنه أوجب عليه الغرم ليذوق وبال أمره بإخراج هذا القدر من ماله فإذا أكل منه فقد رجع من الغرم في مقدار ما أكل منه فهو غير ذائق بذلك وبال أمره لأن من غرم شيئا وأخذ

١٤١

مثله لا يكون ذائقا وبال أمره فدل ذلك على صحة قوله وقال أصحابنا إن شاء المحرم صام عن كل نصف صاع من الطعام يوما وإن شاء صام عن بعض وأطعم بعضا فأجازوا الجمع بين الصيام والطعام وفرقوا بينه وبين الصيام في كفارة اليمين مع الإطعام فلم يجيزوا الجمع بينهما وفرقوا أيضا بينه وبين العتق والطعام في كفارة اليمين بأن يعتق نصف عبد ويطعم خمسة مساكين فأما الصوم في جزاء الصيد فإنما أجازوا الجمع بينه وبين الطعام من قبل إن الله تعالى جعل الصيام عدلا للطعام ومثلا له بقوله (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) ومعلوم أنه لم يرد بقوله (عَدْلُ ذلِكَ) أن يكون مثلا له في حقيقة معناه إذ لا تشابه بين الصيام وبين الطعام فعلمنا أن المراد المماثلة بينهما في قيامه مقام الطعام ونيابته عنه لمن صام بعضا فكأنه قد أطعم بقدر ذلك فجاز ضمه إلى الطعام فكان الجميع طعاما وأما الصيام في كفارة اليمين فإنما يجوز عند عدم الطعام وهو بدل منه فغير جائز الجمع بينهما إذ لا يخلو من أن يكون واجدا أو غير واجد فإن كان واجدا للطعام لم يجزه الصيام وإن كان غير واجد فالصوم فرضه بدلا منه وغير جائز الجمع بين البدل والمبدل منه كالمسح على أحد الخفين وغسل الرجل الأخرى وكالتيمم والوضوء وما جرى مجرى ذلك ولا نعلم خلافا في امتناع جواز الجمع بين الصيام والطعام في كفارة اليمين وأما العتق والطعام فإنما لم يجز الجمع لأن الله تعالى جعل كفارة اليمين أحد الأشياء الثلاثة فإذا أعتق النصف وأطعم النصف فهو غير فاعل لأحدهما فلم يجزه والعتق لا يتقوم فيجزى عن الجميع بالقيمة وليس هو مثل أن يكسو خمسة ويطعم خمسة فيجزى بالقيمة لأن كل واحد من هذين متقوم فيجزى عن أحدهما بالقيمة.

(فصل) قوله تعالى (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ) ينتظم الواحد والجماعة إذا قتلوا في إيجاب جزاء تام على كل واحد لأن من يتناول كل واحد على حياله في إيجاب جميع الجزاء عليه والدليل عليه قوله تعالى (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) قد اقتضى إيجاب الرقبة على كل واحد من القاتلين إذا قتلوا نفسا واحدة وقال تعالى (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) وعيدا لكل واحد على حياله وقوله عز وجل (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) وعيد لكل واحد من القاتلين وهذا معلوم عند أهل اللغة لا يتدافعونه وإنما يجهله من لا حظ له فيها فإن قال قائل فلو قتل جماعة رجلا كانت على جميعهم دية

١٤٢

واحدة والدية إنما دخلت في اللفظ حسب دخول الرقبة قيل له الذي يقتضيه حقيقة اللفظ وعمومه إيجاب ديات بعدد القاتلين وإنما اقتصر فيه على دية واحدة بالإجماع وإلا فالظاهر يقتضيه ألا ترى أنهما لو قتلاه عمدا كان كل واحد منهما كأنه قاتل له على حياله ويقتلان جميعا به ألا ترى أن كل واحد من القاتلين لا يرث وأنه لو كان بمنزلة من قتل بعضه لوجب أن لا يحرم الميراث مما قتله منه غيره فلما اتفق الجميع على أنهما جميعا لا يرثان وأن كل واحد منهما كأنه قاتل له وحده كذلك في إيجاب الكفارة إذ كانت النفس لا تتبعض وكذلك قاتلوا الصيد كل واحد كأنه متلف للصيد على حياله فتجب على كل واحد كفارة تامة ويدل عليه أن الله تعالى سمى ذلك كفارة بقوله (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ) وجعل فيها صوما فأشبهت كفارة القتل فإن قال قائل لما قال الله تعالى (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ) دل على أن الجزاء إنما هو جزاء واحد ولم يفرق بين أن يكونوا جماعة أو واحدا وأنت تقول يجب عليهم جزاءان وثلاثة وأكثر من ذلك قيل له هذا الجزاء ينصرف إلى كل واحد منهم ونحن لا نقول إنه يجب على كل واحد منهم جزاءان وثلاثة وإنما يجب عليه جزاء واحد والذي يدل على أنه منصرف إلى كل واحد قوله تعالى (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ) ولم يقل قتلوا فدل على أنه أراد واحد وقد بينا ذلك في كتاب شرح المناسك والخصم يحتج علينا بهذه الآية في القارن فإنه لا يجب عليه إلا جزاء واحد بظاهر الكتاب والجواب عن هذا أنه محرم عندنا بإحرامين على ما سنذكره في موضعه وإذا صح لنا ذلك ثم أدخل النقص عليهما وجب أن يخبرهما بدمين قال أبو بكر ولا خلاف بين الفقهاء أن الهدى لا يجزى إلا بمكة وأن بلوغه الكعبة أن يذبحه هناك في الحرم وأنه لو هلك بعد دخوله الحرم قبل أن يذبحه أن عليه هديا آخر غيره وقال أصحابنا إذا ذبحه في الحرم بعد بلوغ الكعبة فإن سرق بعد ذلك لم يكن عليه شيء لأن الصدقة تعينت فيه بالذبح فصار كمن قال لله على أن أتصدق بهذا اللحم فسرق فلا يلزمه شيء واتفق الفقهاء أيضا على جواز الصوم في غير مكة واختلفوا في الطعام فقال أصحابنا يجوز أن يتصدق به حيث شاء وقال الشافعى لا يجزى إلا أن يعطى مساكين مكة والدليل على جوازه حيث شاء قوله تعالى (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ) وذلك عموم في سائرهم وغير جائز تخصيصه بمكان إلا بدلالة ومن قصره على مساكين مكة فقد خص

١٤٣

الآية بغير دليل وأيضا ليس في الأصول صدقة مخصوصة بمكان لا يجوز أداؤها في غيره فلما كان ذلك صدقة وجب جوازها في سائر المواضع قياسا على نظائرها من الصدقات ولأن تخصيصه بمكان خارج عن الأصول وما خرج عن الأصول وظاهر الكتاب من الأقاويل فهو ساقط مرذول فإن قال قائل فالهدى سبيله الصدقة وهو مخصوص بالحرم فأما الصدقة فحيث شاء وكذلك قال أصحابنا أنه لو ذبحه في الحرم ثم أخرجه فتصدق به في غيره أجزأه وأيضا لما اتفقوا على جواز الصيام في غير مكة وهو جزاء للصيد وليس بذبح وجب مثله في الطعام لهذه العلة.

باب صيد البحر

قال الله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ) وروى عن ابن عباس وزيد بن ثابت وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وقتادة والسدى ومجاهد قالوا صيده ما صيد طريا بالشباك ونحوها فأما قوله (وَطَعامُهُ) فقد روى عن أبى بكر وعمر وابن عباس وقتادة قالوا ما قذفه ميتا وروى عن ابن عباس أيضا وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وقتادة ومجاهد قالوا المملوح منه والقول الأول أظهر لأنه ينتظم إباحة الصنفين مما صيد منه وما لم يصد وأما المملوح فقد تناوله قوله (صَيْدُ الْبَحْرِ) ويكون قوله (وَطَعامُهُ) على هذا التأويل تكرارا لما انتظمه اللفظ الأول فإن قال قائل هذا يدل على إباحة الطافي لأنه قد انتظم ما صيد منه وما لم يصد والطافي لم يصد قيل له إنما تأول السلف قوله (وَطَعامُهُ) على ما قذفه البحر وعندنا أن ما قذفه البحر ميتا فليس بطاف وإنما الطافي ما يموت في البحر حتف أنفه فإن قيل قالوا ما قذفه البحر ميتا وهذا يوجب أن يكون قد مات فيه ثم قذفه وهذا يدل على أنهم قد أرادوا به الطافي قيل له وليس كل ما قذفه البحر ميتا يكون طافيا إذ جائز أن يموت في البحر بسبب طرأ عليه فقتله من برد أو حر أو غيره فلا يكون طافيا وقد بينا الكلام في الطافي فيما تقدم من هذا الكتاب وقد روى عن الحسن في قوله (وَطَعامُهُ) قال ما وراء بحركم هذا كله البحر وطعامه البر والشعير والحبوب رواه أشعث بن عبد الملك عن الحسن فلم يجعل البحر في هذا الموضع بحور المياه وجعله على ما اتسع من الأرض لأن العرب تسمى ما اتسع بحرا ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم للفرس الذي ركبه لأبى طلحة وجدناه بحرا أى واسع الخطو وقد روى حبيب بن الزبير عن

١٤٤

عكرمة في قوله تعالى (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أنه أراد بالبحر الأمصار لأن العرب تسمى الأمصار البحر وروى سفيان عن بعضهم عن عكرمة ظهر الفساد في البر والبحر قال البر الفيافي التي ليس فيها شيء والبحر القرى والتأويل الذي روى عن الحسن غير صحيح لأنه قد علم بقوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) أن المراد به بحر الماء وأنه لم يرد به البر ولا الأمصار لأنه عطف عليه قوله تعالى (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) وقوله تعالى (مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) روى عن ابن عباس والحسن وقتادة قالوا منفعة للمقيم والمسافر فإن قال قائل هل اقتضى قوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) إباحة صيد الأنهار قيل له نعم لأن العرب تسمى النهر بحرا ومنه قوله تعالى (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) وقد قيل إن الأغلب على البحر هو الذي يكون ماؤه ملحا إلا أنه إذا جرى ذكره على طريق الجملة انتظم الأنهار أيضا وأيضا فالمقصد فيه صيد الماء فسائر حيوان الماء يجوز للمحرم اصطياده ولا نعلم خلافا في ذلك بين الفقهاء وقوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) يحتج به من يبيح أكل جميع حيوان البحر وقد اختلف أهل العلم فيه والله أعلم.

ذكر الخلاف في ذلك

قال أصحابنا لا يؤكل من حيوان الماء إلا السمك وهو قول الثوري رواه عنه أبو إسحاق الفزاري وقال ابن أبى ليلى لا بأس بأكل كل شيء يكون في البحر من الضفدع وحية الماء وغير ذلك وهو قول مالك بن أنس وروى مثله عن الثوري قال الثوري ويذبح وقال الأوزاعى صيد البحر كله حلال ورواه عن مجاهد وقال الليث بن سعد ليس بميتة البحر بأس وكلب الماء والذي يقال له فرس الماء ولا يؤكل إنسان الماء ولا خنزير الماء وقال الشافعى ما يعيش في الماء حل أكله وأخذه ذكاته ولا بأس بخنزير الماء واحتج من أباح حيوان الماء كله بقوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) وهو على جميعه إذ لم يخصص شيئا منه ولا دلالة فيه على ما ذكروا لأن قوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) إنما هو على إباحة اصطياد ما فيه للمحرم ولا دلالة فيه على أكله والدليل عليه أنه عطف عليه قوله (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) فخرج الكلام مخرج بيان إختلاف حكم صيد البر

١٤٥

والبحر على المحرم وأيضا فإن الصيد اسم مصدر وهو اسم للاصطياد وإن كان قد يقع على المصيد ألا ترى أنك تقول صدت صيدا وإذا كان ذلك مصدرا كان اسما للاصطياد الذي هو فعل الصائد ولا دلالة فيه إذا أريد به ذلك على إباحة الأكل وإن كان قد يعبر به عن المصيد إلا أن ذلك مجاز لأنه تسمية للمفعول باسم الفعل وتسمية الشيء باسم غيره إنما هو استعارة ويدل على بطلان قول من أباح جميع حيوان الماء قول النبي صلّى الله عليه وسلّم أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد فخص من الميتات هذين وفي ذلك دليل على أن المخصوص من جملة الميتات المحرمة بقوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) هو هذان دون غيرهما لأن ما عداهما قد شمله عموم التحريم بقوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) وقوله تعالى (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) وذلك عموم في ميتة البر والبحر ومن أصحابنا من يجعل حصره المباح بالعدد المذكور دلالة على حظره ما عداه وأيضا لما خصهما بالذكر وفرق بينهما وبين غيرهما من الميتات دل تفرقه على اختلاف حالهما ويدل عليه أيضا وقوله تعالى (وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) وذلك عموم في خنزير الماء كهو في خنزير البر فإن قيل إن خنزير الماء إنما يسمى حمار الماء قيل له إن سماه إنسان حمارا لم يسلبه ذلك اسم الخنزير المعهود له في اللغة فينتظمه عموم التحريم ويدل عليه حديث ابن أبى ذئب عن سعيد بن خالد عن سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن عثمان قال ذكر طبيب الدواء عند النبي صلّى الله عليه وسلّم وذكر الضفدع يكون في الدواء فنهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن قتله والضفدع من حيوان الماء ولو كان أكله جائزا والانتفاع به سائغا لما نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن قتله ولما ثبت تحريم الضفدع بالأثر كان سائر حيوان الماء سوى السمك بمثابته لأنا لا نعلم أحد فرق بينهما واحتج الذين أباحوه بما روى مالك بن أنس عن صفوان بن سليم عن سعيد ابن سلمة الزرقي عن المغيرة بن أبى بردة عن أبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته وسعيد بن سلمة مجهول لا يقطع بروايته وقد خولف في هذا الإسناد فروى يحيى بن سعيد الأنصارى عن المغيرة بن عبد الله وهو ابن أبى بردة عن أبيه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورواه يحيى بن أيوب عن جعفر بن ربيعة وعمرو بن الحارث عن بكر بن سودة عن أبى معاوية العلوي عن مسلم بن مخشى المدلجي عن الفراسى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته * وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ومحمد بن عبدوس قالا حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا أبو

١٤٦

القاسم بن أبى الزناد قال حدثنا إسحاق يعنى ابن حازم عن ابن مقسم يعنى عبد الله عن جابر ابن عبد الله أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن البحر فقال هو الطهور ماؤه الحل ميتته وهذه الأخبار لا يحتج بها من له معرفة بالحديث ولو ثبت كان محمولا على ما بينه في قوله أحلت لنا ميتتان ويدل على ذلك أنه لم يخصص بذلك حيوان الماء دون غيره وإنما ذكر ما يموت فيه وذلك يعم ظاهره حيوان الماء والبر جميعا إذا ماتا فيه وقد علم أنه لم يرد ذلك فثبت أنه أراد السمك خاصة دون ما سواه إذ قد علم أنه لم يرد به العموم ولا يصح اعتقاده فيه واحتج المبيحون له بحديث جابر في جيش الخبط وأن البحر ألقى لهم دابة يقال لها العنبر فأكلوا منها ثم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال هل معكم منه شيء تطعمونيه وهذا لا دليل فيه على ما قالوا لأن جماعة قد رووا هذا الحديث وذكروا فيه أن البحر ألقى لهم حوتا يقال له العنبر فأخبروا أنها كانت حوتا وهو السمك وهذا لا خلاف فيه ولا دلالة على إباحة ما سواه.

باب أكل المحرم لحم صيد الحلال

قال الله تعالى (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) فروى عن على وابن عباس أنهما كرها للمحرم أكل صيد اصطاده حلال إلا أن إسناد حديث على ليس بقوى يرويه على بن زيد وبعضهم يرفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ويقفه بعضهم وروى عن عثمان وطلحة ابن عبيد الله وأبى قتادة وجابر وغيرهم إباحته وروى عبد الله بن أبى قتادة وعطاء بن يسار عن أبى قتادة قال أصبت حمار وحش فقلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنى أصبت حمار وحش وعندي منه فضلة فقال للقوم كلوا وهم محرمون وروى أبو الزبير عن جابر قال عقر أبو قتادة حمار وحش ونحن محرمون وهو حلال فأكلنا منه ومعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وروى المطلب بن عبد الله بن حنطب عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحم صيد البر حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصطاد لكم وقد روى في إباحته أخبار أخر غير ذلك كرهت الإطالة بذكرها لاتفاق فقهاء الأمصار عليه* واحتج من حظره بقوله (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) وعمومه يتناول الاصطياد والمصيد نفسه لوقوع الاسم عليهما ومن أباحه ذهب إلى قوله (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ) إذ كان يتناول الاصطياد وتحريم المصيد نفسه فإن هذا الحيوان إنما سمى صيدا مادام حيا وأما اللحم

١٤٧

فغير مسمى بهذا الاسم بعد الذبح فإن سمى بذلك فإنما يسمى به على أنه كان صيدا فأما اسم الصيد فليس يجوز أن يقع على اللحم حقيقة ويدل على أن لفظ الآية لم ينتظم اللحم أنه غير محظور عليه التصرف في اللحم بالإتلاف والشرى والبيع وسائر وجوه التصرف سوى الأكل عند القائلين بتحريم أكله ولو كان عموم الآية قد اشتمل عليه لما جاز له التصرف فيه بغير الأكل كهو إذا كان حيا ولكان على متلفه إذا كان محرما ضمانه كما يلزم ضمان إتلاف الصيد الحي لأن قوله تعالى (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) يتناول تحريم سائر أفعالنا في الصيد في حال الإحرام فإن قال قائل بيض الصيد محرم على المحرم وإن لم يكن ممتنعا ولا مسمى صيدا فكذلك لحمه قيل له ليس كذلك لأن المحرم غير منهى عن إتلاف لحم الصيد ولو أتلفه لم يضمنه وهو منهى عن إتلاف البيض والفرخ ويلزمه ضمانه وأيضا فإن البيض والفرخ قد يصيران صيدا ممتنعا فحكم لهما بحكم الصيد ولحم الصيد لا يصير صيدا بحال فكان بمنزلة لحوم سائر الحيوانات إذ ليس بصيد في الحال ولا يجيء منه صيد وأيضا فإنا لم نحرم الفرخ والبيض بعموم الآية وإنما حرمناهما بالاتفاق وقد اختلف في حديث مصعب بن جثامة أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وهو بالأبواء أو غيرها لحم حمار وحش وهو محرم فرأى في وجهه الكراهة فقال ليس بنا رد عليك ولكنا حرم وخالفه مالك فرواه عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن مصعب بن جثامة أنه أهدى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو بالأبواء أو بودان حمار وحش فرده عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم قال ابن إدريس فقيل لمالك إن سفيان يقول رجل حمار وحش فقال ذاك غلام ذاك غلام ورواه ابن جريج عن الزهري بإسناد كرواية مالك وقال فيه إنه أهدى له حمار وحش وروى الأعمش عن حبيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن مصعب بن جثامة أهدى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم حمار وحش وهو محرم فرده وقال لو لا أنا حرم لقبلناه منك فهذا يدل على وهاء حديث سفيان وأن الصحيح ما رواه مالك لاتفاق هؤلاء الرواة عليه* وقد روى فيه وجه آخر وهو ما روى أبو معاوية عن ابن جريج عن جابر بن زيد أبى الشعثاء عن أبيه قال سئل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن محرم أتى بلحم صيد يأكل منه فقال أحسبوا له قال أبو معاوية يعنى إن كان صيد قبل أن يحرم فيأكل وإلا فلا وهذا يحتمل أن يريد به

١٤٨

إذا صيد من أجله أو أمر به أو أعان عليه أو دل عليه ونحو ذلك من الأسباب المحظورة قوله تعالى (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) الآية قيل إنه أراد أنه جعل ذلك قواما لمعايشهم وعمادا لهم من قولهم هو قوام الأمر وملاكه وهو ما يستقيم به أمره فهو قوام دينهم ودنياهم وروى عن سعيد بن جبير قوله قواما للناس صلاحا لهم وقيل قياما للناس أى تقوم به أبدانهم لا منهم به في التصرف لمعايشهم فهو قوام دينهم لما في المناسك من الزجر عن القبيح والدعاء إلى الحسن ولما في الحرم والأشهر الحرم من الأمن ولما في الحج والمواسم واجتماع الناس من الآفاق فيها من صلاح المعاش وفي الهدى والقلائد أن الرجل إذا كان معه الهدى مقلدا كانوا لا يعرضون له وقيل إن من أراد الإحرام منهم كان يتقلد من لحاء شجر الحرم فيأمن وقال الحسن القلائد من تقليد الإبل والبقر بالنعال والخفاف فهذا على صلاح التعبد به في الدين وهذا يدل على أن تقليد البدن قربة وكذلك سوق الهدى والكعبة اسم للبيت الحرام قال مجاهد وعكرمة إنما سميت كعبة لتربيعها وقال أهل اللغة إنما قيل كعبة البيت فأضيفت لأن كعبته تربع أعلاه وأصل ذلك من الكعوبة وهو النتو فقيل للتربيع كعبة لنتو زوايا المربع ومنه كعب ثدي الجارية إذا نتأ ومنه كعب الإنسان لنتوه وهذا يدل على أن الكعبين اللذين ينتهى إليهما الغسل في الوضوء هما الناتئان عن جنبي أصل الساق وسمى الله تعالى البيت حراما لأنه أراد الحرم كله لتحريم صيده وخلاه وتحريم قتل من لجأ إليه وهو مثل قوله تعالى (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) والمراد الحرم وأما قوله تعالى (وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) فإنه روى عن الحسن أنه قال هو الأشهر الحرم فأخرجه مخرج الواحد لأنه أراد الجنس وهو أربعة أشهر ثلاثة سرد وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وواحد فرد وهو رجب فأخبر تعالى أنه جعل الشهر الحرام قياما للناس لأنهم كانوا يأمنون فيها ويتصرفون فيها في معايشهم فكان فيه قوامهم وهذا الذي ذكره الله تعالى من قوام الناس بمناسك الحج والحرم والأشهر الحرم والهدى والقلائد ومعلوم مشاهد من ابتداء وقت الحج في زمن إبراهيم عليه السلام إلى زمان النبي صلّى الله عليه وسلّم وإلى آخر الدهر فلا ترى شيئا من أمر الدين والدنيا تعلق به من صلاح المعاش والمعاد بعد الإيمان ما تعلق بالحج ألا ترى إلى كثرة منافع الحاج في المواسم التي يردون عليها من سائر البلدان التي يجتازون بمنى وبمكة إلى أن يرجعوا إلى أهاليهم وانتفاع الناس بهم وكثرة معايشهم

١٤٩

وتجاراتهم معهم ثم ما فيه منافع الدين من التأهب للخروج إلى الحج وإحداث التوبة والتحري لأن تكون نفقته من أحل ماله ثم احتمال المشاق في السفر إليه وقطع المخاوف ومقاساة اللصوص والمحتالين في مسيرهم إلى أن يبلغوا مكة ثم الإحرام والتجرد لله تعالى والتشبه بالخارجين يوم النشور من قبورهم إلى عرصة القيامة ثم كثرة ذكر الله تعالى بالتلبية واللجأ إلى الله تعالى وإخلاص النية له عند ذلك البيت والتعلق بأستاره موقتا بأنه لا ملجأ له غيره كالغريق المتعلق بما يرجو به النجاة وأنه لا خلاص له بالتمسك به ثم إظهار التمسك بحبل الله الذي من تمسك به نجا وما حاد عنه هلك ثم حضور الموقف والقيام على الأقدام داعين راجين لله تعالى متخلفين عن كل شيء من أمور الدنيا تاركين لأموالهم وأولادهم وأهاليهم على نحو وقوفهم في عرصة القيامة وما في سائر مناسك الحج من الذكر والخشوع والانقياد لله تعالى ثم ما يشتمل عليه الحج من سائر القرب التي هي معروفة في غير الصلاة والصيام والصدقة والقربات والذكر بالقلب واللسان والطواف بالبيت وما لو استقصينا ذكره لطال به القول فهذه كلها من منافع الدين والدنيا* قوله تعالى (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) إخبار عن علمه بما يؤدى إليه شريعة الحج من منافع الدين والدنيا فدبره هذا التدبير العجيب وانتظم به صلاح الخلق من أول الأمة وآخرها إلى يوم القيامة فلو لا أن الله تعالى كان عالما بالغيب وبالأشياء كلها قبل كونها لما كان تدبيره لهذه الأمور مؤديا إلى ما ذكر من صلاح عباده في دينهم ودنياهم لأن من لا يعلم الشيء قبل كونه لا يتأتى منه فعل المحكم المتقن على نظام وترتيب يعم جميع الأمة نفعه في الدين والدنيا قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) روى قيس بن الربيع عن أبى حصين عن أبى هريرة قال خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غضبان قد احمر وجهه فجلس على المنبر فقال لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فقام إليه رجل فقال أين أنا فقال في النار فقام إليه آخر فقال من أبى فقال أبوك حذافة فقام عمر فقال رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبمحمد نبيا يا رسول الله كنا حديثي عهد بجاهلية وشرك والله تعالى يعلم من آباؤنا فسكن غضبه ونزلت هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) وروى إبراهيم الهجري عن أبى عياض عن أبى هريرة أنها نزلت حين سئل الحج

١٥٠

أفي كل عام وعن أمامة نحو ذلك وروى عكرمة أنها نزلت في الرجل الذي قال من أبى وقال سعيد بن جبير في الذين سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن البحيرة والسائبة وقال مقسم فيما سألت الأمم أنبياءهم من الآيات قال أبو بكر ليس يمتنع تصحيح هذه الروايات كلها في سبب نزول الآية فيكون النبي صلّى الله عليه وسلّم حين قال لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم سأله عبد الله بن حذافة عن أبيه من هو لأنه قد كان يتكلم في نسبه وسأله كل واحد من الذين ذكر عنهم هذه المسائل على اختلافها فأنزل الله تعالى (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) يعنى عن مثلها لأنه لم يكن بهم حاجة إليها فأما عبد الله بن حذافة فقد كان نسبه من حذافة ثابتا بالفراش فلم يحتج إلى معرفة حقيقة كونه من ماء من هو منه ولأنه كان يأمن أن يكون من ماء غيره فيكشف عن أمر قد ستره الله تعالى ويهتك أمه ويشين نفسه بلا طائل ولا فائدة له فيه لأن نسبه حينئذ مع كونه من ماء غير ثابت من حذافة لأنه صاحب الفراش فلذلك قالت له لقد عققتنى بسؤالك فقال لم تسكن نفسي إلا بأخبار النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك فهذا من الأسئلة التي كان ضررا لجواب عنها عليه كان كثيرا لو صادف غير الظاهر فكان منهيا عنه ألا ترى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال من أتى شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله فإن من أبدى لنا صفحة أقمنا عليه كتاب الله وقال لهزال وكان أشار على ماعز بالإقرار بالزنا لو سترته بثوبك كان خيرا لك وكذلك الرجل الذي قال يا رسول الله أين أنا قد كان غنيا عن هذه المسألة والستر على نفسه في الدنيا فهتك ستره وقد كان الستر أولى به وكذلك المسألة عن الآيات مع ظهور ما ظهر من المعجزات منهى عنها غير سائغ لأحد لأن معجزات الأنبياء لا يجوز أن تكون تبعا لأهواء الكفار وشهواتهم فهذا النحو من المسائل مستقبحة مكروهة وأما سؤال الحج في كل عام فقد كان على سامع آية الحج الاكتفاء بموجب حكمها من إيجابها حجة واحدة ولذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم إنها حجة واحدة ولو قلت نعم لوجبت فأخبر أنه لو قال نعم لوجبت بقوله دون الآية فلم يكن به حاجة إلى المسألة مع إمكان الاجتزاء بحكم الآية وأبعد هذه التأويلات قول من ذكر أنه سئل عن البحيرة والسائبة والوصيلة لأنه لا يخلو من أن يكون سؤاله عن معنى البحيرة ما هو أو عن جوازها وقد كانت البحيرة وما ذكر معها أسماء لأشياء معلومة عندهم في الجاهلية ولم يكونوا يحتاجون إلى المسألة عنها ولا يجوز أيضا أن يكون السؤال وقع عن إباحتها

١٥١

وجوازها لأن ذلك كان كفرا يتقربون به إلى أوثانهم فمن اعتقد الإسلام فقد علم بطلانه وقد احتج بهذه الآية قوم في حظر المسألة عن أحكام الحوادث واحتجوا أيضا بما رواه الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يكن حراما فحرم من أجل مسألته قال أبو بكر ليس في الآية دلالة على حظر المسألة عن أحكام الحوادث لأنه إنما قصد بها إلى النهى عن المسألة عن أشياء أخفاها الله تعالى عنهم واستأثر بعلمها وهم غير محتاجين إليها بل عليهم فيها ضرر إن أبديت لهم كحقائق الأنساب لأنه قال الولد للفراش فلما سأله عبد الله بن حذافة عن حقيقة خلقه من ماء من هو دون ما حكم الله تعالى به من نسبته إلى الفراش نهاه الله عن ذلك وكذلك الرجل الذي قال أين أنا لم يكن به حاجة إلى كشف عيبه في كونه من أهل النار وكسؤال آيات الأنبياء وفي فحوى الآية دلالة على أن الحظر تعلق بما وصفنا قوله تعالى (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) يعنى الآية سألوها الأنبياء عليهم السلام فأعطاهم الله إياها وهذا تصديق تأويل مقسم فأما السؤال عن أحكام غير منصوصة فلم يدخل في حظر الآية والدليل عليه أن ناجية بن جندب لما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم معه البدن لينحرها بمكة قال كيف أصنع بما عطب منها فقال أنحرها واصبغ نعلها بدمها واضرب بها صفحتها وخل بينها وبين الناس ولا تأكل أنت ولا أحد من أهل رفقتك شيئا ولم ينكر النبي صلّى الله عليه وسلّم سؤاله وفي حديث رافع بن خديج أنهم سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم إنا لاقو العدو غدا وليس معنا مدى فلم ينكره عليه وحديث يعلى بن أمية في الرجل الذي سأله عما يصنع في عمرته فلم ينكره عليه وأحاديث كثيرة في سؤال قوم سألوه عن أحكام شرائع الدين فيما ليس بمنصوص عليه غير محظور على أحد وروى شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل قال قلت يا رسول الله إنى أريد أن أسئلك عن أمر ويمنعني مكان هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) فقال ما هو قلت العمل الذي دخلني الجنة قال قد سألت عظيما وإنه ليسير شهادة أن لا إله إلا الله وإنى رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان فلم يمنعه السؤال ولم ينكره وذكر محمد بن سيرين عن الأحنف عن عمر قال تفقهوا قبل أن تسووا وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجتمعون في المسجد يتذاكرون حوادث المسائل

١٥٢

في الأحكام على هذا المنهاج جرى أمر التابعين ومن بعدهم من الفقهاء إلى يومنا هذا وإنما أنكر هذا قوم حشو جهال قد حملوا أشياء من الأخبار لا علم لهم بمعانيها وأحكامها فعجزوا عن الكلام فيها واستنباط فقهها وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه وهذه الطائفة المنكرة لذلك كمن قال تعالى (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا) وقوله تعالى (إن تبد لكم تسؤكم) معناه إن تظهر لكم وهذا يدل على أن مراده فيمن سأل مثل سؤال عبد الله بن حذافة والرجل الذي قال أين أنا لأن إظهار أحكام الحوادث لا يسوء السائلين لأنهم إنما يسئلون عنها ليعلموا أحكام الله تعالى فيها* ثم قال الله تعالى (وإن تسئلوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم) يعنى في حال نزول الملك وتلاوته القرآن على النبي صلّى الله عليه وسلّم إن الله يظهرها لكم وذلك مما يسؤكم ويضركم* وقوله تعالى (عفا الله عنها) يعنى هذا الضرب من المسائل لم يؤاخذكم* الله بها بالبحث عنها والكشف عن حقائقها* والعفو في هذا الموضوع التسهيل والتوسعة في إباحة ترك السؤال عنها كما قال تعالى (فتاب عليكم وعفا عنكم) ومعناه سهل عليكم وقال ابن عباس الحلال ما أحل الله وما سكت عنه فهو عفو يعنى تسهيل وتوسعة ومثله قول النبي صلّى الله عليه وسلّم عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق قوله تعالى (قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين) قال ابن عباس قوم عيسى عليه السّلام سألوا المائدة ثم كفروا بها وقال غيره قوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها وكفروا بها وقال السدى هذا حين سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يحول لهم الصفا ذهبا وقيل إن قوما سألوا نبيهم عن مثل هذه الأشياء التي سأل عبد الله بن حذافة ومن قال أين أنا فلما أخبرهم به نبيهم ساءهم فكذبوا به وكفروا* قوله تعالى (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام) روى الزهري عن سعيد بن المسيب قال البحيرة من الإبل يمنع درها للطواغيت والسائبة من الإبل كانوا يسيبونها لطواغيتهم والوصيلة كانت الناقة تبكر بالأنثى ثم تثنى بالأنثى فيسمونها الوصيلة يقولون وصلت اثنتين ليس بينهما ذكر فكانوا يذبحونها لطواغيتهم والحامى الفحل من الإبل كان يضرب الضراب المعدود فإذا بلغ ذلك يقال حمى ظهره فيترك فيسمونه الحامى وقال أهل اللغة البحيرة الناقة التي تشق أذنها يقال بحرت أذن الناقة أبحرها بحرا والناقة مبحورة وبحيرة إذا شققتها واسعا ومنه البحر لسعته قال وكان

١٥٣

أهل الجاهلية يحرمون البحيرة وهي أن تنتج خمسة أبطن يكون آخرها ذكرا بحروا أذنها وحرموها وامتنعوا من ركوبها ونحرها ولم تطرد عن ماء ولم تمنع عن مرعى وإذا لقيها المعيى لم يركبها قال والسائبة المخلاة وهي المسيبة وكانوا في الجاهلية إذا نذر الرجل لقدوم من سفر أو برء من مرض أو ما أشبه ذلك قال ناقتي سائبة فكانت كالبحيرة في التحريم والتخلية وكان الرجل إذا عتق عبدا فقال هو سائبة لم يكن بينهما عقل ولا ولاء ولا ميراث فأما الوصيلة فإن بعض أهل اللغة ذكر أنها الأنثى من الغنم إذا ولدت مع ذكر قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوها وقال بعضهم كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم وإذا ولدت ذكرا ذبحوه لآلهتهم في زعمهم وإذا ولدت ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوه لآلهتهم وقالوا الحامى الفحل من الإبل إذا نتجت من صلبه عشرة أبطن قالوا حمى ظهره فلا يحتمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى* وإخبار الله تعالى بأن ما اعتقده أهل الجاهلية في البحيرة والسائبة وما ذكر في الآية يدل على بطلان عتق السائبة على ما يذهب إليه القائلون بأن من أعتق عبده سائبة فلا ولاء له منه وولاؤه جماعة المسلمين أن لأهل الجاهلية قد كانوا يعتقدون ذلك فأبطله الله تعالى بقوله (ولا سائبة) وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم الولاء لمن أعتق يؤكد ذلك أيضا ونبينه

. باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر

قال أبو بكر أكد الله تعالى فرض الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر في مواضع من كتابه وبينه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أخبار متواترة عنه فيه وأجمع السلف وفقهاء الأمصار على وجوبه وإن كان قد تعرض أحوال من التقية يسع معها السكوت فمما ذكره الله تعالى حاكيا عن لقمان (يا بنى أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور) يعنى والله أعلم واصبر على ما ساءك من المكروه عند الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإنما حكى الله تعالى لنا ذلك عن عبده لنقتدى به وننتهي إليه وقال تعالى فيما مدح به سالف الصالحين من الصحابة (التائبون العابدون ـ إلى قوله ـ الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله) وقال تعالى (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن العلاء وهناد بن السرى قالا حدثنا أبو معاوية

١٥٤

عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه عن أبى سعيد وعن قيس بن مسلم عن طارق ابن شهاب عن أبى سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول من رأى منكرا فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذاك أضعف الإيمان وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا أبو الأحوص قال حدثنا أبو إسحاق عن ابن جرير عن جرير قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه فلا يغيروا إلا أصابهم الله بعذاب من قبل أن يموتوا فأحكم الله تعالى فرض الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر في كتابه وعلى لسان رسوله وربما ظن من لا فقه له أن ذلك منسوخ أو مقصور الحكم على حال دون حال وتأول فيه قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) وليس التأويل على ما يظن هذا الظان لو تجردت هذه الآية عن قرينه وذلك لأنه قال (عليكم أنفسكم) يعنى احفظوها لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ومن الاهتداء اتباع أمر الله في أنفسنا وفي غيرنا فلا دلالة فيها إذا على سقوط فرض الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر* وقد روى عن السلف في تأويل الآية أحاديث مختلفة الظاهر وهي متفقة في المعنى فمنها ما حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا محمد بن يزيد الواسطي عن إسماعيل بن أبى خالد عن قيس بن أبى حازم قال سمعت أبا بكر على المنبر يقول يا أيها الناس إنى أراكم تأولون هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل أذا اهتديتم) وإنى سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إن الناس إذا عمل فيهم بالمعاصي ولم يغيروا أو شك أن يعمهم الله بعقابه فأخبر أبو بكر أن هذه الآية لا رخصة فيها في ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإنه لا يضره ضلال من ضل إذا اهتدى هو بالقيام بفرض الله من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وحدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر ابن محمد ابن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا هشيم عن أبى بشر عن سعيد بن جبير في هذه الآية (لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) قال يعنى من أهل الكتاب وقال أبو عبيد وحدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد في هذه الآية قال من اليهود والنصارى ومن ضل من غيرهم فكأنهما ذهبا إلى أن هؤلاء قد أقروا بالجزية على كفرهم فلا يضرنا

١٥٥

كفرهم لأنا أعطيناهم العهد على أن نخليهم وما يعتقدون ولا يجوز لنا نقض عهدهم بإجبارهم على الإسلام فهذا لا يضرنا الإمساك عنه وأما ما لا يجوز الإقرار عليه من المعاصي والفسوق والظلم والجور فهذا على كل المسلمين تغييره والإنكار على فاعله على ما شرطه النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث أبى سعيد الذي قدمنا* وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أبو الربيع سليمان بن داود العتكي قال حدثنا بن المبارك عن عتبة بن أبى حكيم قال حدثني عمرو بن جارية اللخمي قال حدثنا أبو أمية الشعبانى قال سألت أبا ثعلبة الخشني فقلت يا أبا ثعلبة كيف تقول في هذه الآية عليكم أنفسكم فقال أما والله لقد سألت عنها خبيرا سألت عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأى برأيه فعليك نفسك ودع عنك العوام فإن من ورائكم أيام الصبر فيه كقبض على الجمر للعامل فيها مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله قال وزادني غيره قال يا رسول الله أجر خمسين منهم قال أجر خمسين منكم وهذه دلالة فيه على سقوط فرض الأمر بالمعروف إذا كانت الحال ما ذكر لأن ذكر تلك الحال تنبئ عن تعذر تغيير المنكر باليد واللسان لشيوع الفساد وغلبته على العامة وفرض النهى عن المنكر في مثل هذه الحال إنكاره بالقلب كما قال عليه السّلام فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه فكذلك إذا صارت الحال إلى ما ذكر كان فرض الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بالقلب للتقية ولتعذر تغييره وقد يجوز إخفاء الإيمان وترك إظهاره تقية بعد أن يكون مطمئن القلب بالإيمان قال الله تعالى (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) فهذه منزلة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وقد روى فيه وجه آخر وهو ما حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا أبو مسهر عن عباد الخواص قال حدثني يحيى بن أبى عمر والشيباني أن أبا الدرداء وكعبا كانا جالسين بالجابية فأتاهما آت فقال لقد رأيت اليوم أمرا كان حقا على من يراه أن يغيره فقال رجل إن الله تعالى يقول (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) فقال كعب إن هذا لا يقول شيئا ذب عن محارم الله تعالى كما تذب عن عائلتك حتى يأتى تأويلها فانتبه لها أبو الدرداء فقال متى يأتى تأويلها فقال إذا هدمت كنيسة دمشق وبنى

١٥٦

مكانها مسجد فلذلك من تأويلها وإذا رأيت الكاسيات العاريات فلذلك من تأويلها وذكر خصلة ثالثة لا أحفظها فلذلك من تأويلها قال أبو مسهر وكان هدم الكنيسة بعهد الوليد بن عبد الملك أدخلها في مسجد دمشق وزاد في سعته بها وهذا أيضا على معنى الحديث الأول في الاقتصار على إنكار المنكر بالقلب دون اليد واللسان للتقية والخوف على النفس ولعمري أن أيام عبد الملك والحجاج والوليد وأضرابهم كانت من الأيام التي سقط فيها فرض الإنكار عليهم بالقول واليد لتعذر ذلك والخوف على النفس وقد حكى أن الحجاج لما مات قال الحسن اللهم أنت أمته فاقطع عنا سنته فإنه أتانا أخيفش أعيمش يمد بيد قصيرة البنان والله ما عرق فيها عنان في سبيل الله عز وجل برجل جمته ويخطر في مشيته ويصعد المنبر فيهذر حتى تفوته الصلاة لا من الله يتقى ولا من الناس يستحى فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون لا يقول له قائل الصلاة أيها الرجل ثم قال الحسن هيهات والله حال دون ذلك السيف والسوط وقال عبد الملك بن عمير خرج الحجاج يوم الجمعة بالهاجرة فما زال يعبر مرة عن أهل الشام يمدحهم ومرة عن أهل العراق يذمهم حتى لم نر من الشمس إلا حمرة على شرف المسجد نم أمر المؤذن فأذن فصلى بنا الجمعة ثم أذن فصلى بنا العصر ثم أذن فصلى بنا المغرب فجمع بين الصلوات يومئذ فهؤلاء السلف كانوا معذورين في ذلك الوقت في ترك النكير باليد واللسان وقد كان فقهاء التابعين وقراؤهم خرجوا عليه مع ابن الأشعث إنكارا منهم لكفره وظلمه وجوره فجرت بينهم تلك الحروب المشهورة وقتل منهم من قتل ووطئهم بأهل الشام حتى لم يبقى أحد ينكر عليه شيئا يأتيه إلا بقلبه وقد روى ابن مسعود في ذلك ما حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن أبى جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبى العالية عن عبد الله بن مسعود أنه ذكر عنده هذه الآية (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) فقال لم يجيء تأويلها بعد إن القرآن أنزل حين أنزل ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن وكان منه آي وقع تأويلهن على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ومنه آي وقع تأويلهن بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم يسير ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم ومنه آي يقع تأويلهن عند الساعة ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب من الجنة والنار قال فما دامت قلوبكم واحدة وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعا ولم يذق بعضكم بأس بعض

١٥٧

فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فإذا اختلف القلوب والأهواء ولبستم شيعا وذاق بعضكم بأس بعض فأمر أو نفسه عند ذلك جاء تأويل هذه الآية قال أبو بكر يعنى عبد الله بقوله لم يجيء تأويلها بعد إن الناس في عصره كانوا ممكنين من تغيير المنكر لصلاح السلطان والعامة وغلبة الأبرار للفجار فلم يكن أحد منهم معذورا في ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر باليد واللسان ثم إذا جاء حال التقية وترك القبول وغلبت الفجار سوغ السكوت في تلك الحال مع الإنكار بالقلب وقد يسع السكوت أيضا في الحال التي قد علم فاعل المنكر أنه يفعل محظورا ولا يمكن الإنكار باليد ويغلب في الظن بأنه لا يقبل إذا قتل فحينئذ يسع السكوت وقد روى نحوه عن ابن مسعود في تأويل الآية* وحدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا هشيم قال أخبرنا يونس عن الحسن عن ابن مسعود في هذه الآية (عليكم أنفسكم) قال قولوها ما قبلت منكم فإذا ردت عليكم فعليكم أنفسكم فأخبر ابن مسعود أنه في سعة من السكوت إذا ردت ولم تقبل وذلك إذا لم يمكنه تغييره بيده لأنه لا يجوز أن يتوهم عن ابن مسعود إباحته ترك النهى عن المنكر مع إمكان تغييره* حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عمرو ابن أبى عمرو عن عبد الله بن عبد الرحمن الأشهلى عن حذيفة بن اليمان قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمكم الله بعقاب من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم * قال أبو عبيدة وحدثنا حجاج عن حمزة الزيات عن أبى سفيان عن أبى نضرة قال جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال إنى أعمل بأعمال الخير كلها إلا خصلتين قال وما هما قال لا آمر بالمعروف ولا أنهى عن المنكر قال لقد طمست سهمين من سهام الإسلام إن شاء غفر لك وإن شاء عذبك قال أبو عبيد وحدثنا محمد بن يزيد عن جويبر عن الضحاك قال الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فريضتان من فرائض الله تعالى كتبهما الله عز وجل قال أبو عبيد أخبرونى عن سفيان بن عيينة قال حدثت ابن شبرمة بحديث ابن عباس من فر من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة لم يفر فقال أما أنا فأرى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مثل هذا لا يعجز الرجل عن اثنين أن يأمرهما أو ينهاهما وذهب ابن عباس في ذلك إلى قوله تعالى

١٥٨

(فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين) وجائز أن يكون ذلك أصلا فيما يلزم من تغيير المنكر وقال مكحول في قوله تعالى (عليكم أنفسكم) إذا هاب الواعظ وأنكر الموعوظ فعليك حينئذ نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت والله الموفق.

باب الشهادة على الوصية في السفر

قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم) قد اختلف في معنى الشهادة هاهنا قال قائلون هي الشهادة على الوصية في السفر وأجازوا بها شهادة أهل الذمة على وصية المسلم في السفر وروى الشعبي عن أبى موسى أن رجلا مسلما توفى بدقوقا ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فأحلفهما أبى موسى بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غير او أنها لوصية الرجل وتركته فأمضى أبو موسى شهادتهما وقال هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال آخرون معنى شهادة بينكم حضور الوصيين من قولك شهدته إذا حضرته وقال آخرون إنما الشهادة هنا أيمان الوصية بالله إذا ارتاب الورثة بهما وهو قول مجاهد فذهب أبو موسى إلى أنها الشهادة على الوصية التي تثبت بها عند الحكام وأن هذا حكم ثابت غير منسوخ وروى مثله عن شريح هو قول الثوري وابن أبى ليلى والأوزاعى وروى عن ابن عباس وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وابن سيرين وعبيدة وشريح والشعبي أو آخران من غيركم من غير ملتكم وروى عن الحسن والزهري من غير قبيلتكم فأما تأويل من تأولها على اليمين دون الشهادة التي تقام عند الحكام فقول مرغوب عنه وإن كانت اليمين قد تسمى شهادة في نحو قوله تعالى (فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله) لأن الشهادة إذا أطلقت فهي الشهادة المتعارفة كقوله تعالى (وأقيموا الشهادة لله واستشهدوا شهيدين من رجالكم ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا وأشهدوا ذوى عدل منكم) كل ذلك قد عقل به الشهادات على الحقوق لا الأيمان وكذلك قوله تعالى (شهادة بينكم) المفهوم فيه الشهادة المتعارفة ويدل عليه قوله تعالى (إذا حضر أحدكم الموت) ويبعد أن يكون المراد أيمان بينكم (إذا حضر أحدكم الموت) لأن حال الموت ليس حالا للأيمان ثم زاد بذلك بيانا بقوله (اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم) يعنى والله أعلم إن

١٥٩

لم توجد ذوا عدل منكم ولا يختلف في حكم اليمين وجود ذوى العدل وعدمهم وقوله تعالى (ولا نكتم شهادة الله) يدل على ذلك أيضا لأن اليمين موجودة ظاهرة غير مكتوبة ثم ذكر يمين الورثة بعد اختلاف الوصيين على مال الميت وإنما الشهادة التي هي اليمين هي المذكورة في قوله تعالى (لشهادتنا أحق من شهادتهما) ثم قوله (ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها) يعنى به الشهادة على الوصية إذ غير جائز أن يقول أن يأتوا باليمين على وجهها وقوله تعالى (أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم) يدل أيضا على أن الأول شهادة لأنه ذكر الشهادة واليمين كل واحدة بحقيقة لفظها فأما تأويل من تأول قوله (أو آخران من غيركم) من غير قبيلتكم فلا معنى له والآية تدل على خلافه لأن الخطاب توجه إليهم بلفظ الإيمان من غير ذكر للقبيلة في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم) ثم قال (أو آخران من غيركم) يعنى من غير المؤمنين ولم يجر للقبيلة ذكر حتى ترجع إليه الكناية ومعلوم أن الكناية إنما ترجع إما إلى الظهر مذكور في الخطاب أو معلوم بدلالة الحال فما لم تكن هنا دلالة على الحال ترجع الكناية إليها يثبت أنها راجعة إلى من تقدم ذكره في الخطاب من المؤمنين وصح أن المراد من غير المؤمنين فاقتضت الآية جواز شهادة أهل الذمة على وصية المسلم في السفر وقد روى في تأويل الآية عن عبد الله بن مسعود وأبى موسى وشريح وعكرمة وقتادة وجوه مختلفة وأشبهها بمعنى الآية ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا الحسن بن على قال حدثنا يحيى بن آدم قال حدثنا ابن أبى زائدة عن محمد بن أبى القاسم عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس قال خرج رجل من بنى سهم مع تميم الداري وعدى بن بداء فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم فلما قدما بتركته فقدوا جام فضة مخوصا بالذهب فأحلفهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم وجد الجام بمكة فقالوا اشتريناه من تميم وعدى فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم قال فنزلت فيهم (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم) فأحلفهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بديا لأن الورثة اتهموهما بأخذه ثم لما ادعيا أنهما اشتريا الجام من الميت استحلف الورثة وجعل القول قولهم في أنه لم يبع وأخذوا الجام ويشبه أن يكون ما قال أبو موسى في قبول شهادة الذميين على وصية المسلم في السفر وأن ذلك لم يكن منذ عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الآن هو هذه القصة التي في حديث ابن عباس

١٦٠