أحكام القرآن - ج ٤

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٧

مدركه في آخر الركوع مدركا لركعته وكذلك لا يمتنع أن يكون المفروض من الكفارة قيمة الأوكس من الطعام أو الكسوة فإن عدل إلى قيمة الأرفع كان هو المفروض أيضا وقد اختلف في مقدار الكسوة فقال أصحابنا الكسوة في كفارة اليمين لكل مسكين ثوب إزار أو رداء أو قميص أو قباء أو كساء وروى ابن سماعة عن محمد أن السراويل تجزى وأنه لو حلف لا يشترى ثوبا فاشترى سراويل حنث إذا كان سراويل الرجال وروى هشام عن محمد أنه لا يجزى السراويل ولا العمامة وكذلك روى بشر عن أبى يوسف وقال مالك والليث إن كسا الرجل كسا ثوبا وللمرأة ثوبين درعا وخمارا وذلك أدنى ما تجزى فيه الصلاة ولا يجزى ثوب واحد للمرأة ولا تجزى العمامة وقال الثوري تجزى العمامة وقال الشافعى تجزى العمامة والسراويل والمقنعة قال أبو بكر روى عن عمران بن حصين وإبراهيم والحسن ومجاهد وطاوس والزهري ثوب لكل مسكين قال أبو بكر ظاهره يقتضى ما يسمى به الإنسان مكتسيا إذا لبسه ولابس السراويل ليس عليه غيره أو العمامة ليس عليه غيرها لا يسمى مكتسيا كلابس القلنسوة فالواجب أن لا يجزى السراويل والعمامة ولا الخمار لأنه مع لبسه لأحد هذه الأشياء يكون عريانا غير مكتس وأما الإزار والقميص ونحوه فإن كل واحد من ذلك يعم بدنه حتى يطلق عليه اسم المكتسى فلذلك أجزأه قوله تعالى (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) يعنى عتق رقبة وتحريرها إيقاع الحرية عليها وذكر الرقبة وأراد به جملة الشخص تشبيها له بالأسير الذي تفك رقبته ويطلق فصارت الرقبة عبارة عن الشخص وكذلك قال أصحابنا إذا قال رقبتك حرة أنه يعتق كقوله أنت حر واقتضى اللفظ رقبة سليمة من العاهات لأنه اسم للشخص بكماله إلا أن الفقهاء اتفقوا على أن النقص اليسير لا يمنع جوازها فاعتبر أصحابنا بقاء منفعة الجنس في جوازها وجعلوا فوات منفعة الجنس من تلك الأعضاء مانعا لجوازها قوله تعالى (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) روى مجاهد عن عبد الله بن مسعود وأبو العالية عن أبى [فصيام ثلاثة أيام متتابعات] وقال إبراهيم النخعي في قراءتنا فصيام ثلاثة أيام متتابعات وقال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة وطاوس هن متتابعات لا يجزى فيها التفريق فثبت التتابع بقول هؤلاء ولم تثبت التلاوة لجواز كون التلاوة منسوخة والحكم ثابتا وهو قول أصحابنا وقال مالك والشافعى يجزى فيه التفريق وقد بينا ذلك في أصول الفقه قوله

١٢١

تعالى (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) يقتضى إيجاب التكفير مع القدرة مع بقاء الخطاب بالكفارة وإنما يجوز الصوم مع عدم المذكور بديا لأنه قال (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) فنقله عن أحد الأشياء الثلاثة إلى الصوم عند عدمها فما دام الخطاب بالكفارة قائما عليه لم يجزه الصوم مع وجود الأصل ودخوله في الصوم لم يسقط عنه الخطاب بأحد الأشياء الثلاثة والدليل عليه أنه لو دخل في صوم اليوم الأول ثم أفسده وهو واجد للرقبة لم يجز الصوم مع وجودها فثبت بذلك أن دخوله في الصوم لم يسقط عنه فرض الأصل فلا فرق بين وجود الرقبة قبل الدخول في الصوم وبعده إذ كان الخطاب بالتكفير قائما عليه في الحالين.

باب تحريم الخمر

قال الله تعالى (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) اقتضت هذه الآية تحريم الخمر من وجهين أحدهما قوله (رِجْسٌ) لأن الرجس اسم في الشرع لما يلزمه اجتنابه ويقع اسم الرجس على الشيء المستقذر النجس وهذا أيضا يلزم اجتنابه فأوجب وصفه إياها بأنها رجس لزوم اجتنابها والوجه الآخر قوله تعالى (فَاجْتَنِبُوهُ) وذلك أمر والأمر يقتضى الإيجاب فانتظمت الآية تحريم الخمر من هذين الوجهين والخمر هي عصير العنب التي المشتد وذلك متفق عليه أنه خمر وقد سمى بعض الأشربة المحرمة باسم الخمر تشبيها بها مثل الفضيخ وهو نقيع البسر ونقيع التمر وإن لم يتناولهما اسم الإطلاق وقد روى في معنى الخمر آثار مختلفة منها ما روى مالك بن مغول عن نافع عن ابن عمر قال لقد حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء وقد علمنا أنه كان بالمدينة نقيع التمر والبسر وسائر ما يتخذ منهما من الأشربة ولم يكن ابن عمر ممن يخفى عليه الأسماء اللغوية فهذا يدل على أن أشربة النخل لم تكن عنده تسمى خمرا وروى عكرمة عن ابن عباس قال نزل تحريم الخمر وهو الفضيخ فأخبر ابن عباس أن الفضيخ خمر وجائز أن يكون سماه خمرا من حيث كان شرابا محرما* وروى حميد الطويل عن أنس قال كنت أسقى أبى عبيدة وأبى بن كعب وسهيل بن بيضاء في نفر في بيت أبى طلحة فمر بنا رجل فقال إن الخمر قد حرمت فو الله ما قالوا حتى نتبين حتى قالوا أهرق ما في إنائك يا أنس ثم ما عادوا فيها حتى لقوا الله عز وجل وأنه البسر والتمر وهو خمرنا يومئذ فأخبر أنس

١٢٢

إن الخمر يوما حرمت البسر والتمر وهذا جائز أن يكون لما كان محرما سماه خمرا وأن يكون المراد أنهم كانوا يجرونه مجرى الخمر ويقيمونه مقامها لا أن ذلك اسم له على الحقيقة ويدل عليه أن قتادة روى عن أنس هذا الحديث وقال إنما نعدها يومئذ خمرا فأخبر أنهم كانوا يعدونها خمرا على معنى أنهم يجرونها مجرى الخمر* وروى ثابت عن أنس قال حرمت علينا الخمر يوم حرمت وما نجد خمور الأعناب إلا القليل وعامة خمورنا البسر والتمر* ومع هذا أيضا معناه أنهم كانوا يجرونه مجرى الخمر في الشرب وطلب* الإسكار وطيبة النفس وإنما كان شراب البسر والتمر* وروى المختار بن فلفل قال سألت أنس بن مالك عن الأشربة فقال حرمت الخمر وهي من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والذرة وما خمرت من ذلك فهو خمر فذكر في الحديث الأول أنه من البسر والتمر وذكر في هذا الحديث أنها من ستة أشياء فكان عنده أن ما أسكر من هذه الأشربة فهو خمر ثم قال وما خمرت من ذلك فهو خمر وهذا يدل على أنه إنما سمى ذلك خمرا في حال الإسكار وأن ما لا يسكر منه فليس بخمر* وقد روى عن عمر أنه قال إن الخمر حرمت وهي من خمسة أشياء من العنب والتمر والعسل والشعير والخمر ما خامر العقل وهذا أيضا يدل على أنه إنما سماه خمرا في حال ما أسكر إذا أكثر منه لقوله والخمر ما خامر العقل* وقد روى عن السرى بن إسماعيل عن الشعبي أنه حدثه أنه سمع النعمان بن بشير يقول قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن من الحنطة خمرا وإن من الشعير خمرا وإن من الزبيب خمرا وإن من التمر خمرا وإن من العسل خمرا ولم يقل إن جميع ما يكون من هذه الأصناف خمر وإنما أخبر أن منهم خمرا ويحتمل أن يريد به ما يسكر منه فيكون محرما في تلك الحال ولم يرد بذلك أن ذلك اسم لهذه الأشربة المتخذة من هذه الأصناف لأنه قد روى عنه بأسانيد أصح من إسناد هذا الحديث ما ينفى أن يكون الخمر من هذه الأصناف وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا إبان قال حدثني يحيى بن أبى كثير عن أبى كثير العنبري وهو يزيد بن عبد الرحمن عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنب وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا عبيد بن حاتم قال حدثنا ابن عمار الموصلي قال حدثنا عبدة ابن سليمان عن سعيد بن أبى عروبة عن عكرمة بن عمار عن أبى كثير عن أبى هريرة قال

١٢٣

قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخمر من هاتين الشجرتين النخل والعنب وهذا الخبر يقضى على جميع ما تقدم ذكره في هذا الكتاب بصحة سنده وقد تضمن نفى اسم الخمر عن الخارج من غير هاتين الشجرتين لأن قوله الخمر اسم للجنس فاستوعب بذلك جميع ما يسمى خمرا فانتفى بذلك أن يكون الخارج من غيرهما مسمى باسم الخمر واقتضى هذا الخبر أيضا أن يكون المسمى بهذا الاسم من الخارج من هاتين الشجرتين وهو على أول الخارج منهما مما يسكر منه وذلك هو العصير التي المشتد ونقيع التمر والبسر قبل أن تغيره النار لأن قوله منهما يقتضى أول خارج منهما مما يسكر والذي حصل عليه الاتفاق من الخمر هو ما قدمنا ذكره من عصير العنب التي المشتد إذا غلا وقذف بالزبد فيحتمل على هذا إذا كان الخمر ما وصفنا أن يكون معنى حديث أبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم الخمر من هاتين الشجرتين أن مراده أنها من إحداهما كما قال تعالى (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) وإنما الرسل من الإنس وقال تعالى (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) وإنما يخرج من أحدهما ويدل على أن الخمر هو ما ذكرنا وأن ما عداها ليس بخمر في الحقيقة اتفاق المسلمين على تكفير مستحل الخمر في غير حال الضرورة واتفاقهم على أن مستحل ما سواها من هذه الأشربة غير مستحق لسمة الكفر فلو كانت خمرا لكان مستحلها كافرا خارجا عن الملة كمستحل التي المشتد من عصير العنب وفي ذلك دليل على أن اسم الخمر في الحقيقة إنما يتناول ما وصفنا وزعم بعض من ليس معه من الورع إلا تشدده في تحريم النبيذ دون التورع عن أموال الأيتام وأكل السحت أن كتاب الله عز وجل والأحاديث الصحاح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما جاء في الحديث من تفسير الخمر ما هي واللغة القائمة المشهورة والنظر وما يعرفه ذووا الألباب بعقولهم يدل على أن كل شيء أسكر فهو خمر فأما كتاب الله فقوله (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) فعلم أن السكر من العنب مثل السكر من النخل فادعى هذا القائل أن كتاب الله يدل على أن ما أسكر فهو خمرا ثم تلا الآية وليس في الآية أن السكر ما هو ولا أن السكر خمر فإن كان السكر خمرا على الحقيقة فإنما هو الخمر المستحيلة عن عصير العنب لأنه قال (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ) ومع ذلك فإن الآية مقتضية لإباحة السكر المذكور فيها لأنه تعالى اعتد علينا فيها بمنافع النخيل والأعناب كما اعتد بمنافع الأنعام وما خلق فيها من اللبن فلا دلالة في الآية إذا على تحريم

١٢٤

السكر ولا على أن السكر خمر ولو دلت على أن السكر خمر لما دلت على أن الخمر تكون من كل ما يسكر إذ فيها ذكر الأعناب التي منها تكون الخمر المستحيلة من عصيرها فكان دعواها على الكتاب غير صحيحة وذكر من الأحاديث في ذلك ما قدمنا ذكره عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعن السلف وقد بينا وجهه وذكرنا ما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال كل مسكر خمر وكل مسكر حرام وكل شراب أسكر فهو حرام وما أسكر كثيره فقليله حرام ونحوها من الأخبار والمعنى في هذه الأخبار حال وجود الإسكار دون غيرها الموافق لما ذكرنا من الأخبار النافية لكونها خمرا وما ذكرنا من دلالة الإجماع وقد تواترت الآثار عن جماعة من عليه السلف شرب النبيذ الشديد منهم عمر وعبد الله وأبو الدرداء وبريدة في آخرين قد ذكرناهم في كتابنا في الأشربة وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه شرب من النبيذ الشديد في أخبار أخر فينبغي على قول هذا القائل أن يكونوا قد شربوا خمرا وحدثنا عبد الباقي ابن قانع قال حدثنا مطين قال حدثنا أحمد بن يونس قال حدثنا أبو بكر بن عياش عن الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كل مسكر حرام فقلنا يا ابن عباس إن هذا النبيذ الذي نشرب يسكرنا قال ليس هكذا إن شرب أحدكم تسعة أقداح لم يسكر فهو حلال فإن شرب العاشر فأسكره فهو حرام حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا هودة قال حدثنا عوف بن سنان عن أبى الحكم عن بعض الأشعريين عن الأشعرى قال بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعاذا إلى اليمن فقلت يا رسول الله إنك تبعثنا إلى أرض بها أشربة منها البتع من العسل والمزر من الشعير والذرة يشتد حتى يسكر قال وأعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جوامع الكلم فقال إنما حرم المسكر الذي يسكر عن الصلاة فأخبر صلّى الله عليه وسلّم في هذا الحديث أن المحرم منه ما يوجب السكر دون غيره وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا محمد بن زكريا العلائى قال حدثنا العباس بن بكار قال حدثنا عبد الرحمن بن بشير الغطفاني عن أبى إسحاق عن الحارث عن على قال سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الأشربة عام حجة الوداع فقال حرم الخمر بعينها والسكر من كل شراب وفي هذا الحديث أيضا بيان ما حرم من الأشربة سوى الخمر وهو ما يوجب السكر وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا مسدد قال حدثنا أبو الأحوص قال حدثنا سماك بن حرب عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبى بردة بن نيار قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم

١٢٥

يقول اشربوا في الظروف ولا تسكروا فقوله اشربوا في الظروف منصرف إلى ما كان حظره من الشرب في الأوعية فأباح الشرب منها بهذا الخبر ومعلوم أن مراده ما يسكر كثيره ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال اشربوا الماء ولا تسكروا إذا كان الماء لا يسكر بوجه ما فثبت أن مراده إباحة شرب قليل ما يسكره كثيره وأما ما روى عن الصحابة من شرب النبيذ الشديد فقد ذكرنا منه طرفا في كتاب الأشربة ونذكر هاهنا بعض ما روى فيه حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا حسين بن جعفر القتات قال حدثنا يزيد بن مهران الخباز قال حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبى حصين والأعمش عن إبراهيم عن علقمة والأسود قال كنا ندخل على عبد الله بن مسعود رضى الله عنه فيسقينا النبيذ الشديد وحدثنا عبد الله بن الحسين الكرخي قال حدثنا أبو عون الفرضي قال حدثنا أحمد بن منصور الرمادي قال حدثنا نعيم بن حماد قال كنا عند يحيى بن سعيد القطان بالكوفة وهو يحدثنا في تحريم النبيذ فجاء أبو بكر بن عياش حتى وقف عليه فقال أبو بكر أسكت يا صبي حدثنا الأعمش بن إبراهيم عن علقمة قال شربنا عند عبد الله بن مسعود نبيذا صلبا آخره يسكر وحدثنا أبو إسحاق عن عمرو بن ميمون قال شهدت عمر بن الخطاب حين طعن وقد أتى بالنبيذ فشربه قال عجبنا من قول أبى بكر ليحيى أسكت يا صبي وروى إسرائيل عن أبى إسحاق عن الشعبي عن سعيد وعلقمة أن أعرابيا شرب من شراب عمر فجلده عمر الحد فقال الأعرابى إنما شربت من شرابك فدعا عمر شرابه فكسره بالماء ثم شرب منه وقال من رابه من شرابه شيء فليكسره بالماء ورواه إبراهيم النخعي عن عمر نحوه وقال فيه إنه شرب منه بعد ما ضرب الأعرابى وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا المعمري قال حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبى الشوارب قال حدثنا عمر قال حدثني عطاء بن أبى ميمونة عن أنس بن مالك عن أم سليم وأبى طلحة أنهما كانا يشربان نبيذ الزبيب والتمر يخلطانه فقيل له يا أبا طلحة إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن هذا فقال إنما نهى عنه للعوز في ذلك الزمان كما نهى عن الإقران وما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذا الباب كثير وقد ذكرنا منه طرفا في كتابنا الأشربة وكرهت التطويل بإعادته هنا وما روى عن أحد من الصحابة والتابعين تحريمه الأشربة التي يبيحها أصحابنا فيما نعلمه وإنما روى عنهم تحريم نقيع الزبيب والتمر وما لم يرد من العصير إلى الثلث إلى أن نشأ

١٢٦

قوم من الحشو تصنعوا عند العامة بالتشديد في تحريمه ولو كان النبيذ محرما لورد النقل به مستفيضا لعموم البلوى كانت به إذ كانت عامة أشربتهم نبيذ التمر والبسر كما ورد تحريم الخمر وقد كانت بلواهم بشرب النبيذ أعم منها بشرب الخمر لقلتها كانت عندهم وفي ذلك دليل على بطلان قول موجبى تحريمه وقد استقصينا الكلام في ذلك من سائر وجوهه في الأشربة* وأما الميسر فقد روى عن على أنه قال الشطرنج من الميسر وقال عثمان وجماعة من الصحابة والتابعين النرد وقال قوم من أهل العلم القمار كله من الميسر وأصله من تيسير أمر الجزور بالاجتماع على القمار فيه وهو السهام التي يجيلونها فمن خرج سهمه استحق منه ما توجبه علامة السهم فربما أخفق بعضهم حتى لا يخطئ بشيء وينجح البعض فيحظى بالسهم الوافر وحقيقته تمليك المال على المخاطرة* وهو أصل في بطلان عقود التمليكات الواقعة على الأخطار كالهبات والصدقات وعقود البياعات ونحوها إذا علقت على الأخطار بأن يقول قد بعتك إذا قدم زيد ووهبته لك إذا خرج عمر ولأن معنى إيسار الجزور أن يقول من خرج سهمه استحق من الجزور كذا فكان استحقاقه لذلك السهم منه معلقا على الحظر* والقرعة في الحقوق تنقسم إلى معنيين أحدهما تطييب النفوس من غير إحقاق واحد من المقترعين ولا بخس حظه مما اقترعوا عليه مثل القرعة في القسمة وفي قسم النساء وفي تقديم الخصوم إلى القاضي والثاني مما ادعاه مخالفونا في القرعة بين عبيد أعتقهم المريض ولا مال له غيرهم فقول مخالفينا هنا من جنس الميسر المحظورة بنص الكتاب لما فيه من نقل الحرية عمن وقعت عليه إلى غيره بالقرعة ولما فيه أيضا من إحقاق بعضهم وبخس حقه حتى لا يخطئ منه بشيء واستيفاء بعضهم حقه وحق غيره ولا فرق بينه وبين الميسر في المعنى* وأما الأنصاب فهي ما نصب للعبادة من صنم أو* حجر غير مصور أو غير ذلك من سائر ما ينصب للعبادة* وأما الأزلام فهي القداح وهي سهام كانوا يجعلون عليها علامات أفعل ولا تفعل ونحو ذلك فيعملون في سائر ما يهتمون به من أعمالهم على ما تخرجه تلك السهام من أمر أو نهى أو إثبات أو نفى ويستعملونها في الأنساب أيضا إذا شكوا فيها فإن خرج لا نفوه وإن خرج نعم أثبتوه وهي سهام الميسر أيضا* وأما قوله (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) فإن الرجس هو الذي يلزم اجتنابه إما لنجاسته وإما لقبح ما يفعل به عباده أو تعظيم لأنه يقال رجس نجس فيراد

١٢٧

بالرجس النجس ويتبع أحدهما الآخر كقولهم حسن بسن وعطشان نطشان وما جرى مجرى ذلك* والرجز قد قيل فيه إنه العذاب في قوله تعالى (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ) أى العذاب وقد يكون في معنى الرجس كما في قوله (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) وقوله (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) وإنما قال تعالى (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) لأنه يدعو إليه ويأمر به فأكد بذلك أيضا حكم تحريمها إذ كان الشيطان لا يأمر إلا بالمعاصي والقبائح والمحرمات وجازت نسبته إلى الشيطان على وجه المجاز إذ كان هو الداعي إليه والمزين له ألا ترى لو أغرى غيره أو بسبه وزينه له جاز أن يقال له هذا من عملك* قوله تعالى (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) الآية فإنما يريد به ما يدعو الشيطان إليه ويزينه من شرب الخمر حتى يسكر منها شاربها فيقدم على القبائح ويعربد على جلسائه فيؤدى ذلك إلى العداوة والبغضاء وكذلك القمار يؤدى إلى ذلك قال قتادة كان الرجل يقامر في ماله وأهله فيقمر ويبقى حزينا سليبا فيكسبه ذلك العداوة والبغضاء ومن الناس من يستدل به على تحريم النبيذ إذ كان السكر منه يوجب من العداوة والبغضاء مثل ما يوجبه السكر في الخمر وهذا المعنى لعمري موجود فيما يوجب السكر منه غير موجود فيما لا يوجبه ولا خلاف في تحريم ما يوجب السكر منه وأما قليل الخمر فليست هذه العلة موجودة فيه فهو محرم لعينه وليس فيه علة تقتضي تحريم قليل النبيذ قوله تعالى (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) قال ابن عباس وجابر والبراء بن عازب وأنس بن مالك والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك لما حرم الخمر كان قد مات رجال من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم يشربون الخمر قبل أن تحرم فقالت الصحابة كيف بمن مات منا وهم يشربونها فأنزل الله تعالى هذه الآية وروى عطاء بن السائب عن أبى عبد الرحمن السلمى عن على إن قوما شربوا بالشام وقالوا هي لنا حلال وتأولوا هذه الآية فأجمع عمر وعلى على أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا وروى الزهري قال أخبرنى عبد الله بن عامر بن ربيعة أن الجارود سيد بنى عبد القيس وأبا هريرة شهدا على قدامة بن مظعون أنه شرب الخمر وأراد عمر أن يجلده فقال قدامة ليس لك ذلك لأن الله تعالى يقول (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ) الآية فقال عمر إنك قد أخطأت التأويل يا قدامة إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله تعالى عليك فلم يحكموا على قدامة بحكمهم

١٢٨

على الذين شربوها بالشام ولم يكن حكمه حكمهم لأن أولئك شربوها مستحلين لها ومستحل ما حرم الله كافر فلذلك استتابوهم وأما قدامة بن مظعون فلم يشربها مستحلا لشربها وإنما تأول الآية على أن الحال التي هو عليها ووجود الصفة التي ذكر الله تعالى في الآية فيه مكفرة لذنوبه وهو قوله تعالى (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فكان عنده أنه من أهل هذه الآية وأنه لا يستحق العقوبة على شربها مع اعتقاده لتحريمها ولتكفير إحسانه إساءته وأعاد ذكر الاتقاء في الآية ثلاث مرات والمراد بكل واحد منهما غير المراد بالأخرى فأما الأول فمن اتقى فيما سلف والثاني الاتقاء منهم في مستقبل الأوقات والثالث اتقاء ظلم العباد والإحسان إليهم.

باب الصيد للمحرم

قال الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) قيل في موضع من هاهنا أنها للتبعيض بأن يكون المراد صيد البرذون صيد البحر وصيد الإحرام دون صيد الإحلال وقيل إنها للتمييز كقوله تعالى (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) وقولك باب من حديد وثوب من قطن وجائز أن يريد ما يكون من أجزاء الصيد وإن لم يكن صيدا كالبيض والفرخ لأن البيض من الصيد وكذلك الفرخ والريش وسائر أجزائه فتكون الآية شاملة لجميع هذه المعاني ويكون المحرم بعض الصيد في بعض الأحوال وهو صيد البر في حال الإحرام ويفيد أيضا تحريم ما كان من أجزاء الصيد ونما عنه كالبيض والفرخ والوبر وغيره وقد روى عن ابن عباس في قوله تعالى (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ) قال فراخ الطير وصغار الوحش وقال مجاهد الفرخ والبيض وقد روى عن على رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه أعرابى بخمس بيضات فقال إنا محرمون وإنا لا نأكل فلم يقبلها وروى عكرمة عن ابن عباس عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قضى في بيض نعام أصابه المحرم بقيمته وروى عن عمر وعبد الله بن مسعود وابن عباس وأبى موسى في بيض النعامة يصيبه المحرم أن عليه قيمته ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في ذلك* وقوله تعالى (وَرِماحُكُمْ) قال ابن عباس كبار الصيد* قوله تعالى (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ

١٢٩

حُرُمٌ) قيل فيه ثلاثة أوجه كلها محتمل أحدها محرمون بحج أو عمرة والثاني دخول الحرم يقال أحرم الرجل إذا دخل الحرم كما يقال أنجد إذ أتى نجدا وأعرق إذا أتى العراق وأتهم إذا أتى تهامة والثالث الدخول في الشهر الحرام كما قال الشاعر :

قتل الخليفة محرما

يعنى في الشهر الحرام وهو يريد عثمان بن عفان رضى الله عنه ولا خلاف أن الوجه الثالث غير مراد بهذه الآية وأن الشهر الحرام لا يحظر الصيد والوجهان الأولان مرادان وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم النهى عن صيد الحرم للحلال والمحرم فدل أنه مراد بالآية لأنه متى ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حكم ينتظمه لفظ القرآن فالواجب أن يحكم بأنه صدر عن الكتاب غير مبتدأ* وقوله عز وجل (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) يقتضى عمومه صيد البر والبحر لو لا ما خصه بقوله (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ) فثبت أن المراد بقوله (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) صيد البر خاصة دون صيد البحر وقد دل قوله (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أن كل ما يقتله المحرم من الصيد فهو غير ذكى لأن الله تعالى سماه قتلا والمقتول لا يجوز أكله وإنما يجوز أكل المذبوح على شرائط الذكاة وما ذكى من الحيوان لا يسمى مقتولا لأن كونه مقتولا يفيد أنه غير مذكى وكذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم خمس يقتلهن المحرم في الحل والحرم قد دل على أن هذه الخمسة ليست مما يؤكل لأنه مقتول غير مذكى ولو كان مذكى كانت إفاتة روحه لا تكون قتلا ولم يكن يسمى بذلك وكذلك قال أصحابنا فيمن قال لله على ذبح شاة أن عليه أن يذبح ولو قال لله على قتل شاة لم يلزمه شيء وكذلك قال أصحابنا فيمن قال لله على ذبح ولدي أو نحره فعليه شاة ولو قال لله على قتل ولدي لم يلزمه شيء لأن اسم الذبح متعلق بحكم الشرع في الإباحة والقربة وليس كذلك القتل وروى عن سعيد بن المسيب في قوله (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) قال قتله حرام في هذه الآية وأكله حرام في هذه الآية يعنى أكل ما قتله المحرم منه وروى أشعث عن الحسن قال كل صيد يجب فيه الجزاء فذلك الصيد ميتة لا يحل أكله وروى عنه يونس أيضا أنه لا يؤكل وروى حماد بن سلمة عن يونس عن الحسن في الصيد يذبحه المحرم قال يأكله الحلال وعن عطاء إذا أصاب المحرم الصيد لا يأكله الحلال وقال الحكم وعمرو بن دينار يأكله الحلال وهو قول سفيان وقد ذكرنا

١٣٠

دلالة الآية على تحريم ما أصابه المحرم من الصيد وأنه لا يكون مذكى ويدل على أن تحريمه عليه من طريق الدين على أنه حق الله تعالى فأشبه صيد المجوسي والوثني وما ترك فيه التسمية أو شيء من شرائط الذكاة ليس بمنزلة الذبح بسكين مغصوبة لأن تحريمه تعلق بحق آدمي ألا ترى أنه لو أباحه جاز فلم يمنع صحة الذكاة إذ كانت الذكاة حقا لله تعالى فشروطها ما كان حقا لله تعالى.

باب ما يقتله المحرم

قوله تعالى (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) لما كان خاصا في صيد البر دون صيد البحر لما ذكرنا في سياق الآية من التخصيص اقتضى عمومه تحريم سائر صيد البر إلا ما خصه الدليل وقد روى ابن عباس وابن عمر وأبو سعيد وعائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال خمس يقتلهن المحرم في الحل والحرم الحية والعقرب والغراب والفأرة والكلب العقور على اختلاف منهم في بعضها وفي بعضها هن فواسق وروى عن أبى هريرة قال الكلب العقور الأسد وروى حجاج بن أرطاة عن وبرة قال سمعت ابن عمر يقول أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بقتل الذئب والفأرة والغراب والحدأة فذكر في هذا الحديث الذئب وذكر القعنبي عن مالك قال الكلب العقور الذي أمر المحرم بقتله ما قتل الناس وعدا عليهم مثل الأسد والنمر والذئب وهو الكلب العقور وأما ما كان من السباع لا يعدو مثل الضبع والثعلب والهرة وما أشبههن من السباع فلا يقتلهن المحرم فإن قتل منهن شيئا فداه* قال أبو بكر قد تلقى الفقهاء هذا الخبر بالقبول واستعملوه في إباحة قتل الأشياء الخمسة للمحرم وقد اختلف في الكلب العقور فقال أبو هريرة على ما قدمنا الرواية فيه أنه الأسد ويشهد لهذا التأويل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دعا على عتبة بن أبى لهب فقال أكلك كلب الله فأكله الأسد قيل له إن الكلب العقور هو الذئب وروى في بعض أخبار ابن عمر في موضع الكلب الذئب ولما ذكر الكلب العقور أفاد بذلك كلبا من شأنه العدو على الناس وعقرهم وهذه صفة الذئب فأولى الأشياء بالكلب هاهنا الذئب وقد دل على أن كل ما عدا على المحرم وابتدأه بالأذى فجائز له قتله من غير فدية لأن فحوى ذكره الكلب العقور يدل عليه وكذلك قال أصحابنا فيمن ابتدأه السبع فقتله فلا شيء عليه وإن كان هو الذي ابتدأ السبع فعليه الجزاء لعموم قوله تعالى (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) واسم الصيد واقع على كل ممتنع الأصل متوحش

١٣١

ولا يختص بالمأكول منه دون غيره ويدل عليه قوله تعالى (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) فتعلق الحكم منه بما تناله أيدينا ورماحنا ولم يخصص المباح منه دون المحظور الأكل ثم خص النبي صلّى الله عليه وسلّم الأشياء المذكورة في الخبر وذكر معها الكلب العقور فكان تخصيصه لهذه الأشياء وذكره للكلب العقور دليلا على أن كل ما ابتدأ الإنسان بالأذى من الصيد فمباح للمحرم قتله لأن الأشياء المذكورة من شأنها أن تبتدئ بالأذى فجعل حكمها حكم حالها في الأغلب وإن كانت قد لا تبتدئ في حال لأن الأحكام إنما تتعلق في الأشياء بالأعم الأكثر ولا حكم للشاذ النادر ثم لما ذكر الكلب العقور وقيل هو الأسد فإنما أباح قتله إذا قصد بالعقر والأذى وإن كان الذئب فذلك من شأنه في الأغلب فما خصه النبي صلّى الله عليه وسلّم من ذلك بالخبر وقامت دلالته فهو مخصوص من عموم الآية وما لم يخصه ولم تقم دلالة تخصيصه فهو محمول على عمومها ويدل عليه حديث جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال الضبع صيد وفيه كبش إذا قتله المحرم وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أكل كل ذي ناب من السباع والضبع من ذي الناب من السباع وجعل النبي صلى الله عليه وسلّم فيها كبشا * فإن قيل هلا قست على الخمس ما كان في معناها وهو ما لا يؤكل لحمه* قيل له إنما خص هذه الأشياء الخمسة من عموم الآية وغير جائز عندنا القياس على المخصوص إلا أن تكون علته مذكورة فيه أو دلالة قائمة فيما خص فلما لم تكن للخمس علة مذكورة فيها لم يجز القياس عليها في تخصيص عموم الأصل وقد بينا وجه دلالته على ما يبتدئ الإنسان بالأذى من السباع وكونه غير مأكول اللحم لم تقم عليه دلالة من فحوى الخبر ولا علته مذكورة فيه فلم يجز اعتباره وأيضا فإنه لا خلاف فيما ابتدأ المحرم في سقوط الجزاء فجاز تخصيصه بالإجماع وبقي حكم عموم الآية فيما لم يخصه الخبر ولا الإجماع وعن أصحابنا من يأبى القياس في مثله لأنه حصره بعدد فقال خمس يقتلهن المحرم وفي ذلك دليل على أن ما عداه محظور فغير جائز استعمال القياس في إسقاط دلالة اللفظ ومنهم من يأبى صحة الاعتلال بكونه غير مأكول لأن ذلك نفى والنفي لا يكون علة وإنما العلل أوصاف ثابتة في الأصل المعلول وأما نفى الصفة فليس يجوز أن يكون علة فإن غير الحكم بإثبات وصف وجعل العلة أنه محرم الأكل لم يصح ذلك أيضا لأن التحريم هو الحكم بنفي الأكل فلم يخل من أن يكون نافيا للصفة فلم يصح الاعتلال بها

١٣٢

وزعم الشافعى أن ما لا يؤكل من الصيد فلا جزاء على المحرم فيه قوله تعالى (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) قال أبو بكر اختلف الناس في ذلك على ثلاثة أوجه فقال قائلون وهم الجمهور سواء قتله عمدا أو خطأ فعليه الجزاء وجعلوا فائدة تخصيصه العمد بالذكر في نسق التلاوة من قوله تعالى (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) وذلك يختص بالعمد دون الخطأ لأن المخطئ لا يجوز أن يلحقه الوعيد فحص العمد بالذكر وإن كان الخطأ والنسيان مثله ليصح رجوع الوعيد إليه وهو قول عمر وعثمان والحسن رواية وإبراهيم وفقهاء الأمصار والقول الثانى ما روى منصور عن قتادة عن رجل قد سماه عن ابن عباس أنه كان لا يرى في الخطأ شيئا وهو قول طاوس وعطاء وسالم والقاسم وأحد قولي مجاهد في رواية جابر الجعفي عنه والقول الثالث ما روى سفيان عن ابن أبى نجيح عن مجاهد ومن قتله منكم متعمدا قال إذا كان عامدا لقتله ناسيا لإحرامه فعليه الجزاء وإن كان ذاكرا لإحرامه عامدا لقتله فلا جزاء عليه وفي بعض الروايات قد فسدت حجه وعليه الهدى وقد روى عن الحسن نحو قول مجاهد في أن الجزاء إنما يجب إذا كان عامدا لقتله ناسيا لإحرامه والقول الأول هو الصحيح لأنه قد ثبت أن جنايات الإحرام لا يختلف فيها المعذور وغير المعذور في باب وجوب الفدية ألا ترى أن الله تعالى قد عذر المريض ومن به أذى من رأسه ولم يخلهما من إيجاب الكفارة وكذلك لا خلاف في فوات الحج لعذر أو غيره أنه غير مختلف الحكم ولما ثبت ذلك في جنايات الإحرام وكان الخطأ عذرا لم يكن مسقطا للجزاء فإن قال قائل لا يجوز عندكم إثبات الكفارات قياسا وليس في المخطئ نص في إيجاب الجزاء قيل له ليس هذا عندنا قياسا لأن النص قد ورد بالنهى عن قتل الصيد في قوله (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) وذلك عندنا يقتضى إيجاب البدل على متلفه كالنهى عن قتل صيد الآدمي أو إتلاف ماله يقتضى إيجاب البدل على متلفه فلما جرى الجزاء في هذا الوجه مجرى البدل وجعله الله مثلا للصيد اقتضى النهى عن قتله إيجاب بدل على متلفه ثم ذلك البدل يكون الجزاء بالاتفاق وأيضا فإنه لما ثبت استواء حال المعذور وغير المعذور في سائر جنايات الإحرام كان مفهوما من ظاهر النهى تساوى حال العامد والمخطئ وليس ذلك عندنا قياسا كما أن حكمنا في غير بريرة بما حكم النبي صلّى الله عليه وسلّم في بريرة ليس بقياس وكذلك حكمنا في العصفور بحكم الفأرة وحكمنا في الزيت بحكم السمن إذا مات فيه ليس

١٣٣

هو قياسا على الفأرة وعلى السمن لأنه قد ثبت تساوى ذلك قبل ورود الحكم بما وصفنا فإذا ورد في شيء منه كان حكما في جميعه ولذلك قال أصحابنا إن حكم النبي صلّى الله عليه وسلّم ببقاء صوم الآكل ناسيا هو حكم فيه ببقاء صوم المجامع ناسيا لأنهما غير مختلفين فيما يتعلق بهما من الأحكام في حال الصوم وكذلك قالوا فيمن سبقه الحدث في الصلاة من بول أو غائط أنه بمنزلة الرعاف والقيء اللذين جاء فيهما الأثر في جواز البناء عليها لأن ذلك غير مختلف فيما يتعلق بهما من أحكام الطهارة والصلاة فلما ورد الأثر في بعض ذلك كان ذلك حكما في جميعه وليس ذلك بقياس كذلك حكم قاتل الصيد خطأ وأما المجاهد فإنه تارك لظاهر الآية لأن الله تعالى قال (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) فمن كان ذاكرا لإحرامه عامدا لقتل الصيد فقد شمله الاسم فواجب عليه الجزاء ولا معنى لاعتبار كونه ناسيا لإحرامه عامدا لقتله فإن قال قائل نص الله تعالى على كفارة قاتل الخطأ فلم تردوا عليه قاتل العمد كذلك لما نص الله تعالى على قاتل العمد بإيجاب الجزاء لم يجز إيجابها على قاتل الخطأ قيل له الجواب عن هذا من وجوه أحدها أن الله تعالى لما نص الله على حكم كل واحد من القتلين وجب استعمالهما ولم يجز قياس أحدهما على الآخر لأنه غير جائز عندنا قياس المنصوصات بعضها على بعض ومن جهة أخرى أن قتل العمد لم يخل من إيجاب القود الذي هو أعظم من الكفارة والدية ومتى أخلينا قاتل الصيد خطأ من إيجاب الجزاء لم يجب عليه شيء آخر فيكون لغوا عاريا من حكم وذلك غير جائز وأيضا فإن أحكام القتل في الأصول مختلفة في العمد والخطأ والمباح والمحظور ولم يختلف ذلك في الصيد فلذلك استوى حكم العمد والخطأ فيه واختلف في قتل الآدمي قوله تعالى (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ) اختلف في المراد بالمثل فروى عن ابن عباس أن المثل نظيره في الأروى بقرة وفي الظبية شاة وفي النعامة بعير وهو قول سعيد بن جبير وقتادة في آخرين من التابعين وهو قول مالك ومحمد بن الحسن والشافعى وذلك فيما له نظير من النعم فأما ما لا نظير له منه كالعصفور ونحوه ففيه القيمة وروى الحجاج عن عطاء ومجاهد وإبراهيم في المثل أنه القيمة دراهم وروى عن مجاهد رواية أخرى أنه الهدى وقال أبو حنيفة وأبو يوسف المثل هو القيمة ويشترى بالقيمة هديا إن شاء وإن شاء اشترى طعاما وأعطى كل مسكين نصف صاع وإن شاء صام عن كل نصف صاع يوما قال أبو بكر

١٣٤

المثل اسم يقع على القيمة وعلى النظير من جنسه وعلى نظيره من النعم ووجدنا المثل الذي يجب في الأصول على أحد وجهين إما من جنسه كمن استهلك لرجل حنطة فيلزمه أن مثلها وإما من قيمة كمن استهلك ثوبا أو عبدا والمثل من غير جنسه ولا قيمة خارج عن الأصول واتفقوا أن المثل من جنسه غير واجب فوجب أن يكون المثل المراد بالآية هو القيمة وأيضا لما كان ذلك متشابها محتملا للمعاني وجب حمله على ما اتفقوا على معناه من المثل المذكور في القرآن وهو قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) فلما كان المثل في هذا الموضع فيما لا مثل له من جنسه هو القيمة وجب أن يكون المثل المذكور للصيد محمولا عليه من وجهين أحدهما أن المثل في آية الاعتداء محكم متفق على معناه بين الفقهاء وهذا متشابه يجب رده إلى غيره فوجب أن يكون مردودا على ما اتفق على معناه منه والوجه الثاني أنه قد ثبت أن المثل اسم للقيمة في الشرع ولم يثبت أنه اسم للنظير من النعم فوجب حمله على ما قد ثبت اسما له ولم يجز حمله على ما لم يثبت أنه اسم له وأيضا قد اتفقوا أن القيمة مرادة بهذا المثل فيما لا نظير له من النعم فوجب أن تكون هي المرادة من وجهين أحدهما أنه قد ثبت أن القيمة مرادة فهو بمنزلة لو نص عليها فلا ينتظم النظير من النعم والثاني أنه لما ثبت أن القيمة مرادة انتفى النظير من النعم لاستحالة إرادتهما جميعا في لفظ واحد لأنهم متفقون على أن المراد أحدهما من قيمة أو نظير من النعم ومتى ثبت أن القيمة مرادة انتفى غيرها ومن جهة أخرى أن قوله تعالى (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) لما كان عاما فيما له نظير وفيما لا نظير له ثم عطف عليه قوله (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ) وجب أن يكون ذلك المثل عاما في جميع المذكور والقيمة بذلك أولى لأنه إذا حمل على القيمة كان المثل عاما في جميع المذكور وإذا حمل على النظير كان خاصا في بعضه دون بعض وحكم اللفظ استعماله على عمومه ما أمكن ذلك فلذلك وجب أن يكون اعتبار القيمة أولى ومن اعتبر النظير جعل اللفظ خاصا في بعض المذكور دون البعض فإن قيل إذا كان اسم المثل يقع على القيمة تارة وعلى النظير أخرى فمن استعملهما فيما له نظير على النظير وفيما لا نظير له من النعم على القيمة فلم يخل من استعمال لفظ المثل على عمومه إما في القيمة أو المثل* قيل له ليس كذلك بل هو مستعمل في القيمة على الخصوص وفي النظير على

١٣٥

الخصوص أيضا واستعماله على العموم في جميع ما انتظمه الاسم باعتبار القيمة أولى من استعماله على الخصوص في كل واحد من المعنيين فإن قال قائل المثل اسم للنظير وليس باسم للقيمة وإنما أوجبت القيمة فيما لا نظير له من الصيد بالإجماع لا بالآية قيل له هذا غلط من وجوه أحدها أن الله تعالى قد سمى القيمة مثلا في قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) واتفق فقهاء الأمصار فيمن استهلك عبدا أن عليه قيمته وحكم النبي صلّى الله عليه وسلّم على معتق عبد بينه وبين غيره بنصف قيمته إذا كان موسرا فبان بذلك غلط هذا القائل في نفيه اسم المثل عن القيمة ووجه آخر وهو أن قولك إن الآية لم تقتض إيجاب الجزاء فيما لا نظير له تخصيص لها بغير دليل مع دخول ذلك في عموم قوله (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) وقوله (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) والهاء في قتله كناية عن جميع المذكور من الصيد فإذا خرجت منه بعضه فقد خصصته بغير دليل وذلك غير سائغ ويدل على أن المثل القيمة دون النظير أن جماعة من الصحابة قد روى عنهم في الحمامة شاة ولا تشابه بين الحمامة والشاة في المنظر فعلمنا أنهم أوجبوها على وجه القيمة* فإن قيل روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه جعل في الضبع كبشا قيل له لأن تلك كانت قيمته ولا دلالة فيه على أنه أوجبه من حيث كان نظيرا له فإن قال قائل إنما كان يسوغ هذا التأويل وحمل الآية على القيمة ولم يكن في الآية بيان المراد بالمثل وقد فسر في نسق الآية معنى المثل في قوله (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) فأخبر أن المثل من النعم ولا مساغ للتأويل مع النص قيل له إنما كان يكون على ما ادعيت لو اقتصر على ذلك ولم يصله بما أسقط دعواك وهو قوله (مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) فلما وصله بما ذكر وأدخل عليه حرف التخيير ثبت بذلك أن ذكر النعم ليس على وجه التفسير للمثل ألا ترى أنه قد ذكر الطعام والصيام جميعا وليسا مثلا وأدخل أو بينهما وبين النعم ولا فرق إذ كان ذلك ترتيب الآية بين أن يقول فجزاء مثل ما قتل طعاما أو صياما أو من النعم هديا لأن تقديم ذكر النعم في التلاوة لا يوجب تقديمه في المعنى بل الجميع كأنه مذكور معا ألا ترى أن قوله تعالى (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) لم يقتض كون الطعام مقدما على الكسوة ولا الكسوة مقدمة على العتق في المعنى بل الكل كأنه

١٣٦

مذكور بلفظ واحد معا فكذلك قوله (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) موصولا بقوله (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ) لم يكن ذكر النعم تفسيرا للمثل وأيضا فإن قوله تعالى (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ) كلام مكتف بنفسه غير مفتقر إلى تضمينه بغيره وقوله (مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ) يمكن استعماله على غير وجه التفسير للمثل فلم يجز أن يجعل المثل مضمنا بالنعم مع استغناء الكلام عنه لأن كل كلام فله حكم غير جائز تضمينه بغيره إلا بدلالة تقوم عليه سواه وأيضا قوله (مِنَ النَّعَمِ) معلوم أن فيه ضمير إرادة المحرم فمعناه من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا إن أراد الهدى والطعام إن أراد الطعام فليس هو إذا تفسيرا للمثل كما أن الطعام والصيام ليسا تفسيرا للمثل المذكور فإن قيل روى عن جماعة من الصحابة أنهم حكموا في النعامة ببدنة ومعلوم أن القيم تختلف وقد أطلقوا القول في ذلك من غير اعتبار الصيد في زيادة القيمة ونقصانها قيل له فما تقول أنت هل توجب في كل نعامة بدنة من غير اعتبار الصيد في ارتفاع قيمته وانخفاضها فتوجب في أدنى النعامة بدنة رفيعة وتوجب في أرفع النعام بدنة وضيعة فإن قيل لا وإنما أوجب بدنة على قدر النعامة فإن كانت رفيعة فبدنة رفيعة وإن كانت وضيعة فبدنة على قدرها قيل له فقد خالفت الصحابة لأنهم لم يسئلوا عن حال الصيد ولم يفرقوا بين الرفيعة منها والدنية فاعتبرت خلاف ما اعتبروا فإن قيل هذا محمول على أنهم حكموا بالبدنة على حسب حال النعامة وإن لم يذكروا ذلك ولم ينقله الراوي قيل له فكذلك يقول لك القائلون بالقيمة إنهم حكموا بالبدنة لأن ذلك كان قيمتها في ذلك الوقت وإن لم ينقل إلينا أنهم حكموا بالبدنة على أن قيمتها كانت قيمة النعامة ويقال لهم هل يدل حكمهم في النعامة ببدنة على أنه لا يجوز غيرها من الطعام والصيام فإن قالوا لا قيل لهم فكذلك حكمهم فيها بالبدنة غير دال على نفى جواز القيمة.

(فصل) وقرئ قوله تعالى (فَجَزاءٌ مِثْلُ) برفع المثل وقرئ بخفضه وإضافة الجزاء إليه والجزاء قد يكون اسما للواجب بالفعل ويكون مصدرا فيكون فعلا للمجازى فمن قرأه بالتنوين جعل المثل صفة للجزاء المستحق بالفعل وهو القيمة أو النظير من النعم على اختلافهم فيه ومن أضافه جعله مصدرا وأضافه إلى المثل فكان ما يخرجه من

١٣٧

الواجب مضافا إلى المثل المذكور ويحتمل أن يكون الجزاء الذي هو الواجب مضافا إلى المثل والمثل يكون مثلا للصيد فيفيد أن الصيد ميتة محرم لا قيمة له وأن الواجب اعتبار مثل الصيد حيا في إيجاب القيمة فالإضافة صحيحة المعنى في الحالين سواء كان الجزاء اسما أو مصدرا والنعم من الإبل والبقر والغنم وقوله تعالى (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) يحتمل القولين جميعا من القيمة أو النظير من النعم لأن القيم تختلف على حسب اختلاف أحوال الصيد فيحتاج في كل حين وفي كل صيد إلى استيناف حكم الحكمين في تقويمه ومن قال بالنظر فرجع إلى قول الحكمين لاختلاف الصيد في نفسه من ارتفاع أو انخفاض حتى يوجبا في الرفيع منه من النير وفي الوسط الوسط وفي الدنى الدنى وذلك يحتاج فيه إلى اجتهاد الحكمين* وروى عن ابن أبى مليكة عن ابن عباس وابن عمر قالا في محرم قتل* قطاة فيه ثلثا مد وثلثا مد خير من قطاة في بطن مسكين* وروى معمر عن صدقة بن يسار قال سألت القاسم وسالما عن حجلة ذبحها وهو محرم ناسيا فقال أحدهما لصاحبه أحجلة في بطن رجل خير أو ثلثا مد فقال بل ثلثا مد فقال هي خير أو نصف مد قال بل نصف مد قال هي خير أو ثلث مد قال قلت أتجزئ عنى شاة قالا أو تفعل ذلك قلت نعم قالا فاذهب* وروى أن عمر وضع رداءه على عود في دار الندوة فأطار حماما فقتله حار* فقال لعثمان ونافع بن عبد الحارث احكما على فحكما بعناق بنية عفراء فأمر بها عمر* وروى عبد الملك بن عمير عن قبيصة بن جابر أن محرما قتل ظبيا فسأل عمر رجلا إلى جنبه ثم أمره بذبح شاة وأن يتصدق بلحمها قال قبيصة فلما قمنا من عنده قلت له أيها المستفتى ابن الخطاب إن فتيا ابن الخطاب لم تغن عنك من الله شيئا فانحر ناقتك وعظم شعائر الله فو الله ما علم ابن الخطاب ما يقول حتى سأل الرجل الذي إلى جنبه فقمت إلى عمر وإذا عمر قد أقبل ومعه الدرة على صاحبي صفعا وهو يقول قاتلك الله أتقتل الحرام وتعدى الفتيا وتقول ما علم عمر حتى سأل من إلى جنبه أما تقرأ (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) فهذا يدل على أن حكم الحكمين في ذلك من طريق الاجتهاد ألا ترى أن عمرو ابن عباس وابن عمر والقاسم وسالما كل واحد منهم سأل صاحبه عن اجتهاده في المقدار الواجب فلما اتفق رأيهما على شيء حكما به وهذا يدل على جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث لإباحة الله تعالى الاجتهاد في تقويم الصيد وما يجب فيه ويدل أيضا على أن تقويم المستهلكات

١٣٨

موكول إلى الاجتهاد عدلين يحكمان به على المستهلك كما أوجب الرجوع إلى قول الحكمين في تقديم الصيد* والحكمان عند أبى حنيفة يحكمان عليه بالقيمة ثم يختار المحرم ما شاء من هدى أو طعام أو صيام وقال محمد الحكمان يحكمان بما يريان من هدى أو طعام أو صيام فإن حكما بالهدى كان عليه أن يهدى وأما قوله تعالى (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) فإن الهدى من الإبل والبقر والغنم وقال الله تعالى (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ولا خلاف أن له أن يهدى من أحد هذه الأصناف أيها شاء منها هذا في الإحصار فأما في جزاء الصيد فإن من يجعل الواجب عليه قيمة الصيد فإنه يخيره بعد ذلك فإن اختار الهدى وبلغت قيمته بدنة نحرها وإن لم تبلغ بدنة وبلغ بقرة ذبحها فإن لم تبلغ وبلغ شاة ذبحها وإن اشترى بالقيمة جماعة شاة أجزأه ومن يوجب النظير من النعم فإنه أحكم عليه بالهدى أهدى بما حكم به من بدنة أو بقرة أو شاة* وقد اختلف في السن الذي يجوز في جزاء الصيد فقال أبو حنيفة لا يجوز أن يهدى إلا ما يجزى في الأضحية وفي الإحصار والقران وقال أبو يوسف ومحمد يجزى الجفرة والعناق على قدر الصيد والدليل على صحة الأول أن ذلك هدى تعلق وجوبه بالإحرام وقد اتفقوا في سائر الهدايا التي تعلق وجوبها بالإحرام أنها لا يجزى منها إلا ما يجزى في الأضاحى وهو الجذع من الضأن أو الثنى من المعز والإبل والبقر فصاعدا فكذلك هدى جزاء الصيد وأيضا لما سماه الله تعالى هديا على الإطلاق كان بمنزلة سائر الهدايا المطلقة في القرآن فلا يجزى دون السن الذي ذكرنا وذهب أبو يوسف ومحمد إلى ما روى عن جماعة من الصحابة أن في اليربوع جفرة وفي الأرنب عناق وعلى أنه لو أهدى شاء فولدت ذبح ولدها فأما ما روى عن الصحابة فجائز أن يكون على وجه القيمة وأما ولد الهدى فإنه تبع لها فيسرى الحق الذي في الأم من جهة التبع وليس يجوز اعتبار ما كان أصلا في نفسه بالاتباع ألا ترى أنه يصح أن يكون ابن أم الولد بمنزلة أمه في كونه غير مال وعتقه بموت المولى من غير سعاية ولا يصح ابتداء إيجاب هذا الحكم له على غير وجه التبع والدخول في حكم الأم وكذلك ولد المكاتبة هو مكاتب وهو علوق ولو ابتدأ كتابة العلوق لم يصح ونظائر ذلك كثيرة* وقوله تعالى (بالِغَ الْكَعْبَةِ) صفة للهدى وبلوغه الكعبة ذبحه في الحرم لا خلاف في ذلك وهذا يدل على أن الحرم كله بمنزلة الكعبة في الحرمة وأنه لا يجوز بيع رباعها لأنه

١٣٩

عبر بالكعبة عن الحرم وهو كما روى عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن الحرم كله مسجد وكذلك قوله تعالى (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) المراد به الحرم كله ومعالم الحج لأنهم منعوا بهذه الآية من الحج وقد اختلف في مواضع تقويم الصيد فقال إبراهيم يقوم في المكان الذي أصابه فإن كان في فلاة ففي أقرب الأماكن من العمران إليها وهو قول أصحابنا وقال الشعبي يقوم بمكة أو بمنى الأول هو الصحيح لأنه كتقويم المستهلكات فيعتبر الموضع الذي وقع فيه الاستهلاك ولا في الموضع الذي يؤدى فيه القيمة ولأن تخصيص مكة ومنى من بين سائر البقاع تخصيص الآية بغير دليل فلا يجوز فإن قال قائل روى عن عمر وعبد الرحمن بن عوف أنهما حكما في الظبى بشاة ولم يسئلا السائل عن الموضع الذي قتله فيه قيل له يجوز أن يكون السائل سأل عن قتله في موضع علم أن قيمته فيه شاة وأما قوله تعالى (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ) فإنه قرئ كفارة بالإضافة وقرئ بالتنوين بلا إضافة وقد اختلف في تقدير الطعام فقال ابن عباس رواية إبراهيم وعطاء ومجاهد ومقسم يقوم الصيد دراهم ثم يشترى بالدراهم طعام فيطعم كل مسكين نصف صاع وروى عن ابن عباس رواية يقوم الهدى ثم يشترى بقيمة الهدى طعاما وروى مثله عن مجاهد أيضا والأول قول أصحابنا والثاني قول الشافعى والأول أصح وذلك لأن جميع ذلك جزاء الصيد فلما كان الهدى من حيث كان جزاء معتبرا بالصيد إما في قيمته أو في نظيره وجب أن يكون الطعام مثله لأنه قال (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ ـ إلى قوله ـ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ) فجعل الطعام جزاء وكفارة كالقيمة فاعتباره بقيمة الصيد أولى من اعتباره بالهدى إذ هو بدل من الصيد وجزاء عنه لا من الهدى وأيضا قد اتفقوا فيما لا نظير له من النعم أن اعتبار الطعام إنما هو بقيمة الصيد فكذلك فيما له نظير لأن الآية منتظمة للأمرين فلما اتفقوا في أحدهما أن المراد اعتبار الطعام بقيمة الصيد كان الآخر مثله وقال أصحابنا إذا أراد الإطعام اشترى بقيمة الصيد طعاما فأطعم كل مسكين نصف صاع من بر ولا يجزيه أقل من ذلك ككفارة اليمين وفدية الأذى وقد بيناه فيما سلف وقوله تعالى (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) فإنه روى عن ابن عباس وإبراهيم وعطاء ومجاهد ومقسم وقتادة أنهم قالوا لكل نصف صاع يوما وهو قول أصحابنا وروى عن عطاء أيضا أنه قال لكل مد يوما وما ذكره الله تعالى في هذه الآية من الهدى والإطعام والصيام فهو

١٤٠