الإيضاح في علوم البلاغة

جلال الدين محمّد بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد

الإيضاح في علوم البلاغة

المؤلف:

جلال الدين محمّد بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3907-X
الصفحات: ٤١٥

أبى لك كسب الحمد رأي مقصّر

ونفس أضاق الله بالخير باعها

إذا هي حثّته على الخير مرّة

عصاها ، وإن همّت بشرّ أطاعها

فلو عكس لأصاب.

وقد تستعمل «إن» في مقام القطع بوقوع الشرط لنكتة.

كالتجاهل : لاستدعاء المقام إيّاه.

وكعدم جزم المخاطب ، كقولك لمن يكذبك فيم تخبر : إن صدقت فقل لي ما ذا تفعل؟

وكتنزيله منزلة الجاهل ؛ لعدم جريه على موجب العلم ، كما تقول لمن يؤذي أباه : إن كان أباك فلا تؤذه.

وكالتوبيخ على الشرط ، وتصوير أن المقام ـ لاشتماله على ما يقلعه عن أصله ـ لا يصحّ إلا لفرضه كما يفرض الحال لغرض ، كقوله تعالى : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) [الزّخرف : الآية ٥] فيمن قرأ «إن» بالكسر ؛ لقصد التوبيخ ، والتجهيل في ارتكاب الإسراف ، وتصوير أن الإسراف من العاقل في هذا المقام واجب الانتفاء ؛ حقيق أن لا يكون ثبوته له إلا على مجرد الفرض.

وكتغليب غير المتّصف بالشرط على المتّصف به ، ومجيء قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) [البقرة : الآية ٢٣] بـ «إن» يحتمل أن يكون لتغليب غير المرتابين منهم ؛ فإنه كان فيهم من يعرف الحق ، وإنما ينكر عنادا ، وكذلك قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) [الحجّ : الآية ٥].

والتغليب باب واسع يجري في فنون كثيرة ، كقوله تعالى : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) [الأعراف : الآية ٨٨] أدخل شعيب عليه السّلام في (لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) بحكم التغليب ؛ إذ لم يكن شعيب في ملتهم أصلا ، ومثله قوله تعالى : (إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ) [الأعراف : الآية ٨٩] ، وكقوله تعالى : (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) [التّحريم : الآية ١٢] عدّت الأنثى من الذكور بحكم التغليب ، وكقوله تعالى : (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) [البقرة : الآية ٣٤] عدّ إبليس من الملائكة بحكم التغليب ، وكقوله تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [النّمل : الآية ٥٥] بتاء الخطاب ، غلّب جانب «أنتم» على جانب «قوم» ، ومثله : (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [النّمل : الآية ٩٣] فيمن قرأ بالتاء ، وكذا قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٢١) [البقرة : الآية ٢١] غلّب المخاطبون في قوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) على الغائبين في اللفظ ، والمعنى على إرادتهما جميعا ؛ لأن

٨١

«لعل» متعلقة بـ «خلقكم» لا بـ «اعبدوا» وهذا من غوامض التغليب ، وكقوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) [الشّورى : الآية ١١] فإن الخطاب فيه شامل للعقلاء والأنعام ، فغلّب فيه المخاطبون على الغيّب ، والعقلاء على الأنعام ، وقوله تعالى : (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) أي يبثّكم ، ويكثّركم في هذا التدبير ، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجا ، حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل ، فجعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبثّ والتكثير ، ولذلك قيل : (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) [الشّورى : الآية ١١] ولم يقل : «به» كما في قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : الآية ١٧٩].

واعلم أنه لما كانت هاتان الكلمتان لتعليق أمر بغيره ـ أعني الجزاء بالشرط ـ في الاستقبال ؛ امتنع في كل واحدة من جملتيهما الثبوت ، وفي أفعالهما المضيّ ، أعني أن يكون كلتا الجملتين أو إحداهما اسميّة أو كلا الفعلين أو أحدهما ماضيا.

ولا يخالف ذلك لفظا ـ نحو إن أكرمتني أكرمتك ، وإن أكرمتني أكرمك ، وإن تكرمني أكرمتك ، وإن تكرمني فأنت مكرم ، وإن أكرمتني الآن فقد أكرمتك أمس ـ إلا لنكتة ما ، مثل إبراز غير الحاصل في صورة الحاصل ، إما لقوة الأسباب المتآخذة في وقوعه ، كقولك : «إن اشترينا كذا» حال انعقاد الأسباب في ذلك ، وإما لأن ما هو للواقع كالواقع ، كقولك : «إن متّ كان كذا وكذا» كما سبق ، وإما للتفاؤل ، وإما لإظهار الرغبة في وقوعه ، نحو : إن ظفرت بحسن العاقبة فهو المرام ؛ فإن الطالب إذا تبالغت رغبته في حصول أمر ، يكثر تصوّره إياه ، فربما يخيّل إليه حاصلا ، وعليه قوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) [النّور : الآية ٣٣]. وقد يقوى هذا التخيل عند الطالب حتى إذا وجد حكم الحسّ بخلاف حكمه غلّطه تارة واستخرج له محملا أخرى ، وعليه قول أبي العلاء المعري :

ما سرت إلّا وطيف منك يصحبني

سرى أمامي ، وتأويبا على أثري (١)

يقول : لكثرة ما ناجيت نفسي بك انتقشت في خيالي ، فأعدّك بين يديّ مغلّطا للبصر بعلّة الظلام إذا لم يدركك ليلا أمامي وأعدّك خلفي إذا لم يتيسّر لي تغليطه حين لا يدركك بين يديّ نهارا ، وإما لنحو ذلك.

قال السكاكي : أو للتعريض كما في قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزّمر : الآية ٦٥] ، وقوله تعالى : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً

__________________

(١) البيت من البسيط. والسرى : سير الليل ، والتأويب : سير النهار كله.

٨٢

لَمِنَ الظَّالِمِينَ) [البقرة : الآية ١٤٥] ، وقوله تعالى : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) [البقرة : الآية ٢٠٩] ونظيره في التعريض بقوله تعالى : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٢) [يس : الآية ٢٢] المراد : وما لكم لا تعبدون الذي فطركم؟ والمنبه عليه «ترجعون» ، وقوله تعالى : (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢٤) [يس : الآيتان ٢٣ ، ٢٤] إذ المراد أتتخذون من دونه آلهة إن يردكم الرحمن بضر لا تغن عنكم شفاعتهم شيئا ولا ينقذوكم؟ إنكم إذا لفي ضلال مبين ، ولذلك قيل : (آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ) [يس : الآية ٢٥] دون (بربي) وأتبعه (فَاسْمَعُونِ). ووجه حسنه تطلب إسماع المخاطبين الذين هم أعداء المسمع الحقّ على وجه لا يورثهم مزيد غضب ، وهو ترك التصريح بنسبتهم إلى الباطل ومواجهتهم بذلك ، ويعين على قبوله ؛ لكون أدخل في إمحاض النصح لهم ، حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه.

ومن هذا القبيل قوله تعالى : (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٢٥) [سبأ : الآية ٢٥] فإن حقّ النّسق من حيث الظاهر : «قل لا تسالون عما عملنا ولا نسئل عما تجرمون» وكذا ما قبله : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : الآية ٢٤].

قال السكاكي رحمه الله : وهذا النوع من الكلام يسمى المنصف.

ومما يتصل بما ذكرناه أن الزمخشري قدّر قوله تعالى : (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) [الممتحنة : الآية ٢] عطفا على جواب الشرط في قوله تعالى : (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) (٢) [الممتحنة : الآية ٢] ، وقال : الماضي وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب فإن فيه نكتة ، كأنه قيل : وودوا قبل كلّ شيء كفركم وارتدادكم ، يعني أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضارّ الدنيا والدين جميعا : من قتل الأنفس ، وتمزيق الأعراض ، وردّكم كفارا ، وردّكم كفارا أسبق المضارّ عندهم وأولها ؛ لعلمهم أن الدين أعزّ عليكم من أرواحكم ؛ لأنكم بذّالون لها دونه ، والعدوّ أهمّ شيء عنده أن يقصد أعزّ شيء عند صاحبه.

هذا كلامه ، وهو حسن دقيق ، لكن في جعل (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) [الممتحنة : الآية ٢] ، عطفا على جواب الشرط نظر ، لأن ودادتهم أن يرتدوا كفارا حاصلة وإن لم يظفروا بهم ، فلا يكون في تقييدها بالشرط فائدة. فالأولى أن يجعل قوله : (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) [الممتحنة : الآية ٢] ، عطفا على الجملة الشرطية ، كقوله تعالى : (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) [آل عمران : الآية ١١١].

٨٣

وأما «لو» فهي للشرط في الماضي مع القطع بانتفاء الشرط ، فيلزم انتفاء الجزاء ، كانتفاء الإكرام في قولك : «لو جئتني لأكرمتك» ولذلك قيل : هي امتناع الشيء لامتناع غيره.

ويلزم كون جملتيها فعليتين ، وكون الفعل ماضيا ؛ فدخولها على المضارع في نحو قوله تعالى : (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) [الحجرات : الآية ٧] لقصد استمرار الفعل فيما مضى وقتا فوقتا ، كما في قوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : الآية ١٥] بعد قوله : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) [البقرة : الآية ١٤] ، وفي قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) [البقرة : الآية ٧٩] ودخولها عليه في نحو قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [السّجدة : الآية ١٢] ، وقوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [سبأ : الآية ٣١] لتنزيله منزلة الماضي ؛ لصدوره عمن لا خلاف في إخباره ، كما نزل «يودّ» منزلة «ودت» في قوله تعالى : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الحجر : الآية ٢] ويجوز أن يردّ الغرض من لفظ «ترى» و «يودّ» إلى استحضار صورة رؤية المجرمين ناكسي الرؤوس قائلين لما يقولون ، وصورة رؤية الظالمين موقوفين عند ربهم متقاولين بتلك المقالات ، وصورة ودادة الكافرين لو أسلموا ، كما في قوله تعالى : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) [فاطر : الآية ٩] ، إذ قال : (فَتُثِيرُ سَحاباً) [فاطر : الآية ٩] استحضارا لتلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة من إثارة السحاب مسخّرا بين السماء والأرض ، تبدو في الأول كأنها قطع قطن مندوف ، ثم تتضامّ متقلّبة بين أطوار حتى يعدن ركاما ، وكقول تأبّط شرا : [ثابت بن جابر]

ألا من مبلغ فتيان فهم

بما لاقيت عند رحا بطان (١)

بأنّي قد لقيت الغول تهوي

بسهب كالصحيفة صحصحان

فقلت لها : كلانا نضو أرض

أخو سفر ، فخلّي لي مكاني

فشدّت شدّة نحوي ، فأهوت

لها كفّي بمصقول يماني

فأضربها بلا دهش ، فخرّت

صريعا لليدين وللجران

إذ قال : «فأضربها» ليصور لقومه الحالة التي تشجّع فيها على ضرب الغول ، كأنه يبصّرهم إيّاها ، ويتطلّب منهم مشاهدتها ؛ تعجيبا من جراءته على كل هول ، وثباته عند كل شدة ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ

__________________

(١) الأبيات من الوافر ، وتنسب أيضا لأبي الغول الطهوي.

٨٤

كُنْ فَيَكُونُ) (٥٩) [آل عمران : الآية ٥٩] ، إذ قال : (كُنْ فَيَكُونُ) [الأنعام : الآية ٧٣] دون «كن فكان» وكذا قوله تعالى : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) [الحجّ : الآية ٣١].

وأما تنكيره فإما لإرادة عدم الحصر والعهد ، كقولك : زيد كاتب ، وعمرو شاعر.

وإما للتنبيه على ارتفاع شأنه أو انحطاطه على ما مر في المسند إليه ، كقوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : الآية ٢] أي هدى لا يكتنه كنهه.

وأما تخصيصه بالإضافة أو الوصف فلتكون الفائدة أتمّ.

وأما ترك تخصيصه بهما فظاهر مما سبق.

وأما تعريفه فلإفادة السامع إما حكما على أمر معلوم له بطريق من طرق التعريف بأمر آخر له كذلك ، وإما لازم حكم بين أمرين كذلك.

تفسير هذا أنه قد يكون للشيء صفتان من صفات التعريف ، ويكون السامع عالما باتصافه بإحداهما دون الأخرى ، فإذا أردت أن تخبره بأنه متصف بالأخرى ؛ تعمد إلى اللفظ الدال على الأول ، وتجعله مبتدأ ، وتعمد إلى اللفظ الدال على الثانية ، وتجعله خبرا ، فتفيد السامع ما كان يجهله من اتصافه للثانية ، كما إذا كان للسامع أخ يسمّى زيدا ، وهو يعرف بعينه واسمه ، ولكن لا يعرف أنه أخوه ، وأردت أن تعرفه أنه أخوه ، فتقول له : «زيد أخوك» سواء عرف أن له أخا ولم يعرف أن زيدا أخوه ، أو لم يعرف أن له أخا أصلا.

وإن عرف أن له أخا في الجملة ، وأردت أن تعيّنه عنده ؛ قلت : «أخوك زيد».

أما إذا لم يعرف أن له أخا أصلا ؛ فلا يقال ذلك ؛ لامتناع الحكم بالتعيين على من لا يعرفه المخاطب أصلا ؛ فظهر الفرق بين قولنا : «زيد أخوك» وقولنا : «أخوك زيد».

وكذا إذا عرف السامع إنسانا يسمّى زيدا بعينه واسمه ، وعرف أنه كان من إنسان انطلاق ، ولم يعرف أنه كان من زيد أو غيره ، فأردت أن تعرفه أن زيدا هو ذلك المنطلق ، فتقول : «زيد المنطلق» وإن أردت أن تعرفه أن ذلك المنطلق هو زيد قلت : «المنطلق زيد».

وكذا إذا عرف السامع إنسانا يسمّى زيدا بعينه واسمه ، وهو يعرف معنى جنس المنطلق ، وأردت أن تعرّفه أن زيدا متصف به ؛ فتقول : «زيد المنطلق» وإن أردت أن تعين عنده جنس المنطلق قلت : «المنطلق زيد».

لا يقال : زيد دالّ على الذات ؛ فهو متعيّن للابتداء تقدّم أو تأخّر ، والمنطلق دال

٨٥

على أمر نسبي ، فهو متعين للخبرية تقدم أو تأخر.

لأنا نقول : «المنطلق» لا يجعل مبتدأ إلا بمعنى الشخص الذي له الانطلاق وإنه بهذا المعنى لا يجب أن يكون خبرا ، و «زيد» لا يجعل خبرا إلا بمعنى صاحب اسم «زيد» وإنه بهذا المعنى لا يجب أن يكون مبتدأ.

ثم التعريف بلام الجنس قد لا يفيد قصر المعرّف على ما حكم عليه به ، كقول الخنساء : [تماضر بنت عمرو]

إذا قبح البكاء على قتيل

رأيت بكاءك الحسن الجميلا (١)

وقد يفيده قصره ؛ إما تحقيقا ، كقولك : «زيد الأمير» إذا لم يكن أمير سواه ، وإما مبالغة لكمال معناه في المحكوم عليه ، كقولك : «عمرو الشجاع» أي الكامل في الشجاعة ، فتخرج الكلام في صورة توهم أن الشجاعة لم توجد إلّا فيه ؛ لعدم الاعتداد بشجاعة غيره ، لقصورها عن رتبة الكمال.

ثم المقصور قد يكون نفس الجنس مطلقا ، أي من غير اعتبار تقييده بشيء كما مر ، وقد يكون الجنس باعتبار تقييده بظرف أو غيره كقولك : هو الوفيّ حين لا تظن نفس بنفس خيرا ؛ فإن المقصور هو الوفاء في هذا الوقت ، لا الوفاء مطلقا ، وكقول الأعشى :

هو الواهب المائة المصطفا

ة : إمّا مخاضا ، وإمّا عشارا (٢)

فإنه قصر هبة المائة من الإبل في إحدى الحالتين ، لا هبتها مطلقا ، ولا الهبة مطلقا.

وهذه الوجوه الثلاثة ـ أعني العهد ، والجنس للقصر تحقيقا ـ والجنس للقصر مبالغة ـ تمنع جواز العطف بالفاء ونحوها على ما حكم عليه بالمعرّف ، بخلاف المنكّر ؛ فلا يقال : «زيد المنطلق وعمرو» ولا «زيد الأمير وعمرو» ولا «زيد الشجاع وعمرو».

وأما كونه جملة فإما لإرادة تقوّي الحكم بنفس التركيب كما سبق ، وإما لكونه سببا ، وقد تقدم بيان ذلك.

وفعليتها لإفادة التّجدّد ، واسميتها لإفادة الثبوت ؛ فإن من شأن الفعلية أن تدل على التجدد ، ومن شأن الاسمية أن تدل على الثبوت.

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو للخنساء في ديوانها ص ٢٢٦ (طبعة المطبعة الكاثوليكية ـ بيروت) ، ولسان العرب (بكا) ، وتاج العروس (بكا) ، ودلائل الإعجاز ص ١٨١ ، وشرح عقود الجمان ١ / ١٢١.

(٢) البيت من المتقارب ، وهو في ديوان الأعشى ص ١٠١ ، ولسان العرب (علق) ، وتاج العروس (علق).

٨٦

وعليها قول ربّ العزّة : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) [البقرة : الآية ١٤].

وقوله تعالى : (قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) [هود : الآية ٦٩] إذ أصل الأول : نسلم عليك سلاما ، وتقدير الثاني سلام عليكم ، كأن إبراهيم عليه السّلام قصد أن يحيّيهم بأحسن ما حيّوه به ؛ أخذا بأدب الله تعالى في قوله تعالى : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها) [النّساء : الآية ٨٦].

وقد ذكر له وجه آخر فيه دقة ، غير أنه بأصول الفلاسفة أشبه ، وهو أن التسليم دعاء للمسلّم عليه بالسلامة من كل نقص ، ولهذا أطلق ، وكمال الملائكة لا يتصور فيه التجدد ؛ لأن حصوله بالفعل مقارن لوجودهم ، فناسب أن يحيّوا بما يدل على الثبوت دون التجدد وكمال الإنسان متجدّد ؛ لأنه بالقوة ، وخروجه إلى الفعل بالتدريج ، فناسب أن يحيّا بما يدل على التجدّد دون الثبوت ، وفيه نظر.

وقوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) [الأعراف : الآية ١٩٣] أي أحدثتم دعاءهم ، أم استمر صمتكم عنه ، فإنه كانت حالهم المستمرة أن يكونوا صامتين عن دعائهم ، فقيل : لم يفترق الحال بين إحداثكم دعاءهم وما أنتم عليه من عادة صمتكم عن دعائهم.

وقوله تعالى : (قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) (٥٥) [الأنبياء : الآية ٥٥] أي أحدثت عندنا تعاطي الحقّ فيما نسمعه منك أم اللعب أي أحوال الصّبا بعد مستمرة عليك.

وأما قوله تعالى : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) [البقرة : الآية ٨] في جواب (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) [البقرة : الآية ٨] فلإخراج ذواتهم من جنس المؤمنين مبالغة في تكذيبهم ، ولهذا أطلق قوله «مؤمنين» وأكد نفيه بالباء .. ونحوه : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) [المائدة : الآية ٣٧].

وشرطيتها لما مر.

وظرفيتها لاختصار الفعلية ؛ إذ هي مقدّرة بالفعل على الأصح.

وأما تأخيره فلأن ذكر المسند أهم كما سبق.

وأما تقديمه فإما لتخصيصه بالمسند إليه ، كقوله تعالى : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (٦) [الكافرون : الآية ٦] وقولك : «قائم هو» لمن يقول : زيد إما قائم أو قاعد ، فيردده بين القيام والقعود من غير أن يخصصه بأحدهما ، ومنه قولهم : تميميّ أنا. وعليه قوله تعالى : (لا

٨٧

فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) (٤٧) [الصّافات : الآية ٤٧] أي بخلاف خمور الدنيا فإنها تغتال العقول ؛ ولهذا لم يقدّم الظرف في قوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : الآية ٢] لئلا يفيد ثبوت الرّيب في سائر كتب الله تعالى.

وإما للتنبيه من أول الأمر على أنه خبر لا نعت كقوله : [حسان بن ثابت]

له همم لا منتهى لكبارها

وهمّته الصّغرى أجلّ من الدّهر (١)

وقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) [البقرة : الآية ٣٦].

وإما للتفاؤل ، وإما للتشويق إلى ذكر المسند إليه كقوله : [محمد بن وهيب الحميري]

ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها

شمس الضّحى وأبو إسحاق والقمر (٢)

وقوله : [أبو العلاء المعري] :

وكالنّار الحياة ؛ فمن رماد

أواخرها ، وأوّلها دخان (٣)

قال السكاكي رحمه الله : وحقّ هذا الاعتبار تطويل الكلام في المسند ، وإلّا لم يحسن ذلك الحسن.

تنبيه : كثير مما في هذا الباب والذي قبله غير مختص بالمسند إليه والمسند ، كالذكر ، والحذف ، وغيرهما مما تقدمت أمثلته ، والفطن إذا أتقن اعتبار ذلك فيهما لا يخفى عليه اعتباره في غيرهما.

القول في أحوال متعلّقات الفعل

حال الفعل مع المفعول كحاله مع الفاعل ، فكما أنك إذا أسندت الفعل إلى الفاعل ؛ كان غرضك أن تفيد وقوعه منه ، لا أن تفيد وجوده في نفسه فقط ؛ كذلك إذا عدّيته إلى المفعول ؛ كان غرضك أن تفيد وقوعه عليه ، لا أن تفيد وجوده في نفسه فقط ، فقد اجتمع الفاعل والمفعول في أن عمل الفعل فيهما إنما كان ليعلم التباسه بهما ، فعمل الرفع في الفاعل ليعلم التباسه به من جهة وقوعه منه والنصب في المفعول ليعلم التباسه به من جهة وقوعه عليه.

أما إذا أريد الإخبار بوقوعه في نفسه من غير إرادة أن يعلم ممّن وقع في نفسه ، أو

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لبكر بن النطاح في الإشارات والتنبيهات ص ٧٨.

(٢) البيت من البسيط ، وهو لمحمد بن وهيب الحميري في الإشارات والتنبيهات ص ٧٩.

(٣) البيت في مفتاح العلوم للسكاكي ص ٣٢٤ ، والإشارات والتنبيهات ص ٧٨.

٨٨

على من وقع ؛ فالعبارة عنه أن يقال : كان ضرب أو وقع ضرب ؛ أو وجد ، أو نحو ذلك من ألفاظ تفيد الوجود المجرد.

وإذا تقرر هذا فنقول : الفعل المتعدي إذا أسند إلى فاعله ولم يذكر له مفعول فهو على ضربين :

الأول : أن يكون الغرض إثبات المعنى في نفسه للفاعل على الإطلاق أو نفيه عنه كذلك ، وقولنا : «على الإطلاق» أي من غير اعتبار عمومه وخصوصه ، ولا اعتبار تعلقه بمن وقع عليه ؛ فيكون المتعدي حينئذ بمنزلة اللازم ، فلا يذكر له مفعول لئلا يتوهّم السامع أن الغرض الإخبار به باعتبار تعلقه بالمفعول ، ولا يقدّر أيضا ؛ لأن المقدّر في حكم المذكور.

وهذا الضرب قسمان ؛ لأنه إما أن يجعل الفعل مطلقا كناية عن الفعل متعلقا بمفعول مخصوص دلت عليه قرينة ، أو لا.

الثاني : كقوله تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزّمر : الآية ٩] أي من يحدث له معنى العلم ومن لا يحدث.

قال السكاكي : ثم إذا كان المقام خطابيا لا استدلاليا ؛ أفاد العموم في أفراد الفعل ، بعلة إيهام أن القصد إلى فرد دون فرد آخر مع تحقق الحقيقة فيهما نحكم ، ثم جعل قولهم في المبالغة : «فلان يعطي ويمنع ، ويصل ويقطع» محتملا لذلك ولتعميم المفعول كما سيأتي.

وعده الشيخ عبد القاهر مما يفيد أصل المعنى على الإطلاق من غير إشهار بشيء من ذلك.

والأول : كقول البحتري يمدح المعتزّ بالله ، ويعرّض بالمستعين بالله :

شجو حسّاده وغيظ عداه

أن يرى مبصر ، ويسمع واعي (١)

أي أن يكون ذو رؤية وذو سمع ، يقول : محاسن الممدوح وآثاره لم تخف على من له بصر ؛ لكثرتها واشتهارها ، ويكفي في معرفة أنها سبب لاستحقاقه الإمامة دون غيره أن يقع عليها بصر ويعيها سمع ؛ لظهور دلالتها على ذلك لكل أحد ، فحساده وأعداؤه يتمنّون أن لا يكون في الدنيا من له عين يبصر بها وأذن يسمع بها ، كي يخفى استحقاقه للإمامة ، فيجدوا بذلك سبيلا إلى منازعته إياها ، فجعل كما ترى مطلق الرؤية كناية عن

__________________

(١) البيت من الخفيف ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٨١.

٨٩

رؤية محاسنه وآثاره ، ومطلق السماع كناية عن سماع أخباره وكقول عمرو بن معديكرب :

فلو أن قومي أنطقتني رماحهم

نطقت ، ولكن الرماح أجرّت (١)

لأن غرضه أن يثبت أنه كان من الرّماح إجرار وحبس للألسن عن النطق بمدحهم والافتخار بهم ، حتى يلزم منه بطريق الكناية مطلوبه وهو أنها أجرّته ، وكقول طفيل الغنويّ لبني جعفر بن كلاب :

جزى الله عنّا جعفرا حين أزلقت

بنا نعلنا في الواطئين ، فزلّت (٢)

أبوا أن يملّونا ، ولو أن أمنا

تلاقي الذي لا قوه منّا لملّت

هم خلطونا بالنفوس ، وألجأوا

إلى حجرات أدفأت وأظلّت

فإن الأصل : لملّتنا ، وأدفأتنا ، وأظلتنا ، إلا أنه حذف المفعول من هذه المواضع ليدلّ على مطلوبه بطريق الكناية.

فإن قلت : لا شك أن قوله ألجأوا أصله ألجأونا فلأيّ معنى حذف المفعول منه؟

قلت : الظاهر أن حذفه لمجرد الاختصار ؛ لأن حكمه حكم ما عطف عليه وهو قوله : «خلطونا».

الضرب الثاني : أن يكون الغرض إفادة تعلّقه بمفعول ، فيجب تقديره بحسب القرائن ، ثم حذفه من اللفظ.

إما للبيان بعد الإبهام ، كما في فعل المشيئة إذا لم يكن في تعلّقه بمفعوله غرابة ، كقولك : لو شئت جئت أو لم أجىء ، أي لو شئت المجيء أو عدم المجيء ؛ فإنك متى قلت : «لو شئت» علم السامع أنك علقت المشيئة بشيء ، فيقع في نفسه أن هنا شيئا تعلّقت به مشيئتك بأن يكون أو لا يكون ، فإذا قلت : «جئت» أو «لم أجىء» عرف ذلك الشيء ، ومنه قوله تعالى : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنعام : الآية ١٤٩] ، وقوله تعالى : (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) [الشّورى : الآية ٢٤] ، وقوله تعالى : (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ) [الأنعام : الآية ٣٩].

وقول طرفة : [بن العبد]

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لعمرو بن معديكرب في ديوانه ص ٧٣ ، ولسان العرب (جرر) ، ومقاييس اللغة ١ / ٤١١ ، ومجمل اللغة ١ / ٣٨٩ ، وتهذيب اللغة ١٠ / ٤٧٦ ، وتاج العروس (جرر) ، وبلا نسبة في كتاب العين ٦ / ١١٤.

(٢) الأبيات من الطويل ، والبيت الأول بلا نسبة في لسان العرب (شرف).

٩٠

فإن شئت لم ترقل وإن شئت أرقلت

مخافة ملويّ من القدّ محصد (١)

وقول البحتري :

لو شئت عدت بلاد نجد عودة

فحللت بين عقيقه وزروده (٢)

وقوله : [البحتري]

لو شئت لم تفسد سماحة حاتم

كرما ، ولم تهدم مآثر خالد (٣)

فإن كان في تعليق الفعل به غرابة ذكرت المفعول ؛ لتقرّره في نفس السامع وتؤنسه به ، يقول الرجل يخبر عن عزّه : لو شئت أن أردّ على الأمير رددت ، وإن شئت أن ألقى الخليفة كلّ يوم لقيته ، وعليه قول الشاعر : [إسحاق بن حسان الخريمي]

ولو شئت أن أبكي دما لبكيته

عليه ، ولكن ساحة الصبر أوسع (٤)

فأما قول أبي الحسين علي بن أحمد الجوهري أحد شعراء الصاحب بن عباد :

فلم يبق منّي الشوق غير تفكّري

فلو شئت أن أبكي بكيت تفكّرا (٥)

فليس منه ؛ لأنه لم يرد أن يقول : فلو شئت أن أبكي تفكّرا بكيت تفكّرا ، ولكنه أراد أن يقول : أفناني النّحول ، فلم يبق منّي وفيّ غير خواطر تجول ، حتى لو شئت البكا ، فمريت جفوني ، وعصرت عيني ليسيل منها دمع لم أجده ، ولخرج منها بدل الدمع التفكّر ، فالمراد بالبكاء في الأول الحقيقي ، وفي الثاني غير الحقيقيّ ، فالثاني لا يصح لأن يكون تفسيرا للأول.

وإما لدفع أن يتوهم السامع في أول الأمر إرادة شيء غير المراد ، كقول البحتري :

وكم ذدت عني من تحامل حادث

وسورة أيّام حززن إلى العظم (٦)

إذ لو قال : «حززن اللحم» لجاز أن يتوهم السامع قبل ذكر ما بعده أن الحزّ كان في بعض اللحم ، ولم ينته إلى العظم ، فترك ذكر اللحم ؛ ليبرىء السامع من هذا الوهم ، ويصور في نفسه من أول الأمر أن الحز مضى في اللحم حتى لم يردّه إلا العظم.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان طرفة بن العبد ص ٣٠.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان البحتري ص ٨١٢.

(٣) البيت من الطويل ، وهو في ديوان البحتري ص ٨١٧.

(٤) البيت من الطويل ، وهو في ديوان الخريمي ص ٤٣ ، والكامل ٣ / ٢٠٤ ، والإشارات والتنبيهات ص ٨٢ ، ودلائل الإعجاز ص ١٦٤.

(٥) البيت في التلخيص ص ٣٤.

(٦) البيت في الإشارات والتنبيهات ص ٨٢ ، والتلخيص ص ٣٤.

٩١

وإما لأنه أريد ذكره ثانيا على وجه يتضمن إيقاع الفعل على صريح لفظه ؛ إظهارا لكمال العناية بوقوعه عليه ، كقول البحتري أيضا :

قد طلبنا فلم نجد لك في السّؤ

دد والمجد والمكارم مثلا (١)

أي قد طلبنا لك مثلا في السّؤدد والمجد والمكارم ، فحذف المثل ؛ إذ كان غرضه أن يوقع نفي الوجود على صريح لفظ المثل ، ولأجل هذا المعنى بعينه عكس ذو الرمة في قوله : [غيلان بن عقبة]

ولم أمدح لأرضيه بشعري

لئيما أن يكون أصاب مالا (٢)

فإنه أعمل الفعل الأول الذي هو «أمدح» في صريح لفظ «اللئيم» والثاني الذي هو «أرضي» في ضميره ؛ إذ كان غرضه إيقاع نفي المدح على اللئيم صريحا دون الإرضاء ، ويجوز أن يكون سبب الحذف في بيت البحتريّ قصد المبالغة في التأدّب مع الممدوح ، بترك مواجهته بالتصريح بما يدل على تجويز أن يكون له مثل ، فإن العاقل لا يطلب إلا ما يجوز وجوده.

وإما للقصد إلى التعميم في المفعول ، والامتناع عن أن يقصره السامع على ما يذكر معه دون غيره ، مع الاختصار ، كما تقول : «قد كان منك ما يؤلم» أي ما الشرط في مثله أن يؤلم كلّ أحد وكلّ إنسان ، وعليه قوله تعالى : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) [يونس : الآية ٢٥] أي يدعو كلّ أحد.

وإما للرعاية على الفاصلة ، كقوله سبحانه وتعالى : (وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) (٣) [الضّحى : الآيات ١ ـ ٣] أي وما قلاك.

وإما لاستهجان ذكره ، كما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : «ما رأيت منه ولا رأى منّي» تعني العورة.

وإما لمجرد الاختصار ، كقولك : «وأضغيت إليه» أي أذني ، و «أغضيت عليه» أي بصري. ومنه قوله تعالى : (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : الآية ١٤٣] أي ذاتك ، وقوله تعالى : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) [الفرقان : الآية ٤١] أي بعثه الله ، وقوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة : الآية ٢٢] أي أنه لا يماثل ، أو ما بينه وبينها من التفاوت ، أو أنها لا تفعل كفعله ، كقوله تعالى : (مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) [الرّوم : الآية ٤٠] ويحتمل أن يكون المقصود نفس الفعل من غير تعميم ، أي :

__________________

(١) البيت من الخفيف ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٨٢.

(٢) البيت من الوافر ، وهو في ديوان ذي الرمة ص ١٥٥١.

٩٢

وأنتم من أهل العلم والمعرفة ، ثم ما أنتم عليه في أمر ديانتكم ـ من جعل الأصنام لله أندادا ـ غاية الجهل.

ومما عدّ السكاكي الحذف فيه لمجرد الاختصار قوله تعالى : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما) [القصص : الآيتان ٢٣ ، ٢٤] والأولى أن يجعل لإثبات المعنى في نفسه للشيء على الإطلاق كما مر ، وهو ظاهر قول الزمخشري ؛ فإنه قال : ترك المفعول لأن الغرض هو الفعل لا المفعول ، ألا ترى أنه إنما رحمهما لأنهما كانتا على الذّياد وهم على السّقي ، ولم يرحمهما لأن مذودهما غنم ومسقيّهم إبل مثلا؟ وكذلك قولهما : (لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ) [القصص : الآية ٢٣] المقصود منه : السّقي لا المسقيّ.

واعلم أنه قد يشتبه الحال في أمر الحذف وعدمه لعدم تحصيل معنى الفعل ، كما في قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الإسراء : الآية ١١٠] ؛ فإنه يظن أن الدعاء فيه بمعنى النداء ؛ فلا يقدّر في الكلام محذوف.

وليس بمعناه ، لأن لو كان بمعناه لزم : إما الإشراك ، أو عطف الشيء على نفسه ؛ لأنه إن كان مسمّى الآخر لزم الأول ، وإن كان مسمّاهما واحد لزم الثاني ، وكلاهما باطل ، تعالى كلام الله عز وجل على ذلك.

فالدعاء في الآية بمعنى التسمية التي تتعدى إلى مفعولين أي : سمّوه الله ، أو الرحمن ، أيّا ما تسمّوه فله الأسماء الحسنى ، كما يقال : «فلان يدعى الأمير» أي : يسمّى الأمير.

وكما في قراءة من قرأ : «وقالت اليهود : عزير بن الله» بغير تنوين ، على القول بأن سقوط التنوين لكون الابن صفة واقعة بين علمين ، كما في قولنا : زيد بن عمرو قائم ؛ فإنه قد يظن أن فعل القول فيه لحكاية الجملة ، كما هو أصله ، فقيل : تقدير الكلام : عزير ابن الله معبودنا. وهذا باطل ، لأن التصديق والتكذيب إنما ينصرفان إلى الإسناد ، لا إلى وصف ما يقع في الكلام موصوفا بصفة ، كما إذا حكيت عن إنسان أنه قال : زيد بن عمرو سيّد ، ثم كذبته فيه ؛ لم يكن تكذيبك أن يكون زيد بن عمرو ، لكن أن يكون زيد سيدا ، فلو كان التقدير ما ذكر لكان الإنكار راجعا إلى أنه معبودهم ، وفيه تقدير أن عزيرا ابن الله ـ تعالى الله عن ذلك ـ فالقول في الآية بمعنى الذّكر ، لأن الغرض الدلالة على أن اليهود قد بلغوا في الرسوخ في الجهل والشّرك إلى أنهم كانوا يذكرون عزيرا هذا

٩٣

الذّكر ، كما تقول في قوم تريد أن تصفهم بالغلوّ في أمر صاحبهم وتعظيمه. إني أراهم قد اعتقدوا أمرا عظيما ؛ فهم يقولون أبدا : زيد الأمير ، تريد أنه كذلك يكون ذكرهم له إذا ذكروه.

واعلم أن لحذف التنوين من عزير في الآية وجهين :

أحدهما : أن يكون لمنعه من الصّرف لعجمته وتعريفه ، كعازر.

والثاني : أن يكون لالتقاء الساكنين ، كقراءة من قرأ : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ) (٢) [الإخلاص : الآيتان ١ ، ٢] بحذف التنوين من «أحد» وكما حكي عن عمارة بن عقيل أنه قرأ : (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) [يس : الآية ٤٠] بحذف التنوين من «سابق» ونصب «النهار» فقيل له : وما تريد؟ فقال : سابق النهار.

فالمعنى على هذين الوجهين كالمعنى على إثبات التنوين ؛ فـ «عزير» مبتدأ و «ابن الله» خبره ، و «قال» على أصله ، والله أعلم.

وأما تقديم مفعوله ونحوه عليه فلردّ الخطأ في التعيين ، كقولك : «زيدا عرفت» لمن اعتقد أنك عرفت إنسانا وأنه غير زيد ، وأصاب في الأول دون الثاني ، وتقول لتأكيده وتقريره : «زيدا عرفت لا غيره» ولذلك لا يصح أن يقال : «ما زيدا ضربت ولا أحدا من الناس» لتناقض دلالتي الأول والثاني ، ولا أن تعقب الفعل المنفيّ بإثبات ضدّه ، كقولك : «ما زيدا ضربت ولكن أكرمته» لأن مبنى الكلام ليس على الخطأ في الضرب ، فترده إلى الصواب في الإكرام ، وإنما هو على الخطأ في المضروب حين اعتقد أنه زيد ، فردّه إلى الصواب أن تقول : «ولكن عمرا».

وأما نحو قولك : «زيدا عرفته» فإن قدّر المفسّر المحذوف قبل المنصوب أي : عرفت زيدا عرفته ؛ فهو من باب التوكيد ، أعني تكرير اللفظ ؛ وإن قدّر بعده ، أي : زيدا عرفت عرفته ؛ أفاد التخصيص.

وأما نحو قوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) [فصّلت : الآية ١٧] فيمن قرأ بالنصب فلا يفيد إلا التخصيص ؛ لامتناع تقدير : أما فهدينا ثمود.

وكذلك إذا قلت : «بزيد مررت» أفاد أن سامعك كان يعتقد مرورك بغير زيد ، فأزلت عنه الخطأ مخصصا مرورك بزيد دون غيره.

والتخصيص في غالب الأمر لازم للتقديم ، ولذلك يقال في قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (٥) [الفاتحة : الآية ٥] : معناه نخصّك بالعبادة ، لا نعبد غيرك ونخصّك بالاستعانة ، لا نستعين غيرك.

٩٤

وفي قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة : الآية ١٧٢] معناه : إن كنتم تخصونه بالعبادة.

وفي قوله تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : الآية ١٤٣] أخّرت صلة الشهادة في الأول ، وقدّمت في الثاني ؛ لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم ، وفي الثاني اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم.

وفي قوله تعالى : (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) [آل عمران : الآية ١٥٨] معناه : إليه لا إلى غيره.

وفي قوله تعالى : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) [النّساء : الآية ٧٩] معناه : لجميع الناس من العرب والعجم ـ على أن التعريف للاستغراق ـ لا لبعضهم المعيّن ـ على أنه للعهد ـ أي للعرب ، ولا لمسمّى الناس ـ على أنه للجنس ـ لئلا يلزم من الأول اختصاصه بالعرب دون العجم ، لانحصار الناس في الصّنفين ، ومن الثاني اختصاصه بالإنس دون الجنّ ؛ لانحصار من يتصوّر الإرسال إليهم من أهل الأرض فيهما وعلى تقدير الاستغراق لا يلزم شيء من ذلك ؛ لأن التقديم لما كان مفيدا لثبوت الحكم للمقدّم ، ونفيه عما يقابله ؛ كان تقديم «للناس» على «رسولا» مفيدا لنفي كونه رسولا لبعضهم خاصة ؛ لأنه هو المقابل لجميع الناس ، لا لبعضهم مطلقا ، ولا غير جنس الناس.

وكذلك يذهب في معنى قوله تعالى : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [البقرة : الآية ٤] إلى أنه تعريض بأن الآخرة التي عليها أهل الكتاب ـ فيما يقولون : إنه لا يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ، وإنه لا تمسّهم النار فيها إلا أياما معدودات ، وإن أهل الجنة فيها لا يتلذذون في الجنة إلا بالنسيم والأرواح العبقة والسماع اللذيذ ـ ليست بالآخرة ، وإيقانهم بمثلها ليس من الإيقان بالتي هي الآخرة عند الله في شيء ، أي : بالآخرة يوقنون ، لا بغيرها كأهل الكتاب.

ويفيد التقديم في جميع ذلك وراء التخصيص اهتماما بشأن المقدّم ، ولهذا قدّر المحذوف في قوله : (بِسْمِ اللهِ) مؤخّرا وأورد قوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق :

الآية ١] فإن الفعل فيه مقدم ، وأجيب بأن تقديم الفعل هناك أهمّ ؛ لأنها أول سورة نزلت ، وأجاب السكاكي بأن (بِاسْمِ رَبِّكَ) [الواقعة : الآية ٧٤] متعلق بـ «اقرأ» الثاني ، ومعنى الأول : افعل القراءة وأوجدها ، على نحو ما تقدم في قولهم «فلان يعطي ويمنع» يعني إذا لم يحمل على العموم ، وهو بعيد.

وأما تقديم بعض معمولاته على بعض ، فهو إما لأن أصله التقديم ولا مقتضي للعدول عنه ، كتقديم الفاعل على المفعول ، نحو : «ضرب زيد عمروا» وتقديم المفعول

٩٥

الأول على الثاني ، نحو «أعطيت زيدا درهما».

وإما لأن ذكره أهمّ ، والعناية به أتم ، فيقدّم المفعول على الفاعل إذا كان الغرض معرفة وقوع الفعل على من وقع عليه ، لا وقوعه ممن وقع منه ، كما إذا خرج رجل على السلطان ، وعاث في البلاد ، وكثر منه الأذى ، فقتل ، وأردت أن تخبر بقتله ، فتقول : «قتل الخارجيّ فلان» بتقديم «الخارجي» ؛ إذ ليس للناس فائدة في أن يعرفوا قاتله ، وإنما الذي يريدون علمه ؛ هو وقوع القتل به ، ليخلصوا من شرّه.

ويقدّم الفاعل على المفعول إذا كان الغرض معرفة وقوع الفعل ممن وقع منه لا وقوعه على من وقع عليه ، كما إذا كان رجل ليس له بأس ، ولا يقدّر فيه أن يقتل ، فقتل رجلا ، وأردت أن تخبر بذلك ، فتقول : «قتل فلان رجلا» بتقديم القاتل ؛ لأن الذي يعني الناس من شأن هذا القتل ندوره وبعده من الظن ، ومعلوم أنه لم يكن نادرا ولا بعيدا من حيث كان واقعا على من وقع عليه ، بل من حيث كان واقعا ممن وقع منه.

وعليه قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) [الأنعام : الآية ١٥١] ، وقوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) [الإسراء : الآية ٣١] قدّم المخاطبين في الأولى دون الثانية ؛ لأن الخطاب في الأولى للفقراء ؛ بدليل قوله تعالى : (مِنْ إِمْلاقٍ) فكان رزقهم أهمّ عندهم من رزق أولادهم ؛ فقدّم الوعد برزقهم على الوعد برزق أولادهم ، والخطاب في الثانية للأغنياء ؛ بدليل قوله : (خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) فإن الخشية إنما تكون مما لم يقع ، فكان رزق أولادهم هو المطلوب دون رزقهم ، لأنه حاصل ؛ فكان أهم ؛ فقدّم الوعد برزق أولادهم على الوعد برزقهم.

وإما لأن في التأخير إخلالا ببيان المعنى ، كقوله تعالى : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ) [غافر : الآية ٢٨] فإنه لو أخّر (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) [البقرة : الآية ٤٩] عن (يَكْتُمُ إِيمانَهُ) [غافر : الآية ٢٨] لتوهم أن «من» متعلقة بـ «يكتم» فلم يفهم أن الرجل من آل فرعون.

أو بالتناسب ، كرعاية الفاصلة ، نحو (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) (٦٧) [طه : الآية ٦٧].

وإما لاعتبار آخر مناسب.

وقسم السكاكي التقديم للعناية ـ مطلقا ـ قسمين :

أحدهما : أن يكون أصل ما قدّم في الكلام هو التقديم ولا مقتضى للعدول عنه ، كالمبتدأ المعرّف ؛ فإن أصله التقديم على الخبر ، نحو «زيد عارف» وكذي الحال المعرّف ،

٩٦

فإن أصله التقديم على الحال ، نحو «جاء زيد راكبا» وكالعامل فإن أصله التقديم على معموله ، نحو «عرف زيد عمرا ، وكان زيد عارفا ، وإن زيدا عارف» وكالفاعل ، فإن أصله التقديم على المفعولات وما يشبهها من الحال والتمييز ، نحو «ضرب زيد الجاني بالسوط ، يوم الجمعة أمام بكر ضربا شديدا ، تأديبا له ، ممتلئا من الغضب» ، «وامتلأ الإناء ماء» وكالذي يكون في حكم المبتدأ من مفعولي باب «علمت» نحو «علمت زيدا منطلقا» أو في حكم الفاعل من مفعولي باب «أعطيت» و «كسوت» نحو «أعطيت زيدا درهما ، وكسوت عمرا جبّة» وكالمفعول المتعدّى إليه بغير واسطة فإن أصله التقديم على المتعدّى إليه بواسطة ، نحو «ضربت الجاني بالسّوط» وكالتوابع ، فإن أصلها أن تذكر بعد المتبوعات.

وثانيهما : أن تكون العناية بتقديمه ، والاعتناء بشأنه ؛ لكونه في نفسه نصب عينك ، والتفات خاطرك إليه في التزايد ، كما تجدك قد منيت بهجر حبيبك ، وقيل لك : ما تتمنى؟

تقول : وجه الحبيب أتمنى ، وعليه قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) [الأنعام : الآية ١٠٠] أي على القول بأن «لله شركاء» مفعولا «جعلوا».

أو لعارض يورثه ذلك ، كما إذا توهّمت أن مخاطبك ملتفت الخاطر إليه ، ينتظر أن تذكره ، فيبرز في معرض أمر يتجدّد في شأنه التقاضي ساعة فساعة ، فمتى تجد له مجالا للذكر صالحا أوردته ، نحو قوله تعالى : (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى) [يس : الآية ٢٠] قدّم فيه المجرور لاشتمال ما قبله على سوء معاملة أهل القرية الرسل من إصرارهم على تكذيبهم ، فكان مظنّة أن يلعن السامع ـ على مجرى العادة ـ تلك القرية ، ويبقى مجيلا في فكره : أكانت كلها كذلك أم كان فيها قطر ـ دان أم قاص ـ منبت خير؟ منتظرا لإلمام الحديث به ، بخلاف ما في سورة القصص.

أو كما إذا وعدت ما تبعد وقوعه من جهتين ، إحداهما أدخل في تبعيده من الأخرى ، فإنك ـ حال التفات خاطرك إلى وقوعه باعتبارهما ـ تجد تفاوتا في إنكارك إياه قوة وضعفا بالنسبة ؛ ولامتناع إنكاره بدون القصد إليه يستتبع تفاوته ذلك تفاوتا في القصد إليه والاعتناء بذكره ، فالبلاغة توجب أنك ـ إذا أنكرت ـ تتمول في الأول : شيء حاله في البعد عن الوقوع هذه ؛ أنى يكون؟! لقد وعدت هذا أنا وأبي وجدّي ، فتقدّم المنكر على المرفوع ، وفي الثاني : لقد وعدت أنا وأبي وجدي هذا ، فتؤخّر.

وعليه قوله تعالى في سورة النمل : (لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا) [النّمل : الآية ٦٨] ، وقوله تعالى في سورة المؤمنين : (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا) [المؤمنون : الآية ٨٣] ، فإن ما قبل الأولى : (أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) [النّمل : الآية ٦٧] ، وما قبل الثانية : (أَإِذا

٩٧

مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [المؤمنون : الآية ٨٢] فالجهة المنظور فيها هناك كونهم أنفسهم وآباؤهم ترابا ، والجهة المنظور فيها هنا كونهم ترابا وعظاما ، ولا شبهة أن الأولى أدخل عندهم في تبعيد البعث.

أو كما إذا عرفت في التأخير مانعا ، كما في قوله تعالى في سورة المؤمنين : (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ) [المؤمنون : الآية ٣٣] بتقديم المجرور على الوصف ؛ لأنه لو أخّر عنه ـ وأنت تعلم أن تمام الوصف بتمام ما يدخل في صلة الموصول ، وتمامه : (وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [المؤمنون : الآية ٣٣] ـ لاحتمل أن يكون من صلة «الدنيا» واشتبه الأمر في القائلين ؛ أنهم من قومه أم لا ، بخلاف قوله تعالى في موضع آخر منها : (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) [المؤمنون : الآية ٢٤] فإنه جاء على الأصل بعدم المانع ، وكما في قوله تعالى في سورة طه : (آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) [طه : الآية ٧٠] للمحافظة على الفاصلة ، بخلاف قوله تعالى في سورة الشعراء : (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) (٤٨) [الشّعراء : الآية ٤٨].

وفيما ذكره نظر من وجوه :

أحدها : أنه جعل تقديم «لله» على «شركاء» للعناية والاهتمام ، وليس كذلك ؛ فإن الآية مسوقة للإنكار التوبيخي ؛ فيمتنع أن يكون تعلق «جعلوا» بـ «الله» منكرا من غير اعتبار تعلقه بـ «شركاء» إذ لا ينكر أن يكون جعل ما متعلقا به ، فيتعين أن يكون إنكار تعلقه به باعتبار تعلقه بـ «شركاء» وتعلّقه بـ «شركاء» كذلك منكر باعتبار تعلّقه بـ «الله» فلم يبق فرق بين التلاوة وعكسها.

وقد علم بهذا أن كل فعل متعدّ إلى مفعولين ، لم يكن الاعتناء بذكر أحدهما إلا باعتبار تعلقه بالآخر ؛ إذا قدّم أحدهما على الآخر ؛ لم يصح تعليل تقديمه بالعناية.

وثانيها : أنه جعل التقديم للاحتراز عن الإخلال ببيان المعنى والتقديم للرعاية على الفاصلة من القسم الثاني ، وليسا منه.

وثالثها : أن تعلّق «من قومه» بـ «الدنيا» على تقدير تأخره غير معقول المعنى إلا على وجه بعيد.

القول في القصر

القصر حقيقيّ وغير حقيقيّ ، وكل واحد منهما ضربان : قصر الموصوف على الصفة ، وقصر الصفة على الموصوف ، والمراد الصفة المعنوية لا النعت.

٩٨

والأول من الحقيقي كقولك : «ما زيد إلا كاتب» إذا أردت أنه لا يتصف بصفة غير الكتابة ، وهذا لا يكاد يوجد في الكلام ، لأنه ما من متصوّر إلا وتكون له صفات تتعذّر الإحاطة بها أو تتعسّر.

والثاني منه كثير ، كقولنا : «ما في الدار إلا زيد».

والفرق بينهما ظاهر ، فإن الموصوف في الأول لا يمتنع أن يشاركه غيره في الصفة المذكورة ، وفي الثاني يمتنع.

وقد يقصد به المبالغة ؛ لعدم الاعتداد بغير المذكور ، فينزّل منزلة المعدوم.

والأول من غير الحقيقي : تخصيص أمر بصفة دون أخرى ، أو مكان أخرى.

والثاني منه : تخصيص صفة بأمر دون آخر أو مكان آخر ، فكل واحد منهما ضربان.

والمخاطب بالأول من ضربي كلّ ـ أعني تخصيص أمر بصفة دون أخرى ، وتخصيص صفة بأمر دون آخر ـ من يعتقد الشركة ، أي اتصاف ذلك الأمر بتلك الصفة وغيرها جميعا في الأول ، واتصاف ذلك الأمر وغيره جميعا بتلك الصفة في الثاني.

فالمخاطب بقولنا : «ما زيد إلا كاتب» من يعتقد أن زيدا كاتب وشاعر ، وبقولنا : «ما شاعر إلا زيد» من يعتقد أن زيدا شاعر ، لكن يدّعي أن عمرا أيضا شاعر ، وهذا يسمى قصر إفراد ، لقطعه الشركة بين الصفتين في الثبوت للموصوف ، أو بين الموصوف وغيره في الاتصاف بالصفة.

والمخاطب بالثاني من ضربي كل ـ أعني تخصيص أمر بصفة مكان أخرى وتخصيص صفة بأمر مكان آخر ـ إما من يعتقد العكس ، أي اتصاف ذلك الأمر بغير تلك الصفة عوضا عنها في الأول ، واتصاف غير ذلك الأمر بتلك الصفة عوضا عنه في الثاني ، وهذا يسمى قصر قلب ، لقلبه حكم السامع.

وإما من تساوى الأمران عنده ، أي اتصاف ذلك الأمر بتلك الصفة واتصافه بغيرها في الأول ، واتصافه بها واتصاف غيره بها في الثاني ، وهذا يسمى تعيين.

فالمخاطب بقولنا : «ما زيد إلا قائم» من يعتقد أن زيدا قاعد لا قائم ، أو يعلم أنه إما قاعد أو قائم ولا يعلم أنه بماذا يتصف منهما بعينه؟ وبقولنا : «ما قائم إلا زيد» من يعتقد أن عمرا قائم لا زيدا ، أو يعلم أن القائم أحدهما دون كل واحد منهما ، لكن لا يعلم من هو منهما بعينه؟

٩٩

وشرط قصر الموصوف على الصفة إفرادا عدم تنافي الصفتين ؛ حتى تكون المنفية في قولنا : «ما زيد إلا شاعر» كونه كاتبا ، أو منجّما ، أو نحو ذلك ، لا كونه مفحما لا يقول الشعر ؛ ليتصوّر اعتقاد المخاطب اجتماعهما.

وشرط قصره قلبا تحقق تنافيهما ؛ حتى تكون المنفية في قولنا : «ما زيد إلا قائم» كونه قاعدا ، أو جالسا ، أو نحو ذلك ، لا كونه أسود ، أو أبيض ، أو نحو ذلك ؛ ليكون إثباتها مشعرا بانتفاء غيرها.

وقصر التعيين أعمّ ، لأن اعتقاد كون الشيء موصوفا بأحد أمرين معينين على الإطلاق ، لا يقتضي جواز اتصافه بهما معا ، ولا امتناعه.

وبهذا علم أن كل ما يصلح أن يكون مثالا لقصر الإفراد ، أو قصر القلب يصلح أن يكون مثالا لقصر التعيين ، من غير عكس.

وقد أهمل السكاكي القصر الحقيقي ، وأدخل قصر التعيين في قصر الإفراد ، فلم يشترط في قصر الموصوف إفرادا عدم تنافي الصفتين ، ولا في قصره قلبا تحقق تنافيهما.

وللقصر طرق :

منها : العطف ، كقولك في قصر الموصوف على الصفة إفرادا : «زيد شاعر لا كاتب» أو «ما زيد كاتبا بل شاعر» وقلبا : «زيد قائم لا قاعد» أو «ما زيد قاعدا بل قائم» وفي قصر الصفة على الموصوف إفرادا أو قلبا بحسب المقام : «زيد قائم لا عمرو» أو «ما عمرو قائما بل زيد».

ومنها : النفي والاستثناء ، كقولك في قصر الموصوف على الصفة إفرادا : «ما زيد إلا شاعر» وقلبا : «ما زيد إلا قائم» وتعيينا كقوله تعالى : (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) [يس : الآية ١٥] أي لستم في دعواكم للرسالة عندنا بين الصدق والكذب كما يكون ظاهر حال المدّعي إذا ادّعى ، بل أنتم عندنا كاذبون فيها ، وفي قصر الصفة على الموصوف بالاعتبارين : «ما قائم ـ أو ما من قائم ، أو لا قائم ـ إلا زيد».

وتحقيق وجه القصر في الأول أنه متى قيل : «ما زيد» توجّه النفي إلى صفته لا ذاته ؛ لأن أنفس الذوات يمتنع نفيها ، وإنما تنفى صفاتها كما بيّن ذلك في غير هذا العلم ، وحيث لا نزاع في طوله وقصره وما شاكل ذلك ، وإنما النزاع في كونه شاعرا أو كاتبا ؛ تناولهما النفي ، فإذا قيل «إلا شاعر» جاء القصر.

وفي الثاني أنه متى قيل : «ما شاعر» فأدخل النفي على الوصف المسلّم ثبوته ـ أعني الشعر ـ لغير من الكلام فيهما ، كزيد وعمر مثلا ؛ توجّه النفي إليهما ، فإذا قيل : «إلا زيد» جاء القصر.

١٠٠