الإيضاح في علوم البلاغة

جلال الدين محمّد بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد

الإيضاح في علوم البلاغة

المؤلف:

جلال الدين محمّد بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3907-X
الصفحات: ٤١٥

يحكم على «عارف» بأنه جملة ، ولا عومل معاملتها في البناء ، حيث أعرب في نحو : «رجل عارف ، ورجلا عارفا ، ورجل عارف» وأتبعه في حكم الإفراد نحو : «زيد عارف أبوه» يعني أتبع «عارف» «عرف» في الإفراد إذا أسند إلى الظاهر ، مفردا كان ، أو مثنى ، أو مجموعا.

ثم قال [السكاكي] : ومما يفيد التخصيص ما يحكيه علت كلمته عن قوم شعيب عليه السّلام : (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) [هود : الآية ٩١] أي العزيز علينا يا شعيب رهطك لا أنت لكونهم من أهل ديننا ، ولذلك قال عليه السّلام في جوابهم : (أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) [هود : الآية ٩٢] أي من نبي الله ، ولو كان معناه معنى «ما عززت علينا» لم يكن مطابقا.

وفيه نظر ؛ لأن قوله (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) [هود : الآية ٩١] من باب «أنا عارف» لا من باب «أنا عرفت» والتمسك بالجواب ليس بشيء لجواز أن يكون عليه السّلام فهم كون رهطه أعزّ عليهم من قولهم : (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) [هود : الآية ٩١].

وقال الزمخشري : دلّ إيلاء ضميره حرف النفي على أن الكلام في الفاعل لا في الفعل ، كأنه قيل : «وما أنت علينا بعزيز ، بل رهطك هم الأعزة علينا».

وفيه نظر ؛ لأنا لا نسلم أن إيلاء الضمير حرف النفي إذا لم يكن الخبر فعليا يفيد الحصر.

فإن قيل : الكلام واقع فيه وأنهم الأعزة عليهم دونه ، فكيف صحّ قوله : (أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ؟).

قلنا : قال السكاكي : معناه من نبي الله ، فهو على حذف المضاف ، وأجود منه ما قال الزمخشري ، وهو أن تهاونهم به وهو نبي الله تهاون بالله ، فحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه أعز عليهم من الله ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النّساء : الآية ٨٠]؟ ويجوز أن يقال : لا شك أن همزة الاستفهام هنا ليست على بابها ، بل هي للإنكار ، للتوبيخ ، فيكون معنى قوله : (أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) [هود : الآية ٩٢] إنكار أن يكون مانعهم من رجمه رهطه ، لانتسابه إليهم دون الله تعالى مع انتسابه إليه أيضا ، أي أرهطي أعز عليكم من الله حتى كان امتناعكم من رجمي بسبب انتسابي إليهم بأنهم رهطي ولم يكن بسبب انتسابي إلى الله تعالى بأني رسوله ، والله أعلم.

ومما يرى تقديمه كاللازم لفظ : «مثل» إذا استعمل كناية من غير تعريض كما في قولنا : «مثلك لا يبخل» ونحوه مما لا يراد بلفظ «مثل» غير ما أضيف إليه ولكن أريد أنّ

٦١

من كان على الصفة التي هو عليها كان من مقتضى القياس وموجب العرب أن يفعل ما ذكر ، أو أن لا يفعل ، ولكون المعنى هذا قال الشاعر : [أبو الطيب المتنبي]

ولم أقل مثلك أعني به

سواك يا فردا بلا مشبه (١)

وعليه قوله :

مثلك يثني المزن عن صوبه

ويسترد الدمع عن غربه (٢)

وكذا قول القبعثرى للحجّاج (٣) لما توعده بقوله : «لأحملنك على الأدهم» : «مثل الأمير حمل على الأدهم والأشهب» ، أي من كان على هذه الصفة من السلطان وبسطة اليد ، ولم يقصد أن يجعل أحدا مثله.

وكذلك حكم «غير» إذا سلك به هذا المسلك : فقيل : غيري يفعل ذاك ، على معنى أني لا أفعله فقط ، من غير إرادة التعريض بإنسان ، وعليه قوله : [أبو الطيب المتنبي]

غيري بأكثر هذا الناس ينخدع (٤)

فإنه معلوم أنه لم يرد أن يعرّض بواحد هناك ، فيصفه بأنه ينخدع ، بل أراد أنه ليس ممن يخدع ، وكذا قول أبي تمام :

وغيري يأكل المعروف سحتا

ويشحب عنده بيض الأيادي (٥)

فإنه لم يرد أن يعرّض بشاعر سواه ، فيزعم أن الذي قرف به عند الممدوح من أنه هجاء ؛ كان من ذلك الشاعر لا بد منه ، بل أراد أن ينفي عن نفسه أن يكون ممن يكفر النعمة ويلؤم لا غير.

واستعمال «مثل» و «غير» هكذا مركوز في الطباع ، وإذا تصفّحت الكلام وجدتهما

__________________

(١) البيت من السريع ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٣٢٧ (طبعة دار الكتب العلمية).

(٢) البيت من السريع ، وهو للمتنبي في ديوانه ٢ / ٣٢٧ (طبعة دار الكتب العلمية).

(٣) الحجاج : هو أبو محمد الحجاج بن يوسف بن الحكم بن قيس الثقفي ، ولّاه عبد الملك بن مروان العراق ، وكان له في القتل وسفك الدماء غرائب لم يسمع بمثلها ، بنى مدينة واسط ، وتوفي سنة ٩٥ ه‍. (انظر أخباره في مروج الذهب ٣ / ١٥١ ـ ١٩١ ، والكامل في اللغة ١ / ١٥٨ ، ٢٢٤ ، ٢ / ٢٦٢ ، ٢٦٨ ، ٢٨٨ ، ووفيات الأعيان ٣ / ٢٩ ـ ٥٤ ، والأعلام ٢ / ١٦٨).

(٤) عجز البيت :

إن قاتلوا جنبوا أو حدّثوا شجعوا

والبيت من البسيط ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٦٢ (طبعة دار الكتب العلمية) ودلائل الإعجاز ص ١٣٩.

(٥) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٦٢

يقدّمان أبدا على الفعل إذا نحي بهما نحو ما ذكرناه ، ولا يستقيم المعنى فيهما إذا لم يقدما.

والسر في ذلك أن تقديمهما يفيد تقوّي الحكم كما سبق تقريره ، وسيأتي أن المطلوب بالكناية في مثل قولنا : «مثلك لا يبخل» و «غيرك لا يجود» هو الحكم ، وأن الكناية أبلغ من التصريح فيما قصد بها ، فكان تقديمهما أعون للمعنى الذي جلبا لأجله.

قيل : وقد يقدّم لأنه دال على العموم ، كما تقول : «كل إنسان لم يقم» فيقدّم ليفيد في نفي القيام عن كل واحد من الناس ؛ لأن الموجبة المعدولة المهملة في قوة السالبة الجزئية المستلزمة نفي الحكم عن جملة الافراد ، دون كل واحد منها ، فإذا سوّرت بـ «كل» وجب أن تكون لإفادة العموم ، لا لتأكيد نفي الحكم عن جملة الافراد ، لأن التأسيس خير من التأكيد ، ولو لم تقدم فقلت : «لم يقم كل إنسان» كان نفيا للقيام عن جملة الأفراد ، دون كل واحد منها ؛ لأن السالبة المهملة في قوة السالبة الكلية المقتضية سلب الحكم عن كل فرد ؛ لورود موضوعها في سياق النفي ، فإذا سوّرت بـ «كل» وجب أن تكون لإفادة نفي الحكم عن جملة الأفراد ؛ لئلا يلزم ترجيح التأكيد على التأسيس.

وفيه نظر ؛ لأن النفي عن جملة الأفراد في الصورة الأولى ، أعني الموجبة المعدولة : المهملة ، كقولنا : «إنسان لم يقم» وعن كل فرد في الصورة الثانية ، أعني السالبة المهملة ، كقولنا : «لم يقم إنسان» إنما أفاده الإسناد إلى «إنسان» فإذا أضيف «كل» إلى «إنسان» وحوّل الإسناد إليه ، فأفاد في الصورة الأولى نفي الحكم عن جملة الافراد ، وفي الثانية نفيه عن كل فرد منها ؛ كان «كل» تأسيسا لا تأكيدا ؛ لأن التأكيد لفظ يفيد تقوية ما يفيده لفظ آخر ، وما نحن فيه ليس كذلك.

ولئن سلمنا أنه يسمّى تأكيدا كقولنا : «لم يقم إنسان» إذا كان مفيدا للنفي عن كل فرد ؛ كان مفيدا للنفي عن جملة الافراد لا محالة ، فيكون «كل» في «لم يقم كل إنسان» إذا جعل مفيدا للنفي عن جملة الافراد تأكيدا لا تأسيسا كما قال في «كل إنسان لم يقم» ؛ فلا يلزم من جعله للنفي عن كل فرد ترجيح التأكيد على التأسيس.

ثم جعله قولنا : «لم يقم إنسان» سالبة مهملة في قوة سالبة كلية ـ مع القول بعموم موضوعها لورودها نكرة في سياق النفي ـ خطأ ؛ لأن النكرة في سياق النفي إذا كانت للعموم كانت للقضية التي جعلت هي موضوعا لها سالبة كلية ، فكيف تكون سالبة مهملة؟.

ولو قال : «لم يكن الكلام المشتمل على كلمة «كل» مفيدا لخلاف ما يفيده الخالي عنها ؛ لم يكن في الإتيان بها فائدة» لثبت مطلوبه في الصورة الثانية دون الأولى ، لجواز أن يقال : إن فائدته فيها الدلالة على نفي الحكم عن جملة الافراد بالمطابقة.

٦٣

واعلم أن ما ذكره هذا القائل من كون «كل» في النفي مفيدة للعموم تارة وغير مفيدة أخرى ؛ مشهور ، وقد تعرض له الشيخ عبد القاهر وغيره.

قال الشيخ : كلمة «كل» في النفي إن أدخلت في حيزه بأن قدم عليها لفظا ، كقول أبي الطيب : [المتنبي]

ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه (١)

وقول الآخر : [أبو العتاهية]

ما كلّ رأي الفتى يدعو إلى رشد (٢)

وقولنا : «ما جاء القوم كلهم» و «ما جاء كل القوم» و «لم آخذ الدراهم كلها» و «لم آخذ كلّ الدراهم» أو تقديرا ، بأن قدّمت على الفعل المنفي وأعمل فيها ؛ لأن للعامل رتبته التقدم على المعمول ، كقولك : «كل الدراهم لم آخذ» ؛ توجّه النفي إلى الشمول خاصة دون أصل الفعل ، وأفاد الكلام ثبوته لبعض ، أو تعلقه ببعض ، وإن أخرجت من حيّزه ، بأن قدمت عليه لفظا ، ولم تكن معمولة لفعل المنفي ، توجّه النفي إلى أصل الفعل ، وعمّ ما أضيف إليه «كل» كقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قال له ذو اليدين : «أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله» : «كل ذلك لم يكن» (٣) أي لم يكن واحد منهما ، لا القصر ، ولا النسيان ، وقول أبي النّجم :

قد أصبحت أمّ الحيارى تدّعي

عليّ ذنبا كلّه لم أصنع (٤)

__________________

(١) عجز البيت :

تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

والبيت من البسيط ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٢٣٥ (طبعة دار الكتب العلمية).

(٢) صدر البيت من البسيط ، وعجزه :

 ...

إذا بدا لك رأي مشكل فقف

(٣) أخرجه البخاري في الصلاة باب ٨٨ ، والأذان باب ٦٩ ، والسهو باب ٤ ، ٥ ، والأدب باب ٤٥ ، والأيمان باب ١٥ ، ومسلم في المساجد حديث ٩٧ ، ٩٨ ، ٩٩ ، ١٠٢ ، وأبو داود في الصلاة باب ١٨٩ ، والترمذي في الصلاة باب ١٧٥ ، والنسائي في السهو باب ٢٢ ، وابن ماجة في الإقامة باب ١٣٤ ، ومالك في النداء حديث ٥٨ ، ٥٩ ، وأحمد في المسند ٢ / ٧٧ ، ٢٣٥ ، ٤٢٣ ، ٤٦٠.

(٤) الرجز لأبي النجم في تخليص الشواهد ص ٢٨١ ، وخزانة الأدب ١ / ٣٥٩ ، والدرر ٢ / ١٣ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٤ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٤٤ ، وشرح المفصل ٦ / ٩٠ ، والكتاب ١ / ٨٥ ، والمحتسب ١ / ٢١١ ، ومعاهد التنصيص ١ / ١٤٧ ، ومغني اللبيب ١ / ٢٠١ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢٢٤ ، وتاج العروس (خير) ، وبلا نسبة في الأغاني ١٠ / ١٧٦ ، وخزانة الأدب ٣ / ٢٠ ، ٦ / ٢٧٢ ، والخصائص ٢ / ٦١ ، وشرح المفصل ٢ / ٣٠ ، والكتاب ١ / ١٢٧ ، والمقتضب ٤ / ٢٥٢ ، وهمع الهوامع ١ / ٩٧ ، ويروى «أم الخيار» بدل «أم الحيارى».

٦٤

ثم قال : وعلّة ذلك أنك إذا بدأت بـ «كل» كنت قد بنيت النفي عليه وسلّطت الكلية على النفي ، وأعملتها فيه ، وإعمال معنى الكلية في النفي يقتضي أن لا يشذّ شيء عن النفي ، فاعرفه.

هذا لفظه ، وفيه نظر.

وقيل : إنما كان التقديم مفيدا للعموم دون التأخير لأن صورة التقديم تفهم سلب لحوق المحمول للموضوع ، وصورة التأخير تفهم سلب الحكم من غير تعرض للمحمول بسلب أو إثبات.

وفيه نظر أيضا ؛ لاقتضائه أن لا تكون «ليس» في نحو قولنا : «ليس كل إنسان كاتبا» مفيدة لنفي كاتب.

هذا إن حمل كلامه على ظاهره ، وإن تؤوّل بأن مراده أن التقديم يفيد سلب لحوق المحمول عن كل فرد والتأخير يفيد سلب لحوقه لكل فرد اندفع هذا الاعتراض ، لكن كان مصادرة على المطلوب.

واعلم أن المعتمد في المطلوب الحديث وشعر أبي النجم ، وما نقلناه عن الشيخ عبد القاهر وغيره لبيان السبب ، وثبوت المطلوب لا يتوقف عليه.

والاحتجاج بالخبر من وجهين : أحدهما أن السؤال بـ «أم» عن أحد الأمرين لطلب التعيين بعد ثبوت أحدهما عند المتكلم على الإبهام ؛ فجوابه إما بالتعيين ، أو بنفي كل واحد منهما ، وثانيهما ما روي بأنه لما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : «كلّ ذلك لم يكن» قال له ذو اليدين : «بعض ذلك قد كان» والإيجاب الجزئي نقيضه السلب الكلي.

وبقول أبي النجم ما أشار إليه الشيخ عبد القاهر ، وهو أن الشاعر فصيح والفصيح الشائع في مثل قوله نصب «كل» وليس فيه ما يكسر له وزنا ، وسياق كلامه أنه لم يأت بشيء مما ادعت عليه هذه المرأة ؛ فلو كان النصب مفيدا لذلك والرفع غير مفيد لم يعدل عن النصب إلى الرفع من غير ضرورة.

ومما يجب التنبه له في فصل التقديم أصل ، وهو أن تقديم الشيء على الشيء ضربان :

١ ـ تقديم على نية التأخير ، وذلك في شيء أقرّ مع التقديم على حكمه الذي كان عليه ، كتقديم الخبر ، على المبتدأ ، والمفعول على الفاعل كقولك : «قائم زيد» و «ضرب عمرا زيد» ؛ فإن «قائم» و «عمرا» لم يخرجا بالتقديم عما كانا عليه ، من كون هذا مسندا ومرفوعا بذلك ، وكون هذا مفعولا ومنصوبا من أجله.

٦٥

٢ ـ وتقديم لا على نية التأخير ، ولكن أن ينقل الشيء عن حكم إلى حكم ، ويجعل له إعراب غير إعرابه ، كما في اسمين يحتمل كل منهما أن يجعل مبتدأ والآخر خبرا له ، فيقدّم تارة هذا على هذا ، وأخرى ذاك على هذا ، كقولنا : «زيد المنطلق» و «المنطلق زيد» فإن «المنطلق» لم يقدم على أن يكون متروكا على حكمه الذي كان عليه مع التأخير ، فيكون خبر مبتدأ كما كان ، بل على أن ينقل عن كونه خبرا إلى كونه مبتدأ ، وهكذا القول في تأخير «زيد».

وأما تأخيره فلاقتضاء المقام تقديم المسند.

هذا كله مقتضى الظاهر ، وقد يخرج المسند إليه على خلافه.

فيوضع المضمر موضع المظهر ، كقولهم ابتداء من غير جري ذكر لفظا أو قرينة حال : «نعم رجلا زيد ، وبئس رجلا عمرو» مكان : «نعم الرجل ، وبئس الرجل» على قول من لا يرى الأصل «زيد نعم رجلا ، وعمرو بئس رجلا» وقولهم : «هو زيد عالم ، وهي عمرو شجاع» مكان الشأن زيد عالم ، والقصة عمرو شجاع ؛ ليتمكن في ذهن السامع ما يعقبه ؛ فإن السامع متى لم يفهم من الضمير معنى بقي منتظرا لعقبى الكلام كيف تكون ، فيتمكن المسموع بعده في ذهنه فضل تمكن ، وهو السر في التزام تقديم ضمير الشأن أو القصة ، قال الله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١) [الإخلاص : الآية ١] ، وقال : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) [المؤمنون : الآية ١١٧] ، وقال : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) [الحجّ : الآية ٤٦].

وقد يعكس فيوضع المظهر موضع المضمر ؛ فإن كان المظهر اسم إشارة ؛ فذلك إما لكمال العناية بتمييزه ؛ لاختصاصه بحكم بديع ، كقوله : [ابن الراوندي ، أحمد بن عيسى]

كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه

وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا (١)

هذا الذي ترك الأوهام حائرة

وصير العالم النحرير زنديقا

وإما للتهكّم بالسامع ، كما إذا كان فاقد البصر ، أو لم يكن ثم مشار إليه أصلا.

وإما للنداء على كمال بلادته بأنه لا يدرك غير المحسوس بالبصر ، أو على كمال فطانته ، بأن غير المحسوس بالبصر عنده كالمحسوس عند غيره.

وإما لادعاء أنه كمل ظهوره ، حتى كأنه محسوس بالبصر ، ومنه في غير باب المسند إليه قوله : [ابن الدمينة]

__________________

(١) البيتان من البسيط ، وهما لابن الراوندي في المصباح ص ٢٩ ، والتبيان ١ / ١٥٨.

٦٦

تعاللت كي أشجى ، وما بك علّة

تريدين قتلي ، قد ظفرت بذلك (١)

وإما لنحو ذلك.

وإن كان المظهر غير اسم إشارة ؛ فالعدول إليه من المضمر إما لزيادة التمكين كقوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ) (٢) [الإخلاص : الآيتان ١ ، ٢] ، ونظيره من غيره قوله : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) [الإسراء : الآية ١٠٥] ، وقوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [البقرة : الآية ٥٩] ، وقول الشاعر : [عبد الله بن عنمة الضبي]

إن تسألوا الحقّ نعط الحقّ سائله (٢)

بدل نعطكم إياه ، وإما لإدخال الرّوع في ضمير السامع ، وتربية المهابة.

وإما لتقوية داعي المأمور ، مثالهما قول الخلفاء : أمير المؤمنين يأمرك بكذا ، وعليه من غيره (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) [آل عمران : الآية ١٥٩].

وإما للاستعطاف ، كقوله :

إلهي عبدك العاصي أتاكا (٣)

وإما لنحو ذلك.

قال السكاكي : هذا غير مختص بالمسند إليه ، ولا بهذا القدر ، بل التكلم والخطاب والغيبة مطلقا ينقل كلّ واحد منها إلى الآخر ، ويسمّى هذا النقل التفاتا عند علماء المعاني ، كقول ربيعة بن مقروم :

بانت سعاد فأمسى القلب معمودا

وأخلفتك ابنة الحرّ المواعيدا (٤)

فالتفت كما ترى حيث لم يقل : وأخلفتني ، وقوله : [ربيعة بن مقروم]

تذكّرت والذكرى تهيجك زينبا

وأصبح باقي وصلها قد تقضّبا (٥)

وحلّ بفلج بالأباتر أهلنا

وشطّت فحلّت غمرة فمثقّبا

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لابن الدمينة في ديوانه ص ١٦.

(٢) صدر بيت من الطويل ، وسيأتي عجزه مع بيت آخر صفحة ٧٥.

(٣) عجز البيت :

مقرا بالذنوب وقد دعاكا

والبيت من الوافر ، وهو لرابعة العدوية أو لإبراهيم بن أدهم في الإشارات والتنبيهات ص ٥٥ ، والمصباح ص ٣٠.

(٤) البيت من البسيط ، وهو لربيعة بن مقروم في شرح اختيارات المفضل ص ٩٥٩.

(٥) البيتان من الطويل ، وهما لربيعة بن مقروم في ديوانه ص ٢٤٩.

٦٧

فالتفت في البيتين.

والمشهور عند الجمهور أن الالتفات هو التعبير عن معنى بطريق من الطرق الثلاثة بعد التعبير عنه بطريق آخر منها.

وهذا أخصّ من تفسير السكاكي ؛ لأنه أراد بالنقل أن يعبّر بطريق من هذه الطرق عما عبّر عنه بغيره ، أو كان مقتضى الظاهر أن يعبّر عنه بغيره منها.

فكل التفات عندهم التفات عنده ، من غير عكس.

مثال الالتفات من التكلم إلى الخطاب قوله تعالى : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٢) [يس : الآية ٢٢] ومن التكلم إلى الغيبة ، قوله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (٢) [الكوثر : الآيتان ١ ، ٢]. ومن الخطاب إلى التكلم قول علقمة بن عبدة :

طحا بك قلب في الحسان طروب

بعيد الشّباب عصر حان مشيب (١)

يكلّفني ليلى وقد شطّ وليها

وعادت عواد بيننا وخطوب

ومن الخطاب إلى الغيبة قوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [يونس : الآية ٢٢].

ومن الغيبة إلى التكلم قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ) [الرّوم : الآية ٤٨] ، ومن الغيبة إلى الخطاب قوله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة : الآيتان ٤ ، ٥] ، وقول عبد الله بن عنمة :

ما إن ترى السّيد زيدا في نفوسهم

كما يراه بنو كوز ومرهوب (٢)

إن تسألوا الحقّ نعط الحقّ سائله

والدّرع محقبة ، والسّيف مقروب

وأما قول امرىء القيس :

تطاول ليلك بالأثمد

ونام الخليّ ولم ترقد (٣)

وبات ، وباتت له ليلة

كليلة ذي العائر الأرمد

__________________

(١) البيتان من الطويل ، وهما لعلقمة بن عبدة في ديوانه ص ٣٣ ، والمصباح ص ٣٢.

(٢) البيتان من الطويل ، وهما في ديوان علقمة بن عبدة ص ٣٤ ، ونسبهما المؤلف لعبد الله بن عنمة.

(٣) الأبيات من المتقارب ، وهي في ديوان امرىء القيس ص ١٨٥ ، والمستقصى ٢ / ٥٠ ، وسمط اللآلي ص ٥٣ ، ومعاهد التنصيص ١ / ١٧١ ، وخزانة الأدب ١ / ٢٨٠.

٦٨

وذلك من نبإ جاءني

وخبّرته عن أبي الأسود

فقال الزمخشري : فيه ثلاث التفاتات ، وهذا ظاهر على تفسير السكاكي لأن على تفسيره في كل بيت التفاتة.

لا يقال : الالتفات عنده من خلاف مقتضى الظاهر ؛ فلا يكون في البيت الثالث التفات ، لوروده على مقتضى الظاهر ، لأنا نمنع انحصار الالتفات عنده في خلاف المقتضى لما تقدم.

وأما على المشهور فلا التفات في البيت الأول ، وفي الثاني التفاتة واحدة ، فيتعين أن يكون في الثالث التفاتتان فقيل : هما في قوله : «جاءني» إحداهما باعتبار الانتقال من الخطاب في البيت الأول ، والأخرى باعتبار الانتقال من الغيبة في الثاني ، وفيه نظر ؛ لأن الانتقال إنما يكون من شيء حاصل ملتبس به ، وإذ قد حصل الانتقال من الخطاب في البيت الأول إلى الغيبة في الثاني لم يبق الخطاب حاصلا ملتبسا به ، فيكون الانتقال إلى المتكلم في الثالث من الغيبة وحدها ، لا منها ومن الخطاب جميعا ، فلم يكن في البيت الثالث إلا التفاتة واحدة ، وقيل : إحداهما في قوله «وذلك» لأنه التفات من الغيبة إلى الخطاب ، والثانية في قوله «جاءني» لأنه التفات من الخطاب إلى التكلم ، وهذا أقرب.

واعلم أن الالتفات من محاسن الكلام ، ووجه حسنه ـ على ما ذكر الزمخشري ـ هو أن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب ؛ كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع ، وأكثر إيقاظا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد.

وقد تختص مواقعه بلطائف كما في سورة الفاتحة ؛ فإن العبد إذا افتتح حمد مولاه الحقيق بالحمد عن قلب حاضر ، ونفس ذاكرة لما هو فيه ، بقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : الآية ٢] الدالّ على اختصاصه بالحمد ، وأنه حقيق به ؛ وجد من نفسه لا محالة محرّكا للإقبال عليه ، فإذا انتقل على نحو الافتتاح إلى قوله : (رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : الآية ٢] الدالّ على مالك للعالمين ، لا يخرج منهم شيء عن ملكوته وربوبيّته ؛ قوي ذلك المحرّك ، ثم إذا انتقل إلى قوله : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (٣) [الفاتحة : الآية ٣] الدالّ على أنه منعم بأنواع النعم جلائلها ودقائقها ؛ تضاعفت قوة ذلك المحرك ، ثم إذا انتقل إلى خاتمة هذه الصفات العظام ، وهي قوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (٤) [الفاتحة : الآية ٤] الدالّ على أنه مالك للأمر كله يوم الجزاء ؛ تناهت قوته ، وأوجب الإقبال عليه ، وخطا به بتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة في المهمّات.

٦٩

وكما في قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) [النّساء : الآية ٦٤] لم يقل : واستغفرت لهم ، وعدل عنه إلى طريق الالتفات تفخيما لشأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتعظيما لاستغفاره ، وتنبيها على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله بمكان.

وذكر السكاكي لالتفات امرىء القيس في الأبيات الثلاثة على تفسيره وجوها :

أحدها : أن يكون قصد تهويل الخطب واستفظاعه ؛ فنبّه في التفاتة الأول على أن نفسه وقت ورود ذلك النبأ عليها ولهت وله الثّكلى ، فأقامها مقام المصاب الذي لا يتسلّى بعض التّسلّي إلا بتفجّع الملوك له ، وتحزّنهم عليه ، وخاطبها بـ «تطاول ليلك» تسلية أو على أنها لفظاعة شأن النبأ أبدت قلقا شديدا ، ولم تتصبّر ـ فعل الملوك ـ فشك في أنها نفسه ، فأقامها مقام مكروب وخاطبها بذلك تسلية ، وفي الثاني على أنه صادق في التحزّن ـ خاطب أو لا ـ وفي الثالث على أنه يريد نفسه.

أو نبّه في الأول على أن النبأ لشدّته تركه حائرا ، فلما فطن معه لمقتضى الحال فجرى على لسانه ما كان ألفه من الخطاب الدائر في مجاري أمور الكبار أمرا ونهيا ، وفي الثاني على أنه بعد الصدمة الأولى أفاق شيئا ، فلم يجد النفس معه ، فبنى الكلام على الغيبة ، وفي الثالث على ما سبق.

أو نبه في الأول على أنها حين لم تثبت ، ولم تتبصّر غاظه ذلك فأقامها مقام المستحقّ للعتاب ، فخاطبها على سبيل التوبيخ والتعبير بذلك ، وفي الثاني على أن الحامل على الخطاب والعتاب لما كان هو الغيظ والغضب ، وسكن عنه الغضب بالعتاب الأول ، ولّى عنها الوجه وهو يدمدم قائلا : «وبات وباتت له» وفي الثالث على ما سبق.

هذا كلامه ، ولا يخفى على المنصف ما فيه من التعسف.

ومن خلاف المقتضى ما سماه السكاكي الأسلوب الحكيم ، وهو تلقّي المخاطب بغير ما يترقّب ، بحمل كلامه على خلاف مراده ، تنبيها على أنه الأولى بالقصد ، أو السائل بغير ما يتطلب ، بتنزيل سؤاله منزلة غيره ، تنبيها على أنه الأولى بحاله أو المهمّ له.

أما الأول فكقول القبعثرى للحجاج ـ لما قال له متوعّدا بالقيد : «لأحملنّك على الأدهم» ـ : «مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب» فإنه أبرز وعيده في معرض الوعد وأراه بألطف وجه أن من كان على صفته في السلطان وبسطة اليد فجدير بأن يصفد ، لا

٧٠

أن يصفد. وكذا قوله له في الثانية : «إنه حديد» ـ : «لأن يكون حديدا خير من أن يكون بليدا».

وعن سلوك هذه الطريقة في جواب المخاطب عبّر من قال مفتخرا : [حاتم الطائي]

أتت تشتكي عندي مزاولة القرى

وقد رأت الضيفان ينحون منزلي (١)

فقلت كأنّي ما سمعت كلامها :

هم الضيف جدّي في قراهم وعجّلي

وسماه الشيخ عبد القاهر مغالطة.

وأما الثاني فكقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) [البقرة : الآية ١٨٩]. قالوا : ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يتزايد قليلا قليلا حتى يمتلىء ويستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا ، وكقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [البقرة : الآية ٢١٥] ، سألوا عن بيان ما ينفقون ، فأجيبوا ببيان الصرف.

ومنه التعبير عن المستقبل بلفظ المضيّ تنبيها على تحقق وقوعه ، وأن ما هو للوقوع كالواقع ، كقوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) [النّمل : الآية ٨٧] ، وقوله : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) (٤٧) [الكهف : الآية ٤٧] ، وقوله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ) [الأعراف : الآية ٥٠] ، وقوله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ) [الأعراف : الآية ٤٨] جعل المتوقّع الذي لا بدّ من وقوعه بمنزلة الواقع ، وعن حسّان أن ابنه عبد الرحمن لسعه زنبور ، وهو طفل ، فجاء إليه يبكي ، فقال له : يا بنيّ ما لك؟ قال : لسعني طويّر كأنه ملتف في بردى حبرة ، فضمّه إلى صدره ، وقال : يا بني قد قلت الشّعر.

ومثله التعبير عنه باسم الفاعل كقوله تعالى : (وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) (٦) [الذّاريات : الآية ٦] وكذا اسم المفعول ، كقوله تعالى : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) [هود : الآية ١٠٣].

ومنه القلب ، كقول العرب : عرضت الناقة على الحوض ، وردّه مطلقا قوم ، وقبله مطلقا قوم منهم السكاكي ، والحق إنه إن تضمّن اعتبارا لطيفا قبل ، وإلا ردّ.

أما الأول فكقول رؤبة : [بن العجاج]

ومهمه مغبرّة أرجاؤه

كأنّ لون أرضه سماؤه (٢)

__________________

(١) البيتان من الطويل ، وهما في ديوان حاتم الطائي ص ١٧٤.

(٢) الرجز لرؤبة في ديوانه ص ٣ ، والمصباح ص ٤٢ ، والإشارات والتنبيهات ص ٥٩.

٧١

أي كأن لون سمائه لغبرتها لون أرضه ، فعكس التشبيه للمبالغة ونحوه قول أبي تمام يصف قلم الممدوح :

لعاب الأفاعي القاتلات لعابه

وأري الجنى اشتارته أيد عواسل (١)

وأما الثاني فكقول القطاميّ ؛ [عمير بن شبيم]

كما طيّنت بالفدن السّياعا (٢)

وقول حسّان :

يكون مزاجها عسل وماء (٣)

وقول عروة بن الورد :

فديت بنفسه نفسي ومالي (٤)

وقول الآخر : [القطامي ، عمير بن شبيم]

ولا يك موقف منك الوداعا (٥)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان أبي تمام ص ٢٢٧.

(٢) صدر البيت :

فلما أن جرى سمن عليها

والبيت من الوافر ، وهو للقطامي في ديوانه ص ٤٠ ، وأساس البلاغة (فون) ، وجمهرة اللغة ص ٨٤٥ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٧٢ ، ولسان العرب (تيز) ، (سيع) ، ومغني اللبيب ٢ / ٦٩٦.

(٣) صدر البيت :

كأن سبيئة من بيت رأس

والبيت من الوافر ، وهو لحسان بن ثابت في ديوانه ص ٧١ ، والأشباه والنظائر ٢ / ٢٩٦ ، وخزانة الأدب ٩ / ٢٢٤ ، والدرر ٢ / ٧٣ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٥٠ ، وشرح شواهد المغني ص ٨٤٩ ، وشرح المفصل ٧ / ٩٣ ، والكتاب ١ / ٤٩ ، ولسان العرب (سبأ) ، (رأس) ، (جني) ، والمحتسب ١ / ٢٧٩ ، والمقتضب ٤ / ٩٢ ، وبلا نسبة في مغني اللبيب ص ٤٥٣ ، ٦٩٥ ، وهمع الهوامع ١ / ١١٩.

(٤) عجز البيت :

وما آلوك إلا ما أطيق

والبيت من الوافر ، وهو لعروة بن الورد في الأشباه والنظائر ٢ / ٢٩٨ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٧٢ ، ولسان العرب (تيز) ، ومغني اللبيب ٢ / ٦٩٦ ، ولم أعثر عليه في ديوانه.

(٥) صدر البيت :

قفي قبل التفرق يا ضباعا

والبيت من الوافر ، وهو للقطامي في ديوانه ص ٣١ ، وخزانة الأدب ٢ / ٣٦٧ ، والدرر ٣ / ٥٧ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٤٤٤ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٤٩ ، والكتاب ٢ / ٢٤٣ ، ولسان العرب (ضبع) ، (ودع) ، واللمع ص ١٢٠ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢٩٥ ، والمقتضب ٤ / ٩٤ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٩ / ٢٨٥ ، والدرر ٢ / ٧٣ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٦٨ ، وشرح المفصل ٧ / ٩١ ، ومغني اللبيب ٢ / ٤٥٢.

٧٢

وقد ظهر من هذا أن قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا) [الأعراف : الآية ٤] ليس واردا على القلب ؛ إذ ليس في تقدير القلب فيه اعتبار لطيف ، وكذا قوله تعالى : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) (٨) [النّجم : الآية ٨] ، وكذا قوله تعالى : (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) (٢٨) [النّمل : الآية ٢٨] فأصل الأول : أردنا إهلاكها ، فجاءها بأسنا ، أي إهلاكنا ، وأصل الثاني : ثمّ أراد الدنّو من محمد صلّى الله عليه وسلّم فتدلّى فتعلق عليه في الهواء ، ومعنى الثالث : تنحّ عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه ؛ ليكون ما يقولونه بمسمع منك فانظر ما ذا يرجعون فيقال : إنه دخل عليها من كوّة ، فألقى الكتاب إليها ، وتوارى في الكوّة.

وأما قول خداش :

وتشقى الرّماح بالضّياطرة الحمر (١)

فقد ذكر له سوى القلب وجهان ؛ أحدهما : أن يجعل شقاء الرماح بهم استعارة عن كسرها بطعنهم بها ، والثاني : أن يجعل نفس طعنهم شقاء لها ؛ تحقيرا لشأنهم ، وأنهم ليسوا أهلا لأن يطعنوا بها ، كما يقال : شقي الخزّ بجسم فلان ، إذا لم يكن أهلا للبسه.

وقيل في قول قطري بن الفجاءة :

ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب

جذع البصيرة قارح الإقدام (٢)

إنه من باب القلب على أن «لم أصب» بمعنى لم أجرح أي قارح البصيرة جذع الإقدام ، كما يقال : إقدام غر ورأي مجرّب ، وأجيب عنه بأن «لم أصب» بمعنى لم ألف ، أي ألف بهذه الصفة ، بل وجدت بخلافها جذع الإقدام قارح البصيرة ، على أن قوله : «جذع البصيرة قارح الإقدام» حال من الضمير المستتر في «لم أصب» فيكون متعلقا بأقرب مذكور ، ويؤيد هذا الوجه قوله قبله :

لا يركنن أحد إلى الإحجام

يوم الوغى متخوّفا لحمام (٣)

فلقد أراني للرّماح دريئة

من عن يميني مرة وأمامي

__________________

(١) صدر البيت :

ونركب خيلا لا هوادة بينها

والبيت من الطويل ، وهو لخداش بن زهير في الأضداد ص ١٥٣ ، وأمالي المرتضى ١ / ٤٦٦ ، ولسان العرب (ضطر) ، وبلا نسبة في سر صناعة الإعراب ١ / ٣٢٣ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ٢٠٣.

(٢) البيت من الكامل ، وهو لقطري بن الفجاءة في ديوانه ص ١٧٢ ، ولسان العرب (بزل).

(٣) الأبيات من الكامل ، وهي في ديوان قطري بن الفجاءة ص ١٧١.

٧٣

حتى خضبت بما تحدّر من دمي

أكناف سرجي أو عنان لجامي

فإن الخضاب بما تحدر من دمه دليل على أنه جرح ، وأيضا فحوى كلامه أن مراده أن يدل على أنه جرح ولم يمت إعلاما أن الإقدام غير علّة للحمام ، وحثّا على الشجاعة وبغض الفرار.

القول في أحوال المسند

أما تركه فلنحو ما سبق في باب المسند إليه ، من تخييل العدول إلى أقوى الدليلين ، ومن اختبار تنبّه السامع عند قيام القرينة ، أو مقدار تنبّهه ، ومن الاختصار والاحتراز عن العبث بناء على الظاهر ، إما مع ضيق المقام كقوله : [ضابىء بن الحارث]

فإني وقيّار بها لغريب (١)

أي وقيّار كذلك ، وقوله : [قيس بن الخطيم]

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرأي مختلف (٢)

أي نحن بما عندنا راضون ، وكقول أبي الطّيّب :

قالت وقد رأت اصفراري : من به؟

وتنهّدت ، فأجبتها : المتنهّد (٣)

أي المتنهد هو المطالب به ، دون المطالب به هو المتنهد ، إن فسّر بمن المطالب به ؛ لأن مطلوب السائلة ـ على هذا ـ الحكم على شخص معيّن بأنه المطالب به؟ ليتعين عندها ، لا الحكم على المطالب به بالتعيين ، وقيل : معناه من فعل به؟ فيكون التقدير «فعل به المتنهد».

وإما بدون الضّيق ، كقوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التّوبة : الآية ٦٢]

__________________

(١) صدر البيت :

فمن يك أمسى بالمدينة رحله

والبيت من الطويل ، وهو لضابىء بن الحارث البرجمي في الأصمعيات ص ١٨٤ ، والإنصاف ص ٩٤ ، وتخليص الشواهد ص ٣٨٥ ، وخزانة الأدب ٩ / ٣٢٦ ، والدرر ٦ / ١٨٢ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٣٦٩ ، والشعر والشعراء ص ٣٥٨ ، والكتاب ١ / ٧٥ ، ولسان العرب (قير).

(٢) البيت من المنسرح ، وهو لقيس بن الخطيم في ملحق ديوانه ص ٢٣٩ ، والدرر ٥ / ٣١٤ ، والكتاب ١ / ٧٥ ، ولعمرو بن امرىء القيس الخزرجي في الدرر ١ / ١٤٧ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٢٧٩ ، ولدرهم بن زيد الأنصاري في الإنصاف ١ / ٩٥ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٣ / ١٠٠ ، وأمالي ابن الحاجب ٢ / ٧٢٦ ، ولسان العرب (قعد).

(٣) البيت من الكامل ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ٩١ ، (طبعة دار الكتب العلمية).

٧٤

على وجه ، أي والله أحق أن يرضوه ، ورسوله كذلك ؛ ويجوز أن يكون جملة واحدة وتوحيد الضمير لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسوله ، فكانا في حكم مرضيّ واحد ، كقولنا : «إحسان زيد وإجماله نعشني وجبر مني». وكقولك : «زيد منطلق ، وعمرو» أي «عمرو كذلك» وعليه قوله تعالى : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) [الطّلاق : الآية ٤] أي واللائي لم يحضن مثلهن ، وقولك : خرجت فإذا زيد ، وقولك لمن قال : «هل لك أحد؟ إن الناس إلب عليك» : إن زيدا وإنّ عمرا ، أي إنّ لي زيدا ، وإن لي عمرا ، وعليه قوله : [ميمون بن قيس ، الأعشى]

إنّ محلّا ، وإنّ مرتحلا (١)

أي إنّ لنا محلا في الدنيا ، وإن لنا مرتحلا عنها إلى الآخرة ، وقوله تعالى : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) [الإسراء : الآية ١٠٠] تقديره : لو تملكون تملكون مكررا لفائدة التأكيد ، فأضمر تملك الأول إضمارا على شريطة التفسير ، وأبدل من الضمير المتصل الذي هو الواو ضمير منفصل وهو أنتم ؛ لسقوط ما يتصل به من اللفظ ، فـ «أنتم» فاعل الفعل المضمر ، وتملكون تفسيره. قال الزمخشري : هذا ما يقتضيه علم الإعراب ، فأما ما يقتضيه علم البيان فهو أن «أنتم تملكون» فيه دلالة على الاختصاص ، وأن الناس هم المختصون بالشحّ المتبالغ ، ونحوه قول حاتم :

لو ذات سوار لطمتني

وقول المتلمّس : [جرير بن عبد المسيح]

ولو غير إخواني أرادوا نقيصتي (٢)

وذلك لأن الفعل الأول لما سقط لأجل المفسّر برز الكلام في صورة المبتدأ والخبر ، وكقوله تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) [فاطر : الآية ٨] أي كمن لم يزيّن له سوء عمله. والمعنى : أفمن زين له سوء عمله من الفريقين اللذين تقدم ذكرهما : الذين كفروا ، والذين آمنوا ، كمن لم يزيّن له سوء عمله ، ثم كأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما قيل له ذلك ؛ قال : لا ، فقيل : (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ

__________________

(١) عجز البيت :

وإن في السفر إذ مضوا مهلا

والبيت من المنسرح ، وهو في ديوان الأعشى ص ٢٨٣ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٤٥٢ ، والخصائص ٢ / ٣٧٣ ، والدرر ٢ / ١٧٣ ، والشعر والشعراء ص ٧٥ ، والكتاب ٢ / ١٤١ ، ولسان العرب (رحل) ، وتاج العروس (حلل).

(٢) صدر البيت من الطويل ، وعجزه :

جعلت لهم فوق العرانين ميسما

٧٥

عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) وقيل : «المعنى : أفمن زيّن له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم حسرات ؛ فحذف الجواب ، لدلالة : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) أو : أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله ؛ فحذف لدلالة «فإنّ الله يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء».

وأما قوله تعالى : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) [يوسف : الآية ١٨] وقوله تعالى : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) [النّور : الآية ١] ، وقوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) [النّور : الآية ٥٣] فكل منها يحتمل الأمرين ؛ حذف المسند إليه ، وحذف المسند ، أي : فأمري صبر جميل ، أو فصبر جميل أجمل ، وهذه سورة أنزلناها ، أو فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها ، وأمركم أو الذي يطلب منكم طاعة معروفة معلومة ، لا يشكّ فيها ، ولا يرتاب كطاعة الخلّص من المؤمنين الذين طابق باطن أمرهم ظاهره ، لا إيمان تقسمون بها بأفواهكم ، وقلوبكم على خلافها ، أو طاعتكم طاعة معروفة ، أي بأنها بالقول دون الفعل ، أو طاعة معروفة أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة.

ومما يحتمل الوجهين قوله سبحانه وتعالى : (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) [النّساء : الآية ١٧١] قيل : التقدير ولا تقولوا : آلهتنا ثلاثة ، وردّ بأنه تقرير لثبوت آلهة ؛ لأن النفي إنما يكون للمعنى المستفاد من الخبر دون معنى المبتدإ ، كما تقول : ليس أمراؤنا ثلاثة فإنك تنفي به أن تكون عدة الأمراء ثلاثة دون أن تكون لكم أمراء ، وذلك إشراك ، مع أن قوله تعالى بعده : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) [النّساء : الآية ١٧١] يناقضه.

والوجه أن «ثلاثة» صفة مبتدأ محذوف ، أي يكون مبتدأ محذوفا مميّزه لا خبر مبتدأ ، والتقدير : «ولا تقولوا : لنا ـ أو في الوجود ـ آلهة ثلاثة أو ثلاثة آلهة» ثم حذف الخبر كما حذف من «لا إله إلا الله» و «ما من إله إلا الله» ثم حذف الموصوف أو المميّز كما يحذفان في غير هذا الموضع ؛ فيكون النهي عن إثبات الوجود لآلهة ، وهذا ليس فيه تقرير لثبوت إلهين ، مع أن ما بعده ـ أعني قوله : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) [النّساء : الآية ١٧١] ـ ينفي ذلك ، فيحصل النهي عن الإشراك ، والتوحيد من غير تناقض ؛ ولهذا يصح أن يتبع نفي الاثنين فيقال : «ولا تقولوا لنا آلهة ثلاثة ولا إلهان» لأنه كقولنا : ليس لنا آلهة ثلاثة ولا إلهان ، وهذا صحيح ، ولا يصلح أن يقال عن التقدير الأول : ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة ولا اثنان ؛ لأنه كقولنا : ليست آلهتنا ثلاثة ولا اثنين ، وهذا فاسد ، ويجوز أن يقدر : ولا تقولوا : الله والمسيح وأمّه ثلاثة ، أي لا تعبدوهما كما تعبدونه لقوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) [المائدة : الآية ٧٣] فيكون : المعنى ثلاثة مستوون في الصفة والرتبة ؛ فإنه قد استقر في العرف أنه إذا أريد إلحاق اثنين بواحد في وصف وأنهما

٧٦

شبيهان له ؛ أن يقال : هم ثلاثة ، كما يقال ـ إذا أريد إلحاق واحد بآخر وجعله في معناه ـ هما اثنان.

واعلم أن الحذف لا بدّ له من قرينة ، كوقوع الكلام جوابا عن سؤال : إما محقق ، كقوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : الآية ٢٥] ، وقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ) [العنكبوت : ٦٣] وإما مقدّر نحو :

ليبك يزيد ضارع لخصومة (١)

وقراءة من قرأ : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) [النّور : الآية ٣٦] ، وقوله : (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣) [الشّورى : الآية ٣] ببناء الفعل للمفعول.

وفضل هذا التركيب على خلافه ـ أعني نحو : «ليبك يزيد ضارع» ببناء الفعل للفاعل ، ونصب «يزيد» ـ من وجوه :

أحدها : أن هذا التركيب يفيد إسناد الفعل إلى الفاعل مرتين : إجمالا ، ثم تفصيلا.

الثاني : أن نحو «يزيد» فيه ركن الجملة لا فضله.

الثالث : أن أوله غير مطمع للسامع في ذكر الفاعل ؛ فيكون عند ورود ذكره كمن تيسّرت له غنيمة من حيث لا يحتسب ، وخلافه بخلاف ذلك.

ومن هذا الباب ـ أعني الحذف الذي قرينته وقوع الكلام جوابا عن سؤال مقدر ـ قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) [الأنعام : الآية ١٠٠] على وجه ؛ فإن «لله شركاء» إن جعلا مفعولين لـ «جعلوا» فـ «الجنّ» يحتمل وجهين :

أحدهما : ما ذكره الشيخ عبد القاهر من أن يكون منصوبا بمحذوف دل عليه سؤال مقدر ، كأنه قيل : من جعلوا لله شركاء؟ فقيل : الجنّ ، فيفيد الكلام إنكار الشّرك مطلقا ، فيدخل اتخاذ الشّريك من غير الجنّ في الإنكار ، دخول اتخاذه من الجن.

والثاني : ما ذكره الزمخشري ، وهو أن ينتصب «الجنّ» بدلا من «شركاء» فيفيد إنكار

__________________

(١) عجز البيت :

ومختبط مما تطيح الطوائح

والبيت من الطويل ، وهو للحارث بن نهيك في خزانة الأدب ١ / ٣٠٣ ، وشرح المفصل ١ / ٨٠ ، والكتاب ١ / ٢٨٨ ، وللبيد بن ربيعة في ملحق ديوانه ص ٣٦٢ ، ولنهشل بن حري في خزانة الأدب ١ / ٣٠٣ ، ولضرار بن نهشل في الدرر ٢ / ٢٨٦ ، وللحارث بن ضرار في شرح أبيات سيبويه ١ / ١١٠ ، ولنهشل أو للحارث أو لضرار أو لمزرد بن ضرار ، أو للمهلهل في المقاصد النحوية ٢ / ٤٥٤ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ٣٤٥ ، والشعر والشعراء ص ١٠٥ ، والكتاب ١ / ٣٦٦ ، ولسان العرب (طوح).

٧٧

الشريك مطلقا أيضا كما مر ، وإن جعل «لله» لغوا كان «شركاء الجنّ» مفعولين قدّم ثانيهما على الأول ، وفائدة التقديم استعظام أن يتّخذ لله شريك ـ ملكا كان ، أو جنّيا ، أو غيرهما ـ ولذلك قدّم اسم الله على الشركاء ، ولو لم يبن الكلام على التقديم ، وقيل : وجعلوا الجنّ شركاء لله ؛ لم يفد إلا إنكار جعل الجنّ شركاء ، والله أعلم.

ومنه ارتفاع المخصوص في باب «نعم وبئس» على أحد القولين.

وأما ذكره ؛ فإما لنحو ما مرّ في باب المسند إليه ، من زيادة التقرير ، والتعريض بغباوة السامع ، والاستلذاذ ، والتعظيم ، والإهانة وبسط الكلام ، وإما ليتعين كونه اسما ؛ فيستفاد منه الثبوت ، أو كونه فعلا ، فيستفاد منه التجدّد أو كونه ظرفا ، فيورث احتمال الثبوت والتجدد ، وإما لنحو ذلك.

قال السكاكي : وإما للتعجب من المسند إليه بذكره ، كما إذا قلت : «زيد يقاوم الأسد» مع دلالة قرائن الأحوال ، وفيه نظر ؛ لحصول التعجب بدون الذكر إذا قامت القرينة.

وأما إفراده فلكونه غير سببي ، مع عدم إفادة تقوّي الحكم ، كقولك : زيد منطلق ، وقام عمرو ، والمراد بالسببي نحو زيد أبوه منطلق.

قال السكاكي : وأما الحالة المقتضية لإفراده فهي إذا كان فعليا ولم يكن المقصود من نفس التركيب تقوّي الحكم ، وأعني بالمسند الفعلي ما يكون مفهومه محكوما به بالثبوت للمسند إليه أو بالانتفاء عنه ، كقولك : أبو زيد منطلق والكرّ من البرّ بستين ، وضرب أخو عمرو ، ويشكرك بكر إن تعطه ، وفي الدار خالد ، إذ تقديره : استقرّ أو حصل في الدار على أقوى الاحتمالين ؛ لتمام الصلة بالظرف كقولك : الذي في الدار أخوك.

وفيه نظر من وجهين :

أحدهما : أن ما ذكره في تفسير المسند الفعلي يجب أن يكون تفسيرا للمسند مطلقا ، والظاهر أنه إنما قصد به الاحتراز عن المسند السببي ؛ إذ فسّر المسند السببيّ بعد هذا بما يقابل تفسير المسند الفعليّ ومثله بقولنا : «زيد أبوه منطلق أو انطلق ، والبرّ الكرّ منه بستّين» فجعل ـ كما ترى ـ أمثلة السببيّ مقابلة لأمثلة الفعليّ مع الاشتراك في أصل المعنى.

والثاني : أن الظرف الواقع خبرا ، إذا كان مقدّرا بجملة كما اختاره ، كان قولنا : «الكرّ من البرّ بستين» تقديره : الكر من البر استقر بستين ، فيكون المسند جملة ، ويحصل تقوي الحكم كما مرّ ، وكذا إذا كان «في الدار خالد» تقديره : «استقر في الدار خالد» كان المسند

٧٨

جملة أيضا ، لكون «استقر» مسندا إلى ضمير «خالد» لا إلى «خالد» على الأصح ؛ لعدم اعتماد الظرف على شيء.

وأما كونه فعلا فللتقييد بأحد الأزمنة الثلاثة على أخصر ما يمكن مع إفادة التجدد.

وأما كونه اسما فلإفادة عدم التقييد والتجدد ، ومن البيّن فيهما قول الشاعر : [النصر بن جؤبة]

لا يأنف الدّرهم المضروب صرّتنا

لكن يمرّ عليها وهو منطلق (١)

وقوله :

وكلّما وردت عكاظ قبيلة

بعثوا إليّ عريفهم يتوسّم (٢)؟!

إذ معنى الأول على انطلاق ثابت للدرهم مطلقا من غير اعتبار تجدده وحدوثه ، ومعنى الثاني على توسّم وتأمّل ونظر يتجدّد من العريف هناك.

وأما تقييد الفعل بمفعول ونحوه ، فلتربية الفائدة ، كقولك : ضربت ضربا شديدا ، وضربت زيدا ، وضربت يوم الجمعة ، وضربت أمامك ، وضربت تأديبا ، وضربت بالسوط ، وجلست والسّارية ، وجاء زيد راكبا ، وطاب زيد نفسا ، وما ضرب إلا زيد ، وما ضربت إلا زيدا.

والمقيّد في نحو «كان زيد قائما» هو «قائما» لا كان.

وأما ترك تقييده فلمانع من تربية الفائدة.

وأما تقييده بالشرط فلاعتبارات لا تعرف إلا بمعرفة ما بين أدواته من التفصيل ، وقد بين ذلك في علم النحو ، ولكن لا بدّ من النظر هاهنا في «إن» و «إذا» و «لو».

أما «إن» و «إذا» فهما للشرط في الاستقبال ، لكنهما يفترقان في شيء ، وهو أن الأصل في «إن» أن لا يكون الشرط فيها مقطوعا بوقوعه ، كما تقول لصاحبك : «إن تكرمني أكرمك» وأنت لا تقطع بأنه يكرمك ، والأصل في «إذا» أن يكون الشرط فيها مقطوعا بوقوعه ، كما تقول : «إذا زالت الشمس آتيك».

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو للنضر بن جؤية في الإشارات والتنبيهات ص ٦٥.

(٢) البيت من الكامل ، وهو لطريف بن تميم العنبري في الأصمعيات ص ١٢٧ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٨٩ ، وشرح شواهد الشافية ص ٣٨٠ ، والكتاب ٤ / ٧ ، ولسان العرب (ضرب) ، (عرف) ، ومعاهد التنصيص ١ / ٢٠٤ ، وبلا نسبة في أدب الكاتب ص ٥٦١ ، والأشباه والنظائر ٧ / ٢٥٠ ، وجمهرة اللغة ص ٣٧٢ ، والمنصف ٣ / ٦٦ ، وتاج العروس (وسم).

٧٩

ولذلك كان الحكم النادر موقعا لـ «إن» لأنّ النادر غير مقطوع به في غالب الأمر ، وغلب لفظ الماضي مع «إذا» لكونه أقرب إلى القطع بالوقوع : نظرا إلى اللفظ.

قال الله تعالى : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) [الأعراف : الآية ١٣١] أتى في جانب الحسنة بلفظ «إذا» لأن المراد بالحسنة الحسنة المطلقة التي حصولها مقطوع به ؛ ولذلك عرّفت تعريف الجنس ، وجوّز السكاكيّ أن يكون تعريفها للعهد ، وقال : وهذا أقضى لحقّ البلاغة ، وفيه نظر. وأتى في جانب السيئة بلفظ «إن» لأنّ السيئة نادرة بالنسبة إلى الحسنة المطلقة ؛ ولذلك نكرت.

ومنه قوله تعالى : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) (٣٦) [الرّوم : الآية ٣٦] أتى بـ «إذا» في جانب الرحمة ، وأما تنكيرها فجعله السكاكي للنوعية ؛ نظرا إلى لفظ الإذاقة ، وجعله للتقليل ـ نظرا إلى لفظ الإذاقة كما قال ـ أقرب.

وأما قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ) [الرّوم : الآية ٣٣] بلفظ «إذا» مع الضّرّ ؛ فللنظر إلى لفظ المسّ ، وإلى تنكير الضّر المفيد في المقام التوبيخي القصد إلى اليسير من الضّرّ ، وإلى الناس المستحقين أن يلحقهم كل ضرّ ، وللتنبيه على أن مساس قدر يسير من الضّر لأمثال هؤلاء حقه أن يكون في حكم المقطوع به.

وأما قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) [فصّلت : الآية ٥١] بعد قوله عزّ وجلّ : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) [فصّلت : الآية ٥١] أي أعرض عن شكر الله ، وذهب بنفسه ، وتكبّر وتعظم ؛ فالذي تقتضيه البلاغة أن يكون الضمير في مسّه للمعرض المتكبّر ، ويكون لفظ «إذا» للتنبيه على أن مثله يحقّ أن يكون ابتلاؤه بالشر مقطوعا به.

قال الزمخشري : وللجهل بموقع «إن» و «إذا» يزيغ كثير من الخاصة عن الصواب ، فيغلطون ، ألا ترى إلى عبد الرحمن بن حسان كيف أخطأ بهما الموقع في قوله يخاطب بعض الولاة ، وقد سأله حاجة فلم يقضها ، ثم شفع له فيها فقضاها :

ذممت ولم تحمد ، وأدركت حاجتي

تولّى سواكم أجرها واصطناعها (١)

__________________

(١) الأبيات من الطويل ، ويروى عجز البيت الثالث :

عصاها وإن تأمر بسوء أطاعها

والبيت الثالث لسعيد بن عبد الرحمن في الأغاني ٨ / ٢٧١ ، والبيان والتبيين ٣ / ١٨٧ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٣٧٣ ، ولعبد الرحمن بن حسان بن ثابت في أمالي القالي ٢ / ٢٢٢ ، والحماسة البصرية ٢ / ٢٦٦ ، والعقد الفريد ٦ / ١٩٢ ، وعيون الأخبار ٣ / ١٩٣.

٨٠