الإيضاح في علوم البلاغة

جلال الدين محمّد بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد

الإيضاح في علوم البلاغة

المؤلف:

جلال الدين محمّد بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3907-X
الصفحات: ٤١٥

تريد ؛ طلبت لأنفسها الألفاظ ، ولم تكتس إلا ما يليق بها ، فإن كان خلاف ذلك كان كما قال أبو الطيب

إذا لم تشاهد غير حسن شياتها

وأعضائها ؛ فالحسن عنك مغيّب (١)

وقد يقع في كلام بعض المتأخرين ما حمل صاحبه فرط شغفه بأمور ترجع إلى ما له اسم في البديع على أن ينسى أنه يتكلم ليفهم ، ويقول ليبين ، ويخيّل إليه أنه إذا جمع عدّة من أقسام البديع في بيت ؛ فلا ضير أن يقع ما عناه في عمياء وأن يوقع السامع من طلبه في خبط عشواء.

هذا ما تيسر ـ بإذن الله تعالى ـ جمعه وتحريره من أصول الفن الثالث ، وبقيت أشياء يذكرها فيه بعض المصنفين.

١ ـ منها ما يتعين إهماله لأحد سببين :

لعدم دخوله فن البلاغة ، نحو ما يرجع في التحسين إلى الخط دون اللفظ مع أنه لا يخلو من التكلف ، ككون الكلمتين مماثلتين في الخط ، وكون الحروف منقوطة ، ونحو ما لا أثر له في التحسين ، كما يسمى الترديد.

أو لعدم جدواه ، نحو ما يوجد في كتب بعض المتأخرين مما هو داخل فيما ذكرناه ، كما سماه الإيضاح ؛ فإنه في الحقيقة راجع إلى الإطناب ، أو خلط فيه. كما سمّاه حسن البيان.

٢ ـ ومنها ما لا بأس بذكره ؛ لاشتماله على فائدة ، وهو شيئان :

أحدهما : القول في السرقات الشعرية ، وما يتصل بها.

والثاني : القول في الابتداء ، والتخلّص ، والانتهاء.

فعقدنا فيهما فصلين ختمنا بهما الكتاب.

الفصل الأول

القول في السرقات الشعرية وما يتصل بها

اعلم أن اتفاق القائلين إن كان في الغرض على العموم ـ كالوصف بالشجاعة ، والسخاء ، والبلادة ، والذكاء ـ فلا يعدّ سرقة ، ولا استعانة ، ولا نحوهما ؛ فإن هذه أمور

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٢٣٠.

٣٠١

متقررة في النفوس ، متصورة للعقول ، يشترك فيها الفصيح والأعجم ، والشاعر والمفحم.

وإن كان في وجه الدلالة على الغرض ـ وينقسم إلى أقسام كثيرة منها : التشبيه بما توجد الصفة فيه على الوجه البليغ كما سبق ، ومنها ذكر هيئات تدل على الصفة ؛ لاختصاصها بمن له الصفة ، كوصف الرجل حال الحرب بالابتسام ، وسكون الجوارح ، وقلّة الفكر ، كقوله : [محرز بن المكعبر الضبي]

كأنّ دنانيرا على قسماتهم

وإن كان قد شفّ الوجوه لقاء (١)

وكذا وصف الجواد بالتهلّل عند ورود العفاة ، والارتياح لرؤيتهم ، ووصف البخيل بالعبوس ، وقلّة البشر ، مع سعة ذات اليد ، ومساعدة الدهر.

فإن كان مما يشترك الناس في معرفته لاستقراره في العقول والعادات ، كتشبيه الفتاة الحسنة بالشمس والبدر ، والجواد بالغيث والبحر ، والبليد البطيء بالحجر والحمار ، والشجاع الماضي بالسيف والنار ؛ فالاتفاق فيه كالاتفاق في عموم الغرض.

وإن كان مما لا ينال إلا بفكر ، ولا يصل إليه كلّ أحد ، فهذا الذي يجوز أن يدّعى فيه الاختصاص والسبق ، وأن يقضى بين القائلين فيه بالتفاصيل وأنّ أحدهما فيه أفضل من الآخر ، وأن الثاني زاد على الأول أو نقص عنه.

وهو ضربان :

أحدهما : ما كان في أصله خاصّيّا غريبا.

والثاني : ما كان في أصله عاميّا مبتذلا ، لكن تصرّف فيه بما أخرجه من كونه ظاهرا ساذجا إلى خلاف ذلك ؛ وقد سبق ذكر أمثلتهما في التشبيه والاستعارة.

إذا عرفت هذا فنقول :

الأخذ والسرقة نوعان : ظاهر ، وغير ظاهر.

أما الظاهر فهو أن يؤخذ المعنى كله إما مع اللفظ كله أو بعضه ، وإما وحده.

فإن كان المأخوذ كله من غير تغيير لنظمه فهو مذموم مردود ؛ لأنه سرقة محضة ، ويسمى نسخا وانتحالا ، كما حكي أن عبد الله بن الزبير دخل على معاوية فأنشده :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لمحرز بن مكعبر الضبي في لسان العرب (قسم) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١٤٥٧ ، وشرح ديوان الحماسة للتبريزي ٤ / ١٦ ، والكامل ١ / ١٠٨ ، ١١٠ ، وتاج العروس (قسم) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة ٥ / ٨٦ ، وكتاب العين ٥ / ٨٧ ، وجمهرة اللغة ص ٨٥٢ ، وديوان الأدب ١ / ٢٥٢ ، وتهذيب اللغة ٨ / ٤٢٢ ، وأساس البلاغة (دنر) ، (قسم) ، والاشتقاق ١ / ٦٢ ، ٣٩٠.

٣٠٢

إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته

على طرف الهجران إن كان يعقل (١)

ويركب حدّ السيف من أن تضيمه

إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحل

فقال له معاوية : لقد شعرت بعدي يا أبا بكر ، ولم يفارق عبد الله المجلس حتى دخل معن بن أوس المزني ، فأنشد كلمته التي أولها :

لعمرك ما أدري ، وإني لأوجل

على أيّنا تعدو المنيّة أوّل (٢)

حتى أتى عليها ، وفيها أنشده عبد الله ، فأقبل معاوية على عبد الله ، وقال له : ألم تخبرني أنهما لك؟ فقال : المعنى لي ، واللفظ له ، وبعد فهو أخي من الرضاعة ، وأنا أحق بشعره.

وقد روي لأوس ولزهير في قصيدتهما هذا البيت :

إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا

أصبت حليما ، أو أصابك جاهل (٣)

وقد روي للأبيرد اليربوعي :

فتى يشتري حسن الثّناء بماله

إذا السّنة الشّهباء أعوزها القطر (٤)

ولأبي نواس :

فتى يشتري حسن الثناء بماله

ويعلم أن الدائرات تدور (٥)

وقد روي لبعض المتقدمين يمدح معبدا :

أجاد طويس والسّريجيّ بعده

وما قصبات السّبق إلّا لمعبد (٦)

ولأبي تمام :

محاسن أصناف المغنّين جمّة

وما قصبات السّبق إلا لمعبد (٧)

وحكى صاحب الأغاني في أصوات معبد :

__________________

(١) البيتان من الطويل ، وهما في الإشارات والتنبيهات ص ٢٧٨.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لمعن بن أوس في ديوانه ص ٣٩ ، وخزانة الأدب ٨ / ٢٤٤ ، وشرح التصريح ٢ / ٥١ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١١٢٦ ، ولسان العرب (كبر) ، والمقاصد النحوية ٣ / ٤٩٣.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ٣٠٠ ، والمخصص ١٥ / ١٦١.

(٤) البيت من الطويل ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٢٧٩.

(٥) البيت من الطويل ، وهو في ديوان أبي نواس ص ١٨٦.

(٦) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في الإشارات والتنبيهات ص ٢٧٩.

(٧) البيت من الطويل ، وهو في ديوان أبي تمام ٢ / ٢٩.

٣٠٣

لهفي على فتية ذلّ الزمان لهم

فما يصيبهم إلّا بما شاؤوا (١)

وفي شعر أبي نواس :

دارت على فتية ذلّ الزمان لهم

فما يصيبهم إلا بما شاؤوا! (٢)

وفي هذا المعنى ما كان التغيير فيه بإبدال كلمة أو أكثر بما يرادفها ، كقول امرىء القيس :

وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم

يقولون : لا تهلك أسى وتجمّل (٣)

وقول طرفة :

وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم

يقولون : لا تهلك أسى وتجلّد (٤)

وكقول العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه :

وما الناس بالناس الذين عهدتهم

ولا الدار بالدار التي كنت تعلم (٥)

وقول الفرزدق :

وما الناس بالناس الذين عهدتهم

ولا الدار بالدار التي كنت تعرف (٦)

وكقول حاتم :

ومن يبتدع ما ليس من خيم نفسه

يدعه ، ويغلبه على النفس خيمها (٧)

وقول الأعور :

ومن يقترف خلقا سوى خلق نفسه

يدعه ، ويغلبه على النفس خيمها (٨)

وإن كان مع تغيير لنظمه ، أو كان المأخوذ بعض اللفظ سمّي إغارة ومسخا.

١ ـ فإن كان الثاني أبلغ من الأول لاختصاصه بفضيلة ـ كحسن السّبك ، أو الاختصار ، أو الإيضاح ، أو زيادة معنى ـ فهو ممدوح مقبول ، كقول بشّار :

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو بلا نسبة في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٠.

(٢) البيت من البسيط ، وهو في ديوان أبي نواس ص ٨١.

(٣) البيت من الطويل ، وهو في ديوان امرىء القيس ص ٩ ، وبلا نسبة في رصف المباني ص ٢٦٨.

(٤) البيت من الطويل ، وهو في ديوان طرفة بن العبد ص ٣٢.

(٥) البيت من الطويل ، ولم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٦) البيت من الطويل ، وهو في ديوان الفرزدق ٢ / ٣٢.

(٧) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في لسان العرب (خيم) ، وتاج العروس (خيم).

(٨) البيت من الطويل ، ولم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٣٠٤

من راقب الناس لم يظفر بحاجته

وفاز بالطيّبات الفاتك اللهج (١)

وقول سلم الخاسر :

من راقب الناس مات غمّا

وفاز باللذّة الجسور (٢)

فبيت سلم أجود سبكا ، وأخصر. وكقول الآخر :

خلقنا لهم في كل عين وحاجب

بسمر القنا والبيض عينا وحاجبا (٣)

وقول ابن نباتة بعده :

خلقنا بأطراف القنا في ظهورهم

عيونا لها وقع السيوف حواجب (٤)

فبيت ابن نباتة أبلغ ؛ لاختصاصه بزيادة معنى ، وهو الإشارة إلى انهزامهم ، ومن الناس من جعلهما متساويين.

وإن كان الثاني دون الأول في البلاغة فهو مذموم مردود ، كقول أبي تمام :

هيهات ؛ لا يأتي الزمان بمثله

إن الزمان بمثله لبخيل (٥)

وقول أبي الطيب :

أعدى الزّمان سخاؤه ، فسخا به

ولقد يكون به الزمان بخيلا (٦)

فإن مصراع أبي تمام أحسن سبكا من مصراع أبي الطيب ، أراد أن يقول : «ولقد كان الزمان به بخيلا» فعدل عن الماضي إلى المضارع ؛ للوزن.

فإن قلت : المعنى «إن الزمان لا يسمح بهلاكه».

قلت : السخاء بالشيء هو بذله للغير ، فإذا كان الزمان قد سخا به ، فقد بذله ، فلم يبق في تصريفه حتى يسمح بهلاكه أو يبخل به.

وإن كان مثله فالخطب فيه أهون ، وصاحب الثاني أبعد من المذمة ، والفضل لصاحب الأول ، كقول بشار :

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو في ديوان بشار بن برد ص ٦٠.

(٢) البيت من مخلع البسيط ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨١.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لأبي إسحاق إبراهيم الغزي في ريحانة الألبا ص ١٣٣.

(٤) البيت من الطويل ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨١.

(٥) البيت من الكامل ، وهو في ديوان أبي تمام ٣ / ٢٤٦.

(٦) البيت من الكامل ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ١٩٠.

٣٠٥

يا قوم أذني لبعض الحيّ عاشقة

والأذن تعشق قبل العين أحيانا (١)

وقول ابن الشّحنة الموصليّ :

وإنّي امرؤ أحببتكم لمكارم

سمعت بها ، والأذن كالعين تعشق (٢)

وكذا قول القاضي الأرّجانيّ :

لم يبكني إلّا حديث فراقكم

لمّا أسرّ به إليّ مودّعي (٣)

هو ذلك الدّرّ الذي أودعتم

في مسمعي ، ألقيته من مدمعي

وقول جار الله : [الزمخشري]

وقائلة : ما هذه الدّررّ التي

تساقطها عيناك سمطين سمطين (٤)

فقلت : هي الدّرّ الذي قد حشا به

أبو مضر أذني تساقط من عيني

وكقول أبي تمام :

لو حار مرتاد المنيّة ؛ لم يجد

إلا الفراق على النّفوس دليلا (٥)

وقول أبي الطيب :

لولا مفارقة الأحباب ما وجدت

لها المنايا إلى أرواحنا سبلا (٦)

واعلم أن من هذا الضرب ما هو قبيح جدا ، وهو ما يدل على السرقة باتفاق الوزن والقافية أيضا ، كقول أبي تمام :

مقيم الظّنّ عندك والأماني

وإن قلقت ركابي في البلاد (٧)

ولا سافرت في الآفاق إلا

ومن جدواك راحلتي وزادي

وقول أبي الطيب :

وإنّي عنك بعد غد لغاد

وقلبي عن فنائك غير غاد (٨)

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو في ديوان بشار بن برد ص ٢٢٦.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٢.

(٣) البيتان من الكامل ، وهما في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٢.

(٤) البيتان من الطويل ، وهما في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٢.

(٥) البيت من الكامل ، وهو في ديوان أبي تمام ٣ / ٢٤٨.

(٦) البيت من البسيط ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ٥٩.

(٧) البيتان من الوافر ، وهما في ديوان أبي تمام ١ / ٣٧٤.

(٨) البيتان من الوافر ، وهما في ديوان المتنبي ١ / ١٣٣.

٣٠٦

محبك حيثما اتّجهت ركابي

وضيفك حيث كنت من البلاد

وإن كان المأخوذ المعنى وحده سمّي إلماما وسلخا ، وهو ثلاثة أقسام كذلك : أولها : كقول البحتري :

تصدّ حياء أن تراك بأوجه

أتى الذّنب عاصيها ، فليم مطيعها (١)

وقول أبي الطيب :

وجرم جرّه سفهاء قوم

وحلّ بغير جارمه العذاب (٢)

فإن بيت أبي الطيب أحسن سبكا ، وكأنه اقتبسه من قوله تعالى : (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) [الأعراف : الآية ١٥٥].

وكقول الآخر :

ولست بنظّار إلى جانب الغنى

إذا كانت العلياء في جانب الفقر (٣)

وقول أبي تمام بعده :

يصدّ عن الدنيا إذا عنّ سودد

ولو برزت في زيّ عذراء ناهد (٤)

فبيت أبي تمام أخصر وأبلغ ؛ لأن قوله : «ولو برزت في زي عذراء ناهد» زيادة حسنة.

وكقول أبي تمام :

هو الصّنع ؛ إن يجعل فخير ، وإن يرث

فللرّيث في بعض المواضع أنفع (٥)

وقول أبي الطيب :

ومن الخير بطء سيبك عنّي

أسرع السحب في المسير الجهام (٦)

فبيت أبي الطيب أبلغ ؛ لاشتماله على زيادة بيان.

وثانيها : كقول بعض الأعراب :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان البحتري ٢ / ١٣٠١.

(٢) البيت من الوافر ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ١٣٦.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لأبي سعيد المخزومي في الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ١ / ٧٢ ، ولأبي علي الحسن في شرح عقود الجمان ١ / ٢١٨.

(٤) البيت من الطويل ، وهو في ديوان أبي تمام ١ / ٣١٧.

(٥) البيت من الطويل ، وهو في الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ١ / ١٢٣.

(٦) البيت من الخفيف ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ٢١٠.

٣٠٧

وريحها أطيب من طيبها

والطّيب فيه المسك والعنبر (١)

وقول بشار :

وإذا أدنيت منها بصلا

غلب المسك على ريح البصل (٢)

وقول أشجع :

وعلى عدوّك يا بن عمّ محمّد

رصدان : ضوء الصبح ، والإظلام (٣)

فإذا تنبّه ، رعته ، وإذا هدا

سلّت عليه سيوفك الأحلام

وقول أبي الطيب :

يرى في النوم رمحك في كلاه

ويخشى أن يراه في السّهاد (٤)

فقصّر بذكر السّهاد ؛ لأنه أراد اليقظة ، ليطابق بها النوم ، فأخطأ ؛ إذ ليس كل يقظة سهادا ، وإنما السهاد امتناع الكرى في الليل. وأما المستيقظ بالنهار فلا يسمّى ساهدا.

وكقول البحتري :

وإذا تألّق في النّديّ كلامه ال

مصقول خلت لسانه من عضبه (٥)

وقول أبي الطيب :

كأن ألسنهم في النّطق قد جعلت

على رماحهم في الطّعن خرصانا (٦)

فإن أبا الطيب فاته ما أفاده من البحتري بلفظي «تألّق» و «المصقول» من الاستعارة التخييلية.

وكقول الخنساء :

وما بلغ المهدون للناس مدحة

وإن أطنبوا إلّا وما فيك أفضل (٧)

وقول أشجع : [السلمي]

__________________

(١) البيت من السريع ، وهو في كتاب الصناعتين ص ٣٥٠.

(٢) البيت من الرمل ، وهو في ديوان بشار ص ١٩٢ (طبعة دار الثقافة).

(٣) البيتان من السريع ، وهما في البيان والتبيين ٢ / ١٨٣.

(٤) البيت من الوافر ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ١٣٢.

(٥) البيت من الكامل ، وهو في الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ١ / ١٢٣.

(٦) البيت من البسيط ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ٢٢٨.

(٧) البيت من الطويل ، وهو في ديوان الخنساء ص ١٠٧ ، وكتاب الصناعتين ص ٢٠٨.

٣٠٨

وما ترك المدّاح فيك مقالة

ولا قال إلّا دون ما فيك قائل (١)

فإن بيت الخنساء أحسن من بيت أشجع ؛ ولما في مصراعه الثاني من التعقيد ؛ إذ تقديره : ولا قال قائل إلا دون ما فيك.

وثالثها : كقول الأعرابي :

ولم يك أكثر الفتيان مالا

ولكن كان أرحبهم ذراعا (٢)

وقول أشجع : [السلمي]

وليس بأوسعهم في الغنى

ولكنّ معروفه أوسع (٣)

وكذا قول بكر بن النطّاح :

كأنك عند الكرّ في حومة الوغى

تفرّ من الصّفّ الذي من ورائكا (٤)

وقول أبي الطيب :

فكأنه والطّعن من قدّامه

متخوّف من خلفه أن يطعنا (٥)

وكذا قول الآخر يذكر ابنا له مات : [محمد بن عبد الله الضبي]

والصبر يحمد في الموطن كلّها

إلّا عليك ؛ فإنه مذموم (٦)

وقول أبي تمام بعده :

وقد كان يدعى لابس الصّبر حازم

فأصبح يدعى حازما حين يجزع (٧)

وأما غير الظاهر فمنه : أن يتشابه معنى الأول ومعنى الثاني ، كقول الطّرماح بن حكيم الطائي :

لقد زادني حبّا لنفسي أنّني

بغيض إلى كلّ امرىء غير طائل (٨)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٤.

(٢) البيت من الوافر ، وهو بلا نسبة في لسان العرب (سوم) ، والإشارات والتنبيهات ص ٢٨٤.

(٣) البيت من المتقارب ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٤.

(٤) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٥) البيت من الكامل ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ١٩٥.

(٦) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٧) البيت من الطويل ، وهو في ديوان أبي تمام ٢ / ٢٧٨.

(٨) البيت من الطويل ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٤.

٣٠٩

وقول أبي الطيب :

وإذا أتتك مذمتي من ناقص

فهي الشهادة لي بأنّي كامل (١)

فإنّ ذمّ الناقص أبا الطيب كبغض من هو غير طائل الطرماح ، شهادة ذمّ الناقص أبا الطيب كزيادة حبّ الطرماح لنفسه.

وكذا قول أبي العلاء المعري في مرثية :

وما كلفة البدر المنير قديمة

ولكنّها في وجهه أثر اللّطم (٢)

وقول القيسراني : [أبو عبد الله محمد بن نصر]

وأهوى الذي أهوى له البدر ساجدا

ألست ترى في وجهه أثر التّرب؟ (٣)

وأوضح من ذلك قول جرير :

فلا يمنعك من أرب لحاهم

سواء ذو العمامة والخمار (٤)

وقول أبي الطيب :

ومن في كفّه منهم قناة

كمن في كفّه منهم خضاب (٥)

ولا يغرك من البيتين المتشابهين أن يكون أحدهما نسيبا والآخر مديحا أو هجاء أو افتخارا أو غير ذلك ، فإن الشاعر الحاذق إذا عمد إلى المعنى المختلس لينظمه تحيّل في إخفائه ، فغيّر لفظه ، وعدل به عن نوعه ووزنه وقافيته.

ومنه النقل ، وهو : أن ينقل معنى الأول إلى غير محله ، كقول البحتري :

سلبوا ؛ وأشرقت الدّماء عليهم

محمرّة ، فكأنهم لم يسلبوا (٦)

نقله أبو الطيب إلى السيف ، فقال :

يبس النّجيع عليه وهو مجرّد

عن غمده ، فكأنّما هو مغمد (٧)

ومنه أن يكون معنى الثاني أشمل من معنى الأول ، كقول جرير :

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ٢٢٥.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في سقط الزند ص ٢٣.

(٣) البيت من الطويل ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٥.

(٤) البيت من البسيط ، وهو في ديوان جرير ص ٢٣٧.

(٥) البيت من الوافر ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ١٣٧.

(٦) البيت من الكامل ، وهو في ديوان البحتري ١ / ٧٦.

(٧) البيت من الكامل ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ٩٣.

٣١٠

إذا غضبت عليك بنو تميم

وجدت الناس كلّهم غضابا (١)

وقول أبي نواس :

ليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد (٢)

ومنه القلب ، وهو : أن يكون معنى الثاني نقيض معنى الأول سمّي بذلك لقلب المعنى إلى نقيضه ، كقول أبي الشّيص : [محمد بن رزين الخزاعي]

أجد الملامة في هواك لذيذة

حبّا لذكرك ، فليلمني اللّوّم (٣)

وقول أبي الطيب :

أأحبّه وأحبّ فيه ملامة؟

إنّ الملامة فيه من أعدائه (٤)

وكذا قول أبي الطيب أيضا :

والجراحات عنده نغمات

سبقت قبل سيبه بسؤال (٥)

فإنه ناقض به قول أبي تمام :

ونغمة معتف جدواه أحلى

على أذنيه من نغم السّماع (٦)

وقد تبعه البحتري فقال :

نشوان يطرب للسؤال كأنما

غنّاه مالك طيّىء أو معبد (٧)

ومنه أن يؤخذ بعض المعنى ويضاف إليه زيادة تحسّنه ، كقول الأفوه الأوديّ :

وترى الطّير على آثارنا

رأي عين أن ستمار (٨)

وقول أبي تمام :

وقد ظلّلت عقبان أعلامه ضحى

بعقبان طير في الدّماء نواهل (٩)

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو في ديوان جرير ص ٧٨ ، وكتاب الصناعتين ص ٢١٦.

(٢) البيت من السريع ، وهو في ديوان أبي نواس ص ١٤٦ ، وكتاب الصناعتين ص ٢١٦.

(٣) البيت من الكامل ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٦.

(٤) البيت من الكامل ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ١٠٣.

(٥) البيت من الخفيف وهو في ديوان المتنبي ١ / ١٦٧.

(٦) البيت من الوافر ، وهو بلا نسبة في تاج العروس (نغم).

(٧) البيت من البسيط ، وهو في زهر الآداب ٤ / ١٣٢ ، ١٣٤ ، ١٣٦.

(٨) البيت من الرمل ، وهو في ديوان الأفوه الأودي ص ١٣٠ ، وكتاب الصناعتين ص ٢٢٥.

(٩) البيتان من الطويل ، وهما في ديوان أبي تمام ٣ / ٨٢.

٣١١

أقامت مع الرّايات حتى كأنها

من الجيش ، إلا أنها لم تقاتل

فإن الأفوه أفاد بقوله : «رأي عين» قربها ؛ لأنها إذا بعدت تخيّلت ولم تر ، وإنما يكون قربها توقعا للفريسة ، وهذا يؤكد المعنى المقصود ، ثم قال «ثقة أن ستمار» فجعلها واثقة بالميرة.

وأما أبو تمام فلم يلم بشيء من ذلك ، لكن زاد على الأفوه بقوله : «إلّا أنها لم تقاتل» ثم بقوله : «في الدماء نواهل» ثم بإقامتها مع الرايات حتى كأنها من الجيش ، وبذلك يتم حسن قوله : «إلا أنها لم تقاتل» وهذه الزيادات حسّنت قوله ، وإن كان قد ترك بعض ما أتى به الأفوه.

وهذه الأنواع ونحوها أكثرها مقبولة.

ومنها ما أخرجه حسن التصرّف من قبيل الأخذ والاتباع إلى حيّز الاختراع والابتداع ، وكلما كان أشد خفاء كان أقرب إلى القبول.

هذا كله إذا علم أن الثاني أخذ من الأول! وهذا لا يعلم إلا بأن يعلم أنه كان يحفظ قول الأول حين نظم قوله ، أو بأن يخبر هو عن نفسه أنه أخذه منه ؛ لجواز أن يكون الاتفاق من قبيل توارد الخواطر ، أي مجيئه على سبيل الاتفاق من غير قصد إلى الأخذ والسرقة ، كما يحكى عن ابن ميادة أنه أنشد لنفسه : [الرماح بن أبرد]

مفيد ، ومتلاف ، إذا ما أتيته

تهلّل ، واهتزّ اهتزاز المهنّد (١)

فقيل له : أين يذهب بك؟! هذا للحطيئة؟ فقال : الآن علمت أني شاعر ؛ إذ وافقته على قوله ولم أسمعه.

ولهذا لا ينبغي لأحد بتّ الحكم على شاعر بالسرقة ما لم يعلم الحال ؛ وإلا فالذي ينبغي أن يقال : «قال فلان كذا ، وقد سبقه إليه فلان فقال كذا» فيغتنم به فضيلة الصدق ، ويسلم من دعوى العلم بالغيب ونسبة النقص إلى الغير.

وما يتصل بهذا الفن القول في الاقتباس ، والتضمين ، والعقد ، والحلّ ، والتلميح.

أما الاقتباس فهو : أن يضمّن الكلام شيئا من القرآن أو الحديث ، لا على أنه منه ، كقول الحريري : «فلم يكن (إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ،) حتى أنشد فأغرب» (٢).

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٠.

(٢) انظر الآية ٧٧ من سورة النحل.

٣١٢

وقوله : (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ) وأميز صحيح القول من عليله» (١).

وقول ابن نباتة الخطيب : «فيا أيها الغفلة المطرقون ، أما أنتم بهذا الحديث مصدقون؟ ما لكم لا تشفقون؟ (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)(٢).

وقوله أيضا من خطبة أخرى ذكر فيها القيامة : «هنالك يرفع الحجاب ، ويوضع الكتاب ، ويجمع من وجب له الثواب ، وحقّ عليه العقاب ، فيضرب بينهم بسور له باب ، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب» (٣).

وقول القاضي الفاضل وقد ذكر الإفرنج : «وغضبوا زادهم الله غضبا وأوقدوا نارا للحرب جعلهم الله لها حطبا» (٤).

وكقول الحماسيّ : [الأحوص بن محمد الأنصاري]

إذا رمت عنها سلوة قال شافع

من الحبّ : ميعاد السّلوّ المقابر (٥)

ستبقى لها في مضمر القلب والحشا

سريرة ودّ(يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ)(٦)

وقول أبي الفضل بديع الزمان الهمذاني :

لآل فريغون في المكرمات

يد أوّلا ، واعتذار أخيرا (٧)

إذا ما حللت بمغناهم

رأيت نعيما وملكا كبيرا (٨)

وقول الأبيوردي : [أبو مظفر محمد بن أحمد]

وقصائد مثل الرياض أضعتها

في باخل ضاعت به الأحساب (٩)

فإذا تناشدها الرّواة ، وأبصروا

الممدوح قالوا : (ساحِرٌ كَذَّابٌ) (١٠)

__________________

(١) انظر الآية ٤٥ من سورة يوسف.

(٢) انظر الآية ٢٣ من سورة الذاريات.

(٣) انظر الآية ١٣ من سورة الحديد.

(٤) انظر الآية ٦٤ من سورة المائدة.

(٥) البيتان من الطويل ، وهما للأحوص بن محمد الأنصاري في ديوانه ص ١١٨ ، والبيت الثاني في لسان العرب (ضمر) ، والتنبيه والإيضاح ٢ / ١٥٥ ، وتاج العروس (ضمر) ، والشعر والشعراء ص ٥٢٥ ، والأغاني ٤ / ٢٤٤ ، وبلا نسبة في أمالي القالي ٢ / ١٦٤.

(٦) انظر الآية ٨ من سورة الطارق.

(٧) البيتان من المتقارب ، وهما في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٧.

(٨) انظر الآية ٢٠ من سورة الإنسان.

(٩) البيتان من الكامل ، وهما في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٧.

(١٠) انظر الآيتين ٢٣ ـ ٢٤ من سورة غافر.

٣١٣

وقول الآخر :

لا تعاشر معشرا ضلّوا الهدى

فسواء أقبلوا أو أدبروا (١)

بدت البغضاء من أفواههم

والذي يخفون منها أكبر (٢)

وقوله :

خلّة الغانيات خلّة سوء

فاتّقوا الله يا أولي الألباب (٣)

وإذا ما سئلتموهن شيئا

(فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ)(٤)

وقول الآخر : [أبو القاسم بن الحسن]

إن كنت أزمعت على هجرنا

من غير ما جرم (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) (٥)

وإن تبدّلت بنا غيرنا

«ف (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (٦)

وكقول الحريري : «وكتمان الفقر زهادة ، وانتظار الفرج بالصّبر عبادة» ، فإن قوله : «انتظار الفرج بالصبر عبادة» (٧) لفظ الحديث.

وقوله : «قلنا : شاهت الوجوه ، وقبح اللّكع ومن يرجوه» فإن قوله : «شاهت الوجوه» لفظ الحديث ؛ فإنه روي : لما اشتدّت الحرب يوم حنين أخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم كفّا من الحصباء ، فرمى بها في وجوه المشركين ، وقال : «شاهت الوجوه» (٨) أي : قبحت.

واللّكع قيل : هو اللئيم ، وقال أبو عبيد : هو العبد.

وكقول ابن عبّاد :

قال لي : إن رقيبي سيّىء الخلق ؛ فداره

قلت : دعني ؛ وجهك الجنّة حفّت بالمكاره (٩)

__________________

(١) الرجز ولم أجده.

(٢) انظر الآية ١١٨ من سورة آل عمران.

(٣) البيتان من الخفيف ، وهما في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٧.

(٤) انظر الآية ١٠٠ من سورة المائدة ، والآية ٥٣ من سورة الأحزاب.

(٥) البيتان لم أجدهما.

(٦) انظر الآية ١٨ من سورة يوسف ، والآية ١٧٣ من سورة آل عمران.

(٧) أخرجه المتقي الهندي في كنز العمال ٦٥٠٧ ، ٦٥٠٩ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٩ / ٦ ، ٢٧ ، والعجلوني في كشف الخفاء ١ / ٢٣٩.

(٨) أخرجه مسلم في الجهاد حديث ٨١ ، والدارمي في السير باب ١٥ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٠٨ ، ٣٦٨ ، ٥ / ٢٨٦ ، ٣١٠.

(٩) البيت من مجزوء الرمل ، ولم أجده.

٣١٤

اقتبس من لفظ الحديث : «حفّت الجنّة بالمكاره ، وحفّت النار بالشّهوات» (١).

والاقتباس منه ما لا ينقل فيه اللفظ المقتبس عن معناه الأصليّ إلى معنى آخر ، كما تقدم ، ومنه ما هو بخلاف ذلك ، كقول ابن الرومي :

لئن أخطأت في مدحي

ك ما أخطأت في منعي (٢)

لقد أنزلت حاجاتي

(بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ)(٣)

ولا بأس بتغيير يسير لأجل الوزن أو غيره ، كقول بعض المغاربة عند وفاة بعض أصحابه : [البيت لأبي تمام]

قد كان ما خفت أن يكونا

إنا إلى الله راجعونا (٤)(٥)

وقول عمر الخيّام :

سبقت العالمين إلى المعالي

بصائب فكرة وعلوّ همّه (٦)

ولاح بحكمتي نور الهدى في

ليال للضّلالة مدلهمّه

يريد الجاهلون ليطفئوه

ويأبى الله إلا أن يتمه (٧)

وكقول القاضي منصور الهروي الأزدي :

فلو كانت الأخلاق تحوى وراثة

ولو كانت الآراء لا تتشعّب (٨)

لأصبح كلّ النّاس قد ضمّهم هوى

كما أن كلّ الناس قد ضمّهم أب

ولكنها الأقدار ، كلّ ميسّر

لما هو مخلوق له ومقرّب

__________________

(١) أخرجه مسلم في الجنة حديث ١ ، وأبو داود في السنة باب ٢٢ ، والترمذي في الجنة باب ٢١ ، والنسائي في الأيمان باب ٣ ، والدارمي في الرقاق باب ١١٧ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٦٠ ، ٣٣٣ ، ٣٥٤ ، ٣٨٠ ، ٣ / ١٥٣ ، ٢٥٤ ، ٢٨٤.

(٢) البيتان من مجزوء الوافر ، وهما في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٨.

(٣) انظر الآية ٣٧ من سورة إبراهيم.

(٤) البيت من مخلع البسيط ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٨.

(٥) انظر الآية ١٥٦ من سورة البقرة.

(٦) الأبيات من الوافر ، وهي في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٨.

(٧) انظر الآية ٣٢ من سورة التوبة.

(٨) الأبيات من الطويل ، وهي في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٨.

٣١٥

اقتبس من لفظ الحديث «اعملوا ، كلّ ميسّر لما خلق له» (١).

وأما التضمين فهو : أن يضمّن الشعر شيئا من شعر الغير مع التنبيه عليه إن لم يكن مشهورا عند البلغاء ، كقول بعض المتأخرين ، قيل : هو ابن التّلميذ الطبيب النصراني : [هبة الله بن صاعد]

كانت بلهنية الشّبيبة سكرة

فصحوت واستبدلت سيرة مجمل (٢)

وقعدت أنتظر الفناء كراكب

عرف المحلّ ؛ فبات دون المنزل

البيت الثاني لمسلم بن الوليد الأنصاري (٣). وقول عبد القاهر بن طاهر التميمي :

إذا ضاق صدري وخفت العدى

تمثّلت بيتا بحالي يليق (٤)

«فبالله أبلغ ما أرتجي

وبالله أدفع ما لا أطيق»

وقول ابن العميد :

وصاحب كنت مغبوطا بصحبته

دهرا ، فغادرني فردا بلا سكن (٥)

هبت له ريح إقبال ، فطار بها

نحو السرور ، وألجاني إلى الحزن

كأنه كان مطويّا على إحن

ولم يكن في ضروب الشعر أنشدني

«إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا

من كان يألفهم في المنزل الخشن»

البيت لأبي تمام (٦).

وكقول الحريري :

على أني سأنشد عند بيعي :

«أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا» (٧)

المصراع الأخير ، قيل : «هو للعرجيّ ، وقيل : لأميّة بن أبي الصّلت ، وتمام البيت :

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٩٢ ، باب ٣ ، ٤ ، ٥ ، والأدب باب ١٢٠ ، والقدر باب ٥٤ ، ومسلم في القدر حديث ٦ ، ٧ ، ٨.

(٢) البيتان من الكامل ، وهما في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٩.

(٣) البيت في ديوان مسلم بن الوليد ص ٣٣٨.

(٤) البيتان في الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ٢ / ٥١٢.

(٥) الأبيات من البسيط ، وهي في الإشارات والتنبيهات ص ٤٣١.

(٦) البيت لم أجده في ديوان أبي تمام شرح التبريزي.

(٧) البيت من الوافر ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٢٩٠.

٣١٦

«ليوم كريهة وسداد ثغر» (١)

ولا حاجة إلى تقديره ؛ لتمام المعنى بدونه.

ومثله قول الآخر :

قد قلت لما اطّلعت وجناته

حول الشّقيق الغضّ روضة آس (٢)

أعذاره السّاري العجول ترفّقا

ما في وقوفك ساعة من باس

المصراع الأخير لأبي تمام. وكقول الآخر :

كنّا معا أمس في بؤس نكابده

والعين والقلب منّا في قذى وأذى (٣)

والآن أقبلت الدّنيا عليك بما

تهوى ، فلا تنسني ، إنّ الكرام إذا

أشار إلى بيت أبي تمام ، ولا بدّ من تقدير الباقي منه ؛ لأن المعنى لا يتم بدونه.

وقد علم بهذا أن تضمين ما دون البيت ضربان.

وأحسن وجوه التضمين : أن يزيد المضمّن في الفرع عليه في الأصل بنكتة ، كالتورية والتشبيه في قول صاحب التحبير (٤) :

إذا الوهم أبدى لي لماها وثغرها

تذكّرت ما بين العذيب وبارق (٥)

ويذكرني من قدّها ومدامعي

مجرّ عوالينا ومجرى الوابق

المصراعان الأخيران لأبي الطيب (٦).

__________________

(١) البيت للعرجي في ديوانه ص ٣٤ ، ولسان العرب (سدد) ، (ضيع) ، وتاج العروس (سدد) ، (ضيع) ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة ١٢ / ٢٧٧ ، ومقاييس اللغة ٣ / ٦٦ ، ومجمل اللغة ٣ / ٦٠ ، وديوان الأدب ٣ / ٩٠.

(٢) البيتان لأبي العباس محمد بن إبراهيم في المطوّل شرح تلخيص مفتاح العلوم ص ٧٢٦.

(٣) البيتان بلا نسبة في المطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ص ٧٢٧.

(٤) صاحب التحبير : هو ابن أبي الإصبع المصري ، عبد العظيم بن عبد الواحد بن ظافر بن عبد الله بن محمد القيرواني ثم المصري ، أبو محمد الشاعر المعروف بابن أبي الإصبع ، توفي سنة ٦٥٤ ه‍ ، له من المصنفات : بدائع القرآن ، تحرير التحبير في علم البديع ، خواطر السوانح في أسرار الفواتح ، وغير ذلك. (كشف الظنون ٥ / ٥٨٥).

(٥) البيتان من الطويل ، وهما في الإشارات والتنبيهات ص ٢٩٠.

(٦) يشير إلى قول المتنبي :

تذكرت ما بين العذيب وبارق

مجرّ عوالينا ومجرى السوابق

والبيت في ديوان المتنبي ٢ / ١٤٦.

٣١٧

ولا يضر التغيير اليسير ليدخل في معنى الكلام ، كقول بعض المتأخرين في يهودي به داء الثعلب :

أقول لمعشر غلطوا وغصّوا

عن الشّيخ الرّشيد وأنكروه (١)

هو ابن جلا وطلّاع الثّنايا

متى يضع العمامة تعرفوه

البيت لسحيم بن وثيل ، وأصله :

أنا ابن جلا وطلّاع الثنايا

متى أضع العمامة تعرفوني (٢)

وربما سمّي تضمين البيت فما زاد استعانة ، وتضمين المصراع فما دونه تارة إيداعا وتارة رفوا.

وأما العقد فهو : أن ينظم نثر لا على طريق الاقتباس :

١ ـ أما عقد القرآن فكقول الشاعر : [الحسين بن حسن الدمشقي]

أنلني بالذي استقرضت خطّا

وأشهد معشرا قد شاهدوه (٣)

فإن الله خلّاق البرايا

عنت لجلال هيبته الوجوه

يقول إذا تداينتم بدين

إلى أجل مسمّى فاكتبوه (٤)

٢ ـ وأما عقد الحديث فكما روي للشافعي رضي الله عنه :

عمدة الخير عندنا كلمات

أربع قالهنّ خير البريّه (٥)

اتق المشبهات ، وازهد ، ودع ما

ليس يعنيك ، واعملنّ بنيّه

عقد قوله عليه السّلام : «الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات» (٦) ، وقوله عليه السّلام : «ازهد في الدنيا يحبّك الله» وقوله عليه السّلام : «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» ، وقوله عليه السّلام : «إنما الأعمال بالنيات».

وأما عقد غيرهما فكقول أبي العتاهية :

__________________

(١) البيتان من الوافر ، وهما في الإشارات والتنبيهات ص ٢٩٠.

(٢) تقدم البيت مع تخريجه.

(٣) الأبيات من الوافر ، وهي في الإشارات والتنبيهات ص ٢٩١.

(٤) انظر الآية ٢٨٢ من سورة البقرة.

(٥) البيتان للشافعي في عقود الجمان ٢ / ١٩١.

(٦) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٣٩ ، والبيوع باب ٢ ، ومسلم في المساقاة حديث ١٠٧ ، ١٠٨.

٣١٨

ما بال من أوله نطفة

وجيفة آخره يفخر؟ (١)

عقد قول علي رضي الله عنه : «وما لابن آدم والفخر ، وإنما أوله نطفة ، وآخره جيفة».

وقوله أيضا :

كفى حزنا بدفنك ، ثم إني

نفضت تراب قبرك عن يديّا (٢)

وكانت في حياتك لي عظات

وأنت اليوم أوعظ منك حيّا

قيل : عقد قول بعض الحكماء في الإسكندر لما مات : «كان الملك أمس أنطق منه اليوم ، وهو اليوم أوعظ منه أمس» وقيل : هو قول الموبذ لما مات قباذ الملك.

وقوله الآخر :

يا صاحب البغي إن البغي مصرعة

فاربع ؛ فخير فعال المرء أعدله (٣)

فلو بغى جبل يوما على جبل

لاندكّ منه أعاليه وأسفله

عقد قول ابن عباس رضي الله عنهما : «لو بغى جبل على جبل لدكّ الباغي».

وقول الآخر :

البس جديدك إني لابس خلقي

ولا جديد لمن لا يلبس الخلقا (٤)

عقد المثل : «لا جديد لمن لا خلق له» قالته عائشة رضي الله عنها وقد وهبت مالا كثيرا ، ثم أمرت بثوب لها أن يرقع ، يضرب في الحثّ على استصلاح المال.

وأما الحل فهو : أن ينثر نظم.

وشرط كونه مقبولا شيئان :

أحدهما : أن يكون سبكه مختارا ، لا يتقاصر عن سبك أصله.

والثاني : أن يكون حسن الموقع ، مستقرّا في محلّه ، غير قلق ، وذلك كقول بعض المغاربة : «فإنه لما قبحت فعلاته ، وحنظلت نخلاته ؛ لم يزل سوء الظنّ يقتاده ، ويصدّق توهّمه الذي يعتاده» حلّ قول أبي الطيب :

__________________

(١) البيت من السريع ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٢٩١.

(٢) البيتان من الطويل ، ولم أجدهما.

(٣) البيتان من الطويل ، وهما في الإشارات والتنبيهات ص ٢٩١.

(٤) البيت من البسيط ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٢٩١.

٣١٩

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه

وصدّق ما يعتاده من توهّم (١)

وكقول صاحب «الوشي المرقوم ، في حلّ المنظوم» (٢) يصف قلم كاتب : «فلا تحظى به دولة إلا فخرت على الدّول ، وغنيت به عن الخيل والخول ، وقالت : أعلى الممالك ما يبنى على الأقلام لا على الأسل» حلّ قول أبي الطيب أيضا :

أعلى الممالك ما يبنى على الأسل (٣)

وكقول بعض كتاب العصر في وصف السيف : «أورثه عشق الرّقاب نحولا ؛ فبكى والدّمع مطر تزيد به الخدود محولا» حلّ قول أبي الطيب أيضا :

في الخدّ إن عزم الخليط رحيلا

مطر تزيد به الخدود محولا (٤)

وأما التلميح فهو : أن يشار إلى قصة أو شعر من غير ذكره.

فالأول : كقول ابن المعتز :

أترى الجيرة الذين تداعوا

عند سير الحبيب وقت الزّوال (٥)

علموا أنني مقيم وقلبي

راحل فيهم أمام الجمال

مثل صاع العزيز في أرحل القو

م ولا يعلمون ما في الرّحال

وقول أبي تمام :

لحقنا بأخراهم وقد حوّم الهوى

قلوبا عهدنا طيرها وهي وقّع (٦)

فردّت علينا الشمس والليل راغم

بشمس لهم من جانب الخدر تطلع

نضا ضوؤها صبغ الدّجنّة وانطوى

لبهجتها ثوب السماء المجزّع

فو الله ما أدري : أأحلام نائم

ألمّت بنا ، أم كان في الرّكب يوشع

أشار إلى قصة يوشع بن نون ، فتى موسى عليهما السّلام ، واستيقافه الشمس فإنه

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٢٢٢.

(٢) صاحب «الوشي المرقوم في حل المنظوم» : هو ضياء الدين نصر الله بن محمد بن محمد المعروف بابن الأثير الجزري ، المتوفى سنة ٦٣٧ ه‍. (كشف الظنون ٢ / ٢٠١٢).

(٣) البيت بتمامه :

أعلى الممالك ما يبنى على الأسل

والطعن عند محبيهن كالقبل

وهو من البسيط ، انظر ديوان المتنبي ٢ / ٢٢.

(٤) البيت من الوافر ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ١٨٩.(٥) الأبيات من الخفيف ، وهي في الإشارات والتنبيهات ص ٢٩٢.

(٦) الأبيات لأبي تمام ، في الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ٢ / ٥٢٠.

٣٢٠