الإيضاح في علوم البلاغة

جلال الدين محمّد بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد

الإيضاح في علوم البلاغة

المؤلف:

جلال الدين محمّد بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3907-X
الصفحات: ٤١٥

ثم نقل عن الجاحظ (١) في ذلك كلاما منه قوله : والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والقروي والبدوي ، وإنما الشأن في إقامة الوزن ، وتخير اللفظ ، وسهولة المخرج ، وصحة الطّبع ، وكثرة الماء ، وجودة السّبك.

ثم قال : ومعلوم أن سبيل الكلام سبيل التصوير والصّياغة ، وأن سبيل المعنى الذي يعبّر عنه سبيل الشيء الذي يقع التصوير فيه ، كالفضة والذهب يصاغ منهما خاتم أو سوار ، فكما أنه محال ـ إذا أردت النظر في صوغ الخاتم وجودة العمل ورداءته ـ أن تنظر إلى الفضّة الحاملة لتلك الصورة ، أو الذهب الذي وقع فيه ذلك العمل ؛ كذلك محال ـ إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزيّة في الكلام ـ أن تنظر في مجرد معناه ، وكما (أنّا) لو فضلنا خاتما على خاتم ، بأن تكون فضّة هذا أجود ، أو فصّه أنفس ؛ لم يكن ذلك تفضيلا له من حيث هو خاتم ، كذلك ينبغي إذا فضّلنا بيتا على بيت من أجل معناه ، أن لا يكون ذلك تفضيلا له من حيث هو شعر وكلام.

هذا لفظه ، وهو صريح في أن الكلام ـ من حيث هو كلام ـ لا يوصف بالفضيلة باعتبار شرف معناه ، ولا شك أن الفصاحة من صفاته الفاضلة ، فلا تكون راجعة إلى المعنى ، وقد صرّح فيما سبق بأنها راجعة إلى المعنى دون اللفظ ؛ فالجمع بينهما بما قدمناه ، بحمل كلامه حيث نفى أنها من صفات اللفظ على أنها من صفات المفردات من غير اعتبار التركيب ، وحيث أثبت أنها من صفاته على أنها من صفاتها باعتبار إفادته المعنى عند التركيب.

وللبلاغة طرفان : أعلى إليه تنتهي ، وهو حدّ الإعجاز وما يقرب منه ، وأسفل منه تبتدىء ، وهو ما إذا غيّر الكلام عنه إلى ما هو دونه التحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات وإن كان صحيح الإعراب.

وبين الطرفين مراتب كثيرة متفاوتة.

وإذ قد عرفت معنى البلاغة في الكلام ، وأقسامها ، ومراتبها ؛ فاعلم أنه يتبعها وجوه كثيرة ـ غير راجعة إلى مطابقة مقتضى الحال ، ولا إلى الفصاحة ـ تورث الكلام حسنا وقبولا.

وأما بلاغة المتكلم فهي : ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ.

وقد علم بما ذكرنا أمران ، أحدهما : أن كل بليغ ـ كلاما كان أو متكلما ـ فصيح ، وليس كل فصيح بليغا ، الثاني : أن البلاغة في الكلام مرجعها إلى الاحتراز عن الخطأ

__________________

(١) الجاحظ : تقدمت ترجمته.

٢١

في تأدية المعنى المراد ، وإلى تمييز الكلام الفصيح من غيره ، والثاني ـ يعني التمييز ـ منه ما يتبين في علم متن اللغة ، أو التصريف ، أو النحو ، أو يدرك بالحس ، وهو ما عدا التعقيد المعنوي.

وما يحترز به عن الأول ـ أعني الخطأ ـ هو علم المعاني.

وما يحترز به عن الثاني ـ أعني التعقيد المعنوي ـ هو علم البيان.

وما يعرف به وجوه تحسين الكلام ـ بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال وفصاحته ـ هو علم البديع.

وكثير من الناس يسمي الجميع «علم البيان» ؛ وبعضهم يسمي الأول «علم المعاني» ، والثاني والثالث «علم البيان» ، والثلاثة «علم البديع».

٢٢

علم المعاني

وهو علم يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق مقتضى الحال. وقيل : «يعرف» دون «يعلم» رعاية لما اعتبره بعض الفضلاء من تخصيص العلم بالكليات والمعرفة بالجزئيات ، كما قال صاحب القانون (١) في تعريف الطب : «الطبّ علم يعرف به أحوال بدن الإنسان» وكما قال الشيخ أبو عمرو (٢) رحمه الله : «التصريف علم بأصول يعرف بها أحوال أبنية الكلم».

وقال السكاكي (٣) : «علم المعاني هو تتبّع خواصّ تراكيب الكلام في الإفادة ، وما يتصل بها من الاستحسان وغيره ؛ ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما تقتضي الحال ذكره».

وفيه نظر ؛ إذ التتبع ليس بعلم ، ولا صادق عليه ؛ فلا يصح تعريف شيء من العلوم به.

__________________

(١) صاحب القانون : هو كتاب القانون في الطب للشيخ الرئيس أبي علي حسين بن عبد الله المعروف بابن سينا المتوفى سنة ٤٢٨ ه‍. (كشف الظنون ٢ / ١٣١١ ـ ١٣١٣).

(٢) هو ابن الحاجب : هو عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس الكردي الأسنائي ثم المصري ، جمال الدين أبو عمرو المالكي النحوي المعروف بابن الحاجب ، ولد في إسنا (من صعيد مصر) سنة ٥٧٠ ه‍ ، ونشأ في القاهرة ، وسكن دمشق ، وتوفي بالإسكندرية سنة ٦٤٦ ه‍ ، وكان أبوه حاجبا فعرف به ، من تصانيفه : الأمالي ، الإيضاح في شرح المفصل ، جامع الأمهات ، في الفقه ، جمال العرب ، في علم الأدب ، الشافية ، في التصريف ، شرح كتاب سيبويه ، عقيدة ابن الحاجب ، كافية ذوي الأرب في معرفة كلام العرب ، معجم الشيوخ ، المقصد الجليل في علم الخليل ، المكتفي للمبتدي شرح الإيضاح لأبي علي الفارسي ، في النحو ، منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل ، وغير ذلك. (كشف الظنون ٥ / ٦٥٤ ـ ٦٥٥ ، وفيات الأعيان ١ / ٣١٤).

(٣) السكاكي : هو سراج الدين أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر محمد بن علي الخوارزمي الحنفي الأديب ، الشهير بالسكاكي ، ولد سنة ٥٥٥ ه‍ ، وتوفي سنة ٦٢٦ ه‍ ، من تصانيفه : كتاب الطلسم ، فارسي ، مفتاح العلوم ، في النحو والأدب والاشتقاق والمعاني والبيان ، مشهور وعليه شروح وحواش. (كشف الظنون ٦ / ٥٥٣).

٢٣

ثم قال : «وأعني بالتراكيب تراكيب البلغاء».

ولا شك أن معرفة البليغ من حيث هو بليغ متوقفة على معرفة البلاغة.

وقد عرفها في كتابه بقوله : «البلاغة هي بلوغ المتكلم في تأدية المعنى حدّا له اختصاص بتوفية خواصّ التراكيب حقّها ، وإيراد أنواع التشبيه ، والمجاز ، والكناية على وجهها».

فإن أراد بالتراكيب في حد البلاغة تراكيب البلغاء ـ وهو الظاهر ـ فقد جاء الدور ، وإن أراد غيرها فلم يبينه ، على أن قوله «وغيره» مبهم لم يبين مراده به.

ثم المقصود من علم المعاني منحصر في ثمانية أبواب :

أولها : أحوال الإسناد الخبري.

وثانيها : أحوال المسند إليه.

وثالثها : أحوال المسند.

ورابعها : أحوال متعلقات الفعل.

وخامسها : القصر.

وسادسها : الإنشاء.

وسابعها : الفصل والوصل.

وثامنها : الإيجاز والإطناب والمساواة.

ووجه الحصر : أن الكلام إما خبر أو إنشاء ؛ لأنه إما أن يكون لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه ، أو لا يكون لها خارج. الأول الخبر ، والثاني الإنشاء ، ثم الخبر لا بد له من إسناد ومسند إليه ومسند ، وأحوال هذه الثلاثة هي الأبواب الثلاثة الأولى ، ثم المسند قد يكون له متعلّقات إذا كان فعلا ، أو متصلا به ، أو في معناه ، كاسم الفاعل ونحوه ، وهذا هو الباب الرابع ، ثم الإسناد والتعلق كل واحد منهما يكون إما بقصر ، أو بغير قصر ، وهذا هو الباب الخامس ، والإنشاء هو الباب السادس ، ثم الجملة إذا قرنت بأخرى فتكون الثانية إما معطوفة على الأولى ، أو غير معطوفة ، وهذا هو الباب السابع ، ولفظ الكلام البليغ إما زائد على أصل المراد لفائدة ، أو غير زائد عليه ، وهذا هو الباب الثامن.

٢٤

تنبيه

اختلف الناس في انحصار الخبر في الصادق والكاذب

فذهب الجمهور إلى أنه منحصر فيهما ، ثم اختلفوا فقال الأكثر منهم : صدقه مطابقة حكمه للواقع ، وكذبه عدم مطابقة حكمه له. هذا هو المشهور وعليه التعويل.

وقال بعض الناس : صدقه مطابقة حكمه لاعتقاد المخبر صوابا كان أو خطأ ، وكذبه عدم مطابقة حكمه له واحتجّ بوجهين :

أحدهما : أن من اعتقد أمرا فأخبر به ثم ظهر خبره بخلاف الواقع يقال : ما كذب ، ولكنه أخطأ ، كما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت فيمن شأنه كذلك : «ما كذب ولكنه وهم».

وردّ بأن المنفي تعمّد الكذب ، لا الكذب ، بدليل تكذيب الكافر ـ كاليهودي ـ إذا قال : الإسلام باطل ، وتصديقه إذا قال : الإسلام حق ، فقولها : «ما كذب» متأوّل بما كذب عمدا.

الثاني : قوله تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) [المنافقون : الآية ١] كذّبهم في قولهم : (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) [المنافقون : الآية ١] وإن كان مطابقا للواقع ؛ لأنهم لم يعتقدوه.

وأجيب عنه بوجوه :

أحدها : أن المعنى نشهد شهادة واطأت فيها قلوبنا ألسنتنا ، كما يترجم عنه «إنّ» واللام ، وكون الجملة اسمية في قولهم (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) (١) [المنافقون : الآية ١] فالتكذيب في قولهم «نشهد» وادعائهم فيه المواطأة ، لا في قولهم : (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) [المنافقون : الآية ١].

وثانيها : أن التكذيب في تسميتهم إخبارهم شهادة ؛ لأن الإخبار إذا خلا عن المواطأة لم يكن شهادة في الحقيقة.

وثالثها : أن المعنى لكاذبون في قولهم : (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) [المنافقون : الآية ١] عند أنفسهم ؛ لاعتقادهم أنه خبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه.

وأنكر الجاحظ انحصار الخبر في القسمين ، وزعم أنه ثلاثة أقسام : صادق ، وكاذب ، وغير صادق ولا كاذب ، لأن الحكم إما مطابق للواقع مع اعتقاد المخبر لو أو عدمه. وإما غير مطابق مع الاعتقاد أو عدمه ؛ فالأول ـ أي المطابق مع الاعتقاد ـ هو الصادق ، والثالث ـ أي غير المطابق مع الاعتقاد ـ هو الكاذب ، والثاني والرابع ـ أي

٢٥

المطابق مع عدم الاعتقاد ، وغير المطابق مع عدم الاعتقاد ـ كل منهما ليس بصادق ولا كاذب.

فالصدق عنده : مطابقة الحكم للواقع مع اعتقاده. والكذب : عدم مطابقته مع اعتقاده ، وغيرهما ضربان : مطابقته مع عدم اعتقاده ، وعدم مطابقته مع عدم اعتقاده.

واحتج بقوله تعالى : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) [سبأ : الآية ٨] فإنهم حصروا دعوى النبي صلّى الله عليه وسلّم الرسالة في الافتراء والإخبار حال الجنون ، بمعنى امتناع الخلو ، وليس إخباره حال الجنون كذبا ؛ لجعلهم الافتراء في مقابلته ، ولا صدقا ؛ لأنهم لم يعتقدوا صدقه. فثبت أن من الخبر ما ليس بصادق ولا كاذب.

وأجيب عنه بأن الافتراء هو الكذب عن عمد ؛ فهو نوع من الكذب ؛ فلا يمتنع أن يكون الإخبار حال الجنون كذبا أيضا ؛ لجواز أن يكون نوعا آخر من الكذب ، وهو الكذب لا عن عمد ؛ فيكون التقسيم للخبر الكاذب ، لا للخبر مطلقا ، والمعنى افترى أم لم يفتر؟ وعبّر عن الثاني بقوله : (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) [سبأ : الآية ٨] لأن المجنون لا افتراء له.

تنبيه آخر : وهو مما يجب أن يكون على ذكر الطالب لهذا العلم ـ قال السكاكي : ليس من الواجب في صناعة ـ وإن كان المرجع في أصولها وتفاريعها إلى مجرد العقل ـ أن يكون الدخيل فيها كالناشىء عليها في استفادة الذوق منها. فكيف إذا كانت الصناعة مستندة إلى تحكّمات وضعية واعتبارات إلفيّة؟ فلا على الدخيل في صناعة علم المعاني أن يقلّد صاحبه في بعض فتاواه إن فاته الذوق هناك ، إلى أن يتكامل له على مهل موجبات ذلك الذوق.

وكثيرا ما يشير الشيخ عبد القاهر في «دلائل الإعجاز» إلى هذا ، كما ذكر في موضع ما تلخيصه هذا :

اعلم أنه لا يصادف القول في هذا الباب موقعا من السامع ، ولا يجد لديه قبولا ، حتى يكون من أهل الذوق والمعرفة ، وحتى يكون ممن تحدّثه نفسه بأنّ لما نومىء إليه من الحسن أصلا ، فيختلف الحال عليه عند تأمل الكلام ؛ فيجد الأريحيّة تارة ويعرى منها أخرى. وإذا عجّبته تعجب ، وإذا نبهته لموضع المزية انتبه. فأما من كانت الحالان عنده على سواء ، وكان لا يتفقد من أمر النظم إلا الصحة المطلقة ، وإلا إعرابا ظاهرا ، فليكن عندك بمنزلة من عدم الطبع التي يدرك به وزن الشعر ، ويميز به مزاحفة من سالمه ، في أنك لا تتصدّى لتعريفه ؛ لعلمك أنه قد عدم الأداة التي بها يعرف.

٢٦

واعلم أن هؤلاء وإن كانوا هم الآفة العظمى في هذا الباب ، فإنّ من الآفة أيضا من زعم أنه لا سبيل إلى معرفة العلة في شيء مما تعرف المزية فيه ، ولا يعلم إلا أن له موقعا من النفس ، وحظا من القبول ، فهذا بتوانيه في حكم القائل الأول.

واعلم أنه ليس إذا لم يمكن معرفة الكل وجب ترك النظر في الكل ، ولأن تعرف العلة في بعض الصور ، فتجعله شاهدا في غيره ، أحرى من أن تسدّ باب المعرفة على نفسك ، وتعوّدها الكسل والهوينا.

قال الجاحظ : وكلام كثير جرى على ألسنة الناس ، وله مضرة شديدة وثمرة مرّة ، فمن أضر ذلك قولهم : «لم يدع الأول للآخر شيئا» فلو أن علماء كل عصر ـ مذ جرت هذه الكلمة في أسماعهم ـ تركوا الاستنباط لما لم ينته إليهم عمن قبلهم لرأيت العلم مختلا.

القول في أحوال الإسناد الخبري

من المعلوم لكل عاقل أن قصد المخبر بخبره إفادة المخاطب إما نفس الحكم كقولك : «زيد قائم» لمن لا يعلم أنه قائم ، ويسمى هذا فائدة الخبر ، وإما كون المخبر عالما بالحكم ، كقولك لمن زيد عنده ، ولا يعلم أنك تعلم ذلك : «زيد عندك» ويسمى هذا لازم فائدة الخبر.

قال السكاكي : والأولى بدون هذه تمتنع ، وهذه بدون الأولى لا تمتنع ، كما هو حكم اللازم المجهول المساواة ، أي يمتنع أن لا يحصل العلم الثاني من الخبر نفسه عند حصول الأول منه ، لامتناع حصول الثاني قبل حصول الأول ، مع أن سماع الخبر من المخبر كاف في حصول الثاني منه ، ولا يمتنع أن لا يحصل الأول من الخبر نفسه عند سماع الثاني منه ؛ لجواز حصول الأول قبل الثاني ، وامتناع حصول الحاصل.

وقد ينزّل العالم بفائدة الخبر ولازم فائدته منزلة الجاهل لعدم جريه على موجب العلم ؛ فيلقى إليه الخبر كما يلقى إلى الجاهل بأحدهما.

قال السكاكي : وإن شئت فعليك بكلام رب العزة : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [البقرة : الآية ١٠٢] كيف تجد صدره يصف أهل الكتاب بالعلم على سبيل التوكيد القسميّ ، وآخره ينفيه عنهم ، حيث لم يعملوا بعلمهم؟! ونظيره في النفي والإثبات : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) [الأنفال : الآية ١٧] ، وقوله تعالى : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) (١٢) [التوبة : الآية ١٢].

٢٧

هذا لفظه ، وفيه إيهام أن الآية الأولى من أمثلة تنزيل العالم بفائدة الخبر ولازم فائدته منزلة الجاهل بهما ، وليست منها ، بل هي من أمثلة تنزيل العالم بالشيء منزلة الجاهل به ، لعدم جريه على موجب العلم ، والفرق بينهما ظاهر.

وإذا كان غرض المخبر بخبره إفادة المخاطب أحد الأمرين فينبغي أن يقتصر من التركيب على قدر الحاجة.

فإن كان المخاطب خالي الذهن من الحكم بأحد طرفي الخبر على الآخر ، والتردد فيه ؛ استغنى عن مؤكدات الحكم كقولك : «جاء زيد ، وعمرو ذاهب» فيتمكن في ذهنه لمصادفته إياه خاليا.

وإن كان متصوّر الطرفين ، مترددا في إسناد أحدهما إلى الآخر ، طالبا له ؛ حسن تقويته بمؤكد ، كقولك : «لزيد عارف» أو «إن زيدا عارف».

وإن كان حاكما بخلافه وجب توكيده بحسب الإنكار ؛ فتقول : «إني صادق» لمن ينكر صدقك ، ولا يبالغ في إنكاره. و «إني لصادق» لمن يبالغ في إنكاره.

وعليه قوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) (١٦) [يس : الآيات ١٣ ـ ١٦] حيث قال في المرة الأولى : (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) [يس : الآية ١٤] وفي الثانية : (إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) [يس : الآية ١٦].

ويؤيد ما ذكرناه جواب أبي العباس (١) للكندي (٢) عن قوله : إني أجد في كلام

__________________

(١) أبو العباس المبرد : هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر بن عمير بن ثمالة الأزدي البصري ، أبو العباس المعروف بالمبرد الأديب النحوي اللغوي الفقيه ، ولد سنة ٢١٠ ه‍ ، وتوفي سنة ٢٨٥ ه‍ ، له من التصانيف : احتجاج القراء ، أدب الجليس ، أسماء الدواهي عند العرب ، إعراب القرآن ، الحث على الأدب والصدق ، الرد على سيبويه ، الرسالة الكاملة ، شرح شواهد سيبويه ، شرح الفصيح في اللغة ، شرح المقدمة له ، صفات الله جل وعلا ، ضرورة الشعر ، طبقات النحاة البصريين ، قواعد الشعر ، الكامل في اللغة ، كتاب الاشتقاق ، كتاب الأنواء والأزمنة ، كتاب البلاغة ، كتاب التصريف ، كتاب التعازي ، كتاب الحروف ، في معاني القرآن ، كتاب الخط والهجاء ، كتاب الروضة ، كتاب الرياض ، كتاب الزيادة المنتزعة من سيبويه ، كتاب العبارة ، كتاب العروض ، كتاب الفضل والمفضول ، كتاب القوافي ، كتاب المذكر والمؤنث ، كتاب الناطق ، كتاب الوشي ، كتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه ، مدخل إلى سيبويه ، مدخل إلى النحو ، معاني القرآن ، معنى كتاب الأوسط للأخفش ، معنى كتاب سيبويه ، المقتضب في الخطب ، مقدمة في النحو ، المقصور والممدود ، نسب عدنان وقحطان. (كشف الظنون ٦ / ٢٠ ـ ٢١).

(٢) الكندي : هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح بن عمران بن إسماعيل بن محمد بن ـ

٢٨

العرب حشوا ، يقولون : «عبد الله قائم» و «إن عبد الله قائم» و «إن عبد الله لقائم» والمعنى واحد ، بأن قال : بل المعاني مختلفة ؛ فـ «عبد الله قائم» إخبار عن قيامه ، و «إن عبد الله قائم» جواب عن سؤال سائل ، و «إن عبد الله لقائم» جواب عن إنكار منكر.

ويسمى النوع الأول من الخبر ابتدائيا ، والثاني طلبيّا ، والثالث إنكاريّا ، وإخراج الكلام على هذه الوجوه إخراجا على مقتضى الظاهر.

وكثيرا ما يخرج على خلافه ، فينزّل غير السائل منزلة السائل ؛ إذا قدم إليه ما يلوّح له بحكم الخبر ؛ فيستشرف له استشراف المتردد الطالب ، كقوله تعالى : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) [هود : الآية ٣٧] ، وقوله : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) [يوسف : الآية ٥٣] ، وقول بعض العرب :

فغنّها ، وهي لك الفداء

إنّ غناء الإبل الحداء (١)

وسلوك هذه الطريقة شعبة من البلاغة فيها دقة وغموض ، وروي عن الأصمعي (٢) أنه قال : كان أبو عمرو بن العلاء (٣) وخلف الأحمر (٤) يأتيان بشّارا (٥) ، فيسلمان عليه

__________________

الأشعث الكندي البصري ثم البغدادي ، المعروف بالكندي فيلسوف العرب وأحد أبناء ملوكها ، كان عارفا بالطب والرياضيات والمنطق وسائر العلوم. ولد بالبصرة ، وتوفي ببغداد سنة ٢٦٠ ه‍ له المئات من المصنفات. (انظر كشف الظنون ٦ / ٥٣٧ ـ ٥٤٣).

(١) الرجز بلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٩٦٤ ، ١٠٤٧.

(٢) الأصمعي : هو عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع الأصمعي الباهلي ، الإمام أبو سعيد البصري الأديب اللغوي ، ولد سنة ١٢٣ ه‍ ، وتوفي بالبصرة سنة ٢١٥ ه‍ ، له من التصانيف : الأحناس ، في أصول الفقه ، أسماء الخمر ، أصول الكلام ، الأضداد في اللغة ، خلق الإنسان ، خلق الفرس ، كتاب الإبل ، كتاب الأبواب ، كتاب الأخبية والبيوت ، كتاب الأراجيز ، كتاب الاشتقاق ، كتاب الأصوات ، كتاب فعل وأفعل ، كتاب الألفاظ ، كتاب الأمثال ، كتاب الأنواء ، كتاب الأوقات ، كتاب جزيرة العرب ، كتاب الخراج ، كتاب الخيل ، كتاب الدلو ، كتاب الرحل ، كتاب السرج واللجام والشوى والنعال ، كتاب السلاح ، كتاب الشاة والغنم ، كتاب الصفات ، كتاب غريب الحديث والقرآن ، كتاب غريب الحديث والكلام الوحشي ، كتاب الفتوح ، كتاب الفرق ، كتاب القلب والإبدال ، كتاب اللغات ، كتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه ، كتاب ما تكلم به العرب فكثر في أفواه الناس ، كتاب المذكر والمؤنث ، كتاب المصادر ، كتاب معاني الشعر ، كتاب المقصور والممدود ، كتاب مياه العرب ، كتاب الميسر والقداح ، كتاب النبات ، كتاب النحل والعسل ، كتاب النسب ، كتاب النوادر ، كتاب نوادر الأعراب ، كتاب الوحوش ، كتاب الهمزة وتحقيقها ، وغير ذلك. (كشف الظنون ٥ / ٦٢٣ ـ ٦٢٤).

(٣) هو أبو عمرو بن العلاء ، زبان بن العلاء بن عمار بن الريان المازني البصري ، أكثر القراء السبعة شيوخا ، أخذ القراءة عن أنس بن مالك ، وحميد بن قيس الأعرج ، وسعيد بن جبير ، وشيبة بن نصاح ، وأبي العالية ، وعاصم بن أبي النجود ، وعبد الله بن كثير المكي ، وعطاء ، ومجاهد ، وابن ـ ـ

٢٩

بغاية الإعظام ، ثم يقولان : يا أبا معاذ ، ما أحدثت؟ فيخبرهما وينشدهما ، ويكتبان عنه متواضعين له ، حتى يأتي وقت الزوال ، ثم ينصرفان ، فأتياه يوما فقالا : ما هذه القصيدة التي أحدثتها في ابن قتيبة (١)؟ قال : هي التي بلغتكما. قالا : بلغنا أنك أكثرت فيها من الغريب ، قال : نعم ، إن ابن قتيبة يتباصر بالغريب ، فأحببت أن أورد عليه ما لا يعرف ، قالا : فأنشدناها يا أبا معاذ ، فأنشدهما :

بكّرا صاحبيّ قبل الهجير

إنّ ذاك النجاح في التبكير (٢)

حتى فرغ منها ، فقال له خلف : لو قلت يا أبا معاذ مكان إن ذاك النجاح : بكّرا فالنجاح ؛ كان أحسن ، فقال بشار : إنما بنيتها أعرابيّة وحشية ، فقلت : إن ذاك النجاح ، كما يقول الأعراب البدويون ، ولو قلت : بكرا فالنجاح ؛ كان هذا كلام المولّدين ، ولا يشبه ذلك الكلام ، ولا يدخل في معنى القصيدة ، قال : فقام خلف ، فقبل بين عينيه ؛ فهل كان ما جرى بين خلف وبشار بمحضر من أبي عمرو بن العلاء ـ وهم من فحولة هذا الفن ـ إلا للطف المعنى في ذلك وخفائه؟

__________________

محيصن ، وغيرهم. وروى عنه كثير منهم عبد الله بن المبارك ، ويحيى بن المبارك اليزيدي وغيرهما ، ولد بمكة سنة ٦٨ ه‍ ، وتوفي سنة ١٥٤ ه‍. (شذرات الذهب ١ / ٢٣٧ ، غاية النهاية ١ / ٢٨٨).

خلف : هو خلف بن حيان ، أبو محرز البصري المعروف بخلف الأحمر ، توفي سنة ١٨٠ ه‍ ، صنف كتاب خيال العرب وما قيل فيه من الشعر. (كشف الظنون ٥ / ٣٤٨ ، وانظر ترجمته في :

مراتب النحويين ٤٦ ، طبقات النحويين ١٦١ ، نزهة الألباء ٣٧ ، إنباه الرواة ١ / ٣٤٨ ، بغية الوعاة ٢٤٢).

هو أبو معاذ ، بشار بن برد ، شاعر ، راجز ، شجاع ، خطيب ، صاحب منثور ومزدوج ، له رسائل معروفة ، هكذا وصفه الجاحظ ، أصله من طخارستان من سبي المهلب بن أبي صفرة ، يلقب بالمرعّث ، لقب بذلك لأنه كانت في أذنه حلقة في صغره (والمرعّث : الذي في أذنه رعاث ، وهو جمع رعثة وهي القرط) ، رمي بشار بن برد بالزندقة ، ويروى أنه كان يفضّل النار على الأرض ، ويصوب رأي إبليس في امتناعه من السجود لآدم ، ونسب إليه القول :

الأرض مظلمة والنار مشرقة

والنار معبود مذ كانت النار

فأمر المهدي العباسي بضربه ، فضرب سبعين سوطا ، فمات من ذلك سنة ١٦٨ ه‍ ، وقيل سنة ١٦٧ ه‍ ، وكان قد هجا المهدي (معجم الشعراء المخضرمين والأمويين ص ٦٠ ـ ٦١).

(١) ابن قتيبة : ليس هو ابن قتيبة الدينوري ، لأنه لم يعاصر الأعلام السابق ذكرهم ، فقد توفي ابن قتيبة الدينوري سنة ٢٧٦ ه‍ ، والفارق بينهم مائة سنة على الأقل. وهو سلم بن قتيبة والي أبي جعفر المنصور على البصرة.

(٢) البيت من الخفيف ، وهو في ديوان بشار ص ١٢١ ، (طبعة دار الثقافة) ، ودلائل الإعجاز ص ٢٧٢ ، ٣١٦ ، ٣٢٣ ، والإشارات والتنبيهات للجرجاني ص ٣١ ، والأغاني ٣ / ١٨٥.

٣٠

وكذلك ينزّل غير المنكر منزلة المنكر ؛ إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار ، كقوله :

جاء شقيق عارضا رمحه

إنّ بني عمّك فيهم رماح (١)

فإن مجيئه هكذا ، مدلّا بشجاعته ، قد وضع رمحه عارضا ؛ دليل على إعجاب شديد منه ، واعتقاد أنه لا يقوم إليه من بني عمه أحد ، كأنهم كلهم عزل ليس مع أحد منهم رمح.

وكذلك ينزّل المنكر منزلة غير المنكر ، إذا كان معه ما إن تأمّله ارتدع عن الإنكار ، كما يقال لمنكر الإسلام : «الإسلام حق» وعليه قوله تعالى في حق القرآن : (لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : الآية ٢].

ومما يتفرع على هذين الاعتبارين قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) (١٦) [المؤمنون : الآيتان ١٥ ، ١٦] أكد إثبات الموت تأكيدين ـ وإن كان مما لا ينكر ـ لتنزيل المخاطبين منزلة من يبالغ في إنكار الموت ؛ لتماديهم في الغفلة ، والإعراض عن العمل لما بعده ، ولهذا قيل : «ميّتون» دون «تموتون» كما سيأتي الفرق بينهما ، وأكد إثبات البعث تأكيدا واحدا ـ وإن كان مما ينكر ـ لأنه لما كانت أدلته ظاهرة كان جديرا بأن لا ينكر. بل إما أن يعترف به ، أو يتردد فيه ؛ فنزّل المخاطبون منزلة المترددين ، تنبيها لهم على ظهور أدلته ، وحثّا على النظر فيها ، ولهذا جاء «تبعثون» على الأصل.

هذا كله اعتبارات الإثبات ، وقس عليه اعتبارات النفي ، كقولك :

«ليس زيد ، أو ما زيد ؛ منطلقا ، أو بمنطلق» و «والله ليس زيد ، أو ما زيد ، منطلقا ، أو بمنطلق» و «ما ينطلق ، أو ما إن ينطلق ؛ زيد» ، و «ما كان زيد ينطلق» و «ما كان زيد لينطلق» و «لا ينطلق زيد» و «لن ينطلق زيد» و «والله ما ينطلق ، أو ما إن ينطلق ؛ زيد».

فصل

الحقيقة العقلية والمجاز العقلي

الإسناد منه حقيقة عقلية ، ومنه مجاز عقلي.

أما الحقيقة فهي إسناد الفعل ، أو معناه ، إلى ما هو له عند المتكلم في الظاهر

__________________

(١) البيت من السريع ، وهو لحجل بن نضلة الباهلي في دلائل الإعجاز ص ٣٠٤ ، ٣١٢ ، والمصباح لبدر الدين بن مالك (٦).

٣١

والمراد بمعنى الفعل نحو المصدر ، واسم الفاعل.

وقولنا : «في الظاهر» ليشمل ما لا يطابق اعتقاده مما يطابق الواقع ، وما لا يطابقه ، فهي أربعة أضرب :

أحدها : ما يطابق الواقع واعتقاده ، كقول المؤمن : «أنبت الله البقل ، وشفى الله المريض».

والثاني : ما يطابق الواقع دون اعتقاده ، كقول المعتزليّ لمن لا يعرف حاله وهو يخفيها منه : «خالق الأفعال كلها هو الله تعالى».

والثالث : ما يطابق اعتقاده دون الواقع ، كقول الجاهل : «شفى الطبيب المريض» معتقدا شفاء المريض من الطبيب ، ومنه قوله تعالى حكاية عن بعض الكفرة : (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية : الآية ٢٤] ولا يجوز أن يكون مجازا والإنكار عليهم من جهة ظاهر اللفظ ؛ لما فيه من إيهام الخطأ ، بدليل قوله تعالى عقيبه : (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) [الجاثية : الآية ٢٤] والمتجوّز المخطىء في العبارة لا يوصف بالظن ، وإنما الظّانّ من يعتقد أن الأمر على ما قاله.

والرابع : ما لا يطابق شيئا منهما ، كالأقوال الكاذبة التي يكون القائم عالما بحالها دون المخاطب.

وأما المجاز ؛ فهو إسناد الفعل ، أو معناه ، إلى ملابس له ، غير ما هو له ، بتأوّل.

وللفعل ملابسات شتى ، يلابس الفاعل ، والمفعول به ، والمصدر ، والزمان ، والمكان ، والسبب.

فإسناده إلى الفاعل ـ إذا كان مبنيا له ـ حقيقة كما مر ، وكذا إلى المفعول إذا كان مبنيا له ، وقولنا : «ما هو له» يشملهما ، وإسناده إلى غيرهما ـ لمضاهاته لما هو له في ملابسة الفعل ـ مجاز ، كقولهم في المفعول به : (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [القارعة : الآية ٧] و (ماءٍ دافِقٍ) [الحاقّة : الآية ٢١] وفي عكسه «سيل مفعم» وفي المصدر «شعر شاعر» وفي الزمان «نهاره صائم» و «ليله قائم» وفي المكان «طريق سائر» و «نهر جار» وفي السبب «بنى الأمير المدينة» وقال :

إذا ردّ عافي القدر من يستعيرها (١)

__________________

(١) صدر البيت :

فلا تسأليني واسألي ما خليقتي

والبيت من الطويل ، وهو لمضرس الأسدي في لسان العرب (عفا) ، وتاج العروس (عفا) ، ـ

٣٢

وقولنا : «بتأوّل» يخرج نحو قول الجاهل : «شفى الطبيب المريض» ؛ فإن إسناده الشفاء إلى الطبيب ليس بتأوّل.

ولهذا لم يحمل نحو قول الشاعر الحماسيّ :

أشاب الصغير وأفنى الكبي

ر كرّ الغداة ؛ ومرّ العشي (١)

على المجاز ، ما لم يعلم أو يظنّ أن قائله لم يرد ظاهره.

كما استدلّ على أن إسناد «ميّز» إلى «جذب الليالي» في قول أبي النّجم (٢) :

قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي

عليّ ذنبا كله لم أصنع

من أن رأت رأسي كرأس الأصلع

ميّز عنه قنزعا عن قنزع

جذب الليالي : أبطئي ، أو أسرعي

مجاز بقوله عقيبه :

أفناه قيل الله للشمس : اطلعي

حتى إذا واراك أفق فارجعي

وسمّي الإسناد في هذين القسمين من الكلام عقليا ؛ لاستناده إلى العقل ، دون الوضع ؛ لأن إسناد الكلمة شيء يحصل بقصد المتكلم ، دون واضع اللغة ، فلا يصير «ضرب» خبرا عن «زيد» بواضع اللغة ، بل بمن قصد إثبات الضرب فعلا له ، وإنما الذي يعود إلى واضع اللغة أن «ضرب» لإثبات الضرب لا لإثبات الخروج ، وأنه لإثباته في زمان ماض ، وليس لإثباته في زمان مستقبل ، فأما تعيين من ثبت له ، فإنما يتعلق بمن أراد ذلك من المخبرين.

ولو كان لغويا لكان حكمنا بأنه مجاز في مثل قولنا : «خطّ أحسن مما وشّى الرّبيع» من جهة أن الفعل لا يصح إلا من الحي القادر ـ حكما بأن اللغة هي التي أوجبت أن

__________________

وللكميت في أساس البلاغة (عفو) ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في لسان العرب (فور) ، ومقاييس اللغة ٤ / ٥٧ ، وتهذيب اللغة ٣ / ٢٢٨ ، وأساس البلاغة (زبن).

(١) البيت من المتقارب ، وهو للصلتان العبدي في المصباح لابن مالك ص ١٤٤ ، وأسرار البلاغة ص ٢٤٤.

(٢) الرجز لأبي النجم في تلخيص الشواهد ص ٢٨١ ، وخزانة الأدب ١ / ٣٥٩ ، والدرر ٢ / ١٣ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٤ ، ٤٤١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٤٤ ، وشرح المفصل ٦ / ٩٠ ، والكتاب ١ / ٨٥ ، والمحتسب ١ / ٢١١ ، ومعاهد التنصيص ١ / ١٤٧ ، ومغني اللبيب ١ / ٢٠١ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢٢٤ ، وتاج العروس (خير) ، وبلا نسبة في الأغاني ١٠ / ١٧٦ ، وخزانة الأدب ٣ / ٢٠ ، ٦ / ٢٧٢ ، ٢٧٣ ، والخصائص ٢ / ٦١ ، وشرح المفصل ٢ / ٣٠ ، والكتاب ١ / ١٢٧ ، ١٣٧ ، ١٤٦ ، والمقتضب ٤ / ٢٥٢ ، وهمع الهوامع ١ / ٩٧.

٣٣

يختص الفعل بالحي القادر ، دون الجماد ، وذلك مما لا يشك في بطلانه.

وقال السكاكي : «الحقيقة العقلية هي الكلام المفاد به ما عند المتكلم من الحكم فيه».

وقال : وإنما قلت : «ما عند المتكلم» دون أن أقول : «ما عند العقل» ليتناول كلام الجاهل إذا قال : «شفى الطبيب المريض» رائيا شفاء المريض من الطبيب ، حيث عدّ منه حقيقة ، مع أنه غير مفيد لما في العقل من الحكم فيه.

وفيه نظر ؛ لأنه غير مطرد ، لصدقه على ما لم يكن المسند فيه فعلا ، ولا متصلا به ، كقولنا : «الإنسان حيوان» مع أنه لا يسمّى حقيقة ولا مجازا ، ولا منعكس ، لخروج ما يطابق الواقع دون اعتقاد المتكلم ، وما لا يطابق شيئا منهما منه ، مع كونهما حقيقتين عقليتين كما سبق.

وقال : «المجاز العقلي هو الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه لضرب من التأوّل ، إفادة للخلاف ، لا بواسطة وضع ، كقولك : أنبت الربيع البقل ، وشفى الطبيب المريض ، وكسا الخليفة الكعبة».

قال : وإنما قلت : خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه ، دون أن أقول : خلاف ما عند العقل ؛ لئلا يمتنع طرده بما إذا قال الدهري ـ عن اعتقاد جهل ـ أو جاهل غيره : أنبت الربيع البقل ، رائيا إنباته من الربيع ، فإنه لا يسمى كلامه مجازا ، وإن كان بخلاف العقل في نفس الأمر ، واحتجّ ببيت الحماسة وقول أبي النجم على ما تقدم.

ثم قال : ولئلا يمتنع عكسه بمثل «كسا الخليفة الكعبة» و «هزم الأمير الجند» فليس في العقل امتناع أن يكسو الخليفة نفسه الكعبة ، ولا أن يهزم الأمير وحده الجند ، ولا يقدح ذلك في كونهما من المجاز العقلي.

وإنما قلت لضرب من التأوّل ؛ ليحترز به عن الكذب ، فإنه لا يسمى مجازا ، مع كونه كلاما مفيدا خلاف ما عند المتكلم.

وإنما قلت : إفادة للخلاف لا بواسطة وضع ؛ ليحترز به عن المجاز اللغوي في صورة ، وهي إذا ادّعي أن «أنبت» موضوع لاستعماله في القادر المختار ، أو وضع لذلك.

وفيه نظر ؛ لأنا لا نسلم بطلان طرده بما ذكر ؛ لخروجه بقوله : «لضرب من التأول» ولا بطلان عكسه بما ذكر ؛ إذ المراد بخلاف ما عند العقل خلاف ما في نفس الأمر.

وفي كلام الشيخ عبد القاهر إشارة إلى ذلك ؛ حيث عرّف الحقيقة العقلية بقوله :

٣٤

كل جملة وضعتها على أن الحكم المفاد بها على ما هو عليه في العقل واقع موقعه ، فإن قوله : «واقع موقعه» معناه في نفس الأمر وهو بيان لما قبله.

وكذا في كلام الزمخشري (١) حيث عرّف المجاز العقلي بقوله : أن يسند الفعل إلى شيء يتلبّس بالذي هو في الحقيقة له ، فإن قوله : «في الحقيقة» معناه في نفس الأمر ، ونحو «كسا الخليفة الكعبة» ـ إذا كان الإسناد فيه مجازا ـ كذلك.

ثم القول بأن الفعل موضوع لاستعماله في القادر ؛ ضعيف ، وهو معترف بضعفه ، وقد رده في كتابه بوجوه ، منها أن وضع الفعل لاستعماله في القادر قيد لم ينقل عن واحد من رواة اللغة ، وترك القيد دليل في العرف على الإطلاق ، فقوله : «إفادة للخلاف لا بوساطة وضع» لا حاجة إليه ، وإن ذكر فينبغي أن لا يذكر إلا بعد ذكر الحد على المذهب المختار ، على أن تمثيله بقول الجاهل : «أنبت الربيع البقل» ينافي هذا الاحتراز.

تنبيه : قد تبين بما ذكرناه أن المسمّى بالحقيقة العقلية ، والمجاز العقلي ـ على ما ذكره السكاكي ـ هو الكلام لا الإسناد ، وهذا يوافق ظاهر كلام الشيخ عبد القاهر في مواضع من دلائل الإعجاز.

وعلى ما ذكرناه هو الإسناد ، لا الكلام ، وهذا ظاهر ما نقله الشيخ أبو عمرو بن الحاجب (٢) رحمه الله عن الشيخ عبد القاهر ، وهو قول الزمخشري في الكشاف ، وقول غيره ، وإنما اخترناه لأن نسبة المسمى حقيقة أو مجازا إلى العقل على هذا لنفسه بلا وساطة شيء ، وعلى الأول لاشتماله على ما ينتسب إلى العقل ، أعني الإسناد.

ثم المجاز العقلي باعتبار طرفيه ـ أعني المسند والمسند إليه ـ أربعة أقسام لا غير :

__________________

(١) الزمخشري : هو العلامة جار الله ، أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن أحمد بن عمر الأديب النحوي اللغوي الفقيه الشافعي الشهير بالزمخشري ، ولد سنة ٤١٧ ه‍ ، وتوفي بجرجانية خوارزم سنة ٥٣٨ ه‍ ، من تصانيفه : أساس البلاغة ، أمالي ، جواهر اللغة ، ديوان الرسائل ، ديوان شعر ، الرائض في الفرائض ، ربيع الأبرار وفصوص الأخبار ، في الأدب والنوادر ، شرح كتاب سيبويه ، صحيح العربية ، شقائق النعمان في مناقب النعمان الإمام أبي حنيفة ، الفائق في غريب الحديث ، فصوص الأخبار ، فصوص النصوص ، القسطاس في العروض ، المستقصى في الأمثال ، معجم الجدود ، المفصل في النحو ، المقامات ، نوابغ الكلم ، وغير ذلك. (كشف الظنون ٦ / ٤٠٢ ـ ٤٠٣).

(٢) أبو عمرو بن الحاجب : تقدمت ترجمته.

٣٥

لأنهما إما حقيقتان ، كقولنا : «أنبت الربيع البقل» وعليه قوله :

فنام ليلي وتجلّى همّي (١)

وقوله : [جرير]

وشيّب أيام الفراق مفارقي (٢)

وقوله :

ونمت وما ليل المطيّ بنائم (٣)

وإما مجازان ، كقولنا : «أحيا الأرض شباب الزمان».

وإما مختلفان ، كقولنا : «أنبت البقل شباب الزمان» وكقولنا : «أحيا الأرض الربيع» وعليه قول الرجل لصاحبه : «أحيتني رؤيتك» أي : آنستني وسرّتني ، فقد جعل الحاصل بالرؤية من الأنس والمسرّة حياة ، ثم جعل الرؤية فاعلة له ، ومثله قول أبي الطّيّب :

وتحيي له المال الصّوارم والقنا

ويقتل ما تحيي التبسّم والجدا (٤)

جعل الزيادة والوفور حياة للمال ، وتفريقه في العطاء قتلا له ، ثم أثبت الإحياء فعلا للصوارم ، والقتل فعلا للتبسّم ، مع أن الفعل لا يصح منهما ، ونحوه قولهم : «أهلك الناس الدينار والدرهم» جعلت الفتنة إهلاكا. ثم أثبت الإهلاك فعلا للدينار والدرهم.

وهو في القرآن كثير ، كقوله تعالى : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) [الأنفال : الآية ٢] نسبت الزيادة التي هي فعل الله إلى الآيات ، لكونها سببا فيها. وكذا قوله تعالى : (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ) [فصّلت : الآية ٢٣].

ومن هذا الضرب قوله : (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ) [القصص : الآية ٤] فإن الفاعل غيره ، ونسب الفعل إليه ؛ لكونه الآمر به.

__________________

(١) الرجز لرؤبة في ديوانه ص ١٤٢ ، والمحتسب ٢ / ١٨٤ ، ودلائل الإعجاز ص ٢٩٤ ، ٤٦٣ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٨ / ٢٠٢ ، والمقتضب ٣ / ١٠٥.

(٢) الشعر من الطويل ، وهو في ديوان جرير ٨٧٦.

(٣) صدر البيت :

لقد لمتنا يا أم غيلان في السّرى

والبيت من الطويل ، وهو لجرير في ديوانه ص ٩٩٣ ، وخزانة الأدب ١ / ٤٦٥ ، ٨ / ٢٠٢ ، والكتاب ١ / ١٦٠ ، ولسان العرب (ربح) ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٨ / ٦٠ ، والإنصاف ١ / ٢٤٣ ، وتخليص الشواهد ص ٤٣٩ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ٢٢٢ ، والمحتسب ٢ / ١٨٤ ، والمقتضب ٣ / ١٠٥ ، ٤ / ٣٣١.

(٤) البيت من الطويل ، ولم أجده في ديوان أبي الطيب المتنبي ، وهو في أسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني ص ٣٢١.

٣٦

وكقوله : (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما) [الأعراف : الآية ٢٧] نسب النزغ ـ الذي هو فعل الله تعالى ـ إلى إبليس ، لأن سببه أكل الشجرة ، وسبب أكلها وسوسته ومقاسمته إياهما إنه لهما لمن الناصحين.

وكذا قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) (٢٨) [إبراهيم : الآية ٢٨] نسب الإحلال الذي هو فعل الله إلى أكابرهم ، لأن سببه كفرهم ، وسبب كفرهم أمر أكابرهم إياهم بالكفر.

وكقوله تعالى : (يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) [المزمّل : الآية ١٧] نسب الفعل إلى الظّرف ؛ لوقوعه فيه ، كقولهم : «نهاره صائم».

وكقوله تعالى : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) (٢) [الزّلزلة : الآية ٢].

وهو غير مختص بالخبر ، بل يجري في الإنشاء ، كقوله تعالى : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً) [غافر : الآية ٣٦] ، وقوله : (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً) [القصص : الآية ٣٨] ، وقوله : (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) [طه : الآية ١١٧].

ولا بد من قرينة إما لفظية ، كما سبق في قول أبي النجم ؛ أو غير لفظي ، كاستحالة صدور المسند من المسند إليه المذكور ، أو قيامه به عقلا ، كقولك : محبتك جاءت بي إليك» أو عادة ، كقولك : «هزم الأمير الجند» و «كسا الخليفة الكعبة» و «بنى الوزير القصر» وكصدور الكلام من الموحّد في مثل قوله : «أشاب الصغير» البيت.

واعلم أنه ليس كل شيء يصلح لأن تتعاطى فيه المجاز العقلي بسهولة ، بل تجدك في كثير من الأمر تحتاج إلى أن تهيّىء الشيء ، وتصلحه له ، بشيء تتوخّاه في النظم ، كقول من يصف جملا :

تجوب له الظلماء عين كأنها

زجاجة شرب غير ملأى ولا صفر (١)

يريد أنه يهتدي بنور عينه في الظلماء ، ويمكنه بها أن يخرقها ، ويمضي فيها ، ولولاها لكانت الظلماء كالسّد الذي لا يجد السائر شيئا يفرّجه به ، ويجعل لنفسه فيه سبيلا ، فلولا أنه قال : «تجوب له» فعلّق «له» بـ «تجوب» لما تبين جهة التجوّز في جعل الجوب فعلا للعين كما ينبغي ، لأنه لم يكن حينئذ في الكلام دليل على أن اهتداء صاحبها في الظّلمة ومضيّه فيها بنورها ، وكذلك لو قال : «تجوب له الظلماء عينه» لم يكن له هذا الموقع ، ولا نقطع السّلك ؛ من حيث كان يعييه حينئذ أن يصف العين بما وصفها به.

__________________

(١) البيت من الطويل ، ولم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٣٧

واعلم أن الفعل المبنيّ للفاعل في المجاز العقلي واجب أن يكون له فاعل في التقدير ، إذا أسند إليه صار الإسناد حقيقة ؛ لما يشعر بذلك تعريفه كما سبق.

وذلك قد يكون ظاهرا ، كما في قوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة : الآية ١٦] فما ربحوا في تجارتهم.

وقد يكون خفيا ، لا يظهر إلا بعد نظر وتأمل ، كما في قولك : «سرّتني رؤيتك» أي : سرني الله وقت رؤيتك ، كما تقول : «أصل الحكم في أنبت الربيع البقل» أنبت الله البقل وقت الربيع ، وفي «شفى الطبيب المريض» شفى الله المريض عند علاج الطبيب ، وكما في قولك : «أقدمني بلدك حقّ لي على فلان» أي : أقدمتني نفسي بلدك لأجل حقّ لي على فلان ، أي : قدمت لذلك ، ونظيره «محبتك جاءت بي إليك» أي : جاءت بي نفسي إليك لمحبتك ، أي : جئتك لمحبتك ، وإنما قلنا : «إن الحكم فيهما مجاز» لأن الفعلين فيهما مسندان إلى الداعي ، والداعي لا يكون فاعلا ، وكما في قول الشاعر :

وصيّرني هواك ، وبي

لحيني يضرب المثل (١)

أي : وصيرني الله لهواك وحالي هذه ، أي أهلكني الله ابتلاء ، بسبب هواك. وكما في قول الآخر وهو أبو نواس :

يزيدك وجهه حسنا

إذا ما زدته نظرا (٢)

أي يزيدك وجهه حسنا في وجهه ـ لما أودعه من دقائق الجمال ـ متى تأمّلت.

وأنكر السكاكي وجود المجاز العقلي في الكلام ، وقال : الذي عندي نظمه في سلك الاستعارة بالكناية ، بجعل الربيع استعارة بالكناية عن الفاعل الحقيقي بواسطة المبالغة في التشبيه ـ على ما عليه مبنى الاستعارة ، كما سيأتي ـ وجعل نسبة الإثبات إليه قرينة للاستعارة ، وبجعل الأمير المدبّر لأسباب هزيمة العدوّ استعارة بالكناية عن الجند الهازم ، وجعل نسبة الهزم إليه قرينة للاستعارة.

وفيما ذهب إليه نظر ، لأنه يستلزم أن يكون المراد بـ «عيشة» في قوله تعالى : (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) (٢١) [الحاقّة : الآية ٢١] صاحب العيشة ، لا العيشة ، وب «ماء» في قوله تعالى : (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) (٦) [الطّارق : الآية ٦] فاعل الدفق ، لا المنيّ ؛ لما سيأتي من تفسيره للاستعارة بالكناية.

__________________

(١) البيت لابن البواب علي بن هلال الكاتب في دلائل الإعجاز ص ٩١ ، ولمحمد بن أبي محمد اليزيدي في الأغاني ٢٠ / ٢٥٦.

(٢) البيت من مجزوء الوافر ، وهو بلا نسبة في نهاية الإيجاز ص ١٧٧.

٣٨

وأن لا تصح الإضافة في نحو قولهم : «فلان نهاره صائم وليله قائم» لأن المراد بالنهار ـ على هذا ـ فلان نفسه ، وإضافة الشيء إلى نفسه لا تصح.

وأن لا يكون الأمر بالإيقاد على الطين في إحدى الآيتين ـ وبالبناء ـ فيهما ـ لهامان ، مع أن النداء له.

وأن يتوقف جواز التركيب في نحو قولهم : «أنبت الربيع البقل ، وسرتني رؤيتك» على اذن الشرعي ، لأن أسماء الله تعالى توقيفيّة.

وكل ذلك منتف ظاهر الانتفاء.

ثمّ ما ذكره منقوض بنحو قولهم : «فلان نهاره صائم» فإن الإسناد فيه مجاز ، ولا يجوز أن يكون النهار استعارة بالكناية عن فلان ؛ لأن ذكر طرفي التشبيه يمنع من حمل الكلام على الاستعارة ، ويوجب حمله على التشبيه ، ولهذا عدّ نحو قولهم : «رأيت بفلان أسدا ، ولقيني منه أسد» تشبيها لا استعارة ، كما صرح السكاكي أيضا بذلك في كتابه.

تنبيه : إنما لم نورد الكلام في الحقيقة والمجاز العقليين في علم البيان ، كما فعل السكاكي ومن تبعه ؛ لدخوله في تعريف علم المعاني ، دون تعريف علم البيان.

القول في أحوال المسند إليه

أما حذفه فإما لمجرد الاختصار والاحتراز عن العبث بناء على الظاهر.

وإما لذلك مع ضيق المقام.

وإما لتخييل أن في تركه تعويلا على شهادة العقل ، وفي ذكره تعويلا على شهادة اللفظ من حيث الظاهر ، وكم بين الشهادتين!!

وإما لاختبار تنبّه السامع له عند القرينة ، أو مقدار تنبهه.

وإما لإيهام أن في تركه تطهيرا له عن لسانك ، أو تطهيرا للسانك عنه.

وإما ليكون لك سبيل إلى الإنكار إن مسّت إليه حاجة.

وإما لأن الخبر لا يصلح إلا له ، حقيقة ، أو ادعاء.

وإما لاعتبار آخر مناسب ، لا يهدي إلى مثله إلا العقل السليم ، والطبع المستقيم ، كقول الشاعر :

قال لي : كيف أنت؟ قلت : عليل

سهر دائم ، وحزن طويل (١)

__________________

(١) البيت من الخفيف ، وهو بلا نسبة في دلائل الإعجاز ص ١٨٤ ، ومعاهد التنصيص ١ / ١٠٠.

٣٩

وقوله : [أبو الأسود الدؤلي]

سأشكر عمرا إن تراخت منيّتي

أيادي لم تمنن وإن هي جلّت (١)

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه

ولا مظهر الشّكوى إذا النعل زلّت

وقوله : [لقيط بن زرارة]

أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم

دجى الليل حتى نظّم الجزع ثاقبه (٢)

نجوم سماء كلّما انقضّ كوكب

بدا كوكب تأوي إليه كواكبه

وقول بعض العرب في ابن عم له موسر ، سأله ، فمنعه ، وقال : كم أعطيك مالي ، وأنت تنفقه فيما لا يعنيك؟! والله لا أعطيتك. فتركه حتى اجتمع القوم في ناديهم ، وهو فيهم ، فشكاه إلى القوم ، وذمّه ، فوثب إليه ابن عمه ، فلطمه ، فأنشأ يقول : [المغيرة بن عبد الله]

سريع إلى ابن العمّ يلطم وجهه

وليس إلى داعي الندا بسريع (٣)

حريص على الدنيا ، مضيع لدينه

ولي سلما في بيته بمضيع

وعليه قوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [البقرة : الآية ١٨] وقوله تعالى : (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ) (١١) [القارعة : الآيتان ١٠ ، ١١].

وقيام القرينة شرط في الجميع.

وأما ذكره فإما لأنه الأصل ولا مقتضي للحذف.

وإما للاحتياط لضعف التعويل على القرينة.

وإما للتنبيه على غباوة السامع.

وإما لزيادة الإيضاح والتقرير.

__________________

(١) البيتان من الطويل ، وهما لعبد الله بن الزبير في ملحق ديوانه ص ١٤٢ ، وخزانة الأدب ٢ / ٢٦٥ ، ولأبي الأسود الدؤلي ، أو لمحمد بن سعيد ، أو لعبد الله بن الزبير في سمط اللآلي ص ١٦٦ ، وبلا نسبة في تذكرة النحاة ص ٤٧٤.

(٢) البيتان من الطويل ، وهما لأبي الطمحان القيني في الأغاني ١٣ / ٩ ، وأمالي المرتضى ١ / ٢٥٧ ، وتخليص الشواهد ص ٢٠٢ ، وخزانة الأدب ٨ / ٩٥ ، ٩٦ ، وديوان المعاني ١ / ٢٢ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١٥٩٨ ، وكتاب الصناعتين ص ٣٦٠ ، ولسان العرب (خضض) ، والمقاصد النحوية ١ / ٥٦٧ ، وهما للقيط بن زرارة في الحيوان ٣ / ٩٣ ، والشعر والشعراء ص ٧١٥.

(٣) البيتان من الطويل ، وهما للأقيشر الأسدي في الإشارات والتنبيهات ص ٢٣٤ ، والمصباح ص ١٦٥.

٤٠