الإيضاح في علوم البلاغة

جلال الدين محمّد بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد

الإيضاح في علوم البلاغة

المؤلف:

جلال الدين محمّد بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3907-X
الصفحات: ٤١٥

فصل

المجاز بالحذف والزيادة

واعلم أن الكلمة كما توصف بالمجاز لنقلها عن معناها الأصلي كما مضى ؛ توصف به أيضا لنقلها عن إعرابها الأصلي إلى غيره لحذف لفظ ، أو زيادة لفظ.

أما الحذف فكقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : الآية ٨٢] أي : أهل القرية ، فإعراب القرية في الأصل هو الجرّ فحذف المضاف ، وأعطي المضاف إليه إعرابه ، ونحوه قوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : الآية ٢٢] أي : أمر ربك. وكذا قولهم : بنو فلان يطؤهم الطريق ، أي أهل الطريق.

وأما الزيادة فكقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : الآية ١١] على القول بزيادة الكاف ، أي : ليس مثله شيء ، فإعراب «مثله» في الأصل هو النصب ، فزيدت الكاف ، فصار جرّا.

فإن كان الحذف أو الزيادة لا يوجب تغيير الإعراب ـ كما في قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) [البقرة : الآية ١٩] إذ أصله : أو كمثل ذوي صيّب ، فحذف «ذوي» لدلالة (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) عليه ، وحذف «مثل» لما دل عليه عطفه على قوله : (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) [البقرة : الآية ١٧] إذ لا يخفى أن التشبيه ليس بين صفة المنافقين العجيبة الشأن وذوات ذوي صيب ، وكقوله : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) [آل عمران : الآية ١٥٩] ، وقوله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) [الحديد : الآية ٢٩] ـ فلا توصف الكلمة بالمجاز.

وقد بالغ الشيخ عبد القاهر في النكير على من أطلق القول بوصف الكلمة بالمجاز للحذف ، أو الزيادة.

القول في الكناية

الكناية : لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادة معناه حينئذ ، كقولك : «فلان طويل النّجاد» أي : طويل القامة ، و «فلانة نؤوم الضحى» أي : مرفّهة مخدومة ، غير محتاجة إلى السعي بنفسها في إصلاح المهمات ؛ وذلك أن وقت الضحى وقت سعي نساء العرب في أمر المعاش ، وكفاية أسبابه ، وتحصيل ما يحتاج إليه في تهيئة المتناولات ، وتدبير إصلاحها ؛ فلا تنام فيه من نسائهم إلا من تكون لها خدم ينوبون عنها في السعي لذلك ، ولا يمتنع أن يراد مع ذلك طول النّجاد ، والنوم في الضحى ، من غير تأول.

٢٤١

فالفرق بينها وبين المجاز من هذا الوجه ، أي من جهة إرادة المعنى مع إرادة لازمه ، فإن المجاز ينافي ذلك ، فلا يصح في نحو قولك : «في الحمام أسد» أن تريد معنى الأسد من غير تأوّل ؛ لأن المجاز ملزوم قرينة معاندة لإرادة الحقيقة كما عرفت ، وملزوم معاند الشيء معاند لذلك الشيء.

وفرق السكاكي وغيره بينهما بوجه آخر أيضا ، وهو أن مبنى الكناية على الانتقال من اللازم إلى الملزوم ، ومبني المجاز على الانتقال من الملزوم إلى اللازم.

وفيه نظر ؛ لأن اللازم ما لم يكن ملزوما يمتنع أن ينتقل منه إلى الملزوم ؛ فيكون الانتقال حينئذ من الملزوم إلى اللازم.

ولو قيل : اللزوم من الطرفين من خواصّ الكناية دون المجاز ، أو شرط لها دونه ، اندفع هذا الاعتراض ، لكن اتجه منع الاختصاص والاشتراط.

ثم الكناية ثلاثة أقسام ؛ لأن المطلوب بها إما غير صفة ولا نسبة ، أو صفة ، أو نسبة.

والمراد الصفة المعنوية ، كالجود ، والكرم ، والشجاعة ، وأمثالها ، لا النعت.

الأولى : المطلوب بها غير صفة ولا نسبة ، فمنها ما هو معنى واحد كقولنا :

«المضياف» كناية عن زيد ، ومنه قوله كناية عن القلب : [عمرو بن معديكرب]

الضاربين بكل أبيض مخذم

والطاعنين مجامع الأضغان (١)

ونحوه قول البحتري في قصيدته التي يذكر فيها قتله الذئب :

فأتبعتها أخرى ، فأضللت نصلها

بحيث يكون اللب والرّعب والحقد (٢)

فقوله : «بحيث يكون اللب ، والرعب ، والحقد» ثلاث كنايات لا كناية واحدة ، لاستقلال كل واحد منها بإفادة المقصود.

ومنها ما هو مجموع معان ، كقولنا كناية عن الإنسان : «حيّ مستوي القامة عريض الأظفار».

وشرط كل واحدة منهما أن تكون مختصة بالمكنى عنه لا تتعداه ؛ ليحصل الانتقال منها إليه.

وجعل السكاكي الأولى قريبة ، والثانية بعيدة ، وفيه نظر.

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو في ديوان عمرو بن معديكرب ص ١٦٢.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان البحتري ٢ / ٧٤٤.

٢٤٢

الثانية : المطلوب بها صفة ، وهي ضربان : قريبة ، وبعيدة.

القريبة : ما ينتقل منها إلى المطلوب بها ، لا بواسطة.

وهي إما واضحة كقولهم كناية عن طويل القامة : «طويل نجاده ، وطويل النجاد» والفرق بينهما أن الأول كناية ساذجة ، والثاني كناية مشتملة على تصريح ما ؛ لتضمن الصفة فيه ضمير الموصوف ، بخلاف الأول.

ومنها قول الحماسي :

أبت الرّوادف والثّديّ لقمصها

مسّ البطون وأن تمسّ ظهورا (١)

وإما خفيّة كقولهم كناية عن الأبله : «عريض القفا» فإن عرض القفا وعظم الرأس إذا أفرط ـ فيما يقال ـ دليل الغباوة ، ألا ترى إلى قول طرفة بن العبد :

أنا الرجل الضّرب الذي تعرفونه

خشاش كرأس الحيّة المتوقّد (٢)

والبعيدة : ما ينتقل منها إلى المطلوب بها بواسطة كقولهم كناية عن الأبله : «عريض الوسادة» فإنه ينتقل من عرض الوسادة إلى عرض القفا ، ومنه إلى المقصود.

وقد جعله السكاكي من القريبة على أنه كناية عن عرض القفا ، وفيه نظر.

وكقولهم : «كثير الرماد» كناية عن المضياف ، فإنه ينتقل من كثرة الرماد إلى كثرة إحراق الحطب تحت القدور ، ومنها إلى كثرة الطبائخ ، ومنها إلى كثرة الأكلة ، ومنها إلى كثرة الضيفان ، ومنها إلى المقصود.

وكقوله : [ابن هرمة]

وما يك فيّ من عيب فإنّي

جبان الكلب مهزول الفصيل (٣)

فإنه ينتقل من جبن الكلب عن الهرير في وجه من يدنو من دار من هو بمرصد لأن يعسّ دونها ، مع كون الهرير في وجه من لا يعرفه طبيعيا له ، إلى استمرار تأديبه ؛ لأن الأمور الطبيعية لا تتغير بموجب لا يقوى ، ومن ذلك إلى استمرار موجب نباحه وهو

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو لعمر بن أبي ربيعة في ملحق ديوانه ص ٤٩٢ ، وبلا نسبة في رصف المباني ص ٤٢٣ ، والطراز ١ / ٤٢٤ ، وديوان الحماسة لأبي تمام ص ٣٣٨.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان طرفة بن العبد ص ٣٧ ، والدرر ١ / ٢٨١ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٣٥٨ ، ولسان العرب (ضرب) ، (جعد) ، (خشش) ، (أصل) ، وبلا نسبة في همع الهوامع ١ / ٨٦.

(٣) البيت من الوافر ، وهو لابن هرمة في حماسة البحتري ، ودلائل الإعجاز ص ٢٣٧ ، ومفتاح العلوم ص ١٩١ ، والإيضاح ص ٣١ ، والطراز ١ / ٤٢٢ ، وليس في ديوانه.

٢٤٣

اتصال مشاهدته وجوها إثر وجوه ، ومن ذلك إلى كونه مقصد أدان وأقاص ، ومن ذلك إلى أنه مشهور بحسن قرى الأضياف. وكذلك ينتقل من هزال الفصيل إلى فقد الأم ، ومنه إلى قوة الداعي إلى نحرها ، لكمال عناية العرب بالنوق لا سيما المتليات ، ومنها إلى صرفها إلى الطبائخ ، ومنها إلى أنه مضياف.

ومن هذا النوع قول نصيب :

لعبد العزيز على قومه

وغيرهم منن ظاهره (١)

فبابك أسهل أبوابهم

ودارك مأهولة عامره

وكلبك آنس بالزائرين

من الأمّ بالابنة الزائره

فإنه ينتقل من وصف كلبه بما ذكر إلى أن الزائرين معارف عنده ، ومن ذلك إلى اتصال مشاهدته إياهم ليلا ونهارا ، ومنه إلى لزوم سدّته ، ومنه إلى تسنّي مباغيهم لديه من غير انقطاع ، ومنه إلى وفور إحسانه إلى الخاصّ والعامّ ، وهو المقصود.

ونظيره مع زيادة لطف ، قول الآخر : [ابن هرمة]

يكاد إذا ما أبصر الضّيف مقبلا

يكلّمه من حبّه وهو أعجم (٢)

ومنه قوله : [ابن هرمة]

لا أمتع العوذ بالفصال ، ولا

أبتاع إلا قريبة الأجل (٣)

فإنه ينتقل من عدم إمتاعها إلى أنه لا يبقي لها فصالها ، لتأنس بها ويحصل لها الفرج الطبيعي بالنظر إليها ، ومن ذلك إلى نحرها ، أو لا يبقي العوذ إبقاء على فصالها ، وكذا قرب الأجل ينتقل منه إلى نحرها ، ومن نحرها إلى أنه مضياف.

ومن لطيف هذا القسم قوله تعالى : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) [الأعراف : الآية ١٤٩] أي : ولما اشتدّ ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل ؛ لأن من شأن من اشتدّ ندمه وحسرته أن يعضّ يده غمّا ؛ فتصير يده مسقوطا فيها لأن فاه قد وقع فيها.

وكذا قول أبي الطيب كناية عن الكذب :

تشتكي ما اشتكيت من ألم الشّؤ

ق إليها ، والشّوق حيث النّحول (٤)

__________________

(١) الأبيات من المتقارب ، وهي في دلائل الإعجاز ص ٢٣٨ ، ومفتاح العلوم ص ١٩١.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لابن هرمة في ديوانه ص ١٩٨ ، والبيان والتبيين ٣ / ٢٠٥ ، ودلائل الإعجاز ص ٢٣٩ ، والطراز ١ / ٤٢٣ ، وبلا نسبة في الحيوان ١ / ٣٧٧ ، وديوان الحماسة ١ / ٢٦٠.

(٣) البيت من المنسرح ، وهو لابن هرمة في ديوانه ص ١٨٥.

(٤) البيت من الخفيف ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ١٨٨.

٢٤٤

وكذا قوله :

إلى كم تردّ الرّسل عما أتوا له

كأنهم فيما وهبت ملام؟! (١)

فإن أوله كناية عن الشجاعة ، وآخره كناية عن السماحة.

وكذا قول أبي تمام :

فإن أنا لم يحمدك عنّي صاغرا

عدوّك ؛ فاعلم أنني غير حامد (٢)

يريد بحمده عنه حفظه مدحه فيه وإنشاده ، أي : إن لم أكن أجيد القول في مدحك ، حتى يدعو حسنه عدوّك إلى أن يحفظه ويلهج به صاغرا ؛ فلا تعدّني حامدا لك بما أقول فيك ، ووصفه بالصّغار ؛ لأن من يحفظ مديح عدوّه وينشده فقد أذلّ نفسه ، فكنى بحفظ عدو الممدوح مدحه له عن إجادته القول في مدحه.

وكذا قول من يصف راعي إبل أو غنم :

ضعيف العصا ، بادي العروق ترى له

عليها ـ إذا ما أجدب الناس ـ إصبعا (٣)

وقول الآخر :

صلب العصا ، بالضرب قد دمّاها (٤)

أي : جعلها كالدّم في الحسن.

والغرض من قول الأول «ضعيف العصا» وقول الثاني : «صلب العصا» وهما وإن كانا في الظاهر متضادين فإنهما كنايتان عن شيء واحد ، وهو حسن الرّعية ، والعمل بما يصلحها ، ويحسن أثره عليها.

فأراد الأول أنه رفيق مشفق عليها ، لا يقصد من حمل العصا أن يوجعها بالضرب من غير فائدة ، فهو يتخيّر ما لان من العصا.

وأراد الثاني أنه جيد الضبط لها ، عارف بسياستها في الرّعي ، يزجرها عن المراعي التي لا تحمد ، ويتوخّى بها ما تسمن عليه ، ويتضمن أيضا أنه يمنعها عن التشرّد والتبدّد ،

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ١٤٤.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في زهر الآداب ٣ / ٢٦.

(٣) البيت من الطويل ، وهو للراعي النميري في ديوانه ص ١٦٢ ، ولسان العرب (صلب) ، (صبع) ، (عصا) ، وكتاب العين ١ / ٣١٢ ، ومقاييس اللغة ٢ / ٢٣١ ، وديوان الأدب ١ / ٢٧٤ ، والمخصص ٧ / ٨٢ ، وأساس البلاغة (عصي).

(٤) عجز البيت :

تودّ أن الله قد أفناها

والبيت من الكامل ، وهو لأبي العلاء بن سليمان في لسان العرب (فنى).

٢٤٥

وأنها ـ لما عرفت من شدّة شكيمته وقوة عزيمته ـ تنساق في الجهة التي يريدها ، وقوله : «بالضرب قد دمّاها» تورية حسنة ، ويؤكد أمرها قوله : «صلب العصا».

الثالثة : المطلوب بها نسبة ، كقول زياد الأعجم :

إن السّماحة والمروءة ، والنّدى

في قبّة ضربت على ابن الحشرج (١)

فإنه حين أراد أن لا يصرح بإثبات هذه الصفات لابن الحشرج جمعها في قبّة ؛ تنبيها بذلك على أن محلّها ذو قبّة ، وجعلها مضروبة عليه ؛ لوجود ذوي قباب في الدنيا كثيرين ؛ فأفاد إثبات الصفات المذكورة له بطريق الكناية.

ونظيره قولهم : «المجد بين ثوبيه ، والكرم بين برديه».

قال السكاكي : وقد يظنّ هذا من قسم «زيد طويل نجاده» وليس بذاك ؛ فـ «طويل نجاده» ـ بإسناد الطويل إلى النجاد ـ تصريح بإثبات الطول للنجاد ، وطول النجاد كما تعرف قائم مقام طول القامة ، فإذا صرح من بعد بإثبات النجاد لزيد بالإضافة ؛ كان ذلك تصريحا بإثبات الطول لزيد ، فتأمل. وقول الآخر :

والمجد يدعو أن يدوم لجيده

عقد مساعي ابن العميد نظامه (٢)

فإنه شبّه المجد بإنسان بديع الجمال ، في ميل النفوس إليه ، وأثبت له جيدا على سبيل الاستعارة التخييلية ، ثم أثبت لجيده عقدا ، ترشيحا للاستعارة ، ثم خصّ مساعي ابن العميد بأنها نظامه ، فنبه بذلك على اعتنائه خاصة بتزيينه ، وبذلك على محبته وحده له ، وبها على اختصاصه به ، ونبّه بدعاء المجد أن يدوم لجيده ذلك العقد على طلبه دوام بقاء ابن العميد ، وبذلك على اختصاصه به. وكقول أبي نواس :

فما جازه جود ، ولا حلّ دونه

ولكن يصير الجود حيث يصير (٣)

فإنه كنى عن جميع الجود بأن نكّره ، ونفى أن يجوز ممدوحه ويحل دونه فيكون متوزعا ، يقوم منه شيء بهذا وشيء بهذا ، وعن إثباته له بتخصيصه بجهته بعد تعريفه باللام التي تفيد العموم ، ونظيره قولهم : «مجلس فلان مظنّة الجود والكرم» هذا قول السكاكي.

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو في الأغاني ١٠ / ١٤٨ ، والشعر والشعراء ١ / ٤٣٠ ، ودلائل الإعجاز ص ٢٣٧ ، ومفتاح العلوم ص ١٩٢ ، والإيضاح ص ٣٢٤ ، والطراز ١ / ٤٢٢.

(٢) الرجز في مفتاح العلوم ص ١٧٢.

(٣) البيت من الطويل ، وهو في ديوان أبي نواس ص ١٨٦ ، ودلائل الإعجاز ص ٢٣٩ ، والطراز ١ / ٤٢٣.

٢٤٦

وقيل : كنى بالشطر الأول عن اتّصافه بالجود ، وبالثاني عن لزوم الجود له.

ويحتمل وجها آخر ، وهو : أن يكون كل منهما كناية عن اختصاصه به ، وعدم الاقتصار على أحدهما للتأكيد والتقرير ، وذكرهما على الترتيب المذكور لأن الأولى بواسطة بخلاف الثانية.

وكقولهم : «مثلك لا يبخل» قال الزمخشري : نفوا البخل عن مثله ، وهم يريدون نفيه عن ذاته ، قصدوا المبالغة في ذلك ؛ فسلكوا به طريق الكناية ؛ لأنهم إذا نفوه عمن يسدّ مسدّه ، وعمن هو على أخصّ أوصافه ؛ فقد نفوه عنه.

ونظيره قولك للعربي : «العرب لا تخفر الذّمم» فإنه أبلغ من قولك : «أنت لا تخفر».

ومنه قولهم : «أيفعت لداته ، وبلغت أترابه» يريدون إيفاعه وبلوغه.

وعليه قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : الآية ١١] على أحد الوجهين وهو أن لا تجعل الكاف زائدة.

قيل : وهذا غاية لنفي التشبيه ؛ إذ لو كان له مثل لكان لمثله شيء (يماثله) وهو ذاته تعالى ، فلما قال : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ) [الشّورى : الآية ١١] دل على أنه ليس له مثل.

وأورد أنه يلزم منه نفيه تعالى ؛ لأنه مثل مثله ، ورد بمنع أنه تعالى مثل مثله ، لأن صدق ذلك موقوف على ثبوت مثله ، تعالى عن ذلك!.

وكقول الشّنفرى الأزديّ في وصف امرأة بالعفة :

يبيت بمنجاة من اللّوم بيتها

إذا ما بيوت بالملامة حلّت (١)

فإنه نبّه بنفي اللوم عن بيتها على انتفاء أنواع الفجور عنه ، وبه على براءتها منها ، وقال : «يبيت» دون «يظلّ» لمزيد اختصاص الليل بالفواحش.

هذا على ما رواه الشيخ عبد القاهر والسكاكي ، وفي الأغاني الكبير ، «يحلّ بمنجاة».

وقد يظنّ أن هنا قسما رابعا ، وهو أن يكون المطلوب بالكناية الوصف والنسبة معا ، كما يقال : «يكثر الرماد في ساحة عمرو» في الكناية عن أن عمرا مضياف ، وليس بذاك ؛ إذ ليس ما ذكر بكناية واحدة ، بل هو كنايتان : إحداهما عن المضيافية ، والثانية عن إثباتها لعمرو.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للشنفرى في المفضليات ص ١٠٩ ، ودلائل الإعجاز ص ٢٣٩.

٢٤٧

وقد ظهر بهذا أن طرف النسبة المثبتة بطريق الكناية يجوز أن يكون مكنيّا عنه أيضا كما في هذا المثال ، ونحوه بيت الشنفرى المتقدم ؛ فإن حلول البيت بمنجاة من اللوم كناية عن نسبة العفّة إلى صاحبه ؛ والمنجاة من اللوم كناية عن العفة.

واعلم أن الموصوف في القسم الثاني والثالث قد يكون مذكورا كما مر ، وقد يكون غير مذكور ، كما تقول في عرض من يؤذي المسلمين : «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» (١) أي : ليس المؤذي مسلما.

وعليه قوله تعالى في عرض المنافقين : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : الآية ٢](الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : الآية ٣] إذا فسّر الغيب بالغيبة ، أي : يؤمنون مع الغيبة عن حضرة النبي صلّى الله عليه وسلّم أو أصحابه رضي الله عنهم ، أي هدى للمؤمنين عن إخلاص لا للمؤمنين عن نفاق.

وقال السكاكي : الكناية تتفاوت إلى تعريض ، وتلويح ، ورمز ، وإيماء ، وإشارة.

فإن كانت عرضية فالمناسب أن تسمّى تعريضا.

وإلّا ؛ فإن كان بينهما وبين المكني عنه مسافة متباعدة لكثرة الوسائط ـ كما في كثير الرماد وأشباهه ـ فالمناسب أن تسمّى تلويحا ؛ لأن التلويح هو أن تشير إلى غيرك عن بعد.

وإلّا ؛ فإن كان فيها نوع خفاء ؛ فالمناسب أن تسمى رمزا ، لأن الرمز هو أن تشير إلى قريب منك على سبيل الخفية ، قال :

رمزت إليّ مخافة من بعلها

من غير أن تبدي هناك كلامها (٢)

وإلا ؛ فالمناسب أن تسمّى إيماء وإشارة ، كقول أبي تمام يصف إبلا :

أبين ، فما يزرن سوى كريم

وحسبك أن يزرن أبا سعيد (٣)

فإنه في إفادة أن أبا سعيد كريم غير خاف ، وكقول البحتري :

__________________

(١) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٥ ، والرقاق باب ٢٦ ، ومسلم في الإيمان حديث ٦٤ ، ٦٥ ، وأبو داود في الجهاد باب ٢ ، والترمذي في القيامة باب ٥٢ ، والإيمان باب ١٢ ، والنسائي في الإيمان باب ٨ ، ٩ ، ١١ ، والدارمي في الرقاق باب ٤ ، ٨ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٦٠ ، ١٦٣ ، ١٨٧ ، ١٩١ ، ١٩٢ ، ١٩٥ ، ٢٠٥ ، ٢٠٦ ، ٢٠٩ ، ٢١٢ ، ٢١٥ ، ٢٢٤ ، ٣٧٩.

(٢) البيت من الكامل ، وهو في مفتاح العلوم ص ١٧٤.

(٣) البيت من الوافر ، وهو في ديوان أبي تمام ص ٨٢ ، ودلائل الإعجاز ص ٢٤١ ، والطراز ٢ / ٤٢٤.

٢٤٨

أو ما رأيت المجد ألقى رحله

في آل طلحة ، ثمّ لم يتحوّل (١)

فإنه في إفادة أن آل طلحة أماجد ظاهر ، وكقول الآخر :

إذا الله لم يسق إلّا الكرام

فسقّى وجوه بني حنبل (٢)

وسقى ديارهم باكرا

من الغيث في الزمن الممحل

وكقول الآخر :

متى تخلو تميم من كريم

ومسلمة بن عمرو من تميم (٣)؟

ثم قال :

والتعريض كما يكون كناية قد يكون مجازا ، كقولك : «آذيتني فستعرف» وأنت لا تريد المخاطب ، بل تريد إنسانا معه ، وإن أردتهما جميعا كان كناية.

تنبيه : أطبق البلغاء على أن المجاز أبلغ من الحقيقة.

وأن الاستعارة أبلغ من التصريح بالتشبيه.

وأن التمثيل على سبيل الاستعارة أبلغ من التمثيل لا على سبيل الاستعارة.

وأن الكناية أبلغ من الإفصاح بالذكر.

قال الشيخ عبد القاهر : ليس ذلك لأن الواحد من هذه الأمور يفيد زيادة في المعنى نفسه لا يفيدها خلافه ، بل لأنه يفيد تأكيدا لإثبات المعنى لا يفيده خلافه ؛ فليست فضيلة قولنا : «رأيت أسدا» على قولنا : «رأيت رجلا هو والأسد سواء في الشجاعة» أن الأول أفاد زيادة في مساواته للأسد في الشجاعة لم يفدها الثاني ، بل هي أن الأول أفاد تأكيدا لإثبات تلك المساواة له لم يفده الثاني ، وليست فضيلة قولنا : «كثير الرماد» على قولنا : «كثير القرى» أن الأول أفاد زيادة لقراه لم يفدها الثاني ؛ بل هي أن الأول أفاد تأكيدا لإثبات كثرة القرى له لم يفده الثاني.

والسبب في ذلك أن الانتقال في الجميع من الملزوم إلى اللازم ؛ فيكون إثبات

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو في ديوان البحتري ٣ / ١٧٤٩ ، ودلائل الإعجاز ص ٢٤٠ ، والطراز ١ / ٤٢٤.

(٢) البيتان من المتقارب ، والبيت الأول لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت ، أو لعروة بن جلهمة المازني في لسان العرب (ربب) ، وتاج العروس (ربب) ، ولزهير السكب التميمي المازني في الأغاني ٢٢ / ٢٧٠.

(٣) البيت من الوافر ، وهو بلا نسبة في دلائل الإعجاز ص ٢٤١ ، والطراز ٢ / ٤٢٤.

٢٤٩

المعنى به كدعوى الشيء ببيّنة ، ولا شك أن دعوى الشيء ببينة أبلغ في إثباته دعواه بلا بينة.

ولقائل أن يقول : قد تقدم أن الاستعارة أصلها التشبيه ، وأن الأصل في وجه الشبه أن يكون في المشبه به أتمّ منه في المشبه وأظهر ؛ فقولنا : «رأيت أسدا» يفيد للمرئيّ شجاعة أتمّ مما يفيدها قولنا : «رأيت رجلا كالأسد» ؛ لأن الأول يفيد شجاعة الأسد ، والثاني شجاعة دون شجاعة الأسد.

ويمكن أن يجاب بحمل كلام الشيخ على أن السبب في كل صورة ليس هو ذلك ، لا أن ذلك ليس بسبب في شيء من الصور أصلا.

هذا آخر الكلام في الفن الثاني

٢٥٠

تقسيم السكاكي للبلاغة

وذكر السكاكي بعد الفراغ منه تفسير البلاغة بما نقلناه عنه في صدر الكتاب ثم قسّم الفصاحة إلى معنوية ولفظية.

وفسّر المعنوية بخلوص المعنى عن التعقيد ، وعنى بالتعقيد اللفظي على ما سبق تفسيره.

وفسّر اللفظية بأن تكون الكلمة عربية أصيلة.

وقال : وعلامة ذلك أن تكون على ألسنة الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم أدور ، واستعمالهم لها أكثر ، لا مما أحدثه المولّدون ، ولا مما أخطأت فيه العامة ، وأن تكون أجرى على قوانين اللغة ، وأن تكون سليمة عن التنافر ؛ فجعل الفصاحة غير لازمة للبلاغة ، وحصر مرجع البلاغة في الفنّين ، ولم يجعل الفصاحة مرجعا لشيء منهما.

ثم قال : وإذا وقفت على البلاغة والفصاحة المعنوية واللفظية ، فأنا أذكر على سبيل الأنموذج آية أكشف لك فيها عن وجوه البلاغة والفصاحة ما عسى يسترها عنك ، وذكر ما أورده الزمخشري في تفسير قوله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٤٤) [هود : الآية ٤٤] وزاد عليه نكتا لا بأس بها ، فرأيت أو أورد ما ذكره جاريا على اصطلاحه في معنى البلاغة والفصاحة.

قال :

أما النظر فيها من جهة علم البيان ، فهو أنه تعالى لما أراد أن يبيّن معنى : أردنا أن نردّ ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتدّ ، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع ، وأن يغيض الماء النازل من السماء فغاض ، وأن يقضى أمر نوح ـ وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه ـ فقضي ، وأن نسوّي السفينة على الجوديّ فاستوت ، وأبقينا الظّلمة غرقى ، بنى الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتّى منه ـ لكمال هيبته ـ العصيان

٢٥١

وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكوين المقصود ؛ تصويرا لاقتداره تعالى ، وأن السموات والأرض وهذه الأجرام العظام تابعة لإرادته ، كأنها عقلا مميزون ، قد عرفوه حق معرفته ، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره ، وتحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده.

ثم بنى على تشبيهه هذا نظم الكلام ؛ فقال تعالى : (قِيلَ) [البقرة : الآية ١١] على سبيل المجاز عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل ، وجعل قرينة المجاز خطاب الجماد ، وهو : «يا أرض» و «يا سماء»

ثم قال : «يا أرض» و «يا سماء» مخاطبا لهما ، على سبيل الاستعارة ، للشبه المذكور.

ثم استعار لغور الماء في الأرض البلع الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم ، بجامع الذهاب إلى مقرّ خفي.

واستتبع ذلك تشبيه الماء بالغذاء على طريق الاستعارة بالكناية ؛ لتقوى الأرض بالماء في الإنبات للزرع والأشجار ، وجعل قرينة الاستعارة لفظ «ابلعي» لكونه موضوعا للاستعمال في الغذاء دون الماء.

ثم أمر على سبيل الاستعارة للشبه المقدّم ذكره.

ثم قال : «ماءك» بإضافة الماء إلى الأرض ، على سبيل المجاز ؛ تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك ، واستعار لحبس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل ؛ للشبه بينهما في عدم ما كان ، وخاطب في الأمرين ترشيحا للاستعارة.

ثم قال : (وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [هود : الآية ٤٤] فلم يصرّح بالغائض ، والقاضي ، والمسول ، والقائل ، كما لم يصرح بقائل «يا أرض» و «يا سماء» سلوكا في كل واحد من ذلك سبيل الكناية أن تلك الأمور العظام لا تتأتّى إلا من ذي قدرة لا تكتنه ، قهّار لا يغالب ؛ فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون الفاعل لشيء من ذلك غيره.

ثم ختم الكلام بالتعريض لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل ظلما لأنفسهم ختم إظهار لمكان السّخط ، ولجهة استحقاقهم إياه.

وأما النظر فيها من حيث علم المعاني ، وهو النظر في فائدة كل كلمة فيها ، وجهة كل تقديم وتأخير بين جملها ، فلذلك أنه اختير «يا» دون سائر أخواتها لكونها أكثر استعمالا ، ولدلالتها على بعد المنادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة ، ويؤذن بالتهاون به.

٢٥٢

ولم يقل : «يا أرض» بالكسر تجنّبا لإضافة التشريف ؛ تأكيدا للتهاون.

ولم يقل : «يا أيتها الأرض» للاختصار ، مع الاحتراز عما في «أيّتها» من تكلّف التنبيه غير المناسب للمقام ، لكون المخاطب غير صالح للتنبيه على الحقيقة.

واختير لفظ الأرض دون سائر أسمائها لكونه أخفّ وأدور.

واختير لفظ السماء لمثل ذلك مع قصد المطابقة.

واختير «ابلعي» على «ابتلعي» لكونه أخصر ، ولمجيء حظ التجانس بينه وبين «اقلعي» أوفر.

وقيل : «ماءك» بالإفراد دون الجمع لدلالة الجمع على الاستكثار الذي يأباه مقام إظهار الكبرياء ، وهو الوجه في إفراد الأرض والسماء.

ولم يحذف مفعول «ابلعي» لئلا يفهم ما ليس بمراد ، من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وغيرها ؛ نظرا إلى مقام ورود الأمر الذي هو مقام عظمة وكبرياء.

ثم إذ بيّن المراد اختصر الكلام على «أقلعي» فلم يقل : «أقلعي عن إرسال الماء» احترازا عن الحشو المستغنى عنه من حيث الظاهر ، وهو الوجه في أنه لم يقل : يا أرض ابلعي ماءك فبلعت ، ويا سماء اقلعي فأقلعت.

واختير «غيض الماء» على «غيّض» ؛ لكونه أخصر وأخفّ ، وأوفق لقيل.

وقيل : «الماء» دون أن يقال : «ماء طوفان السماء» وكذا «الأمر» دون أن يقال : «أمر نوح» للاختصار.

ولم يقل : «سوّيت على الجوديّ» بمعنى أقرّت على نحو «قيل» و «غيض» و «قضي» في البناء للمفعول ؛ اعتبارا لبناء الفعل للفاعل مع السفينة في قوله : «وهي تجري بهم» مع قصد الاختصار.

ثم قيل : «بعدا للقوم» دون أن يقال : «ليبعد القوم» طلبا للتوكيد مع الاختصار ، وهو نزول «بعدا» منزلة «ليبعدوا بعدا» مع إفادة أخرى ، وهي استعمال اللام مع «بعدا» الدالّ على معنى أن البعد حقّ لهم.

ثم أطلق الظلم ليتناول كل نوع ، حتى يدخل فيه ظلمهم لأنفسهم بتكذيب الرسل.

هذا من حيث النظر إلى الكلم.

وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل ، فذلك أنه قدم النداء على الأمر ؛ فقيل : (يا أَرْضُ ابْلَعِي) ، و (يا سَماءُ أَقْلِعِي) دون أن يقال : «ابلعي يا أرض ، واقلعي يا سماء»

٢٥٣

جريا على مقتضى اللازم فيمن كان مأمورا حقيقة من تقديم التنبيه ؛ ليتمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى ؛ قصدا بذلك لمعنى الترشيح.

ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء ؛ لابتداء الطّوفان منها ، ونزولها لذلك في القصة منزلة الأصل.

ثم أتبعهما قوله : (وَغِيضَ الْماءُ) لاتصاله بقصة الماء.

ثم أتبعه ما هو المقصود من القصة ، وهو قوله : وقضي الأمر» أي : أنجز الوعد من إهلاك الكفرة ، وإنجاء نوح ومن معه في السفينة ، ثم أتبعه حديث السفينة ، ثم ختمت القصة بما ختمت.

هذا كله نظر في الآية من جانب البلاغة.

وأما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوي ؛ فهي ـ كما ترى ـ نظم للمعاني لطيف وتأدية لها ملخصة مبينة لا تعقيد يعثر الفكر في طلب المراد ، ولا التواء يشيك الطريق إلى المرتاد ، بل ألفاظها تسابق معانيها ومعانيها تسابق ألفاظها.

وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية ؛ فألفاظها على ما ترى عربية ، مستعملة ، جارية على قوانين اللغة ، سليمة عن التنافر ، بعيدة عن البشاعة ، عذبة على العذبات ، سلسة على الأسلات ، كل منها كالماء في السلاسة ، وكالعسل في الحلاوة ، وكالنسيم في الرّقّة ، والله أعلم.

٢٥٤

القسم الثالث

علم البديع

وهو : علم يعرف به وجوه تحسين الكلام ، بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال ووضوح الدلالة.

وهذه الوجوه ضربان : ضرب يرجع إلى المعنى ، وضرب يرجع إلى اللفظ.

أما المعنوي فمنه المطابقة ، وتسمى الطّباق ، والتضادّ أيضا ، وهي : الجمع بين المتضادين ، أي معنيين متقابلين في الجملة.

ويكون ذلك إما بلفظين من نوع واحد :

اسمين ، كقوله تعالى : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) [الكهف : الآية ١٨].

أو فعلين ، كقوله تعالى : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) [آل عمران : الآية ٢٦].

وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم للأنصار : «إنكم لتكثرون عند الفزع ، وتقلّون عند الطمع» (١) ، وقول أبي صخر الهذلي :

أما والذي أبكى وأضحك والذي

أمات وأحيا والذي أمره الأمر (٢)

وقول بشار :

إذا أيقظتك حروب العدى

فنبّه لها عمرا ثمّ نم (٣)

__________________

(١) ذكره ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث ٣ / ١٩٩.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لأبي صخر الهذلي في الأغاني ٢٣ / ٢٨١ ، والدرر ٥ / ١١٨ ، وشرح أشعار الهذليين ٢ / ٩٥٧ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٦٩ ، والشعر والشعراء ٢ / ٥٦٧ ، ولسان العرب (رمت) ، وبلا نسبة في تخليص الشواهد ص ١٧٠ ، وجواهر الأدب ص ٣٣٦ ، ورصف المباني ص ٩٧ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٧٣٠ ، وشرح المفصل ٨ / ١١٤ ، ومغني اللبيب ١ / ٥٤ ، وهمع الهوامع ٢ / ٧٠.

(٣) البيت من المتقارب ، وهو في ديوان بشار بن برد ص ٢١٧ (طبعة دار الثقافة).

٢٥٥

أو حرفين ، كقوله تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة : الآية ٢٨٦] ، وقول الشاعر : [قيس بن الملوّح]

على أنني راض بأن أحمل الهوى

وأخلص منه ، لا عليّ ، ولا ليا (١)

وإما بلفظين من نوعين كقوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [الأنعام : الآية ١٢٢] أي : ضالّا فهديناه ، وقول طفيل : [بن عوف الغنوي]

بساهم الوجه ، لم تقطع أباجله

يصان ، وهو ليوم الرّوع مبذول (٢)

ومن لطيف الطّباق قول ابن رشيق :

وقد أطفؤوا شمس النهار ، وأوقدوا

نجوم العوالي في سماء عجاج (٣)

وكذا قول القاضي الأرجاني :

ولقد نزلت من الملوك بماجد

فقر الرجال إليه مفتاح الغنى (٤)

وكذا قول الفرزدق :

لعن الإله بني كليب ، إنهم

لا يغدرون ، ولا يفون لجار (٥)

يستيقظون إلى نهيق حمارهم

وتنام أعينهم عن الأوتار (٦)

وفي البيت الأول تكميل حسن ، إذ لو اقتصر على قوله : «لا يغدرون» لاحتمل الكلام ضربا من المدح ؛ إذ تجنّب الغدر قد يكون عن عفّة ، فقال : «ولا يفون» ليفيد أنه للعجز ، كما أن ترك الوفاء للّؤم.

وحصل مع ذلك إيغال حسن ؛ لأنه لو اقتصر على قوله : «لا يغدرون ولا يفون» تمّ المعنى الذي قصده ، ولكنه لما احتاج إلى القافية أفاد بها معنى زائدا ؛ حيث قال : «لجار» لأن ترك الوفاء للجار أشدّ قبحا من ترك الوفاء لغيره.

__________________

(١) روي البيت بلفظ :

فليتكم لم تعرفوني وليتكم

تخليت عنكم لا عليّ ولا ليا

والبيت من الطويل ، وهو بهذا اللفظ للمجنون في ديوانه ص ٢٩٧.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان طفيل الغنوي ص ٥٤.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لابن رشيق القيرواني في تحرير التحبير ص ١١٢ ، ونهاية الأرب ٧ / ١٠٠ ، والطراز ٢ / ٣٧٢.

(٤) البيت من الكامل ، ولم أجده.

(٥) البيتان من الكامل ، وهما في ديوان الفرزدق ١ / ٣٦٠ ، وكتاب الصناعتين ص ٣١٣.

(٦) الأوتار : مفردها : وتر ، وهو الثأر.

٢٥٦

والطباق قد يكون ظاهرا كما ذكرنا ، وقد يكون خفيّا نوع خفاء كقوله تعالى : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) [نوح : الآية ٢٥] طابق بين (أُغْرِقُوا) و (فَأُدْخِلُوا ناراً ،) وقول أبي تمّام :

مها الوحش إلّا أن هاتا أو انس

قنا الخطّ ، إلا أن تلك ذوابل (١)

طابق بين «هاتين» و «تلك». والطباق ينقسم إلى طباق الإيجاب ، كما تقدم.

وإلى طباق السّلب ، وهو : الجمع بين فعلي مصدر واحد مثبت ومنفيّ ، أو أمر ونهي ، كقوله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الرّوم : الآيتان ٦ ، ٧] ، وقوله : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) [المائدة : الآية ٤٤] ، وقول الشاعر :

وننكر إن شئنا على الناس قولهم

ولا ينكرون القول حين نقول (٢)

وقول البحتري :

يقيّض لي من حيث لا أعلم النّوى

ويسري إليّ الشّوق من حيث أعلم (٣)

وقول أبي الطيّب :

ولقد عرفت ، وما عرفت حقيقة

ولقد جهلت ، وما جهلت خمولا (٤)

وقول الآخر :

خلقوا وما خلقوا لمكرمة

فكأنهم حلقوا ، وما خلقوا (٥)

رزقوا وما رزقوا سماح يد

فكأنهم رزقوا ، وما رزقوا

قيل : ومنه قوله تعالى : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التّحريم : الآية ٦] أي : لا يعصون الله في الحال ويفعلون ما يؤمرون في المستقبل. وفيه نظر ؛ لأن العصيان يضادّ فعل المأمور به ، فكيف يكون الجمع بين نفيه وفعل المأمور به تضادّا. ومن الطّباق قول أبي تمّام :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان أبي تمام ٣ / ١١٦ ، والتبيان ص ١٧١.

(٢) البيت من الطويل ، وهو للسموأل بن عادياء في ديوانه ص ٩١.

(٣) البيت من الطويل ، وهو في ديوان البحتري ١ / ١١١ ، والوساطة ص ٤٦.

(٤) البيت من الكامل ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ١٩٣.

(٥) البيتان لم أجدهما في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٢٥٧

تردّى ثياب الموت حمرا ، فما أتى

لها الليل إلا وهي من سندس خضر (١)

وقول ابن حيّوس : [محمد بن سلطان]

طالما قلت للمسائل عنكم

واعتمادي هداية الضّلال (٢)

إن ترد علم حالهم عن يقين

فالقهم يوم نائل أو نزال

تلق بيض الوجوه ، سود مثار النّ

قع ، خضر الأكناف ، حمر النّصال

وقول الحريري : «فمذ ازورّ المحبوب الأصفر ، واغبرّ العيش الأخضر ، واسودّ يومي الأبيض ، وابيضّ فودي الأسود ، حتى رثى لي العدوّ الأزرق ، فيا حبّذا الموت الأحمر».

ومن الناس من سمى نحو ما ذكرناه تدبيجا ، وفسره بأن يذكر في معنى من المدح أو غيره ألوان بقصد الكناية أو التورية.

أما تدبيج الكناية فكبيت أبي تمام ، وبيتي ابن حيّوس.

وأما تدبيج التورية ، فكلفظ الأصفر في قول الحريري.

ويلحق بالطباق شيئان : أحدهما : نحو قوله تعالى : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : الآية ٢٩] فإن الرحمة مسبّبة عن اللين الذي هو ضد الشدة ، وعليه قوله تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [القصص : الآية ٧٣] فإن ابتغاء الفضل يستلزم الحركة المضادة للسكون ، والعدول عن لفظ الحركة إلى لفظ ابتغاء الفضل لأن الحركة ضربان : حركة لمصلحة ، وحركة لمفسدة ، والمراد الأولى لا الثانية.

ومن فاسد هذا الضرب قول أبي الطيّب :

لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها

سرور محبّ أو إساءة مجرم (٣)

فإن ضد المحب هو المبغض ، والمجرم قد لا يكون مبغضا ، وله وجه بعيد.

والثاني : ما يسمى إيهام التضادّ كقول دعبل : [بن علي الخزاعي]

لا تعجبي يا سلم من رجل

ضحك المشيب برأسه ؛ فبكى (٤)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان أبي تمام ٢ / ١٨٧.

(٢) الأبيات من الخفيف ، والبيتان الثاني والثالث لابن حيوس في الإشارات والتنبيهات ص ٢٣٧.

(٣) البيت من الطويل ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٢٢٤.

(٤) البيت من الكامل ، وهو لدعبل الخزاعي في الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ١ / ٩٨.

٢٥٨

وقول أبي تمّام :

ما إن ترى الأحساب بيضا وضّحا

إلّا بحيث ترى المنايا سودا (١)

وقوله أيضا في الشيب :

له منظر في العين أبيض ناصع

ولكنه في القلب أسود أسفع (٢)

وقوله :

وتنظّري خبب الركاب ينصّها

محيي القريض إلى مميت المال (٣)

ودخل في المطابقة ما يخص المقابلة ، وهو : أن يؤتى بمعنيين متوافقين أو معان متوافقة ، ثم بما يقابلهما أو يقابلها على الترتيب ، والمراد بالتوافق خلاف التقابل.

وقد تتركب المقابلة من طباق وملحق به.

مثال مقابلة اثنين باثنين قوله تعالى : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) [التّوبة : الآية ٨٢] ، وقول النبي عليه السّلام : «إن الرّفق لا يكون في شيء إلّا زانه ، ولا ينزع من شيء إلّا شانه» (٤) ، وقول الذبياني : [البيت للنابغة الجعدي]

فتى تمّ فيه ما يسرّ صديقه

على أن فيه ما يسوء الأعاديا (٥)

وقول الآخر :

فوا عجبا!! كيف اتفقنا؟! فناصح

وفيّ ، ومطويّ على الغلّ غادر (٦)

فإنّ الغلّ ضدّ النّصح ، والغدر ضد الوفاء.

ومثال مقابلة ثلاثة بثلاثة قول أبي دلامة : [زند بن الجوف]

ما أحسن الدّين والدّنيا إذا اجتمعا

وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل!! (٧)

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو في المثل السائر ص ٢٧٧.

(٢) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٣) البيت من الكامل ، وهو في مفتاح العلوم ص ١٧٩ ، ودلائل الإعجاز ص ٧٤.

(٤) أخرجه مسلم في البر حديث ٧٨ ، وأحمد في المسند ٦ / ١٢٥.

(٥) البيت من الطويل ، وهو للنابغة الذبياني في ديوانه ص ١٥١ ، وللنابغة الجعدي في كتاب الصناعتين ص ٣٣٨.

(٦) البيت لم أجده.

(٧) البيت من الطويل ، وهو في تحرير التحبير ص ١٨١.

٢٥٩

وقول أبي الطيّب :

فلا الجود يفني المال والجدّ مقبل

ولا البخل يبقي المال والجدّ مدبر (١)

ومثال مقابلة أربعة بأربعة قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) (١٠) [الليل : الآيات ٥ ـ ١٠]. فإن المراد بـ «استغنى» أنه زهد فيما عند الله ، كأنه مستغن عنه ؛ فلم يتّق ، أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الجنة ؛ فلم يتّق.

قيل : وفي قول أبي الطيّب :

أزورهم وسواد الليل يشفع لي

وأنثني وبياض الصبح يغري بي (٢)

مقابلة خمسة بخمسة ، على أن المقابلة الخامسة بين «لي» و «بي».

وفيه نظر ؛ لأن اللام والباء فيهما صلتا الفعلين ؛ فهما من تمامهما.

وقد رجّح بيت أبي الطيّب على بيت أبي دلامة بكثرة المقابلة ، مع سهولة النظم ، وبأن قافية هذا ممكنة وقافية ذاك مستدعاة ، فإن ما ذكره غير مختص بالرجال.

وبيت أبي دلامة على بيت أبي الطيب بجودة المقابلة ، فإن ضدّ الليل المحض هو النهار لا الصبح.

ومن لطيف المقابلة ما حكي عن محمد بن عمران التيمي إذ قال له المنصور : «بلغني أنك بخيل» فقال : «يا أمير المؤمنين ما أجمد في حقّ ولا أذوب في باطل».

وقال السكاكي : المقابلة : أن تجمع بين شيئين متوافقين أو أكثر وضدّيهما ، ثم إذا شرطت هنا شرطا هناك ضدّه ، كقوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) [الليل : الآية ٥] الآيتين ، لما جعل التيسير مشتركا بين الإعطاء والاتقاء والتصديق ، جعل ضده وهو التعشير مشتركا بين أضداد تلك ، وهي المنع والاستغناء والتكذيب.

ومنه مراعاة النظير وتسمّى التناسب والائتلاف والتوفيق أيضا ، وهي أن يجمع في الكلام بين أمر وما يناسبه لا بالتضاد ، وكقوله تعالى : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) (٥) [الرّحمن : الآية ٥] وقول بعضهم للمهلّبي (٣) الوزير : «أنت أيها الوزير إسماعيليّ الوعد ،

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو ليس في ديوان المتنبي ، وهو لعبد الله بن طاهر في الأغاني ٦ / ٤٣.

(٢) البيت من البسيط ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٢١٠.

(٣) الوزير المهلبي : هو الحسن بن محمد بن هارون بن إبراهيم بن عبد الله المهلبي ، أبو محمد الوزير لمعز الدولة بن بويه الديلمي ، ولد بالبصرة سنة ٢٩١ ه‍ ، وتوفي في طريق واسط ، وحمل ودفن ببغداد سنة ٣٥٢ ه‍ ، صنف : ديوان الرسائل ، ديوان شعره ، كتاب في أصول النحو ، كتاب اللغة في مخارج الحروف. (كشف الظنون ٥ / ٢٧٠).

٢٦٠