الإيضاح في علوم البلاغة

جلال الدين محمّد بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد

الإيضاح في علوم البلاغة

المؤلف:

جلال الدين محمّد بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3907-X
الصفحات: ٤١٥

ونحوهما قول بعض العرب : [مضرس بن ربعي]

فطرت بمنصلي في يعملات

دوامي الأيد يخبطن السّريحا (١)

يقول : إنه قام بسيفه مسرعا إلى نوق فعقرهن ودميت أيديهن فخبطن السّيور المشدودة على أرجلهن.

وكاستعارة الفيض لانبساط الفجر في قوله : [البحتري]

كالفجر فاض على نجوم الغيهب (٢)

فإن الفيض موضوع لحركة الماء على وجه مخصوص ، وذلك أن يفارق مكانه دفعة ؛ فينبسط انبساط شبيه بذلك.

وكاستعارة التقطيع لتفريق الجماعة وإبعاد بعضهم عن بعض في قوله تعالى : (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً) [الأعراف : الآية ١٦٨] فإن القطع موضوع لإزالة الاتصال بين الأجسام التي بعضها ملتصق ببعض ؛ فالجامع بينهما إزالة الاجتماع التي هي داخلة في مفهومهما ، وهي في القطع أشدّ.

وكاستعارة الخياطة لسرد الدّرع في قول القطامي :

لم تلق قوما هم شرّ لإخوتهم

منّا عشيّة يجري بالدم الوادي (٣)

نقريهم لهذميّات نقدّ بها

ما كان خاط عليهم كلّ زرّاد

فإن الخياطة تضم خرق القميص ، والسّرد يضم حلق الدّرع ؛ فالجامع بينهما الضم الذي هو داخل في مفهومهما ، وهو في الأول أشد.

وكاستعارة النثر لإسقاط المنهزمين وتفريقهم في قول أبي الطيب :

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو لمضرس بن ربعي في شرح أبيات سيبويه ١ / ٦٢ ، وشرح شواهد الشافية ص ٤٨١ ، ولسان العرب (ثمن) ، (يدي) ، وله أو ليزيد بن الطثرية في شرح شواهد المغني ص ٥٩٨ ، ولسان العرب (جزز) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥٩١ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ٦٠ ، والإنصاف ٢ / ٥٤٥ ، وجمهرة اللغة ص ٥١٢ ، وخزانة الأدب ١ / ٢٤٢ ، والخصائص ٢ / ٢٦٩ ، وسر صناعة الإعراب ص ٥١٩ ، ٧٧٢ ، والكتاب ١ / ٢٧ ، ٤ / ١٩٠ ، ولسان العرب (خبط) ، ومغني اللبيب ١ / ٢٢٥ ، والمنصف ٢ / ٧٣.

(٢) صدر البيت :

يتراكمون على الأسنة في الوغى

والبيت من الكامل ، وهو في ديوان البحتري ١ / ٨٢.

(٣) البيتان من البسيط ، وهما للقطامي في ديوانه ص ٨١ ، والمطول شرح تلخيص المفتاح ص ٦٠٠ ، والأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ٢ / ٢٨٣.

٢٢١

نثرتهم فوق الأحيدب نثرة

كما نثرت فوق العروس الدّراهم (١)

لأن النثر أن تجمع أشياء في كف أو وعاء ، ثم يقع فعل تتفرق معه دفعة من غير ترتيب ونظام ، وقد استعاره لما يتضمن التفرّق على الوجه المخصوص ، وهو ما اتفق من تساقط المنهزمين في الحرب دفعة من غير ترتيب ونظام ، ونسبه إلى الممدوح لأنه سببه.

والثاني : ما يكون الجامع فيه غير داخل في مفهوم الطرفين ، كقولك : «رأيت شمسا» وتريد إنسانا يتهلّل وجهه ، فالجامع بينهما التلألؤ ، وهو غير داخل في مفهومهما.

وتنقسم باعتبار الجامع أيضا إلى عاميّة وخاصيّة.

فالعامية المبتذلة لظهور الجامع فيها ، كقولك : «رأيت أسدا ، ووردت بحرا».

والخاصية الغريبة التي لا يظفر بها إلا من ارتفع عن طبقة العامة ، كما سيأتي في الاستعارات الواردة في التنزيل ، كقول طفيل الغنوي :

وجعلت كوري فوق ناجية

يقتات شحم سنامها الرحل (٢)

وموضع اللطف والغرابة منه أنه استعار الافتيات لإذهاب الرّحل شحم السّنام ، مع أن الشحم مما يقتات.

وقول ابن المعتز :

حتى إذا ما عرف الصيد الضّار

وأذن الصبح لنا في الإبصار (٣)

ولما كان تعذّر الإبصار منعا من الليل ، جعل إمكانه عند ظهور الصبح إذنا منه.

وقول الآخر : [سوار بن المضرب]

بعرض تنوفة للريح فيه

نسيم لا يروع التّرب وان (٤)

وقوله : [ابن المعتز]

يناجيني الإخلاف من تحت مطله

فتختصم الآمال واليأس في صدري (٥)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ١٤٠.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان طفيل الغنوي ص ١٠٨ ، ولسان العرب (قوت) ، وهو بلا نسبة في تهذيب اللغة ٩ / ٢٥٤ ، وتاج العروس (قوت).

(٣) البيت من البسيط ، وهو في دلائل الإعجاز ص ٦١.

(٤) البيت من الوافر ، وهو لجحدر اليماني في لسان العرب (وني) ، وتاج العروس (وني).

(٥) البيت في دلائل الإعجاز ص ٦١.

٢٢٢

ثم الغرابة قد تكون في الشبه نفسه ، كما في تشبيه هيئة العنان ـ في موقعه من قربوس السرج ـ بهيئة الثوب في موقعه من ركبة المحتبي في قول يزيد بن مسلمة بن عبد الملك يصف فرسا له بأنه مؤدّب : [يزيد بن سلمة]

وإذا احتبى قربوسه بعنانه

علك الشّكيم إلى انصراف الزائر (١)

وقد تحصل بتصرّف في العامية ، كما في قول الآخر :

وسالت بأعناق المطيّ الأباطح (٢)

أراد أنها سارت سيرا حثيثا في غاية السرعة ، وكانت سرعة في لين وسلاسة حتى كأنها كانت سيولا وقعت في تلك الأباطح فجرت بها.

ومثلها في الحسن وعلوّ الطبقة في هذه اللفظة بعينها قول ابن المعتز :

سالت عليه شعاب الحيّ حين دعا

أنصاره بوجوه كالدنانير (٣)

أراد أنه مطاع في الحي ، وأنهم يسرعون إلى نصرته ، وأنه لا يدعوهم لخطب إلا أتوه ، وكثروا عليه ، وازدحموا حواليه ، حتى تجدهم كالسيول ، تجيء من هاهنا ، وتنصب من هذا المسيل وذاك ، حتى يغصّ بها الوادي ويطفح منها.

وهذا شبه معروف ظاهر ، ولكن حسن التصرف فيه أفاد اللطف والغرابة وذلك أن أسند الفعل إلى الأباطح والشعاب ، دون المطيّ أو أعناقها ، والأنصار أو وجوههم ؛ حتى أفاد أنه امتلأت الأباطح من الإبل ، والشعاب من الرجال ، على ما تقدم في قوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم : الآية ٤].

وفي كل واحد منهما شيء غير الذي في الآخر يؤكد أمر الدقة والغرابة :

أما الذي في الأول فهو أنه أدخل الأعناق في السّير ؛ فإن السرعة والبطء في سير الإبل يظهران غالبا في أعناقها على ما مر.

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو بلا نسبة في دلائل الإعجاز ص ٥٩ ، ٧٨.

(٢) صدر البيت :

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا

والبيت من الطويل ، وهو لكثير عزة في ملحق ديوانه ص ٥٢٥ ، وزهر الآداب ص ٣٤٩ ، وليزيد بن الطثرية في ديوانه ص ٦٤ ، والشعر والشعراء ص ٨ ، وبلا نسبة في لسان العرب (طرف) ، وأساس البلاغة (سيل) ، وتاج العروس (طرف) ، ومعجم البلدان (منى).

(٣) البيت من الكامل ، وهو لابن المعتز في الإشارات والتشبيهات ص ١٩٦ ، وبلا نسبة في دلائل الإعجاز ص ٥٩ ، ٧٨.

٢٢٣

وأما الذي في الثاني فهو أنه قال : «عليه» فعدّى الفعل إلى ضمير الممدوح بـ «على» فأكد مقصوده من كونه مطاعا في الحيّ.

وكما في قوله :

فرعاء ، إن نهضت لحاجتها

عجل القضيب وأبطأ الدّعص (١)

إذ وصف القضيب بالعجلة ، والدّعص بالبطء.

وقد تحصل الغرابة بالجمع بين عدة استعارات لإلحاق الشكل بالشكل ، كقول امرىء القيس :

فقلت له لما تمطّى بصلبه

وأردف أعجازا ، وناء بكلكل (٢)

أراد وصف الليل بالطول ؛ فاستعار له صلبا يتمطى به إذ كان كل ذي صلب يزيد في طوله عند تمطّيه شيء ، وبالغ في ذلك بأن جعل له أعجازا يردف بعضها بعضا ، ثم أراد أن يصفه بالثّقل على قلب ساهره ، والضغط لمكابده ؛ فاستعار له كلكلا ينوء به ، أي : يثقل به. وقال الشيخ عبد القاهر : لما جعل لليل صلبا تمطّى به ثنّى ذلك فجعل له أعجازا قد أردف بها الصّلب ، وثلّث فجعل له كلكلا قد ناء به ؛ فاستوفى له جملة أركان الشخص ، وراعى ما يراه الناظر من سواه إذا نظر قدّامه ، وإذا نظر خلفه ، وإذا رفع البصر ومدّه في عرض الجوّ.

وأما باعتبار الثلاثة ـ أعني الطرفين ، والجامع ـ فستة أقسام : استعارة محسوس لمحسوس بوجه حسّيّ ، أو بوجه عقلي ، أو بما بعضه حسّيّ وبعضه عقلي ، وباستعارة معقول لمعقول ، واستعارة محسوس لمعقول ، واستعارة معقول لمحسوس ، كل ذلك بوجه عقلي ، لما مر.

أما استعارة محسوس لمحسوس بوجه حسي فكقوله تعالى : (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) [طه : الآية ٨٨] فإن المستعار منه ولد البقرة ، والمستعار له الحيوان الذي خلقه الله تعالى من حليّ القبط التي سبكتها نار السامري عند إلقائه فيها التربة التي أخذها من موطىء حيزوم فرس جبرائيل عليه السّلام ، والجامع لهما الشكل ، والجميع حسّي.

وكقوله تعالى : (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) [الكهف : الآية ٩٩] فإن المستعار منه حركة الماء على الوجه المخصوص ، والمستعار له حركة الإنس والجن ، أو يأجوج

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو في المثل السائر ص ١٣٩.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان امرىء القيس ص ١٨ ، ولسان العرب (كلل) ، والمقاصد النحوية ٤ / ١٢٧.

٢٢٤

ومأجوج ، وهما حسّيان ، والجامع لهما ما يشاهد من شدة الحركة والاضطراب.

وأما قوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم : الآية ٤] فليس مما نحن فيه وإن عدّ منه لأن فيه تشبيهين : تشبيه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته ، وتشبيه انتشاره في الشعر باشتعالها في سرعة الانبساط مع تعذر تلافيه ، والأول استعارة بالكناية ، والجامع في الثاني عقلي ، وكلامنا في غيرهما.

وأما استعارة محسوس لمحسوس بوجه عقلي فكقوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) [يس : الآية ٣٧] فإن المستعار فيه كشط الجلد وإزالته عن الشاة ونحوها ، والمستعار له إزالة الضوء عن مكان الليل وملقى ظله ، وهما حسيان ، والجامع لهما ما يعقل من ترتّب أمر على آخر.

وقيل : المستعار له ظهور النهار من ظلمة الليل ، وليس بسديد ؛ لأنه لو كان ذلك لقال : (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف : الآية ٢٠١] ونحوه ، ولم يقل : (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) [يس : الآية ٣٧] أي : داخلون في الظلام.

قيل : ومنه قوله تعالى : (إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) [الذاريات : الآية ٤١] فإن المستعار منه المرأة ، والمستعار له الريح ، والجامع المنبع من ظهور النتيجة والأثر ؛ فالطرفان حسيان ، والجامع عقلي.

وفيه نظر لأن العقيم صفة للمرأة لا اسم لها ، وكذلك جعلت صفة للريح لا اسما.

والحق إن المستعار منه ما في المرأة من الصفة التي تمنع من الحمل ، والمستعار له ما في الريح من الصفة التي تمنع من إنشاء مطر وإلقاح شجر ، والجامع لهما ما ذكر.

وأما استعارة محسوس لمحسوس بما بعضه حسي وبعضه عقلي فكقولك : «رأيت شمسا» وأنت تريد إنسانا شبيها بالشمس في حسن الطلعة ونباهة الشأن ، وأهمل السكاكي هذا القسم.

وأما استعارة معقول لمعقول فكقوله تعالى : (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) [يس : الآية ٥٢] فإن المستعار منه الرقاد ، والمستعار له الموت ، والجامع لهما عدم ظهور الأفعال ، والجميع عقلي.

وأما استعارة محسوس لمعقول فكقوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) [الحجر : الآية ٩٤] فإن المستعار منه صدع الزجاجة ـ وهو كسرها ـ وهو حسي ، والمستعار له تبليغ الرسالة ، والجامع لهما التأثير ، وهما عقليان كأنه قيل : أبن الأمر إبانة لا تنمحي كما لا يلتئم صدع الزجاجة.

٢٢٥

وكقوله تعالى : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) [البقرة : الآية ٦١] جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم ؛ فهم فيها كما يكون في القبة من ضربت عليه ، أو ملصقة بهم حتى لزمتهم ضربة لازب كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه ؛ فالمستعار منه إما ضرب القبة على الشخص ، وإما ضرب الطين على الحائط ، وكلاهما حسي ، والمستعار له حالهم مع الذلة ، والجامع الإحاطة أو اللزوم وهما عقليان.

وأما استعارة معقول لمحسوس ، فكقوله تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) [الحاقّة : الآية ١١] فإن المستعار له كثرة الماء وهو حسي ، والمستعار منه التكبّر ، والجامع الاستعلاء المفرط ، وهما عقليان. وأما باعتبار اللفظ فقسمان :

لأنه إن كان اسم جنس فأصليّة ، كأسد ، وقتل.

وإلا فتبعيّة ، كالأفعال والصفات المشتقة منها ، والحروف ، لأن الاستعارة تعتمد التشبيه ، والتشبيه يعتمد كون المشبه موصوفا ، وإنما يصلح للموصوفية الحقائق ، كما في قولك : جسم أبيض ، وبياض صاف دون معاني الأفعال ، والصفات المشتقة منها ، والحروف.

فإن قلت : فقد قيل في نحو «شجاع باسل وجواد فيّاض وعالم نحرير» إنّ «باسلا» وصف لـ «شجاع» و «فياضا» وصف لـ «جواد» و «نحريرا» وصف لـ «عالم».

قلت : ذلك متأوّل بأن الثواني لا تقع صفات إلا لما يكون موصوفا بالأول.

فالتشبيه في الأفعال والصفات المشتقة منها لمعاني مصادرها ، وفي الحروف لمتعلقات معانيها ، كالمجرور في قولنا : زيد في نعمة ورفاهية فيقدر التشبيه في قولنا : «نطقت الحال بكذا» والحال ناطقة بكذا للدلالة بمعنى النطق.

وعليه في التهكمية قوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : الآية ٢١] بدل : «فأنذرهم» ، وقوله تعالى : (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [هود : الآية ٨٧] بدل : «السفيه الغوي».

وفي لام التعليل كقوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : الآية ٨] للعداوة والحزن الحاصلين بعد الالتقاط ، بالعلة الغائيّة للالتقاط.

ومما يتصل بهذا أن «يا» حرف وضع في أصله لنداء البعيد ، ثم استعمل في مناداة القريب ؛ لتشبيهه بالبعيد ، باعتبار أمر راجع إليه ، أو إلى المنادى.

أما الأول فكقولك لمن سها وغفل وإن قرب : يا فلان.

٢٢٦

وأما الثاني فكقول السائل في جؤارة : «يا ربّ يا الله» وهو أقرب إليه من حبل الوريد ؛ فإنه استقصاره منه لنفسه ، واستبعاد لها من مظانّ الزّلفى وما يقرّبه إلى رضوان الله تعالى ، ومنازل المقربين ، هضما لنفسه ، وإقرارا عليها بالتفريط في جنب الله تعالى ، مع فرط التهالك على استجابة دعوته ، والإذن لندائه وابتهاله.

واعلم أن مدار قرينة التبعية في الأفعال والصفات المشتقة منها على نسبتها إلى الفاعل ، كما مر في قولك : «نطقت الحال» أو إلى المفعول ، كقول ابن المعتز :

جمع الحقّ لنا في إمام

قتل البخل وأحيا السّماحا (١)

وقول كعب بن زهير :

صبحنا الخزرجيّة مرهفات

أباد ذوي أرومتها ذووها (٢)

والفرق بينهما أن الثاني مفعول ثان ، دون الأول.

ونظير الثاني قوله :

نقريهم لهذميّات نقدّ بها

ما كان خاط عليه كلّ زرّاد (٣)

أو إلى المفعولين الأول والثاني ، كقول الحريري : [أبو محمد ، القاسم بن علي]

وأقري المسامع إما نطقت

بيانا يقود الحرون الشّموسا (٤)

أو إلى المجرور ، كقوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : الآية ٢١].

قال السكاكي : أو إلى الجميع ، كقول الآخر :

تقري الرياح رياض الحزن مزهرة

إذا سرى النوم في الأجفان إيقاظا (٥)

وفيه نظر. وأما باعتبار الخارج فثلاثة أقسام :

__________________

(١) البيت من الرمل ، وهو في ديوان ابن المعتز ١ / ٤٦٨ ، والمصباح ص ١٣٥ ، والمطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ص ٦٠٠.

(٢) البيت من الوافر ، وهو لكعب بن زهير في ديوانه ص ١٠٤ ، وأمالي ابن الحاجب ص ٣٤٤ ، وشرح المفصل ١ / ٥٣ ، ٣ / ٣٦ ، ٣٨ ، ولسان العرب (ذو) ، وبلا نسبة في الدرر ٥ / ٢٨ ، والمقرب ١ / ٢١١ ، وهمع الهوامع ٢ / ٥٠.

(٣) البيت من البسيط ، وهو للقطامي في المطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ص ٦٠٠.

(٤) البيت للحريري (أبي محمد القاسم بن علي المتوفى سنة ٥١٦ ه‍) صاحب المقامات في المطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ص ٦٠٠.

(٥) البيت بلا نسبة في المطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ص ٦٠٠ ، والمصباح ص ١٣٦.

٢٢٧

أحدها : المطلقة ، وهي التي لم تقترن بصفة ولا تفريع كلام ، والمراد المعنوية لا النعت.

وثانيها : المجردة ، وهي التي قرنت بما يلائم المستعار له ، كقول كثيّر :

غمر الرّداء ، إذا تبسّم ضاحكا

غلقت لضحكته رقاب المال (١)

فإنه استعار الرداء للمعروف ؛ لأنه يصون عرض صاحبه كما يصون الرداء ما يلقى عليه ، ووصفه بالغمر الذي وصف المعروف لا الرداء ؛ فنظر إلى المستعار له.

وعليه قوله تعالى : (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) [النّحل : الآية ١١٢] حيث قال : «أذاقها» ولم يقل : «كساها» فإن المراد بالإذاقة إصابتهم بما استعير له اللباس ، كأنه قال : «فأصابها الله بلباس الجوع والخوف».

قال الزمخشري : الإذاقة جرت عندهم مجرى الحقيقة ، لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمسّ الناس منها ؛ فيقولون : ذاق فلان البؤس والضر ، وأذاقه العذاب ، شبّه ما يدرك من أثر الضر والأكم بما يدرك من طعم المر والبشع.

فإن قيل : الترشيح أبلغ من التجريد ، فهلا قيل : فكساها الله لباس الجوع والخوف ؛ قلنا : لأن الإدراك بالذوق يستلزم الإدراك باللمس من غير عكس ؛ فكان في الإذاقة إشعار بشدة الإصابة ، بخلاف الكسوة.

فإن قيل : لم لم يقل : فأذاقها الله طعم الجوع والخوف؟ قلنا : لأن الطعم وإن لاءم الإذاقة فهو مفوّت لما يفيده لفظ اللباس من بيان أن الجوع والخوف عمّ أثرهما جميع البدن عموم الملابس.

وثالثها : المرشحة ، وهي التي قرنت بما يلائم المستعار منه ، كقوله :

ينازعني ردائي عبد عمرو

رويدك يا أخا عمرو بن بكر (٢)

لي الشّطر الذي ملكت يميني

ودونك ؛ فاعتجر منه بشطر

إنه استعار الرداء للسيف لنحو ما سبق ، ووصفه بالاعتجار الذي هو وصف الرداء ؛ فنظر إلى المستعار منه.

وعليه قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة : الآية ١٦] فإنه استعار الاشتراء للاختيار ، وقفّاه بالربح والتجارة اللذين هما من متعلقات الاشتراء ؛ فنظر إلى المستعار منه.

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو في ديوان كثير عزة ص ٢٨٨.

(٢) البيتان من الوافر ، والبيت الأول بلا نسبة في لسان العرب (ردى).

٢٢٨

وقد يجتمع التجريد والترشيح كما في قول زهير :

لدى أسد شاكي السلاح مقذّف

له لبد أظفاره لم تقلّم (١)

والترشيح : أبلغ من التجريد ؛ لاشتماله على تحقيق المبالغة ، ولهذا كان مبناه على تناسي التشبيه حتى إنه يوضع الكلام في علوّ المنزلة وضعه في علوّ المكان ، كما قال أبو تمام :

ويصعد حتى يظنّ الجهول

بأن له حاجة في السماء (٢)

فلو لا أن قصده أن يتناسى التشبيه ، ويصمم على إنكاره فيجعله صاعدا في السماء من حيث المسافة المكانية ؛ لما كان لهذا الكلام وجه.

وكما قال ابن الرومي :

يا آل نوبخت لا عدمتكم

ولا تبدّلت بعدكم بدلا (٣)

إن صحّ علم النجوم ؛ كان لكم

حقا إذا ما سواكم انتحلا

كم عالم فيكم وليس بأن

قاسى ولكن بأن رقى فعلا!

أعلاكم في السماء مجدكم

فلستم تجهلون ما جهلا

شافهتم البدر بالسؤال عن ال

أمر إلى أن بلغتم زحلا

وكما قال بشار :

أتتني الشمس زائرة

ولم تك تبرح الفلكا (٤)

وكما قال أبو الطيّب :

كبّرت حول ديارهم لما بدت

منها الشموس وليس فيها المشرق (٥)

وكما قال : [أبو الطيب المتنبي]

ولم أر قبلي من مشى البدر نحوه

ولا رجلا قامت تعانقه الأسد (٦)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان زهير بن أبي سلمى ص ٢٤ ، ولسان العرب (قذف) ، (مكن) ، وتهذيب اللغة ٩ / ٧٦ ، وجمهرة اللغة ص ٩٧٤ ، وتاج العروس (قذف).

(٢) البيت من المتقارب ، وهو في ديوان أبي تمام ٤ / ٣٤ ، وأسرار البلاغة ص ٣٤٤.

(٣) الأبيات من المنسرح ، وهي في أسرار البلاغة ص ٣٤٤ ، ٣٤٥ ، وأنوار الربيع ص ٧٧.

(٤) البيت من مجزوء الوافر ، وهو في ديوان بشار بن برد ص ١٧١ ، وأسرار البلاغة ص ٣٥٤ ، والإشارات والتنبيهات ص ٢٠٣.

(٥) البيت من الكامل ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ٧٢.

(٦) البيت لم أجده في ديوان المتنبي (طبعة دار الكتب العلمية).

٢٢٩

ومن هذا الفن ما سبق من التعجب والنهي عنه ، غير أن مذهب التعجب على عكس مذهب النهي عنه ؛ فإن مذهب التعجب إثبات وصف ممتنع ثبوته للمستعار منه ، ومذهب النهي عنه إثبات خاصة من خواصّ المستعار منه.

وإذا جاز البناء على المشبه به مع الاعتراف بالمشبه ، كما في قول العباس بن الأحنف :

هي الشمس مسكنها في السماء

فعزّ الفؤاد عزاء جميلا (١)

فلن تستطيع إليها الصّعود

ولن تستطيع إليك النزولا

وقول سعيد بن حميد :

قلت : زوري ؛ فأرسلت :

أنا آتيك سحره (٢)

قلت : فالليل كان أخ

فى وأدنى مسرّه

فأجابت بحجّة

زادت القلب حسره

أنا شمس ، وإنما

تطلع الشمس بكره

فلأن يجوز مع جحده في الاستعارة أولى.

ومن هذا الباب قول الفرزدق :

أبي أحمد الغيثين صعصعة الذي

متى تخلف الجوزاء والدّلو يمطر (٣)

أجار بنات الوائدين ، ومن يجر

على الموت ، فاعلم أنه غير مخفر

ادّعى لأبيه اسم الغيث ، ادّعاء من سلّم له ذلك ، ومن لا يخطر بباله أنه متناول له من طريق التشبيه.

وكذلك قول عدي بن الرقاع يصف حمارين وحشيين :

يتعاوران من الغبار ملاءة

بيضاء محكمة هما نسجاها (٤)

تطوى إذا وردا مكانا محزنا

وإذا السنابك أسهلت نشراها

__________________

(١) البيتان من المتقارب ، وهما في ديوان العباس بن الأحنف ص ٢٢١ ، وأسرار البلاغة ص ٣٤٩ ، والإشارات والتنبيهات ص ٢٠٣.

(٢) الأبيات من مجزوء الخفيف ، وهي في أسرار البلاغة ص ٣٥٨ ، ومفتاح العلوم ص ١٦٤ ، والإشارات والتنبيهات ص ٢٠٣.

(٣) البيتان من الطويل ، وهما في ديوان الفرزدق ص ٤٨٢.

(٤) البيتان من الكامل ، وهما في ديوان عدي بن الرقاع ص ٥٠ ، وأساس البلاغة (جسأ) ، والطرائف الأدبية ص ٩٦.

٢٣٠

المجاز المركب

وأما المجاز المركب فهو اللفظ المركب المستعمل فيما شبّه بمعناه الأصلي تشبيه التمثيل للمبالغة في التشبيه ، أي : تشبيه إحدى صورتين منتزعتين من أمرين أو أمور بالأخرى ، ثم تدخل المشبّهة في جنس المشبه بها مبالغة في التشبيه ؛ فتذكر بلفظها من غير تغيير بوجه من الوجوه.

كما كتب به الوليد بن يزيد ـ لما بويع ـ إلى مروان بن محمد ، وقد بلغه أنه متوقّف في البيعة له : «أما بعد ، فإني أراك تقدّم رجلا ، وتؤخّر أخرى ، فإذا أتاك كتابي هذا ، فاعتمد على أيّهما شئت ، والسّلام».

شبّه صورة تردّده في المبايعة بصورة تردّد من قام ليذهب في أمر ، فتارة يريد الذهاب فيقدّم رجلا ، وتارة لا يريد فيؤخر أخرى.

وكما يقال لمن يعمل في غير معمل : «أراك تنفخ في غير فحم ، وتخطّ على الماء» ، والمعنى : أنك في فعلك كمن يفعل ذلك ، وكما يقال لمن يعمل الحيلة حتى يميل صاحبه إلى ما كان يمتنع منه : «ما زال يفتل منه في الذّروة والغارب حتى بلغ منه ما أراد» والمعنى أنه لم يزل يرفق بصاحبه رفقا يشبه حاله فيه حال من يجيء إلى البعير الصعب ، فيحكه ، ويفتل الشّعر في ذروته وغاربه حتى يسكن ويستأنس ، وهذا في المعنى نظير قولهم : «فلان يقرّد فلانا» أي : يتلطف به ، فعل من ينزع القراد من البعير ؛ ليلتذّ بذلك ، فيسكن ، ويثبت في مكانه ، حتى يتمكن من أخذه.

وكذا قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) [الحجرات : الآية ١] فإنه لما كان التقدم بين يدي الرجل خارجا عن صفة المتابع له ؛ صار النهي عن التقدم متعلّقا باليدين ميلا للنهي عن ترك الاتّباع.

وكذلك قوله تعالى : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الزمر : الآية ٦٧] إذ المعنى ـ والله أعلم ـ أن مثل الأرض في تصرفها تحت أمر الله تعالى وقدرته مثل الشيء يكون في قبضة الآخذ له منّا ، والجامع يده عليه. وكذا قوله تعالى : (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٦٧) [الزّمر : الآية ٦٧] أي : يخلق فيها صفة الطّيّ حتى ترى كالكتاب المطويّ بيمين الواحد منا ، وخصّ اليمين ليكون أعلى وأفخم للمثل ؛ لأنها أشرف اليدين وأقواهما ، والتي لا غناء للأخرى دونها ، فلا يهش إنسان لشيء إلا بدأ بيمينه فهيّأها لنيله ، ومتى قصد جعل الشيء في جهة العناية جعل في اليد اليمنى ، ومتى قصد خلاف ذلك جعل في اليسرى ، كما قال ابن ميّادة :

٢٣١

ألم تك في يمنى يديك جعلتني؟

فلا تجعلنّي بعدها في شمالكا (١)

أي : كنت مكرما عندك ؛ فلا تجعلني مهانا ، وكنت في المكان الشريف منك ، فلا تحطّني في المنزل الوضيع.

وكذا إذا قلت للمخلوق : «والأمر بيدك» أردت المثل ، أي : الأمر كالشيء يحصل في يدك ؛ فلا يمتنع عليك.

وكذا قوله تعالى : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) [الأعراف : الآية ١٥٤] قال الزمخشري : كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ، ويقول له : «قل لقومك كذا ، وألق الألواح ، وجرّ برأس أخيل إليك» فترك النطق بذلك ، وقطع الإغراء ، ولم يستحسن هذه الكلمة ، ولم يستفصحها كل ذي طبع سليم ، وذوق صحيح إلا لذلك ، ولأنه من قبيل شعب البلاغة ، وإلا فما لقراءة معاوية بن قرّة : «ولما سكن عن موسى الغضب» لا تجد النفس عندها شيئا من تلك الهزّة وطرفا من تلك الروعة.

وأما قولهم : «اعتصمت بحبله» فقال الزمخشري أيضا يجوز أن يكون تمثيلا لاستظهاره به ، ووثوقه بحمايته ، باستمساك المتدلي من مكان مرتفع ، بحبل وثيق يأمن انقطاعه ، وأن يكون الحبل استعارة لعهده ، والاعتصام لوثوقه بالعهد أو ترشيحا لاستعارة الحبل بما يناسبه.

وكذلك قول الشماخ :

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقّاها عرابة باليمين (٢)

الشبه فيه مأخوذ من مجموع التلقّي واليمين ، على حد قولهم : تلقّيته بكلتا اليدين ؛ ولهذا لا تصلح حيث يقصد التجوز فيها وحدها ، فلا يقال : «هو عظيم اليمين» بمعنى «عظيم القدرة» ولا «عرفت يمينك على هذا» بمعنى «عرفت قدرتك عليه».

ومثله قول الآخر : [الأعور الشني]

هوّن عليكم ؛ فإن الأمور

بكفّ الإله مقاديرها (٣)

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو في كتاب الصناعتين ص ٣٤٦.

(٢) البيت من الوافر ، وهو للشماخ في ديوانه ص ٣٣٦ ، ولسان العرب (عرب) ، (يمن) ، وتهذيب اللغة ٨ / ٢٢١ ، ١٥ / ٥٢٣ ، وجمهرة اللغة ص ٣١٩ ، ٩٩٤ ، وتاج العروس (عرب) ، ومقاييس اللغة ٦ / ١٥٨.

(٣) البيت من المتقارب ، وهو للأعور الشني في الدرر ٤ / ١٣٩ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٣٣٨ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٢٧ ، ٢ / ٨٧٤ ، والكتاب ١ / ٦٤ ، ولبشر بن أبي خازم في العقد الفريد ٣ / ٢٠٧ ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٧ / ٦٢ ، وأمالي ابن الحاجب ٢ / ـ ـ

٢٣٢

وكذا ما روى أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال : «إن أحدكم إذا تصدق بالتمر من الطيّب ـ ولا يقبل الله إلا الطّيب ـ جعل الله ذلك في كفه ، فيربّيها كما يربّي أحدكم فلوه ، حتى يبلغ بالتمرة مثل أحد» (١) والمعنى فيهما على انتزاع الشبه من المجموع.

وكل هذا يسمى التمثيل على سبيل الاستعارة ، وقد يسمى التمثيل مطلقا ، ومتى فشا استعماله كذلك سمّي مثلا ؛ ولذلك لا تغيّر الأمثال.

ومما يبنى على التمثيل نحو قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) [ق : الآية ٣٧] معناه : لمن كان له قلب ناظر فيما ينبغي أن ينظر فيه ، واع لما يجب وعيه ، ولكن عدل عن هذه العبارة ونحوها إلى ما عليه التلاوة بقصد البناء على التمثيل ؛ ليفيد ضربا من التخييل ؛ وذلك إنه لما كان الإنسان حين لا ينتفع بقلبه ؛ فلا ينظر فيما ينبغي أن ينظر فيه ، ولا يفهم ، ولا يعي ، جعل كأنه قد عدم القلب جملة ، كما جعل من لا ينتفع بسمعه وبصره ، فلا يفكر فيما يؤديان إليه بمنزلة العادم لهما ، ولزم على هذا أن لا يقال : «فلان له قلب» إلا إذا كان ينتفع بقلبه ، فينظر فيما ينبغي أن ينظر فيه ويعي ما يجب وعيه ، فكان في قوله تعالى : (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) [ق : الآية ٣٧] تخييل أن من لم ينتفع بقلبه كالعادم للقلب جملة ، بخلاف نحو قولنا : لمن كان له قلب ناظر فيما ينبغي أن ينظر فيه ، واع لما يجب وعيه.

وفي نظم الآية فائدة أخرى شريفة ، وهي تقليل اللفظ مع تكثير المعنى.

ونقل الشيخ عبد القاهر عن بعض المفسرين أنه قال : المراد بالقلب العقل ، ثم شدّد عليه النكير في هذا التفسير ، وقال : وإن كان المرجع فيما ذكرناه عند التحصيل إلى ما ذكره ، ولكن ذهب عليه أن الكلام مبنيّ على تخييل أن من لا ينتفع بقلبه ـ فلا ينظر ، ولا يعي ـ بمنزلة من عدم قلبه جملة ، كما تقول في قول الرجل إذا قال : «قد غاب عني قلبي» أو «ليس يحضرني قلبي» إنه يريد أن يخيّل إلى السامع أنه غاب عنه قلبه بجملته ، دون أن يريد الإخبار أن عقله لم يكن هناك ، وإن كان المرجع عند التحصيل إلى ذلك ، وكذا إذا قال : «لم أكن ها هنا» يريد غفلته عن الشيء ؛ فهو يضع كلامه على التخييل.

__________________

٦٧٩ ، والجنى الداني ص ٤٧١ ، وخزانة الأدب ١٠ / ١٤٨ ، ومغني اللبيب ١ / ١٤٦ ، والمقتضب ٤ / ١٩٦ ، ٢٠٠ ، وهمع الهوامع ٢ / ٢٩.

(١) الحديث أخرجه البخاري في الزكاة باب ٨ ، والتوحيد باب ٢٣ ، ومسلم في الزكاة حديث ٦٣ ، ٦٤ ، والترمذي في الزكاة باب ٢٨ ، والنسائي في الزكاة باب ٤٨ ، وابن ماجة في الزكاة باب ٢٨ ، والدارمي في الزكاة باب ٣٤ ، ومالك في الصدقة حديث ١ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٣١ ، ٣٨٢ ، ٤١٨ ، ٤١٩ ، ٤٣١ ، ٤٧١ ، ٥٣٨ ، ٥٤١ ، ٦ / ٢٥١.

٢٣٣

هذا معنى كلام الشيخ ، وهو حق ، لأن المراد بالآية الحثّ على النظر ، والتقريع على تركه ، فإن أراد هذا المفسّر بتفسيره أن المعنى لمن كان له عقل مطلقا فهو ظاهر الفساد ، وإن أراد أن المعنى لمن كان له عقل ينتفع به ويعمله فيما خلق له من النظر فتفسير القلب بالعقل ، ثم تقييد العقل بما قيّده ، عري عن الفائدة ؛ لصحة وصف القلب بذلك ، بدليل قوله تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) [الأعراف : الآية ١٧٩].

واعلم أن المثل السائر لما كان فيه غرابة ، استعير لفظة «المثل» للحال ، أو الصفة ، أو القصة ، إذا كان لها شأن وفيها غرابة.

وهو في القرآن كثير ، كقوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) [البقرة : الآية ١٧] أي : حالهم العجيب الشأن كحال الذي استوقد نارا ، وكقوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) [النّحل : الآية ٦٠] أي : الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة ، وقوله تعالى : (مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) [الفتح : الآية ٢٩] أي صفتهم وشأنهم المتعجب منه ، وكقوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) [محمّد : الآية ١٥] أي : فيما قصصنا عليك من العجائب قصة الجنة العجيبة ، ثم أخذ في بيان عجائبها ، إلى غير ذلك.

فصل

في بيان الاستعارة بالكناية والاستعارة التخييليّة

قد يضمر التشبيه في النفس فلا يصرّح بشيء من أركانه سوى لفظ المشبه ، ويدل عليه بأن يثبت للمشبه أمر مختص بالمشبه به ، من غير أن يكون هناك أمر ثابت حسّا أو عقلا أجري عليه اسم ذلك الأمر ؛ فيسمى التشبيه استعارة بالكناية ، أو مكنيّا عنها ، وإثبات ذلك الأمر للمشبه استعارة تخييلية ، والعلم في ذلك قول لبيد : [بن ربيعة]

وغداة ريح قد كشفت وقرّة

إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها (١)

فإنه جعل للشّمال يدا ، ومعلوم أنه ليس هناك أمر ثابت حسا أو عقلا تجري اليد عليه ، كإجراء الأسد على الرجل الشجاع ، والصراط على ملّة الإسلام فيما سبق ، ولكن لما شبّه الشمال ـ لتصريفها القرّة على حكم طبيعتها في التصريف ـ بالإنسان المصرّف لما زمامه بيده ، أثبت لها يدا على سبيل التخييل ؛ مبالغة في تشبيهها به ، وحكم الزمام ـ في استعارته للقرّة ـ حكم اليد في استعارتها للشّمال ، فجعل للقرّة زماما ؛ ليكون أتمّ في

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو في ديوان لبيد ص ٣١٥ ، وأساس البلاغة (بدي) ، ورواية صدر البيت في الديوان :

وغداة ريح قد وزعت ومرّة

٢٣٤

إثباتها مشرّفة ، كما جعل للشّمال يدا ، ليكون أبلغ في تصييرها متصرّفة ، فوفّى المبالغة حقّها من الطرفين ؛ فالضمير في «أصبحت» و «زمامها» للقرّة ، وهو قول الزمخشري. والشيخ عبد القاهر جعله للغداة ، والأول أظهر.

واعلم أن الأمر المختص بالمشبه به المثبت للمشبه ، منه ما لا يكمل وجه الشبه في المشبه به بدونه ، كما في قول أبي ذؤيب الهذلي : [خويلد بن خالد]

وإذا المنيّة أنشبت أظفارها

ألفيت كلّ تميمة لا تنفع (١)

فإنه شبه المنية بالسبع ، في اغتيال النفوس بالقهر والغلبة من غير تفرقة بين نفّاع وضرّار ، ولا رقّة لمرحوم ، ولا بقيا على ذي فضيلة ؛ فأثبت للمنية الأظفار التي لا يكمل ذلك في السبع بدونها ؛ تحقيقا للمبالغة في التشبيه.

ومنه ما به يكون قوام وجه الشبه في المشبه به ، كما في قول الآخر :

ولئن نطقت بشكر برّك مفصحا

فلسان حالي بالشّكاية أنطق (٢)

فإنه شبه الحال الدالة على المقصود بالإنسان متكلّم في الدلالة ؛ فأثبت لها اللسان الذي به قوام الدلالة في الإنسان.

وأما قول زهير :

صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله

وعرّي أفراس الصّبا ورواحله (٣)

فيحتمل أن يكون استعارة تخييلية ، وأن يكون استعارة تحقيقية.

أما التخييل فأن يكون أراد أن يبيّن أنه ترك ما كان يرتكبه أوان المحبة من الجهل والغيّ وأعرض عن معاودته ، فتعطّلت آلاته كأيّ أمر وطّنت النفس على تركه ، فإنه تهمل آلاته فتتعطّل ؛ فشبه الصبا بجهة من جهات المسير ـ كالحج والتجارة ـ قضي منها الوطر ، فأهملت آلاتها ، فتعطلت ؛ فأثبت له الأفراس والرواحل ؛ فالصبا على هذا من الصّبوة بمعنى الميل إلى الجهل والفتوّة لا بمعنى الفتاء.

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص ٨ ، وتهذيب اللغة ١١ / ٣٨٠ ، وسمط اللآلي ص ٨٨٨ ، وأمالي القالي ٢ / ٢٥٥ ، وكتاب الصناعتين ص ٢٨٤ ، وللهذلي في لسان العرب (تمم) ، وبلا نسبة في تاج العروس (نشب) ، (تمم) ، والعقد الفريد ٥ / ٢٤.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لمحمد بن عبد الله العتبي أو لأبي النضر بن عبد الجبار في يتيمة الدهر للثعالبي ٤ / ٤٠٤.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ١٢٤ ، ولسان العرب (أجل) ، (رحل) ، وبلا نسبة في كتاب العين ٣ / ٢٦٨ ، وتاج العروس (صحا).

٢٣٥

وأما التحقيق فأن يكون أراد دواعي النفوس ، وشهواتها ، والقوى الحاصلة لها في استيفاء اللذّات ، أو الأسباب التي قلما تتآخذ في اتّباع الغيّ إلا أوان الصّبا.

فصل

في آراء للسكاكي في الحقيقة والمجاز

اعلم أن كلام السكاكي في هذا الباب ـ أعني باب الحقيقة والمجاز ـ والفصل الذي يليه ؛ مخالف لمواضع مما ذكرنا ؛ فلا بد من التعرض لها ، ولبيان ما فيها.

منها : أنه عرف الحقيقة اللغوية بالكلمة المستعملة فيما هي موضوعة له من غير تأويل في الوضع ، وقال : إنما ذكرت هذا القيد ـ يعني قوله من غير تأويل في الوضع ـ ليحترز به عن الاستعارة ، ففي الاستعارة تعدّ الكلمة مستعملة فيما هي موضوعة له على أصح القولين ولا نسمّيها حقيقة ، بل نسميها مجازا لغويا ؛ لبناء دعوى المستعار موضوعا للمستعار له على ضرب من التأويل كما مر.

ثم عرّف المجاز اللغويّ بالكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق استعمالا في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها ، مع قرينة مانعة عن إرادة معناها في ذلك النوع ، وقال : قولي «بالتحقيق» احتراز أن لا تخرج الاستعارة ، التي هي من باب المجاز ، نظرا إلى دعوى استعمالها فيما هي موضوعة له على ما مر.

وقوله : «استعمالا في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها» بمنزلة قولنا في تعريف المجاز «في اصطلاح به التخاطب» على ما مر ؛ وقوله : «مع قرينة إلخ» احتراز عن الكناية كما تقدم.

وفيهما نظر لأن لفظ الوضع وما يشتق منه إذا أطلق لا يفهم منه الوضع بتأويل ، وإنما يفهم منه الوضع بالتحقيق ؛ لما سبق من تفسير الوضع ، فلا حاجة إلى تقييد الوضع في تعريف الحقيقة بعدم التأويل وفي تعريف المجاز بالتحقيق ، اللهمّ إلا أن يراد زيادة البيان ، لا تتميم الحد.

ثم تقييد الوضع باصطلاح التخاطب ونحوه ، إذا كان لا بد منه في تعريف المجاز ، ليدخل فيه نحو لفظ «الصلاة» ـ إذا استعملها المخاطب بعرف الشرع في الدعاء مجازا ـ فلا بد منه في تعريف الحقيقة أيضا ، ليخرج نحو هذا اللفظ منه كما سبق ، وقد أهمله في تعريفها.

لا يقال : قوله في تعريفها «من غير تأويل في الوضع» أغنى عن هذا القيد ، فإن

٢٣٦

استعمال اللفظ فيما وضع له في غير اصطلاح التخاطب إنما يكون بتأويل في وضعه ؛ لأن التأويل في الوضع يكون في الاستعارة على أحد القولين ، دون سائر أقسام المجاز ، ولذلك قال : وإنما ذكرت هذا القيد ليحترز به عن الاستعارة.

ثم تعريفه للمجاز يدخل فيه الغلط كما تقدم.

ومنها : أنه قسم المجاز إلى الاستعارة وغيرها ، وعرف الاستعارة بأن تذكر أحد طرفي التشبيه وتريد به الطرف الآخر مدّعيا دخول المشبه في جنس المشبه به ، وقسم الاستعارة إلى المصرّح بها ، والمكنيّ عنها ، وعنى بالمصرّح بها أن يكون المذكور من طرفي التشبيه هو المشبه به ؛ وجعلها ثلاثة أضرب : تحقيقية ، وتخييلية ، ومحتملة للتحقيق والتخييل ، وفسر التحقيقية بما بمر ، وعد التمثيل على سبيل الاستعارة منها.

وفيه نظر ؛ لأن التمثيل على سبيل الاستعارة لا يكون إلا مركبا كما سبق ، فكيف يكون قسما من المجاز المفرد؟! ولو لم يقيد الاستعارة بالإفراد. وعرفها بالمجاز الذي أريد به ما شبّه بمعناه الأصلي مبالغة في التشبيه ؛ دخل كل من التحقيقية والتمثيل في تعريف الاستعارة.

ومنها : أنه فسر التخييلية بما استعمل في صورة وهمية محضة قدّرت مشابهة لصورة محققة هي معناه ، كلفظ الأظفار في قول الهذلي ؛ فإنه لما شبه المنية بالسبع في الاغتيال على ما تقدم أخذ الوهم في تصويرها بصورته ، واختراع مثل ما يلائم صورته ، ويتم به شكله لها ، من الهيئات والجوارح ، وعلى الخصوص ما يكون قوام اغتياله للنفوس به ، فاخترع للمنية صورة مشابهة لصورة الأظفار المحققة ، فأطلق عليها اسمها.

وفيه نظر ؛ لأن تفسير التخييلية بما ذكره بعيد ؛ لما فيه من التعسّف ، وأيضا فظاهر تفسير غيره لها ـ بقولهم : جعل الشيء للشيء كجعل لبيد للشّمال يدا ـ يخالفه ، لاقتضاء تفسيره أن يجعل للشمال صورة متوهّمة مثل صورة اليد ، لا أن يجعل لها يدا ، فإطلاق اسم اليد على تفسيره استعارة ، وعلى تفسير غيره حقيقة ، والاستعارة إثباتها للشّمال كما قلنا في المجاز العقلي الذي فيه المسند حقيقة لغوية.

وأيضا فيلزمه أن يقول بمثل ذلك ـ أعني بإثبات صورة متوهمة ـ في ترشيح الاستعارة ؛ لأن كل واحد من التخييلية والترشيح فيه إثبات بعض لوازم المشبه به المختصة به للمشبه ، غير أن التعبير عن المشبه في التخييلية بلفظه الموضوع له ، وفي الترشيح بغير لفظه ، وهذا لا يفيد فرقا ، والقول بهذا يقتضي أن يكون الترشيح ضربا من التخييلية ، وليس كذلك.

٢٣٧

وأيضا فتفسيره للتخييلية أعمّ من أن تكون تابعة للاستعارة بالكناية ـ كما في بيت الهذلي ـ أي غير تابعة بأن يتخيل ابتداء صورة وهميّة مشابهة لصورة محققة ؛ فيستعار لها اسم الصورة المحققة ، والثانية بعيدة جدا ، ويدل على إرادته دخول الثانية في تفسير التخييلية أنه قال : حسنها بحسب حسن المكنيّ عنها متى كانت تابعة لها ، كما في قولك : فلان بين أنياب المنية ومخالبها ، وقلما تحسن الحسن البليغ غير تابعة لها ؛ ولذلك استهجنت في قول الطائيّ : [أبو تمام]

لا تسقني ماء الملام ، فإنني

صبّ قد استعذبت ماء بكائي (١)

فإن قيل : لم لا يجوز أن يريد بغير التابعة للمكنّي عنها التابعة لغير المكنى عنها؟

قلنا : غير المكني عنها هي المصرّح بها ؛ فتكون التابعة لها ترشيح الاستعارة ، وهو من أحسن وجوه البلاغة ، فكيف يصح استهجانه؟

وأما قول أبي تمام فليس له فيه دليل ؛ لجواز أن يكون أبو تمام شبّه الملام بظرف الشراب ؛ لاشتماله على ما يكرهه الملوم ، كما أن الظرف قد يشتمل على ما يكرهه الشارب ؛ لبشاعته أو مرارته ؛ فتكون التخييلية في قوله تابعة للمكنى عنها ، أو بالماء نفسه ؛ لأن اللوم قد يسكن حرارة الغرام ، كما أن الماء يسكن غليل الأورام ؛ فيكون تشبيها على حدّ «لجين الماء» فيما مر ، لا استعارة ، والاستهجان على الوجهين لأنه كان ينبغي له أن يشبّهه بظرف شراب مكروه ، أو بشراب مكروه ، ولهذا لم يستهجن نحو قولهم : «أغلظت لفلان القول» و «جرّعته منه كأسا مرّة» أو «سقيته أمرّ من العلقم».

ومنها : أنه عنى بالاستعارة المكنى عنها أن يكون المذكور من طرفي التشبيه هو المشبه ، على أن المراد بالمنية ـ في قول الهذلي ـ السبع بادّعاء السبعيّة لها ، وإنكار أن تكون شيئا غير السبع بقرينة إضافة الأظفار إليها.

وفيه نظر ؛ للقطع بأن المراد بالمنية في البيت هو الموت لا الحيوان المفترس ، فهو مستعمل فيما هو موضوع له على التحقيق ، وكذا كل ما هو نحوه ، ولا شيء من الاستعارات مستعملا كذلك.

وأما ما ذكره في تفسير قوله : من أنا ندّعي هاهنا أن اسم المنيّة اسم للسبع مرادف للفظ السبع بارتكاب تأويل ـ وهو : أن تدخل المنيّة في جنس السبع للمبالغة في التشبيه ـ ثم نذهب على سبيل التخييل إلى أن الواضع كيف يصح منه أن يضع اسمين لحقيقة

__________________

(١) البيت لأبي تمام في ديوانه ص ١٤ ، والمصباح ص ١٤٢ ، ومفتاح العلوم ص ٤٩٨ ، ونهاية الإيجاز ص ٢٥٤.

٢٣٨

واحدة ولا يكونان مترادفين؟! فيتهيأ لنا بهذا الطريق دعوى السبعية للمنية مع التصريح بلفظ المنية ؛ فلا يفيده ، لأن ذلك لا يقتضي كون اسم المنية غير مستعمل فيما هو موضوع له على التحقيق من غير تأويل ؛ فيدخل في تعريفه للحقيقة ، ويخرج من تعريفه للمجاز ، وكأنه لما رأى علماء البيان يطلقون لفظ الاستعارة على نحو ما نحن فيه وعلى أحد نوعي المجاز اللغوي ـ الذي هو اللفظ المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي ـ ويقولون : الاستعارة تنافي ذكر طرفي التشبيه ؛ ظن أن مرادهم بلفظ الاستعارة عند الاستعارة عند الإطلاق ، وفي قولهم : «استعارة بالكناية» ؛ معنى واحد ؛ فبنى على ذلك ما تقدم.

ومنها : أنه قال في آخر فصل الاستعارة التبعية : هذا ما أمكن من تلخيص كلام الأصحاب في مبدأ الفصل ، ولو أنهم جعلوا قسم الاستعارة التبعية من قسم الاستعارة بالكناية ، بأن قلبوا ، فجعلوا في قولهم «نطقت الحال بكذا» الحال ـ التي ذكرها عندهم قرينة الاستعارة بالتصريح ـ استعارة بالكناية عن المتكلم بوساطة المبالغة في التشبيه على مقتضى المقام ، وجعلوا نسبة النطق إليه قرينة الاستعارة ، كما تراهم في قوله : [أبو ذؤيب ، خويلد بن خالد]

وإذا المنية أنشبت أظفارها (١)

يجعلون المنية استعارة بالكناية عن السبع ، ويجعلون إثبات الأظفار لها قرينة الاستعارة ، وهكذا لو جعلوا البخل استعارة بالكناية عن حيّ أبطلت حياته بسيف أو غير سيف فالتحق بالعدم ، وجعلوا نسبة القتل إليه قرينة الاستعارة ، ولو جعلوا أيضا اللهّذميّات استعارة بالكناية عن المطعومات اللطيفة الشهيّة على سبيل التهكم ، وجعلوا نسبة لفظ القرى إليها قرينة الاستعارة لكان أقرب إلى الضبط.

هذا لفظه ، وفيه نظر ؛ لأن التبعية التي جعلها قرينة لقرينتها التي جعلها استعارة بالكناية كـ «نطقت» في قولنا : «نطقت الحال بكذا» لا يجوز أن يقدرها حقيقة حينئذ ؛ لأنه لو قدرها حقيقة لم تكن استعارة تخييلية ؛ لأن الاستعارة التخييلية عنده مجاز كما مر ،

__________________

(١) عجز البيت :

ألفيت كلّ منيّة لا تنفع

والبيت من الكامل ، وهو لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص ٨ ، وتهذيب اللغة ١١ / ٣٨٠ ، ١٤ / ٢٦٠ ، وسمط اللآلي ص ٨٨٨ ، وأمالي القالي ٢ / ٢٥٥ ، وكتاب الصناعتين ص ٢٨٤ ، وللهذلي في لسان العرب (تمم) ، وبلا نسبة في لسان العرب (نشب) ، وتاج العروس (نشب) ، (تمم) ، والعقد الفريد ٥ / ٢٤.

٢٣٩

ولو لم تكن تخييلية لم تكن الاستعارة بالكناية مستلزمة للتخييلية ، واللازم باطل باتفاق ؛ فيتعين أن يقدرها مجازا ، وإذا قدرها مجازا لزمه أن يقدرها من قبيل الاستعارة ؛ لكون العلاقة بين المعنيين هي المشابهة ؛ فلا يكون ما ذهب إليه مغنيا عن قسمة الاستعارة إلى أصلية وتبعية ، ولكن يستفاد مما ذكر رد التركيب في التبعية إلى تركيب الاستعارة بالكناية على ما فسرناها ، وتصير التبعية حقيقة واستعارة تخييلية ؛ لما سبق أن التخييلية على ما فسرناها حقيقة لا مجاز.

فصل

شروط حسن الاستعارة

وإذ قد عرفت معنى الاستعارة التحقيقية ، والاستعارة التخييلية ، والاستعارة بالكناية ، والتمثيل على سبيل الاستعارة ، فاعلم أن لحسنها شروطا إن لم تصادفها عريت عن الحسن ، وربما تكتسب قبحا.

وهي في كل من التحقيقية والتمثيل رعاية ما سبق ذكره من جهات حسن التشبيه ، وأن لا يشمّ من جهة اللفظ رائحته ، ولذلك يوصى فيه أن يكون الشبه بين طرفيها جليّا بنفسه أو عرف أو غيره ، وإلا صار تعمية وإلغازا ، لا استعارة وتمثيلا ، كما إذا قيل : «رأيت أسدا» وأريد إنسان أبخر ، وكما إذا قيل : «رأيت إبلا مائة لا تجد فيها راحلة» وأريد الناس ، أو قيل : «رأيت عودا مستقيما أوان الغرس» وأريد إنسان مؤدّب في صباه ، وبهذا ظهر أنهما لا يجيئان في كل ما يجيء فيه التشبيه.

ومما يتصل بهذا أنه إذا قوي الشبه بين الطرفين ـ بحيث صار الفرع كأنه الأصل ـ لم يحسن التشبيه ، وتعيّنت الاستعارة ، وذلك كالنور إذا شبّه العلم به والظلمة إذا شبّهت الشبهة بها ؛ فإنه لذلك يقول الرجل إذا فهم المسألة : «حصل في قلبي نور» ولا يقول : «كأن نورا حصل في قلبي» ويقول لمن أوقعه في شبهة : «أوقعتني في ظلمة» ولا يقول : «كأنك أوقعتني في ظلمة».

وكذا المكنيّ عنها ، حسنها برعاية جهات حسن التشبيه.

وأما التخييلية فحسنها بحسب حسن المكني عنها ؛ لما بينا أنها لا تكون إلا تابعة لها.

٢٤٠