جلال الدين محمّد بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3907-X
الصفحات: ٤١٥
وقول الشريف الرّضي :
أرسى النّسيم بواديكم ولا برحت |
|
حوامل المزن في أجداثكم تضع (١) |
ولا يزال جنين النّبت ترضعه |
|
على قبوركم العرّاضة الهمع |
والمرسل ما ذكرت أداته ، كقوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) [البقرة : الآية ١٧] ، وقوله عز وجل : (عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الحديد : الآية ٢١] ، وقول امرىء القيس :
وتعطو برخص غير شثن كأنّه |
|
أساريع ظبي أو مساويك إسحل (٢) |
وقول البحتري :
وإذا الأسنّة خالطتها ؛ خلتها |
|
فيها خيال كواكب في الماء (٣) |
إلى ذلك كما تقدم. وأما باعتبار الغرض فإما مقبول ، أو مردود.
المقبول : الوافي بإفادة الغرض ؛ كأن يكون المشبه به أعرف شيء بوجه الشبه ، إذا كان الغرض بيان حال المشبه من جهة وجه الشبه ، أو بيان المقدار.
ثم الطرفان في الثاني إن تساويا في وجه الشبه ؛ فالتشبيه كامل في القبول ، وإلا فكلما كان المشبه به أسلم من الزيادة والنقصان ؛ كان أقرب إلى الكمال. أو كأن يكون المشبه به أتمّ شيء في وجه الشبه ؛ إذا قصد إلحاق الناقص بالكامل.
أو أن يكون المشبه به مسلّم الحكم معروفه عند المخاطب في وجه الشبه ؛ إذا كان الغرض بيان إمكان الوجود.
والمردود بخلاف ذلك ، أي : القاصر عن إفادة الغرض.
__________________
(١) البيتان من البسيط ، ولم أجدهما في المصادر والمراجع التي بين يدي.
(٢) البيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ١٧ ، وجمهرة اللغة ص ٣٦٣ ، ٥٤٣ ، وحاشية يس ٢ / ٨٥ ، وشرح المفصل ٦ / ٩٢ ، ٧ / ١٤٤ ، ولسان العرب (سرع) ، (سحل) ، (شثن) ، (ظبا) ، والمصنف ٣ / ٥٨ ، وتاج العروس (سحل) ، (شثن) ، (ظبا).
(٣) البيت من الكامل ، ولم أجده.
خاتمة
قد سبق أن أركان التشبيه أربعة : المشبه ، والمشبه به ، وأداة التشبيه ، ووجهه.
فالحاصل في مراتب التشبيه في القوة والضعف في المبالغة باعتبار ذكر أركانه كلّها أو بعضها ثمان :
إحداها : ذكر الأربعة ، كقولك : «زيد كالأسد في الشجاعة» ولا قوّة لهذه المرتبة.
وثانيتها : ترك المشبه ، كقولك : «كالأسد في الشجاعة» أي : زيد ، وهي كالأولى في عدم القوة.
وثالثتها : ترك كلمة التشبيه ؛ كقولك : «زيد أسد في الشجاعة» وفيها نوع قوة.
ورابعها : ترك المشبه وكلمة التشبيه ، كقولك : «أسد في الشجاعة» أي : زيد ، وهي كالثالثة في القوة.
وخامستها : ترك وجه الشبه كقولك : «زيد كالأسد» وفيها نوع قوة ؛ لعموم وجه الشبه من حيث الظاهر.
وسادستها : ترك المشبه ووجه التشبيه ، كقولك : «كالأسد» أي : زيد ، وهي كالخامسة.
وسابعتها : ترك كلمة التشبيه ووجهه ، كقولك : «زيد أسد» وهي أقوى الجميع.
وثامنتها : إفراد المشبه به بالذكر ، كقولك : «أسد» أي : زيد ، وهي كالسابعة.
واعلم أن الشّبه قد ينتزع من نفس التضادّ ؛ لاشتراك الضدين فيه ثم ينزّل منزلة التناسب بوساطة تمليح أو تهكّم ؛ فيقال للجبان : «ما أشبهه بالأسد» وللبخيل : هو حاتم.
القول في الحقيقة والمجاز
وقد يقيّدان باللغويّين ، الحقيقة : الكلمة المستعملة فيما وضعت له في اصطلاح به التخاطب ، فقولنا : «المستعملة» احتراز عما لم يستعمل ، فإن الكلمة قبل الاستعمال لا تسمّى حقيقة ، وقولنا : «فيما وضعت له» احتراز عن شيئين :
أحدهما : ما استعمل في غير ما وضعت له غلطا ، كما إذا أردت أن تقول لصاحبك : «خذ هذا الكتاب» مشيرا إلى كتاب بين يديك ، فغلطت ، فقلت : «خذ هذا الفرس».
والثاني : أحد قسمي المجاز ، وهو ما استعمل فيما لم يكن موضوعا له في اصطلاح
به التخاطب ، ولا في غيره ، كلفظة «الأسد» في الرجل الشجاع. وقولنا : «في اصطلاح به التخاطب» احتراز عن القسم الآخر من المجاز.
وهو ما استعمل فيما وضع له لا في اصطلاح به التخاطب ، كلفظ «الصلاة» يستعمله المخاطب بعرف الشرع في الدعاء مجازا. والوضع تعيين اللفظ للدلالة على معنى بنفسه.
فقولنا «بنفسه» احتراز من تعيين اللفظ للدلالة على معنى بقرينة ، أعني المجاز ؛ فإن ذلك التعيين لا يسمى وضعا.
ودخل المشترك في الحدّ ؛ لأن عدم دلالته على أحد معنييه بلا قرينة لعارض ـ أعني الاشتراك ـ لا ينافي تعيينه للدلالة عليه بنفسه.
وذهب السكاكي إلى أن المشترك ـ كالقرء ـ معناه الحقيقي هو ما لا يتجاوز معنييه ، كالطّهر والحيض ، غير مجموع بينهما.
قال : فهذا ما يدلّ عليه بنفسه ما دام منتسبا إلى الوضعين ، أما إذا خصصته بواحد ـ إما صريحا ، مثل أن يقول : «القرء بمعنى الطهر» وإما استلزاما ، مثل أن تقول : «القرء لا بمعنى الحيض» ـ فإنه حينئذ ينتصب دليلا دالا بنفسه على الطهر بالتعيين ، كما كان الواضع عيّنه بإزائه بنفسه.
ثم قال في موضع آخر : وأما ما يظنّ بالمشترك من الاحتياج إلى القرينة في دلالته على ما هو معناه ؛ فقد عرفت أن منشأ هذا الظنّ عدم تحصيل معنى المشترك الدائر بين الوضعين.
وفيما ذكره نظر ؛ لأنّا لا نسلّم أن معناه الحقيقي ذلك ، وما الدليل على أنه عند الإطلاق يدل عليه؟ ثم قوله : «إذا قيل : القرء بمعنى الطهر أو لا بمعنى الحيض ، فهو دالّ بنفسه على الطهر بالتعيين ، سهو طاهر ؛ فإن القرينة كما تكون معنويّة تكون لفظيّة ، وكل من قوله : «بمعنى الطهر» وقوله «لا بمعنى الحيض» قرينة. وقيل : دلالة اللفظ على معناه لذاته.
وهو ظاهر الفساد ؛ لاقتضائه أن يمنع نقله إلى المجاز ، وجعله علما ، ووضعه للمتضادّين ، كالجون للأسود والأبيض ، فإن ما بالذّات لا يزول بالغير ؛ ولاختلاف اللغات باختلاف الأمم.
وتأوّله السكاكي رحمه الله على أنه تنبيه على ما عليه أئمة علمي الاشتقاق والتصريف ، من أن للحروف في أنفسها خواصّ بها تختلف ، كالجهر والهمس ، والشدّة
والرّخاوة والتوسط بينها ، وغير ذلك ، مستدعية أن العالم بها ، إذا أخذ في تعيين شيء منها لمعنى ، لا يهمل التناسب بينهما ؛ قضاء لحقّ الحكمة ، كالفصم ـ بالفاء الذي هو حرف رخو ـ لكسر الشيء من غير أن يبين ، والقصم ـ بالقاف الذي هو حرف شديد ـ لكسر الشيء حتى يبين ، وأن للتركيبات ـ كالفعلان والفعلى بالتحريك كالنّزوان والحيدى ، وفعل مثل شرف وغير ذلك ـ خواصّ أيضا ؛ فيلزم فيها ما يلزم في الحروف ، وفي ذلك نوع تأثير لأنفس الكلم في اختصاصها بالمعاني.
والمجاز : مفرد ، ومركّب (وهما مختلفان).
أما المفرد فهو : الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له ، في اصطلاح به التخاطب ، على وجه يصحّ ، مع قرينة عدم إرادته. فقولنا : «المستعملة» احتراز عما لم يستعمل ، لأن الكلمة قبل الاستعمال لا تسمّى مجازا ، كما لا تسمى حقيقة.
وقولنا : «في الاصطلاح به التخاطب» ليدخل فيه نحو لفظ «الصلاة» إذا استعمله المخاطب بعرف الشرع في الدعاء مجازا ؛ فإنه وإن كان مستعملا فيما وضع له في الجملة فليس بمستعمل فيما وضع له في الاصطلاح الذي به وقع التخاطب.
وقولنا : «على وجه يصح» احتراز عن الغلط كما سبق.
وقولنا : «مع قرينة عدم إرادته» احتراز عن الكناية كما تقدم.
والحقيقة لغويّة ، وشرعيّة ، وعرفيّة : خاصّة ، أو عامّة. لأن واضعها إن كان واضع اللغة فلغوية ، وإن كان الشارع فشرعيّة ، وإلا فعرفية ، والعرفية إن تعيّن صاحبها نسبت إليه ، كقولنا : كلامية ، ونحويّة ، وإلا بقيت مطلقة.
مثال اللغوية : لفظ «أسد» إذا استعمله المخاطب بعرف اللغة في السبع المخصوص. ومثال الشرعية : لفظ «صلاة» إذا استعمله المخاطب بعرف الشرع في العبادة المخصوصة ، ومثال العرفيّة الخاصة : لفظ «فعل» إذا استعمله المخاطب بعرف النحو في الكلمة المخصوصة ، ومثال العرفيّة العامّة : لفظ «دابة» إذا استعمله المخاطب بالعرف العامّ في ذي الأربع. وكذلك المجاز المفرد : لغويّ ، وشرعيّ ، وعرفيّ.
مثال اللغويّ : لفظ «أسد» إذا استعمله المخاطب بعرف اللغة في الرجل الشجاع ، ومثل الشرعيّ : لفظ «صلاة» إذا استعمله المخاطب بعرف الشرع في الدعاء ، ومثال العرفيّ الخاصّ : لفظ «فعل» إذا استعمله المخاطب بعرف النحو في الحدث ، ومثال العرفيّ العام : لفظ «دابة» إذا استعمله المخاطب بالعرفي العام في الإنسان.
والحقيقة إما فعيل بمعنى مفعول ، من قولك : حققت الشيء أحقّه ؛ إذا أثبتّه ، أو
فعيل بمعنى فاعل من قولك : حقّ الشيء يحقّ ، إذا ثبت ، أي المثبتة أو الثابتة في موضعها الأصلي.
فأما التاء فقال صاحب المفتاح : هي عندي للتأنيث في الوجهين ، لتقدير لفظ «الحقيقة» قبل التسمية صفة مؤنّث غير مجراة على الموصوف وهو الكلمة ، وفيه نظر.
وقيل : هي لثقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية الصّرفة ، كما قيل في «أكيلة ونطيحة» إن التاء فيهما لنقلهما من الوصفية إلى الاسمية فلذلك لا يوصف بهما فلا يقال : شاة أكيلة أو نطيحة.
والمجاز قيل : مفعل من جاز المكان يجوزه ، إذا تعدّاه ، أي : تعدت موضعها الأصلي ، وفيه نظر.
والظاهر أنه من قولهم : جعلت كذا مجازا إلى حاجتي ، أي : طريقا له ، على أن معنى «جاز المكان» سلكه على ما فسره الجوهري (١) وغيره ، فإن المجاز طريق إلى تصور معناه. واعتبار التناسب (في التسمية) يغاير اعتبار المعنى في الوصف ، كتسمية إنسان له حمرة بأحمر ، ووصفه بأحمر ؛ فإن الأول لترجيح الاسم على غيره حال وضعه له ، والثاني لصحة إطلاقه ، فلا يصح نقض الأول بوجود المعنى في غير المسمى ، كما يلهج به بعض الضعفاء.
والمجاز ضربان : مرسل ، واستعارة ؛ لأن العلاقة المصحّحة إن كانت تشبيه معناه بما هو موضوع له فهو استعارة ، وإلا فهو مرسل.
وكثيرا ما تطلق الاستعارة على استعمال اسم المشبه به في المشبه ، فيسمّى المشبه به مستعارا منه ، والمشبه مستعارا له ، واللفظ مستعارا ، وعلى الأول لا يشتقّ منه ؛ لكونه اسما للفظ ، لا للحدث.
المجاز المرسل
الضرب الأول : المرسل ، وهو ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه وما وضع له ملابسة غير التشبيه ، كاليد إذا استعملت في النّعمة ؛ لأن من شأنها أن تصدر عن الجارحة ، ومنها تصل إلى المقصود بها ، ويشترط أن يكون في الكلام إشارة إلى المولى
__________________
(١) الجوهري : هو إسماعيل بن حماد الجوهري الإمام ، أبو نصر الفارابي اللغوي ، من أبناء الترك ، سكن نيسابور وتوفي بها سنة ٣٩٣ ه ، له من المصنفات : الصحاح في اللغة ، شرح أدب الكاتب ، كتاب بيان الإعراب ، كتاب العروض ، مقدمة في النحو. (كشف الظنون ٥ / ٢٠٩).
لها ؛ فلا يقال : اتّسعت اليد في البلد ، أو اقتنيت يدا ، كما يقال : اتّسعت النعمة في البلد ، أو : اقتنيت نعمة ، وإنما يقال : جلّت يده عندي ، وكثرت أياديه لديّ ، ونحو ذلك.
ونظير هذا قولهم في صفة راعي الإبل : إن له عليها إصبعا ، أرادوا أن يقولوا : له عليها أثر حذق ، فدلّوا عليه بالإصبع ؛ لأنه ما من حذق يد إلا وهو مستفاد من حسن تصريف الأصابع. واللطف في رفعها ووضعها ، كما في الحطّ والنّقش ، وعلى ذلك قيل في تفسير قوله تعالى : (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) (٤) [القيامة : الآية ٤] أي نجعلها كخفّ البعير ؛ فلا يتمكن من الأعمال اللطيفة ، فأرادوا بالإصبع الأثر الحسن ، حيث يقصد الإشارة إلى حذق في الصنعة لا مطلقا حتى يقال : رأيت أصابع الدار ، وله إصبع حسنة وإصبع قبيحة ، على معنى له أثر حسن وأثر قبيح ، ونحو ذلك.
وينظر إلى هذا قولهم : ضربته سوطا ؛ لأنهم عبّروا عن الضربة الواقعة بالسوط باسم السوط ؛ فجعلوا أثر السوط سوطا ، وتفسيرهم له بقولهم : المعنى : ضربته ضربة بالسوط ؛ بيان لما كان الكلام عليه في أصله.
ونظير قولنا : «له عليّ يد» قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لأزواجه : «أسرعكنّ لحوقا ـ ويروى لحاقا ـ بي أطولكنّ يدا» (١) ، وقوله : «أطولكن» نظير ترشيح الاستعارة ، ولا بأس أن يسمى ترشيح المجاز ، والمعنى بسط اليد بالعطاء.
وقيل : قوله «أطولكن» من الطّول بمعنى الفضل ، يقال : لفلان على فلان طول ، أي : فضل ؛ فاليد على هذين الوجهين بمعنى النعمة. ويحتمل أن يريد : أطولكن يدا بالعطاء ، أي : أمدّكنّ ، فحذف قوله : «بالعطاء» للعلم به.
وكاليد أيضا إذا استعملت في القدرة ؛ لأن أكثر ما يظهر سلطانها في اليد ، وبها يكون البطش ، والضرب ، والقطع ، والأخذ ، والدفع ، والوضع ، والرفع ، وغير ذلك من الأفعال التي تنبىء عن وجود القدرة ومكانها.
وأما اليد في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم : «المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمّتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم» (٢) فهو استعارة والمعنى أن مثلهم مع كثرتهم في وجوب الاتفاق بينهم مثل اليد الواحدة ، فكما لا يتصوّر أن يخذل بعض أجزاء اليد بعضا ، وأن
__________________
(١) أخرجه البخاري في الزكاة باب ١١ ، والنسائي في الزكاة باب ٥٩.
(٢) أخرجه أبو داود في الجهاد باب ١٤٧ ، والديات باب ١١ ، والنسائي في القسامة باب ١٠ ، ١٣ ، وابن ماجة في الديات باب ٣١ ، وأحمد في المسند ١ / ١١٩ ، ١٢٢ ، ٢ / ١٨٠ ، ١٩٢ ، ٢١١ ، ٢١٥.
تختلف بها الجهة في التصرّف : كذلك سبيل المؤمنين في تعاضدهم على المشركين ؛ لأن كلمة التوحيد جامعة لهم.
وكالرواية للمزادة مع كونها للبعير الحامل لها ؛ لحمله إياها ، وكالحفض في البعير ، مع كونه لمتاع البيت ؛ لحمله إياه ، وكالسماء في الغيث ، كقوله : أصابتنا السماء ؛ لكونه من جهة المظلّة ، وكالإكاف في قول الشاعر :
يأكلن كلّ ليلة إكافا (١)
أي : علفا بثمن الإكاف.
وهذا الضرب من المجاز يقع على وجوه كثيرة غير ما ذكرنا :
منها : تسمية الشيء باسم جزئه ، كالعين في الرّبيئة ؛ لكون الجارحة المخصوصة هي المقصود في كون الرجل ربيئة ، إذا ما عداها لا يغني شيئا مع فقدها ، فصارت كأنها الشخص كلّه.
وعليه قوله تعالى : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) (٢) [المزمّل : الآية ٢] أي : صلّ ، ونحوه : (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) [التّوبة : الآية ١٠٨] ، أي : لا تصلّ ، وقول النبي عليه السّلام : «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه» (٢) أي : من صلّى.
ومنها : عكس ذلك نحو : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) [البقرة : الآية ١٩] أي : أناملهم ، وعليه قولهم : قطعت السارق ، وإنما قطعت يده.
ومنها : تسمية المسبب باسم السبب ، كقولهم : رعينا الغيث ، أي : النبات الذي سببه الغيث.
وعليه قوله عز وجل : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [البقرة : الآية ١٩٤] سمّي جزاء الاعتداء اعتداء لأنه مسبّب عن الاعتداء.
وقوله تعالى : (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) [محمّد : الآية ٣١] تجوّز بالبلاء عن العرفان ؛ لأنه مسبب عنه ، كأنه قيل : ونعرف أخباركم.
وعليه قول عمرو بن كلثوم :
__________________
(١) قبله :
إنّ لنا أحمرة عجافا
والرجز بلا نسبة في لسان العرب (أكف) ، وتاج العروس (أكف).
(٢) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٢٥ ، ٢٧ ، والصوم باب ٦ ، وليلة القدر باب ١ ، ومسلم في المسافرين حديث ١٧٣ ـ ١٧٦ ، وأبو داود في رمضان باب ١ ، والترمذي في الصوم باب ١.
ألا لا يجهلن أحد علينا |
|
فنجهل فوق جهل الجاهلينا (١) |
الجهل الأول حقيقة ، والثاني مجاز عبّر به عن مكافأة الجهل.
وكذا قوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشّورى : الآية ٤٠] تجوّز بلفظ السيئة عن الاقتصاص ؛ لأنه مسبّب عنها.
قيل : وإن عبّر عما ساء ـ أي أحزن ـ لم يكن مجازا لأن الاقتصاص محزن في الحقيقة كالجناية.
وكذا قوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) [آل عمران : الآية ٥٤] تجوّز بلفظ المكر عن عقوبته ؛ لأنه سببها.
قيل : ويحتمل أن يكون مكر الله حقيقة ؛ لأن المكر هو التدبير فيما يضر الخصم ، وهذا محقّق من الله تعالى ، باستدراجه إياهم بنعمه مع ما أعدّ لهم من نقمه.
ومنها : تسمية السبب باسم المسبّب ، كقولهم : أمطرت السماء نباتا وعليه قولهم : «كما تدين تدان» أي كما تفعل تجازى.
وكذا لفظ الأسنمة في قوله يصف غيثا :
أقبل في المسنّنّ من ربابه |
|
أسنمة الآبال في سحابه (٢) |
وكذا تفسير إنزال أزواج الأنعام في قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الزّمر : الآية ٦] بإنزال الماء على وجه ؛ لأنها لا تعيش إلا بالنبات ، والنبات لا يقوم إلا بالماء ، وقد أنزل الماء ، فكأنه أنزلها ، ويؤيّده ما ورد : أن كل ما في الأرض من السماء ، ينزله الله تعالى إلى الصخرة ، ثم يقسمه ، قيل : وهذا معنى قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) [الزّمر : الآية ٢١].
وقيل : معناه : وقضى لكم لأن قضاياه وقسمه موصوفة بالنزول من السماء ؛ حيث كتب في اللوح كل كائن يكون. وقيل : خلقها في الجنة ، ثم أنزلها.
__________________
(١) البيت من الوافر ، وهو لعمرو بن كلثوم في ديوانه ص ٧٨ ، ولسان العرب (رشد) ، وأمالي المرتضى ١ / ٥٧ ، ٣٢٧ ، ٢٢ / ١٤٧ ، والبصائر ، والذخائر ٢ / ٨٢٩ ، وبهجة المجالس ٢ / ٦٢١ ، وجمهرة أشعار العرب ١ / ٤١٤ ، وخزانة الأدب ٦ / ٤٣٧ ، وشرح ديوان امرىء القيس ص ٣٢٧ ، وشرح شواهد المغني ١ / ١٢٠ ، وشرح القصائد السبع ص ٤٢٦ ، وشرح القصائد العشر ص ٣٦٦ ، وشرح المعلقات السبع ص ١٧٨ ، وشرح المعلقات العشر ص ٩٢ ، وعيون الأخبار ٢ / ٢١١ ، وبلا نسبة في لسان العرب (خدع) ، والمخصص ٣ / ٨١ ، وأساس البلاغة (جهل).
(٢) الرجز ، وهو في الكامل للمبرد ٢ / ٦٨.
وكذا قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) [غافر : الآية ١٣] أي : مطرا هو سبب الرزق.
وقوله تعالى : (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) [النّساء : الآية ١٠].
وقولهم : فلان أكل الدّم ، أي : الدّيّة التي هي مسبّبة عن الدم ، قال : [حماسة أبي تمام]
أكلت دما إن لم أرعك بضرّة |
|
بعيدة مهوى القرط ، طيّبة النّشر (١) |
وقوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) [النّحل : الآية ٩٨] أي : أردت القراءة بقرينة الفاء مع استفاضة السنة بتقديم الاستعاذة.
وقوله تعالى : (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ) [هود : الآية ٤٥] أي : أراد ؛ بقرينة فقال : (رَبِ) [البقرة : الآية ١٢٦].
وقوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) [الأعراف : الآية ٤] أي : أردنا إهلاكها ؛ بقرينة (فَجاءَها بَأْسُنا).
وكذا قوله تعالى : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) [الأنبياء : الآية ٦] بقرينة (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء : الآية ٦] وفيه دلالة واضحة على الوعيد بالإهلاك ؛ إذ لا يقع الإنكار في (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء : الآية ٦] في المحزّ إلا بتقدير : «ونحن على أن نهلكهم».
ومنها : تسمية الشيء باسم ما كان عليه ، كقوله عز وجل : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) [النّساء : الآية ٢] أي : الذين كانوا يتامى ، إذ لا يتم بعد البلوغ.
وقوله : (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً) [طه : الآية ٧٤] سمّاه مجرما باعتبار ما كان عليه في الدنيا من الإجرام.
ومنها : تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه ، كقوله تعالى : (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) [يوسف : الآية ٣٦].
ومنها : تسمية الحالّ باسم محلّه ، كقوله تعالى : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) (١٧) [العلق : الآية ١٧] أي : أهل ناديه.
ومنها : عكس ذلك ، نحو : (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ) [آل عمران : الآية ١٠٧] أي في الجنة.
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو لأعرابي في الحماسة ٢ / ٣٨.
ومنها : تسمية الشيء باسم آلته ، كقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) [إبراهيم : الآية ٤] أي بلغة قومه.
وقوله تعالى : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) (٨٤) [الشّعراء : الآية ٨٤] أي ذكرا جميلا وثناء حسنا.
وكذا غير ذلك مما بين معنى اللفظ وما هو موضوع تعلّق سوى التشبيه.
قال صاحب المفتاح : وللتعلق بين الصارف عن فعل الشيء والداعي إلى تركه ؛ يحتمل عندي أن يكون المراد بـ «منعك» في قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) [الأعراف : الآية ١٢] «دعاك» و «لا» غير صلة قرينة المجاز ، وكذا : (ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلَّا تَتَّبِعَنِ) [طه : الآيتان ٩٢ ، ٩٣].
قال الراغب (١) رحمه الله : قال بعض المفسرين : إن معنى «ما منعك» ما حماك ، وجعلك في منعة منّي في ترك السجود؟ أي : في معاقبة تركه.
وقد استبعد ذلك بعضهم بأن قال : لو كان كذا لم يكن يجيب بأن يقول : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) [ص : الآية ٧٦] فإن ذلك ليس بجواب السؤال على ذلك الوجه ، وإنما هو جواب من قيل له : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ)
ويمكن أن يقال في جواب ذلك : إن إبليس لما كان ألزم ما لم يجد سبيلا إلى الجواب عنه ؛ إذ لم يكن من كالىء يحرسه ويحميه ؛ عدل عمّا كان جوابا كما يفعل المأخوذ بكظمه في المناظرة ؛ انتهى كلامه. وقسم الشيخ صاحب المفتاح المجاز المرسل إلى خال عن الفائدة ، ومفيد.
وجعل الخالي عن الفائدة ما استعمل في أعم مما هو موضوع له ، كالمرسن في قول العجّاج :
وفاحما ومرسنا مسرّجا (٢)
__________________
(١) الراغب الأصبهاني : هو الحسين بن محمد بن مفضل الإمام أبو القاسم المعروف بالراغب الأصبهاني نزيل بغداد. توفي سنة ٥٠٠ ه ، له من الكتب : أخلاق الراغب ، أفانين البلاغة ، تحقيق البيان في تأويل القرآن ، تفسير القرآن ، تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين ، درة التأويل في متشابه التنزيل ، الذريعة إلى مكارم الشريعة ، رسالة في فوائد القرآن ، محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء ، المعاني الأكبر ، مفردات ألفاظ القرآن. (كشف الظنون ٥ / ٣١١).
(٢) قبله :
وجبهة وحاجبا مزجّجا
والرجز للعجاج في ديوانه ٢ / ٣٤ ، ولسان العرب (سرج) ، (رسن) ، وتاج العروس (سرج) ، (رسن) ، وجمهرة اللغة ص ٤٥٨ ، ٧٢٢ ، ومجمل اللغة ٣ / ١٣٨ ، وأساس البلاغة (رسن) ، ـ ـ
فإنه مستعمل في الأنف لا بقيد كونه لمرسون مع كونه موضوعا له بهذا القيد لا مطلقا ، وكالمشفر في نحو قولنا : «فلان غليظ المشافر» إذا قامت قرينة على أن المراد هو الشّفة لا غير.
وقال : سمّي هذا الضرب غير مفيد لقيامه مقام أحد المترادفين من نحو «ليث ، وأسد» ، و «حبس ، ومنع» عند المصير إلى المراد منه.
وأراد بالمفيد ما عدا الخالي عن الفائدة والاستعارة كما مر.
والشيخ عبد القاهر رحمه الله جعل الخالي عن الفائدة ما استعمل في شيء بقيد ، مع كونه موضوعا لذلك
الشيء بقيد آخر ، من غير قصد التشبيه ، ومثّله ببعض ما مثّله الشيخ صاحب المفتاح ونحوه ، مصرّحا بأن الشّفة والأنف موضوعان للعضوين المخصوصين من الإنسان ، فإن قصد التشبيه صار اللفظ استعارة ، كقولهم في مواضع الذّم : «غليظ المشفر» فإنه بمنزلة أن يقال : كأن شفته في الغلظ مشفر البعير ، وعليه قول الفرزدق :
فلو كنت ضبّيّا عرفت قرابتي |
|
ولكنّ زنجيّا غليظ المشافر (١) |
أي : ولكنّك زنجيّ كأنه جمل لا يهتدي لشرفي. وكذا قول الحطيئة يخاطب الزّبرقان :
قروا جارك العيمان لمّا جفوته |
|
وقلّص عن برد الشراب مشافره (٢) |
فإنه وإن عنى نفسه بالجار ، جاز أن يقصد إلى وصف نفسه بنوع من سوء الحال ؛ ليزيد في التهكّم بالزّبرقان ، ويؤكد ما قصده من رميه بإضاعة الضّيف وإسلامه للضّرّ والبؤس.
__________________
وكتاب العين ٦ / ٥٣ ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة ١٠ / ٥٨٢ ، ومقاييس اللغة ٣ / ١٥٦ ، والمخصص ١ / ٩٢ ، ٢ / ١٥٥.
(١) البيت من الطويل ، وهو للفرزدق في ديوانه ص ٤٨١ ، وجمهرة اللغة ص ١٣١٢ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٤٤٤ ، والدرر ٢ / ١٧٦ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٠١ ، وشرح المفصل ٨ / ٨١ ، ٨٢ ، والكتاب ٢ / ١٣٦ ، ولسان العرب (شفر) ، والمحتسب ٢ / ١٨٢ ، وبلا نسبة في الإنصاف ١ / ١٨٢ ، والجني الداني ص ٥٩٠ ، وخزانة الأدب ١١ / ٢٣٠ ، والدرر ٣ / ١٦٠ ، ورصف المباني ص ٢٧٩ ، ٢٨٩ ، ومجالس ثعلب ١ / ١٢٧ ، ومغني اللبيب ص ٢٩١ ، والمنصف ٣ / ١٢٩ ، وهمع الهوامع ١ / ٣٦ ، ٢٢٣.
(٢) البيت من الطويل ، وهو للحطيئة في ديوانه ص ٢٥ ، وجمهرة اللغة ص ١٣١٢ ، وبلا نسبة في المخصص ٤ / ١٣٦ ، ١٢ / ١٨١.
وكذا قول الآخر : [الأخطل]
سأمنعها ، أو سوف أجعل أمرها |
|
إلى ملك أظلافه لم تشقّق (١) |
الاستعارة
الضرب الثاني من المجاز : الاستعارة ، وهي ما كانت علاقته تشبيه معناه بما وضع له.
وقد تقيّد بالتحقيقية ، لتحقق معناها حسّا أو عقلا ، أي : التي تتناول أمرا معلوما يمكن أن ينصّ عليه ويسار إليه إشارة حسّيّة أو عقلية ، فيقال : إن اللفظ نقل من مسمّاه الأصلي ، فجعل اسما له على سبيل الإعارة للمبالغة في التشبيه. أما الحسيّ فكقولك : «رأيت أسدا» وأنت تريد رجلا شجاعا ، وعليه قول زهير :
لدى أسد شاكي السّلاح مقذّف (٢)
أي : لدى رجل شجاع ، ومن لطيف هذا الضرب : ما يقع التشبيه فيه في الحركات ، كقول أبي دلامة يصف بغلته : [زند بن الجوان]
أرى الشّهباء تعجن إذ غدونا |
|
برجليها ، وتخبز باليدين (٣) |
شبّه حركة رجليها ـ حيث لم تثبتا على موضع تعتمد بهما عليه وهوتا ذاهبتين نحو يديها ـ بحركة يدي العاجن ؛ فإنهما لا تثبتان في موضع ، بل تزلّان إلى قدّام ؛ لرخاوة العجين ، وشبّه حركة يديها بحركة يدي الخابز ؛ فإنه يثني يده نحو بطنه ، ويحدث فيها ضربا من التقويس ، كما تجد في يد الدّابّة إذا اضطربت في سيرها ، ولم تقو على ضبط يديها ، وأن ترمي بها إلى قدّام ، وأن تشدّ اعتمادها حتى تثبت في الموضع الذي تقع عليه ، فلا تزول عنه ولا تنثني.
وأما العقلي فكقولك : «أبديت نورا» وأنت تريد «حجّة» فإن الحجة مما يدرك بالعقل من غير وساطة حسّ ؛ إذ المفهوم من الألفاظ هو الذي ينوّر القلب ويكشف عن الحق ، لا الألفاظ أنفسها.
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو لعقفان بن قيس بن عاصم في لسان العرب (ظلف) ، وسمط اللآلي ص ٧٤٦ ، وتاج العروس (ظلف) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ١٣١٢ ، وأمالي القالي ٢ / ١٢٠.
(٢) عجز البيت :
له لبد أظفاره لم تقلّم
والبيت من الطويل ، وهو في ديوان زهير بن أبي سلمى ص ٢٤ ، ولسان العرب (قذف) ، (مكن) ، وتهذيب اللغة ٩ / ٧٦ ، وجمهرة اللغة ص ٩٧٤ ، وتاج العروس (قذف).
(٣) البيت لأبي دلامة (زند بن الجون) في الأغاني ٩ / ١١٥.
وعليه قوله عز وجل : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (٦) [الفاتحة : الآية ٦] ، أي الدين الحقّ.
وأما قوله تعالى : (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) [النّحل : الآية ١١٢] فعلى ظاهر قول الشيخ جار الله العلّامة استعارة عقليّة ، لأنه قال : شبّه باللّباس ـ لاشتماله على اللابس ـ ما غشي الإنسان والتبس به من بعض الحوادث ، وعلى ظاهر قول الشيخ صاحب المفتاح حسّيّة ، لأنه جعل اللباس استعارة لما يلبسه الإنسان عند جوعه وخوفه ، من امتقاع اللون ، ورثاثة الهيئة.
فالاستعارة : ما تضمّن تشبيه معناه بما وضع له.
والمراد بمعناه : ما عني به ، أي : ما استعمل فيه ؛ فلم يتناول ما استعمل فيما وضع له ، وإن تضمّن التشبيه به ، نحو : زيد أسد ، ورأيته أسدا ، ونحو : رأيت به أسدا ؛ لاستحالة تشبيه الشيء بنفسه.
على أن المراد بقولنا : «ما تضمن» مجاز تضمن ؛ بقرينة تقسيم المجاز إلى الاستعارة وغيرها ، والمجاز لا يكون مستعملا فيما وضع له.
وهاهنا شيء لا بد من التنبيه عليه ، وهو أنه إذا أجري في الكلام لفظ دلّت القرينة على تشبيه شيء بمعناه ، فيكون ذلك على وجهين :
أحدهما : أن لا يكون المشبه مذكورا ولا مقدرا كقولك : «رنت لنا ظبية» وأنت تريد «امرأة» و «لقيت أسدا» وأنت تريد «رجلا شجاعا» ولا خلاف أن هذا ليس بتشبيه ، وأن الاسم فيه استعارة.
والثاني : أن يكون المشبه مذكورا أو مقدّرا ، فاسم المشبه به إن كان خبرا أو في حكم الخبر ـ كخبر «كان» و «إنّ» والمفعول الثاني لباب «علمت» والحال ـ فالأصح أنه يسمّى تشبيها ، وأن الاسم فيه لا يسمّى استعارة ؛ لأن الاسم إذا وقع هذه المواقع ؛ فالكلام موضوع لإثبات معناه لما يعتمد عليه ، أو نفيه عنه ؛ فإذا قلت : زيد أسد» فقد وضعت كلامك في الظاهر لإثبات معنى الأسد لزيد ، وإذا امتنع إثبات ذلك له على الحقيقة كان لإثبات شبه من الأسد له ؛ فيكون اجتلابه لإثبات التشبيه فيكون خليقا بأن يسمّى تشبيها ؛ إذ كان إنما جاء ليفيده بخلاف الحالة الأولى ، فإن الاسم فيها لم يجتلب لإثبات معناه للشيء ، كما إذا قلت : جاءني أسد ، ورأيت أسدا ، فإن الكلام في ذلك موضوع لإثبات المجيء واقعا من الأسد ، والرؤية واقعة منك عليه ، لا لإثبات معنى الأسد لشيء ؛ فلم يكن ذكر المشبه به لإثبات التشبيه ، وصار قصد التشبيه مكنونا في الضمير ، لا يعلم إلا بعد الرجوع إلى شيء من النفار.
ووجه آخر في كون التشبيه مكنونا في الضمير ، وهو أنه إذا لم يكن المشبّه مذكورا ، جاز أن يتوهّم السامع في ظاهر الحال أن المراد باسم المشبه به ما هو موضوع له ، فلا يعلم قصد التشبيه فيه إلا بعد شيء من التأمّل ، بخلاف الحالة الثانية ؛ فإنه يمتنع ذلك فيه مع كون المشبه مذكورا أو مقدّرا.
ومن الناس من ذهب إلى أن الاسم في الحالة الثانية استعارة ؛ لإجرائه على المشبه مع حذف كلمة التشبيه.
وهذا الخلاف لفظيّ راجع إلى الكشف عن معنى الاستعارة والتشبيه في الاصطلاح ، وما اخترناه هو الأقرب ؛ لما أوضحنا من المناسبة ، وهو اختيار المحقّقين كالقاضي أبي الحسن الجرجاني ، والشيخ عبد القاهر ، والشيخ جار الله العلّامة ، والشيخ صاحب المفتاح ، رحمهم الله.
غير أن الشيخ عبد القاهر قال بعد تقرير ما ذكرناه : فإن أبيت إلا أن تطلق اسم الاستعارة على هذا القسم ؛ فإن حسن دخول أدوات التشبيه لا يحسن إطلاقه وذلك كأن يكون اسم المشبه به معرفة ، كقولك زيد الأسد ، وهو شمس النهار ، فإنه يحسن أن يقال زيد كالأسد ، وخلته شمس النهار.
وإن حسن دخول بعضها دون بعض ؛ هان الخطب في إطلاقه وذلك كأن يكون نكرة غير موصوفة ، كقولك : زيد أسد ، فإنه لا يحسن أن يقال زيد كأسد ، ويحسن أن يقال : كأن زيدا أسد ، ووجدته أسدا.
وإن لم يحسن دخول شيء منها إلا بتغيير لصورة الكلام ، وكان إطلاقه أقرب ؛ لغموض تقديره أداة التشبيه فيه ، وذلك بأن يكون نكرة موصوفة بما لا يلائم المشبه به ، كقولك : فلان بدر يسكن الأرض ، وهو شمس لا تغيب ، وكقوله : [البحتري]
شمس تألّق والفراق غروبها |
|
عنّا ، وبدر والصّدود كسوفه (١) |
فإنه لا يحسن دخول الكاف ونحوه في شيء من هذه الأمثلة ونحوها ، إلا بتغيير صورته ، كقولك : هو كالبدر ، إلا أنه يسكن الأرض ، وكالشمس إلا أنه لا يغيب ؛ وكالشمس المتألّقة ، إلا أن الفراق غروبها ، وكالبدر إلا أن الصدود كسوفه.
وقد يكون في هذه الصفات والصّلات التي تجيء في هذا النحو ما يحيل تقدير أداة التشبيه فيه ؛ فيقرب إطلاقه أكثر ، وذلك مثل قول أبي الطيّب :
__________________
(١) البيت من الكامل ، وهو في ديوان البحتري ٣ / ١٤٢٣ ، وأسرار البلاغة ص ٣٧٣.
أسد ، دم الأسد الهزبر خضابه |
|
موت ، فريص الموت منه يرعد (١) |
فإنه لا سبيل إلى أن يقال : المعنى : هو كالأسد ، وكالموت ؛ لما في ذلك في التناقض ؛ لأن تشبيهه بجنس السبع المعروف دليل أنه دونه أو مثله ، وجعل دم الهزبر ـ الذي هو أقوى الجنس ـ خضاب يده ، دليل أنه فوقه ، وكذلك لا يصح أن يشبّه بالموت المعروف ، ثم يجعل الموت يخاف منه ، وكذا قول البحتري :
وبدر أضاء الأرض شرقا ومغربا |
|
وموضع رحلي منه أسود مظلم (٢) |
إن رجع فيه إلى التشبيه الساذج حتى يكون المعنى هو كالبدر ، لزم أن يكون قد جعل البدر المعروف موصوفا بما ليس فيه ؛ فظهر أنه إنما أراد أن يثبت من الممدوح بدرا له هذه الصفة العجيبة التي لم تعرف للبدر ؛ فهو مبنيّ على تخييل أنه زاد في جنس البدر واحدا له تلك الصفة ؛ فالكلام موضوع لا لإثبات الشبه بينهما ، ولكن لإثبات تلك الصفة ؛ فهو كقولك : زيد رجل كيت كيت ، لم تقصد إثبات كونه رجلا لكن إثبات كونه متصفا بما ذكرت ، فإذا لم يكن اسم المشبه به في البيت مجتلبا لإثبات الشبه ، تبين أنه خارج عن الأصل الذي تقدم من كون الاسم مجتلبا لإثبات الشبه ، فالكلام فيه مبنيّ على أنّ كون الممدوح بدرا أمر قد استقرّ وثبت ، وإنما العمل في إثبات الصفة الغريبة.
وكما يمتنع دخول الكاف في هذا ونحوه ، يمتنع دخول «كأن» ونحوه : «تحسب» لاقتضائهما أن يكون الخبر والمفعول الثاني أمرا ثابتا في الجملة ، إلا أن كونه متعلقا بالاسم والمفعول مشكوك فيه ، كقولنا : كأن زيدا منطلق ، أو خلاف الظاهر ، كقولنا : كأن زيدا أسد ، والنكرة فيما نحن فيه غير ثابتة ؛ فدخول «كأنّ» و «تحسب» عليها كالقياس على المجهول.
وأيضا هذا النحو ـ إذا فليت عن سرّه ـ وجدت محصوله أنك تدّعي حدوث شيء هو من الجنس المذكور ، إلا أنه اختصّ بصفة عجيبة لم يتوهّم جوازها على الجنس ؛ فلم يكن لتقدير التشبيه فيه معنى.
وإن لم يكن اسم المشبه به خيرا للمشبه ، ولا في حكم الخبر ، كقولهم : رأيت بفلان أسدا ، ولقيني منه أسد ، سمّي تجريدا ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ولم يسمّ استعارة ؛ لأنه إنما يتصوّر الحكم على الاسم بالاستعارة إذا جرى بوجه
__________________
(١) البيت من الكامل ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ٩٢.
(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان البحتري ٣ / ١٩٨ ، وأسرار البلاغة ص ٣٧٥.
على ما يدّعي أنه مستعار له ؛ إما باستعماله فيه ، أو بإثبات معناه له ، والاسم في مثل هذا غير جار على المشبه بوجه.
ولأنه يجيء على هذه الطريقة ما لا يتصور فيه التشبيه فيظنّ أنه استعارة كقوله تعالى : (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) [فصّلت : الآية ٢٨] إذ ليس المعنى على تشبيه جهنّم بدار الخلد ؛ إذ هي نفسها دار الخلد ، وكقول الشاعر : [أعشى قيس]
يا خير من يركب المطيّ ، ولا |
|
يشرب كأسا بكفّ من بخلا (١) |
فإنه لا يتصوّر فيه التشبيه ، وإنما المعنى أنه ليس ببخيل.
ولا يسمّى تشبيها أيضا ، لأن اسم المشبه به لم يجتلب فيه لإثبات التشبيه ، كما سبق ، وعدّه الشيخ صاحب المفتاح تشبيها ، والخلاف أيضا لفظيّ.
والدليل على أن الاستعارة مجازّ لغويّ ؛ كونها موضوعة للمشبه به ، لا للمشبه ولا لأمر أعم منهما ، كالأسد ، فإنه موضوع للسبع المخصوص ، لا للرجل الشجاع ، ولا للشجاع مطلقا ؛ لأنه لو كان موضوعا لأحدهما لكان استعماله في الرجل الشجاع من جهة التحقيق لا من جهة التشبيه ، وأيضا لو كان موضوعا للشجاع مطلقا لكان وصفا لا اسم جنس.
وقيل : الاستعارة مجاز عقلي ، بمعنى أن التصرف فيها في أمر عقلي لا لغوي لأنها لا تطلق على المشبه إلا بعد ادّعاء دخوله في جنس المشبه به ؛ لأن نقل الاسم وحده لو كان استعارة لكانت الاعلام المنقولة كـ «يزيد» و «يشكر» استعارة.
ولما كانت الاستعارة أبلغ من الحقيقة ؛ لأنه لا بلاغة في إطلاق الاسم المجرد عاريا عن عناه.
ولما صح أن يقال لمن قال : «رأيت أسدا» يعني زيدا : أنه جعله أسدا ، كما لا يقال لمن سمّى ولده أسدا : إنه جعله أسدا ؛ لأن «جعل» إذا تعدى إلى مفعولين ؛ كان بمعنى «صيّر» فأفاد إثبات صفة للشيء فلا تقول «جعلته أميرا» إلا على معنى أنك أثبتّ له صفة الإمارة.
وعليه قوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) [الزّخرف : الآية ١٩] ، المعنى أنهم أثبتوا صفة الأنوثة ، واعتقدوا وجودها فيهم ، وعن هذا الاعتقاد صدر عنهم
__________________
(١) البيت من المنسرح ، وهو بلا نسبة في المطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ص ١٠٢ ، ٦٦٤ ، والأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ١ / ١٠٥.
للملائكة إطلاق اسم الإناث عليهم ، لا أنهم أطلقوه من غير اعتقاد ثبوت معناه لهم ؛ بدليل قوله تعالى : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) [الزّخرف : الآية ١٩]؟.
وإذا كان نقل الاسم تبعا لنقل المعنى كان الاسم مستعملا فيما وضع له ؛ ولهذا صح التّعجّب في قول ابن العميد (١) : [محمد بن الحسين]
قامت تظلّلني من الشمس |
|
نفس أعزّ عليّ من نفسي (٢) |
قامت تظلّلني ، ومن عجب |
|
شمس تظلّلني من الشمس |
والنّهي عنه في قول الآخر : [ابن طباطبا ، محمد بن أحمد]
لا تعجبوا من بلى غلالته |
|
قد زرّ أزراره على القمر (٣) |
وقوله : [أبو مطاع ، ناصر الدولة الحمداني]
ترى الثياب من الكتّان يلمحها |
|
نور من البدر أحيانا فيبليها (٤) |
فكيف تنكر أن تبلى معاجرها |
|
والبدر في كل وقت طالع فيها؟! |
والجواب عنه أن ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به ؛ لا يخرج اللفظ عن كونه مستعملا في غير ما وضع له.
وأما التعجّب والنهي فيما ذكر فلبناء الاستعارة على تناسي التشبيه قضاء لحق المبالغة.
فإن قيل : إصرار المتكلم على ادّعاء الأسديّة للرجل ينافي نصبه قرينة من أن يراد به السبع المخصوص.
قلنا : لا منافاة.
ووجه التوفيق ما ذكره السكاكي ، وهو أن تبنى دعوى الأسدية للرجل على ادّعاء أن أفراد جنس الأسد قسمان بطريق التأويل : متعارف ، وهو الذي له غاية الجراءة ،
__________________
(١) ابن العميد : هو محمد بن أبي عبد الله الحسين بن محمد أبو الفضل الكاتب البغدادي المعروف بابن العميد ، كان وزير ركن الدولة بن بويه ، توفي سنة ٣٥٩ ، صنف ديوان رسائله ، كتاب المذهب في البلاغات. (كشف الظنون ٦ / ٤٦).
(٢) البيتان من الكامل ، وهما في يتيمة الدهر للثعالبي ٣ / ١٦٠ ، وأسرار البلاغة ص ٣٤٥.
(٣) البيت من المنسرح ، وهو لابن طباطبا (أبي الحسن محمد بن أحمد المتوفى سنة ٣٢٢ ه) في أسرار البلاغة ص ٣٤٨ ، وديوان المعاني ١ / ٣٤٥.
(٤) البيتان من البسيط ، وهما لأبي المطاع ناصر الدولة الحمداني في أسرار البلاغة ص ٣٤٩ ، ويتيمة الدهر ١ / ٧٤.
ونهاية قوة البطش ، ومع الصورة المخصوصة ، وغير متعارف ، وهو الذي له تلك الجراءة ، وتلك القوة ، لا مع تلك الصورة ، بل مع صورة أخرى ، على نحو ما ارتكب المتنبي هذا الادعاء في عدّ نفسه وجماعته من جنس الجنّ ، وعدّ جماله من جنس الطير ، حين قال :
نحن قوم من الجنّ في زيّ ناس |
|
فوق طير ، لها شخوص الجمال (١) |
مستشهدا لدعواه هاتيك بالمخيّلات العرفية.
وأن تخصص القرينة بنفيها المتعارف الذي سبق إلى الفهم ؛ ليتعين الآخر.
ومن البناء على هذا التنويع قوله : [عمرو بن معديكرب]
تحيّة بينهم ضرب وجيع (٢)
وقولهم «عتابك السيف» وقوله تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٨٩) [الشّعراء : الآيتان ٨٨ ، ٨٩].
ومنه قوله : [عامر بن الحارث]
وبلدة ليس بها أنيس |
|
إلّا اليعافير ، وإلّا العيس (٣) |
وإذ قد عرفت معنى الاستعارة ، وأنها مجاز لغوي ؛ فاعلم أن الاستعارة تفارق الكذب من وجهين :
بناء الدعوى فيها على التأويل ، ونصب القرينة على أن المراد بها خلاف ظاهرها ؛ فإن الكاذب يتبرّأ من التأويل ، ولا ينصب دليلا على خلاف زعمه.
وأنها لا تدخل في الأعلام ، لما سبق من أنها تعتمد إدخال المشبه في جنس المشبه به ، والعلميّة تنافي الجنسيّة ، وأيضا لأن العلم لا يدل إلا على تعيّن شيء من غير
__________________
(١) البيت من الخفيف ، ورواية صدر البيت في ديوان المتنبي ١ / ١٦٦ :
نحن ركب ملجن في زي ناس
(٢) صدر البيت :
وخيل قد دلفت لها بخيل
والبيت من الوافر ، وهو لعمرو بن معديكرب في ديوانه ص ١٤٩ ، وخزانة الأدب ٩ / ٢٥٢ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢٠٠ ، والكتاب ٣ / ٥٠ ، ونوادر أبي زيد ص ١٥٠ ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ١ / ٣٤٥ ، والخصائص ١ / ٣٦٨ ، وشرح المفصل ٢ / ٨٠ ، والمقتضب ٢ / ٢٠.
(٣) الرجز لجران العود في ديوانه ص ٩٧ ، وخزانة الأدب ١٠ / ١٥ ، والدرر ٣ / ١٦٢ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ١٤٠ ، وشرح التصريح ١ / ٣٥٣ ، وشرح المفصل ٢ / ١١٧ ، والمقاصد النحوية ٣ / ١٠٧ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ٩١ ، والإنصاف ١ / ٢٧١.
إشعار بأنه إنسان أو فرس أو غيرهما ؛ فلا اشتراك بين معناه وغيره ، إلا في مجرد التعيّن ، ونحوه من العوارض العامة التي لا يكفي شيء منها جامعا في الاستعارة ، اللهم إلا إذا تضمّن نوع وصفية لسبب خارج ، كتضمّن اسم حاتم الجواد ، ومادر البخيل ، وما جرى مجراهما.
وقرينة الاستعارة إما معنى واحد ، كقولك : رأيت أسدا يرمي ، أو أكثر ، كقول بعض العرب :
فإن تعافوا العدل والإيمانا |
|
فإنّ في أيماننا نيرانا (١) |
أي : سيوفا تلمع كأنها شعل نيران ، كما قال الآخر : [البحتري]
ناهضتهم والبارقات كأنها |
|
شعل على أيديهم تتلهّب (٢) |
فقوله : «تعافوا» باعتبار كل واحد من تعلّقه بالعدل ، وتعلّقه بالإيمان ؛ قرينة لذلك ؛ لدلالته على أن جوابه : أنهم يحاربون ويقسرون على الطاعة بالسيف.
أو معان مربوط بعضها ببعض ، كما في قول البحتري :
وصاعقة من نصله تنكفي بها |
|
على أرؤس الأقران خمس سحائب (٣) |
عنى بـ «خمس سحائب» أنامل الممدوح ؛ فذكر أن هناك صاعقة ؛ ثم قال : «من نصله» فبين أنها من نصل سيفه ، ثم قال : «على أرؤس الأقران» ثم قال : «خمس» فذكر عدد أصابع اليد ؛ فبان من مجموع ذلك غرضه.
ثم الاستعارة تنقسم باعتبار الطرفين ، وباعتبار الجامع ، وباعتبار الثلاثة وباعتبار اللفظ ، وباعتبار أمر خارج عن ذلك كله.
أما باعتبار الطرفين فهي قسمان ؛ لأن اجتماعهما في شيء إما ممكن ، أو ممتنع ، ولتسمّ الأولى وفاقيّة ، والثانية عناديّة.
أما الوفاقية فكقوله تعالى : (فَأَحْيَيْناهُ) في قوله : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [الأنعام : الآية ١٢٢] فإن المراد بـ «أحييناه» هديناه. أي : أو من كان ضالّا فهديناه؟ والهداية والحياة لا شك في جواز اجتماعهما في شيء.
وأما العنادية فمنها ما كان وضع التشبيه فيه على ترك الاعتداد بالصفة وإن كانت
__________________
(١) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (عيف) ، والأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ١ / ٨٧.
(٢) البيت من الكامل ، وهو للبحتري في دلائل الإعجاز ص ٢٣٣.
(٣) البيت من الطويل ، وهو في ديوان البحتري ١ / ١٧٩ ، والطراز ١ / ٢٣١.
موجودة لخلوّها مما هو ثمرتها والمقصود منها ، وإذا ما خلت منه لم تستحق الشرف ، كاستعارة اسم المعدوم للموجود ، إذا لم تحصل منه فائدة من الفوائد المطلوبة من مثله ؛ فيكون مشاركا للمعدوم في ذلك ، أو اسم الموجود للمعدوم إذا كانت الآثار المطلوبة من مثله موجودة حال عدمه ، فيكون مشاركا للموجود في ذلك ، أو اسم الميت للحي الجاهل ، لأنه عدم فائدة الحياة والمقصود بها ، أعني العلم ؛ فيكون مشاركا للميت في ذلك ، ولذلك جعل النوم موتا ؛ لأن النائم لا يشعر بما بحضرته ، كما لا يشعر الميت ، أو الحي العاجز لأن العجز كالجهل يحط من قدر الحي.
ثم الضدان إن كان قابلين للشدة والضعف ، كان استعارة اسم الأشد للأضعف أولى ؛ فكل من كان أقل علما وأضعف قوة كان أولى بأن يستعار له اسم الميت ، ولما كان الإدراك أقدم من العقل في كونه خاصة للحيوان كان الأقل علما أولى باسم الميت أو الجماد من الأقل قوة.
وكذا في جانب الأشد ، فكل من كان أكثر علما كان أولى بأن يقال له : «إنه حي» وكذا من كان أشرف علما ، وعليه قوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [الأنعام : الآية ١٢٢] فإن العلم بوحدانية الله تعالى وما أنزله على نبيه صلّى الله عليه وسلّم أشرف العلوم.
ومنها : ما استعمل في ضد معناه أو نقيضه بتنزيل التضاد أو التناقض منزلة التناسب ، بوساطة تهكم أو تمليح على ما سبق في التشبيه ، كقوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : الآية ٢١] ويخصّ هذا النوع باسم التهكمية أو التمليحية.
وأما باعتبار الجامع فهي قسمان :
أحدهما : ما يكون الجامع فيه داخلا في مفهوم الطرفين ، كاستعارة الطيران للعدو ، كما في قول امرأة من بني الحارث ترثي قتيلا :
لو يشأ طار به ذو ميعة |
|
لاحق الآطال نهد ذو خصل (١) |
وكما جاء في الخبر : «كلما سمع هيعة طار إليها» فإن الطيران والعدو يشتركان في أمر داخل في مفهومهما ، وهو قطع المسافة بسرعة ، ولكن الطيران أسرع من العدو.
__________________
(١) البيت من الرمل ، وهو لعلقمة الفحل في ديوانه ص ١٣٤ ، ولامرأة من بني الحارث في الحماسة البصرية ١ / ٢٤٣ ، وخزانة الأدب ١١ / ٢٩٨ ، والدرر ٥ / ٩٧ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١١٠٨ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٦٦٤ ، ولعلقمة أو لامرأة من بني الحارث في المقاصد النحوية ٢ / ٥٣٩ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ١ / ٣٣٤ ، وتذكرة النحاة ص ٣٩ ، والجنى الداني ص ٢٨٧ ، وشرح الأشموني ٣ / ٥٨٤ ، ومغني اللبيب ١ / ٢٧١ ، وهمع الهوامع ٢ / ٦٤.