الإيضاح في علوم البلاغة

جلال الدين محمّد بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد

الإيضاح في علوم البلاغة

المؤلف:

جلال الدين محمّد بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3907-X
الصفحات: ٤١٥

ما يخالف المقصود ، وهؤلاء فرقتان :

فرقة لا تشترط فيه أن يكون واقعا في أثناء كلام ، أو بين كلامين متّصلين معنى. بل يجوّز أن يقع في آخر كلام لا يليه كلام ، أو يليه غير متّصل به معنى ، وبهذا يشعر كلام الزمخشري في مواضع من الكشّاف ، فالاعتراض عند هؤلاء يشمل التذييل ، ومن التكميل ما لا محلّ له من الإعراب ، جملة كان أو أكثر من جملة.

وفرقة تشترط فيه ذلك ، لكن لا تشترط أن يكون جملة أو أكثر من جملة.

فالاعتراض عند هؤلاء يشمل من التتميم ما كان واقعا في أحد الموقعين ، ومن التكميل ما كان واقعا في أحدهما ولا محل له من الإعراب ، جملة كان أو أقلّ من جملة أو أكثر.

وإما بغير ذلك ، كقولهم : «رأيته بعيني».

ومنه قوله تعالى : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) [النّور : الآية ١٥] أي : هذا الإفك ليس إلّا قولا يجري على ألسنتكم ، ويدور في أفواهكم ، من غير ترجمة عن علم في القلب ، كما هو شأن المعلوم إذا ترجم عنه اللسان.

وكذا قوله : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) [البقرة : الآية ١٩٦] لإزالة توهّم الإباحة ، كما في نحو قولنا : «جالس الحسن وابن سيرين» وليعلم العدد جملة كما علم تفصيلا ؛ ليحاط به من جهتين ، فيتأكد العلم ، وفي أمثال العرب : «علمان خير من علم».

وكذا قوله (كامِلَةٌ) [البقرة : الآية ١٩٦] تأكيد آخر ، وقيل : أي كاملة في وقوعها بدلا من الهدي ، وقيل : أريد به تأكيد الكيفية لا الكمية ، حتى لو وقع صوم العشرة على غير الوجه المذكور لم تكن كاملة.

وكذا قوله : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) [غافر : الآية ٧] فإنه لو لم يقصد الإطناب لم يذكر «ويؤمنون به» لأن إيمانهم ليس مما ينكره أحد من مثبتيهم ، وحسّن ذكره إظهار شرف الإيمان ترغيبا فيه.

وكذلك قوله : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) (١) [المنافقون : الآية ١] فإنه لو اختصر لترك قوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) [المنافقون : الآية ١] لأن مساق الآية لتكذيبهم في دعوى الإخلاص في الشهادة كما مر. وحسّنه دفع توهم أن التكذيب للمشهود به في نفس الأمر ، ونحو قول البلغاء : «لا ، وأصلحك الله».

وكذا قوله تعالى إخبارا : (هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها

١٦١

مَآرِبُ أُخْرى) [طه : الآية ١٨] وحسّنه أنه عليه السّلام فهم أن السؤال يعقبه أمر عظيم يحدثه الله تعالى في العصا ؛ فينبغي أن يتنبه لصفاتها ؛ حتى يظهر له التفاوت بين الحالين.

وكذا قوله : (نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) [الشّعراء : الآية ٧١] وحسّنه إظهار الابتهاج بعبادتها ، والافتخار بمواظبتها ، ليزداد غيظ السائل.

واعلم أنه قد يوصف الكلام بالإيجاز والإطناب باعتبار كثرة حروفه وقلّتها بالنسبة إلى كلام آخر مساو له في أصل المعنى ، كالشطر الأول من قول أبي تمام :

يصدّ عن الدّنيا إذا عنّ سودد

ولو برزت في زيّ عذراء ناهد (١)

وقول الآخر : [المعذل بن عيلان]

ولست بنظّار إلى جانب الغنى

إذا كانت العلياء في جانب الفقر (٢)

ومنه قول الشماخ : [بن ضرار الغطفاني]

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقّاها عرابة باليمين (٣)

وقول بشر بن أبي خازم :

إذا ما المكرمات رفعن يوما

وقصّر مبتغوها عن مداها (٤)

وضاقت أذرع المثرين عنها

سما أوس إليها ، فاحتواها

ويقرب من هذا الباب قوله تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٢٣) [الأنبياء : الآية ٢٣]

وقول الحماسي : [السموأل بن عادياء]

وننكر إن شئنا على الناس قولهم

ولا ينكرون القول حين نقول (٥)

وكذا ما ورد في الحديث : «الحزم سوء الظّنّ» ، وقول العرب : الثّقة بكلّ أحد عجز.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان أبي تمام ص ١٢٢ ، وشرح عقود الجمان ١ / ٢١٨.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لأبي الحسن الكاتب في شرح عقود الجمان ١ / ٢١٨ ، وينسب أيضا لأبي سعيد المخزومي ، وللمعذل بن غيلان.

(٣) البيت من الوافر ، وهو للشماخ في ديوانه ص ٣٣٦ ، ولسان العرب (عرب) ، (يمن) ، وتهذيب اللغة ٨ / ٢٢١ ، ١٥ / ٥٢٣ ، وجمهرة اللغة ص ٣١٩ ، ٩٩٤ ، وتاج العروس (عرب) ، ومقاييس اللغة ٦ / ١٥٨.

(٤) البيتان من الوافر ، وهما لبشر بن أبي خازم في ديوانه ص ٢٢٢ ، وأساس البلاغة (رفع).

(٥) البيت من الطويل ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٢٠٦.

١٦٢

الفن الثاني

في علم البيان

وهو : علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه.

ودلالة اللفظ : إما على ما وضع له ، أو على غيره.

والثاني : إما داخل في الأول دخول السقف في مفهوم البيت ، أو الحيوان في مفهوم الإنسان ، أو خارج عنه خروج الحائط عن مفهوم السقف ، أو الضاحك عن مفهوم الإنسان.

وتسمّى الأولى دلالة وضعيّة. وكل واحدة من الأخيرتين دلالة عقلية.

وتختصّ الأولى بدلالة المطابقة ، والثانية بالتضمّن ، والثالثة بدلالة الالتزام.

وشرط الثالثة : اللّزوم الذهني ، أعني أن يكون حصول ما وضع اللفظ له في الذهن ملزوما لحصول الخارج ؛ لئلا يلزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر ؛ لكون نسبة الخارج إليه حينئذ كنسبة سائر المعاني الخارجة.

ولا يشترط في هذا اللزوم أن يكون مما يثبته العقل ، بل يكفي أن يكون مما يثبته اعتقاد المخاطب : إما لعرف ، أو لغيره. لإمكان الانتقال حينئذ من المفهوم الأصلي الخارجيّ.

وقد وقع في كلام بعض العلماء ما يشعر بالخلاف في اشتراط اللزوم الذهني في دلالة الالتزام ، وهو بعيد جدا. وإن صح ، فلعلّ السبب فيه : توهّم أن المراد باللزوم الذهني اللزوم العقليّ. لإمكان الفهم بدون اللزوم الذهني بهذا المعنى حينئذ كما سبق.

ثم إيراد المعنى الواحد على الوجه المذكور لا يتأتّي بالدلالة الوضعية. لأن السامع إن كان عالما بوضع الألفاظ لم يكن بعضها أوضح دلالة من بعض ، وإلا لم يكن كلّ واحد منها دالّا.

وإنما يتأتى بالدلالات العقلية ؛ لجواز أن يكون للشيء لوازم بعضها أوضح لزوما من بعض.

١٦٣

ثم اللفظ المراد به لازم ما وضع له : إن قامت قرينة على عدم إرادة ما وضع : فهو له مجاز ، وإلا فهو كناية.

ثم المجاز منه الاستعارة ، وهي ما تبتنى على التشبيه ، فيتعين التعرض له.

فانحصر المقصود في التّشبيه والمجاز ، والكناية ، وقدّم التشبيه على المجاز لما ذكرنا من ابتناء الاستعارة التي هي مجاز على التشبيه ، وقدّم المجاز لنزول معناه من معناها منزلة الجزء من الكلّ.

القول في التشبيه

التشبيه : الدلالة على مشاركة أمر لآخر في معنى.

والمراد بالتشبيه هاهنا : ما لم يكن على وجه الاستعارة التحقيقية ، ولا الاستعارة بالكناية ، ولا التجريد.

فدخل فيه ما يسمّى تشبيها بلا خلاف. وهو ما ذكرت فيه أداة التشبيه ، كقولنا : «زيد كالأسد» أو «كالأسد» بحذف «زيد» لقيام قرينة.

وما يسمّى تشبيها على المختار كما سيأتي ، وهو ما حذفت فيه أداة التشبيه ، وكان اسم المشبّه به خبرا للمشبّه ، أو في حكم الخبر ، كقولنا : «زيد أسد» وكقوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (١٨) [البقرة : الآية ١٨] أي : هم ، ونحوه قول من يخاطب الحجّاج : [عمران بن حطان]

أسد عليّ ، وفي الحروب نعامة

فتخاء تنفر من صفير الصّافر (١)

وكقولنا : «رأيت زيدا بحرا».

وإذا قد عرّفت معنى التشبيه في الاصطلاح ؛ فاعلم أنه مما اتفق العقلاء على شرف قدره ، وفخامة أمره في فنّ البلاغة ، وأن تعقيب المعاني به ـ يضاعف قواها في تحريك النفوس إلى المقصود بها مدحا كانت أو ذمّا ، أو افتخارا ، أو غير ذلك.

وإن أردت تحقيق هذا فانظر إلى قول البحتري :

دان على أيدي العفاة وشاسع

عن كل ندّ في النّدى ، وضريب (٢)

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو لرجل من الخوارج في جمهرة اللغة ص ٩٢٣ ، ولعمران بن حطان في الأغاني ١٨ / ١٢٢.

(٢) البيتان من البسيط ، وهما في الأسرار ص ٩٨ ، ١١٢ ، ٢٧٢ ، والوساطة ص ٢٠٤ ، ٢٠٥.

١٦٤

كالبدر أفرط في العلوّ وضوؤه

للعصبة السّارين جدّ قريب

أو قول ابن لنكك : [محمد بن محمد]

إذا أخو الحسن أضحى فعله سمجا

رأيت صورته من أقبح الصّور (١)

وهبه كالشمس في حسن ، ألم ترنا

نفرّ منها إذا مالت إلى الضّرر

أو قول ابن الروميّ :

بذل الوعد للأخلّاء سمحا

وأبى بعد ذاك بذل العطاء (٢)

فغدا كالخلاف يورق للع

ين ، ويأبى الإثمار كلّ الإباء

أو قول أبي تمّام :

وإذا أراد الله نشر فضيلة

طويت ؛ أتاح لها لسان حسود (٣)

لولا اشتعال النار فيما جاورت

ما كان يعرف طيب عرف العود

أو قوله أيضا :

وطول مقام المرء في الحيّ مخلق

لديباجتيه فاغترب تتجدّد (٤)

فإني رأيت الشمس زيدت محبّة

إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد

وقس حالك وأنت في البيت الأول ، ولم تنته إلى الثاني ، على حالك وأنت قد انتهيت إليه ووقفت علي : تعلم بعد ما بين حالتيك في تمكّن المعنى لديك.

وكذا تعهّد الفرق بين أن تقول : «الدنيا لا تدوم» وتسكت ، وأن تذكر عقيبه ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال : «من في الدنيا ضيف ، وما في يده عارية ، والضيف مرتحل والعارية مؤدّاة» (٥) ، أو تنشد قول لبيد : [بن ربيعة]

وما المال والأهلون إلا ودائع

ولا بدّ يوما أن تردّ الودائع (٦)

__________________

(١) البيتان من البسيط ، وهما في أسرار البلاغة ص ١٠٠.

(٢) البيتان من الوافر ، وهما في أسرار البلاغة ص ٩٩ ، ١٢٨.

(٣) البيتان من الطويل ، وهما في أسرار البلاغة ص ١٠٠.

(٤) البيتان من الطويل ، وهما في أسرار البلاغة ص ١٠٦.

(٥) روي الحديث بلفظ : «العارية مؤداة والمنحة مردودة ، والدين مقضي» أخرجه بهذا اللفظ أبو داود في البيوع باب ٩ ، والترمذي حديث ١٢٦٥ ، ٢١٢٠ ، وابن ماجة حديث ٢٣٩٨ ، ٢٣٩٩ ، وأحمد في المسند ٥ / ٢٦٧.

(٦) البيت من الطويل ، وهو للبيد في ديوانه ص ١٧٠ ، ولسان العرب (عمر) ، وتاج العروس (شيع) ، (ودع).

١٦٥

وبين أن تقول : «أرى قوما لهم منظر» وتقطع الكلام ، وأن تتبعه نحو قول ابن لنكك :

في شجر السّرو منهم مثل

له رواء ، وما له ثمر (١)

وانظر في جميع ذلك إلى المعنى في الحالة الثانية : كيف يتزايد شرفه عليه في الحالة الأولى؟!

ولذلك أسباب :

منها : ما يحصل للنفس من الأنس بإخراجها من خفيّ إلى جليّ ، كالانتقال مما يحصل لها بالفكرة إلى ما يعلم بالفطرة ، أو بإخراجها مما لم تألفه إلى ما ألفته ، كما قيل : [أبو تمام]

ما الحبّ إلّا للحبيب الأوّل (٢)

أو مما تعلمه إلى ما هي به أعلم ، كانتقال من المعقول إلى المحسوس ، فإنك قد تعبّر عن المعنى بعبارة تؤدّيه وتبالغ ، نحو أن تقول وأنت تصف اليوم بالقصر يوم كأقصر ما يتصوّر. فلا يجد السامع له من الأنس ما يجده لنحو قولهم : «أيام كأباهيم القطا» وقول الشاعر :

ظللنا عند باب أبي نعيم

بيوم مثل سالفة الذّباب (٣)

وكذا تقول : فلان إذا همّ بالشيء لم يزل ذاك عن ذكره ، وقصر خواطره على إمضاء عزمه فيه ، ولم يشغله عنه شيء ، فلا يصادف السامع له أريحية ، حتى إذا قلت : [سعد بن ناشب] :

إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه (٤)

امتلأت نفسه سرورا ، وأدركته هزّة لا يمكن دفعها عنه.

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو في أسرار البلاغة ص ٩٩.

(٢) صدر البيت :

نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى

ويليه :

كم منزل في الأرض يألفه الفتى

وحنينه أبدا لأول منزل

والبيتان من الكامل ، وهما في ديوان الصبابة لأبي تمام ص ١٥.

(٣) البيت بلا نسبة في المطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ص ٥٤٣.

(٤) عجز البيت :

ونكّب عن ذكر العواقب جانبا

والبيت بلا نسبة في المطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ص ٥٤٣.

١٦٦

ومن الدليل على أن للإحساس من التحريك للنفس ، وتمكين المعنى ما ليس لغيره : أنك إذا كنت أنت وصاحب لك يسعى في أمره ، على طرف نهر ، وأنت تريد أن تقرّر له : أنه لا يحصل من سعيه على طائل ، فأدخلت يدك في الماء ، ثم قلت له : «انظر ، هل حصل في كفي من الماء شيء؟ فكذلك أنت في أمرك» كان لذلك ضرب من التأثير في النفس ، وتمكين المعنى في القلب ، زائد على القول المجرد.

ومنها : الاستطراف ، كما سيأتي.

ومن فضائل التشبيه : أنه يأتيك من الشيء الواحد بأشباه عدّة ، نحو أن يعطيك من الزّند بإيرائه ، شبه الجواد ، والذّكيّ ، والنّجح في الأمور ، وبإصلاده شبه البخيل ، والخيبة في السعي ومن القمر الكمال عن النقصان ، كما قال أبو تمّام :

لهفي على تلك الشواهد فيهما

لو أمهلت حتى تصير شمائلا (١)

لغدا سكوتهما حجى ، وصباهما

حلما ، وتلك الأريحيّة نائلا

ولأعقب النّجم المردّ بديمة

ولعاد ذاك الطّلّ جودا وابلا

إن الهلال إذا رأيت نموّه

أيقنت أن سيصير بدرا كاملا

والنقصان عن الكمال ، كقول أبي العلاء المعري :

وإن كنت تبغي العيش فابغ توسّطا

فعند التّناهي يقصر المتطاول (٢)

توقّى البدور النقص وهي أهلّة

ويدركها النقصان وهي كوامل

وتتفرع من حالتي كماله ونقصه فروع لطيفة ، كقول ابن بابك في الأستاذ أبي عليّ ـ وقد استوزره ، وأبا العباس الضّبّي ـ فخر الدولة بعد وفاة ابن عباد :

وأعرت شطر الملك شطر كماله

والبدر في شطر المسافة يكمل (٣)

وقول أبي بكر الخوارزمي : [محمد بن العباس]

أراك إذا أيسرت خيمت عندنا

مقيما ، وإن أعسرت زرت لماما (٤)

فما أنت إلا البدر ، إن قلّ ضوؤه

أغبّ ، وإن زاد الضياء أقاما

المعنى لطيف وإن لم تساعده العبارة على ما يجب. لأن الإغباب أن يتخلّل بين

__________________

(١) الأبيات من الكامل ، وهي في الأسرار ص ١١٥ ، وكتاب الصناعتين ص ٢٠٠.

(٢) البيتان من الطويل.

(٣) البيت من الكامل ، وهو في أسرار البلاغة ص ١١٦.

(٤) البيتان من الطويل ، وهما في أسرار البلاغة ص ١١٦ ، وزهر الآداب ٢ / ١١٥.

١٦٧

وقتي الحضور وقت يخلو منه. فإنما يصلح لأن يراد أن القمر إذا نقص نوره لم يوال الطلوع في كل ليلة ، بل يظهر في بعض الليالي دون بعض. وليس الأمر كذلك ، لأنه ـ على نقصانه ـ يطلع كل ليلة حتى تكون السّرار.

وكذا ينظر إلى بعده وارتفاعه ، وقرب ضوئه وشعاعه ، في نحو ما مضى من بيتي البحتري ، وإلى ظهوره في كل مكان ، كما في قول أبي الطيّب :

كالبدر من حيث التفتّ وجدته

يهدي إلى عينيك نورا ثاقبا (١)

إلى غير ذلك.

ثم النظر في أركان التشبيه ـ وهي أربعة : طرفاه ، ووجهه ، وأداته ـ وفي الغرض منه ، وفي تقسيمه بهذه الاعتبارات.

أما طرفاه فهما :

إما حسّيّان ، كما في تشبيه الخدّ بالورد ، والقدّ بالرّمح ، والفيل بالجبل ، في المبصرات ، والصّوت الضعيف بالهمس في المسموعات ، والنّكهة بالعنبر في المشمومات ، والريق بالخمر في المذوقات ، والجلد الناعم بالحرير في الملموسات.

وإما عقليان ، كما في تشبيه العلم بالحياة.

وإما مختلفان ، والمعقول هو المشبّه كما في تشبيه المنيّة بالسّبع أو بالعكس ، كما في تشبيه العطر بخلق كريم.

والمراد بالحسّيّ : المدرك هو ـ أو مادّته ـ بإحدى الحواسّ الظاهرة ، فدخل فيه الخيالي ، كما في قوله : [الصنوبري ، أحمد محمد الحلبي]

وكأن محمرّ الشقيق

إذا تصوّب أو تصعّد (٢)

أعلام ياقوت نشر

ن على رماح من زبرجد

وقوله :

كلّنا باسط اليد

نحو نيلوفر ندي (٣)

كدبابيس عسجد

قضبها من زبرجد

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ١٥٦.

(٢) البيتان من مجزوء الكامل ، وهما للصنوبري في المصباح ص ١١٦ ، وأسرار البلاغة ص ١٥٨ ، والطراز ١ / ٢٧٥.

(٣) البيتان من مجزوء المتدارك ، وهما في أسرار البلاغة ص ١٥٨.

١٦٨

والمراد بالعقلي : ما عدا ذلك. فدخل فيه الوهميّ ، وهو ما ليس مدركا بشيء من الحواسّ الخمس الظاهرة ، مع أنه لو أدرك لم يدرك إلا بها ، كما في قول امرىء القيس :

ومسنونة زرق كأنياب أغوال (١)

وعليه قوله تعالى : (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) (٦٥) [الصّافات : الآية ٦٥] وكذا ما يدرك بالوجدان ، كاللّذة ، والألم ، والشّبع ، والجوع.

وأما وجهه : فهو المعنى الذي يشترك فيه الطرفان ، تحقيقا أو تخييلا.

والمراد بالتخييل : أن لا يمكن وجوده في المشبّه به إلا على تأويل ، كما في قول القاضي التنوخي :

وكأنّ النجوم بين دجاها

سنن لاح بينهن ابتداع (٢)

فإن وجه الشبه فيه : الهيئة الحاصلة من حصول أشياء مشرقة بيض في جوانب شيء مظلم أسود ؛ فهي غير موجودة في المشبّه به إلا على طريق التخييل.

وذلك : أنه لما كانت البدعة والضلالة وكلّ ما هو جهل ؛ يجعل صاحبها في حكم من يمشي في الظلمة ، فلا يهتدي إلى الطريق ، ولا يفصل الشيء من غيره. فلا يأمن أن يتردّى في مهواة ، أو يعهر على عدوّ قاتل ، أو آفة مهلكة ـ شبّهت بالظّلمة ، ولزم ـ على عكس ذلك ـ أن تشبه السنّة والهدى ، وكلّ ما هو علم بالنور ، وعليهما قوله تعالى : (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [المائدة : الآية ١٦].

وشاع ذلك ، حتى وصف الصّنف الأول بالسّواد ، كما في قول القائل : «شاهدت سواد الكفر من جبين فلان».

والصّنف الثاني بالبياض ، كما في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم : «أتيتكم بالحنيفيّة البيضاء» (٣) وذلك لتخييل أن السّنن ونحوها من الجنس الذي هو إشراق أو ابيضاض في العين ، وأن البدعة ونحوها على خلاف ذلك. فصار تشبيه النجوم ما بين الدّياجي بالسّنن ما بين

__________________

(١) صدر البيت :

أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي

والبيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ٣٣ ، ولسان العرب (غول) ، (شطن) ، وتهذيب اللغة ٨ / ١٩٣ ، وجمهرة اللغة ص ٩٦١ ، وتاج العروس (زرق) ، وبلا نسبة في المخصص ٨ / ١١١.

(٢) البيت من الخفيف ، وهو للقاضي التنوخي في المصباح ص ١١٠ ، ونهاية الإيجاز ص ١٩٠.

(٣) الحديث لم أجده بهذا اللفظ ، وروي الحديث بلفظ : «بعثت بالحنيفية السمحة» أخرجه بهذا اللفظ أحمد في المسند ٥ / ٢٦٦ ، ٦ / ١١٦ ، ٢٣٣.

١٦٩

الابتداع ؛ كتشبيه النجوم في الظلام ببياض الشّيب في سواد الشباب ، وبالأنوار مؤتلفة بين النبات الشديد الخضرة. فالتأويل فيه : أنه تخيّل ما ليس بمتلون متلوّنا.

ويحتمل وجها آخر ، وهو : أن يتأوّل بأنه أراد معنى قولهم : إن سواد الظلام يزيد النجوم حسنا. فإنه لما كان وقوف العاقل على عوار الباطل يزيد الحقّ نبلا في نفسه ، وحسنا في مرآة عقله ، جعل هذا الأصل من المعقول مثالا للمشاهد المبصر هناك ، غير أنه لا يخرج ـ مع هذا ـ عن كونه على خلاف الظاهر ، لأن الظاهر أن يمثّل المعقول في ذلك بالمحسوس ، كما فعل البحتريّ في قوله :

وقد زادها إفراط حسن : جوارها

خلائق أصفار من المجد خيّب (١)

وحسن دراريّ الكواكب أن ترى

طوالع في داج من الليل غيهب

ومن التشبيه التخييليّ : قول أبي طالب الرّقّيّ :

ولقد ذكرتك والظلام كأنه

يوم النّوى وفؤاد من لم يعشق (٢)

فإنه لما كانت أيام المكاره توصف بالسواد توسّعا ؛ فيقال : اسودّ النهار في عينيّ ، وأظلمت الدنيا عليّ ، وكان الغزل يدّعي القسوة على من لم يعشق ، والقلب القاسي يوصف بالسواد توسّعا ـ تخيّل يوم النّوى وفؤاد من لم يعشق شيئين لهما سواد ، وجعلهما أعرف به ، وأشهر من الظلام ؛ فشبّهه بهما. وكذلك قول ابن بابك :

وأرض كأخلاق الكرام قطعتها

وقد كحل الليل السّماك فأبصرا (٣)

فإن الأخلاق لما كانت توصف بالسّعة والضّيق تشبيها لها بالأماكن الواسعة والضيّقة : تخيّل أخلاق الكرام شيئا له سعة ، وجعل أصلا فيها ، فشبّه الأرض الواسعة بها. وكذا قول التّنوخي : [علي بن محمد]

فانهض بنار إلى فحم كأنهما

في العين ظلم ، وإنصاف قد اتّفقا (٤)

فإنه لما كان يقال في الحق : إنه منير واضح ؛ فيستعار له صفة الأجسام المنيرة ، وفي الظلم خلاف ذلك ـ تخيّلهما شيئين لهما إنارة وإظلام ، فشبّه النار والفحم بهما مجتمعين.

__________________

(١) البيتان من الطويل ، وهما في أسرار البلاغة ص ٢٠٠.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في أسرار البلاغة ص ١٩٨ ، ١٩٩ ، والمفتاح ص ١٤٦.

(٣) البيت من الطويل ، وهو في أسرار البلاغة ص ٢٠١.

(٤) البيت من البسيط ، وهو في أسرار البلاغة ص ٢٠٠ ، ٢٠١.

١٧٠

وكذا ما كتب به الصاحب إلى القاضي أبي الحسن ، وقد أهدى له الصاحب عطر القطر :

يا أيها القاضي الذي نفسي له

مع قرب عهد لقائه مشتاقه (١)

أهديت عطرا مثل طيب ثنائه

فكأنما أهدي له أخلاقه

فإنه لما كان الثناء يشبّه بالعطر ويشتقّ له منه ؛ تخيّله شيئا له رائحة طيبة وشبّه العطر به ، ليوهم أنه أصل في الطّيب ، وأحقّ به منه.

وكذا قول الآخر : [العلوي الأصفهاني]

كأنّ انتضاء البدر من تحت غيمة

نجاء من البأساء بعد وقوع (٢)

فإنه لما رأى الخلاص من شدّة يشبّه بخروج البدر من تحت الغيم بانحساره عنه ؛ قلب التشبيه ليري أن صورة النجاء من البأساء لكونها مطلوبة فوق كل مطلوب ـ أعرف من صورة انتضاء البدر من تحت غيمه.

وإذا علم أن وجه الشبه هو ما يشترك فيه الطرفان ؛ علم فساد جعله في قول القائل : «النحو في الكلام كالملح في الطعام» كون القليل مصلحا والكثير مفسدا. لأن القلّة والكثرة إنما يتصوّر جريانهما في الملح ، وذلك بأن يجعل منه في الطعام القدر المصلح أو أكثر منه ، دون النحو. فإنه إذا كان من حكمه رفع الفاعل ونصب المفعول ـ مثلا ـ فإن وجد ذلك في الكلام فقد حصل النحو فيه ، وانتفى الفساد عنه ، وصار منتفعا به في فهم المراد منه ، وإلا لم يحصل وكان فاسدا لا ينتفع به. فالوجه فيه : هو كون الاستعمال مصلحا ، والإهمال مفسدا ؛ لاشتراكهما في ذلك.

ومما يتصل بهذا ، ما حكي أن ابن شرف القيرواني ، أنشد ابن رشيق قوله :

غيري جنى ، وأنا المعاتب فيكم

فكأنني سبّابة المتندّم (٣)

وقال له : «هل سمعت هذا المعنى؟» فقال ابن رشيق : «سمعته وأخذته أنت ، وأفسدته» أما الأخذ فمن النابغة الذبياني ، حيث يقول :

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

وهل يأثمن ذو إمّة وهو طائع (٤)

__________________

(١) الرجز ، ولم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في أسرار البلاغة ص ٢٠٠ ، والمفتاح ص ١٤٧.

(٣) البيت بلا نسبة في المطوّل شرح تلخيص مفتاح العلوم ص ٢٧١.

(٤) البيتان من الطويل ، وهما للنابغة الذبياني في ديوانه ص ٣٥ ، ٣٧ ، ولسان العرب (أمم) ، (عرر) ، ومقاييس اللغة ١ / ٢٨ ، وكتاب العين ٨ / ٤٢٨ ، وتهذيب اللغة ١٥ / ٦٣٥ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٢٤٧ ، ومجمل اللغة ١ / ١٥٢.

١٧١

لكلّفتني ذنب امرىء وتركته

كذي العرّ يكوى غيره وهو راتع

وأما الإفساد ؛ فلأن سبّابة المتندّم أول شيء يتألّم منه ؛ فلا يكون المعاقب غير الجاني. وهذا بخلاف بيت النابغة ، فإن المكويّ من الإبل يألم وما به عرّ البتّة وصاحب العرّ لا يألم جملة.

وهو إما غير خارج عن حقيقة الطرفين ، أو خارج.

والأول : إما تمام حقيقتهما ، كما في تشبيه إنسان بإنسان في كونه إنسانا ، أو جزئهما ، كما في تشبيه بعض الحيوانات العجم بالإنسان في كونه حيوانا.

والثاني : صفة ، إما حقيقية ، أو إضافية.

والحقيقة : إما حسّيّة ، وهي الكيفيات الجسيمة مما يدرك بالبصر من الألوان ، والأشكال ، والمقادير ، والحركات ، وما يتصل بها من الحسن والقبح وغير ذلك. أو بالسمع ، من الأصوات القوية ، والضعيفة ، والتي بين بين ، أو بالذّوق من أنواع الطعام ، أو بالشم من أنواع الروائح ، أو باللمس ، من الحرارة والبرودة ، والرطوبة واليبوسة ، والخشونة والملاسة ، واللين والصلابة ، والخفة ، والثقل ، وما ينضاف إليها.

وإما عقلية : كالكيفيات النفسية ، من الذكاء ، والتيقّظ ، والمعرفة ، والعلم ، والقدرة ، والكرم ، والسخاء ، والغضب ، والحلم ، وما جرى مجراها من الغرائز والأخلاق.

والإضافية : كإزالة الحجاب في تشبيه الحجّة بالشمس.

تقسيم آخر باعتبار آخر

ووجه الشبه : إما واحد ، أو غير واحد.

والواحد : إما حسّيّ ، أو عقليّ.

وغير الواحد : إما بمنزلة الواحد ـ لكونه مركّبا من أمرين أو أمور ـ أو متعدّد غير مركب.

والمركب : إما حسّيّ أو عقليّ.

والمتعدد : إما حسي ، أو عقلي ، أو مختلف.

والحسيّ لا يكون طرفاه إلا حسّيّين ، لامتناع أن يدرك بالحس من غير الحسّ شيء.

١٧٢

والعقليّ : طرفاه إما عقليان ، أو حسيان ، أو مختلفان ؛ لجواز أن يدرك بالعقل من الحس شيء ، ولذلك يقال : التشبيه بالوجه العقليّ أعمّ من التشبيه بالوجه الحسّي.

قال الشيخ صاحب المفتاح : وهاهنا نكتة لا بدّ من التنبّه لها ، وهي أن التحقيق في وجه الشبه يأبى أن يكون غير عقلي ؛ وذلك أنه متى كان حسّيّا ـ وقد عرفت أنه يجب أن يكون موجودا في الطرفين ، وكل موجود فله تعيّن ـ فوجه الشبه مع المشبه متعيّن ، فيمتنع أن يكون هو بعينه موجودا مع المشبّه به ؛ لامتناع حصول المحسوس المعيّن هاهنا ، مع كونه بعينه هناك بحكم الضرورة ، وبحكم التنبيه على امتناعه ـ إن شئت ـ وهو استلزامه إذا عدمت حمرة الخدّ دون حمرة الورد أو بالعكس ، كون الحمرة معدومة موجودة معا ، وهكذا في أخواتها ، بل يكون مثله مع المشبّه به ، لكنّ المثلين لا يكونان شيئا واحدا ، ووجه الشبه بين الطرفين ـ كما عرفت ـ واحد ؛ فيلزم أن يكون أمرا كليّا مأخوذا من المثلين بتجريدهما عن التعيّن ، لكن ما هذا شأنه فهو عقلي.

ويمتنع أن يقال : فالمراد بوجه الشبه حصول المثلين في الطرفين ؛ فإن المثلين متشابهان ، فمعهما وجه تشبيه ؛ فإن كان عقليا كان المرجح في وجه الشبه العقل في المآل ، وإن كان حسّيّا استلزم أن يكون مع المثلين مثلان آخران ، وكان الكلام فيهما كالكلام فيما سواهما ، ويلزم التسلسل.

هذا لفظه ، ويمكن أن يقال : المراد بكونه حسّيّا أن تكون افراده مدركة بالحسّ ، كالسواد ؛ فإن افراده مدرة بالبصر ، وإن كان هو في نفسه غير مدرك به ولا بغيره من الحواسّ.

الواحد الحسّيّ : كالحمرة ، والخفاء ، وطيب الرائحة ، ولذّة الطعم ، ولين الملمس ؛ في تشبيه الخدّ بالورد ، والصوت الضعيف بالهمس ، والنّكهة بالعنبر ، والريق بالخمر ، والجلد الناعم بالحرير ، كما سبق.

والواحد العقليّ : كالعراء عن الفائدة في تشبيه وجود الشيء العديم النفع بعدمه ؛ وجهة الإدراك في تشبيه العلم بالحياة ، فيما طرفاه معقولان.

والجراءة في تشبيه الرجل الشجاع بالأسد ، ومطلق الاهتداء في تشبيه أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ورضي عنهم بالنجوم ، فيما طرفاه محسوسان.

والهداية في تشبيه العلم بالنور ، وتحصيل ما بين الزيادة والنقصان في تشبيه العدل بالقسطاط ، فيما المشبه فيه معقول والمشبه به محسوس.

واستطابة النفس في تشبيه العطر بخلق كريم ، وعدم الخفاء في تشبيه النجوم

١٧٣

بالسّنن ، فيما المشبه فيه محسوس والمشبه به معقول.

قال الشيخ صاحب المفتاح : وفي أكثر هذه الأمثلة في معنى وحدتها تسامح.

والمركّب الحسي : طرفاه إما مفردان كالهيئة الحاصلة من الحمرة والشكل الكريّ والمقدار المخصوص في قول ذي الرمة :

وسقط كعين الدّيك عاورت صاحبي

أتاها ، وهيّأنا لموقعها وكرا (١)

وكالهيئة الحاصلة من تقارن الصور البيض ، المستديرة ، الصّغار المقادير في المرأى ، على كيفيّة مخصوصة إلى مقدار مخصوص ، في قول أحيحة بن الجلاح ، أو قيس بن الأسلت :

وقد لاح في الصبح الثّريّا كما ترى

كعنقود ملّاحيّة حين نوّرا (٢)

وأما مركّبان ، كالهيئة الحاصلة من هويّ أجرام مشرقة مستطيلة ، متناسبة المقدار ، متفرقة في جوانب شيء مظلم ، في قول بشّار :

كأنّ مثار النّقع فوق رؤوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه (٣)

وكالهيئة الحاصلة من تفرّق أجرام متلألئة ، مستديرة ، صغار المقادير في المرأى ، على سطح جسم أزرق ، صافي الزّرقة ، في قول أبي طالب الرّقّي :

وكأن أجرام النجوم لوامعا

درر نثرن على بساط أزرق (٤)

وإما مختلفان ، كما تشبيه الشّاة الجبليّ بحمار أبتر مشقوق الشّفة والحوافر نابت على رأسه شجرتا غضا ، وكما مرّ في تشبيه الشقيق والنيلوفر.

ومن بديع هذا النوع ـ أعني المركب الحسي ما يجيء في الهيئات التي تقع عليها الحركة ـ ويكون على وجهين :

أحدهما : أن يقرن بالحركة غيرها من أوصاف الجسم ، كالشكل ، واللون ، كما في قوله : [جبار بن جزء]

__________________

(١) البيت من الكامل وهو في ديوان ذي الرمة ص ١٤٢٦ ، ولسان العرب (عور) ، وتهذيب اللغة ٣ / ١٦٥ ، وتاج العروس (عور) ، (سقط) ، وهو بلا نسبة في كتاب العين ٥ / ٧١ ، والمخصص ١٧ / ٢١ ، وفي الديوان : «لموضعها» بدل : «لموقعها».

(٢) البيت من الطويل ، وهو ليس لأحيحة بن الجلاح ، وهو لأبي قيس بن الأسلت في ديوانه ص ٧٣ ، ولسان العرب (ملح) ، والتنبيه والإيضاح ١ / ٢٧٤ ، وتاج العروس (ملح).

(٣) البيت من الطويل ، وهو في ديوان بشار بن برد ص ٤٦.

(٤) البيت من الكامل ، وهو في يتيمة الدهر للثعالبي ١ / ٢٤٤.

١٧٤

والشمس كالمرآة في كفّ الأشل (١)

من الهيئة الحاصلة من الاستدارة ، مع الإشراف ، والحركة السريعة المتصلة ، ما يحصل في الإشراف بسبب تلك الحركة ، من التموّج والاضطراب ، حتى يرى الشعاع كأنه يهمّ بأن ينبسط حتى يفيض من جوانب الدائرة ، ثم يبدو له فيرجع من الانبساط الذي بدا له إلى الانقباض ، كأنه يجتمع من الجوانب إلى الوسط ؛ فإن الشمس إذا أحدّ الإنسان النظر إليها ليتبين جرمها وجدها مؤدّية لهذه الهيئة ، وكذا المرآة إذا كانت في يد الأشلّ.

ومثله قول المهلّبي الوزير [الحسن بن محمد](٢)

والشمس من مشرقها قد بدت

مشرقة ليس لها حاجب (٣)

كأنها بوتقة أحميت

يجول فيها ذهب ذائب

فإن البوتقة إذا أحميت ، وذاب فيها الذهب ، تشكّل بشكلها في الاستدارة وأخذ يتحرك فيها بجملته تلك الحركة العجيبة ، كأنه يهم بأن ينبسط حتى يفيض من جوانبها ؛ لما في طبعه من النعومة ، ثم يبدو له فيرجع إلى الانقباض ؛ لما بين أجزائه من شدة الاتصال والتلاحم ؛ ولذلك لا يقع فيه غليان على الصفة التي تكون في الماء ونحوه مما يتخلله الهواء.

وكما في قول الصنوبري :

كأن في غدرانها

حواجبا ظلّت تمطّ (٤)

أراد ما يبدو في صفحة الماء من أشكال الماء كأنصاف دوائر صغار ثم تمتد امتدادا ينقص من انحنائها ، فينقلها من التقوّس إلى الاستواء ، وذلك أشبه شيء بالحواجب إذا امتدّت ، لأن للحاجب كما لا يخفى تقويسا ، ومدّه ينقص من تقويسه.

والوجه الثاني : أن تجرّد هيئة الحركة عن كلّ وصف غيرها للجسم ؛ فهناك أيضا لا

__________________

(١) الرجز لجبار بن ضرار ابن أخي الشماخ في أسرار البلاغة ص ٢٠٧ ، وديوان المعاني ١ / ٣٥٩.

(٢) الوزير المهلبي : هو الحسن بن محمد بن هارون بن إبراهيم بن عبد الله المهلبي ، أبو محمد الوزير لمعز الدولة بن بويه الديلمي ، ولد بالبصرة سنة ٢٩١ ه‍ ، وتوفي في طريق واسط وحمل ودفن ببغداد سنة ٣٥٢ ه‍ ، صنف ديوان الرسائل ، ديوان شعره ، كتاب في أصول النحو ، كتاب اللغة في مخارج الحروف. (كشف الظنون ٥ / ٢٧٠).

(٣) البيتان من السريع ، وهما في يتيمة الدهر ٢ / ٢٠٢.

(٤) البيت من مجزوء الرجز ، وهو في أسرار البلاغة ص ١٥٨.

١٧٥

بدّ من اختلاط حركات كثيرة للجسم إلى جهات مختلفة له ، كأن يتحرك بعضه إلى اليمين ، وبعضه إلى الشمال ، وبعضه إلى العلو ، وبعضه إلى السّفل.

فحركة الرّحا والدّولاب والسهم لا تركيب فيها ؛ لاتحاد الحركة وحركة المصحف في قول ابن المعتز :

وكأن البرق مصحف قار

فانطباقا مرّة وانفتاحا (١)

فيها ترتيب ؛ لأنه يتحرك في الحالتين إلى جهتين في كل حالة إلى جهة ، وكلّما كان التفاوت في الجهات التي تتحرك أبعاض الجسم إليها أشدّ كان التركيب في هيئة المتحرّك أكثر.

ومن لطيف ذلك قول الأعشى يصف السفينة في البحر وتقاذف الأمواج بها :

تقص السفين بجانبيه كما

ينزو الرّباح خلا له كرع (٢)

قال الشيخ عبد القاهر : الرّباح : الفصيل (وقيل : القرد) والكرع : ماء السماء ؛ شبّه السفينة في انحدارها وارتفاعها بحركات الفصيل في نزوه ، فإنه يكون له حينئذ حركات متفاوتة تصير لها أعضاؤه في جهات مختلفة ، ويكون هناك تسفّل وتصعّد على غير ترتيب ، وبحيث (يكاد) يدخل أحدهما في الآخر ؛ فلا يتبينه الطّرف مرتفعا حتى يراه متسفّلا ، وذلك أشبه شيء بحال السفينة وهيئة حركاتها حين تتدافعها الأمواج.

ومنه قول الآخر [ابن المعتز] :

حفّت بسرو كالقيان ، ولحّفت

خضر الحرير على قوام معتدل (٣)

فكأنها والريح جاء يميلها

تبغي التعانق ، ثم يمنعها الخجل

فإن فيه تفصيلا دقيقا ؛ وذلك أنه راعى الحركتين ؛ حركة التهيّؤ للدنوّ والعناق ، وحركة الرجوع إلى أصل الافتراق ، وأدّى ما يكون في الثانية من سرعة زائدة تأدية لطيفة ؛ لأن حركة الشجرة المعتدلة حال رجوعها إلى اعتدالها أسرع لا محالة من حركتها في حال خروجها عن مكانها من الاعتدال ؛ وكذلك حركة من يدركه الخجل فيرتدع أسرع من حركة من يهمّ بالدنو ، لأن إزعاج الخوف أقوى أبدا من إزعاج الرجاء.

ومما مذهبه السهل الممتنع من هذا الضرب قول امرىء القيس :

__________________

(١) البيت من المديد ، وهو في الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ١ / ٧٧.

(٢) البيت من الوافر ، وهو في أسرار البلاغة ص ١٥٩.

(٣) البيتان من الكامل ، واسمه الأخيطل الأهوازي ، أو لأحمد بن سليمان بن وهب ، أو لابن المعتز في أسرار البلاغة ص ٢٤١ ، وحماسة ابن الشجري ص ٢٢٣.

١٧٦

مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا

كجلمود صخر حطّه السيل من عل (١)

يقول : إن هذا الفرس ـ لفرط ما فيه من لين الرأس وسرعة الانحراف ـ ترى كفله في الحال التي ترى فيها لببه ؛ فهو كجلمود صخر دفعه السيل من مكان عال ؛ فإن الحجر بطبعه يطلب جهة السّفل ؛ لأنها مركزه ، فكيف إذا أعانته قوة دفع السيل من عل؟! فهو لسرعة تقلّبه يرى أحد وجهيه حين يرى الآخر.

وكما يقع التركيب في هيئة الحركة قد يقع في هيئة السكون ؛ فمن لطيف ذلك قول أبي الطّيّب في صفة الكلب :

يقعي جلوس البدويّ المصطلي (٢)

إنما لطف من حيث كان لكل عضو من الكلب في إقعائه موقع خاصّ ، وللمجموع صورة خاصة مؤلّفة من تلك المواقع.

ومنه البيت الثاني من قول الآخر في صفة مصلوب :

كأنه عاشق قد مدّ صفحته

يوم الوداع إلى توديع مرتحل (٣)

أو قائم من نعاس فيه لوثته

مواصل لتمطّيه من الكسل

والتفصيل فيه أنه شبّه بالمتمطي إذا واصل تمطّيه مع التعرّض لسببه وهو اللّوثة والكسل فيه ؛ فنظر إلى هذه الجهات الثلاث ، ولو اقتصر على أنه كالمتمطي كان قريب التناول ؛ لأن هذا القدر يقع في نفس الرائي للمصلوب ابتداء ؛ لأنه من باب الجملة.

وشبيه بهذا القول قول الآخر :

لم أر صفّا مثل صفّ الزّطّ

تسعين منهم صلبوا في خطّ (٤)

من كل عال جذعه بالشّط

كأنه في جذعه المشتطّ

__________________

(١) البيت من الطويل وهو في ديوان امرىء القيس ص ١٩ ، ولسان العرب (علا) ، وجمهرة اللغة ص ١٢٦ ، وتاج العروس (فرر) ، وكتاب العين ٧ / ١٧٤ ، وإصلاح المنطق ص ٢٥ ، وخزانة الأدب ٢ / ٣٩٧ ، والدرر ٣ / ١١٥ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٣٩ ، وشرح التصريح ٢ / ٥٤ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٥١ ، والشعر والشعراء ١ / ١١٦ ، والكتاب ٤ / ٢٢٨ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٤٤٩.

(٢) يليه :

بأربع مجدلة لم تجدّل

والرجز في ديوان المتنبي ١ / ١٧٥.

(٣) البيتان من البسيط ، وهما في الكامل للمبرد ٢ / ٤٥ ، وأسرار البلاغة ص ١٦٣.

(٤) الأبيات من السريع ، وهي لدعبل الخزاعي في الكامل للمبرد ٢ / ٤٥ ، وأسرار البلاغة ص ١٦٣ ، ١٦٤.

١٧٧

أخو نعاس جدّ في التّمطّي

قد خامر النوم ولم يغطّ

والفرق بين هذا والأول أن الأول صريح في الاستمرار على الهيئة والاستدامة لها دون بلوغ الصفة غاية ما يمكن أن يكون عليها ، والثاني بالعكس.

قال الشيخ عبد القاهر : وشبيه بالأول في الاستقصاء قول ابن الرّومي في المصلوب أيضا :

كأن له في الجوّ حيلا يبوعه

إذا ما انقضى حبل أبيح حبل (١)

فقوله : «إذا ما انقضى حبل أتيح له حبل» كقوله : «مواصل لتمطيه من الكسل» في التنبيه على استدامة الشّبه ، لأنه إذا كان لا يزال يبوع حبلا لم يقبض باعه ، ولم يرسل يده ، وفي ذلك بقاء شبه المصلوب على الاتصال.

والمركّب العقليّ كالمنظر المطمع مع المخبر المؤيس الذي هو على عكس ما قدر ، في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) [النّور : الآية ٣٩] ، شبّه ما يعمله من لا يقرن الإيمان المعتبر بالأعمال التي يحسبها تنفعه عند الله وتنجيه من عذابه ، ثم يخيب في العاقبة أمله ، ويلقى خلاف ما قدّر ، بسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه عطش يوم القيامة ، فيحسبه ماء ؛ فيأتيه ، فلا يجد ما رجاه ، ويجد زبانية الله عنده ؛ فيأخذونه ، فيعتلونه إلى جهنم ، فيسقونه الحميم والغسّاق.

فهو كما ترى منتزع من أمور مجموعة قرن بعضها إلى بعض ؛ وذلك أنه روعي من الكافر فعل مخصوص ، وهو حسبان الأعمال نافعة له ، وأن تكون للأعمال صورة مخصوصة ، وهي صورة الأعمال الصالحة التي وعد الله تعالى بالثواب عليها بشرط الإيمان به وبرسله عليهم السّلام ؛ وأنها لا تفيدهم في العاقبة شيئا ، وأنهم يلقون فيها عكس ما أمّلوه وهو العذاب الأليم ، وكذا في جانب المشبّه به.

وكحرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمّل التعب في استصحابه ، كما في قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) [الجمعة : الآية ٥] فإنه أيضا منتزع من أمور مجموعة قرن بعضها إلى بعض ؛ وذلك أنه روعي من الحمار فعل مخصوص ، وهو الحمل ، وأن يكون المحمول شيئا مخصوصا وهي الأسفار التي هي أوعية العلوم ، وأن الحمار جاهل ما فيها ، وكذا في جانب المشبه.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في أسرار البلاغة ص ١١٦.

١٧٨

واعلم أنه قد تقع بعد أداة التشبيه أمور يظنّ أن المقصود أمر منتزع من بعضها ؛ فيقع الخطأ ؛ لكونه أمرا منتزعا من جميعها ، كقوله :

كما أبرقت قوما عطاشا غمامة

فلمّا رأوها أقشعت وتجلّت (١)

فإنه ربما يظنّ أن الشطر الأول منه تشبيه مستقلّ بنفسه لا حاجة به إلى الثاني على أن المقصود به ظهور أمر مطمع لمن هو شديد الحاجة إليه ، ولكن بالتأمّل يظهر أن مغزى الشاعر في التشبيه أن يثبت ابتداء مطمعا متصلا بانتهاء مؤيس ، وذلك يتوقف على البيت كله.

فإن قيل : هذا يقتضي أن يكون بعض التشبيهات المجتمعة كقولنا : «زيد يصفو ويكدر» تشبيها واحدا ؛ لأن الاقتصار على أحد الخبرين يبطل الغرض من الكلام ؛ لأن الغرض منه وصف المخبر عنه بأنه يجمع بين الصفتين ، وأن إحداهما لا تدوم.

قلنا : الفرق بينهما أن الغرض في البيت أن يثبت ابتداء مطمع متصل بانتهاء مؤيس ، كما مر ، وكون الشيء ابتداء لآخر زائد على الجمع بينهما ، وليس في قولنا : «يصفو ويكدر» أكثر من الجمع بين الصّفتين ، ونظير البيت قولنا : «يصفو لم يكدر» لإفادة «ثمّ» الترتيب المقتضي ربط أحد الوصفين بالآخر.

وقد ظهر مما ذكرنا أن التشبيهات المجتمعة تفارق التشبيه المركّب في مثل ما ذكرنا بأمرين :

أحدهما : أنه لا يجب فيها ترتيب :

الثاني : أنه إذا حذف بعضها لا يتغير حال الباقي في إفادة ما كان يفيده قبل الحذف.

فإذا قلنا : «زيد كالأسد بأسا ، والسيف مضاء ، والبحر جودا» لا يجب أن يكون لهذه التشبيهات نسق مخصوص ، بل لو قدّم التشبيه بالبحر أو التشبيه بالسيف جاز لو أسقط واحد من الثلاثة لم يتغير حال غيره في إفادة معناه. بخلاف المركب ؛ فإن المقصود منه يختلّ بإسقاط بعض الأمور.

والمتعدّد الحسّيّ : كاللون ، والطعم ، والرائحة في تشبيه فاكهة بأخرى.

والمتعدد العقلي : كحدّة النظر ، وكمال الحذر ، وإخفاء السّفاد ، في تشبيه طائر بالغراب.

والمتعدّد المختلف : كحسن الطلعة ونباهة الشأن ، في تشبيه إنسان بالشمس.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في شرح مشكاة المصابيح للطيبي ١ / ١٠٧.

١٧٩

واعلم أن الطريق في اكتساب وجه الشبه أن يميّز عمّا عداه ، فإذا أردت أن تشبّه جسما بجسم في هيئة حركة ، وجب أن تطلب الوفاق بين الهيئة والهيئة مجرّدتين عن الجسم وسائر أوصافه من اللون وغيره ، كما فعل ابن المعتزّ في تشبيه البرق ؛ فإنه لم ينظر إلى شيء من أوصافه سوى الهيئة التي تجدها العين ، من انبساط يعقبه انقباض.

وأما أداته فالكاف في نحو قولك : «زيد كالأسد» وكأنّ في نحو قولك : «زيد كأنه أسد» و «مثل» في نحو قولك : «زيد مثل الأسد» وما في معنى «مثل» كلفظة «نحو» وما يشتقّ من لفظة «مثل» و «شبه» ونحوهما.

والأصل في الكاف ونحوها أن يليها المشبّه به ، وقد يليها مفرد لا يتأتّى التشبيه به ، وذلك إذا كان المشبّه به مركبا كقوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ) [الكهف : الآية ٤٥] ؛ إذ ليس المراد تشبيه حال الدنيا بالماء ، ولا بمفرد آخر يتمحّل لتقديره ، بل المراد تشبيه حالها ، في نضارتها ، وبهجتها ، وما يتعقّبها من الهلاك والفناء ، بحال ، النبات يكون أخضر وارفا ، ثم يهيج ، فتطيره الرياح كأن لم يكن.

وأما قوله عزّ وجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) [الصّف : الآية ١٤] فليس منه ؛ لأن المعنى (كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) ، كما كان الحواريّون أنصار عيسى ، حين قال لهم : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ؟).

وقد يذكر فعل ينبي عن التشبيه ، كعلمت في قولك : «علمت زيدا أسدا» ونحوه.

هذا إذا قرب التشبيه فإن بعّد أدنى تبعيد ؛ قيل : خلته وحسبته ونحوهما.

وأما الغرض من التشبيه فيعود في الأغلب إلى المشبه ، وقد يعود إلى المشبه به.

أما الأول فيرجع إلى وجوه مختلفة :

منها : بيان أن وجود المشبّه ممكن ، وذلك في كل أمر غريب يمكن أن يخالف فيه ويدّعي امتناعه ، كما في قول أبي الطيب :

فإن تفق الأنام وأنت منهم

فإن المسك بعض دم الغزال (١)

أراد أنه فاق الأنام في الأوصاف الفاضلة ، إلى حد بطل معه أن يكون واحدا منهم ، بل صار نوعا آخر برأسه أشرف من الإنسان ، وهذا ـ أعني أن يتناهى بعض أفراد النوع في الفضائل ، إلى أن يصير كأنه ليس منها ـ أمر غريب يفتقر من يدّعيه إلى إثبات

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ١٦.

١٨٠