الإيضاح في علوم البلاغة

جلال الدين محمّد بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد

الإيضاح في علوم البلاغة

المؤلف:

جلال الدين محمّد بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3907-X
الصفحات: ٤١٥

فلو علم أنه يخلد ، ثم جاد بماله ، كان جوده أفضل. فالشجاعة لو لا الموت لم تحمد ، والندى بالضّدّ.

وأجيب عنه : بأن المراد بالندى في البيت بذل النفس ، لا بذل المال ، كما قال مسلم بن الوليد :

يجود بالنفس إن ضنّ الجواد بها

والجود بالنفس أقصى غاية الجود (١)

وردّ بأن لفظ الندى لا يكاد يستعمل في بذل النفس ، وإن استعمل فعلى وجه الإضافة. فأما مطلقا : فلا يفيد إلّا بذل المال.

والثاني : ما لا يفسد المعنى كقوله : [أبو العيال الخفاجي]

ذكرت أخي فعاودني

صداع الرأس والوصب (٢)

فإن لفظ «الرأس» فيه حشو لا فائدة فيه ، لأن الصداع لا يستعمل إلا في الرأس ، وليس بمفسد للمعنى.

وقول زهير : [بن أبي سلمى]

وأعلم علم اليوم والأمس قبله

ولكنّني عن علم ما في غد عم (٣)

فإن قوله : «قبله» مستغنى عنه غير مفسد.

وقول أبي عديّ :

نحن الرؤوس ، وما الرؤوس إذا سمت

في المجد للأقوام كالأذناب (٤)

فإن قوله : «للأقوام» حشو لا فائدة فيه ، مع أنه غير مفسد.

واعلم أنه قد تشتبه الحال على الناظر ؛ لعدم تحصيل معنى الكلام وحقيقته ؛ فيعدّ

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو في ديوان مسلم بن الوليد ص ٢٥ ، والعقد الفريد ١ / ٥٦.

(٢) يروى عجز البيت بلفظ :

رداع السقم والوصب

والبيت من مجزوء الوافر ، وهو لأبي العيال الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص ٤٢٤ ، وتهذيب اللغة ٢ / ٢٠٤ ، ولسان العرب (ردع) (وفيه «والوصب» بدل «والوصب») وهذا خطأ ، والبيت من قصيدة مضمومة الرويّ) ، وتاج العروس (ردع).

(٣) البيت من الطويل ، وهو في ديوان زهير بن أبي سلمى ص ٢٩ ، ولسان العرب (عمى) ، وتهذيب اللغة ٣ / ٢٤٥ ، وشرح المعلقات السبع ص ٦٩ ، وشرح المعلقات العشر ص ٨٦.

(٤) البيت من الكامل ، وأبو عدي هو عبد الله بن عمرو الأموي.

١٤١

من الزائد على أصل المراد ما ليس منه ، كما مثّله بعض الناس بقول القائل :[كثير بن عبد الرحمن «عزّة»]

ولمّا قضينا من منى كلّ حاجة

ومسّح بالأركان من هو ماسح (١)

وشدّت على دهم المهارى رحالنا

ولم ينظر الغادي الذي هو رائح

أخذنا بأطراف الأحاديث بينا

وسالت بأعناق المطيّ الأباطح

يبيّن أنه ليس منه ما ذكره الشيخ عبد القاهر في شرحه.

قال : أول ما يتلقّاك من محاسن هذا الشعر أنه قال : «ولما قضينا من منى كل حاجة» فعبّر عن قضاء المناسك ـ فرائضها وسننها ـ بطريق العموم الذي هو أحد طرق الاختصار.

ثم نبّه بقوله : «ومسح بالأركان من هو ماسح» على طواف الوداع الذي هو آخر الأمر ، ودليل المسير الذي هو مقصوده من الشعر.

ثم قال : «وشدّت ـ البيت» فوصل بذكر مسح الأركان ما وليه من زمّ الركاب وركوب الرّكبان.

ثم دلّ بلفظ «الأطراف» على الصفة التي تختصّ بها الرّفاق في السّفر : من التصرّف في فنون القول ، وشجون الحديث ، أو ما هو عادة المتظرّفين : من الإشارة ، والتلويح والرمز والإيماء ، وأنبأ بذلك عن طيب النفوس وقوّة النشاط ، وفضل الاغتباط ، كما توجبه ألفة الأصحاب ، وأنسة الأحباب ، ويليق بحال من وفّق لقضاء العبادة الشريفة ورجا حسن الإياب ، وتنسّم روائح الأحبّة والأوطان واستماع التّهاني والتحايا من الخلّان والإخوان.

ثم زان ذلك كلّه باستعارة لطيفة ؛ حيث قال : «وسالت بأعناق المطيّ الأباطح» فنبّه بذلك على سرعة السّير ، ووطأة الظهر. وفي ذلك ما يؤكد ما قبله لأن الظهور إذا كانت وطيئة ، وكان سيرها سهلا سريعا زاد ذلك في نشاط الرّكبان ، فيزداد الحديث طيبا.

ثم قال : «بأعناق المطيّ» ولم يقل : «بالمطي» لأن السرعة والبطء في سير الإبل

__________________

(١) الأبيات من الطويل ، والبيت الأول لكثير عزة في ملحق ديوانه ص ٥٢٥ ، وزهر الآداب ص ٣٤٩ ، وللمضرب عقبة بن كعب بن زهير في الحماسة البصرية ٢ / ١٠٣ ، وبلا نسبة في لسان العرب (طرف) ، وأمالي المرتضى ٢ / ٣٥٩ ، والشعر والشعراء ص ٧٢ ، والخصائص ١ / ٢٨ ، ٢١٨ ، ٢٢٠ ، ومعجم البلدان (منى).

١٤٢

يظهران غالبا في أعناقها ، ويتبيّن أمرها من هواديها وصدورها ، وسائر أجزائها تستند إليها في الحركة ، وتتبعها في الثقل والخفّة.

القسم الأول

المساواة

كقوله تعالى : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر : الآية ٤٣] وقوله : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) [الأنعام : الآية ٦٨] ، وقول النابغة الذبياني :

فإنك كاللّيل الذي هو مدركي

وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع (١)

القسم الثاني

الإيجاز

وهو ضربان :

أحدهما : إيجاز القصر ، وهو ما ليس بحذف ، كقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : الآية ١٧٩] فإنه لا حذف فيه ، مع أن معناه كثير ، يزيد على لفظه ؛ لأن المراد به : أن الإنسان إذا علم أنه متى قتل قتل كان ذلك داعيا له قويّا إلى أن لا يقدم على القتل. فارتفع بالقتل ـ الذي هو قصاص ـ كثير من قتل الناس بعضهم لبعض ، فكان في ارتفاع القتل حياة لهم.

وفضله على ما كان عندهم أوجز كلام في هذا المعنى ـ وهو قولهم : «القتل أنفى للقتل» من وجوه

أحدها : أن عدّة حروف ما يناظره منه ـ وهو «في القصاص حياة» ـ عشرة في التلفّظ ، وعدّة حروفه أربعة عشر.

وثانيها : ما فيه من التصريح بالمطلوب الذي هو الحياة بالنصّ عليها. فيكون أزجر عن القتل بغير حق ، لكونه أدعى إلى الاقتصاص.

وثالثها : ما يفيد تنكير «حياة» من التعظيم ، أو النوعيّة ، كما سبق.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للنابغة الذبياني في ديوانه ص ٣٨ ، ولسان العرب (طور) ، (نأى) ، وكتاب العين ٨ / ٣٩٣ ، وتاج العروس (نأى) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة ٥ / ٣٧٨ ، ومجمل اللغة ٤ / ٣٦٨.

١٤٣

ورابعها : اطّراده ، بخلاف قولهم. فإن القتل الذي ينفي القتل : هو ما كان على وجه القصاص ، لا غيره.

وخامسها : سلامته من التكرار الذي هو من عيوب الكلام ، بخلاف قولهم.

وسادسها : استغناؤه عن تقدير محذوف ، بخلاف قولهم. فإن تقديره : القتل أنفى للقتل من تركه.

وسابعها : أن القصاص ضدّ الحياة ، فالجمع بينهما طباق ، كما سيأتي.

وثامنها : جعل القصاص كالمنبع والمعدن للحياة بإدخال «في» عليه ، على ما تقدم.

ومنه قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : الآية ٢] ، أي هدى للضّالّين الصائرين إلى الهدى بعد الضلال. وحسّنه التوصّل إلى تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه ، وإلى تصدير السّورة بذكر أولياء الله تعالى.

وقوله : (أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ) [يونس : الآية ١٨] أي : بما لا ثبوت له ؛ ولا علم الله متعلق بثبوته ؛ نفيا للملزوم بنفي اللازم. وكذا قوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) [غافر : الآية ١٨] أي : لا شفاعة ولا طاعة ، على أسلوب قوله : [امرؤ القيس]

على لاحب لا يهتدى بمناره (١)

أي : لا منار ، ولا اهتداء ، وقوله : [أوس بن حجر]

ولا ترى الضّبّ بها ينجحر (٢)

أي : لا ضبّ ، ولا انجحار.

ومن أمثلة الإيجاز أيضا : قوله تعالى فيما يخاطب به النبيّ عليه الصلاة والسّلام : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (١٩٩) [الأعراف : الآية ١٩٩] فإنه جمع فيه مكارم الأخلاق ، لأن قوله : (خُذِ الْعَفْوَ) أمر لإصلاح قوّة الشّهوة. فإن العفو ضدّ الجهل ، قال

__________________

(١) عجز البيت :

إذا سافه العود الديافيّ جرجرا

والبيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ٦٦ ، ولسان العرب (ديف) ، (سوف) ، (لحف) وتهذيب اللغة ٥ / ٧٠ ، ١٣ / ٩٢ ، ١٤ / ١٩٨ ، وأساس البلاغة (سوف) ، وتاج العروس (ديف) ، (لحف) ، (سوف) ، وبلا نسبة في لسان العرب (نسا) ، ومقاييس اللغة ٢ / ٣١٨ ، ومجمل اللغة ٢ / ٣٠٤.

(٢) صدر البيت :

لا تفزع الأرنب أهوالها

والبيت من السريع ، وهو لابن أحمر في ديوانه ص ٦٧ ، وأمالي المرتضى ١ / ٢٢٩ ، وخزانة الأدب ١٠ / ١٩٢ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ١١ / ٣١٣ ، والخصائص ٣ / ١٦٥ ، ٣٢١.

١٤٤

الشاعر : [أسماء بن خارجة الفزاري]

خذي العفو مني تستديمي مودّتي

أي خذي ما تيسّر أخذه وتسهّل ، وقوله : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف : الآية ١٩٩] أمر بإصلاح قوّة الغضب ، أي أعرض عن السّفهاء واحلم عنهم ، ولا تكافئهم على أفعالهم. هذا ما يرجع إليه منها. وأما ما يرجع إلى أمّته : فدلّ عليه بقوله : (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) [الأعراف : الآية ١٩٩] أي : بالمعروف والجميل من الأفعال. ولهذا قال جعفر الصادق (١) رضي الله عنه ـ فيما روي عنه : أمر الله نبيّه صلّى الله عليه وسلّم بمكارم الأخلاق ، وليس في القرآن آية أجمع لها من هذه الآية.

ومنها قول الشريف الرضي :

مالوا إلى شعب الرّحال وأسندوا

أيدي الطّعان إلى قلوب تخفق (٢)

فإنه لما أراد أن يصف هؤلاء القوم بالشجاعة في أثناء وصفهم بالغرام : عبّر عن ذلك بقوله : «أيدي الطعان».

ومنه ما كتب عمرو بن مسعدة عن المأمون ، لرجل يعنى به ، إلى بعض العمال ، حيث أمره أن يختصر كتابه ما أمكن : «كتابي إليك كتاب واثق ممّن كتب إليه ، معنيّ بمن كتب له ، ولن يضيع بين الثّقة والعناية حامله».

الضرب الثاني : إيجاز الحذف ، وهو ما يكون بحذف.

والمحذوف : إما جزء جملة أو جملة ، أو أكثر من جملة.

والأول : إمّا مضاف ، كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : الآية ٨٢] أي : أهلها ، وكقوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : الآية ٣] أي : تناولها. لأن الحكم الشرعي إنما يتعلق بالأفعال ، دون الإجرام ، وقوله : (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [النّساء : الآية ١٦٠] أي : تناول طيّبات أحلّ لهم تناولها ، وتقدير التناول أولى من تقدير الأكل ؛ ليدخل فيه شرب ألبان الإبل. فإنها من جملة ما حرّمت عليهم ، وقوله : (وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها) [الأنعام : الآية ١٣٨] أي : منافع ظهورها. وتقدير المنافع أولى من تقدير الركوب. لأنهم

__________________

(١) جعفر الصادق : هو أبو عبد الله جعفر بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، ملقب بجعفر الصادق ، سادس الأئمة الاثني عشر على مذهب الإمامية ، توفي سنة ١٤٨ ه‍ (انظر ترجمته في كتاب الوفيات ص ١٢٧ ، وفيات الأعيان ١ / ٢٩١ ، شذرات الذهب ١ / ٢٢٠ ، حلية الأولياء ٣ / ١٩٢ ، البداية والنهاية ١٠ / ١٠٩ ، الطبقات الكبرى لابن سعد ٥ / ٤٤٤).

(٢) البيت من الكامل ، وهو في ديوان الشريف الرضي ٢ / ٤٣.

١٤٥

حرموا ركوبها وتحميلها ، وكقوله تعالى : (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ) [الأحزاب : الآية ٢١] أي : رحمة الله ، وقوله : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ) [النّحل : الآية ٥٠] أي : عذاب ربّهم. وقد ظهر هذان المضافان في قوله : (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) [الإسراء : الآية ٥٧].

وإما موصوف ، كقوله : [سحيم بن وثيل الرياحي]

أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا (١)

أي : أنا ابن رجل جلا.

وإما صفة ، نحو : (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) [الكهف : الآية ٧٩] أي : كلّ سفينة صحيحة أو صالحة ، أو نحو ذلك ، بدليل ما قبله. وقد جاء ذاك مذكورا في بعض القراءات ، قال سعيد بن جبير : كان ابن عباس رضي الله عنهما يقرأ : «وكان أمامهم ملك يأخذ كلّ سفينة صالحة غصبا».

وإما شرط ، كما سبق. وإما جواب شرط ، وهو ضربان.

أحدهما : أن يحذف لمجرد الاختصار ، كقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٤٥) [يس : الآية ٤٥] ، أي : أعرضوا ، بدليل قوله بعده : (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) [يس : الآية ٤٦] ، وكقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) [الرّعد : الآية ٣١] أي لكان هذا القرآن ، وكقوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) [الأحقاف : الآية ١٠]؟ أي : ألستم ظالمين ، بدليل قوله بعده : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الأحقاف : الآية ١٠].

والثاني : أن يحذف للدلالة على أنه شيء لا يحيط به الوصف.

أو لتذهب نفس السامع فيه كلّ مذهب ممكن ؛ فلا يتصوّر مطلوبا أو مكروها إلّا

__________________

(١) عجز البيت :

متى أضع العمامة تعرفوني

والبيت من الوافر ، وهو لسحيم بن وثيل الرياحي في الاشتقاق ص ٢٢٤ ، والأصمعيات ص ١٧ ، وجمهرة اللغة ص ٤٩٥ ، ١٠٤٤ ، وخزانة الأدب ١ / ٢٥٥ ، والدرر ١ / ٩٩ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٥٩ ، وشرح المفصل ٣ / ٦٢ ، والشعر والشعراء ٢ / ٦٤٧ ، والكتاب ٣ / ٢٠٧ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٥٦ ، وبلا نسبة في الاشتقاق ص ٢١٤ ، وأمالي ابن الحاجب ص ٤٥٦ ، وأوضح المسالك ٤ / ١٢٧ ، وخزانة الأدب ٩ / ٤٠٢ ، وشرح الأشموني ٢ / ٥٣١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٤٩ ، وشرح قطر الندى ص ٨٦ ، وشرح المفصل ١ / ٦١ ، ولسان العرب (ثنى) ، (جلا) ، وما ينصرف وما لا ينصرف ص ٢٠ ، ومجالس ثعلب ١ / ٢١٢ ، ومغني اللبيب ١ / ١٦٠ ، والمعرب ١ / ٢٨٣ ، وهمع الهوامع ١ / ٣٠.

١٤٦

مكروها إلا يجوّز أن يكون الأمر أعظم منه ، ولو عيّن شيء اقتصر عليه. وربما خفّ أمره عنده ، كقوله : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) (٧٣) [الزّمر : الآية ٧٣] ، وكقوله : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) [الأنعام : الآية ٢٧] ، (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) [الأنعام : الآية ٣٠] ، (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [السّجدة : الآية ١٢].

وقال السكاكي رحمه الله : ولهذا المعنى حذفت الصلة من قولهم : جاء بعد اللّتيّا واللتي ، أي المشار إليه بهما ، وهي المحنة والشدائد قد بلغت شدّتها وفظاعة شأنها مبلغا يبهت الواصف معه حتى لا يحير ببنت شفة.

وإما غير ذلك ، كقوله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) [الحديد : الآية ١٠] أي : ومن أنفق من بعده وقاتل ، بدليل ما بعده.

ومن هذا الضرب قوله : (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم : الآية ٤] لأن أصله : يا ربّ إني وهن العظم منّي ، واشتعل الرأس مني شيبا.

وعدّه السكاكي من القسم الثاني من الإيجاز على ما فسره ، ذاهبا إلى أنه وإن اشتمل على بسط ؛ فإن انقراض الشّباب وإلمام المشيب ؛ جديران بأبسط منه. ثم ذكر أن فيه لطائف يتوقف بيانها عن النظر في أصل المعنى ومرتبته الأولى.

ثم أفاد أن مرتبته الأولى : يا ربّي ، قد شخت. فإن الشيخوخة مشتملة على ضعف البدن ، وشيب الرأس.

ثم تركت هذه المرتبة ، لتوخّي مزيد التقرير إلى تفصيلها في «ضعف بدني ، وشاب رأسي».

ثم ترك التصريح بـ «ضعف بدني» إلى الكناية بـ «وهنت عظام بدني» ، لما سيأتي أن الكناية أبلغ من التصريح.

ثم لقصد مرتبة رابعة أبلغ في التقرير بنيت الكتابة على المبدأ فحصل : أنا وهنت عظام بدني.

ثم لقصد مرتبة خامسة أبلغ أدخلت «إن» على المبتدأ ، فحصل : إني وهنت عظام بدني.

ثم لطلب تقرير أن الواهن عظام بدنه قصد مرتبة سادسة ، وهي سلوك طريقي الإجمال والتفصيل ، فحصل : إني وهنت العظام من بدني.

١٤٧

ثم لطلب مزيد اختصاص العظام به قصد مرتبة سابعة ، وهي ترك توسيط البدن ، فحصل : إني وهنت العظام مني.

ثم لطلب شمول الوهن العظام فردا فردا : قصدت مرتبة ثامنة ، وهي ترك الجمع إلى الإفراد ؛ لصحة حصول وهن المجموع بوهن البعض دون كل فرد فرد ، فحصل ما ترى.

وهكذا تركت الحقيقة في : «شاب رأسي» إلى الاستعارة في اشتعل شيب «رأسي» لما سيأتي أن الاستعارة أبلغ من الحقيقة.

ثم تركت هذه المرتبة إلى تحويل الإسناد إلى الرأس ، وتفسيره بـ «شيبا» لأنها أبلغ من جهات :

إحداها : إسناد الاشتعال إلى الرأس ؛ لإفادة شمول الشّيب الرأس ؛ إذ وزان «اشتعل شيب رأسي» و «اشتعل رأسي شيبا» وزان «اشتعل النار في بيتي ، واشتعل بيتي نارا» والفرق بيّن.

وثانيتها : الإجمال والتفصيل في طريق التمييز.

وثالثتها : تنكير «شيبا» لإفادة المبالغة.

ثم ترك «اشتعل رأسي شيبا» لتوخّي مزيد التقرير إلى «اشتعل الرأس مني شيبا» على نحو (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي).

ثم ترك لفظ «منّي» لقرينة عطف (اشْتَعَلَ الرَّأْسُ) على (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) لمزيد التقرير ، وهو إيهام حوالة تأدية مفهومه على العقل دون اللفظ.

ثم قال عقيب هذا الكلام : واعلم أن الذي فتق أكمام هذه الجهات عن أزاهير القبول في القلوب : هو أن مقدمة هاتين الجملتين وهي «ربّ» اختصرت ذلك الاختصار ، بأن حذفت كلمة النداء ، وهي «يا» وحذفت كلمة المضاف إليه ، وهي ياء المتكلم ، واقتصر من مجموع الكلمات على كلمة واحدة فحسب ، وهي المنادى. والمقدمة للكلام ـ كما لا يخفى على من له قدم صدق في نهج البلاغة ـ نازلة منزلة الأساس للبناء. فكما أن البنّاء الحاذق ؛ لا يرمي الأساس إلا بقدر ما يقدّر من البناء عليه ، كذا البليغ يصنع بمبدأ كلامه ، فمتى رأيته قد اختصر المبدأ ؛ فقد آذنك باختصار ما يورد. انتهى كلامه.

وعليك أن تتنبّه لشيء ، وهو أن ما جعله سببا للعدول عن لفظ «العظام» إلى لفظ «العظم» فيه نظر ، لأنا لا نسلّم صحة حصول وهن المجموع بوهن البعض ، دون كلّ فرد.

١٤٨

فالوجه في ذكر «العظم» ـ دون سائر ما تركّب منه البدن ـ وتوحيده ؛ ما ذكره الزمخشري قال : إنما ذكر «العظم» لأنه عمود البدن ، وبه قوامه وهو أصل بنائه ، وإذا وهن تداعى وتساقطت قوته ، ولأنه أشدّ ما فيه وأصلبه فإذا وهن كان ما وراءه أوهن ، ووحّده لأن الواحد هو الدّال على معنى الجنسية وقصده : إلى هذا الجنس ـ الذي هو العمود ، والقوام ، وأشد ما تركب منه الجسد ـ قد أصابه الوهن ، ولو جمع لكان قصدا إلى معنى آخر. وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ، ولكن كلّها.

واعلم أن المراد بشمول الشيب الرأس أن يعمّ جملته حتى لا يبقى من السواد شيء ، أو لا يبقى منه إلا مما لا يعتدّ به.

والثاني ـ أعني ما يكون جملة ـ إما مسبّب ، ذكر سببه ، كقوله تعالى : (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) [الأنفال : الآية ٨] أي : فعل ما فعل ، وقوله : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) [القصص : الآية ٤٦] أي : اخترناك ، وقوله : (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) [الفتح : الآية ٢٥] أي : كان الكفّ ومنع التعذيب. ومنه قول أبي الطّيّب :

أتى الزّمان بنوه في شبيبته

فسرّهم ، وأتيناه على الهرم (١)

أي : فساءنا أو بالعكس ، كقوله تعالى : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ) [البقرة : الآية ٥٤] أي : فامتثلتم فتاب عليكم ، وقوله : (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ) [البقرة : الآية ٦٠] أي : فضربه بها فانفجرت ، ويجوز أن يقدّر : فإن ضربت بها فقد انفجرت ، أو غير ذلك ، كقوله تعالى : (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) [الذّاريات : الآية ٤٨] على ما مرّ.

والثالث : كقوله تعالى : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) [البقرة : الآية ٧٣] أي : فضربوه ببعضها فحيي ، فقلنا : كذلك يحيي الله الموتى ، وقوله : (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ) [يوسف : الآيتان ٤٥ ، ٤٦] أي : فأرسلوني إلى يوسف لاستعبره الرؤيا ، فأرسلوه إليه فأتاه ، وقال له : يا يوسف ، وقوله : (فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) (٣٦) [الفرقان : الآية ٣٦] أي : فأتياهم فأبلغاهم الرسالة ، فكذّبوهما ، فدمّرناهم. وقوله : (فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ) [الشّعراء : الآيات ١٦ ـ ١٨] أي : فأتياه ، فأبلغاه ذلك ، فلما سمعه قال : ألم نربك ، ويجوز أن يكون التقدير : فأتياه فأبلغاه ذلك. ثم يقدّر : فماذا

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٢٦٢.

١٤٩

قال؟ فيقع قوله : (قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ) [الشّعراء : الآية ١٨] استئنافا. ونحوه قوله : (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) [النّمل : الآيتان ٢٨ ، ٢٩] أي : ففعل ذلك ، فأخذت الكتاب فقرأته ، ثم كأن سائلا سأل قال : فما ذا قالت؟ فقيل : قالت : يا أيها الملأ.

وأما قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ) [النّمل : الآية ١٥] فقال الزمخشري في تفسيره : هذا موضع الفاء ، كما يقال : «أعطيته فشكر ، ومنعته فصبر» وعطفه بالواو إشعارا بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما العلم ، كأنه قال : فعملا به ، وعلماه ، وعرفا حق النعمة فيه ، والفضيلة ، وقالا : الحمد لله.

وقال السكاكيّ : يحتمل عندي أنه تعالى أخبر عمّا صنع بهما ، وعما قالا ، كأنه قال : نحن فعلنا إيتاء العلم ، وهما فعلا الحمد ، من غير بيان ترتّبه عليه ؛ اعتمادا على فهم السامع ، كقولك : قم يدعوك ؛ بدل : قم فإنه يدعوك.

واعلم أن الحذف على وجهين :

أحدهما : أو لا يقام شيء مقام المحذوف كما سبق.

والثاني : أن يقام مقامه ما يدلّ عليه ، كقوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) [هود : الآية ٥٧] ليس الإبلاغ هو الجواب ؛ لتقدمه على تولّيهم ، والتقدير : فإن تولّوا فلا لوم عليّ ؛ لأني قد أبلغتكم ، أو فلا عذر لكم عند ربكم لأني قد أبلغتكم ، وقوله : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) [فاطر : الآية ٤] أي : فلا تحزن ، واصبر ، فإنه قد كذّبت رسل من قبلك ، وقوله : (وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) [الأنفال : الآية ٣٨] أي : فيصيبهم مثل ما أصاب الأولين.

وأدلة الحذف كثيرة.

منها : أن يدلّ العقل على الحذف ، والمقصود الأظهر على تعيين المحذوف ، كقوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) [المائدة : الآية ٣] الآية ، وقوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) [النّساء : الآية ٢٣] الآية. فإن العقل يدل على الحذف لما مر ، والمقصود الأظهر يرشد إلى أن التقدير حرّم عليكم تناول الميتة ، وحرّم عليكم نكاح أمّهاتكم ، لأن الغرض الأظهر من هذه الأشياء تناولها ، ومن النساء نكاحهنّ.

ومنها : أن يدل العقل على الحذف والتعيين كقوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : الآية ٢٢] أي أمر ربك ، أو عذابه ، أو بأسه ، وقوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) [البقرة : الآية ٢١٠] أي : عذاب الله ، أو أمره.

١٥٠

ومنها : أن يدل العقل على الحذف ، والعادة على التعيين ، كقوله تعالى حكاية عن امرأة العزيز : (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) [يوسف : الآية ٣٢] دلّ العقل على الحذف فيه ، لأن الإنسان إنما يلام على كسبه ؛ فيحتمل أن يكون التقدير : في حبه ؛ لقوله (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) [يوسف : الآية ٣٠] ، وأن يكون : في مراودته ، لقوله : (تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) [يوسف : الآية ٣٠] ، وأن يكون في شأنه وأمره ، فيشملهما ، والعادة دلّت على تعيين المراودة ، لأن الحبّ المفرط لا يلام الإنسان عليه في العادة لقهره صاحبه وغلبته (إيّاه) ، وإنما يلام على المراودة الداخلة تحت كسبه التي يقدر أن يدفعها عن نفسه.

ومنها : أن تدل العادة على الحذف والتعيين ، كقوله تعالى : (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) [آل عمران : الآية ١٦٧] مع أنهم كانوا أخبر الناس بالحرب ، فكيف يقولون : بأنهم لا يعرفونها؟! فلا بد من حذف ، قدّره مجاهد (١) رحمه الله ، مكان قتال ، أي : أنكم تقاتلون في موضع لا يصلح للقتال ، ويخشى عليكم منه ، ويدل عليه أنهم أشاروا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن لا يخرج من المدينة ، وأن الحزم البقاء فيها.

ومنها : الشروع في الفعل ، كقول المؤمن : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) كما إذا قلت عند الشروع في القراءة : (بِسْمِ اللهِ) فإنه يفيد : أن المراد «بسم الله أقرأ» وكذا عند الشروع في القيام ، والقعود ، أو أيّ فعل كان ؛ فإن المحذوف يقدّر على حسب ما جعلت التّسمية مبدأ له.

ومنها : اقتران الكلام بالفعل. فإنه يفيد تقريره ، كقولك لمن أعرس : بالرّفاء والبنين. فإنه يفيد : بالرّفاء والبنين أعرست.

القسم الثالث

الإطناب

وهو إما بالإيضاح بعد الإبهام ؛ ليرى المعنى في صورتين مختلفتين ، أو ليتمكن في النفس فضل تمكّن. فإن المعنى إذا ألقي على سبيل الإجمال والإبهام تشوّقت نفس السامع إلى معرفته على سبيل التفصيل والإيضاح ، فتتوجه إلى ما يرد بعد ذلك ، فإذا ألقي كذلك تمكّن فيها فضل تمكّن ، وكان شعورها به أتم.

__________________

(١) مجاهد : هو مجاهد بن جبر ، أبو الحجاج المكي ، أحد الأعلام التابعين والأئمة المفسرين ، توفي سنة ١٠٤ ه‍ ، (انظر ترجمته في البداية والنهاية ٩ / ٢٣٧ ـ ٢٤٢ ، وفيه : توفي سنة ١٠٣ ه‍) ، كتاب الوفيات ص ١٠٢ ، شذرات الذهب ١ / ١٢٥ ، حلية الأولياء ٣ / ٢٧٩.

١٥١

أو لتكمل اللذة بالعلم به. فإن الشيء إذا حصل كمال العلم به دفعة لم يتقدّم حصول اللذة به ألم ، وإذا حصل الشعور به من وجه دون وجه ، تشوّفت النفس إلى العلم بالمجهول ، فيحصل لها بسبب المعلوم لذّة ، وبسبب حرمانها عن الباقي ألم. ثم إذا حصل لها العلم به : حصلت لها لذة أخرى ، واللذة عقب الألم أقوى من اللذة التي لم يتقدمها ألم.

أو لتفخيم الأمر وتعظيمه ، كقوله تعالى : (قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) (٢٦) [طه : الآيتان ٢٥ ، ٢٦] ، فإن قوله : (اشْرَحْ لِي) يفيد طلب شرح لشيء ما له ، وقوله : (صَدْرِي) يفيد تفسيره وبيانه ، وكذلك قوله : (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) (٢٦) [طه : الآية ٢٦] والمقام مقتض للتأكيد ، وللإرسال المؤذن بتلقّي المكاره والشدائد ، وكقوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) (٦٦) [الحجر : الآية ٦٦] ففي إبهامه وتفسيره تفخيم للأمر ، وتعظيم له.

ومن الإيضاح بعد الإبهام : باب «نعم وبئس» على أحد القولين ؛ إذ لو لم يقصد الإطناب لقيل : نعم زيد ، وبئس عمرو.

ووجه حسنه ـ سوى الإيضاح بعد الإبهام ـ أمران آخران :

أحدهما : إبراز الكلام في معرض الاعتدال ، نظرا إلى إطنابه من وجه ، وإلى اختصاره من آخر. وهو حذف المبتدأ في الجواب.

والثاني : إيهام الجمع بين المتنافيين.

ومنه التوشيع ، وهو أن يؤتى في عجز الكلام بمثنّى مفسّر باسمين أحدهما معطوف على الآخر ، كما جاء في الخبر : «يشيب ابن آدم ، ويشيب فيه خصلتان : الحرص ، وطول الأمل» (١) وقول الشاعر : [عبد الله بن المعتز]

سقتني في ليل شبيه بشرها

شبيهة خدّيها بغير رقيب (٢)

فما زلت في ليلين : شعر وظلمة

وشمسين : من خمر ، ووجه حبيب

وقول البحتريّ :

لما مشين بذي الأراك تشابهت

أعطاف قضبان به ، وقدود (٣)

__________________

(١) الحديث أخرجه أحمد في المسند ٣ / ١١٥ ، ١١٩ ، ١٦٩ ، ١٩٢ ، ٢٥٦ ، ٢٧٥ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ١٠ / ٢٣٩ ، والعجلوني في كشف الخفاء ٢ / ٥٤٦.

(٢) البيتان لعبد الله بن المعتز في حاشية الدسوقي ٢ / ٧٤٣ ، والأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ٢ / ٨٥.

(٣) الأبيات من الكامل ، وهي في ديوان البحتري ص ١٢٦.

١٥٢

في حلّتي حبر وروض ، فالتقى

وشيان : وشي ربى ، ووشي برود

وسفرن. فامتلأت عيون راقها

وردان : ورد جنى ، وورد خدود

وإما بذكر الخاص بعد العامّ ؛ للتنبيه على فضله ، حتى كأنه ليس من جنسه ؛ تنزيلا للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات ، كقوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : الآية ٩٨] ، وقوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران : الآية ١٠٤] ، وقوله : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) [البقرة : الآية ٢٣٨].

وإما بالتكرير لنكتة ، كتأكيد الإنذار في قوله تعالى : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) (٤) [التّكاثر : الآيتان ٣ ، ٤] وفي «ثمّ» دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ وأشد.

وكزيادة التنبيه على ما ينفي التهمة ؛ ليكمل تلقّي الكلام بالقبول ، (كما) في قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) [غافر : الآيتان ٣٨ ، ٣٩].

وقد يكرّر اللفظ لطول في الكلام ، كما في قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١١٩) [النّحل : الآية ١١٩] ، وفي قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١١٠) [النّحل : الآية ١١٠].

وقد يكرّر لتعدّد المتعلّق ، كما كرره الله تعالى من قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١٣) [الرّحمن : الآية ١٣] لأنه تعالى ذكر نعمة بعد نعمة ، وعقّب كلّ نعمة بهذا القول. ومعلوم أن الغرض من ذكره عقيب نعمة غير الغرض من ذكره عقيب نعمة أخرى.

فإن قيل : قد عقّب بهذا القول ما ليس بنعمة ، كما في قوله : (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ) (٣٥) [الرّحمن : الآية ٣٥] ، وقوله : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) (٤٤) [الرّحمن : الآيتان ٤٣ ، ٤٤].

قلنا : العذاب وجهنّم ـ وإن لم يكونا من آلاء الله تعالى ـ فإن ذكرهما ووصفهما على طريق الزجر عن المعاصي ، والترغيب في الطاعات ؛ من آلائه تعالى ، ونحوه قوله : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (١٥) [المرسلات : الآية ١٥] لأنه تعالى ذكر قصصا مختلفة ، وأتبع كل قصة بهذا القول ، فصار كأنه قال عقب كلّ قصة : ويل يومئذ للمكذّبين بهذه القصة.

وإما بالإيغال ، واختلف في معناه.

فقيل : هو ختم البيت بما يفيد نكتة يتمّ المعنى بدونها.

١٥٣

كزيادة المبالغة في قول الخنساء :

وإن صخرا لتأتمّ الهداة به

كأنّه علم في رأسه نار (١)

لم ترض أن تشبّهه بالعلم الذي هو الجبل المرتفع المعروف بالهداية حتى جعلت في رأسه نارا ، وقول ذي الرمة :

قف العيس في أطلال ميّة ، واسأل

رسوما كأخلاق الرّداء المسلسل (٢)

أظن الذي يجدي عليك سؤالها

دموعا كتبذير الجمان المفصّل

وكتحقيق التشبيه في قول امرىء القيس :

كأنّ عيون الوحش حول خبائنا

وأرحلنا : الجزع الذي لم يثقّب (٣)

فإنه لما أتى على التشبيه قبل ذكر القافية ، واحتاج إليها ، جاء بزيادة حسنة في قوله : «لم يثقّب» لأن الجزع إذا كان غير مثقوب كان أشبه بالعيون.

ومثله قول زهير : [بن أبي سلمى]

كأن فتات العهن في كل منزل

نزلن به : حبّ الفنا لم يحطّم (٤)

فإن حبّ الفنا أحمر الظاهر أبيض الباطن ؛ فهو لا يشبه الصوف الأحمر إلا ما لم يحطّم.

وكذا قول امرىء القيس :

حملت ردينيّا كأن سنانه

سنا لهب لم يتّصل بدخان (٥)

كما سيأتي.

وقيل : لا يختص بالنظم ، ومثل له بقوله تعالى : (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (٢١) [يس : الآية ٢١].

وإما بالتذليل ، وهو تعقيب الجملة بجملة تشتمل على معناها للتوكيد.

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو في ديوان الخنساء ص ٣٨٦ ، وجمهرة اللغة ص ٩٤٨ ، وتاج العروس (صخر) ، ومقاييس اللغة ٤ / ١٠٩.

(٢) البيتان من الطويل ، وهما في ديوان ذي الرمة ص ١٤٥١ ، وأساس البلاغة (سلسل).

(٣) البيت من الطويل ، وهو في ديوان امرىء القيس ص ٥٣ ، ولسان العرب (جزع) ، وأساس البلاغة (جزع) ، وكتاب العين ١ / ٢١٦ ، وتاج العروس (جزع).

(٤) البيت من الطويل ، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ١٢ ، ولسان العرب (فتت) ، (فنى) ، والمقاصد النحوية ٣ / ١٩٤ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ١ / ٢٥٩.

(٥) البيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في الإشارات والتنبيهات ص ١٩٦ ، ولم أجده في ديوانه.

١٥٤

وهو ضربان :

ضرب لا يخرج مخرج المثل ؛ لعدم استقلاله بإفادة المراد ، وتوقفه على ما قبله ، كقوله تعالى : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (١٧) [سبأ : الآية ١٧]؟ إن قلنا : إن المعنى «وهل يجازى ذلك الجزاء».

وقال الزمخشري : وفيه وجه آخر ، وهو أن الجزاء عامّ لكل مكافأة ، يستعمل تارة في معنى المعاقبة ، وأخرى في معنى الإثابة ، فلما استعمل في معنى المعاقبة في قوله : (جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) [سبأ : الآية ١٧] بمعنى عاقبناهم بكفرهم ، قيل : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) [سبأ : الآية ١٧]؟ بمعنى (وهل نعاقب) فعلى هذا يكون من الضرب الثاني.

وقول الحماسي : [ربيعة بن مقروم الضبي]

فدعوا نزال ، فكنت أوّل نازل

وعلام أركبه إذا لم أنزل؟ (١)

وقول أبي الطيب :

وما حاجة الأظعان حولك في الدّجى

إلى قمر؟ ما واجد لك عادمه (٢)

وقوله أيضا :

تمسي الأمانيّ صرعى دون مبلغه

فما يقول لشيء : ليت ذلك لي (٣)

وقول ابن نباتة السعدي : [عبد العزيز بن محمد]

لم يبق جودك لي شيئا أؤمله

تركتني أصحب الدنيا بلا أمل (٤)

قيل : نظر فيه إلى قول أبي الطّيّب ، وقد أربى عليه في المدح ، والأدب مع الممدوح ؛ حيث لم يجعله في حيّز من تمنّى شيئا.

وضرب يخرج مخرج المثل ، كقوله تعالى : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) (٨١) [الإسراء : الآية ٨١] وقول الذبياني : [النابغة ابن زياد بن معاوية]

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو لابن مقروم الضبي في الحيوان ٦ / ٤٢٧ ، وخزانة الأدب ٥ / ٤٩ ، ٦ / ٣١٧ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٦٢ ، وبلا نسبة في الإنصاف ٢ / ٥٣٦ ، وشرح المفصل ٤ / ٢٧ ، ولسان العرب (نزل) ، وتاج العروس (نزل).

(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٣.

(٣) البيت من البسيط ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٨٩.

(٤) البيت من البسيط ، ولم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

١٥٥

ولست بمستبق أخا لا تلمّه

على شعث ، أيّ الرجال المهذّب؟ (١)

وقول الحطيئة :

تزور فتى يعطي على الحمد ماله

ومن يعط أثمان المكارم يحمد (٢)

وقد اجتمع الضربان في قوله تعالى : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [الأنبياء : الآيتان ٣٤ ، ٣٥] ، فإن قوله : (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) من الأول ، وما بعده من الثاني ، وكل منهما تذييل على ما قبله.

وهو أيضا : إما لتأكيد منطوق كلام ، كقوله تعالى : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُ) [الإسراء : الآية ٨١] الآية.

وإما لتأكيد مفهومه ، كبيت النابغة ، فإن صدره دلّ بمفهومه على نفي الكامل من الرجال ؛ فحقق ذلك وقرّره بعجزه.

وإما بالتكميل ، ويسمّى الاحتراس أيضا ، وهو أن يؤتى به في كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفعه.

وهو ضربان :

ضرب يتوسط الكلام ، كقول طرفة :

فسقى ديارك ـ غير مفسدها ـ

صوب الرّبيع ، وديمة تهمي (٣)

وقول الآخر : [كثير بن عبد الرحمن]

لو أن عزّة خاصمت شمس الضّحى

في الحسن عند موفّق ، لقضى لها (٤)

إذ التقدير : عند حاكم موفّق ؛ فقوله «موفّق» تكميل.

وقول ابن المعتزّ :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للنابغة الذبياني في ديوانه ص ٢٨ ، ولسان العرب (شعث) ، (بقي) ، وتهذيب اللغة ١ / ٤٠٦ ، ٦ / ٢٦٦ ، ٩ / ٣٤٨ ، وكتاب العين ٥ / ٢٣٠ ، وجمهرة اللغة ص ٣٠٧ ، وجمهرة الأمثال ١ / ١٨٨ ، وفصل المقال ص ٤٤ ، والمستقصى ١ / ٤٥٠ ، ومجمع الأمثال ١ / ٢٣ ، ومقاييس اللغة ١ / ٢٧٧ ، وأساس البلاغة (بقي) ، وتاج العروس (بقي).

(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان الحطيئة ص ٤٦.

(٣) البيت من الكامل ، وهو لطرفة بن العبد في ديوانه ص ٨٨ ، وتخليص الشواهد ص ٢٣١ ، والدرر ٤ / ٩ ، ومعاهد التنصيص ١ / ٣٦٢ ، وبلا نسبة في لسان العرب (همي) وهمع الهوامع ١ / ٢٤١.

(٤) البيت من الكامل ، ولم أجده في ديوان كثير عزة.

١٥٦

صببنا عليها ـ ظالمين ـ سياطنا

فطارت بها أيد سراع وأرجل (١)

وضرب يقع في آخر الكلام ، كقوله تعالى : (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) [المائدة : الآية ٥٤] فإنه لو اقتصر على وصفهم بالذّلة على المؤمنين ؛ لتوهّم أن ذلّتهم لضعفهم ، فلما قيل : (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) علم أنها منهم تواضع لهم ، ولذا عدّي الذّل بـ «على» لتضمينه معنى العطف ، كأنه قيل : عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع. ويجوز أن تكون التعدية بـ «على» لأن المعنى : أنهم مع شرفهم ، وعلوّ طبقتهم وفضلهم على المؤمنين ؛ خافضون لهم أجنحتهم.

ومنه قول ابن الرومي ، فيما كتب به إلى صديق له : «إني وليّك الذي لا يزال تنقاد إليك مودّته عن غير طمع ولا جزع ، وإن كنت لذي الرغبة مطلبا ، ولذي الرهبة مهربا».

وكذا قول الحماسيّ :

رهنت يدي بالعجز عن شكر برّه

وما فوق شكري للشّكور مزيد (٢)

وكذا قول كعب بن سعد الغنوي :

حليم إذا ما الحلم زيّن أهله

مع الحلم في عين العدوّ مهيب (٣)

فإنه لو اقتصر على وصفه بالحلم ، لأوهم أن حلمه عن عجز ؛ فلم يكن صفة مدح ؛ فقال : «إذا ما الحلم زين أهله» فأزال هذا الوهم ، وأما بقية البيت : فتأكيدا للازم ما يفهم من قوله : «إذا ما الحلم زين أهله» من كونه غير حليم حين لا يكون الحلم زينا لأهله ؛ فإن من لا يكون حليما حين لا يحسن الحلم لأهله ؛ يكون مهيبا في عين العدو لا محالة ، فعلم أن بقية البيت ليست تكميلا ، كما زعم بعض الناس.

ومنه قول الحماسيّ :

وما مات منّا سيّد في فراشه

ولا طلّ منّا حيث كان قتيل (٤)

فإنه لو اقتصر على وصف قومه بشمول القتل إياهم ؛ لأوهم أن ذلك لضعفهم

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في زهر الآداب ١ / ٨٨.

(٢) البيت من الكامل ، ولم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لكعب بن سعد الغنوي في لسان العرب (حلب) ، وجمهرة أشعار العرب ص ٧٠٧ ، ولغريقة بن مسافع العبسي في الأصمعيات ص ١٠٠ ، ويرى محقق الأصمعيات أن القصيدة التي منها هذا البيت لكعب بن سعد لا لغريقة ، انظر الأصمعيات ص ٩٨ ، الحاشية.

(٤) البيت من الطويل ، وهو للمسوأل بن عادياء في ديوانه ص ٩١ ، وأمالي القالي ١ / ٢٧٢ ، وديوان الحماسة ١ / ٥٨.

١٥٧

وقلّتهم ؛ فأزال هذا الوهم بوصفهم بالانتصار من قاتلهم ، وكذا قول أبي الطيب :

أشدّ من الرّياح الهوج بطشا

وأسرع في النّدى منها هبوبا (١)

فإنه لو اقتصر على وصفه بشدة البطش ؛ لأوهم ذلك أنه عنف كله ، ولا لطف عنده.

فأزال هذا الوهم بوصفه بالسماحة ، ولم يتجاوز في ذلك كلّه صفة الريح التي شبّهه بها ، وقوله : إنه أسرع في الندى منها هبوبا ، كأنه من قول ابن عباس رضي الله عنهما : «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان ، كان كالريح المرسلة» (٢).

وإما بالتتميم ، وهو : أن يؤتي في كلام لا يوهم خلاف المقصود بفضلة تفيد نكتة ، كالمبالغة في قوله تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) [الإنسان : الآية ٨] أي : مع حبّه ، والضمير للطعام ، أي مع اشتهائه ، والحاجة إليه ، ونحوه : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) [البقرة : الآية ١٧٧] ، وكذا : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران : الآية ٩٢] وعن فضيل بن عياض : «على حب الله» فلا يكون مما نحن فيه.

وفي قول الشاعر :

إنّي على ما ترين من كبري

أعرف من أين تؤكل الكتف (٣)

وفي قول زهير :

من يلق يوما ـ على علّاته ـ هرما

يلق السماحة منه والنّدى خلقا (٤)

وإما بالاعتراض ، وهو أن يؤتى في أثناء الكلام ، أو بين كلامين متّصلين معنى ، بجملة أو أكثر لا محلّ لها من الإعراب لنكتة سوى ما ذكر في تعريف التكميل.

كالتنزيه والتعظيم في قوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) [النّحل : الآية ٥٧] سبحانه (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) [النّحل : الآية ٥٧].

والدعاء في قول أبي الطّيّب :

وتحتقر الدنيا احتقار مجرّب

يرى كلّ ما فيها ـ وحاشاك ـ فانيا (٥)

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ٢٤٠ ،

(٢) الحديث أخرجه البخاري في الصوم باب ٧ ، والمناقب باب ٢٣ ، والأدب باب ٣٩ ، ومسلم في الفضائل حديث ٤٨ ، ٥٠.

(٣) البيت من المنسرح ، وهو لقيس بن الخطيم في ديوانه ص ٢٣٩.

(٤) البيت من البسيط ، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ٥٣ ، والإنصاف ١ / ٦٨ ، وخزانة الأدب ٢ / ٣٣٥ ، وسر صناعة الإعراب ٢ / ٨٣١ ، وبلا نسبة في المقتضب ٤ / ١٠٣.

(٥) البيت من الطويل ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٢٠٥.

١٥٨

فإن قوله : «وحاشاك» دعاء حسن في موضعه.

ونحوه قول عوف بن محلم الشيباني :

إن الثمانين ـ وبلّغتها ـ

قد أحوجت سمعي إلى ترجمان (١)

والتنبيه في قول الشاعر :

واعلم ـ فعلم المرء ينفعه ـ

أن سوف يأتي كلّ ما قدرا (٢)

وتخصيص أحد المذكورين بزيادة التأكيد في أمر علّق بهما ، كقوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) [لقمان : الآية ١٤].

والمطابقة مع الاستعطاف في قول أبي الطّيّب :

وخفوق قلب لو رأيت لهيبه

 ـ يا جنّتي ـ لرأيت فيه جهنّما (٣)

والتنبيه على سبب أمر فيه غرابة ، كما في قول الآخر :

فلا هجره يبدو ـ وفي اليأس راحة ـ

ولا وصله يبدو لنا فنكارمه (٤)

فإن قوله : «فلا هجره يبدو» يشعر بأن هجر الحبيب أحد مطلوبيه ، وغريب أن يكون هجر الحبيب مطلوبا للمحب ؛ فقال : «وفي اليأس راحة» لينبه على سببه. وقوله تعالى : (لَوْ تَعْلَمُونَ) [الواقعة : الآية ٧٦] ، في قوله : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (٧٧) [الواقعة : الآيات ٧٥ ـ ٧٧] اعتراض في اعتراض ؛ لأنه اعترض به بين الموصوف والصفة ، واعترض بقوله : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) (٧٦) [الواقعة : الآية ٧٦] بين القسم والمقسم عليه.

ومما جاء بين كلامين متصلين معنى قوله : (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُ

__________________

(١) البيت من السريع ، وهو لعوف بن محلم في الدرر ٤ / ٣١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٢١ ، وطبقات الشعراء ص ١٨٧ ، ومعاهد التنصيص ١ / ٣٦٩ ، وبلا نسبة في شرح شذور الذهب ص ٥٩ ، ومغني اللبيب ٢ / ٣٨٨ ، ٣٩٦ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٤٨.

(٢) البيت من الكامل ، وهو بلا نسبة في الدرر ٤ / ٣٠ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٢٨ ، وشرح ابن عقيل ص ١٩٥ ، ومعاهد التنصيص ١ / ٣٧٧ ، ومغني اللبيب ٢ / ٣٩٨ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٣١٣ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٤٨.

(٣) البيت من الكامل ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ٥٧.

(٤) البيت من الطويل ، وهو لابن ميادة في ديوانه ص ٢٢٥ ، ونقد الشعر ص ١٥١ ، وكتاب الصناعتين ص ٤٠٩.

١٥٩

التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) [البقرة : الآيتان ٢٢٢ ، ٢٢٣] ، فإن قوله : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) بيان لقوله : (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) [البقرة : الآية ٢٢٢] يعني : أن المأتي الذي أمركم به هو مكان الحرث ، دلالة على أن الغرض الأصليّ في الإتيان : هو طلب النّسل ، لا قضاء الشهوة ، فلا تأتوهنّ إلا من حيث يتأتى فيه الغرض ، وهو مما جاء في أكثر من جملة أيضا.

ونحوه في كونه أكثر من جملة ، قوله تعالى : (قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) [آل عمران : الآية ٣٦] ، فإن قوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) [آل عمران : الآية ٣٦] ليس من قول أمّ مريم.

وكذا قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً (٤٥) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) [النّساء : الآيات ٤٤ ـ ٤٦] إن جعل «من الذين» بيانا ل (الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) [آل عمران : الآية ٢٣] لأنهم يهود ونصارى أو لـ «أعداءكم» فإنه على الأول يكون قوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) (٤٥) [النّساء : الآية ٤٥] اعتراضا ، وعلى الثاني يكون (وَكَفى بِاللهِ) ... (وَكَفى بِاللهِ) ...» اعتراضا.

ويجوز أن يكون : «من الذين» صلة لـ «نصيرا» أي : ينصركم من الذين هادوا ، كقوله : (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا) [الأنبياء : الآية ٧٧] وأن يكون كلاما مبتدأ على أن «يحرّفون» صفة مبتدأ محذوف تقديره : «من الذين هادوا قوم يحرّفون» كقوله : [تميم بن أبي مقبل]

وما الدهر إلا تارتان ؛ فمنهما

أموت ، وأخرى أبتغي العيش أكدح (١)

وقد علم مما ذكرنا : أن الاعتراض كما يأتي بغير واو ولا فاء ؛ قد يأتي بأحدهما.

ووجه حسن الاعتراض على الإطلاق : حسن الإفادة مع أن مجيئه مجيء ما لا معوّل عليه في الإفادة ، فيكون مثله مثل الحسنة تأتيك من حيث لا ترتقبها.

ومن الناس من لا يقيّد فائدة الاعتراض بما ذكرناه ، بل يجوّز أن تكون دفع توهّم

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لتميم بن مقبل في ديوانه ص ٢٤ ، وحماسة البحتري ص ١٢٣ ، والحيوان ٣ / ٤٨ ، وخزانة الأدب ٥ / ٥٥ ، والدرر ٦ / ١٨ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ١١٤ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٦٣٤ ، والكتاب ٢ / ٣٤٦ ، ولسان العرب (كدح) ، ولعجير السلولي في سمط اللآلي ص ٢٠٥ ، وبلا نسبة في شرح عمدة الحافظ ص ٥٤٧ ، ولسان العرب (تور) ، والمحتسب ١ / ١١٢ ، والمقتضب ٢ / ١٣٨ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٢٠.

١٦٠