الإيضاح في علوم البلاغة

جلال الدين محمّد بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد

الإيضاح في علوم البلاغة

المؤلف:

جلال الدين محمّد بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3907-X
الصفحات: ٤١٥

أما قول اليزيدي :

ملّكته حبلي ، ولكنّه

ألقاه من زهد على غاربي (١)

وقال : إنّي في الهوى كاذب

انتقم الله من الكاذب

فعدّه السكاكي رحمه الله من هذا الضرب ، وحمله الشيخ عبد القاهر رحمه الله على الاستئناف بتقدير «قلت».

الثاني : أن لا يكون بين الجملتين جامع كما سيأتي.

وأما كمال الاتصال فيكون لأمور ثلاثة :

الأول : أن تكون الثانية مؤكّدة للأولى ، والمقتضي للتأكيد دفع توهّم التجوّز والغلط ، وهو قسمان :

أحدهما : أن تنزّل الثانية من الأولى منزلة التأكيد المعنوي من متبوعه في إفادة التقرير مع الاختلاف في المعنى ، كقوله تعالى : (الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (٢) [البقرة : الآيتان ١ ، ٢] فإنّ وزان «لا ريب فيه» في الآية وزان «نفسه» في قولك : «جاءني الخليفة نفسه» فإنه لما بولغ في وصف الكتاب ببلوغه الدرجة القصوى من الكمال ، بجعل المبتدأ «ذلك» وتعريف الخبر باللام ؛ كان عند السامع قبل أن يتأمله مظنّة أنه مما يرمى به جزافا من غير تحقّق ، فأتبع «لا ريب فيه» نفيا لذلك ، إتباع «الخليفة نفسه» إزالة لما عسى أن يتوهّم السامع أنك في قولك : «جاءني الخليفة» متجوّز أو ساه.

وكذا قوله : (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) [لقمان : الآية ٧] الثاني مقرّر لما أفاده الأول.

وكذا قوله : (إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) [البقرة : الآية ١٤] لأن قوله : (إِنَّا مَعَكُمْ) [البقرة : الآية ١٤] معناه الثبات على اليهودية ، وقوله : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) [البقرة : الآية ١٤] ردّ للإسلام ، ودفع له منهم ؛ لأن المستهزىء بالشيء المستخفّ به منكر له ، ودافع له لكونه غير معتدّ به ، ودفع نقيض الشيء تأكيد لثباته ، ويحتمل الاستئناف ، أي : فما بالكم ـ إن صحّ أنكم معنا ـ توافقون أصحاب محمد (صلّى الله عليه وسلّم)؟.

وثانيهما : أن تنزّل الثانية من الأولى منزلة التأكيد اللفظي من متبوعه في اتحاد المعنى ، كقوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (٢) [البقرة : الآية ٢] فإن (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : الآية ٢] معناه : أنه في الهداية بالغ درجة لا يدرك كنهها ، حتى

__________________

(١) البيتان من السريع ، ولم أجدهما في المصادر والمراجع التي بين يدي.

١٢١

كأنه هداية محضة ، وهذا معنى قوله : (ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : الآية ٢] لأن معناه كما مرّ : الكتاب الكامل ، والمراد بكماله كماله في الهداية ؛ لأن الكتب السماويّة بحسبها تتفاوت في درجات الكمال وكذا قوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٦) [البقرة : الآية ٦] ، فإن معنى قوله : (لا يُؤْمِنُونَ) [النّساء : الآية ٦٥] معنى ما قبله ، وكذا ما بعده تأكيد ثان ؛ لأن عدم التفاوت بين الإنذار وعدمه ؛ لا يصح إلا في حقّ من ليس له قلب يخلص إليه حقّ ، وسمع تدرك به حجة ، وبصر تثبت به عبرة ، ويجوز أن يكون (لا يُؤْمِنُونَ) [النّساء : الآية ٦٥] خبرا لإن ، فالجملة قبلها اعتراض.

الثاني : أن تكون الثانية بدلا من الأولى ، والمقتضي للإبدال كون الأولى غير وافية بتمام المراد بخلاف الثانية ، والمقام يقتضي اعتناء بشأنه لنكتة ، ككونه مطلوبا في نفسه ، أو فظيعا ، أو عجيبا ، أو لطيفا ، وهو ضربان :

أحدهما : أن تنزّل الثانية من الأولى منزلة بدل البعض من متبوعه ، كقوله تعالى : (أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (١٣٤) [الشّعراء : الآيات ١٣٢ ـ ١٣٤] فإنه مسوق للتنبيه على نعم الله تعالى عند المخاطبين ، وقوله : (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (١٣٤) أوفى بتأديته مما قبله ؛ لدلالته عليها بالتفصيل ، من غير إحالة على علمهم مع كونهم معاندين ، والإمداد بما ذكر من الأنعام وغيرها بعض الإمداد بما يعلمون ، ويحتمل الاستئناف.

وثانيهما : أن تنزّل الثانية من الأولى منزلة بدل الاشتمال ، من متبوعه ، كقوله تعالى : (اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (٢١) [يس : الآيتان ٢٠ ، ٢١] فإن المراد به حمل المخاطبين على اتّباع قوله تعالى : (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (٢١) [يس : الآية ٢١] أوفى بتأدية ذلك؟ لأن معناه : لا تخسرون معهم شيئا من دنياكم ، وتربحون صحّة دينكم ، فينتظم لكم خير الدنيا وخير الآخرة. وقول الشاعر :

أقول له : ارحل ، لا تقيمنّ عندنا

وإلّا فكن في السّرّ والجهر مسلما (١)

فإن المراد به كمال الكراهة لإقامته بسبب خلاف سرّه العلن ، وقوله : «لا تقيمنّ» عندنا أوفى بتأديته ؛ لدلالته عليه بالمطابقة مع التأكيد ، بخلاف «ارحل» ووزان الثانية ـ من كل واحد من الآية والبيت وزان «حسنها» في قولك : أعجبتني الدار حسنها ؛ لأن

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في خزانة الأدب ٥ / ٢٠٧ ، ٨ / ٤٦٣ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٤٠ ، وشرح التصريح ٢ / ١٦٢ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٣٩ ، ومجالس ثعلب ص ٩٦ ، ومعاهد التنصيص ١ / ٢٧٨ ، ومغني اللبيب ٢ / ٤٢٦ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢٠٠.

١٢٢

معناها مغاير لمعنى ما قبلها ، وغير داخل فيه ، مع ما بينهما من الملابسة.

الثالث : أن تكون الثانية بيانا للأولى ، وذلك بأن تنزّل منها منزلة عطف البيان من متبوعه في إفادة الإيضاح ، والمقتضي للتبيين أن يكون في الأولى نوع خفاء ، مع اقتضاء إزالته ، كقوله تعالى : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) (١٢٠) [طه : الآية ١٢٠] فصل جملة «قال» عما قبلها ؛ لكونها تفسيرا وتبيينا ، ووزانه وزان عمر في قوله :

أقسم بالله أبو حفص عمر (١)

وأما قوله تعالى : (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) [يوسف : الآية ٣١] فيحتمل التبيين والتأكيد.

وأما التأكيد فلأنه إذا كان ملكا لم يكن بشرا ، ولأنه إذا قيل في العرف لإنسان (ما هذا بَشَراً) حال تعظيم له ، وتعجّب مما يشاهد منه ، من حسن خلق أو خلق ، كان الغرض أنه ملك بطريق الكناية.

فإن قيل : هلّا نزّلتم الثانية منزلة بدل الكل من متبوعه في بعض الصور ومنزلة النعت من متبوعه في بعض.

قلنا : لأن بدل الكل لا ينفصل عن التأكيد إلا بأن لفظه غير لفظ متبوعه ، وأنه مقصود بالنسبة دون متبوعه ، بخلاف التأكيد ، والنعت لا ينفصل عن عطف البيان إلا بأنه يدل على بعض أحواله متبوعه لا عليه ، عطف البيان بالعكس ، وهذه كلها اعتبارات لا يتحقق شيء منها فيما نحن بصدده.

وأما كون الثانية بمنزلة المنقطعة عن الأولى ؛ فلكون عطفها عليها موهما لعطفها على غيرها ، ويسمى الفصل لذلك قطعا ، مثاله قول الشاعر :

__________________

(١) الرجز لرؤبة في شرح المفصل ٣ / ٧١ ، وليس في ديوانه ، ولا يمكن أن يكون رؤبة هو الذي قاله لعمر بن الخطاب ، ذلك أنه توفي سنة ١٤٥ ه‍ ، ولم يعتبره أحد من التابعين فضلا عن المخضرمين ، والرجز لعبد الله بن كسيبة أو لأعرابي في خزانة الأدب ٥ / ١٥٤ ، ولأعرابي في شرح التصريح ١ / ١٢١ ، والمقاصد النحوية ٤ / ١١٥ ، ولسان العرب (نقب) ، (فجر) ، وتاج العروس (نقب) ، (فجر) ، وتهذيب اللغة ١ / ٥٠ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ١ / ١٢٨ ، وشرح الأشموني ١ / ٥٩ ، وشرح شذور الذهب ص ٥٦١ ، وشرح ابن عقيل ص ٤٨٩ ، ومعاهد التنصيص ١ / ٢٧٩ ، وأساس البلاغة (نقب) ، وديوان الأدب ٢ / ١١١ ، وكتاب العين ٨ / ٣٠٧ ، ويليه :

ما مسها من نقب ولا دبر

فاغفر له اللهم إن كان فجر

١٢٣

وتظنّ سلمى أنّني أبغي بها

بدلا ، أراها في الضّلال تهيم (١)

لم يعطف «أراها» على «تظن» لئلا يتوهم السامع أنه معطوف على «أبغي» لقربه منه ، مع أنه ليس بمراد ، ويحتمل الاستئناف.

وقسّم السكاكي القطع إلى قسمين :

أحدهما : القطع للاحتياط ، وهو ما لم يكن لمانع من العطف ، كما في هذا البيت.

والثاني : القطع للوجوب ، وهو ما كان لمانع ، ومثّله بقوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : الآية ١٥] قال : لأنه لو عطف لعطف إما على جملة «قالوا» وإما على جملة «إنا معكم» وكلاهما لا يصح لما مر ، وكذا قوله : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) [البقرة : الآية ١٢] وقوله : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ) [البقرة : الآية ١٣].

وفيهما نظر ؛ لجواز أن يكون المقطوع في المواضع الثلاثة معطوفا على الجملة المصدّرة بالظرف ، وهذا القسم لم يبين امتناعه.

وأما كونها بمنزلة المتصلة بها ، فلكونها جوابا عن سؤال اقتضته الأولى ؛ فتنزّل منزلته ، فتفصل الثانية عنها كما يفصل الجواب عن السؤال.

وقال السكاكي : فينزّل ذلك منزلة الواقع ، ثم قال : وتنزيل السؤال بالفحوى منزلة الواقع لا يصار إليه إلا لجهات لطيفة : إما لتنبيه السامع على موقعه ، أو لإغنائه أن يسأل ، أو لئلا يسمع منه شيء ، أو لئلا ينقطع كلامك بكلامه ، أو للقصد إلى تكثير المعنى بتقليل اللفظ ، وهو تقدير السؤال وترك العاطف ، أو لغير ذلك مما ينخرط في هذا السّلك.

ويسمى الفصل لذلك استئنافا ، وكذا الجملة الثانية أيضا تسمى استئنافا.

والاستئناف ثلاثة أضرب :

لأن السؤال الذي تضمنته الجملة الأولى إما عن سبب الحكم فيها مطلقا ، كقوله:[أبو العلاء المعري]

قال لي : كيف أنت؟ قلت عليل

سهر دائم ، وحزن طويل (٢)

أي : ما بالك عليلا؟ أو ما سبب علتك؟ وكقوله : [أبو العلاء المعري]

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو لأبي تمام في الإشارات والتنبيهات ص ١٢٩ ، والمفتاح ص ٢٦١ ، ومعاهد التنصيص ١ / ٢٧٩ ، والمصباح ص ٥٨ ، وعقود الجمان ص ١٨١.

(٢) البيت من الخفيف ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ١٢٥.

١٢٤

وقد غرضت من الدنيا ، فهل زمني

معط حياتي لغرّ بعد ما غرضا؟ (١)

جرّبت دهري وأهليه ، فما تركت

لي التجارب في ودّ امرىء غرضا

أي : لم تقول هذا ويحك؟! وما الذي اقتضاك أن تطوي عن الحياة إلى هذا الحد كشحك؟!

وإما عن سبب خاص له ، كقوله تعالى : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) [يوسف : الآية ٥٣] ، كأنه قيل : هل النفس أمارة بالسوء؟ فقيل : إن النفس لأمارة بالسوء.

وهذا الضرب يقتضي تأكيد الحكم ، كما مر في باب أحوال الإسناد.

وإما عن غيرهما ، كقوله تعالى : (قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) [هود : الآية ٦٩] كأنه قيل : فماذا قال إبراهيم عليه السّلام؟ فقيل : قال : سلام ، ومنه قول الشاعر :

زعم العواذل أنّني في غمرة

صدقوا ، ولكن غمرتي لا تنجلي (٢)

فإنه لما أبدى الشّكاية من جماعات العذّال ، كان ذلك مما يحرّك السامع ليسأل : أصدقوا في ذلك ، أم كذبوا؟ فأخرج الكلام مخرجه إذا كان ذلك قد قيل له ؛ ففصل ، ومثله قول جندب بن عمّار :

زعم العواذل أن ناقة جندب

بجنوب خبت عرّيت وأجمّت (٣)

كذب العواذل ، لو رأين مناخنا

بالقادسيّة ؛ قلن : لجّ وذلت

وقد زاد هنا أمر الاستئناف تأكيدا بأن وضع الظاهر موضع المضمر ، من حيث وضعه وضعا لا يحتاج فيه إلى ما قبله ، وأتى به مأتى ما ليس قبله كلام ، ومن الأمثلة قول الوليد :

عرفت المنزل الخالي

عفا من بعد أحوال (٤)

عفاه كلّ حنّان

عسوف الوبل هطّال

فإنه لما قال «عفا» وكان العفاء مما لا يحصل للمنزل بنفسه ؛ كان مظنة أن يسأل عن الفاعل ، ومثله قول أبي الطيب :

__________________

(١) البيتان من البسيط ، وهما للمعري في المفتاح ص ١١٥.

(٢) البيت من الكامل ، وهو بلا نسبة في الإشارات والتنبيهات ص ١٢٥ ، والتبيان للطيبي ص ١٤٢.

(٣) البيتان من الكامل ، وهما في ديوان الحماسة شرح الرافعي ١ / ١٨ ، والمفتاح ص ١١٥ ، ودلائل الإعجاز ص ١٨٢.

(٤) البيتان من الهزج ، وهما للوليد بن يزيد في المفتاح ص ١١٥ ، ودلائل الإعجاز ص ١٨٤.

١٢٥

وما عفت الرّياح له محلّا

عفاه من حدا بهم وساقا (١)

فإنه لما نفى الفعل الموجود عن الرياح ؛ كان مظنة أن يسأل عن الفاعل.

وأيضا من الاستئناف ما يأتي بإعادة اسم ما استؤنف عنه ، كقولك : أحسنت إلى زيد ، زيد حقيق بالإحسان.

ومنه ما يبنى على صفته ، كقولك : أحسنت إلى زيد ، صديقك القديم أهل ، وهذا أبلغ ؛ لانطوائه على بيان السبب.

وقد يحذف صدر الاستئناف ، لقيام قرينة ، كقوله تعالى : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ) [النّور : الآيتان ٣٦ ، ٣٧] فيمن قرأ «يسبّح» مبنيّا للمفعول ، وعليه نحو قولهم : نعم الرجل أو رجلا زيد. وبئس الرجل أو رجلا عمرو ، على القول بأن المخصوص خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو زيد ، كأنه لما قيل ذلك فأبهم الفاعل بجعله معهودا ذهنيا ، مظهرا أو مضمرا ، سئل عن تفسيره ، فقيل : هو زيد ، ثم حذف المبتدأ.

وقد يحذف الاستئناف كله ، ويقام ما يدل عليه مقامه كقول الحماسي : [مساور بن هند]

زعمتم أن إخوتكم قريش

لهم إلف ، وليس لكم إلاف (٢)

حذف الجواب الذي هو : كذبتم في زعمكم ، وأقام قوله : «لهم ألف ، وليس لكم إلاف» مقامه لدلالته عليه ، ويجوز أن يقدّر قوله : «لهم إلف وليس لكم إلاف» جوابا لسؤال اقتضاه الجواب المحذوف ، كأنه لما قال المتكلم : كذبتم ؛ قالوا : لم كذبنا؟ فقال : لهم إلف ، وليس لكم إلاف ؛ فيكون في البيت استئنافان.

وقد يحذف ولا يقام شيء مقامه ، كقوله تعالى : (نِعْمَ الْعَبْدُ) [ص : الآية ٣٠] أي : أيّوب ، أو هو ؛ لدلالة ما قبل الآية وما بعدها عليه ، ونحوه قوله : (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) [الذّاريات : الآية ٤٨] أي : نحن.

وإن لم يكن بين الجملتين شيء من الأحوال الأربع تعين الوصل.

إما لدفع إيهام خلاف المقصود كقول البلغاء : لا ، وأيّدك الله ، وهذا عكس الفصل للقطع.

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٤٠.

(٢) البيت من الوافر ، وهو لمساور بن هند في لسان العرب (ألف) ، وتاج العروس (ألف) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١٤٤٩ ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة ١٥ / ٣٧٩ ، وتاج العروس (ألت).

١٢٦

وإما للتوسط بين حالتي كمال الانقطاع وكمال الاتصال ، وهو ضربان :

أحدهما : أن يتّفقا خبرا أو إنشاء ، لفظا ومعنى ، كقوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) (١٤) [الانفطار : الآيتان ١٣ ، ١٤] ، وقوله : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) [الرّوم : الآية ١٩] ، وقوله : (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) [النساء : الآية ١٤٢] ، وقوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) [الأعراف : الآية ٣١].

والثاني : أن يتفقا كذلك معنى لا لفظا ، كقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا) [البقرة : الآية ٨٣] عطف قوله : (قُولُوا) [البقرة : الآية ١٣٦] على قوله : (لا تَعْبُدُونَ) [البقرة : الآية ٨٣] لأنه بمعنى : لا تعبدوا ، وأما قوله : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [البقرة : الآية ٨٣] فتقديره : إما «وتحسنون» بمعنى «وأحسنوا» وإما «وأحسنوا» وهذا أبلغ من صريح الأمر والنّهي ؛ لأنه كأنه سورع إلى الامتثال والانتهاء فهو يخبر عنه.

وأما قوله في سورة البقرة : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة : الآية ٢٥] فقال الزمخشري فيه : فإن قلت : علام عطف هذا الأمر ، ولم يسبق أمر ولا نهي يصح عطفه عليه؟ قلت : ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر ، حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهي يعطف عليه ، إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين ؛ فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين ، كما تقول : زيد يعاقب بالقيد والإرهاق ، وبشّر عمرا بالعفو والإطلاق ، ولك أن تقول : هو معطوف على (فَاتَّقُوا) [البقرة : الآية ٢٤] كما تقول : يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم ، وبشّر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم ، هذا كلامه ، وفيه نظر لا يخفى على المتأمل.

وقال أيضا في قوله تعالى في سورة الصف : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [البقرة : الآية ٢٢٣] : إنه معطوف على (تُؤْمِنُونَ) [النّساء : الآية ٥٩] لأنه بمعنى : آمنوا ، وفيه أيضا نظر ؛ لأن المخاطبين في (تُؤْمِنُونَ) [النّساء : الآية ٥٩] هم المؤمنون ، وفي (بَشَرٌ) [آل عمران : الآية ٤٧] هو النبي عليه السّلام ، ثم قوله : (تُؤْمِنُونَ) [النّساء : الآية ٥٩] بيان لما قبله على سبيل الاستئناف ، فكيف يصح عطف (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [البقرة : الآية ٢٢٣] عليه؟

وذهب السكاكي إلى أنهما معطوفان على «قل» مرادا قبل : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) [البقرة : الآية ٢١] ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) [الصّف : الآية ١٠] ؛ لأن إرادة القول بواسطة انصباب الكلام إلى معناه غير عزيزة في القرآن ، وذكر صورا كثيرة ، منها قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا) [البقرة : الآية ٥٧] وقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ

١٢٧

خُذُوا) [البقرة : الآية ٦٣] ، وقوله : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا) [البقرة : الآية ١٢٥] أي : وقلنا ، أو قائلين.

والأقرب أن يكون الأمر في الآيتين معطوفا على مقدر يدل عليه ما قبله ، وهو في الآية الأولى : (فأنذر) أو نحوه ، أي : فأنذرهم ، وبشّر الذين آمنوا ، وفي الآية الثانية : (فأبشر) أو نحوه ، أي : فأبشر يا محمد ، وبشّر المؤمنين ، وهذا كما قدّر الزمخشري قوله تعالى : (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) [مريم : الآية ٤٦] معطوفا على محذوف يدل عليه قوله : (لَأَرْجُمَنَّكَ) [مريم : الآية ٤٦] أي : فاحذرني ، واهجرني ؛ لأن (لَأَرْجُمَنَّكَ) [مريم : الآية ٤٦] تهديد وتقريع.

والجامع بين الجملتين يجب أن يكون باعتبار المسند إليه في هذه ، والمسند إليه في هذه ، وباعتبار المسند في هذه والمسند في هذه جميعا ، كقولك : يشعر زيد ، ويكتب ، ويعطي ويمنع ، وقولك : زيد شاعر ، وعمرو كاتب ، وزيد طويل ، وعمرو قصير ، إذا كان بينهما مناسبة ، كأن يكونا أخوين ، أو نظيرين ، بخلاف قولنا : زيد شاعر وعمرو كاتب ، إذا لم يكن بينهما مناسبة ، وقولنا : زيد شاعر وعمرو طويل ، كان بينهما مناسبة أو لا.

وعليه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٦) [البقرة : الآية ٦] قطع عما قبله ؛ لأنه كلام في شأن الذين كفروا ، وما قبله كلام في شأن القرآن.

وأما ما يشعر به ظاهر كلام السكاكي في موضع من كتابه ، أنه يكفي أن يكون الجامع باعتبار المخبر عنه ، أو الخبر ، أو قيد من قيودهما ، فإنه منقوض بما مرّ ، وبنحو قولك : هزم الأمير الجند يوم الجمعة ، وخاط زيد ثوبي فيه ، ولعله سهو ؛ فإنه صرّح في موضع آخر منه بامتناع عطف قول القائل : «خفّي ضيّق» على قوله : «خاتمي ضيّق» مع اتحادهما في الخبر.

ثم قال : الجامع بين الشيئين : عقليّ ، ووهميّ ، وخياليّ.

أما العقليّ فهو أن يكون بينهما اتحاد في التصوّر ، أو تماثل ؛ فإن العقل بتجريده المثلين عن التشخّص في الخارج يرفع التعدّد.

أو تضايف كما بين العلّة والمعلول ، والسّبب ، والمسبّب ، والسّفل والعلو ، والأقلّ والأكثر ؛ فإن العقل يأبى أن لا يجتمعا في الذّهن.

وأما الوهمي فهو أن يكون بين تصوريهما شبه تماثل ، كلون بياض ولون صفرة ؛ فإن الوهم يبرزهما في معرض المثلين ، ولذلك حسن الجمع بين الثلاثة التي في قوله :

١٢٨

ثلاثة تشرق الدّنيا ببهجتها

شمس الضّحى ، وأبو إسحاق ، والقمر (١)

أو تضاد ، كالسواد والبياض ، والهمس والجهارة ، والطّيب والنّتن ، والحلاوة والحموضة ، والملاسة والخشونة ، وكالتحرّك والسكون ، والقيام والقعود ، والذهاب والمجيء ، والإقرار والإنكار ، والإيمان والكفر ، وكالمتصفات بذلك كالأسود والأبيض ، والمؤمن والكافر.

أو شبه تضاد ، كالسماء والأرض ، والسهل والجبل ، والأول والثاني ؛ فإن الوهم ينزل المتضادين والشبيهين بهما منزلة المتضايفين ، فيجمع بينهما في الذهن ، ولذلك تجد الضّد أقرب خطورا بالبال مع الضدّ.

والخياليّ أن يكون بين تصوّريهما تقارن في الخيال سابق ، وأسبابه مختلفة ولذلك اختلفت الصور الثابتة في الخيالات ترتبا ووضوحا ؛ فكم تتعانق في خيال ، وهي في آخر لا تتراءى ، وكم صورة لا تكاد تلوح في خيال ، وهي في غيره نار على علم.

كما يحكى أن صاحب سلاح ملك ، وصائغا ، وصاحب بقر ، ومعلّم صبية ؛ سافروا ذات يوم ، وواصلوا سير النهار بسير الليل ، فبينما هم في وحشة الظلام ، ومقاساة خوف التخبّط والضلال ؛ طلع عليهم البدر بنوره ، فأفاض كل منهم في الثناء عليه ، وشبّهه بأفضل ما في خزانة صوره ، فشبّهه السّلاحيّ بالتّرس المذهّب يرفع عند الملك ، والصائغ بالسبيكة من الإبريز تفترّ عن وجهها البوتقة ، والبقار بالجبن الأبيض يخرج من قالبه طريّا ، والمعلّم برغيف أحمر يصل إليه من بيت ذي مروءة.

وكما يحكى عن ورّاق يصف حاله : عيشي أضيق من محبرة ، وجسمي أدقّ من مسطرة ، وجاهي أرقّ من الزجاج ، وحظّي أخفى من شقّ القلم ، وبدني أضعف من قصبة ، وطعامي أمرّ من العفص ، وشرابي أشدّ سوادا من الحبر ، وسوء الحال لي ألزم من الصّمغ.

ولصاحب علم المعاني فضل احتياج إلى التنبه لأنواع الجامع ، لا سيما الخيالي ، فإن جمعه على مجرى الإلف والعادة بحسب ما تنعقد الأسباب في ذلك كالجمع بين الإبل ، والسماء والجبال والأرض ، في قوله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (٢٠) [الغاشية : الآيات ١٧ ـ ٢٠] بالنسبة إلى أهل الوبر فإن جلّ انتفاعهم في معاشهم من الإبل ؛ فتكون عنايتهم مصروفة إليها ، وانتفاعهم منها لا يحصل إلا بأن ترعى وتشرب

__________________

(١) البيت من البسيط ، وقد تقدم مع تخريجه.

١٢٩

وذلك بنزول المطر ؛ فيكثر تقلّب وجوههم في السماء ، ثم لا بد لهم من مأوى يؤويهم ، وحصن يتحصّنون به ، ولا شيء لهم في ذلك كالجبال ، ثم لا غنى لهم لتعذّر طول مكثهم في منزل عن التنقل من أرض إلى سواها ؛ فإذا فتش البدويّ في خياله وجد صور هذه الأشياء حاضرة فيه على الترتيب المذكور ، بخلاف الحضريّ ، فإذا تلا قبل الوقوف على ما ذكرنا ظنّ النّسق لجهله معيبا.

ومن محسّنات الوصل تناسب الجملتين ، في الاسميّة والفعلية وفي المضيّ والمضارعة ، إلّا لمانع ، كما إذا أريد بإحداهما التجدّد وبالأخرى الثبوت ، كما إذا كان زيد وعمرو قاعدين ، ثم قام زيد دون عمرو ، وقلت : «قام زيد ، وعمرو قاعد» كما سبق.

ومما يتصل بهذا الباب القول في الجملة إذا وقعت حالا متنقلة ، فإنها تجيء تارة بالواو ، وتارة بغير الواو ؛ فنقول :

أصل الحال المنتقلة أن تكون بغير واو ، لوجوه :

الأول : أنّ إعرابها ليس بتبع ، وما ليس إعرابه بتبع لا يدخله الواو ، وهذه الواو وإن كانت تسمّى واو الحال : فإن أصلها العطف.

الثاني : أن الحال في المعنى حكم على ذي الحال ، كالخبر بالنسبة إلى المبتدأ ، إلا أن الفرق بينه وبينها أن الحكم به يحصل بالأصالة ، لا في ضمن شيء آخر ، والحكم بها إنما يحصل في ضمن غيرها ؛ فإن الركوب مثلا في قولنا : «جاء زيد راكبا» محكوم به على زيد لكن لا بالأصالة ، بل بالتبعية ، بأن وصل بالمجيء وجعل قيدا له ، بخلافه في قولنا : زيد راكب.

الثالث : أنها في الحقيقة وصف لذي الحال ؛ فلا يدخلها الواو كالنّعت.

فثبت أن أصلها أن تكون بغير واو ، لكن خولف الأصل فيها إذا كانت جملة ؛ لأنها ـ بالنظر إليها من حيث هي جملة ـ مستقلّة بالإفادة ؛ فتحتاج إلى ما يربطها بما جعلت حالا عنه.

وكلّ واحد من الضمير والواو صالح للرّبط ، والأصل الضمير ، بدليل الاقتصار عليه في الحال المفردة ، والخبر ، والنعت.

وإذا تمهّد هذا فنقول :

الجملة التي تقع حالا ضربان : خالية عن ضمير ما تقع حالا عنه ، وغير خالية.

أما الأولى فيجب أن تكون بالواو ؛ لئلا تصير منقطعة عنه ، غير مرتبطة به.

١٣٠

وكل جملة خالية عن ضمير ما يجوز أن ينتصب عنه حال ؛ يصح أن تقع حالا عنه إذا كانت مع الواو ، إلا المصدّرة بالمضارع المثبت ، كقولك : «جاء زيد ويتكلم عمرو» على أن يكون «ويتكلم عمرو» حالا عن «زيد» لما سيأتي أن ارتباط مثلها يجب أن يكون بالضمير وحده.

وأما الثانية ؛ فتارة يجب أن تكون بالواو ، وتارة يمتنع ذلك ، وتارة يترجّح أحدهما ، وتارة يستوي الأمران.

والواو غير مناف للضمير في إفادة الربط ؛ فتعيّن التنبيه على أسباب الاختلاف ؛ فنقول :

الجملة إن كانت فعلية والفعل مضارع مثبت ، امتنع الواو ، كقوله تعالى : (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأنعام : الآية ١١٠] ، وقوله : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) (٦) [المدّثّر : الآية ٦] ، وقوله : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) (١٨) [الليل : الآيتان ١٧ ، ١٨] لأن أصل الحال المفردة أن تدل على حصول صفة غير ثابتة مقارن لما جعلت قيدا له ، والمضارع المثبت كذلك.

أما دلالته على حصول صفة غير ثابتة ، فلأنه فعل مثبت والفعل المثبت يدل على التجدد وعدم الثبوت كما مرّ.

وأما دلالته على المقارنة ؛ فلكونه مضارعا.

فوجب أن يكون بالضمير وحده كالحال المفردة ، ولهذا امتنع نحو : جاء زيد ويتكلم عمرو ، كما مر.

وأما ما جاء من نحو قول بعض العرب : «قمت وأصكّ عينه ، أو وجهه» وقول عبد الله بن همّام السّلوليّ :

فلمّا خشيت أظافيرهم

نجوت ، وأرهنهم مالكا (١)

فقيل : على حذف المبتدأ ، أي : وأنا أصك عينه ، وأنا أرهنهم.

وقيل : الأول شاذ ، والثاني ضرورة.

__________________

(١) البيت من المتقارب ، وهو لعبد الله بن همام السلولي في إصلاح المنطق ص ٢٣١ ، ٢٤٩ ، وخزانة الأدب ٩ / ٣٦ ، والدرر ٤ / ١٥ ، والشعر والشعراء ٢ / ٦٥٥ ، ولسان العرب (رهن) ، ومعاهد التنصيص ١ / ٢٨٥ ، والمقاصد النحوية ٣ / ١٩٠ ، ولهمام بن مرة في تاج العروس (رهن) ، وبلا نسبة في الجنى الداني ص ١٦٤ ، ورصف المباني ص ٤٢٠ ، وشرح الأشموني ١ / ٢٥٦ ، وشرح ابن عقيل ص ٣٤٠ ، والمقرب ١ / ١٥٥ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٤٦.

١٣١

وقال الشيخ عبد القاهر : ليست الواو فيهما للحال ، بل هي للعطف و «أصك» و «أرهن» بمعنى «صككت» و «رهنت» ولكن الغرض من إخراجهما على لفظ الحال أن يحكيا الحال في أحد الخبرين ، ويدعا الآخر على أصله ، كما في قوله :

ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني

فمضيت ، ثمّت قلت : لا يعنيني (١)

يبين ذلك أن الفاء قد تجيء مكان الواو في مثله ، كما في خبر عبد الله بن عتيك ؛ فإنه ذكر دخوله على أبي رافع اليهوديّ حصنه ، ثم قال : «فانتهيت إليه ؛ فإذا هو في بيت مظلم ، لا أدري أين هو من البيت؟ قلت : أبا رافع ، قال : من هذا؟ فأهويت نحو الصوت ، فأضربه بالسيف ، وأنا داهش» فإن قوله : «فأضربه» مضارع عطفه بالفاء على ماض ؛ لأنه في المعنى ماض.

وإن كان الفعل مضارعا منفيّا ، فيجوز فيه الأمران من غير ترجيح ؛ لدلالته على المقارنة لكونه مضارعا ، وعدم دلالته على الحصول لكونه منفيا.

أما مجيئه بالواو فكقراءة ابن ذكوان : (فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِ) [يونس : الآية ٨٩] بتخفيف النون ، وقول بعض العرب : «كنت ولا أخشى بالذيب» وقول مسكين الدارمي :

أكسبته الورق البيض أبا

ولقد كان ولا يدعى لأب (٢)

وقول مالك بن رفيع وكان قد جنى جناية ، فطلبه مصعب بن الزبير :

بغاني مصعب وبنوا أبيه

فأين أحيد عنهم؟ لا أحيد (٣)

أقادوا من دمي ، وتوعّدوني

وكنت وما ينهنهني الوعيد

وأما مجيئه بغير واو فكقوله تعالى : (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ) [المائدة : الآية ٨٤] ، وقول عكرمة العبسي :

مضوا لا يريدون الرّواح وغالهم

من الدهر أسباب جرين على قدر (٤)

وقول خالد بن يزيد بن معاوية :

لو أنّ قوما لارتفاع قبيلة

دخلوا السماء ، دخلتها ، لا أحجب (٥)

__________________

(١) تقدم البيت مع تخريجه.

(٢) البيت من الرمل ، وهو لمسكين الدارمي في ديوانه ص ٢٢ ، وسمط اللآلي ص ٣٥٢ ، وشرح التصريح ١ / ٣٩٢ ، والمقاصد النحوية ٣ / ١٩٣ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ١ / ٢٥٧.

(٣) البيتان من الوافر ، وهما لمالك بن رقبة في شرح التصريح ١ / ٣٩٢ ، والمقاصد النحوية ٣ / ١٩٢ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ١ / ٢٥٧.

(٤) البيت من الطويل ، وهو في الحماسة ١ / ١٤٤ ، ودلائل الإعجاز ص ١٦١ ، والمفتاح ص ١١٩.

(٥) البيت من الكامل ، وهو بلا نسبة في شرح الأشموني ١ / ٢٥٧ ، والمقاصد النحوية ٣ / ١٩١.

١٣٢

وقول الأعشى :

أتينا أصبهان ، فهزّلتنا

وكنّا قبل ذلك في نعيم (١)

وكان سفاهة منّي وجهلا

مسيري ، لا أسير إلى حميم

كأنه قال : وكان سفاهة مني وجهلا أن سرت غير سائر إلى حميم.

وإن كان ماضيا لفظا أو معنى فكذلك يجوز الأمران من غير ترجيح.

أما مجيئه بالواو ، فكقوله : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) [آل عمران : الآية ٤٠] ، وقوله تعالى : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) [مريم : الآية ٨].

وقول امرىء القيس :

أيقتلني وقد شغفت فؤادها

كما شغف المهنوءة الرجل الطّالي (٢)؟!

وقوله : [امرؤ القيس]

فجئت ، وقد نضّت لنوم ثيابها

لدى السّتر إلا لبسة المتفضّل (٣)

وقوله تعالى : (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) [الأنعام : الآية ٩٣] وقوله : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) [مريم : الآية ٢٠] ، وقول كعب : [بن زهير]

لا تأخذني بأقوال الوشاة ، ولم

أذنب ، وإن كثرت فيّ الأقاويل (٤)

وقوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : الآية ٢١٤] ، وقول الشاعر : [الشرقي بن القطامي]

بانت قطام ، ولمّا يحظ ذو مقة

منها بوصل ولا إنجاز ميعاد (٥)

وأما مجيئه بلا واو فكقوله تعالى : (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) [النّساء : الآية ٩٠].

__________________

(١) البيتان من الوافر ، وهما لأعشى همدان في البيان والتبيين ٣ / ٢٣٩ ، ودلائل الإعجاز ص ١٦١.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ٣٣ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢٢٢ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٤٥٣ ، ولسان العرب (قطر) ، (شعف).

(٣) البيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ١٤ ، والدرر ٣ / ٧٨ ، وشرح شذور الذهب ص ٢٩٧ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٤٥٣ ، ولسان العرب (نضا) ، وتاج العروس (فضل) ، (نضا) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٢ / ٢٢٦ ، ورصف المباني ص ٢٢٣ ، وشرح الأشموني ١ / ٢٠٦ ، وشرح قطر الندى ص ٢٢٧ ، والمقرب ١ / ١٦١ ، وهمع الهوامع ١ / ١٩٤ ، ٢٤٧.

(٤) البيت من البسيط ، وهو في ديوان كعب بن زهير ص ١٢.

(٥) البيت من البسيط ، ولم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

١٣٣

وقول الشاعر : [أبو صخر الهذلي]

وإنّي لتعروني لذكراك هزّة

كما انتقض العصفور بلّله القطر (١)

وقوله :

أتيناكم قد عمّكم حذر العدا

فنلتم بنا أمنا ، ولم تعدموا نصرا (٢)

وقوله : [حندج بن حندج]

متى أرى الصّبح قد لاحت مخايله

والليل قد مزّقت عنه السّرابيل (٣)

وكقوله تعالى : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) [آل عمران : الآية ١٧٤] ، وقوله : (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً) [الأحزاب : الآية ٢٥] ، وقول امرىء القيس :

فأدرك لم يجهد ولم يئن شأوه (٤)

وقول زهير : [بن أبي سلمى]

كأنّ فتات العهن في كل منهل

نزلن به حبّ القنا لم يحطّم (٥)

والسبب في أن جاز الأمران فيه إذا كان مثبتا ؛ دلالته على حصول صفة غير ثابتة ، لكونه فعلا ، وعدم دلالته على المقارنة لكونه ماضيا ؛ ولهذا اشترط أن يكون مع «قد» ظاهرة أو مقدّرة ، حتى تقرّبه إلى الحال ؛ فيصح وقوعه حالا.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لأبي صخر الهذلي في الأغاني ٥ / ١٦٩ ، ١٧٠ ، والإنصاف ١ / ٢٥٣ ، وخزانة الأدب ٣ / ٢٥٤ ، والدرر ٣ / ٧٩ ، وشرح أشعار الهذليين ٢ / ٩٥٧ ، وشرح التصريح ١ / ٣٣٦ ، ولسان العرب (رمث) ، والمقاصد النحوية ٣ / ٦٧ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٧ / ٢٩ ، وأمالي ابن الحاجب ٢ / ٦٤٦ ، ٦٤٨ ، وأوضح المسالك ٢ / ٢٢٧ ، وشرح الأشموني ١ / ٢١٦ ، وشرح شذور الذهب ص ٢٩٨ ، وشرح ابن عقيل ص ٣٦١ ، وشرح قطر الندى ص ٢٢٨ ، وشرح المفصل ٢ / ٦٧ ، والمقرب ١ / ١٦٢ ، وهمع الهوامع ١ / ١٩٤.

(٢) البيت من الطويل ، ولم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٣) البيت من البسيط ، وهو لحندج بن حندج المرّي في الدرر ٦ / ٢٦٦ ، وتاج العروس (صول).

(٤) عجز البيت :

يمرّ كخذروف الوليد المثقّب

والبيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ٥١ ، وبلا نسبة في شرح شذور الذهب ص ٢٠٢.

(٥) البيت من الطويل ، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ١٢ ، ولسان العرب (فتت) ، (فني) ، والمقاصد النحوية ٣ / ١٩٤ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ١ / ٢٥٩.

١٣٤

وظاهر هذا يقتضي وجوب الواو في المنفيّ لانتفاء المعنيين ، لكنه لم يجب فيه ، بل كان مثله.

أما المنفي بـ «لمّا» فلأنها للاستغراق.

وأما المنفيّ بغيرهما ؛ فلأنه لما دل على انتفاء متقدم ، وكان الأصل استمرار ذلك ؛ حصلت الدلالة على المقارنة عند إطلاقه ؛ بخلاف المثبت ؛ فإن وضع الفعل على إفادة التجدّد ، وتحقيق هذا أن استمرار العدم لا يفتقر إلى سبب ، بخلاف استمرار الوجود ، كما بيّن في غير هذا العلم.

وإن كانت الجملة اسميّة فالمشهور أنه يجوز فيها الأمران ، ومجيء الواو أولى.

أما الأول فلعكس ما ذكرناه في المصدّرة بالماضي المثبت ؛ فمجيء الواو كقوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة : الآية ٢٢] ، وقوله : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) [البقرة : الآية ١٨٧] ، وقول امرىء القيس :

أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي

ومسنونة زرق كأنياب أغوال (١)

وقوله : [امرؤ القيس]

ليالي يدعوني الهوى وأجيبه

وأعين من أهوى إليّ رواني (٢)

والخلوّ منها كما رواه سيبويه (٣) : «كلّمته فوه إلى فيّ» و «رجع عوده على بدئه» بالرفع ، وما أنشده أبو عليّ في الإغفال [الحسن بن أحمد النحوي](٤) :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ٣٣ ، ولسان العرب (غول) ، (شطن) ، وتهذيب اللغة ٨ / ١٩٣ ، وجمهرة اللغة ص ٩٦١ ، وتاج العروس (زرق) ، وبلا نسبة في المخصص ٨ / ١١١.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان امرىء القيس ص ٨٦.

(٣) سيبويه : هو أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر ، الملقب بسيبويه ، مولى بني الحارث بن كعب ، سكن الكوفة ، وتوفي بمدينة ساوة سنة ١٧٧ ه‍ ، له «الكتاب» في النحو مشهور. (كشف الظنون ٥ / ٨٠٢).

(٤) هو أبو علي الفارسي ، الحسن بن أحمد بن عبد الغفار بن محمد بن سليمان بن أبان الفسوي ، النحوي البغدادي ، ولد سنة ٢٨٨ ه‍ ، وتوفي سنة ٣٧٧ ه‍. من تصانيفه : أبيات الإعراب ، أبيات المعاني ، الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني ، الإيضاح الشعري ، الإيضاح في النحو ، التذكرة في النحو ، تعليقة على كتاب سيبويه ، تفسير قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ،) تكملة في النحو ، الحجة في شرح السبعة ، لابن مجاهد في القراءات ، ديوان شعره ، ـ ـ

١٣٥

ولو لا جنان الليل ما آب عامر

إلى جعفر ، سرباله لم يمزّق (١)

وقول الآخر :

ما بال عينك دمعها لا يرقأ؟! (٢)

وقول الآخر : [طرفة بن العبد]

ثمّ راحوا ، عبق المسك بهم (٣)

وأما الثاني فلعدم دلالة الاسمية على عدم الثبوت ، مع ظهور الاستئناف فيها ؛ لاستقلالها بالفائدة ، فتحسن زيادة رابط ، ليتأكد الربط.

وقال الشيخ عبد القاهر : إن كان المبتدأ ضمير ذي الحال ؛ وجب الواو ، كقولك : جاء زيد وهو يسرع ، أو وهو مسرع ، ولعل السبب فيه أن أصل الفائدة كان يصل بدون هذا الضمير ، بأن يقال : جاءني زيد يسرع ، أو مسرعا ؛ فالإتيان به يشعر بقصد الاستئناف المنافي للاتصال ؛ فلا يصلح لأن يستقل بإفادة الربط ؛ فتجب الواو.

وقال أيضا : إن جعل نحو «على كتفه سيف» ـ بتقديم الظرف ـ حالا عن شيء ، كما في قولنا : «جاء زيد على كتفه سيف» كثر فيها أن تجيء بغير واو ، كقول بشار : [بن برد]

__________________

العوامل في النحو ، كتاب التتبع لكلام أبي علي الجبائي في التفسير ، كتاب الترجمة ، كتاب المقصور والممدود ، المسائل البصرية ، المسائل البغداديات ، المسائل الحلبيات ، المسائل الدمشقية ، المسائل الشيرازيات ، المسائل العسكرية ، المسائل القصريات ، المسائل الكرمانية ، المسائل المشكلة ، المسائل المصلحة ، المسائل المنثورة ، وغير ذلك. (كشف الظنون ٥ / ٢٧٢).

(١) البيت من الطويل ، وهو لسلامة بن جندل في ديوانه ص ١٧٦ ، والأصمعيات ص ١٣٥ ، ولسان العرب (جنن) ، والمقاصد النحوية ٣ / ٢١٠ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٧ / ٢٢ ، وشرح الأشموني ١ / ٢٥٨.

(٢) عجز البيت :

وحشاك من خفقانه لا يهدأ

والبيت من الكامل ، وهو بلا نسبة في شرح عمدة الحافظ ص ٤٥٧.

(٣) عجز البيت :

يلحفون الأرض هدّاب الأزر

والبيت من الرمل ، وهو لطرفة بن العبد في ديوانه ص ٥٥ ، وجمهرة اللغة ص ٥٥٥ ، ولسان العرب (لحف) ، (عبق) ، والمقاصد النحوية ٣ / ٢٠٨ ، وتاج العروس (لحف) ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ١ / ٢٥٨ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٤٥٦.

١٣٦

إذا أنكرتني بلدة ، أو نكرتها

خرجت مع البازي عليّ سواد (١)

يعني : عليّ بقية من الليل ، وقول أبي الصلت عبد الله الثقفي يمدح ابن ذي يزن :

فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا

في رأس غمدان دارا منك محلالا (٢)

وقول الآخر : [وائلة السدوسي]

لقد صبرت للذّلّ أعواد منبر

تقوم عليها في يديك قضيب (٣)

ثم قال : والوجه أن يقدّر الاسم في الأمثلة مرتفقا بالظرف ؛ فإنه جائز باتفاق من صاحب الكتاب (٤) ، وأبي الحسن (٥) ؛ لاعتماده على ما قبله ، ثم اختار أن يكون الظرف هاهنا خاصة في تقدير اسم فاعل ، وجوّز أيضا أن يكون في تقدير فعل ماض مع «قد» ومنع أن يكون في تقدير فعل مضارع.

ولعله إنما اختار تقديره باسم فاعل لرجوع الحال حينئذ إلى أصلها في الإفراض ولهذا كثر مجيئها بلا واو ، وإنما جوّز التقدير بفعل ماض أيضا لمجيئها بالواو قليلا ، وإنما منع التقدير بفعل مضارع لأنه لو جاز التقدير به لامتنع مجيئها بالواو.

ثم قال : وربما يحسن مجيء الاسمية بلا واو ؛ لدخول حرف على المبتدأ ، كما في قوله : [الفرزدق]

فقلت عسى أن تبصريني كأنّما

بنيّ حواليّ الأسود الحوارد (٦)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان بشار بن برد ص ٧١ ، (طبعة دار الثقافة) ، والإشارات والتنبيهات ص ١٣٦.

(٢) البيت من البسيط ، وهو لأبي الصلت في ديوان ابنه أمية ص ٥٢ (وفيه أن أكثر الرواة ينسب القصيدة التي من ضمنها هذا البيت لأبي الصلت ، وبعضهم ينسبها لابنه أمية ، وبعضهم ينسبها لزمعة جدّ أمية) ، ومعجم البلدان (غمدان) ، وبلا نسبة في لسان العرب (غمد) ، (رفق) ، وتاج العروس (رفق) ، وجمهرة اللغة ص ٣٤٠.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لوائلة السدوسي في البيان والتبيين ٣ / ٤٥.

(٤) صاحب الكتاب هو سيبويه ، تقدمت ترجمته قبل قليل.

(٥) أبو الحسن : هو الكسائي ، وهو علي بن حمزة بن عبد الله بن عثمان ، مولى بني أسد ، أبو الحسن ، المعروف بالكسائي ، ثم البغدادي الكوفي ، أحد أئمة النحو ، توفي سنة ١٨٩ ه‍ ، له من المصنفات : اختلاف العدد ، أشعار المعاياة وطرائقها ، قصص الأنبياء ، كتاب الحروف ، كتاب العدد ، كتاب القراءات ، كتاب المصادر ، كتاب النوادر الأصغر ، كتاب النوادر الأكبر ، كتاب النوادر الأوسط ، كتاب الهاءات ، المكنى في القرآن ، كتاب الهجاء ، مختصر في النحو ، معاني القرآن ، مقطوع القرآن وموصوله. (كشف الظنون ٥ / ٦٦٨).

(٦) يروى صدر البيت بلفظ : ـ ـ

١٣٧

فإنه لو لا دخول «كأن» عليه لم يحسن الكلام إلا بالواو ، كقولك : عسى أن تبصريني وبنيّ حواليّ الأسود.

ثم قال : وشبيه بهذا أن تقع حالا بعقب مفرد ، فيلطف مكانها ، بخلاف ما لو أفردت ، كقول ابن الرومي : [علي بن العباس]

والله يبقيك لنا سالما

برداك تبجيل وتعظيم (١)

فإنه لو قال : «والله يبقيك لنا برداك تبجيل (وتعظيم)» لم يحسن.

هذا كله إذا لم يكن صاحبها نكرة مقدّمة عليها ، فإن كان كذلك نحو : «جاءني رجل وعلى كتفه سيف» وجب الواو ؛ لئلّا تشبه بالنعت.

وأما نحو قوله تعالى : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) (٤) [الحجر : الآية ٤] فقال السكاكي : الوجه فيه عندي هو أن (وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) [الحجر : الآية ٤] حال للقرية ؛ لكونها في حكم الموصوفة ، نازلة منزلة «وما أهلكنا قرية من القرى» لا وصف ، وحمله على الوصف سهو ، لا خطأ ، ولا عيب في السهو للإنسان ، ولا ذمّ ، والسهو ما يتنبّه له صاحبه بأدنى تنبيه ، والخطأ ما لا يتنبه له صاحبه ، أو يتنبه ولكن بعد إتعاب.

وكأنه عرّض بالزمخشري حيث قال في تفسيره : «لها كتاب» جملة واقعة صفة لـ «قرية» والقياس أن لا يتوسط الواو بينهما ، كما في قوله تعالى : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) (٢٠٨) [الشّعراء : الآية ٢٠٨] وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف ، كما يقال في الحال «جاءني زيد عليه ثوب» و «جاءني زيد وعليه ثوب».

ثم قال السكاكي : من عرف السبب في تقديم الحال إذا أريد إيقاعها عن النكرة تنبّه لجواز إيقاعها عن النكرة مع الواو ، في مثل : «جاءني رجل وعلى كتفه سيف» ولمزيد جوازه في قوله عزّ اسمه : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) (٤) [الحجر : الآية ٤] على ما قدمت.

واعلم أن السكاكي بنى كلامه في الجملة الواقعة حالا على أصول مضطربة لا يخفى حالها على الفطن لا سيما إذا أحاط علما بما ذكرناه ، وأتقنه ، فآثرنا الإعراض عن نقل كلامه ، والتعرّض لما فيه من الخلل ؛ لئلّا يطول الكتاب من غير طائل.

__________________

لعلك يوما أن تريني كأنما

والبيت من الطويل ، وهو للفرزدق في ديوانه ١ / ١٤٦ (وفيه «اللوابد» بدل «الحوارد») ، ومجمل اللغة ٢ / ٥٦ ، وأساس البلاغة (حرد) ، والحيوان ٣ / ٩٧ ، ومعاهد التنصيص ١ / ٣٠٤ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٥٠١ ، ومقاييس اللغة ٢ / ٥٢.

(١) البيت من السريع ، وهو في دلائل الإعجاز ص ٢١٢.

١٣٨

القول في الإيجاز والإطناب والمساواة

قال السكاكي : أما الإيجاز والإطناب ، فلكونها نسبيّين ، لا يتيسّر الكلام فيهما إلّا بترك التحقيق ، والبناء على شيء عرفيّ ، مثل جعل كلام الأوساط على مجرى متعارفهم في التأدية للمعاني فيما بينهم ـ ولا بد من الاعتراف بذلك ـ مقيسا عليه ، ولنسمّه متعارف الأوساط وأنه في باب البلاغة لا يحمد منهم ولا يذمّ.

فالإيجاز هو أداء المقصود من الكلام بأقلّ من عبارات متعارف الأوساط ، والإطناب هو أداؤه بأكثر من عبارته ، سواء كانت القلّة أو الكثرة راجعة إلى الجمل ، أو إلى غير الجمل.

ثم قال : الاختصار لكونه من الأمور النسبيّة ، يرجع في بيان دعواه إلى ما سبق تارة ، وإلى كون المقام خليقا بأبسط مما ذكر أخرى.

وفيه نظر ؛ لأن كون الشيء نسبيّا لا يقتضي أن لا يتيسّر الكلام فيه إلا بترك التحقيق ، والبناء على شيء عرفيّ.

ثم البناء على متعارف الأوساط. والبسط الذي يكون المقصود جديرا به ، ردّ إلى جهالة ؛ فكيف يصلح للتعريف؟

والأقرب أن يقال :

المقبول من طرق التعبير عن المعنى : هو تأدية أصل المراد بلفظ مساو له ، أو ناقص عنه واف ، أو زائد عليه لفائدة.

والمراد بالمساواة : أن يكون اللفظ بمقدار أصل المراد ؛ لا ناقصا عنه بحذف أو غيره ، كما سيأتي ، ولا زائدا عليه بنحو تكرير ، أو تتميم ، أو اعتراض ، كما سيأتي.

وقولنا : «واف» احتراز عن الإخلال ، وهو أن يكون اللفظ قاصرا عن أداء المعنى ، كقول عروة بن الورد :

عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم

ومقتلهم عند الوغى كان أعذرا (١)

فإنه أراد : إذ يقتلون نفوسهم في السّلم ، وقول الحارث بن حلّزة :

والعيش خير في ظلا

ل النّوك ممّن عاش كدّا (٢)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لعروة بن الورد في ديوانه ص ٨٨.

(٢) البيت من مجزوء الكامل ، وهو للحارث بن حلزة في ديوانه ص ٤٧ ، وجمهرة اللغة ص ١٠٠٠ ، ـ ـ

١٣٩

فإنه أراد : العيش الناعم في ظلال النّوك : خير من العيش الشّاقّ في ظلال العقل فأخلّ كما ترى.

وقولنا : «لفائدة» احتراز من شيئين :

أحدهما : التطويل ، وهو أن يتعيّن الزائد في الكلام ، كقوله : [عدي بن زيد العبادي]

وألفى قولها كذبا ومينا (١)

فإن الكذب والمين واحد.

وثانيهما : ما يشتمل على الحشو ، والحشو ما يتعين أنه الزائد ، وهو ضربان :

أحدهما : ما يفسد المعنى ، كقول أبي الطّيّب :

ولا فضل فيها للشجاعة والنّدى

وصبر الفتى ، لولا لقاء شعوب (٢)

فإن لفظ «الندى» فيه حشو يفسد المعنى ، لأن المعنى : أنه لا فضل في الدنيا للشجاعة والصبر والندى لو لا الموت. وهذا الحكم صحيح في الشجاعة دون الندى ؛ لأن الشجاع لو علم أنه يخلد في الدنيا لم يخش الهلاك في الإقدام ؛ فلم يكن لشجاعته فضل. بخلاف الباذل ماله ؛ فإنه إذا علم أنه يموت هان عليه بذله ولهذا يقول إذا عوتب فيه : كيف لا أبذل ما لا أبقى له؟ أنّى أثق بالتمتّع بهذا المال؟ وعليه قول طرفة :[بن العبد]

فإن كنت لا تسطيع دفع منيّتي

فذرني أبادرها بما ملكت يدي (٣)

وقول مهيار : [بن مرزويه الديلمي]

فكل إن أكلت ، وأطعم أخاك

فلا الزّاد يبقى ولا الآكل (٤)

__________________

والأغاني ١١ / ٤٤ ، وبهجة المجالس ١ / ١٨٧ ، والشعر والشعراء ص ٢٠٤ ، وشعراء النصرانية ص ٤١٧ ، وكتاب الصناعتين ص ٣٦ ، ١٨٨.

(١) صدر البيت :

وقددت الأديم لراهشيه

والبيت من الوافر ، وهو لعدي بن زيد في ذيل ديوانه ص ١٨٣ ، والأشباه والنظائر ٣ / ٢١٣ ، وجمهرة اللغة ص ٩٩٣ ، والدرر ٦ / ٧٣ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٧٦ ، والشعر والشعراء ١ / ٢٣٣ ، ولسان العرب (مين) ، ومعاهد التنصيص ١ / ٣١٠ ، وبلا نسبة في مغني اللبيب ١ / ٣٥٧ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٢٩.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٧٣.

(٣) البيت من الطويل ، وهو في ديوان طرفة بن العبد ص ٢٤.

(٤) البيت من المتقارب ، ولم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

١٤٠