الإيضاح في علوم البلاغة

جلال الدين محمّد بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد

الإيضاح في علوم البلاغة

المؤلف:

جلال الدين محمّد بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3907-X
الصفحات: ٤١٥

ومنها : «إنما» كقولك في قصر الموصوف على الصفة إفرادا ، «إنما زيد كاتب» وقلبا «إنما زيد قائم» وفي قصر الصفة على الموصوف بالاعتبارين : «إنما قائم زيد».

والدليل على أنها تفيد القصر كونها متضمنة معنى «ما» و «إلّا».

لقول المفسرين في قوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ) [البقرة : الآية ١٧٣] بالنصب : معناه «ما حرّم عليكم إلا الميتة» وهو المطابق لقراءة الرفع ؛ لما مر في باب «المنطلق زيد».

ولقول النحاة : «إنما» لإثبات ما يذكر بعدها ونفي ما سواه.

ولصحة انفصال الضمير معها ، كقولك : «إنما يضرب أنا» كما تقول : «ما يضرب إلا أنا».

قال الفرزدق :

أنا الذّائد الحامي الذّمار ، وإنّما

يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي (١)

وقال عمرو بن معد يكرب :

قد علمت سلمى وجاراتها

ما قطّر الفارس إلا أنا (٢)

قال السكاكي : ويذكر لذلك وجه لطيف يسند إلى علي بن عيسى الرّبعي (٣) ، وهو

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للفرزدق في ديوانه ٢ / ١٥٣ ، وتذكرة النحاة ص ٨٥ ، والجنى الداني ص ٣٩٧ ، وخزانة الأدب ٤ / ٤٦٥ ، والدرر ١ / ١٩٦ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧١٨ ، ولسان العرب (قلا) ، والمحتسب ٢ / ١٩٥ ، ومعاهد التنصيص ١ / ٢٦٠ ، ومغني اللبيب ١ / ٣٠٩ ، والمقاصد النحوية ١ / ٢٧٧ ، ولأمية بن أبي الصلت في ديوانه ص ٤٨ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ١١١ ، وأوضح المسالك ١ / ٩٥ ، ولسان العرب (أنن) ، وهمع الهوامع ١ / ٦٢ ، وتاج العروس (ما).

(٢) البيت من السريع ، وهو لعمرو بن معديكرب في ديوانه ص ١٦٧ ، والأغاني ١٥ / ١٦٩ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ١٩٩ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٤١١ ، والكتاب ٢ / ٣٥٣ ، وله أو للفرزدق في شرح شواهد المغني ٢ / ٧١٩ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٧ / ٢٤٣ ، وتخليص الشواهد ص ١٨٤ ، وشرح المفصل ٣ / ١٠١ ، ١٠٣ ، ولسان العرب (قطر) ، ومغني اللبيب ١ / ٣٠٩.

(٣) الربعي : هو علي بن عيسى بن الفرج بن صالح الربعي ، أبو الحسن الزهيري الأصل البغدادي المنشأ والدار ، الأديب النحوي ، ولد سنة ٣٢٨ ه‍ ، وتوفي سنة ٤٢٠ ه‍. له من المصنفات : البديع في النحو ، شرح الإيضاح ، لأبي علي الفارسي في النحو ، شرح مختصر الجرمي ، شرح البلغة ، كتاب التنبيه على خطأ ابن جني في تفسير شعر المتنبي ، كتاب ما جاء من المبني على فعال. (كشف الظنون ٥ / ٦٨٦).

١٠١

أنه لما كانت كلمة «إنّ» لتأكيد إثبات المسند للمسند إليه ، ثم اتصلت بها «ما» المؤكدة ـ لا النافية كما يظنه من لا وقوف له على علم النحو ـ ناسب أن يضمن معنى القصر ؛ لأن القصر ليس إلا تأكيدا على تأكيد ؛ فإن قولك : «زيد جاء لا عمر» ـ لمن يردّد المجيء الواقع بينهما ـ يفيد إثباته لزيد في الابتداء صريحا ، وفي الآخر ضمنا.

ومنها : التقديم ، كقولك في قصر الموصوف على الصفة إفرادا : «شاعر هو» لمن يعتقده شاعرا وكاتبا ، وقلبا «قائم هو» لمن يعتقده قاعدا ، وفي قصر الصفة على الموصوف إفرادا «أنا كفيت مهمّك» ـ بمعنى وحدي ـ لمن يعتقد أنك وغيرك كفيتما مهمّه ، وقلبا : «أنا كفيت مهمّك» ـ بمعنى لا غيري ـ لمن يعتقد أن غيرك كفى مهمة دونك ، كما تقدم.

وهذه الطرق تختلف من وجوه :

الأول : أن دلالة الثلاثة الأولى بالوضع دون الرابع.

الثاني : أن الأصل في الأول أن يدل على المثبت والمنفيّ جميعا بالنص ؛ فلا يترك ذلك إلا كراهة الإطناب في مقام الاختصار ، كما إذا قيل : «زيد يعلم النحو ، والتصريف ، والعروض ، والقوافي» أو «زيد يعلم النحو ، وعمرو ، وبكر ، وخالد» فتقول فيهما : «زيد يعلم النحو لا غير» وفي معناه «ليس إلا» أي لا غير النحو ، ولا غير زيد ، وأما الثلاثة الباقية فتدل بالنص على المثبت دون المنفيّ.

الثالث : أن النفي لا يجامع الثاني ؛ لأن شرط المنفي بـ «لا» أن لا يكون منفيا قبلها بغيرها ، ويجامع الآخرين ، فيقال : «إنما زيد كاتب لا شاعر» و «هو يأتيني لا عمرو» ولأن النفي فيهما غير مصرّح به ، كما يقال : «امتنع زيد عن المجيء لا عمرو».

قال السكاكي : شرط مجامعته للثالث أن لا يكون الوصف مختصا بالموصوف كقوله تعالى : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) [الأنعام : الآية ٣٦] فإن كل عاقل يعلم أن الاستجابة لا تكون إلا ممن يسمع ، وكذا قولهم : «إنما يعجّل من يخشى الفوت».

قال الشيخ عبد القاهر : لا تحسن مجامعته له في المختص كما تحسن في غير المختص ، وهذا أقرب.

قيل : ومجامعته له إما مع التقديم ، كقوله تعالى : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (٢٢) [الغاشية : الآيتان ٢١ ، ٢٢] ، وإما مع التأخير كقولك : «ما جاءني زيد وإنما جاءني عمرو» وفي كون نحو هذين مما نحن فيه نظر.

الرابع : أن أصل الثاني أن يكون ما استعمل له مما يجهله المخاطب وينكره ، كقولك

١٠٢

لصاحب وقد رأيت شبحا من بعيد : «ما هو إلا زيد» إذا وجدته يعتقده غير زيد ، ويصر على الإنكار ، وعليه قوله تعالى : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) [آل عمران : الآية ٦٢].

وقد ينزّل المعلوم منزلة المجهول لاعتبار مناسب ، فيستعمل له الثاني.

إفرادا نحو (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) [آل عمران : الآية ١٤٤] أي أنه صلّى الله عليه وسلّم مقصور على الرسالة لا يتعدّاها إلى التبري من الهلاك ، نزّل استعظامهم هلاكه منزلة إنكارهم إياه ، ونحوه (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) (٢٣) [فاطر : الآيتان ٢٢ ، ٢٣] فإنه صلّى الله عليه وسلّم كان لشدة حرصه على هداية الناس يكرر دعوة الممتنعين عن الإيمان ، ولا يرجع عنها ، فكان في معرض من ظنّ أنه يملك مع صفة الإنذار إيجاد الشيء فيما يمتنع قبوله إيّاه.

أو قلبا ؛ كقوله تعالى حكاية عن بعض الكفار : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) [إبراهيم : الآية ١٠] أي أنتم بشر لا رسل ، نزّلوا المخاطبين منزلة من ينكر أنه بشر ، لاعتقاد القائلين أن الرسول لا يكون بشرا مع إصرار المخاطبين على دعوى الرسالة ، وأما قوله تعالى حكاية عن الرسل : (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [إبراهيم : الآية ١١] فمن مجاراة الخصم للتبكيت والإلزام والإفحام ؛ فإن من عادة من ادّعى عليه خصمه الخلاف في أمر هو لا يخالف فيه أن يعيد كلامه على وجهه ، كما إذا قال لك من يناظرك : «أنت من شأنك كيت وكيت» فتقول : «نعم أنا من شأني كيت وكيت ، ولكن لا يلزمني من أجل ذلك ما ظننت أنه يلزم» فالرسل عليهم السّلام كأنهم قالوا : إن ما قلتم من أنّا بشر مثلكم هو كما قلتم لا ننكره ، ولكن ذلك لا يمنع أن يكون الله تعالى قد منّ علينا بالرسالة.

وأصل الثالث أن يكون ما استعمل له مما يعلمه المخاطب ولا ينكره ، على عكس الثاني ، كقولك : «إنما هو أخوك» و «إنما هو صاحبك القديم» لمن يعلم ذلك ويقرّ به ، وتريد أن ترقّقه عليه ، وتنبهه لما يجب عليه من حق الأخ وحرمة الصاحب ، وعليه قول أبي الطيب :

إنما أنت والد ، والأب القا

طع أحنى من واصل الأولاد (١)

لم يرد أن يعلم كافورا أنه بمنزلة الوالد ، ولا ذاك مما يحتاج كافور فيه إلى الإعلام. ولكنه أراد أن يذكّره منه بالأمر المعلوم ؛ ليبني عليه استدعاء ما يوجبه.

وقد ينزّل المجهول منزلة المعلوم ؛ لادعاء المتكلم ظهوره ؛ فيستعمل له الثالث ،

__________________

(١) البيت من الخفيف ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٢٢٦.

١٠٣

نحو (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) [البقرة : الآية ١١] ادّعوا أن كونهم مصلحين ظاهر جليّ ، ولذلك جاء : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) [البقرة : الآية ١٢] للرد عليهم مؤكدا بما ترى : من جعل الجملة اسمية ، وتعريف الخبر باللام ، وتوسيط الفصل ، والتصدير بحرف التنبيه ، ثم بـ «إنّ» ومثله قول الشاعر :

إنّما مصعب شهاب من الله

تجلت عن وجهه الظّلماء (١)

ادّعى أن كون مصعب كما ذكر جليّ معلوم لكل أحد ، على عادة الشعراء إذا مدحوا أن يدّعوا في كل ما يصفون به ممدوحيهم الجلاء ، وأنهم قد شهروا به حتى إنه لا يدفعه أحد ، كما قال الآخر : [الحطيئة]

وتعذلني أفناء سعد عليهم

وما قلت إلّا بالتي علمت سعد (٢)

وكما قال البحتري :

لا أدّعي لأبي العلاء فضيلة

حتّى يسلّمها إليه عداه (٣)

واعلم أن لطريق «إنما» مزيّة على طريق العطف ، وهي أنه يعقل منها إثبات الفعل لشيء ونفيه عن غيره دفعة واحدة ، بخلاف العطف ، وإذا استقريت وجدتها أحسن ما تكون موقعا إذا كان الغرض بها التعريض بأمر هو مقتضى معنى الكلام بعدها ، كما في قوله تعالى : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) [الرّعد : الآية ١٩] فإنه تعريض بذمّ الكفار ، وأنهم من فرط العناد وغلبة الهوى عليهم في حكم من ليس بذي عقل ، فأنتم في طمعكم منهم أن ينظروا ويتذكروا ، كمن طمع في ذلك من غير أولي الألباب ، وكذا قوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النّازعات : الآية ٤٥] وقوله تعالى : (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) [فاطر : الآية ١٨] المعنى على أن من لم تكن له هذه الخشية فكأنه ليس له أذن تسمع ، وقلب يعقل ، فالإنذار معه كلا إنذار.

قال الشيخ عبد القاهر : ومثال ذلك من الشعر قوله : [العباس بن الأحنف]

أنا لم أرزق محبّتها

إنّما للعبد ما رزقا (٤)

__________________

(١) البيت من المتقارب ، وهو لعبيد الله بن قيس الرقيات في مصعب بن الزبير بن العوام. والبيت في مفتاح العلوم ص ١٢٨ ، ودلائل الإعجاز ص ٢٥٥ ، والعقد الفريد (١ / ٢٤) ، والكامل للمبرد (١ / ٣٩٩).

(٢) البيت من الطويل ، وهو للحطيئة في ديوانه ص ٤١.

(٣) البيت من الكامل ، وهو في الدلائل ص ٢٥٥ و٣٧٦ ، والمفتاح ص ١٢٨.

(٤) من الرجز ، وهو في دلائل الإعجاز ص ٢٧٢.

١٠٤

فإنه تعريض بأنه قد علم أنه لا مطمع له في وصلها ، فيئس من أن يكون منها إسعاف به ، وقوله :

وإنما يعذر العشاق من عشقا (١)

يقول : ينبغي للعاشق أن لا ينكر لوم من يلومه ؛ فإنه لا يعلم كنه بلوى العاشق ، ولو كان قد ابتلي بالعشق مثله لعرف ما هو فيه ؛ فعذره ، وقوله :

ما أنت بالسّبب الضعيف ، وإنما

نجح الأمور بقوّة الأسباب (٢)

فاليوم حاجتنا إليك ، وإنما

يدعى الطبيب لساعة الأوصاب

يقول في البيت الأول : إنه ينبغي أن أنجح في أمري حين جعلتك السبب إليه ، وفي الثاني : إنا قد طلبنا الأمر من جهته حين استعنّا بك فيما عرض لنا من الحاجة ، وعوّلنا على فضلك ، كما أن من عوّل على الطبيب فيما يعرض له من السقم ؛ كان قد أصاب في فعله.

ثم القصر كما يقع بين المبتدأ والخبر كما ذكرنا يقع بين الفعل والفاعل وغيرهما ؛ ففي طريق النفي والاستثناء يؤخّر المقصور عليه مع حرف الاستثناء ، كقولك في قصر الفاعل على المفعول إفرادا أو قلبا بحسب المقام : «ما ضرب زيد عمرا» وعلى الثاني لا الأول قوله تعالى : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) [المائدة : الآية ١١٧] لأنه ليس المعنى «إني لم أزد على ما أمرتني به شيئا» إذ ليس الكلام في أنه زاد شيئا على ذلك أو نقص منه ، ولكن المعنى «إني لم أترك ما أمرتني به أن أقوله لهم إلى خلافه» لأنه قال في مقام اشتمل على معنى «إنك يا عيسى تركت ما أمرتك أن تقوله إلى ما لم آمرك أن تقوله ؛ فإني أمرتك أن تدعو الناس إلى أن يعبدوني ، ثم إنك دعوتهم إلى أن يعبدوا غيري» ، بدليل قوله تعالى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [المائدة : الآية ١١٦].

وفي قصر المفعول على الفاعل : «ما ضرب عمرا إلا زيد» وفي قصر المفعول الأول على الثاني في نحو «كسوت» و «ظننت» : «ما كسوت زيدا إلا جبّة ، وما ظننت زيدا إلا منطلقا» وفي قصر الثاني على الأول : «ما كسوت جبّة إلا زيدا ، وما ظننت منطلقا إلا زيدا» وفي قصر ذي الحال على الحال «ما جاء زيد إلا راكبا» وفي قصر الحال على ذي

__________________

(١) وهذا أيضا للعباس بن الأحنف.

(٢) البيتان من الكامل ، وهما لأحمد بن أبي دؤاد أو الباخرزي أو محمد بن أحمد بن سليمان كما في معجم الشعراء ص ٤٤٧ ، والتبيان في الدلائل صفحة ٢٧٣.

١٠٥

الحال «ما جاء راكبا إلا زيد».

والوجه في جميع ذلك أن النفي في الكلام الناقص ـ أعني الاستثناء المفرّغ ـ يتوجّه إلى مقدّر هو مستثنى منه عام مناسب للمستثنى في جنسه وصفته.

أما توجهه إلى مقدّر هو مستثنى منه فلكون «إلّا» للإخراج ، واستدعاء الإخراج مخرجا منه.

وأما عمومه فليتحقق الإخراج منه ، ولذلك قيل : تأنيث المضمر في «كانت» على قراءة أبي جعفر المدني : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً) [يس : الآية ٢٩] بالرفع وفي «ترى» مبنيا للمفعول في قراءة الحسن : (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) [الأحقاف : الآية ٢٥] برفع «مساكنهم» وفي «بقيت» في بيت ذي الرّمّة :

فما بقيت إلّا الضّلوع الجراشع (١)

للنظر إلى ظاهر اللفظ ، والأصل التذكير ؛ لاقتضاء المقام معنى شيء من الأشياء.

وأما مناسبته في جنسه وصفته فظاهرة ؛ لأن المراد بجنسه أن يكون في نحو «ما ضرب زيد إلّا عمرا» «أحدا» وفي نحو قولنا : «ما كسوت زيدا إلا جبّة» «لباسا» وفي نحو «ما جاء زيد إلا راكبا» كائنا على حال من الأحوال ، وفي نحو «ما اخترت رفيقا إلا منكم» «من جماعة من الجماعات» ومنه قول السيد الحميري : [إسماعيل بن محمد]

لو خيّر المنبر فرسانه

ما اختار إلّا منكم فارسا (٢)

لما سيأتي إن شاء الله تعالى أن أصله «ما اختار فارسا إلا منكم».

والمراد بصفته كونه فاعلا أو مفعولا ، أو ذا حال ، أو حالا ، وعلى هذا القياس إذا كان النفي متوجها إلى ما وصفناه فإذا أوجب منه شيء جاء القصر.

ويجوز تقديم المقصور عليه مع حرف الاستثناء بحالهما على المقصور ، كقولك : «ما ضرب إلّا عمرا زيد ، وما ضرب إلّا زيد عمرا ، وما كسوت إلّا جبّة زيدا ، وما ظننت إلّا زيدا منطلقا ، وما جاء إلّا راكبا زيد ، وما جاء راكبا».

__________________

(١) صدر البيت :

طوى النحز والإجراز ما في غروضها

والبيت من الطويل ، وهو لذي الرمة في ديوانه ص ١٢٩٦ ، وتخليص الشواهد ص ٤٨٢ ، وتذكرة النحاة ص ١١٣ ، وشرح المفصل ٢ / ٨٧ ، والمحتسب ٢ / ٢٠٧ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٤٧٧ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ٢ / ١٧٢ ، وشرح ابن عقيل ص ٢٤٣.

(٢) البيت من السريع ، وهو في مفتاح العلوم للسكاكي ص ١٣٠.

١٠٦

وقولنا : «بحالهما» احتراز من إزالة حرف الاستثناء عن مكانه بتأخيره عن المقصور عليه ، كقولك في الأول : «ما ضرب عمرا إلا زيد» فإنه يختلّ المعنى ؛ فالضابط أن الاختصاص إنما يقع في الذي يلي «إلا».

ولكن استعمال هذا النوع ـ أعني تقديمها ـ قليل ؛ لاستلزامه قصر الصفة قبل تمامها ، كالضرب الصادر من زيد في «ما ضرب زيد إلا عمرا» والضرب الواقع على عمرو في «ما ضرب عمرا إلا زيد».

وقيل : إذا أخّر المقصور عليه والمقصور عن «إلا» وقدّم المرفوع ، كقولنا : «ما ضرب إلا عمرو زيدا» فهو على كلامين ، و «زيدا» منصوب بفعل مضمر ، فكأنه قيل : «ما ضرب إلا عمرو» أي ما وقع ضرب إلا منه ، ثم قيل : «من ضرب؟» فقيل : «زيدا» أي ضرب زيدا.

وفيه نظر ؛ لاقتضائه الحصر في الفاعل والمفعول جميعا.

وأما في «إنما» فيؤخّر المقصور عليه ، تقول : «إنما زيد قائم» ، و «إنما ضرب زيد» و «إنما ضرب زيد عمرا» و «إنما ضرب زيد عمرا يوم الجمعة» و «إنما ضرب زيد عمرا يوم الجمعة في السّوق» أي : ما زيد إلا قائم ، وما ضرب إلا زيد ، وما ضرب زيد إلا عمرا ، وما ضرب زيد عمرا إلا يوم الجمعة ، وما ضرب زيد عمرا يوم الجمعة إلا في السّوق ، فالواقع أخيرا هو المقصور عليه أبدا ؛ ولذلك تقول : «إنّما هذا لك ، وإنّما لك هذا» أي : ما هذا إلّا لك ، وما لك إلّا هذا ، حتى إذا أردت الجمع بين «إنما» والعطف فقل : «إنّما هذا لك ، لا لغيرك» و «إنما لك هذا ، لا ذاك» و «إنما أخذ زيد ، لا عمرو» و «إنما زيد يأخذ ، لا يعطي» ومن هذا تعثر على الفرق بين قوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : الآية ٢٨] وقولنا : «إنما يخشى العلماء من عباد الله الله» فإن الأول يقتضي قصر خشية الله على العلماء ، والثاني يقتضي قصر خشية العلماء على الله.

واعلم أن حكم «غير» حكم «إلّا» في إفادة القصرين ـ أي قصر الموصوف على الصفة ، وقصر الصفة على الموصوف ـ وفي امتناع مجامعة «لا» العاطفة ، تقول في قصر الموصوف إفرادا : «ما زيد غير شاعر» وقلبا : «ما زيد غير قائم» وفي قصر الصفة بالاعتبارين بحسب المقام «لا شاعر غير زيد» ولا تقول «ما زيد غير شاعر لا كاتب» ولا «لا شاعر غير زيد لا عمرو».

١٠٧

القول في الإنشاء

الإنشاء ضربان : طلب ، وغير طلب.

والطلب يستدعي مطلوبا غير حاصل وقت الطلب ؛ لامتناع تحصيل الحاصل ، وهو المقصود بالنظر هاهنا.

وأنواعه كثيرة ، منها التمنّي ، واللفظ الموضوع له «ليت». ولا يشترط في التمني الإمكان ، تقول : ليت زيدا يجيء ، وليت الشباب يعود ، قال الشاعر : [العجاج]

يا ليت أيام الصّبا رواجعا (١)

وقد يتمنى بـ «هل» كقول القائل : «هل لي من شفيع؟» في مكان يعلم أنه لا شفيع له ، لإبراز المتمنّى ـ لكمال العناية به ـ في صورة الممكن ، وعلى قوله حكاية عن الكفار : (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا) [الأعراف : الآية ٥٣]؟.

وقد يتمنى بـ «لو» كقولك : «لو تأتيني فتحدّثني» بالنصب.

قال السّكاكي : وكأن حروف التّنديم والتحضيض ـ وهي : «هلّا» و «ألّا» بقلب الهاء همزة و «لولا» و «لوما» ـ مأخوذة منهما مركبتين مع «لا» و «ما» المزيدتين ؛ لتضمينهما معنى التمني ؛ ليتولّد منه في الماضي التنديم نحو «هلّا أكرمت زيدا» وفي المضارع التحضيض ، نحو «هلّا تقوم».

وقد يتمنّى بـ «لعلّ» فتعطى حكم «ليت» نحو «لعلّي أحجّ فأزورك» بالنصب ، لبعد المرجوّ عن الحصول ، وعليه قراءة عاصم في رواية حفص : (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) [غافر : الآيتان : ٣٦ ، ٣٧] بالنصب.

ومنها الاستفهام ، والألفاظ الموضوعة له : الهمزة ، و «هل» و «ما» ، و «من» و «أي» و «كم» و «كيف» و «أين» و «أنّى» و «متى» و «أيّان».

فالهمزة لطلب التصديق ، كقولك : «أقام زيد؟» و «أزيد قائم» أو التصوّر ، كقولك :

__________________

(١) الرجز لرؤبة في شرح المفصل ١ / ١٠٤ ، وليس في ديوانه ، وللعجاج في ملحق ديوانه ٢ / ٣٠٦ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٦٩٠ ، وتاج العروس (ليت) ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٤ / ٢٦٢ ، والجنى الداني ص ٤٩٢ ، وجواهر الأدب ص ٣٥٨ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٢٣٤ ، ٢٣٥ ، والدرر ٢ / ١٧٠ ، ورصف المباني ص ٢٩٨ ، وشرح الأشموني ١ / ١٣٥ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٤٣٤ ، وشرح المفصل ١ / ١٠٤ ، والكتاب ٢ / ١٤٢ ، ومغني اللبيب ١ / ٢٨٥ ، وهمع الهوامع ١ / ١٣٤ ، ولسان العرب (ليت).

١٠٨

«أدبس في الإناء أم عسل؟» و «أفي الخابية دبسك أم في الزّقّ» ولهذا لم يقبح «أزيد قائم؟» و «أعمرا عرفت؟».

والمسؤول عنه بها هو ما يليها ؛ فتقول : «أضربت زيدا؟» إذا كان الشّكّ في الفعل نفسه ، وأردت بالاستفهام أن تعلم وجوده ، وتقول : «أأنت ضربت زيدا؟» إذا كان الشكّ في الفاعل : من هو؟ وتقول : «أزيدا ضربت؟» إذا كان الشكّ في المفعول : من هو؟.

و «هل» لطلب التصديق فحسب ، كقولك : «هل قام زيد؟» و «هل عمرو قاعد؟» وهذا امتنع : «هل زيد قام أم عمرو؟» وقبح : «هل زيدا ضربت؟» لما سبق أنّ التقديم يستدعي حصول التصديق بنفس الفعل ، والشكّ فيما قدّم عليه ، ولم يقبح : «هل زيدا ضربته؟» لجواز تقدير المحذوف المفسّر مقدّما كما مرّ.

وجعل السكاكيّ قبح نحو «هل رجل عرف؟» لذلك ، أي لما قبح له «هل زيدا ضربت؟» ويلزمه أن لا يقبح نحو «هل زيد عرف؟» لامتناع تقدير التقديم والتأخير فيه عنده على ما سبق.

وعلّل غيره القبح فيهما بأن أصل «هل» أن تكون بمعنى «قد» إلّا أنهم تركوا الهمزة قبلها لكثرة وقوعها في الاستفهام.

و «هل» تخصّص المضارع بالاستقبال ، فلا يصح أن يقال : «هل تضرب زيدا وهو أخوك» كما تقول : «أتضرب زيدا وهو أخوك؟» ولهذين ـ أعني اختصاصها بالتصديق ، وتخصيصها المضارع بالاستقبال ـ كان لها مزيد اختصاص بما كونه زمانيّا أظهر ، كالفعل.

أما الثاني فظاهر ، وأما الأول فلأن الفعل لا يكون إلا صفة والتصديق حكم بالثبوت أو الانتفاء ، والنفي والإثبات إنما يتوجّهان إلى الصفات لا الذوات ؛ ولهذا كان قوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) [الأنبياء : الآية ٨٠] أدلّ على طلب الشكر من قولنا : «فهل تشكرون؟» وقولنا : «فهل أنتم تشكرون» لأن إبراز ما سيتجدد في معرض الثابت أدلّ على كمال العناية بحصوله من إبقائه على أصله ، وكذا من قولنا : «أفأنتم شاكرون؟» وإن كان صيغته للثبوت ، لأن «هل» أدعى للفعل من الهمزة ، فتركه معه أدلّ على كمال العناية بحصوله ، ولهذا لا يحسن «هل زيد منطلق؟» إلا من البليغ.

وهي قسمان : بسيطة ، وهي التي يطلب بها وجود الشيء ، كقولنا : «هل الحركة موجودة؟» ومركّبة وهي التي يطلب بها وجود شيء لشيء ، كقولنا : «هل الحركة دائمة؟».

والألفاظ الباقية لطلب التصور فقط ...

١٠٩

أما «ما» فقيل : يطلب به إما شرح الاسم ، كقولنا : «ما العنقاء؟» وإما ماهيّة المسمّى ، كقولنا : «ما الحركة؟» والقسم الأول يتقدم على قسمي «هل» جميعا ، والثاني يتقدم على «هل» المركبة دون البسيطة ، فالبسيطة في الترتيب واقعة بين قسمي «ما».

وقال السكاكي : يسأل بـ «ما» عن الجنس ، تقول : «ما عندك» أي : أيّ أجناس الأشياء عندك؟ وجوابه : إنسان ، أو فرس ، أو كتاب ، أو نحو ذلك ، وكذلك تقول : «ما الكلمة؟ وما الكلام؟» وفي التنزيل : (فَما خَطْبُكُمْ) [الحجر : الآية ٥٧]؟ أي : أيّ أجناس الخطوب خطبكم ، وفيه : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) [البقرة : الآية ١٣٣] أي : أيّ من في الوجود تؤثرونه للعبادة؟.

أو عن الوصف ، تقول : «ما زيد؟ وما عمرو؟» وجوابه : الكريم ، أو الفاضل ، ونحوهما.

وسؤال فرعون : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) [الشّعراء : الآية ٢٣]؟ إما عن الجنس ؛ لاعتقاده ـ لجهله بالله تعالى ـ أن لا موجود مستقلا بنفسه سوى الأجسام ، كأنه قال : أيّ أجناس الأجسام هو؟ ، وعلى هذا جواب موسى عليه السّلام بالوصف ؛ للتنبيه على النظر المؤدّي إلى معرفته ، لكن لما لم يطابق السؤال عند فرعون عجّب الجهلة الذين حوله من قول موسى بقوله لهم : (أَلا تَسْتَمِعُونَ) [الشّعراء : الآية ٢٥]؟ ثم لما وجده مصرّا على الجواب بالوصف إذ قال في المرة الثانية : (قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) (٢٦) [الشّعراء : الآية ٢٦] ؛ استهزأ به وجنّنه ، بقوله : (قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) (٢٧) [الشّعراء : الآية ٢٧] وحين رآهم موسى عليه السّلام لم يفطنوا لذلك في المرّتين غلّظ عليهم في الثالثة بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) [آل عمران : الآية ١١٨]. وإما عن الوصف طمعا في أن يسلك موسى عليه السّلام في الجواب معه مسلك الحاضرين لو كانوا هم المسؤولين مكانه ؛ لشهرته بينهم بربّ العالمين ، إلى درجة دعت السّحرة إذ عرفوا الحق أن أعقبوا قولهم : (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) [الشّعراء : الآية ٤٧] قولهم : (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) (٤٨) [الشّعراء : الآية ٤٨] نفيا لاتّهامهم أن عنوه ، جهله بحال موسى إذ لم يكن جمعهما قبل ذلك مجلس ، بدليل (أنه) قال : (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) [الشّعراء : الآية ٣٠](قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٣١) [الشّعراء : الآية ٣١] فحين سمع الجواب تعدّاه وتعجب واستهزأ ، وجنّن ، وتفيهق بما تفيهق من قوله : (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) [الشّعراء : الآية ٢٩].

وأما «من» فقال السكاكيّ : هو للسؤال عن الجنس من ذوي العلم ، تقول : من جبريل؟ بمعنى : أبشر هو أم ملك أم جنّيّ ، وكذا : من إبليس؟ ومن فلان؟ ومنه قوله

١١٠

تعالى حكاية عن فرعون : (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) (٤٩) [طه : الآية ٤٩]؟ أي : أملك هو أم بشر أم جنّيّ؟ منكرا لأن يكون لهما ربّ سواه ؛ لادّعائه الرّبّوبيّة لنفسه ، ذاهبا في سؤاله هذا إلى معنى : ألكما ربّ سواي؟ فأجاب موسى عليه السّلام بقول : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : الآية ٥٠] كأنه قال : نعم لنا ربّ سواك ، هو الصانع الذي إذا سلكت الطريق الذي بيّن بإيجاده لما أوجد ، وتقديره إيّاه على ما قدّر ، واتّبعت فيه الخرّيت الماهر ، وهو العقل الهادي عن الضلال ؛ لزمك الاعتراف بكونه ربّا ، وأن لا ربّ سواه ، وأن العبادة له مني ومنك ومن الخلق أجمع حقّ لا مدفع له.

وقيل : هو للسؤال عن العارض المشخّص لذي العلم ، وهذا أظهر ؛ لأنه إذا قيل : «من فلان؟ يجاب بـ «زيد» ونحوه مما يفيد التشخيص ، ولا نسلّم صحة الجواب بنحو «بشر» أو «جنّيّ» كما زعم السكّاكيّ.

أما «أيّ» فللسؤال عما يميز أحد المتشاركين في أمر يعمهما ، يقول القائل : عندي ثياب ، فتقول : أيّ الثياب هي؟ فتطلب منه وصفا يميزها عندك عما يشاركها في الثوبيّة ، وفي التنزيل : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) [مريم : الآية ٧٣] أي : أنحن أم أصحاب محمد عليه السّلام؟ وفيه : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها) [النّمل : الآية ٣٨] أي : الإنسيّ أم الجني؟.

وأما «كم» فللسؤال عن العدد ، وإذا قلت : كم درهما لك؟ وكم رجلا رأيت؟ فكأنك قلت : أعشرون أم ثلاثون أم كذا أم كذا ، وتقول : كم دراهمك وكم مالك؟ أي : كم دانقا؟ أو كم دينارا؟ وكم ثوبك؟ أي : كم شبرا؟ أو كم ذراعا؟ وكم زيد ماكث؟ أي : كم يوما؟ أو كم شهرا؟ وكم رأيتك؟ أي : كم مرّة؟ وكم سرت ؛ أي كم فرسخا؟ أو كم يوما؟ قال الله تعالى : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ) [الكهف : الآية ١٩] أي كم يوما ، أو كم ساعة؟ وقال : (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ) [المؤمنون : الآية ١١٢] ، وقال : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) [البقرة : الآية ٢١١] ، ومنه قول الفرزدق :

كم عمّة لك يا جرير وخالة

فدعاء قد حلبت عليّ عشاري (١)

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو للفرزدق في ديوانه ١ / ٣٦١ ، والأشباه والنظائر ٨ / ١٢٣ ، وأوضح المسالك ٤ / ٢٧١ ، وخزانة الأدب ٦ / ٤٥٨ ، والدرر ٤ / ٤٥ ، وشرح التصريح ٢ / ٢٨٠ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٥١١ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٥٣٦ ، وشرح المفصل ٤ / ١٣٣ ، والكتاب ٢ / ٧٢ ، ولسان العرب (عشر) ، واللمع ص ٢٢٨ ، ومغني اللبيب ١ / ١٨٥ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٨٩ ، وبلا نسبة في سر صناعة الإعراب ١ / ٣٣١ ، وشرح الأشموني ١ / ٩٨ ، وشرح ابن عقيل ص ١١٦ ، ولسان العرب (كمم) ، والمقتضب ٣ / ٥٨ ، والمقرب ١ / ٣١٢ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٥٤.

١١١

فيمن روى بالنصب ، وعلى رواية الرفع تحتمل الاستفهامية والخبرية.

وأما «كيف» فللسؤال عن الحال ، إذا قيل : كيف زيد؟ فجوابه : صحيح أو سقيم ، أو مشغول ، أو فارغ ، ونحو ذلك.

وأما «أين» فللسؤال عن المكان ، إذا قيل : أين زيد؟ فجوابه : في الدار ، أو في المسجد ، أو في السوق ، ونحو ذلك.

وأما «أنّى» فتستعمل تارة بمعنى «كيف» قال الله تعالى : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) [البقرة : الآية ٢٢٣] أي : كيف شئتم ، وآخر بمعنى «من أين» قال الله تعالى : (أَنَّى لَكِ هذا) [آل عمران : الآية ٣٧]؟ أي : من أين لك؟.

وأما «متى» و «أيّان» فللسؤال عن الزمان ، إذا قيل : متى جئت؟ أو : أيّان جئت؟ قيل : يوم الجمعة ، أو يوم الخميس ، أو شهر كذا ، أو سنة كذا ، وعن علي بن عيسى الربعي : أن «أيّان» تستعمل في مواضع التفخيم كقوله تعالى : (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) (٦) [القيامة : الآية ٦] ، (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) (١٢) [الذّاريات : الآية ١٢].

ثم هذه الألفاظ كثيرا ما تستعمل في معان غير الاستفهام بحسب ما يناسب المقام.

منها الاستبطاء ، نحو : كم دعوتك؟ وعليه قوله تعالى : (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ) [البقرة : الآية ٢١٤]؟.

ومنها التعجّب ، نحو قوله : (ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) [النّمل : الآية ٢٠].

ومنها التنبيه على الضلال ، نحو : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) (٢٦) [التّكوير : الآية ٢٦].

ومنها الوعيد ، كقولك لمن يسيء الأدب : ألم أؤدّب فلانا؟ إذا كان عالما بذلك ، وعليه قوله تعالى : (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) (١٦) [المرسلات : الآية ١٦]؟.

ومنها الأمر ، نحو قوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [هود : الآية ١٤] ، ونحو : (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر : الآية ٤٠]؟.

ومنها التقرير ، ويشترط في الهمزة أن يليها المقرّر به ، كقولك : أفعلت؟ إذا أردت أن تقرره بأن الفعل كان منه ، وكذلك : أأنت فعلت؟ إذا أردت أن تقرّره بأنه الفاعل.

وذهب الشيخ عبد القاهر والسكاكي وغيرهما إلى أن قوله : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ) [الأنبياء : الآية ٦٢]؟ من هذا الضرب ، قال الشيخ : لم يقولوا ذلك له عليه السّلام وهم يريدون أن يقرّ لهم بأن كسر الأصنام قد كان ، ولكن أن يقرّ بأنه منه كان ، وكيف وقد أشاروا إلى الفعل في قولهم : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا) [الأنبياء : الآية ٦٢] وقال

١١٢

عليه السّلام : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) [الأنبياء : الآية ٦٣] ولو كان التقرير بالفعل في قولهم : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ) [الأنبياء : الآية ٦٢] لكان الجواب : «فعلت ، أو لم أفعل».

وفيه نظر ؛ لجواز أن تكون الهمزة فيه على أصلها ؛ إذ ليس في السياق ما يدلّ على أنهم كانوا عالمين بأنه عليه السّلام هو الذي كسر الأصنام.

وكقولك : «أزيدا ضربت» إذا أردت أن تقرّره بأن مضروبه زيد.

ومنها الإنكار : إما للتوبيخ ، بمعنى ما كان ينبغي أن يكون ، نحو : أعصيت ربك؟ أو بمعنى لا ينبغي أن يكون ، كقولك للرجل يضيّع الحقّ : أتنسى قديم إحسان فلان؟ وكقولك للرجل يركب الخطر : أتخرج في هذا الوقت؟ أتذهب في غير الطريق؟ والغرض بذلك تنبيه السامع حتى يرجع إلى نفسه ، فيخجل أو يرتدع عن فعل ما همّ به.

وإما للتكذيب بمعنى : «لم يكن» كقوله تعالى : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً) [الإسراء : الآية ٤٠] ، وقوله : (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) (١٥٣) [الصّافات : الآية ١٥٣] أو بمعنى «لا يكون» نحو : (أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) [طه : الآية ٢٨] وعليه قول امرىء القيس :

أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي

ومسنونة زرق كأنياب أغوال؟! (١)

فيمن روى : «أيقتلني؟» بالاستفهام ، وقول الآخر : [عمارة بن عقيل]

أأترك إن قلّت دراهم خالد

زيارته؟! إنّي إذا للئيم (٢)

والإنكار كالتقرير ، يشترط أن يلي المنكر الهمزة ، كقوله تعالى : (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) [الأنعام : الآية ٤٠] ، (أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) [الأنعام : الآية ١٤] ، (أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) [القمر : الآية ٢٤] وكقوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) [الزّخرف : الآيتان ٣١ ، ٣٢] أي ليسوا هم المتخيّرين للنبوة من يصلح لها ، المتولّين لقسمة رحمة الله التي لا يتولّاها إلا هو بباهر قدرته وبالغ حكمته.

وعدّ الزمخشري قوله : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس : الآية ٩٩] وقوله : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) [الزّخرف : الآية ٤٠] من هذا الضرب ، على أن

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ٣٣ ، ولسان العرب (غول) ، (شطن) ، وتهذيب اللغة ٨ / ١٩٣ ، وجمهرة اللغة ص ٩٦١ ، وتاج العروس (زرق) ، وبلا نسبة في المخصص ٨ / ١١١.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لعمارة بن عقيل في الكامل للمبرد ١ / ١٤٩.

١١٣

المعنى : أفأنت تقدر على إكراههم على الإيمان؟ أو أفأنت تقدر على هدايتهم على سبيل القسر والإلجاء؟ أي : إنما يقدر على ذلك الله ، لا أنت.

وحمل السكاكي تقديم الاسم في هذه الآيات الثلاث على البناء على الابتداء دون تقدير التقديم والتأخير ، كما مرّ في نحو : أنا ضربت ، فلا يفيد إلا تقوّي الإنكار.

ومن مجيء الهمزة للإنكار نحو قوله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) [الزّمر : الآية ٣٦] ، وقول جرير :

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح (١)

أي : الله كاف عبده ، وأنتم خير من ركب المطايا ؛ لأن نفي النفي إثبات ، وهذا مراد من قال : إن الهمزة فيه للتقرير ، أي للتقرير بما دخله النفي ، لا للتقرير بالانتفاء.

وإنكار الفعل مختص بصورة أخرى ، وهي نحو قولك : أزيدا ضربت أم عمرا؟ لمن يدّعي أنه ضرب إمّا زيدا وإمّا عمرا ، دون غيرهما ؛ لأنه إذا لم يتعلّق الفعل بأحدهما ، والتقدير أنه لم يتعلق بغيرهما ؛ فقد انتفى من أصله لا محالة.

وعليه قوله تعالى : (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) [الأنعام : الآية ١٤٣]؟ أخرج اللفظ مخرجه إذ كان قد ثبت تحريم في أحد الأشياء ، ثم أريد معرفة عين المحرّم ، مع أن المراد إنكار التحريم من أصله.

وكذا قوله : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) [يونس : الآية ٥٩]؟ إذ معلوم أن المعنى على إنكار أن يكون قد كان من الله تعالى إذن فيما قالوه ، من غير أن يكون هذا الإذن قد كان من غير الله ، فأضافوه إلى الله ، إلا أن اللفظ أخرج مخرجه إذا كان الأمر كذلك ؛ ليكون أشدّ لنفي ذلك وإبطاله ، فإنه إذا نفي الفعل عما جعل فاعلا له في الكلام ولا فاعل له غيره ، لزم نفيه من أصله.

قال السكاكي رحمه الله : وإياك أن يزول عن خاطرك التفصيل الذي سبق في نحو : أنا ضربت ، وأنت ضربت ، وهو ضرب ؛ من احتمال الابتداء ، واحتمال التقديم ، وتفاوت المعنى في الوجهين ؛ فلا تحمل نحو قوله تعالى : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) [يونس : الآية ٥٩]؟ على التقديم ؛ فليس المراد أن الإذن ينكر من الله دون غيره ، ولكن احمله على الابتداء ، مرادا منه تقوية حكم الإنكار.

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو لجرير في ديوانه ص ٨٥ ، ٨٩ ، والجنى الداني ص ٣٢ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٢ ، ولسان العرب (نقص) ، ومغني اللبيب ١ / ١٧ ، وبلا نسبة في الخصائص ٢ / ٤٦٣ ، ٣ / ٢٦٩ ، ورصف المباني ص ٤٦ ، وشرح المفصل ٨ / ١٢٣ ، والمقتضب ٣ / ٢٩٢.

١١٤

وفيه نظر ؛ لأنه إن أراد أن نحو هذا التركيب ـ أعني ما يكون الاسم الذي يلي الهمزة فيه مظهرا ـ لا يفيد توجّه الإنكار إلى كونه فاعلا للفعل الذي بعده ، فهو ممنوع ، وإن أراد أنه يفيد ذلك إن قدّر تقديم وتأخير وإلا فلا ـ على ما ذهب إليه فيما سبق ـ فهذه الصورة مما منع هو ذلك فيه على ما تقدم.

لا يقال : قد يلي الهمزة غير المنكر في غير ما ذكرتم ، كما في قوله : [امرؤ القيس]

أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي؟! (١)

فإن معناه أنه ليس بالذي يجيء منه أن يقتل مثلي ؛ بدليل قوله :

يغطّ غطيط البكر شدّ خناقه

ليقتلني ، والمرء ليس بقتّال (٢)

لأنا نقول : ليس ذلك معناه ، لأنه قال : والمشرفي مضاجعي ، فذكر ما يكون منعا من الفعل ، والمنع إنما يحتاج إليه مع من يتصوّر صدور الفعل منه دون من يكون في نفسه عاجزا عنه.

ومنها التهكم ، نحو : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) [هود : الآية ٨٧].

ومنها التحقير ، كقولك : من هذا؟ وما هذا؟

ومنها التهويل ، كقراءة ابن عباس رضي الله عنهما : (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ) [الدّخان : الآيتان ٣٠ ، ٣١]؟ بلفظ الاستفهام ، لما وصف الله تعالى العذاب بأنه معين لشدته وفظاعة شأنه ؛ أراد أن يصوّر كنهه ، قال : (مِنْ فِرْعَوْنَ) [يونس : الآية ٨٣] أي : أتعرفون من هو في فرط عتوّه وتجبّره؟ ما ظنّكم بعذاب يكون هو المعذّب به؟ ثم عرّف حاله بقوله : (إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) [الدّخان : الآية ٣١].

ومنها الاستبعاد ، نحو : (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) (١٤) [الدّخان : الآيتان ١٣ ، ١٤].

ومنها التوبيخ والتّعجيب جميعا ، كقوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً

__________________

(١) تقدم البيت بتمامه مع تخريجه قبل قليل.

(٢) يروى صدر البيت بلفظ :

يكرّ كرير البكر شدّ خناقه

والبيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ٣٣ ، ولسان العرب (كرر) ، وجمهرة اللغة ص ١٤٩ ، وتاج العروس (غطط) ، وأساس البلاغة (غطط) ، وبلا نسبة في تاج العروس (كرر).

١١٥

فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٨) [البقرة : الآية ٢٨] أي : كيف تكفرون ، والحال أنكم عالمون بهذه القصة.

أما التوبيخ ؛ فلأن الكفر مع هذه الحال ينبىء عن الانهماك في الغفلة أو الجهل.

وأما التعجب ؛ فلأن هذه الحال تأبى أن لا يكون للعاقل علم الصانع وعلمه به يأبى أن يكفر ، وصدور الفعل مع الصارف القوي مظنة تعجّب.

ونظيره : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) [البقرة : الآية ٤٤].

ومن أنواع الإنشاء الأمر ، والأظهر أن صيغته ـ من المقترنة باللام نحو : ليحضر زيد ، وغيرها نحو : أكرم عمرا ، ورويد بكرا ـ موضوعة لطلب الفعل استعلاء ؛ لتبادر الذهن عند سماعها إلى ذلك ، وتوقف ما سواه على القرينة.

قال السكاكي : ولإطباق أئمة اللغة على إضافتها إلى الأمر بقولهم : صيغة الأمر ، ومثال الأمر ، ولام الأمر ، وفيه نظر لا يخفى على المتأمل.

ثم إنها ـ أعني صيغة الأمر ـ قد تستعمل في غير طلب الفعل بحسب مناسبة المقام ، كالإباحة كقولك في مقام الإذن : جالس الحسن أو ابن سيرين.

ومن أحسن ما جاء فيه قول كثيّر : [بن عبد الرحمن «عزّة»]

أسيئي بنا أو أحسني ، لا ملومة

لدينا ، ولا مقليّة إن تقلّت (١)

أي : لا أنت ملومة ولا مقليّة.

ووجه حسنه إظهار الرّضا بوقوع الداخل تحت لفظ الأمر حتى كأنه مطلوب ، أي : مهما اخترت في حقّي من الإساءة والإحسان فأنا راض به غاية الرّضا ، فعامليني بهما ، وانظري : هل تتفاوت حالي معك في الحالين؟

والتهديد ، كقولك لعبد شتم مولاه وقد أدّبه : أشتم مولاك ، وعليه : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصّلت : الآية ٤٠].

والتعجيز ، كقولك لمن يدّعي أمرا تعتقد أنه ليس في وسعه : افعله ، وعليه (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : الآية ٢٣].

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لكثير عزة في ديوانه ص ١٠١ ، ولسان العرب (سوأ) ، (حسن) ، (قلا) ، والتنبيه والإيضاح ١ / ٢١ ، وتهذيب اللغة ٤ / ٣١٨ ، والأغاني ٩ / ٣٨ ، وأمالي القالي ٢ / ١٠٩ ، وتزيين الأسواق ١ / ١٢٤ ، وتاج العروس (سوأ) ، (قلي).

١١٦

والتسخير ، نحو : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) [الأعراف : الآية ١٦٦].

والإهانة ، نحو : (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) (٥٠) [الإسراء : الآية ٥٠] ، وقوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (٤٩) [الدّخان : الآية ٤٩].

والتسوية ، كقوله : (أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) [التّوبة : الآية ٥٣] ، وقوله : (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا) [الطّور : الآية ١٦].

والتمنّي ، كقول امرىء القيس :

ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلي (١)

والدعاء ، إذا استعملت في طلب الفعل على سبيل التضرّع ، نحو : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) [نوح : الآية ٢٨].

والالتماس ، إذا استعملت فيه على سبيل التلطّف ، كقولك لمن يساويك في الرتبة : «افعل» بدون الاستعلاء.

والاحتقار ، نحو : (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) [يونس : الآية ٨٠].

ثم الأمر ، قال السكاكي : حقّه الفور ؛ لأنه الظاهر من الطلب ، ولتبادر الفهم عند الأمر بشيء بعد الأمر بخلافه إلى تغيير الأمر الأول دون الجمع وإرادة التّراخي ، والحقّ خلافه ؛ لما تبيّن في أصول الفقه.

ومنها النّهي ، وله حرف واحد ، وهو «لا» الجازمة في قولك : «لا تفعل» وهو كالأمر في الاستعلاء.

وقد يستعمل في غير طلب الكفّ أو التّرك ، كالتهديد ، كقولك لعبد لا يمتثل أمرك : لا تمتثل أمري.

واعلم أن هذه الأربعة ـ أعني التمنّي ، والاستفهام ، والأمر ، والنّهي ـ تشترك في كونها قرينة دالّة على تقدير الشرط بعدها ، كقولك : ليت لي مالا أنفقه ، أي : إن أرزقه ، وقولك : أين بيتك أزرك ، أي : إن تعرّفنيه ، وقولك : أكرمني أكرمك ، أي : إن تكرمني.

__________________

(١) عجز البيت :

بصبح وما الإصباح منك بأمثل

والبيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ١٨ ، والأزهية ص ٢٧١ ، وخزانة الأدب ٢ / ٣٢٦ ، ٣٢٧ ، وسر صناعة الإعراب ٢ / ٥١٣ ، ولسان العرب (شلل) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣١٧ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٤ / ٩٣ ، وجواهر الأدب ص ٧٨ ، ورصف المباني ص ٧٩ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٩٣.

١١٧

قال الله تعالى : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي) [مريم : الآية ٥] بالجزم ، فأما قراءة الرفع فقد حملها الزمخشري على الوصف ، وقال السكاكي : الأولى حملها على الاستئناف دون الوصف ؛ لهلاك يحيى قبل زكريا عليهما السّلام ، وأراد بالاستئناف أن يكون جواب سؤال مقدّر تضمنه ما قبله ، فكأنه لما قال : فهب لي وليا ، قيل : ما تصنع به؟ فقال : «يرثني» فلم يكن داخلا في المطلوب بالدعاء ، وقولك : لا تشتم يكن خيرا لك ، أي : إن لا تشتم.

وأما العرض ، كقولك لمن تراه لا ينزل : ألا تنزل تصب خيرا ، أي : إن تنزل ؛ فمولّد من الاستفهام ، وليس به ؛ لأن التقدير أنه لا ينزل ، فالاستفهام عن عدم النزول طلب للحاصل ، وهو محال.

وتقدير الشرط في غير هذه المواضع لقرينة جائز أيضا ، كقوله تعالى : (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) [الشّورى : الآية ٩] أي : إن أرادوا وليا بالحق فالله هو الوليّ بالحق لا وليّ سواه ، وقوله : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ) [المؤمنون : الآية ٩١] أي : لو كان معه إله إذن لذهب.

ومنها النداء ، وقد تستعمل صيغته في غير معناه ، كالإغراء في قولك لمن أقبل يتظلم : يا مظلوم ، والاختصاص في قولهم : أنا أفعل كذا أيها الرجل ، ونحن نفعل كذا أيّها القوم ، واغفر اللهمّ لنا أيتها العصابة. أي : متخصصا من بين الرجال ، ومتخصصين من بين الأقوام والعصائب.

ثم الخبر يقع موقع الإنشاء ، إما للتفاؤل ، أو لإظهار الحرص في وقوعه كما مرّ ، والدعاء بصيغة الماضي من البليغ يحتمل الوجهين ، أو للاحتراز عن صورة الأمر ، كقول العبد للمولى إذا حوّل عنه وجهه : ينظر المولى إليّ ساعة ، أو لحمل المخاطب على المطلوب ، بأن يكون المخاطب ممّن لا يحبّ أن يكذّب الطالب ، أو لنحو ذلك.

تنبيه : ما ذكرناه في الأبواب الخمسة السابقة ليس كله مختصا بالخبر ، بل كثير منه حكم الإنشاء فيه حكم الخبر ، يظهر ذلك بأدنى تأمّل ، فليعتبره الناظر.

القول في الوصل والفصل

الوصل عطف بعض الجمل على بعض ، والفصل تركه.

وتمييز موضع أحدهما من موضع الآخر على ما تقتضيه البلاغة فنّ منها عظيم الخطر ، صعب المسلك ، دقيق المأخذ ، لا يعرفه على وجهه ، ولا يحيط علما بكنه : إلا من أوتي فهم كلام العرب طبعا سليما ، ورزق في إدراك أسراره ذوقا صحيحا ، ولهذا

١١٨

قصر بعض العلماء البلاغة على معرفة الفصل من الوصل ، وما قصرها عليه لأن الأمر كذلك ، وإنما حاول بذلك التنبيه على مزيد غموضه ، وأن أحدا لا يكمل فيه إلا كمل في سائر فنونها ؛ فوجب الاعتناء بتحقيقه على أبلغ وجه في البيان ، فنقول والله المستعان :

إذا أتت جملة بعد جملة ؛ فالأولى منهما ؛ إما أن يكون لها محلّ من الإعراب أو لا.

وعلى الأول إن قصد التشريك بينهما وبين الثانية في حكم الاعراب عطفت عليها ، وهذا كعطف المفرد على المفرد ؛ لأن الجملة لا يكون لها محلّ من الإعراب حتى تكون واقعة موقع المفرد ، فكما يشترط في كون العطف بالواو ونحوه مقبولا في المفرد أن يكون بين المعطوف والمعطوف عليه جهة جامعة ، كما في قوله تعالى : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها) [سبأ : الآية ٢] ؛ يشترط في كون العطف بالواو ونحوه مقبولا في الجملة ذلك ، كقولك : زيد يكتب ويشعر ، أو يعطي ويمنع ، وعليه قوله تعالى : (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة : الآية ٢٤٥] ولهذا عيب على أبي تمام قوله :

لا والّذي هو عالم أنّ النّوى

صبر ، وأنّ أبا الحسين كريم (١)

إذ لا مناسبة بين كرم أبي الحسين ومرارة النّوى ، ولا تعلّق لأحدهما بالآخر.

وإن لم يقصد ذلك ترك عطفها عليها ، كقوله تعالى : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٥) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : الآيتان : ١٤ ، ١٥]. ولم يعطف (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) على (إِنَّا مَعَكُمْ) لأنه لو عطف عليه لكان من مقول المنافقين ، وليس منه ، وكذا قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) (١٢) [البقرة : الآيتان ١١ ، ١٢] وكذا قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) (١٣) [البقرة : الآية ١٣].

وعلى الثاني إن قصد بيان ارتباط الثانية بالأولى على معنى بعض حروف العطف سوى الواو ؛ عطفت عليها بذلك الحرف ، فتقول : «دخل زيد فخرج عمرو» إذا أردت أن تخبر أنّ خروج عمرو كان بعد دخول زيد من غير مهلة ، وتقول : «خرجت ثمّ خرج زيد» إذا أردت أن تخبر أن خروج زيد كان بعد خروجك بمهلة ، وتقول : «يعطيك زيد دينارا ،

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو في ديوان أبي تمام ٣ / ٢٩٠ ، ودلائل الإعجاز ص ١٧٣ ، ومعاهد التنصيص ١ / ٩١ ، ونهاية الإيجاز ص ٣٢٣ ، وعقود الجمان ص ١٧٣.

١١٩

أو يكسوك جبّة» إذا أردت أن تخبر أنه يفعل واحد منهما لا بعينه ، وعليه قوله تعالى : (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) [النّمل : الآية ٢٧].

وإن لم يقصد ذلك ؛ فإن كان للأولى حكم لم يقصد إعطاؤه للثانية ، تعيّن الفصل ، كقوله تعالى : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٥) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : الآيتان ١٤ ، ١٥] لم يعطف (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) على «قالوا» لئلا يشاركه في الاختصاص بالظرف المقدّم ، وهو قوله : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) فإن استهزاء الله تعالى بهم ـ وهو أن خذلهم ، فخلّاهم وما سوّلت لهم أنفسهم ، مستدرجا إياهم من حيث لا يشعرون ـ متصل لا ينقطع بكل حال : خلوا إلى شياطينهم ، أم لم يخلوا إليهم ، وكذلك في الآيتين الأخيرتين فإنهم مفسدون في جميع الأحيان ، قيل لهم : لا تفسدوا ، أو لا ، وسفهاء في جميع الأوقات ، قيل لهم : آمنوا ، أو لا.

وإن لم يكن للأولى حكم كما سبق ، فإن كان بين الجملتين كمال الانقطاع ، وليس في الفصل إبهام خلاف المقصود كما سيأتي ، أو كمال الاتّصال ، أو كانت الثانية بمنزلة المنقطعة عن الأولى ، أو بمنزلة المتصلة بها ، فكذلك يتعين الفصل.

أما في الصورة الأولى ؛ فلأن الواو للجمع ، والجمع بين الشيئين يقتضي مناسبة بينهما كما مرّ.

أما في الثانية ، فلأن العطف فيها بمنزلة عطف الشيء على نفسه ، مع أن العطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه.

وأما في الثالثة والرابعة ، فظاهر مما مرّ.

وأما كمال الانقطاع ؛ فيكون لأمر يرجع إلى الإسناد ، أو إلى طرفيه.

الأول : أن تختلف الجملتان خبرا وإنشاء ، ولفظا ومعنى ، كقولهم : لا تدن من الأسد يأكلك ، وهل تصلح لي كذا أدفع إليك الأجرة؟ بالرفع فيهما ، وقول الشاعر : [الأخطل ، غياث بن غوث التغلبي]

وقال رائدهم ؛ أرسوا نزاولها

فكلّ حتف امرىء يجري بمقدار (١)

أو معنى لا لفظا ، كقولك : مات فلان رحمه الله.

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو للأخطل في خزانة الأدب ٩ / ٨٧ ، والكتاب ٣ / ٩٦ ، ومعاهد التنصيص ١ / ٢٧١ ، والمفتاح ص ٢٦٩ ، وشرح عقود الجمان ١ / ٢٠٢ ، والمصباح ص ٦٤ ، وبلا نسبة في شرح المفصل ٧ / ٥١.

١٢٠