معجم المصطلحات البلاغيّة وتطوّرها

الدكتور أحمد مطلوب

معجم المصطلحات البلاغيّة وتطوّرها

المؤلف:

الدكتور أحمد مطلوب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة لبنان ناشرون
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٥

المسيح ، ثم استطرد الرد على العرب الزاعمين بنوّة الملائكة» (١).

وهذا يدل على أنّ لأسلوب الاستطراد أمثلة في كتاب الله الخالد غير ما ذكر المصري. وقال المظفر العلوي : «ومعنى الاستطراد خروج الشاعر من ذم الى مدح أو من مدح الى ذم» (٢) ، كقول زهير :

إنّ البخيل ملوم حيث كان ولكنّ

الجواد على علّاته هرم

وأشار القرطاجني الى الفرق بين الاستطراد والتخلص بقوله : «وأهل البديع يسمون ما كان الخروج فيه بتدرج تخلصا ، وما لم يكن بتدرج ولا هجوم ولكن بانعطاف طارى على جهة من الالتفات استطرادا» (٣) ، كقول حسان بن ثابت :

إن كنت كاذبة الذي حدّثتني

فنجوت منجى الحارث بن هشام

ولا يرى المدني ذلك استطرادا وانما هو تخلص لأنّ «الاستطراد يشترط فيه العود الى الكلام الأول كما تقدم ، وحسان لم يعد الى ما كان عليه من ذكر العاذلة بل أتم القصيدة مستمرا على ذكر هزيمة الحارث بن هشام والإيقاع بقومه في يوم بدر» (٤).

وذكر السيوطي أنّ مما يقترب من الاستطراد ولا يكاد ان يفترقان حسن التخلص ، وقال : «وقال بعضهم : الفرق بين التخلص والاستطراد أنّك في التخلص تركت ما كنت فيه بالكلية وأقبلت على ما تخلصت اليه. وفي الاستطراد تمر بذكر الأمر الذي استطردت اليه مرورا كالبرق الخاطف ثم تتركه وتعود الى ما كنت فيه كأنك لم تقصده وإنّما عرض عروضا.

قال : وبهذا يظهر أنّ ما في سورة الأعراف والشعراء من باب الاستطراد لا التخلص لعوده في الأعراف الى قصة موسى بقوله : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ ...) ، وفي الشعراء الى ذكر الانبياء والأمم» (٥). وقال العلوي : «هو أن يشرع المتكلم في شيء من فنون الكلام ثم يستمر عليه فيخرج الى غيره ثم يرجع الى ما كان عليه من قبل ، فان تمادى فهو الخروج وإن عاد فهو الاستطراد» (٦) ، وفرّق بين الأثنين الحموي والمدني (٧) ، ولكن قد يجتمع التخلص والاستطراد كما في قول مسلم :

أجدّك لا تدرين أن ربّ ليلة

كأنّ دجاها من قرونك تنشر

أرقت لها حتى تجلّت بغرّة

كغرة يحيى حين يذكر جعفر

وعرّف القزويني الاستطراد بقوله : «هو الانتقال من معنى الى معنى آخر متصل به لم يقصد بذكر الأول التوصل الى ذكر الثاني» (٨) ، وذكر السبكي والحموي والسيوطي هذا التعريف (٩) ، وعرفه الزركشي تعريفا غريبا فقال : «وهو التعريض بعيب انسان بذكر عيب غيره» (١٠) ، كقوله تعالى : (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ)(١١) ، ونقل ابن قيم الجوزية هذا التعريف والمثال وأضاف اليه بيتي السموأل السابقين (١٢). وذكر المدني بعض التعريفات السابقة ، وأشار الى ما بين الاستطراد والتخلص من فروق ، وذكر أمثلة من القرآن

__________________

(١) معترك ج ١ ص ٥٩.

(٢) نضرة الاغريض ص ١٠٧.

(٣) منهاج البلغاء ص ٣١٦.

(٤) أنوار الربيع ج ١ ص ٢٣٥.

(٥) معترك ج ١ ص ٦١.

(٦) الطراز ج ٣ ص ١٢.

(٧) خزانة ص ٤٤ ، انوار ص ٢٢٩.

(٨) الايضاح ص ٣٤٩.

(٩) عروس الافراح ج ٤ ص ٣١٥ ، خزانة ص ٤٤ ، شرح عقود الجمان ص ١٣٥ ، الروض المريع ص ٩٦ ، نفحات ص ١٥٠ ، التبيان في البيان ص ٣٢٠ ، شرح الكافية ص ٧٣.

(١٠) البرهان في علوم القرآن ج ٣ ص ٣٠٠.

(١١) ابراهيم ٤٥.

(١٢) الفوائد ص ١٣٥.

٨١

الكريم (١).

ومن أمثلة الاستطراد التي أعجبت المصري قول بكر بن النطاح :

عرضت عليها ما أرادت من المنى

لترضى فقالت قم فجئني بكوكب

فقلت لها هذا التعنت كلّه

كمن يتشهّى لحم عنقاء مغرب

سلي كلّ شيء يستقيم طلابه

ولا تذهبي يا بدر بي كلّ مذهب

فأقسم لو أصبحت في عز مالك

وقدرته أعيا بما رمت مطلبي

فتى شقيت أمواله بنواله

كما شقيت بكر بأرماح تغلب

قال : «وهذا أبدع استطراد سمعته في عمري ، فانه قد جمع أحسن قسم ، وأبدع تخلص ، وأرشق استطراد ، وتضمن مدح الممدوح بالكرم وقبيلته بالشجاعة والظفر وهجاء أعدائهم بالضعف والخور ، وهذا لم يتفق لمن قبله ولا لمن بعده الى وقتنا هذا» (٢).

الاستظهار :

الاستظهار من استظهر ، أي استعان ، واستظهر حفظ ، والاستظهار أيضا الاحتياط والاستيثاق (٣).

وقد ذكر ابن رشيق في باب الايغال فنا سمّاه الاستظهار ، قال : «ومن هذا نوع يسمّى الاستظهار ، وهو قول ابن المعتز لابن طباطبا العلوي أو غيره :

فأنتم بنو بنته دوننا

ونحن بنو عمه المسلم

فقوله : «المسلم» استظهار ؛ لان العلوية من بني عم النبي ـ عليه الصلاة والسّلام ـ أيضا أعني أبا طالب ومات جاهليا ، فكأن ابن المعتز أشار بحذقه الى ميراث الخلافة» (٤).

الاستعارة :

الاستعارة مأخوذة من العارية أي نقل الشيء من شخص الى آخر حتى تصبح تلك العارية من خصائص المعار اليه. والعارية والعارة : ما تداولوه بينهم ، وقد أعاره الشيء وأعاره منه وعاوره إياه. والمعاورة والتعاور شبه المداولة والتداول يكون بين اثنين.

وتعوّر واستعار : طلب العارية ، واستعاره الشيء واستعاره منه : طلب منه أن يعيره إياه (٥).

والاستعارة مجاز لغوي عند أكثر البلاغيين وإن كان عبد القاهر قد تردد فيها فجعلها مجازا عقليا مرة ومجازا لغويا تارة أخرى ، ففي «دلائل الإعجاز» يميل إلى أنّها مجاز عقلي أو هي من أبوابه (٦) ، ويذكر في الكتاب نفسه أنّها مجاز في نفس الكلمة (٧) اي مجاز لغوي ويؤكد ذلك ما ذكره في كتابه الآخر (٨) وقد أشار المتأخرون الى هذا التردد كالرازي الذي رأى أنّها مجاز لغوي (٩) ، والسكاكي الذي انكر المجاز العقلي وسلكه في الاستعارة المكنية (١٠) أي أنّ المجاز لغوي كله.

والاستعارة من أوائل فنون التعبير الجميلة في اللغة العربية ، ولعل أبا عمرو بن العلاء كان من أقدم الذين ذكروها ، فقد ذكر الحاتمي أنّ ابن العلاء قال : «كانت يدي في يد الفرزدق وأنشدته قول ذي الرمة :

__________________

(١) أنوار ج ١ ص ٢٢٨ وما بعدها.

(٢) تحرير ص ١٣١.

(٣) اللسان (ظهر).

(٤) العمدة ج ٢ ص ٦٠ ، وينظر المنزع البديع ص ٣٠٨ ، الروض المريع ص ١٥١.

(٥) اللسان (عور).

(٦) دلائل الاعجاز ص ٢٣٣.

(٧) دلائل الاعجاز ص ٢٣٢.

(٨) اسرار البلاغة ص ٢٩.

(٩) نهاية الايجاز ص ٨٤.

(١٠) مفتاح العلوم ص ١٨٩.

٨٢

أقامت به حتى ذوى العود في الثّرى

وساق الثريا في ملاءته الفجر

قال : فقال لي : أأرشدك أم أدعك؟ قلت : بل أرشدني.

فقال : إنّ العود لا يذوي أو يجف الثرى ، وانما الشعر : «حتى ذوى العود والثرى». ثم قال أبو عمرو : «ولا أعلم قولا أحسن من قوله : «وساق الثريا في ملاءته الفجر» فصيّر للفجر ملاءة ، ولا ملاءة له ، وانما استعار هذه اللفظة وهو من عجيب الاستعارات» (١).

وقال الباقلاني بعد أن ذكر بيت امرئ القيس :

وقد اغتدى والطير في وكناتها

بمنجرد قيد الأوابد هيكل

«واقتدى به الناس واتبعه الشعراء فقيل : «قيد النواظر» و «قيد الالحاظ» و «قيد الكلام» و «قيد الحديث» و «قيد الرهان». ثم قال : «وذكر الاصمعي وأبو عبيدة وحماد وقبلهم أبو عمرو أنّه أحسن في هذه اللفظة وأنّه أتبع فلم يلحق ، وذكروه في باب الاستعارة البليغة» (٢).

وقال سيبويه تعليقا على بيت عامر بن الأحوص :

وداهية من دواهي المنو

ن ترهبها الناس لافالها

«فجعل للداهية فما» (٣).

وأشار الفراء الى اسلوب الاستعارة ولكنه لم يسمها (٤) ، أما أبو عبيدة فقد سماها ، فهو في تعليقه على بيت الفرزدق :

لا قوم أكرم من تميم إذ عدت

عوذ النساء يسقن كالآجال

قال : «قوله : «عوذ النساء» هن اللاتي معهن أولادهن ، والأصل في «عوذ» الابل التي معها أولادها فنقلته العرب الى النساء. وهذا من المستعار ، وقد تفعل العرب ذلك كثيرا» (٥). وفي تعليقه على البيت :

لقد مدّ للقين الرهان فردّه

عن المجد عرق من فقيرة مقرف

قال : «وانما ضربه مثلا ههنا يريد أنّ أحد أبويه ليس بعربي ، والاصل للدواب فاستعاره للناس ، والعرب تفعل هذا» (٦).

ولكن هؤلاء العلماء لم يعرّفوا الاستعارة وإن ذكروها مصطلحا ومثالا ، ولعل الجاحظ أول من عرّفها بقوله : «الاستعارة تسمية الشيء باسم غيره إذا اقام مقامه» (٧) وسماها مثلا وبديعا عند تعليقه على بيت الأشهب بن رميلة :

هم ساعد الدهر الذي يتّقى به

وما خير كفّ لا تنوء بساعده

قال : «قوله : «هم ساعد» انما هو مثل ، وهذا الذي تسميه الرواة البديع» (٨) وهذه تسمية القدماء قال المظفر العلوي : «وكان القدماء يسمونها الامثال فيقولون : «فلان كثير الأمثال». ولقبها بالاستعارة ألزم ؛ لأنه أعمّ ؛ ولأنّ الامثال كلها تجري مجرى الاستعارة» (٩).

وسماها الجاحظ بدلا عند تعليقه على قوله تعالى : (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى)(١٠) وقال : «ولو كانوا لا يسمون انسيابها وانسياحها مشيا وسعيا لكان ذلك مما يجوز على التشبيه والبدل وإن قام الشيء مقام

__________________

(١) حلية المحاضرة ج ١ ص ١٣٦ ، وينظر العمدة ج ١ ص ٢٦٩ ، نضرة الاغريض ص ١٣٤ ، خزانة الأدب ص ٤٨ المنصف ص ٥٢ ، التبيان في البيان ص ١٨٥ ، شرح الكافية ص ١٢٦.

(٢) إعجاز القرآن ص ١٠٧ ، ١٠٨.

(٣) الكتاب ج ١ ص ٣١٦.

(٤) معاني القرآن ج ٢ ص ٩١ ، ١٥٦ ، ٢٦٣ ، وغيرها.

(٥) النقائض ج ١ ص ٢٧٥.

(٦) النقائض ج ٢ ص ٥٨٩.

(٧) البيان ج ١ ص ١٥٣ ـ ٢٨٤ ، الحيوان ج ٢ ص ٢٨٠ ـ ٢٨٣ ـ ٣٠٨.

(٨) البيان ج ٤ ص ٥٥.

(٩) نضرة الاغريض ص ١٣٣.

(١٠) طه ٢٠.

٨٣

الشيء أو مقام صاحبه» (١).

وقال ابن قتيبة : «فالعرب تستعير الكلمة فتضعها مكان الكلمة اذا كان المسمى بها بسبب من الآخر أو مجاورا لها أو مشاكلا» (٢) وهذا تعريف ينطبق على المجاز كله ولا سيما المرسل الذي من علاقاته السبية والمجاورة ، ويؤكد هذا المعنى الأمثلة التي ذكرها كقول الشاعر :

إذا سقط السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

وقولهم للنبات «نوء» وللمطر «سماء».

وذكرها المبرد وقال إنّ «العرب تستعير من بعض لبعض» (٣).

وقال ثعلب : «هو أن يستعار للشيء اسم غيره أو معنى سواه» (٤).

وقال ابن المعتز إنّها «استعارة الكلمة لشيء لم يعرف بها من شيء عرف بها» (٥). ولم يبحثها قدامة في «نقد الشعر» وانما أشار اليها اشارات عابرة في أثناء كلامه على المعاضلة وقبح الاستعارة (٦). وذكرها في «جواهر الألفاظ» وذكر لها أمثلة من غير أن يعرفها (٧).

وتحدث عنها معاصره ابن وهب في فصل مستقل وقال : «وربما استعملوا بعض ذلك في موضع بعض على التوسع والمجاز» (٨).

وبدأ تعريف الاستعارة بعد هؤلاء يأخذ طابعا واضحا يختلف عما سبق ، وقد عرّفها القاضي الجرجاني بقوله : «الاستعارة ما اكتفي فيها بالاسم المستعار عن الاصل ونقلت العبارة فجعلت في مكان غيرها. وملاكها تقريب الشبه ومناسبة المستعار له للمستعار منه وامتزاج اللفظ بالمعنى حتى لا يوجد بينهما منافرة ولا يتبين في أحدهما إعراض عن الآخر» (٩). وهذا التعريف يختلف عن التعريفات السابقة فهو أكثر وضوحا وأعمق دلالة ، وهو يوضح العلافة بين المستعار له والمستعار منه وهي المشابهة ، وملاكها تقريب الشبه وائتلاف ألفاظ صورتها مع معانيها حتى لا توجد منافرة بينهما.

وقال الرماني : «الاستعارة تعليق العبارة على ما وضعت له في أصل اللغة على جهة النقل للابانة» (١٠). ونقل ابن سنان هذا التعريف (١١).

وقال العسكري إنّها «نقل العبارة عن موضع استعمالها في أصل اللغة الى غيره لغرض» (١٢) ، وفي هذا التعريف إضافة الى ما سبق وهي قوله : «لغرض» أي أنّه اشترط في الاستعارة أن يكون وراءها هدف وإلا فاستعمال اللفظ بمعناه الأصلي أولى. وقال ابن فارس : «هي أن يضعوا الكلمة للشيء مستعارة من موضع آخر» (١٣). ونقل ابن رشيق تعريفات القاضي الجرجاني وابن وكيع وابن جني والرماني (١٤) ، ولما جاء عبد القاهر نظر الى الاستعارة نظرة دقيقة فيها تحديد وعمق ، قال : «الاستعارة أن تريد تشبيه الشيء وتظهره وتجيء الى اسم المشبه به فتعيره المشبه وتجريه عليه» (١٥). وهذا التعريف يؤكد أنها مجاز لغوي وأنها «ضرب من التشبيه ونمط من التمثيل»

__________________

(١) الحيوان ج ٤ ص ٢٧٣ ، ٢٧٨.

(٢) تأويل مشكل القرآن ص ١٠٢.

(٣) الكامل ج ١ ص ٢٤٤ ، وتنظر ص ٨٦ والمقتضب ج ٣ ص ١٨٨.

(٤) قواعد الشعر ص ٤٧.

(٥) البديع ص ٢.

(٦) نقد الشعر ص ٢٠١ ، ٢٠٢ ؛ ٢٣٨.

(٧) جواهر الالفاظ ص ٥.

(٨) البرهان في وجوه البيان ص ١٤٢.

(٩) الوساطة ص ٤١.

(١٠) النكت في اعجاز القرآن ص ٧٩.

(١١) سر الفصاحة ص ١٣٤.

(١٢) كتاب الصناعتين ص ٢٦٨.

(١٣) الصاحبي ص ٢٠٤.

(١٤) العمدة ج ١ ص ٢٦٨.

(١٥) دلائل الاعجاز ص ٥٣ ، ينظر الايضاح في شرح مقامات الحريري ص ٣.

٨٤

وأنّ «التشبيه كالأصل في الاستعارة وهي شبيهة بالفرع له أو صورة مقتضبة من صوره» (١).

وعرّفها الرازي تعريفا لا يختلف عن تعريف عبد القاهر وقال : «الاستعارة ذكر الشيء باسم غيره واثبات ما لغيره له لأجل المبالغة في التشبيه». وقال : «الاستعارة عبارة عن جعل الشيء الشيء لأجل المبالغة في التشبيه» (٢).

وأخذ السكاكي ما قاله عبد القاهر والرازي وعرّف الاستعارة بقوله : «هي أن تذكر أحد طرفي التشبيه وتريد به الطرف الآخر مدعيا دخول المشبه في جنس المشبه به دالا على ذلك باثباتك للمشبه ما يخص المشبه به» (٣). وهذا من أدق التعريفات لأنّه حصر الاستعارة التصريحية والاستعارة بالكناية أو المكنية.

وقال ابن الأثير : «الاستعارة أن تريد الشيء بالشيء فتدع الافصاح بالتشبيه واظهاره وتجيء على اسم المشبه به وتجريه عليه» (٤). وقال : «حدّ الاستعارة :نقل المعنى من لفظ الى لفظ لمشاركة بينهما مع طي ذكر المنقول لانه إذا احترز فيه هذا الاحتراز اختص بالاستعارة وكان حدّا لها دون التشبيه» (٥).

ونقل المصري تعريفي ابن المعتز والرماني ثم قال : «هي تسمية المرجوح الخفي باسم الراجح الجلي للمبالغة في التشبيه» (٦). أي ما رجحت فيه الصفة وكان ظاهرا ينقل الى ما خفي وكان مرجوحا عليه في هذه الصفة.

وقال ابن مالك : «هي أن تذكر أحد طرفي التشبيه وتريد الآخر مدعيّا دخول المشبه في جنس المشبه به مع سدّ طريق التشبيه ونصب القرينة ، ولهذا سميت استعارة» (٧). وفي هذا التعريف اشارة الى القرينة التي لا يخلو منها مجاز.

وقال الحلبي : «هو ادعاء معنى الحقيقة في الشيء للمبالغة في التشبيه مع طرح ذكر المشبه من البين لفظا وتقديرا. وان شئت قلت : هو جعل الشيء الشيء أو جعل الشيء للشيء لأجل المبالغة في التشبيه» (٨) والتعريف الأول ينطبق على الاستعارة التصريحية ، والثاني على الاستعارة المكنية ، وقد أوضح الحلبيّ ذلك بالمثالين اللذين ذكرهما وإن لم يصرّح بالتسمية.

وقال القزويني : «الاستعارة هي ما كانت علاقته تشبيه معناه بما وضع له ، وقد تقيد بالتحقيقية لتحقيق معناها حسا أو عقلا أي التي تتناول أمرا معلوما يمكن أن ينص عليه ويشار اليه اشارة حسية أو عقلية فيقال إنّ اللفظ نقل من مسماه الأصلي فجعل اسما له على سبيل الاعارة للمبالغة في التشبيه» (٩).

وذكر العلوي عدة تعريفات ثم اختار منها تعريفا فضّله على غيره وهو أنّ الاستعارة «تصييرك الشيء الشيء وليس به وجعلك الشيء الشيء وليس له بحيث لا يلحظ فيه معنى التشبيه صورة ولا حكما» (١٠). وفي هذا التعريف اشارة الى الاستعارة التصريحية والاستعارة بالكناية ، وفصل للاستعارة عن التشبيه المحذوف الأداة.

ولا تخرج عن ذلك تعريفات التبريزي والبغدادي وابن منقذ والصنعاني وابن الزملكاني والمظفر العلوي والقرطاجني والتنوخي والنويري وابن الاثير الحلبي والسبكي والتفتازاني والزركشي والحموي

__________________

(١) أسرار البلاغة ص ٢٠ ، ٢٨.

(٢) نهاية الايجاز ص ٨٢.

(٣) مفتاح العلوم ص ١٧٤.

(٤) الجامع الكبير ص ٨٢.

(٥) المثل السائر ج ١ ص ٣٦٤ كفاية الطالب ص ١٥٨.

(٦) تحرير التحبير ص ٩٧ ، بديع القرآن ص ١٩.

(٧) المصباح ص ٦١.

(٨) حسن التوسل ص ١٢٦.

(٩) الايضاح ص ٢٧٨ ، التلخيص ص ٣٠٠.

(١٠) الطراز ج ١ ص ٢٠٢ ، وينظر المنزع البديع ص ٢٣٥ ، نفحات الأزهار ص ٧٣.

٨٥

والسيوطي والاسفراييني والمغربي والمدني والدمنهوري (١) وغيرهم. وهذا يدل على «أن الكلام في الاستعارة وأنواعها مما أطلق البيانيون فيه أعنّة الأقلام» (٢) ، ولكن المعوّل عليه عند المتأخرين ما ذهب اليه عبد القاهر والسكاكي والقزويني وأصحاب الشروح والتلخيصات.

ولا بدّ للاستعارة من ثلاثة أركان هي :

١ ـ المستعار منه ، وهو المشبه به.

٢ ـ المستعار له ، وهو المشبه.

٣ ـ المستعار ، وهو اللفظ المنقول.

ويسمى الأول والثاني طرفي الاستعارة ، ففي قوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً)(٣) يكون المستعار هو الإشتعال ، والمستعار منه هو النار ، والمستعار له هو الشيب ، والجامع بين المستعار منه والمستعار له مشابهة ضوء النهار لبياض الشيب ولا بدّ للاستعارة من قرينة تدل على أنها ليست تعبيرا حقيقيا.

لم يقسّم الاوائل الاستعارة الى الأقسام التي ذكرها المتأخرون بل خلط بعضهم بينها وبين أنواع المجاز الاخرى. وكان تقسيم عبد القاهر بداية العناية بذلك فقد قسمها الى مفيدة وغير مفيدة ، وقسم المفيدة الى ما سماه المتأخرون استعارة تصريحية واستعارة مكنية.

ولعل الرازي من أوائل الذين حاولوا تقسيم الاستعارة في ضوء ما تحدث عنه عبد القاهر ، فقد قسمها الى أصلية وتبعية وتصريحية ومكنية وترشيحية وتجريدية (٤).

واستفاد السكاكي من هذا التقسيم وأمعن في التحديد (٥) ، وقسمها القزويني باعتبار الطرفين ـ المستعار منه والمستعار له ـ وباعتبار الجامع ، وباعتبار الثلاثة ، وباعتبار اللفظ ، وباعتبار أمر خارج عن ذلك كله (٦).

والاستعارة باعتبار الطرفين قسمان : وفاقية وعنادية ومنها التهكمية أو التمليحية وباعتبار الجامع قسمان :

أحدهما ما يكون الجامع فيه داخلا في مفهوم الطرفين ، وثانيهما ما يكون الجامع فيه غير داخل في مفهوم الطرفين. وتنقسم باعتبار الجامع أيضا الى عامية وخاصية ، واما باعتبار الثلاثة ـ الطرفين والجامع ـ فهي ستة أقسام : استعارة محسوس لمحسوس بوجه حسي أو بوجه عقلي ، أو بما بعضه حسي وبعضه عقلي ، واستعارة معقول لمعقول ، واستعارة محسوس لمعقول واستعارة معقول لمحسوس. وباعتبار اللفظ قسمان : أصلية وتبعية. وباعتبار الخارج ثلاثة أقسام :المطلقة والمجردة والمرشحة. وهناك الاستعارة التمثيلية أي المجاز المركب والاستعارة التصريحية والاستعارة بالكناية أو المكنية.

وسار المتأخرون على هذا التقسيم وتحدثوا عن هذه الأقسام ، ويتضح من مراجعة كتبهم أنّهم لم يتفقوا على تحديدها كل الاتفاق ولا سيما التخييلية وصلتها بالمكنية ، وكان للسكاكي رأي نقضه القزويني وكان

__________________

(١) الوافي ص ٢٦٣ ، قانون البلاغة ص ٤٠٩ ، وص ٤٣٨ ، البديع في نقد للشعر ص ٤١ ، الرسالة العسجدية ص ١١٥ ، التبيان ص ٤١ ، البرهان الكاشف عن اعجاز القرآن ص ١١٠ ، نضرة الاغريض ص ١٣٤ ، منهاج البلغاء ص ٨٧ ، الاقصى القريب ص ٤٠ ، نهاية الارب ج ٧ ص ٤٩ ، جوهر الكنز ص ٥٣ ، عروس ج ٤ ص ٤٥ ، المطول ص ٣٥٧ ، المختصر ج ٤ ص ٤٥ ، البرهان في علوم القرآن ج ٣ ص ٤٣٢ ، خزانة ص ٤٧ ، معترك ج ١ ص ٢٧٥ ، الاتقان ج ٢ ص ٤٣ ، شرح عقود الجمان ص ٩٣ ، الاطول ج ٢ ص ١١٩ ، مواهب ج ٤ ص ٤٥ ، أنوار ج ١ ص ٢٤٣ ، حلية اللب ص ١١٨ ؛ الروض المريع ص ١١٥.

(٢) أنوار الربيع ج ١ ص ٢٤٣.

(٣) مريم ٤.

(٤) نهاية الايجاز ص ٨١.

(٥) مفتاح العلوم ص ١٧٦.

(٦) الايضاح ص ٢٨٩ ، التلخيص ص ٣٠٨ ، وينظر أنوار الربيع ج ١ ص ٢٤٥.

٨٦

لغيرهما آراء مختلفة. وتقسيم الاستعارة الى تصريحية ومكنية خير وأجدى في دراسة هذا الفن لأنّ ذلك عمدته ما دامت الاستعارة تقوم على التشبيه عند معظم البلاغيين ، ولكن التطور التأريخي لهذا الفن يقتضي الكلام على هذه الاقسام لتتضح مسيرة هذا الفن خلال الدراسات السابقة.

الاستعارة الاحتماليّة :

قال السّكّاكي : «هي أن يكون المشبّه المتروك صالح الحمل تارة على ما له تحقّق وأخرى على ما لا تحقّق له (١) ، أي انها تحتمل الوجهين ، وقد شرح السّكّاكي التّحقيقيّة وقال : «أن يكون المشبه المتروك شيئا متحققا اما حسيا وإما عقليا». فالاستعارة الاحتمالية ما احتملت ما له تحقق من وجه وما لا تحقق له من وجه آخر ، ونظيره قول زهير :

صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله

وعرّي أفراس الصّبا ورواحله

أراد أن يبين أنه أمسك عما كان يرتكب أوان الصّبا وقمع النفس عن التلبس بذاك معرضا الاعراض الكلي عن المعاودة لسلوك سبيل الغي وركوب مراكب الجهل فقال : «وعري أفراس الصبا ورواحله» أي ما بقيت آلة من آلاتها المحتاج اليها في الركوب والارتكاب قائمة كأيما نوع فرضت من الانواع حرفة أو غيرها متى وطنت النفس على اجتنابه ورفع القلب رأسا عن دق بابه وقطع العزم عن معاودة ارتكابه فتقل العناية بحفظ ما قوام ذلك النوع به من الآلات والأدوات فترى يد التعطيل تستولي عليها فتهلك وتضيع شيئا فشيئا حتى لا تكاد تجد في أدنى مدة أثرا منها ولا عثيرا فبقيت لذلك معرّاة لا آلة ولا أداة فحق قوله : «أفراس الصبا ورواحله» أن يعد استعارة تخييلية لما يسبق الى الفهم ويتبادر الى الخاطر من تنزيل «أفراس الصّبا ورواحليه» منزلة أنياب المنية ومخالبها في قول الشاعر :

واذا المنية أنشبت أظفارها

ألفيت كلّ تميمة لا تنفع

وإن كان يحتمل احتمالا بالتكلف أن تجعل الافراس والرواحل عبارة عن دواعي النفوس وشهواتها والقوى الحاصلة لها في استيفاء اللذات أو عن الاسباب التي قلما تتآخذ في اتباع الغي وجر أذيال البطالة إلا أو ان الصبا. وكذلك قوله تعالى : (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ)(٢) الظاهر من اللباس الحمل على التخييل وإن كان يحتمل أن يحمل على التحقيق ، وهو أن يستعار لما يلبسه الانسان عند جوعه من انتقاع اللون ورثاثة الهيئة (٣).

فالاستعارة في البيت والآية الكريمة تحتمل التخييل وتحتمل التحقيق فهي اما تخييلية أو تحقيقية.

الاستعارة الأصليّة :

الاستعارة الأصليّة هي التي تكون في أسماء الأجناس غير المشتقّة ويكون معنى التّشبيه داخلا في المستعار دخولا أوّليّا (٤). وقد أوضح السّكاكّي معناها بقوله : «هي أن يكون المستعار اسم جنس كرجل وكقيام وقعود. ووجه كونها أصلية هو أنّ الاستعارة مبناها على تشبيه المستعار له بالمستعار منه» (٥). والى ذلك ذهب ابن مالك والقزويني والسبكي والتفتازاني والسيوطي والاسفراييني والمدني والمغربي (٦). ومنها

__________________

(١) مفتاح العلوم ص ١٧٦.

(٢) النحل ١١٢.

(٣) مفتاح ص ١٧٨ ، الايضاح ص ٣١٠ ، التلخيص ص ٣٢٨ ، شروح التلخيص ج ٤ ص ١٦١ ، المطول ص ٣٨٥ ، الاطول ج ٢ ص ١٥٠.

(٤) نهاية الايجاز ص ٨٩ ، البرهان الكاشف عن اعجاز القرآن ص ١١٢ ، التبيان في البيان ص ١٨٩.

(٥) مفتاح العلوم ص ١٧٩ ، وتنظر ص ١٧٦.

(٦) المصباح ص ٦٥ ، الايضاح ص ٢٩٨ ، التلخيص ص ٣١٤ ، عروس الافراح ج ٤ ص ١٠٨ ، المطول ص ٣٧٦ المختصر ج ٤ ص ١٠٨ ، ـ ـ معترك ج ١ ص ٢٨٠ ، شرح عقود الجمان ص ٩٥ ، الاطول ج ٢ ص ١٣٦. أنوار الربيع ج ١ ص ٢٤٦ ، مواهب الفتاح ج ٤ ص ١٠٨.

٨٧

قوله تعالى : (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ)(١) ، وقوله : (فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ)(٢). وقول البحتري.

يؤدّون التحية من بعيد

الى قمر من الايوان باد

فقد شبه ممدوحه بالقمر ، ومنه تشبيه المتنبي ممدوحه بالشمس في قوله :

أحبّك يا شمس الزمان وبدره

وإن لامني فيك السّها والفراقد

الاستعارة بالكناية :

وتسمى المكني عنها أو المكنية وهي التي اختفى فيها لفظ المشبه واكتفى بذكر شيء من لوازمه دليلا عليه كقول أبي ذؤيب الهذلي :

واذا المنية أنشبت أظفارها

ألفيت كلّ تميمة لا تنفع

شبّه المنية بالسّبع في اغتيال النفوس وحذف المشبه به وهو السبع وأبقى شيئا من لوازمه وهي الأظفار التي لا يكمل الاغتيال إلا بها.

ومنها قول دعبل الخزاعي :

لا تعجبي يا سلم من رجل

ضحك المشيب برأسه فبكى

شبّه المشيب بانسان وحذف المشبه به ورمز اليه بشيء من لوازمه وهو الضحك على سبيل الاستعارة.

وهذا النوع من الاستعارة مقابل للاستعارة التصريحية وهما من تقسيم هذا الفن بحسب الطرفين : المشبه والمشبه به فتارة يحذف المشبه فتكون الاستعارة تصريحية وتارة يحذف المشبه به فتكون مكنية. وكان عبد القاهر قد أشار الى هذين القسمين وإن لم يسمهما كذلك بل قال عن التصريحية : «أن تنقله ـ أي الاسم ـ عن مسماه الاصلي الى شي آخر ثابت معلوم فتجريه عليه وتجعله متناولا له تناول الصفة للموصوف» (٣). ومثّل له بقوله : «رأيت أسدا» أي رجلا شجاعا ، وقولهم : «عنّت لنا ظبية» أي امرأة ، وقوله : «أبديت نورا» أي هدى. فالاسم في هذه الأمثلة متناول شيئا معلوما يمكن أن ينص عليه فيقال إنّه عنى بالاسم وكنى به عن مسماه الاصلي فجعل اسما على سبيل الاعارة والمبالغة في التشبيه.

وقال عن المكنية : «أن يؤخذ الاسم من حقيقته ويوضع موضعا لا يبين فيه شيء يشار اليه فيقال هذا هو المراد بالاسم والذي استعير له وجعل خليفة لاسمه ونائبا منابه» (٤). ومثّل له بقول لبيد :

وغداة ريح قد كشفت وقرّة

إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها

وذلك أنّه جعل للشمال يدا ، ومعلوم أنّه ليس هناك مشار اليه يمكن أن تجري عليه كاجراء الأسد على الرجل.

وفرّق بين القسمين بقوله : «إنك اذا رجعت في القسم الأول الى التشبيه الذي هو المغزى من كل استعارة تفيد وجدته يأتيك عفوا كقولك في «رأيت أسدا» : رأيت رجلا كالاسد ، أو رأيت مثل الأسد ، أو شبيها بالأسد. وإن رمته في القسم الثاني وجدته لا يواتيك إذ لا وجه لأن تقول : «إذ أصبح شيء مثل اليد للشمال» أو «حصل شبيه باليد للشمال». وانما يتراءى لك التشبيه بعد أن تخرق اليه سترا وتعمل تأملا وفكرا ، وبعد أن تغيّر الطريقة وتخرج عن الحد الأول كقولك : «إذ أصبحت الشمال ولها في قوة تأثيرها في

__________________

(١) ابراهيم ١.

(٢) الشعراء ٢٢٥.

(٣) أسرار البلاغة ص ٤٢.

(٤) أسرار البلاغة ص ٤٢.

٨٨

الغداة شبه المالك تصريف الشيء بيده واجراءه على موافقته وجذبه نحو الجهة التي تقتضيها طبيعته وتنحوها ارادته. فأنت ـ كما ترى ـ تجد الشبه المنتزع ههنا إذا رجعت الى الحقيقة ووضعت الاسم المستعار في موضعه الأصلي لا يلقاك من المستعار نفسه بل مما يضاف اليه. ألا ترى أنك لم ترد أن تجعل الشمال كاليد ومشبهة باليد كما جعلت الرجل كالأسد ومشبها بالأسد ولكنك أردت أن تجعل الشمال كذي اليد من الاحياء. فأنت تجعل في هذا الضرب المستعار له وهو نحو الشمال ذا شيء وغرضك أن تثبت له حكم من يكون له ذلك الشيء في فعل أو غيره لا نفس ذلك الشي فاعرفه» (١).

وذكر فرقا آخر لخصه بقوله : «وطريقة أخرى في بيان الفرق بين القسمين وهو أنّ الشبه في القسم الأول الذي هو نحو «رأيت أسدا» «تريد رجلا شجاعا» ، وصف موجود في الشي الذي استعرت اسمه وهو الاسد. وأما قولك : «إذ أصبحت بيد الشمال زمامها» فالشبه الذي له استعرت اليد ليس بوصف في اليد ولكنه صفة تكسبها اليد صاحبها وتحصل له بها ، وهي التصرف على وجه مخصوص» (٢).

وكان ما ذهب اليه عبد القاهر منطلق البلاغيين في تحديد الاستعارة المكنية ، وقد قال الرازي : «هذا إذا لم يصرح بذكر المستعار بل ذكر بعض لوازمه تنبيها به عليه» (٣).

وقال السّكاكيّ : «هي أن تذكر المشبّه وتريد به المشبّه به دالّا على ذلك بنصب قرينة تنصبها وهي أن تنسب اليه وتضيف شيئا من لوازم المشبّه به المساوية» (٤) وقال ابن مالك : «هي أن تذكر المشبّه وتريد المشبّه به وتدلّ بمثل شيء من لوازمه إلى المشبّه» (٥).

ونقل النويري وابن قيّم الجوزيّة والزركشي تعريف الرازي (٦) ، وقال الحلبي ولم يسمّها : «الثاني أن تعتمد لوازمه عند ما يكون جهة الاشتراك وصفا انما ثبت له كما في المستعار منه بواسطة شيء آخر فتثبت ذلك الشيء للمستعار له مبالغة في اثبات المشترك» (٧).

وقال القزويني : «قد يضمر التشبيه في النفس فلا يصرّح بشيء من أركانه سوى لفظ المشبه ويدل عليه بان يثبت للمشبه أمر مختص بالمشبه به من غير أن يكون هناك أمر ثابت حسا أو عقلا أجري عليه اسم ذلك الأمر ، فيسمى التشبيه استعارة بالكناية أو مكنيا عنها واثبات ذلك الأمر للمشبه استعارة تخييلية» (٨) ولم يخرج البلاغيون بعد ذلك عن هذا التعريف (٩).

الاستعارة التّبعيّة :

هي أن لا يكون معنى التشبيه داخلا دخولا أوّليّا ، وهي كما قال السّكاكيّ : «ما تقع في غير أسماء الأجناس كالأفعال والصّفات المشتّقة منها وكالحروف» (١٠) وقال ابن مالك : «هي ما تقع في الأفعال والصّفات والحروف فإنّها لا توصف فلا تحتمل الاستعارة بأنفسها وإنّما المحتمل لها في الأفعال والصّفات مصادرها وفي الحروف متعلّقات معانيها فتقع الاستعارة هناك ثم تسري في هذه الأشياء» (١١) وذلك أنّ الاستعارة تعتمد التشبيه ، والتشبيه يعتمد كون المشبه موصوفا ، وانما يصلح

__________________

(١) أسرار البلاغة ص ٤٤.

(٢) أسرار ص ٤٨.

(٣) نهاية الايجاز ص ٩٢

(٤) مفتاح العلوم ص ١٧٩.

(٥) المصباح ص ٦٤.

(٦) نهاية الارب ج ٧ ص ٥٥ ، الفوائد ص ٥٣ ، البرهان في علوم القرآن ج ٣ ص ٤٣٨.

(٧) حسن التوسل ص ١٣٤.

(٨) الايضاح ص ٣٠٩ ، التلخيص ص ٣٢٤.

(٩) شروح التلخيص ج ٤ ص ١٨٣ ، المطول ص ٣٨١ ، الأطول ج ٢ ص ١٤٩ ، معترك الأقران ج ١ ص ٢٨١ ، الاتقان ج ٢ ص ٤٥ ، شرح عقود الجمان ص ٩٨ ، أنوار ج ١ ص ٢٥٢ ، التبيان في البيان ص ١٩١.

(١٠) مفتاح ص ١٨٠ ، وتنظر ص ١٧٦.

(١١) المصباح ص ٦٥.

٨٩

للموصوفية الحقائق كما في «جسم أبيض» و «بياض صاف» دون معاني الافعال والصفات المشتقة منها والحروف (١).

ومثالها قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً)(٢) ، شبّه ترتب العداوة والحزن على الالتقاط بترتب غلبة الغائية عليه ، ثم استعير في المشبه اللام الموضوعة للمشبه به.

وقرينة التبعية في الافعال والصفات تعود تارة الى الفاعل كما في «نطقت الحال» أو «الحال ناطقة بكذا» لأنّ النطق لا يسند الى الحال. وتارة الى المفعول كقول ابن المعتز :

جمع الحقّ لنا في إمام

قتل البخل وأحيا السماحا

أي : أزال البخل وأظهر السماح والقتل والاحياء الحقيقيان لا يتعلق بهما والقرينة جعلهما مفعولين.

والثاني كقول الشاعر :

نقريهم لهذميات نقدّ بها

ما كان خاط عليهم كلّ زرّاد

وهي قرينة على أن «نقريهم» استعارة ، وهو مفعول ثان.

أو الاول والثاني كقول الحريري :

وأقري المسامع إمّا نطقت

بيانا يقود الحرون الشّموسا

وتارة الى الجار والمجرور نحو قوله تعالى :(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(٣) ، فقوله «بعذاب» قرينة على أنّ «بشّر» استعارة. وتارة الى الجميع : الفاعل والمفعول الاول والثاني والمجرور بمعنى أنّ كلّا منها قرينة مستقلة كقول الشاعر :

تقري الرياح رياض الحزن مزهرة

إذا سرى النوم في الأجفان إيقاظا (٤)

الاستعارة التّجريديّة :

وتسمى المجرّدة ، وهي ما كان معتبرا فيها المستعار له (٥) ، أي أنها تكون تجريدية إذا عقبت بصفات ملائمة للمستعار له أو تفريع كلام ملائم له (٦) وقال ابن مالك : «تجريد» الاستعارة هو أن تقرن بما يلائم المستعار له» (٧) وعرّفها القزويني بمثل ذلك (٨) ، وقال العلوي : «فاما الاستعارة المجردة فانما لقبت بهذا اللقب لأنّك إذا قلت : «رأيت أسدا يجدّل الابطال بنصله ويشك الفرسان برمحه» فقد جرّدت قولك : «أسدا» عن لوازم الآساد وخصائصها إذ ليس من شأنها تجديل الابطال ولا شكّ الفرسان بالرماح والنصال» (٩). والى ذلك ذهب السبكي والتفتازاني والزركشي والسيوطي والاسفراييني والمغربي والمدني (١٠).

ومثال الاستعارة التجريدية قوله تعالى : (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ)(١١) حيث قال :(فَأَذاقَهَا) ولم يقل : «كساها» فان المراد بالاذاقة إصابتهم بما استعير له اللباس كأنه قال : فأصابها الله بلباس الجوع والخوف.

__________________

(١) الايضاح ص ٢٩٨ ، التلخيص ص ٣١٥ ، شروح التلخيص ج ٤ ص ١٠٨ ، المطول ص ٣٧٦ ، الأطول ج ٢ ص ١٣٧ ، معترك ج ١ ص ٢٨٠ ، شرح عقود الجمان ص ٩٥ ، أنوار ج ١ ص ٢٤٦.

(٢) القصص ٨.

(٣) آل عمران ٢١ ، التوبة ٣٤ ، الانشقاق ٢٤.

(٤) شرح عقود الجمان ص ٩٦.

(٥) نهاية الايجاز ص ٩٢.

(٦) مفتاح العلوم ص ١٨٢.

(٧) المصباح ص ٦٦.

(٨) الايضاح ص ٣٠٠ ، التلخيص ص ٣١٧.

(٩) الطراز ج ١ ص ٢٣٦.

(١٠) عروس ج ٤ ص ١٢٨ ، المطول ص ٣٧٧ ، المختصر ج ٤ ، ص ١٢٨ ، البرهان ج ٣ ص ٤٣٨ ، معترك ج ١ ص ٢٨١ ، الاتقان ج ٢ ص ٤٥ ، شرح عقود الجمان ص ٩٧ الأطول ج ٢ ص ١٤٢ ، مواهب الفتاح ج ٤ ص ١٢٨ ، أنوار الربيع ج ١ ص ٢٥٤.

(١١) النحل ١١٢.

٩٠

وقول كثير :

غمر الرداء إذا تبسّم ضاحكا

غلقت لضحكته رقاب المال (١)

فانه استعار الرداء للمعروف لأنّه يصون عرض صاحبه كما يصون الرداء ما يلقى عليه ، ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف لا الرداء فنظر الى المستعار.

الاستعارة التّحقيقيّة :الاستعارة التّحقيقية هي «أن يكون المشبه المتروك شيئا متحققا إما حسيا أو عقليا» (٢).

وسماها العلوي الحقيقية وقال : «واما الحقيقية فهي أن تذكر اللفظ المستعار مطلقا ، كقولك : «رأيت أسدا». والضابط لها أن يكون المستعار له أمرا محققا سواء جرد عن حكم المستعار له أو لم يجرد بأن يذكر الاستعارة ثم يأتي بعد ذلك بما يؤكد أمر المستعار له ويوضح حاله» (٣). ومثال ذلك قول الشاعر :

ترى الثياب من الكتّان يلمحها

نور من البدر أحيانا فيبليها

فكيف تنكر أن تبلى معاجرها

والبدر في كلّ وقت طالع فيها (٤)

فلما استعار ذكر القمر عقبه بذكر المعاجر وأنّه يبليها بطلوعه فيها كل وقت وذكره من أجل ايضاح أمر المستعار له وبيان حقيقته.

وأوضح السيوطي تعريف السكاكي فقال : «ما تحقق معناها حسا نحو (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ)(٥). أو عقلا نحو (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً)(٦) أي : بيانا واضحا وحجة دامغة (٧). والى ذلك ذهب الاسفراييني والمدني. (٨)

الاستعارة التّخييليّة :

هي أن يستعار لفظ دال على حقيقة خيالية تقدر في الوهم ثم تردف بذكر المستعار له ايضاحا لها وتعريفا لحالها. وقد سمّاها ابن الاثير الحلبي «استعارة التخييل» (٩) ، وسماها العلوي «الاستعارة الخيالية الوهمية» (١٠).

ومثال الاستعارة التخييلية قوله تعالى : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ)(١١) وقوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ)(١٢) وهما من الآيات الدالة على التشبيه.

ومن ذلك قول أبي ذؤيب الهذلي :

واذا المنيّة أنشبت أظفارها

ألفيت كلّ تميمة لا تنفع

وقد يجتمع التحقيق والتخييل في الاستعارة كما في قوله تعالى : (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ)(١٣). والظاهر من هذه الاستعارة هو التخييل لأنّ الله ـ تعالى ـ لما ابتلاهم لكفرهم باتصال هاتين البليتين ، ولما استعار اللباس ههنا مبالغة في الاشتمال عليهم أخذ الوهم في تصوير ما للمستعار منه من التغطية والستر والاسترسال رعاية لمزيد البيان في ذلك. وإن جعلت من باب التحقيق فهو أنّ ما يرى على الانسان عند شدة الخوف والجوع

__________________

(١) غمر ؛ كثير أو واسع. الرداء ؛ العطاء الشبيه بالرداء. غلقت انتقل ملكها الى أيدي السائلين.

(٢) مفتاح العلوم ص ١٧٦.

(٣) الطراز ج ١ ص ٢٣٠.

(٤) المعاجر ؛ جمع معجر على وزن منبر ، وهو ثوب تعتم به المرأة وتشده على رأسها.

(٥) النحل ١١٢.

(٦) النساء ١٧٤.

(٧) معترك ج ١ ص ٢٨١ ، الاتقان ج ٢ ص ٤٥ ، شرح عقود الجمان ص ٩٣.

(٨) الأطول ج ٢ ص ١٥٤ ، أنوار الربيع ج ١ ص ٢٥١ ، التبيان في البيان ص ١٨٩.

(٩) جوهر الكنز ص ٥٨.

(١٠) الطراز ج ١ ص ٢٣٢.

(١١) المائدة ٦٤.

(١٢) الرحمن ٢٧.

(١٣) النحل ١١٢.

٩١

من الضعف والهزال وانتقاع اللون وعلو الصفرة ورثاثة الهيئة وركاكة الحال وحصول القلق والخيبة يضاهي الملابس في اختلاف أحوالها وألوانها (١).

والاستعارة التخييلية مرتبطة بالمكنية بل هي قرينتها خلافا للسكاكي الذي ذهب الى أنّ قرينة المكنية تارة تكون تخييلية كبيت الهذلي : «واذا المنية ...» وتارة تكون تحقيقية أم مستعارة لأمر محقق كما في قوله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ)(٢). ويتضح ذلك في قوله : «والمصرح بها تنقسم الى تحقيقية وتخييلية ، والمراد بالتحقيقية أن يكون المشبه المتروك متحققا إما حسيا وإما عقليا ، والمراد بالتخييلية أن يكون المشبه المتروك شيئا وهميا محضا لا تحقق له إلا في مجرد الوهم» (٣).

ومعنى ذلك أن لا تلازم بين المكنية والتخييلية عند السكاكي بل يوجد كل منهما بغير الآخر. واستدل على انفراد التخييلية عن المكنية بقول أبي تمام :

لا تسقني ماء الملام فانني

صبّ قد استعذبت ماء بكائي

فانه قد توهّم أنّ للملامة شيئا شبيها بالماء فاستعار اسمه استعارة تخييلية غير تابعة للمكنية (٤).

ويتضح في هذه المسألة رأيان :

الأول : رأي السكاكي وهو أنّ قرينة المكنية تارة تكون تخييلية وتارة تكون تحقيقية.

الثاني : رأي القزويني وهو أنّ قرينة المكنية لا تكون إلا تخييلية.

وكان منطلق السكاكي والقزويني أساسا سار عليه البلاغيون المتأخرون في هذه المسألة (٥).

الاستعارة التّرشيحيّة :

الاستعارة التّرشيحيّة أو المرشّحة ، أو المجاز المرشّح (٦) ، هي التي قرنت بما يلائم المستعار منه ، أو هي أن يراعي جانب المستعار ويولي ما يستدعيه ويضم اليه ما يقتضيه (٧) أو كما قال الحلبي : «أما ترشيحها فهو أن ينظر فيها الى المستعار ويراعي جانبه ويوليه ما يستدعيه ويضم ما يقتضيه» (٨).

ومنها قول كثيّر :

رمتني بسهم ريشه الكحل لم يضر

ظواهر جلدي وهو في القلب جارح

وقول النابغة :

وصدر أزاح الليل عازب همّه

تضاعفت الأحزان من كلّ جانب

المستعار في كل واحد منهما وهو الرمي والازاحة منظور اليه في لفظي السهم والعازب وقول الآخر :

ينازعني ردائي عبد عمرو

رويدك يا أخا عمرو بن بكر

لي الشطر الذي ملكت يميني

ودونك فاعتجر منه بشطر

فانه استعار الرداء للسيف ووصفه بالاعتجار الذي هو وصف الرداء فنظر الى المستعار منه.

ومن ذلك قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ)(٩) فانه استعار الاشتراء للاختيار وقفاه بالربح والتجارة

__________________

(١) الايضاح ص ٢٨٠ ، الطراز ج ١ ص ٢٣٥.

(٢) هود ٤٤.

(٣) مفتاح العلوم ص ١٧٦.

(٤) مفتاح ص ١٨٣.

(٥) الفوائد ص ٤٩ ، نهاية الارب ج ٧ ص ٥٨ ، شروح التلخيص ج ٤ ص ١٥٣ ، المطوّل ص ٣٨١ ، الاطول ج ٢ ص ١٥٨ ، معترك ج ١ ص ٢٨١ ، الاتقان ج ٢ ص ٤٥ ، شرح عقود الجمان ص ٩٨ ، أنوار الربيع ج ١ ص ٢٥٢ ، التبيان في البيان ص ١٩٠.

(٦) البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن ص ١٠١ ، التبيان ص ١٦١.

(٧) نهاية الايجاز ص ٩٢.

(٨) حسن التوسل ص ١٣١.

(٩) البقرة ١٦.

٩٢

اللذين هما من متعلقات الاشتراء فنظر الى المستعار منه (١).

ومعظم البلاغيين يسمون هذا اللون الاستعارة المرشحة أو الترشيحية (٢) ، غير أن العلوي يسميها «الموشحة» ولو لا تفسيره للتوشيح لقيل إنّ في الكلمة تغييرا (٣). والاستعار الترشيحية هي المقدمة في هذا الباب ، قال المصري : «وأجلّ الاستعارات الاستعارة المرشحة كقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) فان الاستعارة الأولى وهي لفظة الشراء رشحت الثانية وهي لفظتا الربح والتجارة للاستعارة (٤). وقال الحموي : «وليس فوق رتبتها في البديع رتبة» (٥) ، وذلك لاشتمال الترشيح على تحقيق المبالغة ولذلك كان مبناها على تناسي التشبيه حتى أنّه يوضع الكلام في علو المنزلة وضعه في علو المكان كما قال أبو تمام :

ويصعد حتى يظن الجهو

ل أنّ له حاجة في السماء

فلو لا أنّ قصده أن يتناسى التشبيه ويصمم على انكاره فيجعله صاعدا في السماء من حيث المسافة المكانية لما كان لهذا الكلام وجه.

وكما قال العباس بن الاحنف :

هي الشّمس مسكنها في السّما

ء فعزّ الفؤاد عزاء جميلا

فلا تستطيع اليها الصعو

د ولن تستطيع اليك النزولا

وقد يجتمع التجريد والترشيح كما في قول زهير :

لدى أسد شاكي السلاح مقذّف

له لبد أظفاره لم تقلّم

فقوله : «لدى أسد شاكي السلاح» تجريد لأنّه وصف يلائم المستعار له أي الأسد الحقيقي.

الاستعارة التّصريحيّة :

الاستعارة التّصريحيّة هي ما صرّح فيها بلفظ المشبّه به دون المشبّه ، أو هي كما قال السّكّاكي : «أن يكون الطرف المذكور من طرفي التشبيه هو المشبّه به» (٦). أو كما قال الحلبي وإن لم يسمّها : «أن تعتمد نفس التشبيه ، وهو أن يشترك شيئان في وصف وأحدهما أنقص من الآخر فيعطى الناقص اسم الزائد مبالغة في تحقيق ذلك الوصف كقولك : «رأيت أسدا» وأنت تعني رجلا شجاعا ، و «عنّت لنا ظبية» وأنت تريد امرأة» (٧).

ومثال هذا اللون قوله تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ)(٨) ، أي : من الضلالة الى الهدى ، فقد استعيرت الظلمات للضلال لتشابههما في عدم اهتداء صاحبهما ، وكذلك استعير لفظ النور للايمان لتشابههما في الهداية ، والمستعار له وهما الضلال والايمان كل منهما محقق عقلا.

ومنها قول المتنبي :

__________________

(١) نهاية الايجاز ص ٩٢ ، مفتاح ص ١٨٢ ، حسن التوسل ص ١٣١ ، الايضاح ص ٣٠١.

(٢) نهاية الايجاز ص ٩٢ ، مفتاح ص ١٧٦ ، ١٨٢ ، الايضاح ص ٣٠١ ، التلخيص ص ٣١٨ ، المصباح ص ٦٦ ، شروح التلخيص ج ٤ ص ١٣٠ ، المطول ص ٣٧٨ ، الاطول ج ٢ ص ١٤٣ ، البرهان في علوم القرآن ج ٣ ص ٤٣٨ ، خزانة الأدب ص ٤٩ ، معترك ج ١ ص ٢٨١ ، الاتقان ج ٢ ص ٤٥ ، شرح عقود الجمان ص ٩٧ ، أنوار الربيع ج ١ ص ٢٥٤.

(٣) الطراز ج ١ ص ٢٣٧.

(٤) تحرير التحبير ص ٩٩.

(٥) خزانة الأدب ص ٤٩.

(٦) مفتاح العلوم ص ١٧٦ ، وينظر البرهان الكاشف ص ١١٠ ، التبيان ص ٤١ ، المصباح ص ٦٢ ، معترك ج ١ ص ٢٨٢ ، الاتقان ج ٢ ص ٤٥.

(٧) حسن التوسل ص ١٣٤.

(٨) ابراهيم ١.

٩٣

في الخدّ إن عزم الخليط رحيلا

مطر يزيد به الخدود نحولا

قرن الدمع بالمطر ثم حذفه وأبقى المشبه به.

وقوله :

وأقبل يمشي في البساط فما درى

الى البحر يسعى أم البدر يرتقي

ربط سيف الدولة الحمداني بالبحر.

وقول ديك الجن :

لمّا نظرت اليّ عن حدق المها

وبسمت عن متفتّح النوّار

وعقدت بين قضيب بان أهيف

وكثيب رمل عقدة الزّنّار

عفّرت خدّي في الثرى لك طائعا

وعزمت فيك على دخول النار

ربط بين فمها ومتفتح النوار ، وبين جسمها وقضيب البان. وهذه الاستعارة من روائع الاستعارات ، ولذلك قال ابن الاثير : «وهذه الأبيات لا تجد لها في الحسن شريكا ، ولأن يسمى قائلها شحرورا أولى من أن يسمّى ديكا» (١).

ومنها قوله أيضا :

لا ومكان الصليب في النحر من

ك ، ومجرى الزنّار في الخصر

والخال في الخدّ إذ أشبّهه

وردة مسك على ثرى تبر

وحاجب مدخطّه قلم الحس

ن بحبر البهاء لا الحبر

وأقحوان بفيك منتظم

على شبيه من رائق الخمر

الاستعارة التّمثيليّة :

سماها القزويني المجاز المركب وقال : «وأما المجاز المركب فهو اللفظ المركب المستعمل فيما شبّه بمعناه الأصلي تشبيه التمثيل للمبالغة في التشبيه أي تشبيه احدى صورتين منتزعتين من أمرين أو أمور بالأخرى ، ثم تدخل المشبهة في جنس المشبه بها مبالغة في التشبيه فتذكر بلفظها من غير تغيير بوجه من الوجوه» (٢).

وقال السيوطي : «هي أن يكون وجه الشبه فيها منتزعا من متعدد» (٣) ، والى ذلك ذهب المدني (٤) مثالها ما كتبه الوليد بن يزيد لما بويع الى مروان بن محمد وقد بلغه أنه متوقف في البيعة له : «أراك تقدّم رجلا وتؤخر أخرى فاذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت والسّلام». شبّه صورة تردده في المبايعة بصورة تردد من قام ليذهب في أمر فتارة يريد الذهاب فيقدم رجلا وتارة لا يريد فيؤخر أخرى.

ومن هذا اللون قوله تعالى : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ)(٥) ، إذ المعنى انّ مثل الأرض في تصرفها تحت أمر الله وقدرته مثل الشيء يكون في قبضة اخذ له منا ، والجامع يده عليه.

ومنه قول الرماح بن ميادة :

ألم تك في يمنى يديك جعلتني

فلا تجعلنّي بعدها في شمالكا

ولو أنني أذنبت ما كنت هالكا

على خصلة من صالحات خصالكا

وقول عمير بن الايهم :

راح القطين من الأوطان أو بكروا

وصدّقوا من نهار الأمس ما ذكروا

__________________

(١) المثل السائر ج ١ ص ٣٧٧.

(٢) الايضاح ص ٣٠٤ ، التلخيص ص ٣٢٢.

(٣) معترك ج ١ ص ٢٨٣.

(٤) أنوار الربيع ج ١ ص ٢٥١.

(٥) الزمر ٦٧.

٩٤

قالوا لنا وعرفنا بعد بينهم

قولا فما وردوا عنه ولا صدروا

وهذه من أمثلة قدامة في فن «التمثيل» (١).

ومن ذلك قول المتنبي :

ومن يك ذا فم مرّ مريض

يجد مرّا به الماء الزّلالا

والاستعارة في هذه الأمثلة لم تجر في لفظ مفرد من ألفاظ العبارة وإنّما أجريت في التركيب كله ، وهذا هو «التمثيل الذي يكون مجازا لمجيئك به على حد الاستعارة» (٢). أو «الاستعارة التمثيلية». ومتى فشا هذا اللون في الاستعمال سمي مثلا ولذلك لا تغير الأمثال (٣).

الاستعارة التّمليحيّة :

وتسمّى التّهكّميّة أيضا ، وهي استعمال الألفاظ الدالّة على المدح في نقائضها من الذّمّ والإهانة. وقد أشار الفرّاء إلى مثل هذا الأسلوب في القرآن الكريم وقال : «وقوله : (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ)(٤) ، الإثابة ههنا في معنى عقاب ولكنّه كما قال الشاعر :

أخاف زيادا أن يكون عطاؤه

أداهم سودا أو محدرجة سمرا

وقد يقول الرجل الذي قد اجترم اليك : «لئن أتيتني لأثيبنك ثوابك» معناه لأعاقبنك وربما أنكره من لا يعرف مذاهب العربية وقد قال الله تبارك وتعالى :(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(٥) والبشارة انما تكون في الخير ، فقد قيل ذلك في الشر» (٦).

ونظر ابن جني الى مثل هذا الاسلوب بمثل ما نظر البلاغيون في المجاز المرسل الى اعتبار ما كان فقال تعليقا على قوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)(٧) : «انما هو في النار الذليل المهان ، لكنه خوطب بما كان يخاطب به في الدنيا ، وفيه مع هذا ضرب من التبكيت له والاذكار بسوء أفعاله» (٨). وقال السكاكي في تعريف الاستعارة التمليحية : «هي استعارة اسم أحد الضدين أو النقيضين للآخر بواسطة انتزاع شبه التضاد والحاقه بشبه التناسب بطريق التهكم أو التمليح ثم ادعاء أحدهما من جنس الآخر والافراد بالذكر ونصب القرينة». (٩)

وعدّها القزويني من العنادية فقال : «ومنها ما استعمل في ضد معناه أو نقيضه بتنزيل التضاد أو التناقض منزلة التناسب بوساطة تهكم أو تمليح» (١٠).

وسار على ذلك شراح التلخيص (١١) ، والمدني الذي قال : «ومن العنادية التهكمية والتمليحية وهما ما استعمل في ضد أو نقيض» (١٢).

ومن أمثلتها قوله تعالى : (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ)(١٣) مكان السفيه القوي وقوله : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(١٤) مكان انذرهم ؛ لأنّ البشارة إنما تستعمل في الأمور المحمودة والمراد ههنا العذاب والويل. ومنه قوله : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ)(١٥).

__________________

(١) نقد الشعر ص ١٨١.

(٢) دلائل الاعجاز ص ٥٤.

(٣) الايضاح ص ٣٠٧ ، التلخيص ص ٣٢٣ ، شروح التلخيص ج ٤ ص ١٤٧ ، المطول ص ٣٨٠ ، الاطول ج ٢ ص ١٤٧ ، التبيان في البيان ص ١٩٦.

(٤) آل عمران ١٥٣.

(٥) آل عمران ٢١ ، التوبة ٣٤.

(٦) معاني القرآن ج ١ ص ٢٣٩.

(٧) الدخان ٤٩.

(٨) المحتسب ج ١ ص ١٠١.

(٩) مفتاح العلوم ص ١٧٧.

(١٠) الايضاح ص ٢٩٠ ، التلخيص ص ٣٠٩.

(١١) شروح التلخيص ج ٤ ص ٧٨ ، المطول ص ٣٦٥ ، الاطول ج ٢ ص ١٣٠.

(١٢) أنوار الربيع ج ١ ص ٢٤٧.

(١٣) هود ٨٧.

(١٤) آل عمران ٢١ ، التوبة ٣٤ ، الانشقاق ٢٤.

(١٥) الصافات ٢٣.

٩٥

قال العلوي : «والتهكم في اللغة عبارة عن شدة الغضب على المتهكم به لما فيه من إسقاط أمره وحطّ منزلته وحاله. وهو كثير التداور في كتاب الله ـ تعالى ـ خاصة عند عروض ذكر الكفار وأهل الشرك والنفاق كقوله تعالى : (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ)(١) وغير ذلك من الآيات الوعيدية والخطابات الزجرية الدالة على مزيد الغضب وبالغ الانتقام» (٢).

الاستعارة التّهكّميّة :

هي الاستعارة التمليحية وقد تقدمت. وقد جمعها بمصطلح واحد معظم البلاغيين كالسكاكي والقزويني وشراح تلخيصه والمدني وغيرهم (٣).

الاستعارة الحقيقيّة :

هي الاستعارة التحقيقية وقد تقدمت. وقد سماها كذلك العلوي الذي قال عن تقسيم الاستعارة : «التقسيم الاول باعتبار ذاتها الى حقيقية وخيالية ، فأما الحقيقية فهي أن تذكر اللفظ المستعار مطلقا» (٤).

ومثل لها بقوله : «وهذا مثاله قولك : «رأيت أسدا على سرير ملكه» و «بدرا على فرس أبلق» و «بحرا على بابه الوفّاد» و «بحر علم لا يحيف في قضائه وحكمه» و «بدر تمّ يتكلم بجميع الحقائق» فيأتي بهذه الامور عقيب ذكر الاستعارة من أجل تأكيد أمرها وايضاح حالها لأنّك اذا قلت : «رأيت أسدا» فقد حصل مطلق الاستعارة وهو اختصاصه بالشجاعة التي هي خاصة الأسد ، فهذه استعارة مطلقة. ثم لما قلت «على سرير ملكه» فصلته عن حكم الآساد ، إذ ليس الجلوس على السرر من شأنها ، وإنّما جيء بذلك من أجل تأكيد المستعار له. وهذه تسمى استعارة مجردة ، وهكذا اذا قلت : «رأيت قمرا على فرس» و «بدرتم يتكلم» فقد أثبت له ضوء الأقمار وتمام البدور ، ثم فصلته عمّالا يليق بالاقمار والبدور بقولك : «على فرس» وبقولك : «يتكلم» لأنّه ليس الكون على الخيل والكلام من صفة الاقمار والبدور بحال ، ولكن الغرض هو ما ذكرناه من توكيد أمر المستعار له وتوضيح حاله».

الاستعارة الخاصّيّة :

هي الاستعارة الغريبة التي لا يظفر بها إلّا من ارتفع عن طبقة العامّة ، أو هي التي لا يظهر فيها الجامع إلّا بدقة ، كقول طفيل الغنوي :

وجعلت كوري فوق ناجية

يقتات شحم سنامها الرّحل

وموضع اللطف والغرابة منه أن استعار الاقتيات لاذهاب الرحل شحم السنام مما يقتات.

وقول ابن المعتز :

يناجيني الاخلاف من تحت مطله

فتختصم الآمال واليأس في صدري

وقد تكون الغرابة في نفس الشبه كما في تشبيه هيئة العنان في موقعه من قربوس السرج بهيئة الثوب في موقعه من ركبة المحتبي في قول يزيد بن مسلمة بن عبد الملك يصف فرسا له بأنّه مؤدّب :

عوّدته فيما أزور حبائبي

إهماله وكذاك كلّ مخاطر

واذا احتبى قربوسه بعنانه

علك الشكيم الى انصراف الزائر (٥)

وقد تحصل بتصرف في العامية كما في قول الآخر :

__________________

(١) الزخرف ٥٥.

(٢) الطراز ج ١ ص ٢٤٧.

(٣) مفتاح العلوم ص ١٧٧ ؛ الايضاح ص ٢٩٠ ، التلخيص ص ٣٠٩ ، شروح التلخيص ج ٤ ص ٧٨ ، المطول ص ٣٦٥ ، الاطول ج ٢ ص ١٣٠ ، أنوار الربيع ج ١ ص ٢٤٧.

(٤) الطراز ج ١ ص ٢٣٠.

(٥) القربوس ؛ حنو السرج. العنان ؛ سير اللجام.

الشكيم ؛ حديدة اللجام المعترضة في فم الفرس.

٩٦

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا

وسالت بأعناق المطيّ الأباطح

أراد أنها سارت سيرا حثيثا في غاية السرعة وكانت سرعة في لين وسلامة حتى كأنها كانت سيولا وقعت في تلك الأباطح فجرت بها.

وقد تحصل الغرابة بالجمع بين عدة استعارات لالحاق الشكل بالشكل كقول امرىء القيس :

فقلت له لمّا تمطّى بصلبه

وأردف أعجازا وناء بكلكل

أراد وصف الليل بالطول فاستعار له صلبا يتمطى به إذ كان كل ذي صلب يزيد في طوله عند تمطيه شيء ، وبالغ في ذلك بأن جعل له أعجازا يردف بعضها بعضا ثم أراد أن يصفه بالثقل على قلب ساهره والضغط لمكابده فاستعار له كلكلا ينوء به (١).

الاستعارة الخياليّة :

هي الاستعارة التخييلية وقد تقدمت. وهذه تسمية العلوي الذي قال : «وأمّا الاستعارة الخيالية والوهمية فهي أن تستعير لفظا دالّا على حقيقة خيالية تقدرها في الوهم ثم تردفها بذكر المستعار له ايضاحا لها وتعريفا لحالها» (٢).

الاستعارة العامّيّة :

هي أن ينقل الاسم عن مسماه الأصلي الى شيء آخر ثابت معلوم ويجري عليه ويجعل متناولا له تناول الصفة للموصوف ، وذلك مثل : «رأيت أسدا» أي :رجلا شجاعا ، و «عنّت لنا ظبية» أي : امرأة (٣).

وقال القزويني : إنّ العامية المبتذلة هي التي يظهر الجامع فيها كالمثالين السابقين ، وتبعه في ذلك شراح تلخيصه وغيرهم (٤).

الاستعارة العقليّة :

هي الاستعارة التخييلية وقد تقدمت. وهذه تسمية الدمنهوري حينما قال : «فمراده بالعقلية التخلييلية بدليل المقابلة» (٥). ثم قال إنّ الاستعارة تتحقق حسّا وعقلا ، فان لم تتحقق كذلك وكان الأمر متوهما فالاستعارة تخييلية. وهذا ما ذهب اليه السكاكي بقوله : «والمراد بالتحقيقية أن يكون المشبه المتروك شيئا متحققا إما حسيا واما عقليا ، والمراد بالتخييلية أن يكون المشبه المتروك شيئا وهميا محضا لا تحقق له إلا في مجرد الوهم» (٦).

الاستعارة العناديّة :

هي ما لا يمكن اجتماع الطرفين في شيء كاستعارة اسم المعدوم للموجود لعدم نفعه واجتماع الوجود والعدم في شيء ممتنع (٧) ومن العنادية الاستعارة التمليحية أو التهكمية وقد مرّت. ومن أمثلة العنادية استعارة اسم الميت للحي الجاهل فانّ الموت والحياة ممتنع اجتماعهما.

الاستعارة غير المفيدة :

قسّم عبد القاهر الاستعارة الى مفيدة وغير مفيدة ، ويريد بغير المفيدة ما لا يكون لها فائدة في النقل ،

__________________

(١) الايضاح ص ٢٩٢ ، التلخيص ص ٣١١ ، شروح التلخيص ج ٤ ص ٨٦ ، المطول ص ٣٦٧ الاطول ج ٢ ص ١٣١ ، شرح عقود الجمان ص ٩٤ ، أنوار الربيع ج ١ ص ٢٤٧.

(٢) الطراز ج ١ ص ٢٣٢.

(٣) أسرار البلاغة ص ٤٢.

(٤) الايضاح ص ٢٩٢ ، التلخيص ص ٣١٠ ، شروح التلخيص ج ٤ ص ٨٥ ، المطول ص ٣٦٧ ، الأطول ج ٢ ص ١٣١ ، شرح عقود الجمان ص ٩٤ ، أنوار الربيع ج ١ ص ٢٤٧.

(٥) حلية اللب ص ١٢٥.

(٦) مفتاح العلوم ص ١٧٦.

(٧) الايضاح ص ٢٨٩ ، التلخيص ص ٣٠٨ ، شروح التلخيص ج ٤ ص ٧٧ ، المطول ص ٣٦٥ ، الأطول ج ٢ ص ١٣٠ ، معترك ج ١ ص ٢٨٣ ، أنوار الربيع ج ١ ص ٢٤٧.

٩٧

وموضعها حيث يكون اختصاص الاسم بما وضع له من طريق أريد به التوسع في أوضاع اللغة والتنوّق في مراعاة دقائق في الفروق في المعاني المدلول عليها كوضعهم للعضو الواحد أسامي كثيرة بحسب اختلاف أجناس الحيوان نحو وضع الشفة للانسان والمشفر للبعير والجحفلة للفرس وما شاكل ذلك من فروق. فاذا استعمل الشاعر منها في غير الجنس الذي وضع له فقد استعاره منه ونقله عن أصله وجاز به موضعه كقول الشاعر :

فبتنا جلوسا لدى مهرنا

ننزّع من شفتيه الصفارا (١)

فاستعمل الشفة في الفرس وهي موضوعة للانسان.

وقد علّق عبد القاهر على ذلك بقوله : «فهذا ونحوه لا يفيدك شيئا لو لزمت الأصلي لم يحصل لك ، فلا فرق من جهة المعنى بين قوله : «من شفتيه» وقوله : «من جحفلته» لو قاله ، إنما يعطيك كلا الاسمين العضو المعلوم فحسب بل الاستعارة ههنا بأن تنقصك جزء من الفائدة أشبه وذلك أنّ الاسم في هذا النحو إذا نفيت عن نفسك دخول الاشتراك عليه بالاستعارة دلّ ذكره على العضو وما هو منه. فاذا قلت : «الشفة» دلّ على الانسان ، أعني يدلّ على أنك قصدت هذا العضو من الانسان دون غيره. فاذا توهمت جري الاستعارة في الاسم زالت عنها هذه الدلالة بانقلاب اختصاصها الى الاشتراك. فاذا قلت : «الشفة» في موضع قد جرى فيه ذكر الانسان والفرس دخل على السامع بعض الشبهة لتجويزه أن تكون استعرت الاسم للفرس. ولو فرضنا أن تعدم هذه الاستعارة من أصلها وتحظر لما كان لهذه الشبهة طريق الى المخاطب فاعرفه» (٢).

وليس الأمر كذلك بل قد يكون هذا النوع من الاستعارة مفيدا ـ يحقق غرضا من الأغراض التي يسعى اليها الشاعر أو الكاتب كالتحقير والتحبيب والتزيين ، أو تقتضي ضرورة الشعر ذلك ، كما في البيت السابق فان الشاعر لم يستطع أن يأتي بلفظة «الجحفلة» لأنّ الوزن يختل ، وقد يكون أراد رسم صورة جميلة لمهره فشبهه بالطفل وسمّى جحفلته شفة. وكثيرا ما نجد مثل ذلك في كلام الناس ، ولم يخف ذلك على عبد القاهر ، فقد أشار الى أنّ ضرورة الشعر قد تضطر الشاعر الى أن يذكر كلمة أخرى غير الموضوعة في الأصل كما في قول المزرّد :

فما رقد الولدان حتى رأيته

على البكر يمريه بساق وحافر (٣)

وأراد أن يقول : «بساق وقدم» ولكن لم تطاوعه القافية.

وقد يجيء للذم كما يقال : «إنّه لغليظ الجحافل وغليظ المشافر» كما قال الفرزدق :

فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي

ولكنّ زنجيا غليظ المشافر

الاستعارة في الأسماء :

تتم أقسام الاستعارة المختلفة بطريق الاسم أو الفعل ، وكان عبد القاهر قد تحدث عن هذين القسمين ، وقرر أنّ اللفظة إذا دخلتها الاستعارة فانها لا تخلو من أن تكون اسما أو فعلا ، واذا كانت اسما فانه يقع مستعارا على قسمين :

أحدهما : أن ينقل عن مسماه الأصلي الى شيء آخر ثابت معلوم ويجرى عليه ، ويجعل متناولا تناول الصفة للموصوف. ومثل ذلك : «رأيت أسدا» أي :رجلا شجاعا ، و «عنّت لنا ظبية» أي : امرأة.

وثانيهما : أن يؤخذ الاسم عن حقيقته ويوضع موضعا لا يبين فيه شيء يشار اليه فيقال هذا هو المراد بالاسم والذي استعير له وجعل خليفة لاسمه الاصلي ونائبا منابه ومثاله قول لبيد :

__________________

(١) الصفار ؛ ما بقي في أسنان الدابة من التبن وغيره.

(٢) أسرار البلاغة ص ٣٠.

(٣) البكر ؛ الفتي من الأبل. يمري ؛ يحفزه ليسرع.

٩٨

وغداة ريح قد كشفت وقرة

إذ أصبحت بيد الشمال زمامها (١)

وذلك أنّه جعل للشمال يدا ، ومعلوم أنّه ليس هناك مشار اليه يمكن أن تجري اليد عليه كاجراء الأسد والسيف على الرجل في مثل : «انبرى لي أسد يزأر» و «سللت سيفا على العدو لا يفلّ» : والظباء على النساء في «من الظباء الغيد» والنور على الهدى والبيان في «أبديت نورا ساطعا».

والفرق بين القسمين أنّ التشبيه في الأول يأتي عفوا ، ولا يأتي في الثاني إلا بعد التأمل والتفكير (٢).

وقد أوضح المتأخرون ما يجري من الاستعارة في الاسم فقالوا إنّ الاسماء ثلاثة : الاول : الاسم العلم ولا مدخل للمجاز فيه ؛ لأنه في جميع مواقعه أصل ، ومن حق المجاز أن يكون مسبوقا بوضع أصلي ثم ينقل عنه ، ومن حق المجاز أن يكون بينه وبين ما نقل عنه علاقة يحسن لأجلها التجوز والنقل. وهذا غير موجود في الأعلام ، ولكنهم جوزوا ذلك في الأعلام التي اشتهرت بنوع من الوصف مثل حاتم في «رأينا اليوم حاتما» أي : رجلا كاملا الجود.

الثاني : الاسم المصدر وهو المشتق منه ، وقد يدخله المجاز إذا وقع في غير موضعه مثل : «رجل عدل» وغير ذلك من المشتقات والصفات.

الثالث : اسم الجنس ، وأكثر ما يرد المجاز في المفرد منه مثل «أسد» و «بحر» و «ليث» وغير ذلك من الاسماء المفردة.

وقد تدخل الاستعارة في أسماء الاشارة كقوله تعالى : (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ)(٣) ، فقوله :(هذا) استعارة لأنّه إنّما يستعمل حقيقة فيما كان قريبا مشارا اليه ، فالمجاز في الاشارة داخل هنا فيما يعرض من أحواله في القرب والبعد (٤).

الاستعارة في الأفعال :

تحدث عبد القاهر عنها وقال إنّ الفعل إذا استعير لما ليس له في الاصل فانّه يثبت باستعارته له وصفا هو شبيه بالمعنى الذي اشتق الفعل منه. ففي «نطقت الحال بكذا» و «أخبرتني أسارير وجهه بما في ضميره» و «كلمتني عيناه بما يحوي قلبه» نجد في الحال وصفا هو شبيه بالنطق من الانسان وذلك أنّ الحال تدلّ على الأمر ويكون فيها أمارات يعرف بها الشيء كما أنّ النطق كذلك ، وكذلك العين فيها وصف شبيه بالكلام وهو دلالتها بالعلامات التي تظهر فيها وفي نظرها وخواص أوصاف يحدس بها على ما في القلوب من الانكار والقبول.

قال عبد القاهر موضحا ذلك : «واذا كان أمر الفعل في الاستعارة على هذه الجملة رجع بنا التحقيق الى أنّ وصف الفعل بأنه مستعار حكم يرجع الى مصدره الذي اشتق منه. فاذا قلنا في قولهم : «نطقت الحال» إنّ «نطق» مستعار فالحكم بمعنى أنّ النطق مستعار ، واذا كانت الاستعارة تنصرف الى المصدر كان الكلام فيه على ما مضى» (٥).

والفعل يكون استعارة مرة من جهة فاعله الذي رفع به نحو «نطقت الحال بكذا» و «أخبرتني أسارير وجهه بما في ضميره» و «كلمتني عيناه بما يحوي قلبه».

ويكون أخرى استعارة من جهة مفعوله كقول ابن المعتز :

جمع الحقّ لنا في إمام

قتل البخل وأحيا السّماحا

ف «قتل» و «أحيا» إنّما صارا مستعارين بأن عدّيا الى البخل والسّماح ، ولو قال : «قتل الأعداء وأحيا» لم يكن «قتل» استعارة بوجه ولم يكن «أحيا» استعارة

__________________

(١) القر ؛ البرد ، قرة ؛ باردة.

(٢) أسرار البلاغة ص ٤٢ ، ٢٢٢.

(٣) ص ٥٥.

(٤) نهاية الايجاز ص ٨٧ ، البرهان الكاشف ص ١١٢ ، الطراز ج ١ ص ٨٨.

(٥) أسرار البلاغة ص ٥٠.

٩٩

على هذا الوجه. ومثله قوله الآخر :

وأقري الهموم الطارقات حزامة

إذا كثرت للطارقين الوساوس (١)

وهو استعارة من جهة المفعولين فأما من جهة الفاعل فهو محتمل للحقيقة وذلك أن يقول : «أقرى الأضياف النازلين اللحم العبيط». وقد يكون الذي يعطيه الاستعارة أحد المفعولين دون الآخر كقول القطامي :

نقربهم لهذميّات نقدّ بها

ما كان خاط عليهم كلّ زرّاد (٢)

وقد أوضح المتأخرون ذلك وقالوا إنّ الأفعال دالة على حصول أحداث في أزمنة معينة ، فالفعل الصناعي دالّ على المصدر وعبارة عنه ، فالمصدر إن وقع فيه مجاز فالفعل تابع وإن تعذر وقوع المجاز في المصدر فالفعل أحق بالتعذر (٣).

الاستعارة في الحروف :

لا مدخل للمجاز في الحروف ؛ لأنّ وضعها على أنّها تدل على معان في غيرها فلا بدّ من اعتبار الغير في دلالتها. ثم ذلك الغير إن كانت صالحة للدخول عليه مثل «زيد في الدار» و «عمرو من الكرام» فهي حقيقة في استعمالها وإن كانت غير صالحة لما دخلت عليه مثل : «من حرف جر» و «لم حرف نفي» صارت مجازا ، لكنّ التجوز إنما كان من جهة تركيبها لا من جهة الافراد والمنع إنّما كان في حالة الافراد لا في التركيب (٤).

ويمكن أن تدخل الاستعارة في الحرف إذا كان مضمنا ، لأنه في هذه الحالة يخرج عن معناه الاصلي الذي وضع له. وقد تحدث النحاة عن ذلك في باب التضمين على سبيل التوسع والتجوّز ، وتكلم عليه البلاغيون في الاستعارة التبعية وقالوا في قوله تعالى :(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً)(٥). إنه استعير في المشبه اللام الموضوع للمشبه به (٦).

الاستعارة القطعيّة :

وهي أن يكون المشبه المتروك متعيّن الحمل على ماله تحقق حسي أو عقلي أو على ما لا تحقق له البتة إلا في الوهم وهي الاحتمالية التي «يكون المشبه المتروك صالح الحمل على ما لا تحقق له» (٧).

وقد تحدث السكاكي عن لونين من هذه الاستعارة :

الأول : الاستعارة المصرح بها التحقيقية مع القطع ، قال : «هي اذا وجدت وصفا مشتركا بين ملزومين مختلفين في الحقيقة هو في أحدهما أقوى منه في الآخر وأنت تريد إلحاق الأضعف بالأقوى على وجه التسوية بينهما أن تدعي ملزوم الأضعف من جنس ملزوم الأقوى باطلاق اسمه عليه وسدّ طريق التشبيه بافراده في الذكر توصلا بذلك الى المطلوب لوجوب تساوي اللوازم عند تساوي ملزوماتها فاعلا ذلك في ضمن قرينة مانعة عن حمل المفرد بالذكر على ما يسبق منه الى الفهم كيلا يحمل عليه فيبطل الغرض التشبيهي بانيا دعواك على التأويل المذكور ليمكن التوفيق بين دلالة الافراد بالذكر وبين دلالة القرينة المتمانعتين ولتمتاز دعواك عن الدعوى الباطلة. مثال ذلك أن يكون عندك شجاع وأنت تريد أن تلحق جراءته وقوته بجراءة الأسد وقوته فتدعي الأسدية له

__________________

(١) قرى الضيف ؛ أضافه ، والقرى ما يقدم للضيف.

الحزامة ؛ ضبط الأمر وأحكامه.

(٢) اللهذميات ؛ السيوف القواطع. نقد ؛ نقطع.

الزراد ؛ صانع الزرد وهي الدروع.

(٣) الطراز ج ١ ص ٨٨ ، وينظر نهاية الايجاز ص ٨٨.

(٤) الطراز ج ١ ص ٨٨.

(٥) القصص ٨.

(٦) الايضاح ص ٢٩٩ ، التلخيص ص ٣١٥ ، شروح التلخيص ج ٤ ص ١٢٠ ، المطول ص ٣٧٥ ، الاطول ج ٢ ص ١٤٠ ، معترك ج ١ ص ٢٨٠ ، الاتقان ج ٢ ص ٤٥.

(٧) مفتاح العلوم ص ١٧٦.

١٠٠