معجم المصطلحات البلاغيّة وتطوّرها

الدكتور أحمد مطلوب

معجم المصطلحات البلاغيّة وتطوّرها

المؤلف:

الدكتور أحمد مطلوب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة لبنان ناشرون
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٥

قال إنّه نوعان : مزاوجة ومناسبة ، والمزاوجة تقع في الجزاء كقوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ)(١) أي جازوه بما يستحق على طريق العدل إلا أنّه استعير للثاني لفظ الاعتداء لتأكيد الدلالة على المساواة في المقدار فجاء على مزاوجة الكلام لحسن البيان. والمناسبة تدور في فنون المعاني التي ترجع الى أصل واحد كقوله تعالى : (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ)(٢) فجونس بالانصراف عن الذكر صرف القلب عن الخير ، والاصل فيه واحد وهو الذهاب عن الشي ، أما هم فذهبوا عن الذكر وأما قلوبهم فذهب عنها الخير (٣).

وأطلقه الحموي أيضا على المزاوجة فقال : «هذا النوع سمّوه المزاوجة والازدواج.» (٤) ونقل تعريف السكاكي وهو : «المزاوجة : هي أن تزاوج بين معنيين في الشرط والجزاء» (٥) كقول الشاعر :

إذا ما نهى الناهي فلجّ بي الهوى

أصاخ الى الواشي فلجّ به الهجر

وهذا ما ذكره الرماني ، ويبدو أنّ الإزدواج أعمّ من المزاوجة لأنّه لا يرتبط بالشرط الذي ذكره الرماني والسكاكي والحموي.

ومن الازدواج أيضا قوله تعالى : (عَلِيماً حَكِيماً) و (غَفُوراً رَحِيماً)(٦).

وقول الشاعر :

ومعظم النّصر يوم النّصر مطعمه

أنّى توجّه والمحروم محروم

وقول أبي تمام :

وكانا جميعا شريكي عنان

رضيعي لبان خليلي صفاء

وقول ابن الرومي :

أبدانهنّ وما لبس

ن من الحرير معا حرير

أردانهنّ وما مسس

ن من العبير معا عبير

الاستئناف :

تحدث عبد القاهر في مبحث الفصل والوصل عن الاستئناف وذكر له أمثلة كثيرة ، ومن ذلك قول اليزيدي :

ملّكته حبلي ولكنّه

ألقاه من زهد على غاربي

وقال إني في الهوى كاذب

انتقم الله من الكاذب

استأنف قول : «انتقم الله من الكاذب» لأنّه جعل نفسه كأنه يجيب سائلا قال له : فما تقول فيما اتهمك به من أنك كاذب؟ فقال : أقول : انتقم الله من الكاذب (٧).

وذكر السكاكي والقزويني كلام عبد القاهر وأمثلته ، (٨) وعرّفه التنوخي بقوله : «هو الاتيان بعد تمام كلام بقول يفهم منه جواب سؤال مقدر» (٩).

وهذا ما ذهب اليه السابقون. ثم قال : «فمنه ما يكون باعادة اسم أو صفة كقولك : «أكرم زيدا فزيد أهل الاكرام» أو «أكرم زيدا صديقك الصدوق» كأنه توهم أنّ قائلا يقول له : لم يكرم زيد؟ فكان استئنافه كالجواب لذلك. ومنه قوله تعالى : (تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ

__________________

(١) البقرة ١٩٤.

(٢) التوبة ١٢٧.

(٣) النكت في إعجاز القرآن ص ٩١ ، وينظر ما اتفق لفظه واختلف معناه ص ١٣.

(٤) خزانة الأدب ص ٤٣٥.

(٥) مفتاح العلوم ص ٢٠٠.

(٦) اقترن العليم بالحكيم والغفور بالرحيم في كثير من آيات القرآن الكريم.

(٧) دلائل الاعجاز ص ١٨٣.

(٨) مفتاح العلوم ص ١٢٧ ، الايضاح ص ١٥٥ ، التلخيص ص ١٨٦.

(٩) الأقصى القريب ص ٦٨.

٦١

الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى ، الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)(١). وقوله تعالى : (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى. اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى)(٢). والاستئناف هنا هو قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) وقوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى.) وقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ، وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(٣). يدفع وصفه تعالى باللطف والخبرة توهّم من يستبعد مدركا للبصر ولا يدركه البصر.

وقد يكون الاستئناف بما ليس فيه إعادة اسم ولا صفة كقوله تعالى : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ؟ قالَ : بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا ، فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ)(٤). تمّ الجواب بقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) واستأنف (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) تنبيها على أنّ جوابه كان تهكما بهم وليس على حقيقته وأنّ من لا ينطق كيف يفعل هذا بل كيف يكون إلها.

وهذا النوع في الكلام كثير ، وهو من لطيف البيان ، ولا ينبغي أن يعدّ هذا من الحذف ؛ لان المتكلم ما حذف من كلامه شيئا وانما السؤال لم يقع فكان هذا جوابه لو وقع.

وقسّم المتأخرون الاستئناف ثلاثة أضرب (٥) : لأنّ السؤال الذي تضمنته الجملة الأولى إما عن سبب الحكم فيها مطلقا كقول الشاعر :

قال لي؟ كيف أنت؟ قلت : عليل

سهر دائم وحزن طويل

أي : ما بالك عليلا؟ او ما سبب علتك؟

وكقول الآخر :

وقد غرضت من الدنيا فهل زمني

معط حياتي لغرّ بعد ما غرضا (٦)

جربت دهري وأهليه فما تركت

لي التجارب في ودّ امرئ غرضا

أي : لم تقول هذا ويحك؟ وما الذي اقتضاك أن تطوي عن الحياة الى هذا الحد كشحك؟

وإما عن سبب خاص له كقوله تعالى : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ)(٧) ، كأنه قيل : هل النفس أمّارة بالسوء؟ فقيل : إنّ النفس لأمّارة بالسوء.

وإما عن غيرهما كقوله تعالى : (قالُوا : سَلاماً ، قالَ : سَلامٌ)(٨) ، كأنه قيل : فماذا قال ابراهيم عليه‌السلام؟ فقيل : قال : سلام. ومنه قول الشاعر :

زعم العواذل أنّني في غمرة

صدقوا ، ولكن غمرتي لا تنجلي (٩)

فانه لما أبدى الشكاية من جماعات العذّال كان ذلك مما يحرك السامع ليسأل : أصدقوا في ذلك أم كذبوا؟ فأخرج الكلام مخرجه اذا كان ذلك قد قيل له ، ففصل.

وقد يحذف صدر الاستئناف لقيام قرينة كقوله تعالى : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ، رِجالٌ)(١٠) فيمن قرأ (يُسَبِّحُ) مبينا للمفعول. وقد يحذف الاستئناف كله كقول الشاعر :

زعمتم أنّ إخوتكم قريش

لهم إلف وليس لكم إلاف (١١)

حذف الجواب الذي هو : كذبتم في زعمكم وأقام

__________________

(١) طه ٤ ـ ٥.

(٢) طه ٧ ـ ٨.

(٣) الأنعام ١٠٣.

(٤) الأنبياء ٦٢ ـ ٦٣.

(٥) الايضاح ص ١٥٦ ، التلخيص ص ١٨٦ ، شروح التلخيص ج ٣ ص ٥٧ ، المطول ص ٢٥٩ الاطول ج ٢ ص ١٤.

(٦) غرض ؛ ضجر ومل. الغر ؛ من لا تجربة له.

(٧) يوسف ٥٣.

(٨) هود ٦٩ ـ ٣٧.

(٩) الغمرة ؛ الشدة. لا تنجلي ؛ لا تنكشف.

(١٠) النور ٣٦.

(١١) الالف والايلاف ؛ العهد.

٦٢

مقامه «لهم إلف وليس لكم إلاف» مقامه لدلالته عليه.

وقد يحذف ولا يقام شي مقامه كقوله تعالى : (نِعْمَ الْعَبْدُ)(١) أي : «أيوب» ، أو «هو» لدلالة ما قبل الآية وما بعدها عليه. ونحو قوله : (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ)(٢) ، أي : نحن.

الاستتباع :

يقال : استتبعه أي طلب اليه أن يتبعه (٣) ، والاستتباع هو المجيء بوجه يستتبع وجها آخر. وقد سمّاه العسكري المضاعفة وقال عنه : «هو أن يتضمن الكلام معنيين : معنى مصرح به ، ومعنى كالمشار اليه» (٤). وسماه ابن منقذ التعليق (٥) ، وتبعه في ذلك المصري الذي قال : «هو أن يأتي المتكلم بمعنى في غرض من أغراض الشعر ثم يعلق معنى به معنى آخر من ذلك الغرض يقتضي زيادة معنى من معاني ذلك الفن كمن يروم مدحا لانسان بالكرم فيعلق بالكرم شيئا يدلّ على الشجاعة بحيث لو أراد أن يخلص ذكر الشجاعة من الكرم لما قدر» (٦) وسماه كذلك ابن مالك والعلوي (٧) ، وسماه الرازي والحلبي والنويري وابن قيم الجوزية «الموجّه» (٨). وهذه تسمية الثعالبي فقد قال عن المتنبي ومحاسن شعره : «ومنها المدح الموجه كالثوب له وجهان ما منهما إلا حسن ، كقوله :

نهبت من الأعمار ما لو حويته

لهنئت الدنيا بأنّك خالد

قال ابن جني : لو لم يمدح أبو الطيب سيف الدولة إلا بهذا البيت وحده لكان قد بقي فيه ما لا يخلقه الزمان وهذا هو المدح الموجه ؛ لأنّه بنى البيت على ذكر كثرة ما استباحه من أعمار أعدائه ثم تلقاه من آخر البيت بذكر سرور الدنيا ببقائه واتصال أيامه. وكقوله :

عمر العدوّ إذا لاقاه في رهج

أقلّ من عمر ما يحوي إذا وهبا

مال كأنّ غراب البين يرقبه

فكلما قيل هذا مجتد نعبا

وقوله :

تشرق تيجانه بغرّته

إشراق ألفاظه بمعناها

وقوله :

تشرق أعراضهم وأوجههم

كأنما في نفوسهم شيم (٩)

وأخذ الوطواط هذه التسمية وقال : «المدح الموجه ، ويقصد بالفارسية ما يحتمل أن يكون على وجهين ، وتكون هذه الصنعة بان يمدح الشاعر ممدوحه بصفة من الصفات الحميدة بحيث يقرن بها صفة حميدة أخرى من صفاته فيحصل بذلك مدح الممدوح على وجهين» (١٠). ومثّل له بقول المتنبي : «نهبت من الاعمار» وسماه السكاكي الاستتباع وقال : «هو المدح بشيء على وجه يستتبع مدحا آخر» (١١) وذكر بيت المتنبي شاهدا. وتبعه في ذلك القزويني والسبكي والتفتازاني والحموي والسيوطي والاسفراييني والمغربي والدمنهوري (١٢). وفرّق

__________________

(١) ص ٣٠ ، ٤٤.

(٢) الذاريات ٤٨.

(٣) اللسان (تبع).

(٤) كتاب الصناعتين ص ٤٢٣.

(٥) البديع في نقد الشعر ص ٥٨.

(٦) تحرير التحبير ص ٤٤٣ ، بديع القرآن ص ١٧١.

(٧) المصباح ص ١٢٣ ، الطراز ج ٣ ص ١٥٩.

(٨) نهاية الايجاز ص ١١٤ ، حسن التوسل ص ٣١٩ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٨١ ، الفوائد ص ١٦٥.

(٩) يتيمة الدهر ج ١ ص ٢٠٠.

(١٠) حدائق السحر ص ١٣١.

(١١) مفتاح العلوم ص ٢٠٢.

(١٢) الايضاح ص ٣٧٤ ، التلخيص ص ٣٨٣ ، عروس الافراح ج ٤ ص ٣٩٦ ، المطول ص ٤٤٢ ، المختصر ج ٤ ص ٣٩٦ ، خزانة الأدب ص ٤١٧ ، شرح عقود الجمان ص ١٢٦ ، الاطول ج ٢ ص ٢١٧ ، مواهب الفتاح ج ٤ ص ٣٩٦ ، حلية اللب ص ١٤٧ ، نفحات ص ٢٩٤.

٦٣

المدني بينه وبين التكميل بقوله : «والفرق بين هذا النوع وبين التكميل ، أنّ التكميل يكمل ما وصف به أولا ، والاستتباع لا يلزم فيه ذلك» (١).

ومن أمثلة ما جاء من الاستتباع في الذم قول ابن هاني المغربي :

إنّ لفظا تلوكه لشبيه

بك في منظر الجفاء الجليف

وصفة بالعي وقبح اللهجة على وجه يستتبع وصفه بجفاء الخلقة والجلافة. ومن ذلك قول المدني :

وبثّوا الجياد السابحات ليلحقوا

وهل يدرك الكسلان شأو أخي المجد

فساروا وعادوا خائبين على وجى

كما خاب من قدبات منهم على وعد (٢)

الاستثناء :

الاستثناء من استثنيت الشيء من الشيء أي حاشيته (٣) ، وقد عرفه الاشموني بقوله : «الاستثناء هو الاخراج بـ «إلا» أو احدى اخواتها لما كان داخلا أو منزلا منزلة الداخل» (٤).

وقد تحدث العسكري عنه في باب البديع وقسمه الى قسمين :

الأول : أن تأتي معنى تريد توكيده والزيادة فيه فتستثني بغيره فتكون الزيادة التي قصدتها والتوكيد الذي توخيته في استثنائك كقول النابغة الذبياني :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

وقول الآخر :

فتى كملت أخلاقه غير أنّه

جواد فما يبقي من المال باقيا

فتى كان فيه ما يسرّ صديقه

على أنّ فيه يسوء الأعاديا

الثاني : استقصاء المعنى والتحرز من دخول النقصان فيه كقول طرفة :

فسقى ديارك ـ غير مفسدها ـ

صوب الربيع وديمة تهمي

وقول الآخر :

فلا تبعدن إلا من السوء إنن

اليك وإن شطّت بك الدار نازع (٥)

والأول هو الذي سماه ابن المعتز تأكيد المدح بما يشبه الذم (٦) ، والثاني الاحتراس وذكر الباقلاني النوع الأول وسماه استثناء وقال : «ومن البديع ضرب من الاستثناء» (٧) ، وذكر أمثلة العسكري. وتابعه ابن رشيق غير أنّه أخرج الاحتراس الذي ذكره العسكري من هذا الباب ، وقال : «ومن أصحاب التأليف من يعد في هذا الباب ما ناسب قول الشاعر :

فأصبحت مما كان بيني وبينها

سوى ذكرها كالقابض الماء باليد

وقال الربيع بن ضبيع الفزاري :

فنيت وما يفنى صنيعي ومنطقي

وكلّ امرئ إلّا أحاديثه فاني

وليس من هذا الباب عندي ، وإنّما هو من باب الاحتراس والاحتياط ، فلو أدخلنا في هذا الباب كل ما وقع فيه استثناء لطال ولخرجنا فيه عن قصده وغرضه ، ولكل نوع موضع» (٨).

__________________

(١) أنوار الربيع ج ٦ ص ١٤٩ ، شرح الكافية ص ٢٨٨.

(٢) الوجى ؛ الحفا.

(٣) اللسان (ثني) ، وينظر التعريفات ص ١٧.

(٤) شرح الأشموني ص ٢٢٧.

(٥) كتاب الصناعتين ص ٤٠٨.

(٦) البديع ص ٦٢ وينظر المنصف ذي نقد الشعر لابن وكيع ص ٧١.

(٧) اعجاز القرآن ص ١٦٠.

(٨) العمدة ج ٢ ص ٥٠ ، وينظر المنزع البديع ص ٢٨٦.

٦٤

وسار على هذا النهج التبريزي والبغدادي (١) ، وسماه المظفر العلوي استثناء أيضا ولكنه قال : «وقد عبّر عنه جماعة فكان أقرب أقوالهم الى القلب ما ذكره عبد الله بن المعتز فانه قال : «الاستثناء في الشعر تأكيد مدح بما يشبه الذم» (٢) وفعل مثله المصري فقال : «الاستثناء استثناءان : لغوي وصناعي ، فاللغوي اخراج القليل من الكثير ، وقد فرغ النحاة من ذلك مفصلا في كتبهم. والصناعي هو الذي يفيد بعد اخراج القليل من الكثير معنى زائدا يعدّ من محاسن الكلام ، يستحق به الاتيان في أبواب البديع. ومتى لم يكن في الاستدراك والاستثناء معنى من المحاسن غير ما وضعا له لا يعدّ ان من البديع» (٣).

وتابعه ابن الاثير الحلبي في التعريف والأمثلة (٤) ، وعرفه ابن قيم الجوزية بقوله : «هو أن يذكر شيئا ثم يرجع عنه أو يدخل شيئا ثم يخرج منه بعضه» (٥) وقال إن الاستثناء في القرآن الكريم كثير ، وأما الرجوع فلا ينبغي أن يكون في كتاب الله منه شي ؛ لأنّ المتكلم به لا يليق بجلاله أن يوصف بالرجوع عن شي ، وأما ما سوى القرآن ففيه منه كثير.

وعقد الزركشي بابا للاستثناء وقال : «وقريب منه تأكيد المدح بما يشبه الذم بان يستثني من صفة ذم منفية عن الشي صفة مدح بتقدير دخولها فيها» (٦) ، وقال إنّ التأكيد فيه من وجهين : على الاتصال في الاستثناء ؛ والانقطاع.

وعاد الحمودي الى نهج المصري وابن الاثير الحلبي ونقل ما ذكراه (٧) ، وقرن السيوطي الاستدراك بالاستثناء وقال : إنّ «شرط كونهما من البديع أن يتضمنا ضربا من المحاسن زائدا على ما يدل عليه المعنى اللغوي» (٨). وذكر المدني هذا الشرط فقال : «فليس كل استثناء يعدّ من المحسنات البديعية بل يشترط فيه اشتماله على معنى يزيد على معنى الاستثناء اللغوي حتى يستحق به نظمه في سلك أنواع البديع» (٩).

ويتضح أنّ البلاغيين نظروا الى الاستثناء من زاويتين :

الاولى : أنّه تأكيد المدح بما يشبه الذم كما فعل ابن المعتز والعسكري.

الثانية : انه الاستثناء النحوي الذي يشتمل على معنى يزيد على معنى الاستثناء اللغوية ، ويمثل هذا الاتجاه المصري وابن الأثير الحلبي والسيوطي والمدني.

ومن أمثلة الاستثناء قوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا ، قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا : أَسْلَمْنا)(١٠). فان الكلام لو اقتصر فيه على ما دون الاستدراك لكان منفرا لهم ؛ لأنّهم ظنوا الاقرار بالشهادتين من غير اعتقادهما إيمانا فأوجبت البلاغة تبيين الايمان فاستدرك ما استدركه من الكلام ليعلم أنّ الايمان موافقة القلب للسان وأنّ انفراد اللسان بذلك يسمى اسلاما لا ايمانا ، وزاده ايضاحا بقوله تعالى : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ)(١١) فلما تضمن الاستدراك ايضاح ما على ظاهر الكلام من الاشكال عدّ من المحاسن. وكذلك الاستثناء لا بدّ من تضمنه معنى زائدا على الاستثناء كقوله تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ)(١٢) ، فان هذا

__________________

(١) الوافي ص ٢٨٣ ، قانون البلاغة ص ٤٥٠.

(٢) نضرة الاغريض ص ١٢٨.

(٣) تحرير التحبير ص ٣٣٣ ، بديع القرآن ص ١٢١.

(٤) جوهر الكنز ص ٢٤٦.

(٥) الفوائد ص ١٧١.

(٦) البرهان في علوم القرآن ج ٣ ص ٥١.

(٧) خزانة ص ١١٨.

(٨) معترك ج ١ ص ٢٩٠ ، شرح عقود الجمان ص ١٣٢ ، الروض المريع ص ١١٩.

(٩) انوار الربيع ج ٣ ص ١٠٩ ، نفحات ص ٢١٩ ، كفاية الطالب ص ١٩٢ ، شرح الكافية ص ١١١.

(١٠) الحجرات ١٤.

(١١) الحجرات ١٤.

(١٢) الحجر ٣٠ ـ ٣١.

٦٥

الاستثناء لو لم يتقدم لفظه هذا الاحتراس من قوله تعالى (كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) لما جاز اثباته في أبواب البديع فانه لو اقتصر فيه على قوله (فسجد الملائكة إلا إبليس) لاحتمل أن يكون من الملائكة من لم يسجد فيتأسّى به إبليس ولا يكون منفردا بهذه الكبيرة لاحتمال أن تكون أداة التعريف للعهد لا للجنس ، فلما كان هذا الاشكال يتوجه على الكلام اذا اقتصر فيه على ما دون التوكيد وجب الاتيان بالتوكيد ، ليعلم أنّ أداة التعريف للجنس فيرتفع هذا الاشكال بهذا الاحتراس فحينئذ تعظم كبيرة ابليس لكونه فارق جميع الملأ الأعلى وخرق اجماع الملائكة فيستحق أن يفرد بما جرى عليه من اللعن الى آخر الأبد.

ومنه قول زهير :

أخو ثقة لا تهلك الخمر ما له

ولكنّه قد يهلك المال نائله

وقول أبي نواس :

لمن طلل عاري المحلّ دفين

عفا آيه إلّا خوالد جون

وقول الآخر :

تبّت يد سألت سواك وأجدبت

أرض بغير بحار جودك توسم

فالعزّ إلّا في حياتك ذلّة

والمال إلّا من يديك محرّم

وهناك نوع آخر من الاستثناء وقع للمصري وسماه «استثناء الحصر».

استثناء الحصر :

وقع هذا النّوع للمصري وهو الذي سماه بهذا الاسم قال : «ومن الاستثناء ، نوع وقع لي فسميته استثناء الحصر ، وهو غير الاستثناء الذي يخرج القليل من الكثير» (١). كقول القائل :

إليك وإلا ما تحثّ الركائب

وعنك وإلّا فالمحدّث كاذب

فان خلاصة هذا البيت قول الشاعر للممدوح : لا تحث الركائب إلّا اليك ولا يصدق المحدث إلا عنك ، ولا يحصل هذا الحصر من الاستثناء السابق.

وقد شرح المصري ذلك بقوله : «فان قوله تعالى : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً)(٢) لا يمنع أن يقال : إلا خمسين عاما وعاما لو لا توخي الصدق في الخبر. وقوله سبحانه : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ)(٣) لا يمنع ان يقال :

ورهطه ، لو لا مراعاة الصدق ، ولأنّ الصيغ التي قدرها المعترض لا يقع مثلها في الكلام الفصيح فانها عبارة أهل العي والفهد. فان قلت : كل الاستثناء موضوع للحصر فلا اختيار لهذا الاستثناء على الأول ، وما قدرته في الاستثناء الأول يلزم مثله في هذا الاستثناء إذا أزلت منه التقديم والتأجير وأتيت بالكلام على استقامته. قلت : الذي ميّز هذا الاستثناء على الأول هو ما فيه من التقديم والتأجير فانه على الصورة التي جاء عليها يفيد حصرا أشد من حصر جنس الاستثناء كله».

وذكر الحموي والسيوطي هذا النوع ونسباه الى المصري (٤) ، ولكن المدني علّق على ذلك بقوله : «وأنا أقول : أما لفظ البيت (٥) فليس فيه استثناء و «إلّا» المذكورة في صدره وعجزه ليست هي الاستثنائية وانما هي بمعنى «إن لم» فهي كلمتان «ان» الشرطية

__________________

(١) تحرير التحبير ص ٣٣٧.

(٢) العنكبوت ١٤.

(٣) الحجر ٣٠ ـ ٣١

(٤) خزانة الأدب ص ١١٩ ، شرح عقود الجمان ص ١٣٢.

(٥) البيت هو ؛

إليك والّا ما تحث الركائب

وعنك وإلّا فالمحدث كاذب

٦٦

و «لا» النافية ، مثلها في قوله تعالى : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ)(١) ، لان تقدير البيت هكذا : «اليك تحث الركائب والا» أي وإن لم تحث اليك لا تحث.

و «عنك يحدث المحدث وإلا» أي وان لم يحدث عنك فالمحدث كاذب. وأما معناه الذي ذكره فالاستثناء فيه ظاهر ، فعلى هذا فالأليق أن يسمى هذا استثناء معنويا لئلا يتوهم من لا له دربة في العربية أن «إلّا» فيه هي الاستثنائية فيخبط خبط عشواء» (٢).

الاستثناء المعنويّ :

هو استثناء الحصر الذي تحدث عنه المصري في باب الاستثناء وقال إنّه نوع وقع له فسماه بهذا الاسم (٣) ، ولكن المدني فضّل أن يسمى هذا النوع «الاستثناء المعنوي» لئلا يتوهم من لا له دربة في العربية ان «إلّا» فيه هي الاستثنائية فيخبط خبط عشواء (٤).

الاستحالة والتّناقض :

الاستحالة من استحال ، وقد قيل : كل شيء تغير عن الاستواء الى العوج فقد حال واستحال وهو مستحيل. وكلام مستحيل أي محال ، والمحال ما عدل به عن وجهه. ويقال : أحلت الكلام أحيله إحالة اذا أفسدته ، وأحال الرجل أتى بالمحال وتكلم به أي بما لا يمكن وقوعه (٥). وللاستحالة معنى آخر وهو «حركة في الكيف كتسخن الماء وتبرده مع بقاء صورته النوعية» (٦) ، والأول هو ما يتصل بالاستحالة في البلاغة ؛ أما الثاني فهو مما يدخل في غير هذا الفن.

والاستحالة والتناقض من عيوب المعاني وقد تحدث عنهما قدامة فقال : «وهما أن يذكر في الشعر شيء فيجمع بينه وبين المقابل له من جهة واحدة.

والأشياء تتقابل على أربع جهات : إما عن طريق المضاف ، ومعنى المضاف هو الشيء الذي يقال بالقياس الى غيره مثل الضعف الى نصفه ، والمولى الى عبده ، والأب الى ابنه ، فكل واحد من الأب والابن والمولى والعبد والضعف والنصف يقال بالاضافة الى الآخر ، وهذه الأشياء من جهة ما ان كان واحد منها يقال بالقياس الى غيره هي من المضاف ، ومن جهة أن كل واحد منها بازاء صاحبه كالمقابل له فهي من المتقابلات.

وإما على طريق التضاد مثل : الشرير للخيّر والحار للبارد والأبيض للأسود. وإمّا على طريق العدم والقنية (٧) مثل الأعمى والبصير والأصلع وذي الجمّة. وإما على طريق النفي والاثبات مثل أن يقال : «زيد جالس ، زيد ليس بجالس» فاذا أتى في الشعر جمع بيع متقابلين من هذه المتقابلات وكان هذا الجمع من جهة واحدة فهو عيب فاحش غير مخصوص بالمعاني الشعرية بل هو لا حق بجميع المعاني. وأعني بقولي : «من جهة واحدة» انه قد يجوز أن يجتمع في كلام منثور أو منظوم متقابلان من هذه المتقابلات ويكون ذلك الاجتماع من جهتين لا من جهة واحدة فيكون الكلام مستقيما غير محال ولا متناقض. مثال ذلك أن يقال في تقابل المضاف : إنّ العشرة مثلا ضعف وإنّها نصف ، لكن يقال إنّها ضعف لخمسة ونصف لعشرين ، فلا يكون ذلك محالا إذا قيل من جهتين ، فاما من جهة واحدة كما اذا قيل إنّها ضعف ونصف لخمسة ، فلا. وكذلك يجوز أن يجتمع المتقابلات على طريق العدم والقنية من جهتين مثال ذلك أن يقال : «زيد أعمى بصير القلب» فيكون ذلك صحيحا ، فاما من جهة واحدة

__________________

(١) التوبة ٤٠.

(٢) أنوار الربيع ج ٣ ص ١١٣ ـ ١١٤.

(٣) تحرير التحبير ص ٣٣٧.

(٤) أنوار الربيع ج ٣ ص ١١٣ ـ ١١٤.

(٥) اللسان (حول).

(٦) التعريفات ص ١٤.

(٧) القنية ؛ ما اكتسب ، يقال «له غنم قنية» أي خالصة له ثابتة عليه.

٦٧

كما لو قيل في انسان واحد إنه أعمى العين بصيرها ، فلا. وكذلك في التضاد أن يقال في الفاتر «حار» عند البارد و «بارد» عند الحار ، فأما عند أحدهما فلا. وفي النفي والاثبات أن يقال : «زيد جالس» في وقته الحاضر الذي هو جالس ، و «غير جالس» في الوقت الآتي الذي يقوم فيه إذا قام ، فذلك جائز ، فاما في وقت واحد وحال واحدة «جالس» و «غير جالس» فلا. ولهذه العلة يجوز ما يأتي في الشعر على هذه السبيل مثل ما قال خفاف بن ندبة :

إذا انتكث الحبل ألفيته

صبور الجنان رزينا خفيفا (١)

فلو لم تكن ارادته أنه رزين من حيث ليس خفيفا ، وخفيف من حيث ليس رزينا ، لم يجز» (٢).

وتحدث ابن سنان في باب المعاني عن الاستحالة التناقض وقال : «إنّ من الصحة تجنب الاستحالة والتناقض ، وذلك أن يجمع بين المتقابلين من جهة واحدة» (٣). وذكر بعض ما ذكره قدامة. وفرّق بين المستحيل والممتنع بقوله : «وقد فرق بين المستحيل والممتنع بأنّ المستحيل هو الذي لا يمكن وجوده ولا تصوره في الوهم مثل كون الشيء أسود أبيض وطالعا نازلا ، فان هذا لا يمكن وجوده ولا تصوره في الوهم ، والممتنع هو الذي يمكن تصوّره في الوهم وإن كان لا يمكن وجوده مثل أن يتصور تركيب بعض أعضاء الحيوان من نوع آخر منه كما يتصور يد أسد في جسم انسان ، فانّ هذا وإن كان لا يمكن وجوده فانّ تصوره في الوهم ممكن. وقد يصح أن يقع الممتنع في النظم والنثر على وجه المبالغة ، ولا يجوز أن يقع المستحيل البتة» (٤).

وقال البغدادي إنّ المستحيل «هو الشيء الذي لا يوجد ولا يمكن مع ذلك أن يتصوّر في الفكر مثل الصاعد النازل في حال واحدة ، فانّ هذه الحال لا يمكن أن تكون ولا تصوّر في الذهن» (٥). ثم قال عن الامتناع إنّه «هو الذي وان كان لا يوجد فيمكن أن يتخيل ، ومنزلته دون منزلة المستحيل في الشناعة مثل أن تركب أعضاء حيوان ما على جثة حيوان آخر فانّ ذلك جائز في التوهم ولكنه معدوم في الوجود».

وعرّف التناقض بمثل تعريفي قدامة وابن سنان ، وذكر جهات التقابل الأربع.

ومما جاء من الاستحالة والتناقض على جهة التضاد قول أبي نواس يصف الخمر :

كأنّ بقايا ما عفى من حبابها

تفاريق شيب في سواد عذار (٦)

فشبّه حباب الكأس بالشيب وذلك قول جائز لأنّ الحباب يشبه الشيب في البياض وحده لا في شيء آخر غيره ، ثم قال :

تردّت به ثم انفرى عن أديمها

تفرّي ليل عن بياض نهار (٧)

فالحباب الذي جعله في هذا البيت الثاني كالليل هو الذي كان في البيت الأول أبيض كالشيب ، والخمر التي كانت في البيت الأول كسواد العذار هي التي صارت في البيت الثاني كبياض النهار ، وليس في هذا التناقض منصرف الى جهة من جهات العذر ، لأنّ الأبيض والأسود طرفان متضادان ، ولا يجوز أن يوصف الشيء بالسواد والبياض في آن واحد.

ومما جاء من التناقض على طريق المضاف قول عبد الرحمن بن عبد الله القس :

__________________

(١) انتكث الحبل ؛ انتقض. الجنان ـ بفتح الجيم ـ القلب.

(٢) نقد الشعر ص ٢٣٢.

(٣) سر الفصاحة ص ٢٨١.

(٤) سر الفصاحة ص ٢٨٧.

(٥) قانون البلاغة ص ٤١٣ وقد تكلم عليه سيبويه في كتابه ج ١ ص ٢٥.

(٦) عفى ؛ أمحى. الحباب ؛ الفقاقيع التي تعلو الماء أو الخمر. العذار ؛ جانب اللحية.

(٧) تردت به ؛ اتخذته رداءا. أنفرى : انشق.

٦٨

فاني إذا ما الموت حلّ بنفسها

يزال بنفسي قبل ذاك فأقبر

فقد جمع بين «قبل» و «بعد» وهما من المضاف لأنّه لا قبل إلا لبعد ، ولا بعد إلا لقبل ، حيث قال : إنّه اذا وقع الموت بها ، وهذا القول كأنه شرط وضعه ليكون له جواب يأتي به ، وجوابه هو قوله : يزال بنفسي قبل ذاك ، وهذا شبيه بقول قائل لو قال : إذا انكسر الكوز انكسرت الجرة قبله ، وقد جعل هذا الشاعر ما هو قبل بعداومما جاء من التناقض على طريق القنية والعدم قول يحيى بن نوفل :

لأعلاج ثمانية وشيخ

كبير السّن ذي بصر ضرير (١)

فلفظة «ضرير» تستعمل في الأكثر للذي لا بصر له ، قول الشاعر في هذا الشيخ : إنّه ذو بصر وإنّه ضرير تناقض من جهة القنية والعدم ، وذلك كأنه يقول : إنّ له بصرا ولا بصر له فهو بصير أعمى.

ومن التناقض على طريق الايجاب والسلب قول عبد الرحمن بن عبد الله القس :

أرى هجرها والقتل مثلين فاقصروا

ملامكم فالقتل أعفى وأيسر

فأوجب هذا الشاعر الهجر والقتل انهما مثلان ثم سلبهما ذلك بقوله : «إنّ القتل أعفى وأيسر» فكأنه قال : «إنّ القتل مثل الهجر وليس هو مثله ، ولو قال «بل القتل أعفى وأيسر» لكان الشعر مستقيما.

الاستحقاق :

الاستحقاق : الاستيجاب ، يقال : استحق الشيء أي استوجبه (٢).

والاستحقاق من أنواع أخذ المعنى عند القرطاجني ، ويفهم من كلامه أنّ الشاعر يستحق المعنى اذا فضلت عبارته عن عبارة المتقدم ، وهذا حسن جيد في باب الأخذ الذي تحدث عنه البلاغيون على مختلف العهود. قال القرطاجني وهو يتحدث عن المعاني : «فمراتب الشعراء فيما يلمون به من المعاني إذن أربع : اختراع واستحقاق وشركة وسرقة. فالاختراع هو الغاية في الاستحسان ، والاستحقاق تال له ، والشركة منها ما يساوي الآخر فيه الأولى فهذا لا عيب فيه ، ومنها ما ينحط فيه الآخر عن الأول فهذا معيب ، والسرقة كلها معيبة وان كان بعضها أشد قبحا من بعض» (٣). وفي هذا النص يتضح أنّ الاستحقاق ليس مما يعاب بل إنّه بعد الاختراع في المنزلة. وقد أوضح القرطاجني هذه المسألة بقوله : «فاذا تساوى تأليفا الشاعرين في ذلك فانه يسمى الاشتراك ، وإن فضلت فيه عبارة المتقدم فذلك الاستحقاق لأنّه استحقّ نسبة المعنى اليه باجادته نظم العبارة عنه» (٤).

الاستخبار :

الاستخبار من استخبر ، واستخبر : سأله عن الخبر وطلب أن يخبره ، ويقال : تخبرت الخبر واستخبرته ، وتخبرت الجواب واستخبرته. والاستخبار والتخبر :السؤال عن الخبر ، واستخبر إذا سأل عن الأخبار ليعرفها (٥).

وكان ثعلب قد ذكر أنّ قواعد الشعر أربع : أمر ، ونهي ، وخبر ، واستخبار. (٦) ولم يعرّف الاستخبار وإنّما قال إنه كقول قيس بن الخطيم :

أنّى سربت وكنت غير سروب

وتقرّب الأحلام غير قريب

__________________

(١) العلج ؛ الرجل من كفار العجم.

(٢) اللسان (حقق).

(٣) منهاج البلغاء ص ١٩٦.

(٤) منهاج البلغاء ص ١٩٣.

(٥) اللسان (خبر).

(٦) قواعد الشعر ص ٢٥.

٦٩

ما تمنعي يقظى فقد تؤتينه

في النّوم غير مصرّد محسوب (١)

فالاستخبار عنده هو الاستفهام ، وهو ما ذهب اليه ابن قتيبة حينما قال : «الكلام أربعة : أمر ، وخبر ، واستخبار ، ورغبة» (٢). ولكنهما لم ينصا على ذلك وإن كان ذلك مفهوما من تقسيمهما الكلام ، غير أنّ ابن فارس قال عنه : «الاستخبار : طلب خبر ما ليس عند المستخبر ، وهو الاستفهام. وذكر ناس أنّ بين الاستخبار والاستفهام أدنى فرق ، قالوا : وذلك أنّ اولى الحالين الاستخبار ؛ لانك تستخبر فتجاب بشيء فربما فهمته وربما لم تفهمه ، فاذا سألت ثانية فانت مستفهم ، تقول : أفهمني ما قلته لي. قالوا : والدليل على ذلك ان الباري ـ جل ثناؤه ـ يوصف بالخبر ولا يوصف بالفهم» (٣). وذكر الزركشي مثل ذلك وقال إنّ الاستخبار بمعنى الاستفهام ، وأشار الى من فرّق بينهما نقلا عن ابن فارس (٤). ولكنّ البلاغيين أداروا مصطلح «الاستفهام» في مباحثهم وكتبهم ، وهو ما استعمله النحاة حينما تحدثوا عن أدوات الاستفهام ، في حين أنّ عبد القاهر قد قال إنّ الاستفهام استخبار ، «والاستخبار هو طلب من المخاطب أن يخبرك» (٥).

الاستخدام :

الاستخدام في اللغة استفعال من الخدمة (٦) وذكر الخطيبي أنّه «يسمى أيضا الاستحدام ـ بالحاء المهملة» (٧) ، ولا صلة لهذه الكلمة بالاستخدام الذي هو «أن تكون الكلمة لها معنيان فتحتاج اليها فتذكرها وحدها فتخدم للمعنيين» (٨) ، لأن الحدم شدة احماء الشيء بحر الشمس والنار ، يقال : حدمه فاحتدم ، وحدمة النار : صوت التهابها ، والاحتدام شدة الحر ، واحتدمت النار : التهبت ، واحتدم صدر فلان غيضا ، واحتدمت القدر : إذا اشتد غليانها ، واحتدم الدم إذا اشتدت حمرته حتى يسودّ. ولا صلة للاستخدام بالاستخذام ، لأن الحذم القطع أو الاسراع في المشي أو المشي الخفيف (٩).

وكان ابن منقذ أول من عرّفه بقوله : «اعلم أنّ الاستخدام هو أن تكون الكلمة لها معنيان فتحتاج اليها فتذكرها وحدها فتخدم للمعنيين» (١٠). ومثّل له بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى)(١١) ، والصلاة ههنا تحتمل أن تكون فعل الصلاة وموضع الصلاة ، فاستخدم الصلاة بلفظ واحد ؛ لانه قال سبحانه : (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) فدلّ على أنّه أراد موضع الصلاة ، وقال تعالى : (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) فدلّ على أنه فعل الصلاة.

وذكر قول البحتري :

فسقى الغضا والساكنيه وإن هم

شبّوه بين جوانح وقلوب

فالغضا يحتمل أن يكون الموضع ، ويحتمل أن يكون الشجر ، فاستخدم المعنيين بقوله : «والساكنيه» وبقوله : «وإن هم شبّوه».

ومن ذلك قول بعض العرب :

إذا نزل السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

فالسماء تحتمل معنيين : المطر والنبات ، فاستخدم المعنيين بقوله : «إذا نزل» وبقوله : «رعيناه» لأنّ النزول من حالات المطر والرعي من حالات الكلأ.

__________________

(١) سربت ؛ سريت. غير سروب ؛ غير مبعدة ، أي انها لا تبعد الضرب في الأرض. مصرد ؛ مقلل.

(٢) أدب الكاتب ص ٤.

(٣) الصاحبي ص ١٨١.

(٤) البرهان في علوم القرآن ج ٢ ص ٣٢٦.

(٥) دلائل الاعجاز ص ١٠٨.

(٦) اللسان (خدم) وخزانة الأدب ص ٥٢ ، وأنوار الربيع ج ١ ص ٣٠٧.

(٧) عروس الافراح ج ٤ ص ٣٢٦.

(٨) البديع في نقد الشعر ص ٨٢.

(٩) اللسان (حدم) و (حذم).

(١٠) البديع في نقد الشعر ص ٨٢.

(١١) النساء ٤٣.

٧٠

وذكر ابن منقذ نوعا آخر من الاستخدام ومثّل له بقول الشاعر :

اسم من ملّني ومن صدّ عني

وجفاني لغير ذنب وجرم

والذي ضنّ بالوصال علينا

مثلما ضنّ بالهوى قلب نعم

وهذا استخدام في الاعراب ، لأنّ «قلب» مرفوع بالابتداء وبفاعل «ضنّ» وهو أيضا استخدام في المعنى لأنّ معنى قلب من القلوب ومعنى العكس لأن الاسم معن.

وعرّفه ابن شيث القرشي بقوله : «هو أن تكون الكلمة تقتضي معنيين فتستخدم فيهما جميعا» (١) ومثاله : «أنا على عهدك الذي تعلمه لم أحلّ من أمرك عقدا ، ولا مكانا آنس منك فيه فقدا» ، فقد استعمل «أحل» للمعنيين ، ومثاله : «أنت في قلبي مالي عنك ولا لغيرك قلب» ، فـ «قلب» مستخدمة لقوله : «لي» ولقوله : «عنك».

وقال المصري : «هو أن يأتي المتكلم بلفظة لها معنيان ثم يأتي بلفظتين تتوسط تلك اللفظة بينهما ، ويستخدم كل لفظة منهما لمعنى من معنيي تلك اللفظة المتقدمة» (٢). وربما التبس هذا الفن بالتورية ولذلك قال : «والفرق بينهما أنّ التورية استعمال أحد المعنيين من اللفظة وإهمال الآخر ، والاستخدام استعمالهما معا».

ونقل الحلبي والنويري تعريف المصري (٣) ، واختلف تعريف الاستخدام بعد ذلك وانقسم البلاغيون الى مؤيد لابن مالك ومنتصر للقزويني ، فابن مالك يقول : «إنّ الاستخدام اطلاق لفظ مشترك بين معنيين ثم يأتي بلفظين يفهم من أحدهما أحد المعنيين ، ومن الآخر المعنى الآخر ، ثم انّ اللفظين قد يكونان متأخرين عن اللفظ المشترك وقد يكونان متقدمين ، وقد يكون اللفظ المشترك متوسطا بينهما» (٤). ومثال هذه الطريقة قوله تعالى : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ ، يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ)(٥) ، فان لفظة (كِتابٌ) يحتمل أن يراد بها الأجل المحتوم والكتاب المكتوب ، وقد توسطت بين لفظتي (أَجَلٍ) و (يَمْحُوا) فاستخدمت أحد مفهوميها وهو الأمد بقرينة ذكر الأجل ، واستخدمت المفهوم الآخر وهو الكتاب المكتوب بقرينة (يَمْحُوا).

وهذا ما ذكره المصري من قبل حينما ذكر هذه الآية شاهدا للاستخدام.

والقزويني يقول : «هو أن يراد بلفظ له معنيان أحدهما ثم بضميره معناه الآخر ، أو يراد بأحد ضميريه أحدهما وبالآخر الآخر» (٦). وسار على هذا المذهب معظم البلاغيين واصحاب البديعيات (٧).

ورجع ابن قيم الجوزية الى تعريف ابن منقذ وامثلته (٨) ، وذكر الحموي طريقتي ابن مالك والقزويني ثم قال : «وعلى كل تقدير فالطريقتان راجعتان الى مقصود واحد ، وهو استعمال المعنيين بضمير وغير ضمير» (٩). وذكر الآية التي استشهد بها ابن مالك ثم قال : «ومنه قوله من القصيدة النباتية :

حويت ريقا نباتيا حلا فغدا

ينظّم الدرّ عقدا من ثناياك

__________________

(١) معالم الكتابة ص ٨٢.

(٢) تحرير ص ٢٧٥ ، بديع القرآن ص ١٠٤ ، وينظر البرهان ج ٣ ص ٤٤٦.

(٣) حسن التوسل ص ٢٦٧ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٤٣.

(٤) خزانة الأدب ص ٥٢ ، انوار ج ١ ص ٣٠٨. وقد سقط هذا التعريف والفن كله من المصباح المطبوع.

(٥) الرعد ٣٨ ـ ٣٩.

(٦) الايضاح ص ٣٥٤ ، التلخيص ص ٣٦٠.

(٧) عروس ج ٤ ص ٣٢٦ ، المطول ص ٤٢٦ ، المختصر ج ٤ ص ٣٢٦ ، الاطول ج ٢ ص ١٩٥ ، مواهب ج ٤ ص ٤٢٦ ، نفحات ص ٧٩.

(٨) الفوائد ص ٢١٦.

(٩) خزانة ص ٥٣.

٧١

فان لفظة «نباتي» يحتمل الاشتراك بالنسبة الى السكر والى ابن نباتة الشاعر وقد توسطت بين «الريق» وحلاوته وبين «الدر» و «النظم» و «العقد» فاستخدمت أحد مفهوميها وهو السكر النباتي بذكر الريق والحلاوة ، واستخدمت من المفهوم الآخر وهو قول الشاعر «النباتي» بذكر النظم والدر والعقد». وذكر أنّ شاهد الضمائر على طريقة القزويني بيت واحد وهو قول القائل : «إذا نزل السماء ...» ، وأنّ شاهد الضميرين قول البحتري : «فسقى الغضا ...» ولم يخرج البلاغيون عن هذين البيتين في مثل هذه الحالة وإن ذكروا غيرهما في الحالات الأخرى.

وذكر السيوطي ما قاله الحموي ، وأشار الى أنّ الطريقة الثانية مذهب السكاكي واتباعه (١) ، غير أنّ مفتاح العلوم لا يحوي هذا الفن ولعل السيوطي يريد به طريقة القزويني وشراح تلخيصه. ثم قال : «قيل : ولم يقع في القرآن على طريقة السكاكي. قلت : وقد استخرجت بفكري آيات على طريقته منها قوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ)(٢) ، فأمر الله يراد به قيام الساعة والعذاب وبعثة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقد أريد بلفظه الأخير كما أخرج ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ.) قال : «محمد» وأعيد الضمير عليه في «تستعجلوه» مرادا به قيام الساعة والعذاب».

وذكر المدني الطريقتين وسمّى الثانية طريقة الخطيب في الايضاح والتلخيص ومن تبعه ولم ينسبها الى السكاكي وذكر عبارة السيوطي على الوجه الآتي : «قال الحافظ السيوطي في الاتقان : قيل ولم يقع في القرآن على طريقة صاحب الايضاح شيء من الاستخدام» (٣) مع أنّ العبارة كما جاءت في معترك الاقران والاتقان وشرح عقود الجمان هي : «وهذه طريقة السكاكي واتباعه». وليس في مفتاح العلوم ذكر للاستخدام.

وقد ذكر الحلي أنّ الاستخدام عزيز (٤) ولذلك لم يذكر المتقدمون له أمثلة كثيرة ، ومعظمها ما سبق ذكره في هذا المقام.

الاستدراج :

الاستدراج من استدرج ، واستدرجه بمعنى أدناه منه على التدريج فتدرّج هو ، وفي التنزيل العزيز : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ)(٥) ، أي : سنأخذهم قليلا قليلا ولا نباغتهم ، وقيل إنّ معناه سنأخذهم من حيث لا يحتسبون (٦).

وذكر ابن الأثير أنّه استخرج هذا الفن من كتاب الله وقال : «وهو مخادعات الأقوال التي تقوم مقام مخادعات الافعال. والكلام فيه وإن تضمن بلاغة فليس الغرض ههنا ذكر بلاغته فقط ، بل الغرض ذكر ما تضمنه من النكت الدقيقة في استدراج الخصم الى الاذعان والتسليم. واذا حقق النظر فيه علم أنّ مدار البلاغة كلها عليه ؛ لأنه لا انتفاع بايراد الألفاظ المليحة الرائقة ولا المعاني اللطيفة الدقيقة دون أن تكون مستجلبة لبلوغ غرض المخاطب بها. والكلام في مثل هذا ينبغي أن يكون قصيرا في خلابه لا قصيرا في خطابه ، فاذا لم يتصرف الكاتب في استدراج الخصم الى إلقاء يده فليس بكاتب ولا شبيه له إلا صاحب الجدل ، فكما أنّ ذاك يتصرف في المغالطات القياسية فكذلك هذا يتصرف في المغالطات الخطابية» (٧).

وقال في تعريف الاستدراج : «هو التوصل الى

__________________

(١) معترك ج ١ ص ٣٧٦ ، الاتقان ج ٢ ص ٨٤ ، شرح عقود الجمان ص ١١٦.

(٢) النحل ١.

(٣) أنوار ج ١ ص ٣٠٨.

(٤) أنوار ج ١ ص ٣٠٩ ، شرح الكافية البديعية ص ٢٩٦.

(٥) الأعراف ١٨٢.

(٦) اللسان (درج) ، وينظر التعريفات ص ١٤.

(٧) المثل ج ٢ ص ٦٨.

٧٢

حصول الغرض من المخاطب والملاطفة له في بلوغ المعنى المقصود من حيث لا يشعر به ، وفي ذلك من الغرائب والدقائق ما يوثق السامع ويطربه ؛ لأنّ مبنى صناعة التأليف عليه ومنشأها منه» (١).

ومثال ذلك قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً. يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا. يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ ، إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا ، يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا)(٢). وقال ابن الأثير معلقا على هذه الآيات : «هذا كلام يهزّ أعطاف السامعين ويبهج نفوس المتأملين ، فعليك أيها المترشح لهذه الصناعة بامعان النظر في مطاويه وترداد الفكر في أثنائه ، واتخاذه قدوة ونهجا تقتفيه ، ألا ترى حين أراد ابراهيم أن ينصح أباه ويعظه مما كان متورطا فيه من الخطأ العظيم الذي عصى به أمر العقل كيف رتب الكلام معه في أحسن اتساق وانتظام مع استعمال المجاملة واللطف واللين والأدب الجميل والخلق الحسن مستنصحا في ذلك بنصيحة ربه وذاك أنه طلب منه أولا العلة في خطيئته طلب منبّه على تماديه موقظ له لافراطه في غفلته وتناهيه ؛ لأنّ المعبود لو كان حيا متميزا سميعا بصيرا مقتدرا على الثواب والعقاب إلا أنّه بعض الخلق لاستسخف عقل من أهّله للعبادة ووصفه بالربوبية ولو كان أشرف الخلق كالملائكة والنبيين ، فكيف لمن جعل المعبود جمادا لا يسمع ولا يبصر؟ ثم ثنّى ذلك بدعوته الى الحق مترفقا به متطلعا فلم يسم أباه بالجهل المطلق ولا نعته بالعلم الفائق ولكنه قال : إنّ معي لطائف من العلم وشيئا منه. وذلك علم الدلالة على الطريق السويّ ، فلا تستنكف وهب أني وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه. ثم ثلّث ذلك بتثبيطه ونهيه عما كان عليه بأنّ الشيطان الذي استعصى على ربك الرحمن الذي جميع ما عندك من النعم من عنده ، وهو عدوّك وعدوّ أبيك آدم ، هو الذي ورّطك في هذه الورطة وألقاك في هذه الضلالة. إلا أنّ ابراهيم ـ عليه‌السلام ـ لامعانه في الاخلاص لم يذكر من جنايتي الشيطان إلّا التي تختص منها بالله ـ عزوجل ـ عصيانه واستكباره ولم يلتفت الى ذكر معاداته لآدام ـ عليه‌السلام ـ وذريته. ثم ربّع ذلك بتخويفه سوء العاقبة وما ينتج عليه من الوبال. ولم يخل هذا الكلام من حسن أدب بحيث لم يصرّح بان العقاب لاحق لأبيه ولكن قال : «إني أخاف أن يمسّك عذاب» فذكر الخوف والمسّ إعظاما لهما ونكّر العذاب ، وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه أكبر من العذاب وصدّر كل نصيحة من النصائح الأربع بقوله : «يا أبت» توسلا اليه واستعطافا ، فقال له في الجواب : (قالَ : أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ؟ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)(٣) ألا ترى كيف أقبل عليه الشيخ بفظاظة الكفر وغلظ العناد فناداه باسمه ولم يقابل قوله : «يا أبت» بـ «يا بنيّ»؟ وقدّم الخبر على المبتدأ في قوله : (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ؟) لأنه كان أهم عنده وفيه ضروب من التعجب والانكار لرغبة ابراهيم عن آلهته وأن آلهته لا ينبغي أن يرغب أحد عنها» (٤).

وعرّفه ابن الأثير الحلبي بقوله : «يقال استدرج فلان فلانا إذا توصل الى حصول مقصوده من غير أن يشعره من أول وهلة. والمراد بذلك الملاطفة في الخطاب ولزوم الأدب في الكلام مع المخاطب بحيث لا تنفر نفسه قبل حصول المقصود منه» (٥). وهذا قريب من قول ابن الاثير السابق ، ونقل أحد أمثلته وعلّق عليه بما

__________________

(١) الجامع الكبير ص ٢٣٥.

(٢) مريم ٤١ حتى ٤٥.

(٣) مريم ٤٦.

(٤) الجامع الكبير ص ٢٣٥ ، المثل السائر ج ٢ ص ٦٩.

(٥) جوهر الكنز ص ١٥٦.

٧٣

يشير الى أنّه أخذ منه.

وذهب العلوي (١) الى ما ذهب اليه السابقان وذكر الآيات التي استشهدا بها ، ولكنه أضاف الى أمثلتهما شواهد أخرى من كلام النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكلام علي ـ رضي‌الله‌عنه ـ. وذكر أبياتا للمتنبي ، وقال إنّها من لطيف ما جاء في الاستدراج من المنظوم ، وذلك أنّ سيف الدولة كان مخيما بأرض الديار البكرية على مدينة ميافارقين ليأخذها فعصفت الريح بخيمته فأسقطتها فتطير الناس لذلك وقالوا إنه لا يأخذها فامتدحه المتنبي بقصيدة يعتذر فيها عن سقوط الخيمة ويستدرج ما أثّر ذلك في صدره بالازالة والمحو تقريبا لخاطره وتطييبا لنفسه فأجاد فيها كل الاجادة وأحسن في الاعتذار والاستدراج غاية الاحسان ، مطلعها :

أينفع في الخيمة العذّل

وتشمل من دهرنا يشمل

ومنها قوله :

تضيق بشخصك أرجاؤها

ويركض في الواحد الجحفل

وتقّصر ما كنت في جوفها

وتركز فيها القنا الذبّل

ثم قال :

وإنّ لها شرفا باذخا

وإنّ الخيام بها تخجل

فلا تنكرنّ لها صرعة

فمن فرح النفس ما يقتل

ولمّا أمرت بتطنيبها

أشيع بانّك لا ترحل

فما اعتمد الله تقويضها

ولكن أشار بما تفعل

وعرّف أنك من همّه

وأنك في نصره ترفل

فما العاندون وما أمّلوا

وما الحاسدون وما قوّلوا

هم يطلبون فمن أدركوا

وهم يكذبون فمن يقبل

وهم يتمنون ما يشتهو

ن ومن دونه جدّك المقبل

وكان ابن الاثير قد ذكر هذه الابيات شاهدا على المعاني البديعة التي جاء بها المتنبي (٢) ، ولم يذكرها في فن الاستدراج كما فعل العلوي.

وقال التنوخي : «ومن البيان الاستدراج ، وهو استمالة المخاطب بما يؤثره ويأنس اليه أو ما يخوّفه ويرعبه قبل أن يفاجئه المخاطب بما يطلب منه. وهذا بابا واسع ، وهو أن يقدم المخاطب ما يعلم أنّه يؤثر في نفس المخاطب من ترغيب وترهيب واطماع وتزهيد.

وأمزجة الناس تختلف في ذلك فينبغي أن يستمال كل شخص بما يناسبه وهذا لا يؤثر فيه التعليم إلا يسيرا ، بل ينبغي أن يكون في مزاج الانسان قوة تؤديه الى ذلك وهي تصرف في الكلام كتصرف الانسان في أحواله وأفعاله بما يعود عليه نفعه» (٣).

ونقل ابن الجوزية (٤) ما قاله ابن الأثير الذي ابتدع هذا الفن ، وذكر أمثلته من آيات الذكر الحكيم.

الاستدراك :

الاستدراك من استدرك الشيء بالشيء إذا حاول إدراكه به (٥). والاستدراك : «رفع توهم يتولد من الكلام السابق رفعا شبيها بالاستثناء وهو معنى «لكن» (٦) على أن تكون هناك نكتة طريفة لتحسنه

__________________

(١) الطراز ج ٢ ص ٢٨١.

(٢) المثل ج ١ ص ٣١٤.

(٣) الأقصى القريب ص ١٠٣.

(٤) الفوائد ص ٢١٢.

(٥) اللسان (درك) ، التعريفات ص ١٦.

(٦) أنوار ج ١ ص ٣٨٥.

٧٤

وتدخله في البديع ، وإلّا فلا يعدّ منه.

وسماه ابن المعتز الرجوع وقال : «هو أن يقول شيئا ويرجع عنه» (١).

وسماه العسكري الرجوع ايضا وقال : «هو أن يذكر شيئا ثم يرجع عنه (٢)» وهذا تعريف السابق.

وسماه التبريزي الاستدراك والرجوع (٣) ، وقال البغدادي عنه : «وأما الاستدراك والرجوع فهو أن يبتديء الشاعر بمعنى فينفي شيئا ثم يستدركه بما يؤيد هذا المعنى أو يثبت ما نفاه أولا» (٤).

وقال ابن الزملكاني : «الاستدراك والرجوع ، هو أن يعود المتكلم على ما سبق من كلامه بالنقض والابطال» (٥).

وقال المصري إنّ الاستدراك والرجوع على قسمين : قسم يتقدم الاستدراك فيه تقرير لما أخبر به المتكلم وتوكيد. وقسم لا يتقدمه ذلك (٦) ومن أمثلة الأول قول ابن الرومي :

وإخوان تخذتهم دروعا

فكانوها ولكن للأعادي

وخلتهم سهاما صائبات

فكانوها ولكن في فؤادي

وقالوا قد صفت منا قلوب

لقد صدقوا ولكن من ودادي

ومن الثاني وهو الذي لا يتقدم الاستدراك فيه تقرير ولا توكيد قول زهير :

أخو ثقة لا تهلك الخمر ماله

ولكنّه قد يهلك المال نائله

وهذه الشواهد لا تنطبق إلّا على الاستدراك ، وقد سار على خطاه الحلبي والنويري وذكرا تعريفه وتقسيمه وامثلته (٧).

وجمع ابن الأثير الحلبي بين الاستثناء والاستدراك ، وقال بعد أن عرّف الاستثناء : «وأما الاستدراك فهو مثل ذلك إلا أنّه يفارق الاستثناء بلفظة لكن» (٨) وقال السبكي إنّ «الاستدراك إما بعد تقدم تقرير كقوله تعالى : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ)(٩). أو بعد تقدم نفي كقوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى)(١٠). وهذا القسم يرجع الى الطباق أو الرجوع» (١١). وهذا كلام المصري في كتابه «بديع القرآن» (١٢).

وعاد الحموي الى ما ذكره المصري في «تحرير التحبير» ولكنه سماه استدراكا وفرّق بينه وبين الرجوع (١٣) ، وذكر قسمي المصري وأمثلته ثم قال : «ومتى لم يكن في الاستدراك نكتة زائدة عن معنى الاستدراك لتدخله في أنواع البديع وإلّا فلا يعدّ بديعا» (١٤). فلو اقتصر زهير في بيته :

أخو ثقة لا تهلك الخمر ماله

ولكنّه قد يهلك المال نائله

على صدر البيت لدلّ على أنّ ماله موفور وتلك صفة ذم ، ولكنه استدرك ما يزيل هذا الاحتمال ويخلص الكلام للمدح بالشطر الثاني.

__________________

(١) البديع ص ٦٠.

(٢) كتاب الصناعتين ص ٣٩٥.

(٣) الوافي ص ٢٨٠.

(٤) قانون البلاغة ص ٤٤٨.

(٥) التبيان ص ١٨٢.

(٦) تحرير التحبير ص ٢٣١ ، بديع القرآن ص ١١٧.

(٧) حسن التوسل ص ٢٧٩ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٥١.

(٨) جوهر الكنز ص ٢٤٧.

(٩) الانفال ٤٣.

(١٠) الانفال ١٧.

(١١) عروس الافراح ج ٤ ص ٤٦٩.

(١٢) بديع القرآن ص ١١٧ ـ ١١٨.

(١٣) خزانة ص ٣٦٧.

(١٤) خزانة ص ٦٥.

٧٥

وجمع السيوطي بين الاستدراك والاستثناء (١) ، وذكر لكل منهما مثالا خاصا وفصل بينهما في «شرح عقود الجمان» ووضع لكل واحد فصلا ، وعرّف الاستدراك بمثل ما عرفه المصري وذكر أمثلته (٢). وفعل مثل ذلك المدني (٣).

ومن أمثلة ابن المعتز قول بشار :

نبئت فاضح أمه يغتابني

عند الأمير وهل عليّ أمير

ومن أمثلة البغدادي قول زهير :

قف بالديار التي لم يعفها القدم

بلى وغيّرها الأرواح والدّيم

وقول الأعرابي :

أليس قليلا نظرة إن نظرتها

إليك وكلا ليس منك قليل

ومن أمثلة المصري وغيره قوله تعالى : (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً ، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)(٤). فالله سبحانه أخبر عن الأمر الواقع بخبر أخرجته الفصاحة مخرج المثل ، وقوّى دليل الكلام بذكر العلة حيث قال بلفظ الاستدراك : (وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً.)

ومنه قول ابن الدويدة المغربي فيمن أودعت عنده وديعة فادّعى ضياعها :

إن قال قد ضاعت فيصدق أنها

ضاعت ولكن منك يعني لو تعي

أو قال قد وقعت فيصدق أنها

وقعت ولكن منه أحسن موقع

وقال الأرجاني :

غالطتني إذ كست جسمي ضنى

كسوة أعرت عن اللحم العظاما

ثم قالت أنت عندي في الهوى

مثل عيني ، صدقت لكن سقاما

وقال ابن أبي حجلة :

شكوت الى الحبيبة سوء حظّي

وما ألقاه من ألم البعاد

فقالت أنت حظّك مثل عيني

فقلت : نعم ، ولكن في السواد

وقال المعري :

فيا دارها بالحزن إنّ مزارها

قريب ولكن دون ذلك أهوال

الاستدعاء :

الاستدعاء من استدعى ، وكان قدامة قد تحدث عن عيوب ائتلاف المعنى والقافية وقال : «ومن عيوب هذا الجنس أن يؤتى بالقافية لتكون نظيرة لاخواتها في السجع لا لأنّ لها فائدة في معنى البيت» (٥) كقول أبي عدي القرشي :

ووفيت الحتوف من وارث وا

ل وأبقاك صالحا ربّ هود

فليس نسبة هذا الشاعر الله ـ عزوجل ـ الى أنه «رب هود» بأجود من نسبته الى أنه «رب نوح» ولكن القافية كانت دالية فأتى بذلك للسجع لا لافادة معنى بما أتى به منه.

وسماه ابن رشيق الاستدعاء وقال عنه : «هو ألا يكون للقافية فائدة إلا كونها قافية فقط فتخلو حينئذ

__________________

(١) معترك ج ١ ص ٣٩٠ ، الاتقان ج ٢ ص ٨٨.

(٢) شرح عقود الجمان ص ١٣٢ ، وينظر الروض المريع ص ٩٧ ، نفحات ص ٩٧ ، شرح الكافية ص ١١٠.

(٣) أنوار ج ١ ص ٣٨٥.

(٤) الأنفال ٤٢.

(٥) نقد الشعر ص ٢٥٥.

٧٦

من المعنى» (١). وذكر البيت السابق وقول السيد الحميري :

أقسم بالفجر وبالعشر

والشّفع والوتر ورب لقمان

في منزل محكم ناطق

بنور آيات وبرهان

فالفجر فجر الصبح والعشر

عشر النّحر والشفع نجيان

محمد وابن أبي طالب

والوتر رب العزة الباني

باني سماوات بناها بلا

تقدير إنسيّ ولا جان

ثم قال ابن رشيق : «فانظر الى قوله : «رب لقمان» ما أكثر قلقه وأشد ركاكته». وذكر البيت الذي ذكره قدامة أيضا وهو قول علي بن محمد صاحب البصرة :

وسابغة الأذيال زعف مفاضة

تكنفها مني نجاد مخطط (٢)

وقال : «فلا أدري معنى هذا الشاعر في تخطيط النجاد ، وهذا أقل ما في تكلف القوافي الشاردة إذا ركبها غير فارسها ، وراضها غير سائسها».

ولم يذكر الاستدعاء أحد بعد قدامة وابن رشيق فيما وصل من كتب البلاغة والنقد.

الاستدلال بالتّعليل :

الاستدلال من استدل ، وهو «تقرير الدليل لاثبات المدلول سواء كان ذلك من الأثر الى المؤثر فيسمى استدلالا إنيا ، أو بالعكس ويسمى استدلالا لميا ، أو من أحد الأثرين الى الآخر» (٣).

وذكر ابن سنان الاستلال بالتعليل (٤) ، وهو ما يسمى في البديع حسن التعليل ولم يعرّفه وإنّما ذكر له قول أبي الحسن التهامي :

لو لم تكن ريقته خمرة

لما تثنّى عطفه وهو صاح

وقوله :

لو لم يكن أقحوانا ثغر مبسمها

ما كان يزداد طيبا ساعة السّحر

وقول البحتري :

ولو لم تكن ساخطا لم أكن

أذمّ الزمان وأشكو الخطوبا

وقال ابن سنان إنّ قوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)(٥) جار هذا المجرى. وهذا من المذهب الكلامي عند البلاغيين.

الاستدلال بالتّمثيل :

قال ابن سنان : «وأما الاستدلال بالتمثيل فان يزيد في الكلام معنى يدل على صحته بذكر مثال له» (٦).

كقول المعري :

لو اختصرتم من الاحسان زرتكم

والعذب يهجر للافراط في الخصر (٧)

فدلّ على أنّ الزيادة فيما يطلب ربما كانت سببا للامتناع منه بتمثيل ذلك بالماء الذي لا يشرب لفرط برده وإن كان البرد فيه مطلوبا محمودا.

ومنه قول أبي تمام :

أخرجتموه بكره من سجيته

والنار قد تنتضى من ناضر السّلم (٨)

__________________

(١) العمدة ج ٢ ص ٧٤ ، وينظر كفاية الطالب ص ٢٠٦.

(٢) الزغف ؛ الدرع المحكمة.

(٣) التعريفات ص ١٢.

(٤) سر الفصاحة ص ٣٢٧.

(٥) الأنبياء ٢٢.

(٦) سر الفصاحة ص ٣٢٤.

(٧) الخصر ؛ البرد.

(٨) السلم ؛ جنس من الشجر شائك.

٧٧

وقوله :

وإذا أراد الله نشر فضيلة

طويت أتاح لها لسان حسود

لو لا اشتعال النار فيما جاورت

ما كان يعرف طيب عرف العود (١)

وقال ابن سنان إنّ من الاستدلال بالتمثيل على الوجه الصحيح قول النابغة الذبياني يخاطب النعمان :

ولكنّني كنت امرء لي جانب

من الأرض فيه مستراد ومذهب

ملوك وإخوان إذا ما لقيتهم

أحكّم في أموالهم وأقرّب

كفعلك في قوم أراك اصطنعتهم

فلم ترهم في شكر ذلك أذنبوا

ثم قال : «فاستدل النابغة على أنّه لا يستحق اللوم بمدحه آل جفتة وقد أحسنوا اليه بما مثّله من القوم الذين أنعم النعمان عليهم ، فلما مدحوه لم يكونوا عنده ملومين». وهذا من المذهب الكلامي عند البلاغيين ، أما الأبيات الاولى فهي من التمثيل أو الاستعارة بالتمثيل.

الاستشهاد :

يقال : اشهدت الرجل على اقرار الغريم واستشهدته بمعنى ، ومنه قوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ)(٢) أي : أشهدوا شهيدين. واستشهدت فلانا على فلان إذا سألته إقامة شهادة احتملها (٣).

وذكر العسكري فنا سماه «الاستشهاد والاحتجاج» وهو من زياداته (٤) ، وقد قال عنه : «وهذا الجنس كثير في كلام القدماء والمحدثين ، وهو أحسن ما يتعاطى من أجناس صنعة الشعر ومجراه مجرى التذييل لتوليد المعنى ، وهو أن تأتي بمعنى ثم تؤكده بمعنى آخر يجري مجرى الاستشهاد على الأول والحجة على صحته» (٥).

ومثاله قول بشار :

فلا تجعل الشّورى عليك غضاضة

فانّ الخوافي قوّة للقوادم

وقول أبي تمام :

نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى

ما الحبّ إلا للحبيب الأول

كم منزل في الأرض يألفه الفتى

وحنينه أبدا لأول منزل

وأخذ الدمنهوري بهذا المعنى وذكر أبيات العسكري التي ذكرها في الصناعتين وهي :

كان لي ركن شديد

وقعت فيه الزلازل

زعزعته نوب الدّه

ر وكرّات النوازل

ما بقاء الحجر الصّل

ب على وقع المعاول

وقال : «إن الشاهد في البيت الثالث» (٦) ، وهذا من الاطناب عند المتأخرين. والاستشهاد عند غيرهما هو الاستشهاد بالآيات الكريمة ، وقد تحدث الحلبي والنويري عن خصائص الكتابة ، ومما يتصل بها الاقتباس والاستشهاد والحل ، وقالا إن الاستشهاد بالآيات ينبغي أن ينبه عليها (٧).

__________________

(١) العرف ؛ الرائحة مطلقا ، واكثر استعماله في الطيبة.

(٢) البقرة ٢٨٢.

(٣) اللسان (شهد).

(٤) كتاب الصناعتين ص ٢٦٧.

(٥) كتاب الصناعتين ص ٤١٦.

(٦) حلية اللب ص ١٦٨.

(٧) حسن التوسل ص ٣٢٥ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٨٣ ، نفحات ص ٣٢٩.

٧٨

الاستطراد :

اطّرد الشيء : تبع بعضه بعضا وجرى ، واطّردت الأشياء إذا تبع بعضها بعضا ، واطّرد الكلام اذا تتابع (١).

والاستطراد عند الجاحظ هو الانتقال من موضوع الى آخر لكي لا يمل القارئ أو السامع ، وهذا واضح في معظم مؤلفاته.

والاستطراد عند ثعلب هو حسن الخروج (٢) ، وكذلك عند تلميذه ابن المعتز (٣) ، وقيل إنّ أوّل من ابتدع هذا الاسلوب السموأل في قوله :

وإنّا أناس لا نرى القتل سبّة

إذا ما رأته عامر وسلول

يقرّب حبّ الموت آجالنا لنا

وتكرهه آجالهم فتطول

فكان هذا أول شاهد ورد في هذا النوع وسار مسير الأمثال ، قال ابن رشيق : «وهو أول من نطق به» (٤) ، وقال المصري : «وأحسب أنّ أول من استطرد بالهجاء السموأل» (٥). وقيل إنّ البحتري الشاعر نقل هذه التسمية عن أبي تمام ، قال الصولي : «حدثني أبو الحسن على بن محمد الانباري ، قال : سمعت البحتري يقول : أنشدني أبو تمام لنفسه :

وسابح هطل التعداء هتّان

على الجراء أمين غير خوّان

أظمى الفصوص ولم تظمأ قوائمه

فخلّ عينيك في ظمآن ريّان

فلو تراه مشيحا والحصى زيم

بين السنابك من مثنى ووحدان

أيقنت أن لم تثبت أنّ حافره

من صخر تدمر أو من وجه عثمان

ثم قال لي : ما هذا الشعر؟ قلت : لا أدري. قال : هذا المستطرد ؛ أو قال : الاستطراد. قلت : وما معنى ذلك؟

قال : يرى أنه يريد وصف الفرس وهو يريد هجاء عثمان ، فاحتذى هذا البحتري فقال في قصيدته التي مدح فيها محمد بن علي القمي ويصف الفرس أولها :

أهلا بذلكم الخيال المقبل

فعل الذي نهواه أو لم يفعل

ثم وصف الفرس فقال :

وأغرّ في الزمن البهيم محجل

قد رحت منه على أغرّ محجّل

كالهيكل المبنيّ إلا أنّه

في الحسن جاء كصورة في هيكل

يهوي كما تهوي العقاب إذا رأت

صيدا وينتصب انتصاب الأجدل

متوجس برقيقتين كأنّما

يريان من ورق عليه موصّل

وكأنما نفضت عليه صبغها

صهباء للبردان أو قطر بّل

ملك العيون فان بدا أعطيته

نظر المحبّ الى الحبيب المقبل

ما إن يعاف قذى ولو أوردته

يوما خلائق حمدويه الأحول» (٦)

وعلّق الآمدي على بعض حسن الخروج عند الشعراء

__________________

(١) اللسان (طرد).

(٢) قواعد الشعر ص ٥٠.

(٣) البديع ص ٦٠.

(٤) العمدة ج ٢ ص ٣٩ ، وينظر المنزع البديع ص ٤٥٧ ، كفاية الطالب ص ١٨٦.

(٥) تحرير التحبير ص ١٣٢ ، وينظر بديع القرآن ص ٤٩.

(٦) أخبار أبي تمام ص ٦٨ ، أخبار البحتري ص ٥٩ ، حلية المحاضرة ج ١ ص ١٦٣ ، إعجاز القرآن ص ١٥٨ ، زهر الآداب ج ٤ ص ١٠٤١ ، البديع في نقد الشعر ص ٧٥ ، حسن التوسل ص ٢٢٧ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١١٩ ، أنوار الربيع ج ١ ص ٢٢٨. وينظر المنصف ص ٧٣ ، والاغاني ج ٢١ ص ٤٨.

٧٩

بقوله : «وهذا يسميه قوم الاستطراد ، وهو حسن جدا» (١) وسماه العسكري الاستطراد وقال في تعريفه : «هو أن يأخذ المتكلم في معنى فبينا يمر فيه يأخذ في معنى آخر وقد جعل الأول سببا اليه» (٢) ، وذكر أمثلة من القرآن والشعر ولا سيما أبيات أبي تمام.

وقال ابن رشيق : «الاستطراد أن يبني الشاعر كلاما كثيرا على لفظة من غير ذلك النوع يقطع عليها الكلام وهي مراده دون جميع ما تقدم ويعود الى كلامه الأول وكأنما عثر بتلك اللفظة عن غير قصد ولا اعتقاد نيّة» (٣). وقال : «وهو أن يرى الشاعر أنّه في وصف شي وهو إنّما يريد غيره فان قطع أو رجع الى ما كان فيه فذلك استطراد وإن تمادى فذلك خروج ، وأكثر الناس يسمي الجميع استطرادا والصواب ما بينته» (٤). وقال : «من الاستطراد نوع يسمى الادماج (٥) كقول عبيد الله بن طاهر لعبد الله بن سليمان بن وهب حين وزر للمعتضد :

أبى الدهر في اسعافنا في نفوسنا

وأسعفنا فيمن نحبّ ونكرم

فقلت له : نعماك فيهم أتمّها

ودع أمرنا إنّ المهمّ المقدّم

وسماه الاستطراد ـ أيضا ـ التبريزي والبغدادي وابن مالك (٦) ، وعدّه الصنعاني من أنواع الفصاحة (٧).

وذكر المصري أنّه لم يظفر منه بشيء في القرآن المجيد إلا في موضع واحد ، وهو قوله تعالى : (أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ)(٨) ، وقال : «فمن ظفر فيه بشيء فهو المحسن بالحاقه في بابه (٩)». وقال مثل ذلك ابن مالك فيما نقله السبكي (١٠) ، قال : «ان الاستطراد قليل في القرآن الكريم وأكثر ما يكون في الشعر وأكثره في الهجاء ، ولم أظفر به إلّا في قوله تعالى : (أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ.) وذكر العسكري قبله غير هذه الآية كقوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ)(١١) ، فبينا يدلّ الله ـ سبحانه ـ على نفسه بانزال الغيث واهتزاز الارض بعد خشوعها قال : (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى ،)(١٢) فأخبر عن قدرته على إعادة الموتى بعد إفنائها وإحيائها بعد إرجائها ، وقد جعل ما تقدم من ذكر الغيث والنبات دليلا عليه ولم يكن في تقدير السامع لأول الكلام ، إلا أنّه يريد الدلالة على نفسه بذكر المطر دون الدلالة على الاعادة فاستوفى المعنيين جميعا» (١٣). وقال الزمخشري في قوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ، ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)(١٤) : «وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدو السّوءات وخصف الورق عليها إظهارا للمنّة فيما خلق من اللباس ولما في العري وكشف العورة من المهانة والفضيحة ، واشعارا بأنّ التستر باب عظيم من أبواب التقوى» (١٥). وقال السيوطي : «وقد خرجت على الاستطراد قوله تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)(١٦) فانّ أول الكلام ذكر فيه الرد على النصارى الزاعمين بنوّة

__________________

(١) الموازنة ج ٢ ص ٣٣٠.

(٢) كتاب الصناعتين ص ٣٩٨.

(٣) العمدة ج ١ ص ٢٣٦.

(٤) العمدة ج ٢ ص ٣٩.

(٥) العمدة ج ٢ ص ٤١.

(٦) الوافي ص ٢٨١ ، قانون البلاغة ص ٤٤٩ ، المصباح ص ١٠٦.

(٧) الرسالة العسجدية ص ١٥٢.

(٨) هود ٩٥.

(٩) بديع القرآن ص ٤٩.

(١٠) عروس الافراح ج ٤ ص ٣١٥.

(١١) فصلت ٣٩.

(١٢) فصلت ٣٩.

(١٣) كتاب الصناعتين ص ٣٩٨.

(١٤) الأعراف ٢٦.

(١٥) الكشاف ج ٢ ص ٧٦ ، وينظر معترك ج ١ ص ٥٩.

(١٦) النساء ١٧٢.

٨٠