معجم المصطلحات البلاغيّة وتطوّرها

الدكتور أحمد مطلوب

معجم المصطلحات البلاغيّة وتطوّرها

المؤلف:

الدكتور أحمد مطلوب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة لبنان ناشرون
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٥

أليس عجيبا بأنّ امرء

شديد الجدال دقيق الكلم

يموت وما علمت نفسه

سوى علمه أنّه ما علم

واما الغلوّ المردود فأن يتضمّن دعوى كون الوصف غير ممكن الوصف بما هو خارج عن طباع الموصوف ، كقول أبي نواس :

وأخفت أهل الشرك حتى أنّه

لتخافك النّطف التي لم تخلق

وتحدّث القزويني عن الغلوّ في المبالغة التي هي أحد أبواب المحسّنات المعنوية وقال «وتحصر في التبليغ والإغراق والغلوّ ، لأنّ المدعى للوصف من الشدّة أو الضعف إما أن يكون ممكنا في نفسه أو لا ، الثاني الغلوّ ، والأوّل إمّا أن يكون ممكنا في العادة أيضا أو لا ، الأوّل : التبليغ والثاني الإغراق» (١) ، والمقبول من الغلوّ أصناف : أحدها : ما أدخل عليه ما يقرّبه الى الصحة نحو لفظة «يكاد» في قوله تعالى : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ)(٢) وقول الشاعر يصف فرسا : ويكاد يخرج سرعة ...».

الثاني : ما تضمّن نوعا حسنا من التّخيّل كقول المتنبي :

عقدت سنابكها عليها عثيرا

لو تبتغي عنقا عليه لأمكنا (٣)

والثالث : ما أخرج مخرج الهزل والخلاعة كقول بعضهم :

أسكر بالأمس إن عزمت على الش

رب غدا إنّ ذا من العجب

وتبع القزويني في هذا المعنى شرّاح التلخيص (٤) ، وعدّ العلوي الغلوّ الضّرب الثالث من المبالغة وقال : «ما كان ممتنعا وقوعه وهو الغلوّ ويكاد المفلقون في الشعر يستعملونه في مدحهم وهجوهم» (٥).

وسار المدني على خطا المتأخّرين وقال : «الغلوّ هو أن تدعي لشيء وصفا بالغا حد الاستحالة عقلا وعادة ، فتبين بهذا أنّ المبالغة دون الإغراق والإغراق دون الغلوّ لما مرّ من أنّ المدعى في المبالغة ممكن عقلا وعادة وفي الإغراق ممكن عقلا لاعادة ، وفي الغلوّ مستحيل عقلا وعادة. والغلو إن أفضى إلى الكفر كان قبيحا مردودا وإلّا كان مقبولا ، والمقبول يتفاوت في الحسن وأحسنه ما دخل عليه ما يقرّبه الى الصحة كـ «كاد» و «لو» و «لو لا» وحرف التشبيه (٦).

__________________

(١) الايضاح ص ٣٦٥ ، التلخيص ص ٣٧٠.

(٢) النور ٣٥.

(٣) سنابكها : أطرافها ، حوافرها واحدة سنبك. عثيرا : غبارا. عنقا : سيرا سريعا.

(٤) شروح التلخيص ج ٤ ص ٣٦١ ، المطول ص ٤٣٤ ، الأطول ج ٢ ص ٢٠٨ ، شرح عقود الجمان ص ١٢٢ ، حلية اللب ص ١٢٢ ، وينظر المنصف ص ٧٨ ، كفاية الطالب ص ٢٠٠.

(٥) الطراز ج ٣ ص ١٢٩ ، وينظر المنزع البديع ص ٢٨٣ ، نفحات ص ٢٠١ ، كفاية الطالب ص ٢٠٠ ، شرح الكافية ص ١٥٣.

(٦) أنوار الربيع ج ٤ ص ٢٢٩.

٥٤١

الفاء

فائدة الخبر :

الفائدة : ما أفاد الله تعالى العبد من خير يستفيده ويستحدثه ، والفائدة : ما استفدت من علم أو مال ، أفدت المال أي اعطيته غيري وأفدته : استفدته. (١)

فائدة الخبر هو الغرض الأساسيّ من إلقاء أسلوب الخبر ، وذلك أنّ قصد المخبر بخبره إفادة المخاطب نفس الحكم. مثل : «زيد قائم» لمن لا يعلم أنّه قائم.

وهذا هو الأصل في الخبر إلّا إذا أريد به لازم الفائدة أو خرج الى غرض مجازيّ (٢).

الفرائد :

الفرد : الذي لا نظير له ، والجمع أفراد ، والفريد والفرائد : الشذر الذي يفصل بين اللؤلؤ والذهب واحدته فريدة ، والفريد : الدرّ إذا نظم وفصل بغيره ، وقيل : الفريد : الجوهرة النفسية كأنها مفردة في نوعها ، وفرائد الدر : كبارها. (٣)

الفرائد من مبتدعات المصري ، وهذا النوع مختصّ بالفصاحة دون البلاغة لأنّ «مفهومه إتيان المتكلّم بلفظة تتنزل من كلامه منزلة الفريدة من حب العقد تدل على عظم فصاحته وقوة عارضته وشدة عربيته حتى أنّ هذه اللفظة لو سقطت من الكلام لعزّ على الفصحاء غرامتها» (٤) كقوله تعالى : (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ)(٥) وقوله : (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا)(٦).

ومنه قول أبي نواس :

وكأنّ سعدى إذ تودّعنا

وقد اشرأبّ الدّمع أن يكفا

فلفظة «اشرأب» من الفرائد ولا يقع مثلها في الندور ...

وكقوله :

حتى إذا ما غلا ماء الشباب لها

وافعمت في تمام الجسم والعصب

فاستعارة الغليان لماء الشباب من الفرائد البديعة.

وكقول أبي تمام :

وقدما كنت معسول الأماني

ومأدوم القوافي بالسداد

فلفظة «مأدوم» من الفرائد.

وتبع المصري المتأخّرون في هذا النوع (٧). وقد سبق أن تحدّث البلاغيون كابن سنان وابن الأثير عن

__________________

(١) اللسان (فيد).

(٢) مفتاح العلوم ص ٨٢ ، الايضاح ص ١٧ ، التلخيص ص ٤١ ، شروح التلخيص ج ١ ص ١٩٨ ، المطول ص ٤٤ ، الاطول ج ١ ص ٥٤ ، شرح عقود الجمان ص ١٠.

(٣) اللسان (فرد).

(٤) تحرير التحبير ص ٥٧٦ ، بديع القرآن ص ٢٨٧.

(٥) يوسف ٥١.

(٦) يوسف ٨٠.

(٧) خزانة الأدب ص ٣٧٢ ، معترك ج ١ ص ٤٠٧ ، الاتقان ج ٢ ص ٩٣ ، شرح عقود الجمان ص ١٥٠ ، أنوار الربيع ج ٥ ص ٢٦٧ ، نفحات ص ٢٦٩ ، شرح الكافية ص ٢٤٥.

٥٤٢

الكلمة وتأثيرها وقيمتها ولكنهم لم يسمّوا ذلك «الفرائد» وإنّما أدخلوه في بحث فصاحة الكلمة المفردة ، ولذلك قال السّيوطي إنّ هذا النوع مختصّ بالفصاحة دون البلاغة (١). وذكر المدني مثل ذلك وقال : «هذا النوع يختصّ بالفصاحة دون البلاغة لأنّه عبارة عن الإتيان بلفظة فصيحة تنزل منزلة الفريدة من القصيدة وهي الجوهرة التي لا نظير لها تدلّ على عظم فصاحة المتكلّم وقوة عارضته وجزالة عربيته بحيث لو أسقطت من الكلام عري من الفصاحة» (٢).

فرط الاستقصاء :

الفرط : كل شيء جاوز قدره ، وأفرط عليه : حمّله فوق ما يطيق (٣). فرط الاستقصاء هو الدقّة والإفراط في التشبيه أو الصورة ، وقد تحدّث عبد القاهر عن فرط الاستقصاء في التشبيه وفضل العناية بتأكيد ما بدىء به ، ومثّل له بقول أبي نواس في صفة البازي :

كأنّ عينيه إذا ما أثأرا

فصّان قيضا من عقيق أحمرا

في هامة غلباء تهدي منسرا

كعطفة الجيم بكفّ أعسرا

قال عبد القاهر : «أراد أن يشبّه المنقار بالجيم ، والجيم خطان الأوّل الذي هو مبدؤه وهو الأعلى والثاني وهو الذي يذهب الى اليسار ، واذا لم توصل فلها تعريق كما لا يخفى ، والمنقار إنّما يشبه الخطّ الأعلى فقط ، فلمّا كان كذلك كان «كعطفة الجيم» ولم يقل كالجيم ثم دقق بأن جعلها بكف أعسر لأنّ جيم الأعسر قالوا أشبه بالمنقار من جيم الأيمن ، ثم إنّه أراد أن يؤكد أنّ الشبه مقصور على الخطّ الأعلى من شكل الجيم فقال :

يقول من فيها بعقل فكّرا

لو زادها عينا الى فاء ورا

فاتصلت بالجيم صارت جعفرا

فأراك عيانا أنّه عمد في التشبيه الى الخطّ الأوّل من الجيم دون تعريقها ودون الخطّ الأسفل» (٤).

الفساد :

الفساد : نقيض الصلاح ، فسد يفسد وفسد فسادا (٥).

عقد ابن منقذ بابا للفساد وقال : «اعلم أنّ الفساد هو فساد المجاورة والتشبيه أو غير ذلك يقصد الشاعر» (٦) مثل قول امرىء القيس :

كأني لم أركب جوادا للذّة

ولم اتبطّن كاعبا ذات خلخال

ولم أسبأ الزقّ الرويّ ولم أقل

لخيلي كري كرّة بعد إجفال (٧)

وحقّه أن يقول :

كأني لم أركب جوادا ولم أقل

لخيلي كرّي كرّة بعد إجفال

ولم أسبأ الزقّ الرويّ للذّة

ولم اتبطّن كاعبا ذات خلخال

ومن ذلك قول المتنبي :

وقفت وما في الموت شكّ لواقف

كأنك في جفن الردى وهو نائم

تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة

ووجهك وضّاح وثغرك باسم (٨)

__________________

(١) شرح عقود الجمان ص ١٥٠.

(٢) أنوار الربيع ج ٥ ص ٢٦٧.

(٣) اللسان (فرط).

(٤) أسرار البلاغة ص ١٦٣.

(٥) اللسان (فسد).

(٦) البديع في نقد الشعر ص ١٤٧.

(٧) اتبطن : اتخذها بطانة لي. سبأ الخمر : يسبؤها :اشتراها. الزق : وعاء الخمر. الروي المملوء.

الكر : الرجوع على الاعداء. الإجفال : الانهزام.

(٨) كلمى : جرحى. هزيمة : مهزومة. الوضاح : الواضح ، الجميل.

٥٤٣

وحقّه أن يقول :

وقفت وما في الموت شكّ لواقف

ووجهك وضّاح وثغرك باسم

تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة

كأنك في جفن الردى وهو نائم

ومن ذلك قول بعض العرب :

فإنّك إن تهجو تميما وترتشي

سرابيل قيس أو سحوق العمائم (١)

كمهريق ماء في الفلاة وغرّه

سراب أذاعته رياح السمائم

وقول الآخر :

فاني وتركي ندى الأكرمين

وقدحي بكفي زندا شحاحا

كتاركة بيضها بالعراء

وملبسة بيض أخرى جناحا

وحقه أن يكون :

وإني وتركي ندى الاكرمين

وقدحي بكفي زندا شحاحا

كمهريق ماء بالغلاة وغرّه

سراب أذاعته رياح السمائم

و:

وإنّك إذ تهجو تميما وترتشي

سرابيل قيس أو سحوق العمائم

كتاركة بيضها بالعراء

وملبسة بيض أخرى جناحا

وكان ابن طباطبا قد تحدّث عن مثل ذلك في باب تأليف الشعر وما يقع من مشاكلة بين بيت وبيت أو مصراع ومصراع (٢).

وتحدّث ابن منقذ في هذا الباب عن فساد التفسير وفساد التجنيس وفساد القسمة وفساد المقابلة وفساد المجاورة وفساد التشبيه. فمن فساد التفسير قول بعضهم :

فيا أيّها الحيران في ظلمة الدّجى

ومن خاف أن يلقاه بغي من الأذى

تعال اليه تلق من نور وجهه

دليلا ومن كفيه بحرا من الندى

ومن فساد التجنيس قول ابي تمام :

ذهبت بمذهبه السماحة فالتوت

فيه الطنون أمذهب أم مذهب

ومن فساد القسمة أو التقسيم قول جرير :

صارت حنيفة أثلاثا فثلثهم

من العبيد وثلث من مواليها

ومن فساد المقابلة قول الأخطل :

إذا التقت الأبطال أبصرت لونه

مضيئا وألوان الكماة خضوع

ومن فساد المجاورة قول أبي الشيص :

وللهوى جرس ينفي الرقاد به

فكلّما رمت نوما حرّك الجرسا

ومن فساد التشبيه قول جميل :

لو كان في قلبي كقدر قلامة

حبّا وصلتك أو أتتك رسائلي

فساد التّفسير :

التفسير هو أن يستوفي الشاعر شرح ما ابتدأ به مجملا ، وصحة التفسير هو أن يضع معاني يريد أن يذكر أحوالها في شعره الذي يصنعه فاذا ذكرها أتى بها غير أن يخالف معنى ما أتى به منها ولا يزيد أو ينقص.

وفساد التفسير خلاف ذلك (٣) وقد تقدّم في التفسير.

__________________

(١) السحوق : البالي.

(٢) عيار الشعر ص ١٢٤.

(٣) نقد الشعر ص ٢٣٠ ، الموشح ص ٣٦٧ ، قانون البلاغة ص ٤١٥.

٥٤٤

ومثاله قول بعضهم :

فيا أيّها الحيران في ظلم الدّجى

ومن خاف أن يلقاه بغي من العدى

تعال اليه تلق من نور وجهه

ضياء ومن كفيه بحرا من الندى

فساد التّقسيم :

فساد التقسيم من عيوب المعاني وذلك يكون بتكرار المعنى أو أن يؤتى منها ما يكون بعضه داخلا تحت بعض أو بأن يخل بما يقتضي المتكلّم فيه استيفاؤه (١) وقد تقدّم في التقسيم.

ومثاله قول جرير :

صارت حنيفة أثلاثا فثلثهم

من العبيد وثلث من مواليها

وعدّ بعضهم هذا من الاكتفاء ، لأنّ الباقي مفهوم وهو أنّ ثلثهم صرحاء (٢) ، وهذا من البلاغة.

فساد المقابلات :

فساد المقابلات من عيوب المعانى ، قال قدامة : «هو أن يضع الشاعر معنى يريد أن يقابله بآخر إما على جهة الموافقة أو المخالفة فيكون أحد المعنيين لا يخالف الآخر ولا يوافقه» (٣). مثاله قول أبي عدي القرشي :

يا ابن خير الأخيار من عبد شمس

أنت زين الدنيا وغيث الجنود

فليس قوله : «وغيث الجنود» موافقا لقوله «زين الدنيا» ولا مضادا ، وذلك عيب ، ومنه قوله أيضا :

رحماء بذي الصلاح وضرّا

بون قدما لهامة الصنديد

فليس للصنديد فيما تقدّم ضد ولا مثل ، ولعله لو كان مكان قوله : «الصنديد» : «الشرير» كان ذلك جيدا لقوله «ذي الصلاح».

الفصاحة :

أفصح اللّبن : ذهب اللّبأ عنه ، فصح اللبن : إذا أخذت عنه الرغوة ، أفصح الصبح : بدا ضوؤه واستبان وكل ما وضح فقد أفصح. الفصاحة : البيان ، يقال : فصح الرجل فصاحة فهو فصيح ، وكلام فصيح : بليغ ، ولسان فصيح : طلق. وفصح الاعجمي فصاحة :تكلم بالعربية وفهم عنه وقيل : جادت لغته حتى لا يلحن (٤).

وقد وردت الفصاحة وما يتصل بها في القرآن الكريم فقال سبحانه وتعالى حكاية عن نبيه موسى ـ عليه‌السلام ـ : (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً)(٥) وجاءت في قول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «أنا أفصح العرب بيد أنّي من قريش».

ولفظة الفصاحة في كتاب الله وحديث الرسول العظيم لا تخرج عن معناها اللغوي وهو الظهور والبيان ، وحينما دخلت هذه اللفظة في الدراسات البلاغية والنقدية ارتبطت بلفظة البلاغة ، وأصبح البلاغيون لا يفرّقون بينهما في المرحلة الأولى من التأليف ، فالجاحظ لم يضع حدّا واضحا بينهما وإنما أجراهما بمعنى واحد في مواضيع كثيرة من كتابه «البيان والتبيين» فقال في تعريف البلاغة : «قال بعضهم ـ وهو أحسن ما اجتبيناه ودوّنّاه ـ لا يكون الكلام يستحقّ اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه ولفظه معناه. فلا يكون لفظه الى سمعك أسبق من معناه الى قلبك» (٦). وفي هذا التعريف التقاء

__________________

(١) نقد الشعر ص ٢٢٦ ، الموشح ص ١٢٤ ، قانون البلاغة ص ٤١٤.

(٢) المنزع البديع ص ١٩٣.

(٣) نقد الشعر ص ٢٢٩ ، الموشح ص ١٢٦ ، قانون البلاغة ص ٤١٥ ، منهاج البلغاء ص ١٣٧.

(٤) اللسان (فصح).

(٥) القصص ٣٤.

(٦) البيان ج ١ ص ١١٥.

٥٤٥

الفصاحة بالبلاغة والاشارة الى أنّهما شيء واحد. وقد تحدث عن الحروف وسلامتها وتآلفها وتكلم على تنافرها وغرابتها ووحشيتها ، وهذا ما أدخله المتأخرون في شروط فصاحة الكلمة المفردة وفصاحة الكلام المركّب.

وتحدّث ابن قتيبة عن الألفاظ عند كلامه على الشعر وتقسيمه الى أربعة أقسام : ضرب حسن لفظه وجاد معناه ، وضرب حسن لفظه وحلا فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى ، وضرب جاد معناه وقصرت ألفاظه ، وضرب تأخر معناه وتأخر لفظه (١).

ولم يحدّد شروط اللفظ الفصيح او البديع. وفعل مثل ذلك المبرّد وثعلب وابن المعتز (٢) ، وذكر قدامة نعت اللفظ الحسن ، وهو ما كان سمحا ، وسهل مخارج الحروف عليه رونق الفصاحة مع الخلو من البشاعة.

وحدّد عيوب اللفظ وهي أن يكون ملحونا وجاريا على غير سبيل الإعراب واللغة ، وأن يركب الشاعر منه ما ليس بمستعمل إلا في الفرط ، ولا يتكلم به إلا شاذا وذلك هو الوحشي الذي مدح عمر بن الخطاب ـ رضي‌الله‌عنه ـ زهيرا بمجانبته له وتنكبه اياه فقال : «لا يتبع حوشي الكلام» (٣)

وذكر ابن وهب بعض ما يتصل باللفظ (٤) ، وكان العسكري من أوائل الذين وقفوا طويلا عند الفصاحة وفرّق بينها وبين البلاغة. وقد ذكر رأيين في الفصاحة ، الأول أنّ الفصاحة والبلاغة ترجعان الى معنى واحد وإن اختلف أصلاهما لأنّ كل واحدة منهما هي الابانة عن المعنى والاظهار له. الثاني : أنّهما مختلفتان وذلك أنّ الفصاحة تمام آلة البيان فهي مقصورة على اللفظ لأنّ الآلة تتعلق باللفظ دون المعنى ، والبلاغة إنما هي إنهاء المعنى الى القلب فكأنها مقصورة على المعنى.

قال : «وقال بعض علمائنا : الفصاحة تمام آلة البيان فلهذا لا يجوز أن يسمى الله تعالى فصيحا إذ كانت الفصاحة تتضمن الآلة ولا يجوز على الله تعالى ـ الوصف بالآلة ويوصف كلامه بالفصاحة لما يتضمن من تمام البيان. والدليل على ذلك أنّ الألثغ والتمتام لا يسميان فصيحين لنقصان آلهتما على اقامة الحروف.

وقيل زياد الاعجم لنقصان آلة نطقه عن إقامة الحروف ، وكان يعبّر عن الحمار بالهمار ، فهو أعجم وشعره فصيح لتمام بيانه» (٥)

وأوضح المسألة بقوله : «ومن الدليل على أنّ الفصاحة تتضمن اللفظ والبلاغة تتناول المعنى أنّ الببعاء يسمى فصيحا ولا يسمى بليغا ، إذ هو مقيم الحروف وليس له قصد الى المعنى الذي يؤديه. وقد يجوز مع هذا أن يسمّى الكلام الواحد فصيحا بليغا إذا كان واضح المعنى سهل اللفظ جيد السبك غير مستكره مجّ ولا متكلف وخم ولا يمنعه من أحد الاسمين شيء لما فيه من إيضاح المعنى وتقويم الحروف» (٦). وعقد فصلا في تمييز الكلام تحدث فيه عن صفات الالفاظ الحسنة وانتهى الى أنّ الكلام اذا جمع العذوبة والجزالة والسهولة والرصانة مع السلاسة والنصاعة واشتمل على الرونق والطلاوة وسلم من الحيف في التأليف وبعد عن سماجة التركيب وورد على الفهم الثاقب ـ قبله ولم يرده وعلى السمع المصيب استوعبه ولم يمجّه ، والنفس تقبل اللطيف وتنبو عن الغليظ (٧).

وعقد ابن سنان في كتاب «سر الفصاحة» فصولا ضافية تحدّث فيها عن صفات الحروف ومخارجها وفصاحة اللفظة المفردة والألفاظ المؤلّفة. والفصاحة عنده «الظهور والبيان» (٨) والفرق بينها وبين البلاغة «أنّ الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ والبلاغة لا

__________________

(١) الشعر والشعراء ج ١ ص ٦٦ ـ ٦٧.

(٢) الكامل ج ١ ص ٤٣ ، قواعد الشعر ص ٥٩.

(٣) نقد الشعر ص ٢٦.

(٤) البرهان في وجوه البيان ص ١٧٧ ، ٢٥٢.

(٥) كتاب الصناعتين ص ٧ ـ ٨.

(٦) كتاب الصناعتين ص ٨.

(٧) كتاب الصناعتين ص ٥٧.

(٨) سر الفصاحة ص ٥٩.

٥٤٦

تكون إلّا وصفا للألفاظ مع المعاني. ولا يقال في كلمة واحدة لا تدلّ على معنى يفضل عن مثلها بليغة وإن قيل فيها فصيحة وكل كلام بليغ فصيح وليس كل فصيح بليغا» (١). ولكي تكون اللفظة الواحدة فصيحة ينبغي ان تتوفر فيها ثمانية اشياء :

الأوّل : أن يكون تأليف تلك اللفظة من حروف متباعدة المخارج ، ومثال التأليف من الحروف المتباعدة كثير وجلّ كلام العرب عليه ، أما تأليف الحروف المتقاربة فمثل : «الهعخع».

الثاني : أن يكون لتأليف اللفظة في السمع حسن ومزية على غيرها وإن تساويا في التأليف من الحروف المتباعدة كما نجد لبعض النغم والالوان حسنا يتصور في النفس ويدرك بالبصر والسمع دون غيره مما هو من جنسه. ومثاله في الحروف «ع ذ ب» فان السامع لقولهم : «العذيب» ـ اسم موضع ـ و «عذيبة» ـ اسم امرأة ـ و «عذب» و «عذاب» و «عذب» و «عذبات» ما لا يجده فيما يقارب هذه الالفاظ في التأليف. وليس سبب ذلك بعد الحروف في المخارج فقط ولكنه تأليف مخصوص مع البعد ولو قدّمت الذال او الباء لم تجد الحسن على الصفة الاولى في تقديم العين على الذال لضرب من التأليف في النغم يفسده التقديم والتأخير.

الثالث : أن تكون الكلمة غير متوعرة وحشية كقول أبي تمام :

لقد طلعت في وجه مصر بوجهه

بلا طائر سعد ولا طائر كهل

فان «كهلا» ههنا من غريب اللغة ، وقد روي أنّ الأصمعي لم يعرف هذه الكلمة وليست موجودة إلا في شعر بعض الهذليين وهو قوله :

فلو أنّ سلمى جاره أو أجاره

رياح بن سعد ردّه طائر كهل

وقد قيل : إنّ الكهل الضخم ، و «كهل» لفظة ليست بقبيحة التأليف لكنّها وحشية غريبة.

الرابع : أن تكون الكلمة غير ساقطة عامية ، ومثل الكلمة العامية «تفرعن» في قول أبي تمام :

جليت والموت مبد حرّ صفحته

وقد تفرعن في أفعاله الأجل

الخامس : أن تكون الكلمة جارية على العرف العربي الصحيح غير شاذة ويدخل في هذا القسم كل ما ينكره أهل اللغة ويردّه علماء النحو من التصرف الفاسد في الكلمة.

السادس : أن لا تكون الكلمة قد عبّر بها عن أمر آخر يكره ذكره فاذا وردت وهي غير مقصود بها ذلك المعنى قبحت وإن كملت فيها الصفات كقول الشريف الرضي :

اعزز عليّ بأن أراك وقد خلت

من جانبيك مقاعد العوّاد

فايراد «مقاعد» في هذا البيت صحيح إلا أنّه موافق لما يكره ذكره في مثل هذا الشأن لا سيما وقد أضافه الى من يحتمل إضافته اليهم وهم «العوّاد» ولو انفرد لكان الأمر فيه سهلا فاما اضافته الى ما ذكره ففيه قبح لا خفاء به.

السابع : أن تكون الكلمة معتدلة غير كثيرة الحروف فانها متى زادت على الأمثلة المعتادة المعروفة قبحت وخرجت عن وجه من وجوه الفصاحة ، ومن هذا النوع قول أبي تمام :

فلاذربيجان اختيال بعد ما

كانت معرّس عبرة ونكال

سمجت ونبّهنا على استسماجها

ما حولها من نضرة وجمال

فكلمتا «اذربيجان» و «استسماجها» رديئتان لكثرة حروفهما.

الثامن : أن تكون الكلمة مصغّرة في موضع عبّر بها

__________________

(١) سر الفصاحة ص ٦٠.

٥٤٧

فيه عن شيء لطيف أو خفي أو قليل أو ما يجري مجرى ذلك فإنّها تحسن به كقول ابن أبي ربيعة :

وغاب قمير كنت أرجو طلوعه

وروّح رعيان ونوّم سمّر

وهذا تصغير مختار في موضعه.

ومعظم هذه الشروط تدخل في فصاحة الألفاظ المؤلّفة والإخلال بها قد يؤدّي الى زيادة القبح والتنافر في الكلام ؛ لأنّه حين تكون الألفاظ مجتمعة تحتاج الى دقة في التركيب واختيار اللطيف منها.

وكانت الفصاحة والبراعة والبلاغة والبيان ألفاظا مترادفة عند عبد القاهر لأنّها يعبّر بها عن «فضل بعض القائلين على بعض من حيث نطقوا وتكلّموا وأخبروا السامعين عن الأغراض والمقاصد وراموا أن يعلموهم ما في نفوسهم ويكشفوا لهم عن ضمائر قلوبهم» (١).

والفصاحة عنده تكون في المعنى ، وليس للكلمة المفردة كبير أهمية ، وكثيرا ما تستعمل اللفظة في موضع فتكون حلوة الجرس عذبة وتستعمل في موضع آخر فتفقد تلك المزية ، وإنّما كان ذلك «لأنّ المزية التي من أجلها نصف اللفظ في شأننا هذا بأنّه فصيح مزية تحدث بعد أن لا تكون وتظهر في العلم من بعد أن يدخلها النظم. وهذا شيء إن أنت طلبته فيها وقد جئت بها أفرادا لم ترم فيها نظما ولم تحدث لها تأليفا طلبت محالا ، وإذا كان كذلك وجب أن تعلم قطعا أنّ تلك المزية في المعنى دون اللفظ» (٢).

وعرّف الرازي الفصاحة بأنّها «خلوص الكلام من التعقيد» (٣) وأطنب ابن الاثير في الكلام على الفصاحة وناقش ابن سنان (٤) ، وعند ما قسّم السكاكي البلاغة لم يعقد مستقلا للفصاحة وإنّما تكلم عليها بعد أن انتهى من علم البيان ، وقال إنها قسمان : قسم راجع الى المعنى وهو خلوص الكلام من التعقيد ، وقسم راجع الى اللفظ وهو أن تكون الكلمة عربية أصيلة ، وعلامة ذلك أن تكون كثيرة الدوران على ألسنة الموثوق بعربيتهم واستعمالها أكثر ، لا مما أحدثه المولّدون أو أخطأت فيه العامة ، وأن تكون أجرى على قوانين اللغة ، سليمة من التنافر ، والمراد بتعقيد الكلام أن يعثر صاحبه الفكر في متصرفه ويشيك الطريق الى المعنى (٥).

واختصر ابن مالك القسم الثالث من «مفتاح العلوم» وتكلم على الفصاحة وأطلق عليها اسم البديع وقال : «هو معرفة توابع الفصاحة» وقال إنّ الفصاحة «صوغ الكلام على وجه له توفية بتمام الافهام لمعناه وتبين المراد منه» (٦) ، وقسمها الى معنوية ولفظية وذكر ما في «مفتاح العلوم» من صفات المعنوية واللفظية ، ثم قسم المعنوية الى مختصة بالافهام والتبيين والى مختصة بالتزيين والتحسين.

وتحدّث القزويني عن فصاحة اللفظة المفردة وفصاحة الكلام وقال إنّ الفصاحة تقع صفة للمفرد فيقال : «كلمة فصيحة» ولا يقال «كلمة بليغة» ووضع للفظة المفردة شروطا هي : خلوصها من تنافر الحروف ، والغرابة ، ومخالفة القياس اللغوي.

وتحدّث عن فصاحة الكلام وهي : خلوصه من ضعف التأليف وتنافر الكلمات ، والتعقيد مع فصاحتها (٧).

ولم يخرج شرّاح التلخيص عما وضع القزويني من شروط للفظة الفصيحة والكلام الفصيح (٨) ، وهي

__________________

(١) دلائل الاعجاز ص ٣٥.

(٢) دلائل الاعجاز ص ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

(٣) نهاية الايجاز ص ٩.

(٤) المثل السائر ج ١ ص ٦٤ ، وما بعدها ، الجامع الكبير ص ٧٦ وما بعدها.

(٥) مفتاح العلوم ص ١٩٦.

(٦) المصباح ص ٧٥.

(٧) الايضاح ص ٢ ، التلخيص ص ٢٤.

(٨) شروح التلخيص ج ١ ص ٧٠ ، المطول ص ١٥ ، الأطول ج ١ ص ١٥ ، وينظر الروض المريع ص ٨٧ ـ ٨٨ ، ١٧٣ ـ ١٧٤ ، التبيان في البيان ص ٣٩٥.

٥٤٨

شروط ذكرها السابقون غير أنّ المتأخرين وضعوها في قواعد ثابتة وقسّموها هذا التقسيم الذي أوتف دراسة الألفاظ وجرسها وإيحائها عند مرحلة لم تتجاوزها طوال القرون السابقة.

فصل الخطاب :

الفصل : بون ما بين الشيئين ، وفصل الخطاب :البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه ، وقيل :هو أن يفصل بين الحق والباطل (١).

يسمّى النوع الذي ينتقل فيه الشاعر من الفن الذي شبب الكلام به الى ما يلائمه اقتضابا ، ولكن بعض ذلك الاقتضاب يقرب من التخلص ويسمّى حينئذ «فصل الخطاب» (٢). كقوله تعالى : (هذا ، وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ)(٣) أي : الأمر هذا ، أو هذا كما مر. ومنه قول الكاتب : «هذا باب» أو «هذا فصل» أو «أمّا بعد ...» وهو ما ذكره ابن الاثير الذي قال : «فمن ذلك ما يقرب من التخلص وهو فصل الخطاب والذي أجمع عليه المحققون من علماء البيان أنّه : «أما بعد ...» لأنّ المتكلم يفتتح كلامه في كل أمر ذي شأن بذكر الله وتحميده ، فاذا أراد أن يخرج الى الغرض المسوق اليه فصل بينه وبين ذكر الله تعالى بقوله : «أما بعد ...» (٤). وذكر أنّه يأتي في الشعر قليلا ، ومن ذلك قول الشاعر المعروف بالخباز البلدي في قصيدة منها :

هذا وكم لي بالجنينة سكرة

أنا من بقايا شربها مخمور

باكرتها وغصونها مغروزة

والماء بين مروزها مذعور

الفصل والوصل :

الفصل بون ما بين الشيئين ، والفصل من الجسد :موضع المفصل ، وبين كل فصلتين وصل. والفصل الحاجز بين الشيئين ، فصل بينهما يفصل فصلا فانفصل وفصلت الشيء فانفصل : أي قطعته فانقطع.

والوصل خلاف الفصل ، وصل الشيء بالشيء يصله وصلا وصلة وصلة ، واتصل الشيء بالشيء : لم ينقطع (٥).

والفصل في البلاغة أو الكلام ترك عطف بعض الجمل على بعض ، والوصل عطف بعضها على بعض ، وكان الجاحظ من أوائل الذين تكلموا عليه في كتبهم (٦) ، ووقف عنده العسكري وقفة طويلة وذكر أقوالا كثيرة تدل على أهمية هذا الاسلوب ، وبحث ما يتصل بفصول القصيدة ومقاطعها (٧).

وهذا ما لم يتطرق إليه المتأخرون في الفصل والوصل ، ولعل عبد القاهر من أشهر الذين بحثوه بحثا مفصلا يقوم على التقسيم والتحديد ، وربطوه بباب العطف. وقد أجمل مواضع الفصل والوصل بقوله : «إنّ الجمل على ثلاثة أضرب : جملة حالها مع التي قبلها حال الصفة مع الموصوف والتأكيد مع المؤكد فلا يكون فيها العطف البتة لشبه العطف فيها ـ لو عطفت ـ بعطف الشيء على نفسه. وجملة حالها مع التي قبلها حال الاسم يكون غير الذي قبله إلا أنّه يشاركه في حكم ويدخل معه في معنى مثل أن يكون كلا الاسمين فاعلا أو مفعولا أو مضافا إليه فيكون حقها العطف. وجملة ليست في شيء من الحالين ، بل سبيلها مع التي قبلها سبيل الاسم مع الاسم لا يكون منه في شيء فلا يكون إياه ولا

__________________

(١) اللسان (فصل).

(٢) الايضاح ص ٤٣٤ ، التلخيص ص ٤٣٤ ، شروح التلخيص ج ٤ ص ٥٤٠ ، المطول ص ٤٨١ ، الاطول ج ٢ ص ٢٥٩.

(٣) سورة ص ٥٥.

(٤) المثل السائر ج ٢ ص ٢٧٥ ، وينظر المطول ص ٤٨١.

(٥) اللسان (فصل) و (وصل).

(٦) البيان ج ١ ص ٨٨.

(٧) كتاب الصناعتين ص ٤٣٨.

٥٤٩

مشاركا له في معنى بل هو شيء إن ذكر لم يذكر إلا بأمر ينفرد ويكون ذكر الذي قبله وترك الذكر سواء في حاله لعدم التعلق بينه وبينه رأسا ، وحق هذا ترك العطف البتة.

فترك العطف يكون إمّا للاتصال الى الغاية ، أو الانفصال الى الغاية ، والعطف لما هو واسطة بين الامرين ، وكان له حال بين حالين ، فاعرفه» (١)

وعلى هذا الأساس وضع عبد القاهر أصول بحث الفصل والوصل وقوانينه وذكر الأمثلة الكثيرة وحلّلها تحليلا علميّا وأدبيّا. وجاء علماء البلاغة فاختصروا بحوثه وبوبوها وكان تحديدهم أدقّ ضبطا وقواعدهم أكثر تقييدا. وكان السّكّاكي من أشهر الذين اتبعوه ولكنّه لم يوضح الموضوع او يبحثه بحثا مناسبا ، وانصرف الى الكلام على الجامع وأنواعه (٢) ، واستفاد القزويني وشرّاح التلخيص من عبد القاهر والسّكاكي وجمعوا بين تحديد القاعدة والشرح والتحليل (٣).

وقد اتّفق البلاغيون على أنّ الفصل يجب في خمسة مواضع :

الأوّل : أن يكون بين الجملتين اتحاد تام وهو «كمال الاتصال» وذلك أن تكون الجملة الثانية تأكيدا للأولى والمقتضي للتأكيد دفع توهم التجوز والغلط وهو قسمان :

أحدهما : أن تنزل الثانية من الأولى منزلة التأكيد المعنوي من متبوعه في إفادة التقرير مع الاختلاف في المعنى كقوله تعالى : (الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ)(٤) فانّ وزان (لا رَيْبَ فِيهِ) وزان «نفسه» في مثل : «جاءني محمد نفسه».

وثانيهما : أن تنزل الثانية من الأولى منزلة التأكيد اللفظي من متبوعه في اتحاد المعنى كقوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)(٥) ، فان (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) معناه : أنّه في الهداية بالغ درجة لا يدرك كنهها حتى كأنه هداية محضة.

ومن أمثلة كون الجملة الثانية توكيدا للأولى قول المتنبي :

وما الدّهر إلا من رواة قصائدي

إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا

فالجملة «إذا قلت ...» توكيد للاولى ؛ لأنّ معنى الجملتين واحد.

أو أن تكون الجملة الثانية بدلا من الاولى ، وهو ضربان :

أحدهما : أن تنزل الثانية من الاولى منزلة بدل البعض (٦) من متبوعه كقوله تعالى : (أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ. وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)(٧) فانه مسوق للتنبيه على نعم الله تعالى عند المخاطبين ، وقوله : (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ. وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) أوفى بتأديته مما قبله لدلالته عليها بالتفصيل من غير إحالة على علمهم مع كونهم معاندين ، والأمداد بما ذكر من الأنعام وغيرها بعض الأمداد بما يعلمون ويحتمل الاستئناف.

وثانيهما : أن تنزل الثانية من الاولى منزلة بدل الاشتمال (٨) من متبوعه كقوله تعالى : (اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ

__________________

(١) دلائل الاعجاز ص ١٨٧.

(٢) مفتاح العلوم ص ١٢٠.

(٣) الايضاح ص ١٤٧ ، التلخيص ص ١٧٥ ، شروح التلخيص ج ٣ ص ٢ ، المطول ص ٢٤٧ ، الاطول ج ٢ ص ٢ ، التبيان في البيان ص ١٠١.

(٤) البقرة ١ ـ ٢.

(٥) البقرة ٢.

(٦) بدل البعض : هو بدل الجزء من كله قليلا كان ذلك الجزء او مساويا للنصف أو اكثر منه. مثل : «جاء للطلاب ربعهم أو نصفهم أو ثلثاهم».

(٧) الشعراء ١٣٢ ـ ١٣٤.

(٨) بدل الاشتمال : هو بدل الشيء مما يشتمل عليه على شرط ان لا يكون جزء منه مثل : «نفعني المعلم علمه» و «أحببت خالدا شجاعته».

٥٥٠

مُهْتَدُونَ)(١) فان المراد به حمل المخاطبين على اتباع الرسل ، وقوله : (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أوفى بتأدية ذلك ، لأنّ معناه : لا تخسرون معهم شيئا من دنياكم وتربحون صحة دينكم فينظم لكم خير الدنيا وخير الآخرة. ومنه قول الشاعر :

أقول له ارحل ، لا تقيمنّ عندنا

وإلا فكن في السرّ والجهر مسلما

وقد فصل «لا تقيمنّ» عن «ارحل» لقصد البدل ؛ لأنّ المقصود من كلامه هذا كمال اظهار الكراهة لاقامته بسبب خلاف سره العلن. وقوله : «لا تقيمنّ عندنا» أوفى بتأدية هذا المقصود من قوله : «ارحل» لدلالته عليه بالمطابقة مع التأكيد.

أو أن تكون الثانية بيانا للأولى وذلك بأن تنزل منها منزلة عطف البيان من متبوعة في إفادة الايضاح والمقتضي للتبيين أن يكون في الاولى نوع خفاء مع اقتضاء المقام ازالته كقوله تعالى : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ ، قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى)(٢) ، فصل جملة (قالَ) عما قبلها لكونها تفسيرا له وتبيينا.

ومنه قول أبي العلاء :

الناس للناس من بدو ومن حضر

بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم

فالجملة الثانية «بعض لبعض ...» إيضاح للاولى «الناس للناس» وهي بيان لها.

الثاني : أن يكون بين الجملتين كما الانقطاع وذلك أن تختلف خبرا وإنشاء لفظا ومعنى كقوله الشاعر :

وقال رائدهم ارسوا نزاولها

فكلّ حتف امرىء يجري بمقدار

فالجملة الاولى «ارسوا» انشاء لفظا ومعنى «نزاولها» خبر لفظا ومعنى.

أو معنى لا لفظا مثل : «مات فلان رحمه‌الله» فالجملة الاولى خبرية لفظا ومعنى والثانية انشائية معنى لا لفظا ، لأنّ لفظ الفعل خبر لا أمر.

أو أن لا يكون بين الجملتين جامع أو مناسبة بل تكون كل جملة مستقلة بنفسها مثل : «الليل رهيب ، أقبل محمد» ولا صلة بين الجملتين ولذلك ترك العطف بينهما لكمال الانقطاع.

الثالث : أن تكون الجملة الثانية جوابا عن سؤال يفهم من الجملة الاولى فتنزل منزلته ويسمى هذا «شبه كمال الاتصال» أو «الاستئناف». والاستئناف ثلاثة أضرب لأنّ السؤال الذي تضمنته الجملة الاولى إما عن سبب الحكم فيها مطلقا كقول الشاعر :

قال لي كيف أنت قلت عليل

سهر دائم وحزن طويل

أي : ما بالك عليلا؟ أو ما سبب علتك؟

وقول الآخر :

وقد غرضت من الدنيا فهل زمني

معط حياتي لغرّ بعد ما غرضا (٣)

جرّبت دهري وأهليه فما تركت

لي التجارب في ودّ امرىء غرضا

أي : لم تقول هذا؟ وما الذي اقتضاك أن تطوي عن الحياة الى هذا الحد؟ أي : تعرض عنها.

أو عن سبب خاص له كقوله تعالى : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي ، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ)(٤) كأنه قيل هل النفس أمّارة بالسوء؟ فقيل : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ.)

أو عن غير هذين النوعين كقوله تعالى : (قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ)(٥) كأنه قيل : فماذا قال إبراهيم

__________________

(١) يس ٢٠ ـ ٢١.

(٢) طه ١٢٠.

(٣) غرض : ضجر ومل. الغر : من لا تجربة له.

(٤) يوسف ٥٣.

(٥) هود ٦٩.

٥٥١

عليه‌السلام؟ فقيل : (قالَ سَلامٌ.) ومنه قول الشاعر :

زعم العواذل أنّني في غمرة

صدقوا ولكن غمرتي لا تنجلي (١)

لما حكى عن العواذل أنّهم قالوا : هو في غمرة ، وكان ذلك مما يحرك السامع لأن يسأل فيقول : فيما قولك في ذلك وما جوابك عنه؟ أخرج الكلام مخرجه اذا كان ذلك قد قيل له وصار كأنه قال : أقول : صدقوا ، أنا كما قالوا ولكن لا مطمع لهم في فلاحي. ولو قال : «زعم العواذل أنّني في غمرة وصدقوا» لكان يكون لم يصح في نفسه أنّه مسؤول وأنّ كلامه كلام مجيب (٢).

وقد يحذف صدر الاستئناف لقيام قرينة كقوله تعالى : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ. رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ)(٣) فيمن قرأ (يُسَبِّحُ) مبينا للمفعول كأنه قيل : من يسبحه؟فقيل : رجال.

وقد يحذف الاستئناف كله ويقام ما يدل عليه مقامه كقول الشاعر :

زعمتم أنّ إخوتكم قريش

لهم إلف وليس لكم إلاف (٤)

حذف الجواب الذي هو «كذبتم في زعمكم» وأقام «لهم إلف وليس لكم إلاف» مقامه لدلالته عليه.

ويجوز أن يقدر قوله : «لهم إلف» جوابا لسؤال اقتضاه الجواب المحذوف كأنّه لما قال المتكلم «كذبتم» قالوا : «لم كذبنا؟» فقال : «لهم إلف وليس لكم إلاف» فيكون في البيت استئنافان.

وقد يحذف ولا يقام مقامه شيء كقوله تعالى : (نِعْمَ الْعَبْدُ)(٥) أي أيوب ، أو : هو لدلالة ما قبل الآية وما بعدها عليه.

الرابع : أن يكون بين الجملتين «شبه كمال الانقطاع» وذلك بأن تكون الجملة الثانية بمنزلة المنقطعة عن الاولى وينبغي هنا الفصل لأنّ عطفها عليها موهم لعطفها على غيرها ، ويسمّى هذا الفصل «قطعا» ، ومنه قول الشاعر :

وتظن سلمى أنني أبغي بها

بدلا أراها في الضّلال تهيم

لم يعطف «أراها» على «تظن» لئلا يتوهم السامع أنّه معطوف على «أبغي» لقربه منه مع أنّه ليس بمراد ، ويحتمل الاستئناف.

الخامس ، أن تكون الجملتان متوسطتين بين كمال الاتصال وكمال الانقطاع مع قيام المانع من الوصل كأن يكون للأولى حكم لم يقصد إعطاؤه للثانية كقوله تعالى : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ ، اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)(٦).

فجملة (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) لا يصحّ عطفها على جملة (قالُوا ...) لئلا يلزم من ذلك اختصاص استهزاء الله بهم غير ميقّد بوقت من الاوقات ، ولا يصح أن تعطف جملة (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) على جملة «إنا معكم» لئلا يلزم أن تكون من مقول المنافقين مع أنّها من مقول الله تعالى : ويجب الوصل في ثلاثة مواضع : الاول ، أن يكون بين الجملتين كمال الانقطاع مع الايهام وذلك بأن تكون إحداهما خبرية والأخرى انشائية ولو فصلت لأوهم الفصل خلاف المقصود ومنه قول البلغاء : «لا ، وايدك الله».

الثاني : أن تكون الجملتان متفقتين خبرا وإنشاء لفظا ومعنى كقوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَ

__________________

(١) الغمرة : الشدة.

(٢) ينظر دلائل الاعجاز ص ١٨٢.

(٣) النور ٣٦ ـ ٣٧.

(٤) الالف والايلاف : العهد.

(٥) سورة ص ٤٤.

(٦) البقرة ١٤ ـ ١٥.

٥٥٢

الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)(١) ، وقوله : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ)(٢) وقوله :(يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ)(٣) وقوله (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا)(٤).

أو أن تكونا متّفقتين خبرا وانشاء معنى لا لفظا كقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)(٥) ، عطف قوله : (قُولُوا) على قوله : (لا تَعْبُدُونَ) لأنّه بمعنى :لا تعبدوا.

الثالث ، أن يكون للجملة الأولى محلّ من الإعراب وقصد إشراك الجملة الثانية لها في الحكم الاعرابي ، وهذا كعطف المفرد على المفرد لأنّ الجملة لا يكون لها محل من الإعراب حتى تكون واقعة موقع المفرد.

وينبغي هنا أن تكون مناسبة بين الجملتين كقوله تعالى : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ)(٦) ، وقوله : (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٧) ، ولذلك عيب على أبي تمام :

لا والذي هو عالم أنّ النّوى

صبر وأنّ أبا الحسين كريم

إذ لا مناسبة بين كرم أبي الحسين ـ محمد بن الهيثم ـ ومرارة النوى ولا تعلق لأحدهما بالآخر.

ومن إشراك الجملة الثانية بالاولى في الحكم قول المتنبي :

وللسرّ مني موضع لا يناله

نديم ولا يفضي اليه شراب

فجملة «لا يناله نديم» صفة لـ «موضع» ولذلك جاز أن يعطف عليها جملة «ولا يفضي اليه شراب».

وذكر عبد القاهر لونا من الوصل (٨) وهو أن يؤتى بالجملة فلا تعطف على ما يليها ولكن تعطف على جملة بينها وبين هذه التي تعطف جملة أو جملتان مثال ذلك قول المتنبي :

تولّوا بغتة فكأنّ بينا

تهيّبني ففاجأني اغتيالا

فكان مسير عيسهم ذميلا

وسير الدمع إثرهم انهمالا

قوله : «فكان مسير عيسهم» معطوف على «تولوا بغتة» دون ما يليه من قوله : «ففاجأني» لأنّا إن عطفناه على هذا الذي يليه أفسدنا المعنى من حيث أنّه يدخل في معنى «كأن» وذلك يؤدي الى أن لا يكون «مسير عيسهم» حقيقة ويكون متوهما كما كان تهيب البين كذلك ، وهذا أصل كبير.

ويتصل بالفصل والوصل اقتران الجملة الحالية بالواو وعدم اقترانها ، وقد ألحقه البلاغيون بهذا المبحث وعقد له عبد القاهر والرازي والسكاكي والقزويني (٩) فصولا وألحقوه ببات الفصل والوصل.

ولم يتعرض البلاغيّون إلا للجمل حينما ترتبط أو تنفصل ، وإن كان عبد القاهر قد اتخذ من عطف المفردات سبيلا للحديث عن عطف الجمل (١٠).

ولعل السبكي كان من أحسن الذين تعرضوا لهذا المبحث (١١) ، وإن كان هذا المبحث اكثر التصاقا بالنحو.

__________________

(١) الانفطار ١٣ ـ ١٤.

(٢) الروم ١٩.

(٣) النساء ١٤٢.

(٤) الاعراف ٣١.

(٥) البقرة ٨٣.

(٦) سبأ ٢.

(٧) البقرة ٢٤٥.

(٨) دلائل الاعجاز ص ١٨٨.

(٩) دلائل الاعجاز ص ١٥٦ ، نهاية الايجاز ص ١٣٧ ، مفتاح العلوم ص ١٣١ ، الايضاح ص ١٦٥.

(١٠) دلائل الاعجاز ص ١٧١ وما بعدها.

(١١) عروس الافراح ج ٣ ص ١١٣ وما بعدها.

٥٥٣

فضل السابق على المسبوق :

عقد ابن منقذ لهذا النوع بابا (١) وقال إنه كقول حسّان بن ثابت :

ترك الأحبة أن يقاتل دونهم

ونجا برأس طمرّة ولجام

أخذه أبو تمّام فقال :

ترك الأحبّة ناسيا لا ساليا

عذر النسيّ خلاف عذر السّالي

وقال حسّان :

يغشون حتى ما تهرّ كلابهم

لا يسألون عن السواد المقبل

وقال أبو نواس :

الى بيت حان لا تهرّ كلابه

عليّ ولا ينكرن طول ثوائي

وهذا من باب الأخذ والسرقات.

الفكّ والسّبك :

فككت الشيء فانفك بمنزلة الكتاب المختوم تفك خاتمه ، وفككت الشيء خلصّته ، وفك الشيء يفكّه فكا فانفك : فصله.

سبك الذهب والفضة ونحوه من الذائب يسبكه ويسبكه سبكا وسبكة : ذوّبه وأفرغه في قالب.

والسبك : تسبيك السبيكة من الذهب والفضة يذاب ويفرغ في مسبكة من حديد (٢).

عقد ابن منقذ للفكّ والسّبك بابا وقال : «أما الفكّ فهو أن ينفصل المصراع الاول من المصراع الثاني ولا يتعلق بشيء من معناه» (٣) مثل قول زهير :

حيّ الديار التي لم يعفها القدم

بلى وغيّرها الأرواح والدّيم

«وأما السّبك فهو أن يتعلّق كلمات البيت بعضها ببعض من أوّله الى آخره» (٤) كقول زهير :

يطعنهم ما ارتموا حتى اذا اطّعنوا

ضارب حتى اذا ما ضاربوا اعتنقا

ولذلك قيل : «خير الكلام المحبوك المسبوك الذي يأخذ بعضه برقاب بعض».

الفواصل :

الفصل ، بون ما بين الشيئين ، والفصل من الجسد :موضع المفصل وبين كل فصلين وصل. والفاصلة : الخرزة التي تفصل بين الخرزتين في النظام ، وقد فصّل النظم ، وعقد مفصّل أي جعل بين كل لؤلؤتين خرزة (٥)

انتبه الى الفواصل الأدباء والمفسرون منذ عهد مبكر وقد ربط الخليل بينها وبين السجع فقال ؛ : «سجع الرجل اذا نطق بكلام له فواصل كقوافي الشعر من غير وزن» (٦) ، وقرنها سيبويه بالقوافي فقال : «وجميع ما لا يحذف في الكلام وما يختار فيه أن لا يحذف ، يحذف في الفواصل والقوافي» (٧) ، وذكرها الفراء باسمها فقال عن قوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ)(٨) «وانما ثنّاها هنا لأجل الفاصلة ، رعاية للتي قبلها والتي بعدها على هذا الوزن. والقوافي تحتمل في الزيادة والنقصان ما لا يحتمله سائر الكلام» (٩).

وسمّاه ايضا رؤوس الايات وقال وهو يتحدث عن قوله تعالى : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً)(١٠) ان عمر بن

__________________

(١) البديع في نقد الشعر ص ٢٠٢.

(٢) اللسان (فكك) و (سبك).

(٣) البديع في نقد الشعر ص ١٦٣.

(٤) البديع في نقد الشعر ص ١٦٣.

(٥) اللسان (فصل).

(٦) كتاب العين ج ١ ص ٢١٤.

(٧) الكتاب ج ٤ ص ١٨٤ ـ ١٨٥.

(٨) الرحمن ٤٦.

(٩) البرهان ج ١ ص ٦٥.

(١٠) النازعات ١١.

٥٥٤

الخطاب سمع وهو يقرأها : «إذا كنا عظاما ناخرة» وهي أجود الوجهين في القراءة لأنّ الآيات بالألف ألاتزي أن (ناخرة) مع (الحافرة) و (الساهرة) أشبه بمجيء التنزيل و (الناخرة) و (النخرة) سواء في المعنى بمنزلة (الطامع) و (الطمع) (١). وقال عن قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ)(٢) «وقد قرأ القرّاء «يسري» بإثبات الياء و «يسر» بحذفها ، وحذفها أحبّ اليّ لمشاكلتها رؤوس الآيات ولأنّ العرب قد تحذف الياء وتكتفي بكسر ما قبلها منها» (٣). وقال في قوله تعالى : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى)(٤) : «يريد» وما قلاك» فألقيت الكاف كما يقول : قد اعطيتك وأحسنت ، ومعناه احسنت اليك ، فتكتفي بالكاف الأولى من الأخرى إعادة لأنّ رؤوس الآيات بالياء فاجتمع ذلك فيه» (٥).

ومعنى ذلك أنّ فواصل الآيات شغلت القدماء وبدأت تدخل دراستها في كتب الإعجاز والبلاغة حينما يتطرقون للسجع لكي ينفوا هذا النوع عن كتاب الله الخالد. قال الرماني : «الفواصل حروف متشاكلة في المقاطع توجب حسن إفهام المعاني ، والفواصل بلاغة والأسجاع عيب ، وذلك أنّ الفواصل تابعة للمعاني وأمّا الأسجاع فالمعاني تابعة لها» (٦). ونقل الباقلاني هذا التعريف (٧) ونفى السجع عن القرآن الكريم وقال إنّ ما يختص به هو «الفواصل» ولا شركة بينه وبين سائر الكلام ولا تناسب (٨). وسمّيت كذلك ليتجنبوا الاسجاع لأنّ أصله من سجع الطير فشرف القرآن أن يستعار لشيء فيه لفظ هو أصل في صوت الطائر. وردّ ابن سنان كلام الرماني وقال : «وأما الفواصل التي في القرآن فانهم سمّوها فواصل ولم يسمّوها اسجاعا وفرّقوا فقالوا : إنّ السجع هو الذي يقصد في نفسه ثم يحمل المعنى عليه ، والفواصل التي تتبع المعاني ولا تكون مقصودة في أنفسها وقال علي بن عيسى الرماني إنّ الفواصل بلاغة والسجع عيب وعلل ذلك بما ذكرناه من أنّ السجع تتبعه المعاني والفواصل تتبع المعاني ، وهذا غير صحيح والذي يجب أن يحرر في ذلك أن يقال : إنّ الأسجاع حروف متماثلة في مقاطع الفصول على ما ذكرناه. والفواصل على ضربين : ضرب يكون سجعا وهو ما تماثلت حروفه في المقاطع وضرب لا يكون سجعا وهو ما تقابلت (٩) حروفه المقاطع ولم تتماثل. ولا يخلو كل واحد من هذين القسمين ـ أعني المتماثل والمتقارب ـ من أن يكون يأتي طوعا سهلا وتابعا للمعاني ، وبالضد من ذلك حتى يكون متكلفا يتبعه المعنى فإن كان من القسم الاول فهو المحمود الدالّ على الفصاحة وحسن البيان ، وإن كان من الثاني فهو مذموم مرفوض. فأما القرآن فلم يرد فيه إلا ما هو من القسم المحمود لعلوّه في الفصاحة وقد وردت فواصله متماثلة ومتقاربة» (١٠).

وتقسيم الفواصل الى حروف متماثلة وحروف متقاربة من عمل الرماني (١١) ، وهذا التقسيم يؤدي الى أن تكون الفواصل أشمل من السجع أي أنّها تضم هذا اللون وغيره مما سمي الموازنة ، وبذلك تكون الفواصل خاصة بكتاب الله ويبقى جزء منها أو ضرب واحد مرتبطا بالسجع الذي يخص كلام العرب.

وقال المصري إنّ مقاطع آي الكتاب العزيز لا تخلو من أن تكون أحد هذه الأقسام الأربعة : التمكين والتصدير والتوشيح والايغال ، ثم قال : «ولهذا تسمى مقاطعه فواصل لا سجعا ولا قوافي لاختصاص القوافي

__________________

(١) معاني القرآن ج ٣ ص ٢٣١.

(٢) الفجر ٤.

(٣) معاني القرآن ج ٣ ص ٢٦٠.

(٤) الضحى ٣.

(٥) معاني القرآن ج ٣ ص ٢٧٣.

(٦) النكت في اعجاز القرآن ص ٨٩.

(٧) إعجاز القرآن ص ٤٠٩.

(٨) اعجاز القرآن ص ٨٦ وما بعدها.

(٩) في هامش الكتاب : «الصواب ـ ما تقاربت».

(١٠) سر الفصاحة ص ٢٠٣.

(١١) النكت في اعجاز القرآن ص ٨٩.

٥٥٥

بالشعر والسجع بالمنافرة عن معنى الكلام مأخوذ من سجع الطائر» (١).

وحينما تحدّث البلاغيون عن السجع خصّوا الفواصل بالتفاتة واضحة فقال السكاكي عن السجع : «ومن جهاته الفواصل القرآنية» (٢). وقال القزويني : «وقيل إنّه لا يقال في القرآن أسجاع وإنّما يقال فواصل» (٣) ، وتبعه في ذلك شرّاح التلخيص (٤).

وعقد الزّركشي فصلا في «معرفة الفواصل ورؤوس الآي» وقال : «وهي كلمة آخر الآية كقافية الشعر وقرينة السجع» (٥). وفي هذا التعريف فصل بين السجع والفواصل. وفرّق الإمام أبو عمرو الداني بين الفواصل ورؤوس الآي وقال : «أما الفاصلة فهي الكلام المنفصل مما بعده. والكلام المنفصل قد يكون رأس آية وغير رأس ، وكذلك الفواصل يكنّ رؤوس آي وغيرها. وكل رأس آية فاصلة ، وليس كل فاصلة رأس آية ؛ فالفاصلة تعمّ النوعين وتجمع الضربين ، ولأجل كون معنى الفاصلة هذا ذكر سيبويه في تمثيل القوافي : (يَوْمَ يَأْتِ) و (ما كُنَّا نَبْغِ) ـ وهما غير رأس آيتين باجماع ـ مع (إِذا يَسْرِ)(٦) وهو رأس آية باتفاق» (٧).

ثم قال الزّركشي : «وتقع الفاصلة عند الاستراحة في الخطاب لتحسين لكلام بها وهي الطريقة التي يباين القرآن بها سائر الكلام. وتسمّى فواصل لأنّه يفصل عندها الكلامان وذلك أنّ آخر الآية فصل بينها وبين وما بعدها ولم يسمّوها أسجاعا» (٨).

ولكن الجعبري لم يوافق على ما ذكر الداني وقال : «وهو خلاف المصطلح ولا دليل له في تمثيل سيبويه بـ (يَوْمَ يَأْتِ) و (كُنَّا نَبْغِ) وليس رأس آية لأنّ مراده الفواصل اللغوية لا الصناعية» (٩).

وفصّل السّيوطي في الفواصل ولخّص ما ذكره شمس الدين بن الصائغ الحنفي مع مراعاة المناسبة في كتابه «إحكام الرآي في أحكام الآي» (١٠).

ويتضح من كلام القدماء أنّ الفواصل أوسع دلالة من السجع ولذلك خصّوا بها كتاب الله وليتجنبوا مصطلح السجع الذي يتصل بالحروف المتشابهة لا المتقاربة او الوقف.

__________________

(١) بديع القرآن ص ٨٩ ، وينظر معترك ج ١ ص ٣٩.

(٢) مفتاح العلوم ص ٢٠٣.

(٣) الايضاح ص ٣٩٥ ، التلخيص ص ٤٠٠.

(٤) شروح التلخيص ج ٤ ص ٤٥٢ ، المطول ص ٤٥٥ ، الأطول ج ٢ ص ٢٣٤.

(٥) البرهان ج ١ ص ٥٣.

(٦) الآيات الثلاث هي : هود ١٠٥ والكهف ٦٤ والفجر ٤.

(٧) البرهان ج ١ ص ٥٣.

(٨) البرهان ج ١ ص ٥٣.

(٩) الاتقان ج ٢ ص ٩٦ والايتان هما : هود ١٠٥ والكهف ٦٤.

(١٠) معترك ج ١ ص ٣٣ وما بعدها ، وينظر دلائل الاعجاز ص ٢٩٦.

٥٥٦

القاف

قبح الأخذ :

قال العسكري : قبح الأخذ أن تعمد الى المعنى فتتناوله بلفظه كله أو أكثره أو تخرجه في معرض مستهجن. والمعنى إنما يحسن بالكسوة. أخبرنا بعض أصحابنا قال : قيل للشعبي : إنا إذا سمعنا الحديث منك نسمعه بخلاف ما نسمعه من غيرك.

فقال : إني أجده عاريا فأكسوه من غير أن أزيد فيه حرفا أي من غير أن أزيد في معناه شيئا» (١).

فما أخذ بلفظه ومعناه وادّعى آخذه ـ أو ادعي له ـ أنّه لم يأخذه ولكن وقع له كما وقع للأول قول طرفة :

وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم

يقولون لا تهلك أسى وتجلّد

وقول امرىء القيس :

وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم

يقولون لا تهلك أسى وتجمّل

وقول البعيث :

أترجو كليب أن يجيء حديثها

بخير وقد أعيا كليبا قديمها

وقول الفرزدق :

أترجو ربيع أن تجيء صغارها

بخير وقد أعيا ربيعا كبارها

قال العسكري : «والأخذ اذا كان كذلك كان معيبا وإن ادّعي أنّ الآخر لم يسمع قول الأول بل وقع لهذا كما وقع لذاك فإنّ صحة ذلك لا يعلمها إلا الله ـ عزوجل ـ والعيب لازم للآخر».

ومن الأخذ المستهجن أن يأخذ المعنى فيفسده أو يعوّصه أو يخرجه في معرض قبيح وكسوة مسترذلة ، ومن ذلك قول أبي كريمة :

قفاه وجه ثمّ وجه الذي

قفاه وجه يشبه البدرا

أخذه من قول أبي نواس :

بأبي أنت من مليح بديع

بذّ حسن الوجوه حسن قفاكا

وأحسن ابن الرومي فيه فقال :

ما ساءني إعراضه

عني ولكن سرّني

سالفتاه عوض

من كلّ شيء حسن

وسمع بعضهم قول محمود الوراق :

إذا كان شكري نعمة الله نعمة

عليّ له في مثلها يجب الشّكر

فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله

وإن طالت الأيام واتّصل العمر

إذا مسّ بالسّراء عمّ سرورها

وإن مسّ بالضّراء أعقبها الأجر

__________________

(١) كتاب الصناعتين ص ٢٢٩.

٥٥٧

وما منهما إلا له فيه نعمة

تضيق بها الأوهام والبرّ والبحر

فقال وأساء :

الحمد لله إنّ الله ذو نعم

لم يحصها عددا بالشكر من حمدا

شكري له عمل فيه عليّ له

شكر يكون لشكر قبله مددا

ومن ذلك قول الإمام علي ـ رضي‌الله‌عنه ـ «قيمة كل امرىء ما يحسنه» أخذه ابن طباطبا بلفظه وأخرجه بغيضا متكلفا بقوله :

فيا لائمي دعني أغال بقيمتي

فقيمة كلّ الناس ما يحسنونه

القبض :

القبض خلاف البسط ، قبضه يقبضه قبضا.

والقبض : جمع الكف على الشيء ، وقبضت الشيء قبضا : أخذته. والقبض في الشعر حذف الحرف الخامس الساكن من الجزء نحو النون من «فعولن» (١).

قال ابن فارس : «ومن سنن العرب القبض محاذاة للبسط الذي ذكرناه ، وهو النقصان من عدد الحروف» (٢) ، كقول القائل : «غرثى الوشاحين صموت الخلخل». أي الخلخال.

وسمّاه السيوطي «الاقتطاع» وذكره المدني في «الاكتفاء» (٣) وقد تقدما.

القران :

قرنت الشيء بالشيء : وصلته ، والقران : حبل يقلّد البعير ويقاد به (٤).

والقران هو الربط بين أبيات القصيدة ليقع التشابه والانسجام ، وقد ذكره الجاحظ وهو يتحدث عن تلاحم أبيات الشعر وتوافقها ، قال أبو نوفل بن سالم لرؤية بن العجّاج : «يا أبا الجحاف مت إذا شئت. قال : وكيف ذاك؟ قال : رأيت عقبة بن رؤبة ينشد رجزا أعجبني ، إنه يقول : «لو كان لقوله قران» قال الشاعر :

مهاذبة مناجبة قران

منادبة كأنّهم الأسود (٥)

وأنشد ابن الأعرابي :

وبات يدرس شعرا لا قران به

قد كان نقّحه حولا فما زادا

أراد بقوله : «قران» التشابه والموافقة وكان يطلب أن يوضع البيت الى جنب ما يشبهه ويوافقه (٦).

فالجاحظ نقل هذا المصطلح وأراد به أن يكون الكلام متلاحما ، قال : «واذا كانت الكلمة ليس موقعها الى جنب أختها مرضيا موافقا كان على اللسان عند إنشاد ذلك الشعر مؤونة. وأجود الشعر ما رأيته متلاحم الاجزاء ، سهل المخارج فتعلم بذلك أنّه قد أفرغ إفراغا واحدا وسبك سبكا واحد فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان» (٧).

وطلب الجاحظ أن يكون اقتران بين الحروف لتخرج الالفاظ جميلة الجرس بديعة الايقاع ، قال : «فهذا في اقتران الألفاظ فأمّا في اقتران الحروف فإنّ الجيم لا تقارن الظاء ولا القاف ولا الطاء ولا الغين بتقديم ولا تأخير. والزاي لا تقارن الظاء ولا السين ولا الضاد ولا الذال بتقديم ولا تأخير» (٨). وهذا ما تحدث عنه اللغويون منذ عهد الخليل بن احمد الفراهيدي وبنوا عليه كثيرا من الأحلام اللغوية واستفادوا منه في

__________________

(١) اللسان (قبض).

(٢) الصاحبي ص ٢٢٨.

(٣) الاتقان ج ٢ ص ٦١ ، انوار الربيع ج ٣ ص ٨٣ ـ ٨٤.

(٤) اللسان (قرن).

(٥) مهاذبة : سراع ، مناجبة : جمع منجاب وهو الذي يلد النجباء. منادبة : الذين ينتدبون عند الحاجة.

(٦) البيان ج ١ ص ٦٨ ، ٢٠٥ ـ ٢٠٦ ، ٢٢٨.

(٧) البيان ج ١ ص ٦٧.

(٨) البيان ج ١ ص ٦٩.

٥٥٨

معرفة الالفاظ الدخيلة.

قرب المأخذ :

قال العسكري : «وأما قرب المأخذ فهو أن تأخذ عفو الخاطر وتتناول صفو الهاجس ولا تكد فكرك ولا تتعب نفسك وهذه صفة المطبوع» (١). روي أنّ الرشيد أو غيره قال لندمائه وقد طلعت الثريا : «أما ترون الثريا؟» فقال بعضهم : «كأنها عقد ريّا». وقال بعضهم لأبي العتاهية : «عذب الماء فطابا» فقال أبو العتاهية : «حبذا الماء شرابا». وهذا يدل على سرعة البديهة وعلى أنّ المتمكن من نفسه يضع لسانه حيث يريد.

القسم :

القسم : اليمين ، والجمع أقسام ، وأقسمت : حلفت وأصله من القسامة ، والقسامة : الذين يحلفون على حقهم ويأخذون (٢).

والقسم هو الاقتسام (٣) وقد تقدم.

قصد الجدّ بالهزل :

هو أن يراد الجدّ في قالب الهزل (٤) ، كقول الشاعر :

إذا ما تميميّ أتاك مفاخرا

فقل عدّ عن ذا كيف أكلك للضّبّ

القصر :

القصر : الحبس ، وفي القرآن الكريم : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ)(٥) ، أي محبوسات فيها.

والقصر : كفّك نفسك عن أمر وكفها من أن تطمح به غرب الطمع (٦).

والقصر هو تخصيص شيء بشيء بطريق مخصوص وذلك كتخصيص المبتدأ بالخبر بطريق النفي في قوله تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ)(٧) وتخصيص الخبر بالمبتدأ مثل : «ما شاعر إلا المتنبي».

والقصر هو الحصر (٨) وقد تقدم.

القطع :

القطع : إبانة بعض أجزاء الجرم من بعض فصلا ، قطعه يقطعه قطعا (٩). والقطع أن تكون العبارة الثانية منقطعة عن الاولى ، ولذلك يجب الفصل. والقطع قد يكون للاحتياط كقول الشاعر :

وتظنّ سلمى أنّني أبغي بها

بدلا ، أراها في الضّلال تهيم

وقد يكون للوجوب كقوله تعالى : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ. اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)(١٠).

وقد تقدّم القطع في شبه كمال الانقطاع والفصل والوصل (١١).

__________________

(١) كتاب الصناعتين ص ٤٩.

(٢) اللسان (قسم).

(٣) الطراز ج ٣ ص ١٥٣ ، وينظر كفاية الطالب ص ١٨٥ ، نفحات ص ٩٨ ، شرح الكافية ص ١٢٤.

(٤) حلية اللب ص ١٤٧.

(٥) الرحمن ٧٢.

(٦) اللسان (قصر).

(٧) الحديد ٢٠.

(٨) دلائل الاعجاز ص ٢٥٢ ، مفتاح العلوم ص ١٣٨ ، الايضاح ص ١١٨ ، التلخيص ص ١٣٧ ، شروح التلخيص ج ٢ ص ١٦٦ ، المطول ص ٢٠٤ ، الاطول ج ١ ص ٢١٣ ، معترك ج ١ ص ١٨١ ، الروض المريع ص ١٦٩.

(٩) اللسان (قطع).

(١٠) البقرة ١٤ ـ ١٥.

(١١) مفتاح العلوم ص ١٢٦. الايضاح ص ١٥٤ ، التلخيص ص ١٨٥ ، شروح التلخيص ج ٣ ص ٥٠ ، المطول ص ٢٥٧ ، الاطول ج ٢ ص ١٣.

٥٥٩

القطع للاحتياط :

تقدّم في شبه كمال الانقطاع والقطع والفصل والوصل (١).

القطع للوجوب :

تقدم في شبه كمال الانقطاع والقطع والفصل والوصل (٢).

قطع النّظير عن النّظير :

ذكره احمد بن المنير الاسكندري عند كلامه على قوله تعالى : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى. وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى)(٣) ، وقال : «وفي الآية سر بديع من البلاغة يسمّى قطع النظير عن النظير ، وذلك أنّه قطع الظمأ عن الجوع والضحو عن الكسوة مع ما بينهما من التناسب. والغرض من ذلك تحقيق تعداد هذه النعم وتصنيفها ، ولو قرن كلا بشأنه لتوهم المعدودات نعمة واحدة. وقد رمق أهل البلاغة سماء هذا المعنى قديما وحديثا فقال الكندي الأول :

كأني لم أركب جوادا للذّة

ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال

ولم أرشف الزقّ الرويّ ولم أقل

لخيلي كرّي كرّة بعد إجفال

فقطع ركوب الجواد عن قوله : «لخيلي كريّ كرة» وقطع تبطن الكاعب عن ترشف الكأس مع التناسب ، وغرضه أن يعدد ملاذّة ومفاخره ويكثرها.

وتبعه الكندي الآخر فقال :

وقفت وما في الموت شكّ لواقف

كأنك في جفن الردى وهو نائم

تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة

ووجهك وضّاح وثغرك باسم

فاعترضه سيف الدولة بانه ليس فيه قطع الشيء عن نظيره ولكنه على فطنته قصر فهمه عما طالت اليه يد أبي الطيب من هذا المعنى الطائل البديع.

على أنّ في هذه الآية سرا لذلك زائدا على ما ذكر ، وهو أن قصد تناسب الفواصل ولو قرن الظمأ بالجوع فقيل : «إنّ لك ألّا تجوع ولا تظموأ» لا نتثر سلك رؤوس الآي ، واحسن به منتظما» (٤).

وكان المتقدّمون قد أشاروا الى هذا الأسلوب وإن لم يسموه بمثل هذه التسمية ومنهم ابن طباطبا الذي تحدث عن ارتباط أجزاء القصيدة وذكر بيتي امرىء القيس وغيرهما (٥). وتكلم عليه المدني في باب «ائتلاف المعنى للمعنى» وذكر الأبيات نفسها (٦) ، وقد تقدم.

القطع والعطف :

تحدّث عنه ابن وهب فقال : «فمما قطع الكلام فيه وأخذ في فن آخر ثم عطف بتمام القول الاول عليه قوله ـ عزوجل ـ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ)(٧) الى آخر الآية. ومثله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ ، الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ.) ثم قطع وأخذ في كلام آخر فقال : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ،) ثم رجع الى الكلام الأول فقال : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٨).

__________________

(١) مفتاح العلوم ص ١٢٦.

(٢) مفتاح العلوم ١٢٦.

(٣) طه ١١٨ ـ ١١٩.

(٤) الانتصاف ـ هامش الكشاف ج ٣ ص ٧٢.

(٥) عيار الشعر ص ١٢٤.

(٦) أنوار الربيع ج ٤ ص ١٩٨ وينظر يتيمة الدهر ج ١ ص ٣٣ ، المصباح ص ١١٥ ، الطراز ج ٣ ص ١٤٧ ، خزانة الأدب ص ٢٣١.

(٧) النساء ٢٣.

(٨) المائدة ٣.

٥٦٠