معجم المصطلحات البلاغيّة وتطوّرها

الدكتور أحمد مطلوب

معجم المصطلحات البلاغيّة وتطوّرها

المؤلف:

الدكتور أحمد مطلوب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة لبنان ناشرون
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٥

الطاء

الطّاعة والعصيان :

طاع يطاع وأطاع : لان وانقاد ، وأطاعه إطاعة وانطاع له كذلك. وقد طاع له يطوع إذا انقاد له ، فاذا مضى لأمره فقد أطاعه ، فاذا وافقه فقد طاوعه.

والطاعة : اسم من أطاعه طاعة» (١). والعصيان خلاف الطاعة.

قال ابن منقذ : «اعلم أنّ هذا الباب يمتحن به العالم والناقد وتعرف به فضيلة الكاتب والشاعر وهو أن يريد البيت على ما تقتضيه صناعة النقد فلا يوافقه الوزن فيأتي بما لا يخرج عن الصناعة. ذكر الشيخ أبو العلاء احمد بن سليمان المعري في كتابه المعروف باللامع العزيزي في ديوان شعر المتنبي في قوله :

يردّ يدا عن ثوبها وهو قادر

ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد

قال : أوجبت عليه الصناعة أن يقول : يردّ يدا عن ثوبها وهو مستيقظ فلم يطاوعه الوزن فلم يخرج عن الصنعة قوة وقدرة فقال : «قادر» وهو عكس «راقد» في الصورة والمعنى ، أمّا في الصورة فهو من جناس العكس وأمّا في المعنى فانّ الراقد عاجز وهو ضد القادر فتمّ له الطباق صورة ومعنى وهذا من الافراد الأفذاذ» (٢).

وأشار البلاغيون الى أنّ أبا العلاء استنبط هذا الفن عند نظره في شعر المتنبي (٣) ، ونقلوا تعريفه ومثاله ، ولذلك قال المصري : «هذا كلام المعري على هذا البيت ، وهذا المعنى من البديع ولم يأت بشاهد غيره وتبعه الناس بعد فأثبتوا هذا الباب وتكلموا فيه بمثل هذا الكلام واستشهدوا بهذا البيت ولم يأت أحد منهم بغيره وأضربوا جميعهم عن النظر فيه إما لحسن ظنهم بالمعري وموضعه من الأدب واعتقادهم فيه العصمة من الخطأ والسهو فيه وإما أن يكونوا قد مرّ عليهم ما مرّ عليه في هذا البيت» (٤). وأبدى المصري رأيه في البيت فقال :

والذي ذهب عليهم أنّ البيت ليس فيه شيء أطاع الشاعر ولا شيء عصاه ، ودليل ذلك أنّ قول المعري إنّ المتنبي أراد مستيقظا ليحصل منها ومن لفظة «راقد» طباق فعصته لفظة مستيقظ لامتناعها من الدخول في هذا الوزن فيحكم على المتنبي لأنّه لو أراد أن يكون في بيته طباق فحسب كان له أن يقول : يردّ يدا عن ثوبها وهو ساهر أو ساهد ، ويحصل له غرضه من الطباق بالجمع بين «ساهر» و «راقد» ولا يكون عصاه شيء وأطاعه غيره ، وإنّما المتنبي قصد أن يكون في بيته طباق وجناس فعدل

__________________

(١) اللسان (طوع).

(٢) البديع في نقد الشعر ص ١٧٥.

(٣) تحرير التحبير ص ٢٩٠ ، بديع القرآن ص ١٠٩ ، حسن التوسل ص ٢٧١ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٤٦ ، جوهر الكنز ص ٢٥٠ ، خزانة الأدب ص ٤١٨ ، شرح عقود الجمان ص ١٥٦ ، أنوار الربيع ج ٦ ص ١٧ ، نفحات ص ٢٩٠ ، شرح الكافية ص ٣٠١.

(٤) تحرير التحبير ص ٢٩٠.

٥٢١

عن لفظة «ساهر» و «ساهد» الى لفظة «قادر» لأنّ القادر ساهر وزيادة ، إذ ليس كل ساهر قادرا والقادر لا بدّ أن يكون ساهرا ليحصل بين «قادر» و «راقد» طباق معنوي وجناس عكس». ثم قال : «فقد تبين من هذا البحث أنّ بيت المتنبي هذا لا يصلح أن يكون شاهدا على هذا الباب لأنّه لم يعصه فيه شيء ولم يطعه غيره ، ولا بدّ إذ قد أثبت هذا الباب لرشاقة تسمية من الاتيان بشاهد يليق به والذي يليق به من الشواهد قول عوف بن محلم السعدي :

إنّ الثمانين ـ وبلغتها ـ

قد أحوجت سمعي الى ترجمان

لانا نعلم أنّ أول ما يقصده المتكلم اخراج معناه في لفظ مساو له إذ هو خير ضروب البلاغة لكونه وسطها وخير الأمور أوساطها ... فاذا اضطر الوزن الى الزيادة على اللفظ او النقص منه اضطرارا فقد عصته المساواة وأطاعه غيرها».

الطّباق :

هو التضادّ والتطبيق والتكافؤ والمطابقة والمقاسمة (١) ، وقد تقدّم في التضادّ.

طباق الإيجاب :

هو الجمع بين الشيء وضدّه (٢) ، وقد تقدّم في التضادّ.

طباق التّرديد :

هو أن يرد آخر الكلام المطابق على أوّله فان لم يكن الكلام مطابقا فهو ردّ الأعجاز على الصدور (٣).

وقد تقدّم في التضادّ.

الطّباق الحقيقيّ :

هو ما كان بألفاظ الحقيقة سواء كان من اسمين أو فعلين أو حرفين (٤). وقد تقدم في التضاد.

الطّباق الخفيّ :

هو الجمع بين معنيين يتعلّق أحدهما بما يقابل الآخر نوع تعلّق مثل السببية واللزوم (٥). وقد تقدّم في التضادّ.

طباق السّلب :

هو الجمع بين فعلي مصدر واحد مثبت ومنفي أو أمر ونهي (٦). وقد تقدّم في التضادّ.

الطّباق المجازيّ :

هو ما كان بألفاظ المجاز (٧) ، وقد تقدّم في التضادّ.

__________________

(١) الموازنة ج ١ ص ٢٧١ ، العمدة ج ٢ ص ٩ ، الوافي ص ٢٥٨ ، قانون البلاغة ص ٤٣٦ ، تحرير ص ١١١ ، بديع القرآن ص ٣١ ، نضرة الاغريض ص ٩٧ ، حسن التوسل ص ١٩٩ ، نهاية الارب ج ٧ ص ٩٨ ، البرهان ج ٣ ص ٤٥٥ ، جوهر الكنز ص ٨٤ ، الطراز ج ٢ ص ٣٧٧ ، الفوائد ص ١٤٥ ، خزانة ص ٦٩ ، معترك ج ١ ص ٤١٤ شرح عقود الجمان ص ١٠٥ ، انوار ج ٢ ص ٣١ ، الروض المريع ص ١١١ ، المنصف ص ٥٦ ـ ٥٧ ، نفحات الازهار ص ٣٩ ، شرح الكافية ص ٧٢.

(٢) تحرير ص ١١٢ ، بديع القرآن ص ٣٣ ، الايضاح ص ٣٣٦ ، التلخيص ص ٣٤٩ ، الاطول ج ٢ ص ١٨٣ ، معترك ج ١ ص ٤١٤ ، أنوار الربيع ج ٢ ص ٤١.

(٣) تحرير ص ١١٥ ، بديع القرآن ص ٣٣ ، خزانة ص ٧١.

(٤) أنوار الربيع ج ٢ ص ٣٣.

(٥) أنوار الربيع ج ٢ ص ٤٢.

(٦) تحرير ص ١١٤ ، بديع القرآن ص ٣٢ ، الايضاح ص ٣٣٦ ، التلخيص ص ٣٥٠ ، الاطول ج ٢ ص ١٨٣ ، معترك ج ١ ص ٤١٤ ، أنوار الربيع ج ٢ ص ٤١.

(٧) انوار الربيع ج ٢ ص ٣٧.

٥٢٢

الطّباق المعنويّ :

هو مقابلة الشيء بضده في المعنى لا في اللفظ (١) ، وقد تقدّم في التضادّ.

الطّرد والعكس :

الطّرد : الإبعاد ، والطرد : الشّلّ ، وطردت الرجل : اذا نحيته ، واطّرد الشيء : تبع بعضه بعضا وجرى ، واطّرد الأمر : استقام ، واطّرد الكلام : اذا تتابع.

وعكس الشيء يعكسه عكسا فانعكس : رد آخره على أوله (٢).

قال ابن الأثير : «هو أن يجعل المشبه به مشبها والمشبه مشبها به ، وبعضهم يسميه غلبة الفروع على الاصول» (٣).

وهو التشبيه المعكوس والمقلوب والمنعكس ، وقد تقدم في التشبيه ، ولكنّ السيوطي عرّفه تعريفا آخر فقال : «قال الطيبي هو أن يأتي بكلامين يقرر الأول بمنطوقه مفهوم الثاني وبالعكس» (٤) كقوله تعالى : (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ) الى قوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ)(٥). فمنطوق الأمر بالاستئذان في تلك الاوقات خاصة مقرر لمفهوم رفع الجناح فيما عداها وبالعكس. ومنه قوله تعالى : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ)(٦) ثم قال السيوطي : «وهذا النوع يقابله في الايجاز نوع الاحتباك».

طرفا التّشبيه :

الطّرف : الناحية من النواحي والطائفة من الشيء ، والجمع أطراف (٧). يطلق على المشبّه والمشبّه به اسم «طرفي التشبيه» وهما الركنان الأساسيان في التشبيه وينقسم باعتبارهما الى أربعة أقسام :

الأوّل : أن يكونا حسيين ، والمراد بالحسي ما يدرك هو أو مادته باحدى الحواس الخمس الظاهرة ـ البصر والسمع والشم والذوق واللمس ـ ومن ذلك قوله تعالى : (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ)(٨).

ومنه قول الشاعر :

وكأنّ أجرام السماء لوامعا

درر نشرن على بساط أزرق

وقول الآخر :

لها بشر مثل الحرير ومنطق

رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر

الثاني : أن يكونا عقليين لا يدرك واحد منهما بالحسّ بل بالعقل كتشبيه العلم بالحياة ، والجهل بالموت ، والفقر بالكفر.

الثالث : تشبيه المعقول بالمحسوس كقوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ)(٩) ، وقوله : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ)(١٠).

الرابع : تشبيه المحسوس بالمعقول ، ومنعه بعضهم لأنّ العقل مستفاد من الحس. قال الرازي : «إنّه غير جائز لأنّ العلوم العقلية مستفادة من الحواس ومنتهية اليها ولذلك قيل : «من فقد حسا فقد عقلا». واذا كان المحسوس أصلا للمعقول فتشبيهه به يكون جعلا

__________________

(١) أنوار الربيع ج ٢ ص ٣٩.

(٢) اللسان (طرد) و (عكس).

(٣) المثل السائر ج ١ ص ٤٢١.

(٤) معترك ج ١ ص ٣٦٨ ، شرح عقود الجمان ص ١٣٤ ، الاتقان ج ٢ ص ٧٤ ، التبيان في البيان ص ٣٠٥.

(٥) النور ٥٨.

(٦) التحريم ٦.

(٧) اللسان (طرف).

(٨) الصافات ٤٨ ـ ٤٩.

(٩) العنكبوت ٤١.

(١٠) ابراهيم ١٨.

٥٢٣

للفرع أصلا وللأصل فرعا وهو غير جائز ، ولذلك لو حاول محاول المبالغة في وصف الشمس بالظهور والمسك بالطيب فقال : «الشمس كالحجة في الظهور» و «المسك كأخلاق فلان في الطيب» كان سخيفا من القول» (١).

وأجازه بعضهم ، ومن أمثلته قول القاضي التنوخي :

وكأنّ النجوم بين دجاها

سنن لاح بينهنّ ابتداع

وقول أبي طالب الرقي :

ولقد ذكرتك والظلام كأنّه

يوم الندى وفؤاد من لم يعشق

وقول الآخر :

ربّ ليل كأنّه أملي في

ك وقد رحت عنك بالحرمان

وعلل الرازي حسن هذه التشبيهات بقوله : «واعلم أنّ الوجه الحسن في هذه التشبيهات أن يقدر المعقول محسوسا ويجعل كالاصل في ذلك المحسوس على طريق المبالغة وحينئذ يصح التشبيه» (٢). ولم يستطع الرازي أن يتجاوز ذلك بعد أن رأى لمثل هذا اللون أمثلته في كلام العرب (٣).

الطّلب :

الطلب : محاولة وجدان الشيء وأخذه. وطلب اليّ طلبا : رغب ، يقال : طلب اليّ فأطلبته أي : أسعفته بما طلب (٤).

والطلب من مباحث علم المعاني فقد قسّموا الإنشاء الى قسمين :

الأوّل : الإنشاء الطلبيّ ، وهو ما يستدعي مطلوبا غير حاصل وقت الطلب ، وهو خمسة انواع : الأمر ، والنهي ، والاستفهام ، والتمني ، والنداء. ولكل واحد منها كلام في هذا المعجم.

الثاني : الإنشاء غير الطلبيّ وهو ما لا يستدعي مطلوبا وله أساليب مختلفة منها :

صيغ المدح والذم ، ومنها «نعم» و «بئس» كقوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(٥) ، وقوله :(وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ)(٦) وقوله :(يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ)(٧).

ومنه قول زهير في مدح هرم بن سنان :

نعم امرأ هرم لم تعر نائبة

إلّا وكان لمرتاع لها وزرا

ومنها «حبّذا» و «لا حبّذا» كقول جرير :

يا حبذا جبل الريان من جبل

وحبذا ساكن الريّان من كانا

وحبذا نفحات من يمانية

تأتيك من قبل الريّان أحيانا

ومنها الأفعال المحوّلة الى «فعل» مثل قوله تعالى : (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ)(٨) والتعجب :وله صيغتان قياسيتان هما : «ما أفعله» كقوله تعالى : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ)(٩) ، وقوله : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ)(١٠) وقول الشاعر :

__________________

(١) نهاية الايجاز ص ٥٩ ، وينظر البرهان في علوم القرآن ج ٣ ص ٤٢٠.

(٢) نهاية الايجاز ص ٦٠.

(٣) الايضاح ص ٢٢١ ، خزانة الادب ص ١٨٣ ، البرهان ج ٣ ص ٤٢٠ ، التبيان في البيان ص ١٤٤.

(٤) اللسان (طلب).

(٥) البقرة ٢٧١.

(٦) النحل ٣٠.

(٧) الحج ١٣.

(٨) الكهف ٥.

(٩) عبس ١٧.

(١٠) البقرة ١٧٥.

٥٢٤

فما أكثر الإخوان حين تعدّهم

ولكنّهم في النائبات قليل

وقول الأخر :

بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربى

وما أحسن المصطاف والمتربّعا

و «أفعل به» كقوله تعالى : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا)(١). ويأتي سماعيا كقولهم : «لله درّه عالما».

والقسم : ويكون بالواو والتاء والباء كقوله تعالى : (وَالضُّحى. وَاللَّيْلِ إِذا سَجى)(٢) وقوله : (تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا)(٣) ، ومثل قولنا «أقسم بالله إنّي بريء».

ومن صيغ القسم التي تأتي كثيرا «لعمر» كقوله تعالى : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)(٤).

وقول الشاعر :

لعمرك ما أدري وإنّي لأوجل

على أيّنا تعدو المنيّة أوّل

والرّجاء ؛ وهو طلب حصول أمر محبوب قريب الوقوع ، والحرف الموضوع له «لعلّ» كقوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ ، إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)(٥).

وقول ذي الرّمة :

لعلّ انحدار الدمع يعقب راحة

من الوجد او يشفي نجيّ البلابل (٦)

أما الافعال التي تستعمل في هذا الاسلوب فهي «عسى» كقوله تعالى : (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ)(٧) ، وقول الشاعر :

عسى الكرب الذي أمسيت فيه

يكون وراءه فرج قريب

و «حرى» مثل : «حرى محمد أن يقوم».

و «أخلولق» مثل : «اخلولقت السماء أن تمطر».

وتسمّى هذه الثلاثة «أفعال الرجاء».

وصيغ العقود : مثل «بعت» و «اشتريت» و «وهبت» و «قبلت». وهذه أساليب خبرية لكنّها لا يراد بها الاخبار لأنّها لا تحتمل الصدق والكذب ولذلك لم توضع مع الخبر.

ولا يهتمّ البلاغيون بهذه الأساليب الانشائية لقلة الاغراض المتعلقة بها ، ولأنّ معظمها أخبار نقلت من معانيها الاصلية ، وأما الانشاء الذي يعنون به فهو الطلبي لما فيه من تفنن في القول ولخروجه عن أغراضه الحقيقية الى أغراض مجازية (٨).

الطّيّ والنّشر :

الطيّ ، نقيض النشر ، طويته طيا وطية (٩) الطيّ والنشر هو اللفّ والنشر ، وقد سمّاه بذلك الحموي (١٠) ، ولكنّ معظم البلاغيين يسمونه : «اللف والنشر». وكان المبرد من أوائل الذين التفتوا الى هذا النوع وقال : «والعرب تلف الخبرين المختلفين ثم ترمي بتفسيرهما جملة ثقة بأنّ السامع يردّ إلى كل خبره» (١١) كقوله تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ)(١٢) ،

__________________

(١) مريم ٣٨.

(٢) الضحى ١ ـ ٢.

(٣) يوسف ٩١.

(٤) الحجر ٧٢.

(٥) هود ١٢.

(٦) البلابل : جمع بلبال ، وهو الهم.

(٧) المائدة ٥٢.

(٨) البرهان في وجوه البيان ص ١١٣ ، مفتاح العلوم ص ٧٩ ، ١٤٥ ، الايضاح ص ١٣٠ ، التلخيص ص ١٥١ ، شروح التلخيص ج ٢ ص ٢٣٤ ، المطول ص ٢٢٤ ، الاطول ج ١ ص ٢٣١ ، الروض المريع ص ٧٧ ، ١٢٠ ، التبيان في البيان ص ١٣٠.

(٩) اللسان (الطي) و (النشر).

(١٠) خزانة الادب ص ٧٦.

(١١) الكامل ج ١ ص ١١٢.

(١٢) القصص ٧٣.

٥٢٥

وكرر الاستشهاد بهذه الآية ، وقال معلقا عليها : «علما بأنّ المخاطبين يعرفون وقت السكون ووقت الاكتساب» (١). وقال معلّقا على بيت امرىء القيس :

كأنّ قلوب الطير رطبا ويابسا

لدى وكرها العنّاب والحشف البالي

«فهذا مفهوم المعنى فان اعترض معترض فقال : فهّلا فصل فقال : كأنه رطبا العناب وكأنه يابسا الحشف؟

قيل له : العربي الفصيح الفطن اللقن يرمي بالقول مفهوما ويرى ما بعد ذلك من التكرير عيا» (٢).

وسمّاه ابن جني «المجمل الذي يفصله العلم به» وذكر الآية السابقة : «ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار ...» وبيت امرىء القيس : «كأنّ قلوب الطير ...» وعلق عليهما بمثل تعليق المبرد ، ثم قال : «وهذا في القرآن والشعر كثير اذا تفطنت له وجدته» (٣). وتحدث ابن سنان عنه في التناسب وقال : «ومن التناسب ايضا حمل اللفظ على اللفظ في الترتيب ليكون ما يرجع الى المقدم مقدما والى المؤخر مؤخرا» (٤) كقوله الشريف الرضي :

قلبي وطرفي منك هذا في حمى

قيظ وهذا في رياض ربيع

فانه لما قدّم «قلبي» وجب أن يقدّم وصفه بأنّه في حمى قيظ ، فلو كان قال : «طرفي وقلبي منك» لم يحسن في الترتيب أن يؤخر قوله : «في رياض الربيع» والطرف مقدم.

وقال الزّمخشري تعليقا على قوله تعالى : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٥) : «شرع ذلك يعني جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر وأمر المرخص له بمراعاة عدة ما أفطر فيه ومن الترخيص في إباحة الفطر. فقوله : (لِتُكْمِلُوا) علة الأمر بمراعاة العدة (وَلِتُكَبِّرُوا) علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر ، (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) علة الترخيص والتيسير. وهذا نوع من اللف لطيف المسلك لا يكاد يهتدي الى تبينه إلا النقاب المحدث من علماء البيان» (٦).

وقال عن قوله تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ...) (القصص ٧٣) «زواج بين الليل والنهار لأغراض ثلاثة : لتسكنوا في احدهما وهو الليل ، ولتبتغوا من فضل الله في الآخر وهو النهار ، ولارادة شكركم» (٧). وقال عن الآية التي بعدها :

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ؟)(٨) : «وقد سلكت بهذه الآية التي بعدها اللف في تكرير التوبيخ باتخاذ الشركاء ، إيذان بأن لا شيء أجلب لغضب الله من الإشراك به ، كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده» (٩).

فالزمخشري يسمّي هذا النوع لفّا ، وهو المصطلح الذي تعارف عليه البلاغيون ولكنهم أضافوا اليه «النشر». قال الرازي : «اللف والنشر هو أن تلف شيئين ثم ترمي بتفسيرهما جملة ثقة بأنّ السامع يردّ الى كل واحد منهما ماله» (١٠).

وأدخله السّكّاكي في المحسّنات المعنوية وقال : «اللف والنشر ، وهي أن تلف بين شيئين في الذكر ثم تتبعهما كلاما مشتملا على متعلق بواحد وبآخر من غير تعيين ثقة بأنّ السامع يردّ كلا منهما الى ما هو له» (١١).

__________________

(١) الكامل ج ١ ص ٧٤١.

(٢) الكامل ج ٢ ص ٧٤٠.

(٣) المنصف ج ٢ ص ١١٧.

(٤) سر الفصاحة ص ٢٢٥.

(٥) البقرة ١٨٥.

(٦) الكشاف ج ١ ص ١٧٢.

(٧) الكشاف ج ٣ ص ٣٣٧.

(٨) القصص ٧٤.

(٩) الكشاف ج ٣ ص ٣٣٨.

(١٠) نهاية الايجاز ص ١١٢ ، وينظر الايضاح في شرح مقامات الحريري ص ٢٠.

(١١) مفتاح العلوم ص ٢٠٠.

٥٢٦

وتبعه في ذلك ابن مالك والحلبي والنّويري (١) ، والقزويني الذي قال : «هو ذكر متعدد على جهة التفصيل أو الاجمال ثم ذكر ما لكل واحد من غير تعيين ثقة بأنّ السامع يردّه اليه» (٢) ، ثم قال :فالأول ضربان ، لأنّ النشر إما على ترتيب اللف كقوله تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ)(٣) ، وقول ابن حيوس :

فعل المدام ولونها ومذاقها

في مقلتيه ووجنتيه وريقه

وقول ابن الرومي :

آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم

في الحادثات إذا دجون نجوم

فيها معالم للهدى ومصابح

تجلو الدّجى والأخريات رجوم

وإما على غير ترتيبه كقول ابن حيوس :

كيف أسلو وأنت حقف وغصن

وغزال لحظا وقدّا وردفا

وقول الفرزدق :

لقد خنت قوما لولجأت اليهم

طريد دم أو حاملا ثقل مغرم

لألفيت فيهم معطيا أو مطاعنا

وراءك شزرا بالوشيج المقوّم (٤)

والثاني : كقوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى)(٥) فان الضمير في (قالُوا) لأهل الكتاب من اليهود والنصارى ، والمعنى وقالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ، والنصارى :لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى ، فلفّ بين القولين ثقة بأنّ السامع يردّ الى كل فريق قوله وأمنا من الالتباس ، لما علم من التعادي بين الفريقين وتضليل كل واحد منهما لصاحبه.

وسار شرّاح التلخيص على هدي القزويني (٦) ، ولم يخرج الآخرون على ما ذكره أو ما أشار اليه المتقدّمون (٧).

__________________

(١) المصباح ص ١١٢ ، حسن التوسل ص ٢٤٥ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٢٩.

(٢) الايضاح ص ٣٥٥ ، التلخيص ص ٣٦١.

(٣) القصص ٧٣.

(٤) الدم : الثار على سبيل المجاز. المغرم ؛ ما يلزم أداؤه من المال. الموشج : شجر الرماح المقوم :

المثقف المعدل.

(٥) البقرة ١١١.

(٦) شروح التلخيص ج ٤ ص ٣٢٩ ، المطول ص ٤٢٦ ، الاطول ج ٢ ص ١٩٦.

(٧) التبيان ص ١٧٧ ، البرهان الكاشف ص ٣١٣ ، الطراز ج ٢ ص ٤٠٤ ، خزانة الادب ص ٦٦ ، معترك ج ١ ص ٤٠٨ ، الاتقان ج ٢ ص ٩٣ ، شرح عقود الجمان ص ١١٨ ، أنوار الربيع ج ١ ص ٣٤١.

٥٢٧

الظاء

الظّرافة والسّهولة :

الظّرف ، البراعة وذكاء القلب ، والظّرف : حسن العبارة ، والحذق بالشيء ، وظرف يظرف.

والسّهل نقيض الحزن ، والسهولة : ضد الحزونة ، يقال : قد سهل الموضع ، وسهل سهولة (١).

عقد ابن منقذ بابا للظّرافة والسهولة ولم يعرّفهما بل قال : «اعلم أنّ أشعار العرب والمحدثين قد ورد فيهما الظريف السهل» (٢) كقول بعضهم :

هوى صاحبي ريح الشّمال اذا جرت

وأشهى لقلبي أن تهبّ جنوب

يقولون لو عزّيت قلبك لارعوى

فقلت وهل للعاشقين قلوب؟

وقول الآخر :

اذا ما ظمئت الى ريقها

جعلت المدامة منه بديلا

وأين المدامة من ريقها

ولكن أعلّل قلبا عليلا

وسمّاها الحموي «السهولة» وقال : «ذكرها النيفاشي مضافة الى باب الظرافة» (٣) وسمّاها المدني «التسهيل» ونقل ما ذكره الحموي (٤). وقد تقدم التسهيل والسهولة.

__________________

(١) اللسان (ظرف) و (سهل).

(٢) البديع في نقد الشعر ص ١٤٣.

(٣) خزانة الادب ص ٤٥٤.

(٤) أنوار الربيع ج ٦ ص ٢٧٠.

٥٢٨

العين

العاطل :

عطلت المرأة تعطل عطلا وعطولا وتعطّلت إذا لم يكن عليها حلي ولم تلبس الزينة وخلا جيدها من القلائد. وامرأة عاطل (١).

والعاطل من الكلام هو الذي لا يكون كثير التحلية بالأسجاع والفواصل ، قال الكلاعي : «وإنما سمّينا هذا النوع العاطل لقلة تحليته بالاسجاع والفواصل ، وهذا النوع هو الأصل والتجمل بكثرة السجع فرع طارئ عليه» (٢).

وذكر ابن شيث القرشي نوعا من السجع سمّاه العاطل وقال : «وأما السجع العاطل فهو أن تقابل اللفظة أختها ولا تجمع بينهما القافية» (٣). وقد تقدم في التسجيع او السجع.

العامّ والخاصّ :

هو استعمال العام في النفي والخاص في الاثبات (٤) ، وقد تقدم.

العبث :

عبث به عبثا لعب فهو عابث لاعب بما لا يعنيه وليس من باله ، والعبث ، أن تعبث بالشيء (٥).

قال ابن منقذ : «هو أن يقصد الشاعر شيئا من بين أشياء من غير فائدة في ذلك» (٦).

كقول النابغة الذيباني :

فإنّك كالليل الذي هو مدركي

وإن خلّت أنّ المنتأى عنك واسع

عاب النقّاد اختصاصه الليل دون النهار وقالوا : إنّ الليل والنهار في هذا سواء.

قال ابن منقذ : «ولقد غلط النقاد الذين عابوا ذلك ، وذلك أنّ الأمر اذا كان محتملا لمعنيين اختص أحدهما الذي هو أشبه والأرجح. ومعلوم أنّ هذا الشعر في حال الخوف والليل بحال الخوف أولى لانه يشبه الاستتار والاختفاء فزال الاعتراض عن هذا البيت ، وصار مثل قول الغزي :

وبتنا نذود الوحش عنا كأنّنا

قتيلان لم يعلم لنا الناس مصرعا

تجافي عن المأثور بيني وبينها

وتدني عليّ السابريّ المضلّعا (٧)

إذا أخذتها هزّة الرّوع أمسكت

بمنكب مقدام على الرّوع أروعا

لما احتمل المأثور أن يكون الحديث والسيف

__________________

(١) اللسان (عطل).

(٢) احكام صنعة الكلام ص ٩٦.

(٣) معالم الكتابة ص ٦٩.

(٤) المثل السائر ج ٢ ص ٣٢ ، الجامع الكبير ص ١٦٩ ، جوهر الكنز ص ٢٩٣.

(٥) اللسان (عبث).

(٦) البديع في نقد الشعر ص ١٧٧.

(٧) السابري : ثوب رقيق جيد.

٥٢٩

كان حمله على السيف أولى ، لأنّ الحال حال خوف بدليل قوله : «هزة الروع» ولأنّه أراد العفة عنها بوضعه السيف بينهما» (١).

عتاب المرء نفسه :

عتب عليه يعتب ويعتب عتبا وعتابا : وجد عليه ، وعاتبه عتابا ومعاتبة : لامه (٢).

ذكر المصري أنّ «عتاب المرء نفسه» من إفراد ابن المعتز (٣) وتابعه في ذلك الحلبي والنّويري وصفي الدين الحلي في بديعيته والحموي والمدني (٤).

وليس الأمر كذلك لأنّ ابن المعتز لم يذكر هذا الفن في بديعه وإنما تحدث في محاسن الكلام عن «إعنات الشاعر نفسه في القوافي وتكلفه من ذلك ما ليس له» (٥) ، وذكر له أمثلة كقول الشاعر :

يقولون في البستان للعين لذّة

وفي الخمر والماء الذي غير آسن

فإن شئت أن تلقى المحاسن كلّها

ففي وجه من تهوى جميع المحاسن

وقول الآخر :

عصاني قومي والرشاد الذي به

أمرت ومن يعص المجرّب يندم

فصبرا بني بكر على الموت إنّني

أرى عارضا ينهلّ بالموت والدم

وهذا هو لزوم ما لا يلزم لاعتاب المرء نفسه. وكان البيتان الاخيران مثار جدل البلاغيين مع أنّ ابن المعتز ذكرهما في إعنات الشاعر نفسه في القوافي ، أي لزوم ما لا يلزم. قال المصري : «وما أرى في هذين البيتين من عتاب المرء نفسه إلا ما يتحيل به لمعناهما فيقدر أنّ هذا الشاعر لما أمر بالرشد وبذل النصح ولم يطع ندم على بذل النصيحة لغير أهلها وملزوم ذلك عتابه لنفسه فيكون دلالة البيتين على عتابه لنفسه دلالة التزام لا دلالة مطابقة ولا تضمين. ومثل هذين البيتين قول دريد بن الصمة :

نصحت لعرّاض وأصحاب عارض

ورهط بني السّوداء والقوم شهّدي

قلت لهم ظنوا بألفي مدجّج

سراتهم في الفارسيّ المسرّد

فلما عصوني كنت منهم وقد أرى

غوايتهم وأنّني غير مهتسد

وما أنا إلا من غزيّة إن غوت

غويت وإن ترشد غزيّة أرشد

أمرتهم أمري بمنعرج اللّوى

فلم يستبينوا النصح إلّا ضحى الغد

ولا يصلح أن يكون شاهد هذا البيت إلا قول شاعر الحماسة :

أقول لنفسي في الخلاء ألومها

لك الويل ما هذا التجلّد والصّبر

وكقول ابن السليماني من شعراء الحماسة :

لعمرك إني يوم سلع للائم

لنفسي ولكن ما يردّ التّلوّم

أأمكنت من نفسي عدوّي ضلة

ألهفي على ما فات لو كنت أعلم

وقد جاء من هذا الباب في كتاب الله قوله سبحانه وتعالى : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ)(٦) والله أعلم» (٧).

وقال مثل ذلك الحلبي والنّويري والحموي

__________________

(١) البديع في نقد الشعر ص ١٧٨.

(٢) اللسان (عتب).

(٣) تحرير التحبير ص ١٦٦ ، بديع القرآن ص ٦٣.

(٤) حسن التوسل ص ٢٣٦ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٢٥ ، خزانة ص ١٤٤ ، أنوار الربيع ج ٣ ص ٢٠٣ ، شرح الكافية ص ٨١.

(٥) البديع ص ٧٤.

(٦) الزمر ٥٦.

(٧) تحرير ص ١٦٦.

٥٣٠

والمدني (١) ، ولم يشر السيوطي الى مثل ما أشاروا ولم يعرف هذا النوع وإنّما قال (٢) إنّ منه قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً. يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً)(٣) وقوله تعالى : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ)(٤).

ولم يعجب هذا النوع بعضهم فقال صفي الدين في شرح بديعيته : «هذا النوع أدخله ابن المعتز في البديع وليس في شيء منه بل هو حكاية حال واقعة ولم يمكني أن أخلّ بذكره» (٥). وقال الحموي : «هذا النوع ـ أعني عتاب المرء نفسه ـ لم أجد العتب مرتّبا إلّا على من أدخله في البديع وعدّه من أنواعه ، وليس بينهما نسبة والذوق السليم أعدل شاهد على ذلك ولو لا أنّ الشروع في المعارضة ملزم ما نظمت حصاة مع جواهر هذه العقود ونهاية أمره أنّه صفة لحال واقعة ليس تحتها كبير أمر» (٦).

العرض والتّحضيض :

عرض الشيء عليه يعرضه عرضا : أراه إيّاه.

وحضّ يحضّه حضا : حثه على فعل شيء ، وحضضت القوم على القتال : حرضتهم (٧). قال ابن فارس : «العرض والتحضيض متقاربان إلا أنّ العرض أرفق والتحضيض أعزم وذلك قولك في العرض : «ألا تنزل؟ ألا تأكل؟» (٨)

العسف :

العسف : السير بغير هداية والأخذ على غير الطريق ، وكذلك التّعسف والاعتساف. والعسف :ركوب المفازة وقطعها بغير قصد ولا هداية ولا توخي صوب ولا طريق مسلوك ، وعسف المفازة :قطعها. والعسف : ركوب الأمر بلا تدبير ولا رويّة عسفه يعسفه عسفا ، وعسف فلان فلانا : ظلمه (٩).

قال ابن منقذ : «وقد جاء في أشعار العرب المتقدمين وقلّ في أشعار المتأخرين» (١٠) ومن ذلك :

أحبّ بلاد الله ما بين منعج

إليّ وسلمى أن يصوب سحابها

تفسيره : أحب بلاد الله إليّ ما بين منعج وسلمى.

ومثله قول الفرزدق :

وما مثله في الناس مملكا

أبو أمّه حيّ أبوه يقاربه

أي : وما مثله في الناس حي يقاربه إلّا مملكا أبو أمه أبوه.

وهذا من التعقيد الذي تحدّث عنه البلاغيون في مباحث الفصاحة.

عطف الأوائل على الأواخر :

ذكر المرزوقي هذا المصطلح (١١) ، ولعلّه يريد به ردّ العجز على الصّدر.

عطف المظهر على ضميره :

قال ابن الأثير : «وهذا إنّما يعمد اليه لفائدة ، وهي تعظيم شأن الأمر الذي أظهر عنده الاسم

__________________

(١) حسن التوسل ص ٢٣٦ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٢٥ ، خزانة ص ١٤٤ ، أنوار الربيع ج ٣ ص ٢٠٣.

(٢) معترك ج ١ ص ٤٠٥ ، الاتقان ج ٢ ص ٩٢.

(٣) الفرقان ٢٧ ـ ٢٩.

(٤) الزمر ٥٦.

(٥) أنوار الربيع ج ٣ ص ٢٠٣.

(٦) خزانة الأدب ص ٢٤٤.

(٧) اللسان (عرض) و (حضض).

(٨) الصاحبي ص ١٨٧.

(٩) اللسان (عسف).

(١٠) البديع في نقد الشعر ص ١٨٠.

(١١) شرح ديوان الحماسة ج ١ ص ٦.

٥٣١

المضمر أولا» (١) كقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ. قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ)(٢). فقد صرح باسمه تعالى في قوله : (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) مع إيقاعه مبتدأ في قوله : (كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) وكان القياس أن يقول : «كيف يبدئ الله الخلق ثم ينشئ النشأة الآخرة». والفائدة في ذلك أنّه لما كانت الإعادة عندهم من الامور العظيمة وكان صدر الكلام واقعا معهم في الابداء وقررهم أنّ ذلك من الله احتج عليهم بأنّ الاعادة إنشاء مثل الابداء واذا كان الله الذي لا يعجزه شيء هو الذي لا يعجزه الابداء ، فوجب أن لا تعجزه الإعادة.

فللدلالة والتنبيه على عظم هذا الأمر الذي هو الاعادة أبرز اسمه تعالى وأوقعه مبتدأ ثانيا.

العقد :

العقد : نفيض الحلّ ، عقده يعقده عقدا وتعقادا وعقدّه (٣).

تحدّث الحاتمي عن «نظم المنثور» وقال : «ومن الشعراء المطبوعين طائفة تخفي السرق وتلبسه اعتمادا على منثور الكلام دون منظومه واستراقا للألفاظ الموجزة والفقر الشريفة والمواعظ الواقعة والخطب البارعة» (٤). وكان ابو العتاهية ومحمود الوراق شديدي اللهج بذلك ، وقد تقدّم أمثالهما الأخطل ، عمد الى قول بعض اليونانيين : «العشق شغل قلب فارغ» فنظمه فقال :

وكم قتلت أروى بلا دية لها

وأروى لفرّاغ الرجال قتول

ويروى أنّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «اليد العليا خير من اليد السفلى» فنظم أبو العتاهية بعض هذا اللفظ وأخلّ ببعضه ، فقال :

افرح بما تأتيه من طيّب

إنّ يد المعطي هي العليا

وتكلّم عليه ابن منقذ في باب «الحل والعقد» وقال : «اعلم انّ الحلّ والعقد هو ما يتفاضل فيه الشعراء والكتاب وهو أن يأخذ لفظا منثورا فينظمه أو شعرا فينثره ويطارحه العلماء فيما بينهم» (٥).

وقال المصري : «هو ضدّ الحلّ ؛ لأنّه عقد النثر شعرا. ومن شرائطه أن يؤخذ المنثور بجملة لفظه أو بمعظمه فيزيد فيه أو ينقص منه أو يحرف بعض كلماته ليدخل به في وزن من أوزان الشعر. ومتى أخذ معنى المنثور دون لفظه كان ذلك نوعا من أنواع السرقات بحسب الآخذ الذي يوجب استحقاق الأخذ للمأخوذ. ولا يسمّى عقدا إلا إذا أخذ المنثور برمته وإن غيّر منه بطريق من الطرق التي قدمناها كان المبقّى منه أكثر من المغيّر بحيث يعرف من البقية صورة الجميع» (٦)

وقال القزويني : «أما العقد فهو أن ينظم نثر لا على طريق الاقتباس» (٧) وتبعه البلاغيون في ذلك (٨).

والعقد من القرآن الكريم كقول أبي نواس :

بنفسي غزال صار للناس قبلة

وقد زرت في بعض الليالي مصلّاه

__________________

(١) اللسان (عقد).

(٢) العنكبوت ١٩ ـ ٢٠.

(٣) اللسان (عقد).

(٤) حلية المحاضرة ج ٢ ص ٩٢.

(٥) البديع في نقد الشعر ص ٢٥٩.

(٦) تحرير التحبير ص ٤٤١.

(٧) الايضاح ص ٤٢٣ ، التلخيص ص ٤٢٦.

(٨) شروح التلخيص ج ٤ ص ٥٢١ ، المطول ص ٤٧٤ ، الاطول ج ٢ ص ٢٥٣ ، أنوار الربيع ج ٦ ص ٢٩٦ ، نفحات ص ٣٢٤ ، التبيان في البيان ص ٣٤٧.

٥٣٢

ويقرأ في المحراب والناس خلقه

«وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ»

فقلت تأمّل ما تقول فإنّها

لحاظك يا من تقتل الناس عيناه

وقول الآخر :

أنلني بالذي استقرضت خطا

وأشهد معشرا قد شاهدوه

فإنّ الله خلّاق البرايا

عنت لجلال هيبته الوجوه

يقول : «إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ

إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ»

والعقد من الحديث الشريف كقول الإمام الشافعي :

عمدة الخير عندنا كلمات

أربع قالهن خير البريّه

ألق المشبهات وازهد ودع ما

ليس يعنيك واعملنّ بنيّه

عقد قوله ـ عليه‌السلام ـ : «الحلال بيّن والحرام بيّن بينهما أمور مشتبهات» وقوله : «ازهد في الدنيا بحبك الله» وقوله : «من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه» وقوله : «إنّما الاعمال بالنيات».

والعقد من كلام الحكماء كقوله المتنبي :

والظّلم من شيم النفوس فإن تجد

ذا عفّة فلعلّة لا يظلم

عقد فيه قول بعض الحكماء : «الظلم من طبع النفوس وإنما يصدّها عن ذلك إحدى علتين ، إما علة دينية كخوف المعاد ، أو علّة سياسية كخوف القتل» ـ.

وفرّق المدني بين الاقتباس والعقد فقال : «إنّ الاقتباس ليس الغرض منه نظم معنى شيء من كلام الله أو رسوله بل تضمين شيء من ذلك على أنّه ليس منه بخلاف العقد كما عرفته في حدّ كل منهما» (١).

وكان قد عرّف الاقتباس بقوله : «هو تضمين النظم أو النثر بعض القرآن لا على أنّه منه ، بأن لا يقال : قال الله» أو نحوه فان ذلك حينئذ لا يكون اقتباسا (٢). وعرّف العقد بقوله : «هذا النوع عبارة عن أن يعمد الشاعر الى شيء من كلام الله أو كلام رسوله أو السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم ، أو كلام الحكماء المشهورين فينظمه بلفظه ومعناه أو معظم اللفظ فيزيد فيه وينقص منه ليدخل في وزن الشعر ، فإن نظم المعنى دون اللفظ لم يكن عقدا بل نوعا من السرقة خلافا لمن أدخله في العقد» (٣).

العكس :

عكس الشي يعكسه عكسا فانعكس ، ردّ آخره على أوّله (٤). والعكس أن يقدّم في الكلام جزء ثم يؤخّر (٥) ، ويسمّى التبديل وقد تقدّم. وللعكس معنى آخر وهو أن يأتي الشاعر الى معنى لنفسه أو لغيره فيعكسه ، قال ابن شيث القرشي : «هو أن يؤتى بالكلام وعكسه. وكلاهما مفيد كقوله تعالى :

__________________

(١) انوار الربيع ج ٦ ص ٣٠٥.

(٢) أنوار الربيع ج ٢ ص ٢١٧.

(٣) أنوار الربيع ج ٦ ص ٢٩٦ ، وينظر شرح الكافية ص ٣٢٤.

(٤) اللسان (عكس).

(٥) كتاب الصناعتين ص ٣٧١ ، العمدة ج ٢ ص ٤ ، ٢٨٩ ، الوافي ص ٢٧٨ ، قانون البلاغة ص ٤٠٩ ، ٤٧٧ ، البديع في نقد الشعر ص ٤٦ ، التبيان ص ١٨١ ، تحرير ص ٣١٨ ، بديع القرآن ص ١١١ ، حسن التوسل ص ٢٦٨ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٤٤ ، جوهر الكنز ص ٢٨٥ ، الايضاح ص ٣٥١ ، التلخيص ص ٣٥٨ ، شروح التلخيص ج ٤ ص ٣١٨ ، المطول ص ٤٢٤ ، الأطول ج ٢ ص ١٩٣ ، البرهان ج ٣ ص ٤٦٧ ، خزانة ص ١٦٢ ، معترك ج ١ ص ٤٠٥ ، الاتقان ج ٢ ص ٩٢ ، شرح عقود الجمان ص ١١١ ، حلية اللب ص ١٣٤ ، أنوار الربيع ج ٣ ص ٣٣٧ ، كفاية الطالب ص ١٩٦ ، الروض المريع ص ١٥٣ ، نفحات ص ٧٠ ، شرح الكافية ص ١٤٥.

٥٣٣

(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ)(١). ومن الشعر في فرس :

ولئن أهنت النّفس في إكرامها

فبها لي الإكرام وهي تهان (٢)

وليس هذا المعنى بيعيد عن معناه الآخر.

عكس الظّاهر :

قال ابن الأثير : «هو نفي الشيء بإثباته ، وهو من مستطرفات علم البيان وذلك أنّك تذكر كلاما يدلّ ظاهره أنّه نفي لصفة موصوف وهي نفي للموصوف أصلا» (٣).

وأدخله ابن الأثير الحلبي في «شجاعة العربية» وقال : «وحقيقة أن تذكر كلاما يدلّ ظاهره على معنى ويراد به معنى آخر عكسه» (٤). كقوله تعالى : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ)(٥). فهذا يدلّ ظاهره على أنّ هناك من يدعو مع الله إلها آخر وله به برهان ، وما المراد ذلك بل المراد أنّ كل من يدعو مع الله إلها آخر لا برهان له به.

ومن أمثلته ما قاله علي بن ابي طالب ـ رضي‌الله‌عنه ـ في وصف مجلس الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «لا تنثى فلتاته» أي : لا تذاع سقطاته ، فظاهر هذا اللفظ أنّه كان ثم فلتات غير أنّها لا تذاع وليس المراد ذلك بل المراد أنّه لم يكن ثمّ فلتات فتنثى.

وهذا الاسلوب من أغرب ما توسعت فيه اللغة العربية وأمثلته الشعرية قليلة ولذلك قال ابن الاثير : «ولقد مكثت زمنا أطوف على أقوال الشعراء قصدا للظفر بأمثلة من الشعر جارية هذا المجرى فلم أجد إلا بيتا لامرئ القيس وهو :

على لاحب لا يهتدى لمناره

إذا سافه العود الديافيّ جرجرا (٦)

فقوله : «لا يهتدى لمناره» أي : أنّ له منارا إلا أنّه لا يهتدى به ، وليس المراد ذلك بل المراد أنّه لا منار له يهتدى به» (٧).

وذكر بيتا من نظمه وهو :

أدنين جلباب الحياء فلن يرى

لذيولهن على الطّريق غبار

وظاهر هذا الكلام أنّ هولاء النساء يمشين هونا لحيائهن فلا يظهر لذيولهن غبار على الطريق وليس المراد ذلك بل المراد أنّهن لا يمشين على الطريق أصلا أي أنّهن مخبئات لا يخرجن من بيوتهن فلا يكون إذن لذيولهن على الطريق غبار ، وهو أظهر من بيت ابن أحمر :

لا تفزع الأرنب أهوالها

ولا ترى الضبّ بها ينجحر

فإنّ ظاهر المعنى أنّه كان هناك ضبّ ولكنه غير منجحر ، وليس كذلك بل المعنى أنه لم يكن هناك ضبّ أصلا. وهذا الفن من التعبير عسر لأنه لا يظهر المعنى فيه.

عكس اللّفظ :

قال قدامة : «إنّه مثل : «اشكر من انعم عليك وأنعم على من شكرك» ومثل : «إنّ من خوّفك لتأمن خير ممن أمنك حتى تلقى الخوف». وكقول عمرو بن عبيد : «اللهم أغنني بالفقر اليك ولا تفقرني بالاستغناء عنك» (٨).

__________________

(١) الروم ١٩.

(٢) معالم الكتابة ص ٨٣ ـ ٨٤.

(٣) المثل السائر ج ٢ ص ٦٥ ، الجامع الكبير ص ١٠٥.

(٤) جوهر الكنز ص ١٢٣.

(٥) المؤمنون ١١٧.

(٦) اللاحب : الطريق الواضح. سافه : شمه ، العود : البعير الهرم. الديافي : المنسوب الى دياف بالشام. جرجر : ردد صوته.

(٧) المثل السائر ج ٢ ص ٦٦.

(٨) جواهر الالفاظ ص ٥.

٥٣٤

عكس المعنى :

وهو النوع الرابع من السرقات عند العلوي ، فقد قسّمها الى النسخ والسلخ والمسخ وعكس المعنى والزيادة عليه معنى آخر. قال عن عكس المعنى : «وما هذا حاله فهو بالغ في المجد كل مبلغ ، ومن لطافته ورشاقته يكاد يخرجه عن حدّ السرقة» (١). ومن ذلك ما قاله أبو الشيص :

أجد الملامة في هواك لذيذة

حبّا بذكرك فليلمني اللّوّم

فأخذه المتنبي وعكس ما قاله عكسا لائقا قال فيه :

أأحبّه وأحبّ فيه ملامة

إنّ الملامة فيه من أعدائه

قال العلوي «وما هذا حاله فإنّه من السرقات الخفية كما أشرنا اليه. وقد قال بعض الحذّاق إنّ ما هذا حاله بأن يسمّى ابتداعا أحق من أن يسمّى سرقة». ومن هذا ما قاله بعض الشعراء في صفة الكرام ومدحهم :

لو لا الكرام وما استنّوه من كرم

لم يدر قائل شعر كيف يمتدح

وقد سبقه بهذا المعنى أبو تمّام خلا أنّ ابا تمّام جعله في الكرم وهذا جعله في المدح قال أبو تمّام في ذلك فأجاد كل الاجادة :

ولو لا خلال سنّها الشّعر ما درى

بغاة النّدى من أين تؤتى المكارم

العنوان :

عنت الكتاب وأعننته لكذا أي عرضته له وصرفته اليه ، وعنّ الكتاب يعنّه عنّا كعنونه بمعنى واحد مشتق من المعنى. قال اللحياني : عنّنت الكتاب تعنينا وعنيته تعنينا اذا عنونته ابدلوا من إحدى النونات ياء وسمّي عنوانا لانه يعنّ الكتاب من ناحيته وأصله عنّان فلما كثرت النونات قلبت احداها واوا ، ومن قال علوان الكتاب جعل النون لاما ؛ لأنّه أخفّ وأظهر من النون ، ويقال للرجل الذي يعرّض ولا يصرّح : قد جعل كذا وكذا عنوانا لحاجته. قال ابن بري :

والعنوان : الأثر ، وقال الليث : العلوان لغة في العنوان غير جيدة والعنوان ـ بالضم هي اللغة الفصيحة (٢).

والعنوان من مبتدعات المصري قال : «هو أن يأخذ المتكلّم في غرض له من وصف أو فخر أو مدح أو هجاء أو عتاب أو غير ذلك ثم يأتي لقصد تكميله بألفاظ تكون عنوانا لاخبار متقدمة وقصص سالفة» (٣).

ومنه قول ابي نواس :

يا هاشم بن خديج ليس فخركم

بقتل صهر رسول الله بالسّدد

أدرجتم في إهاب العير جثّته

لبس ما قدّمت أيديكم لغد

إن تقتلوا ابن أبي بكر فقد قتلت

حجرا بدارة ملحوب بنو أسد

ويوم قلتم لعمرو وهو يقتلكم

قتل الكلاب لقد أبرحت بالولد

وربّ كندّية قالت لجارتها

والدّمع ينهلّ من مثنى ومن وحد

ألهى أمرأ القيس تشبيب بفانية

عن ثأره وصفات النؤي والوتد (٤)

فقد أتى أبو نواس في هذه الأبيات بعدة عنوانات : منها قصة قتل محمد بن أبي بكر وقتل حجر أبي امرئ القيس ، وقتل عمرو بن هند كندة في ضمن هجاء قبيلته وملوكهم.

ومثل ذلك قول أبي تمام في استعطافه مالك بن

__________________

(١) الطراز ج ٣ ص ١٩٨.

(٢) اللسان (غنن).

(٣) تحرير التحبير ص ٥٥٣ ، بديع القرآن ص ٢٥٧.

(٤) أبرحت : أهلكت. من مثنى ومن وحد : يريد من عينين اثنتين وعين واحدة. النؤي : الحجارة توضع حول الخيمة أو الخباء لتمنع السيل.

٥٣٥

طوق على قومه :

رفدوك في يوم الكلاب وشقّقوا

فيه المزاد بجحفل كلّاب

وهم بعين أباغ راشوا للعدى

سهميك عند الحارث الحرّاب

وليالي الثرثار والحشّاك قد

جلبوا الجياد لواحق الأقراب

فمضت كهولهم ودبّر أمرهم

أحداثهم تدبير غير صواب

ورأوا بلاد الله قد لفظتهم

أكنافها رجعوا الى جوّاب

فأتوا كريم الخيم مثلك صافحا

عن ذكر أحقاد وذكر ضباب (١)

فقد أتى أبو تمّام في هذه الأيّام من السيرة النبوية وأيام العرب كيوم الكلاب وأخبار بني جعفر بن كلاب مع ابن عمهم جوّاب.

وفي القرآن الكثير من عنوانات العلوم ، من ذلك قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ)(٢) فانّ فيها عنوان العلم المعروف بالآثار العلوية. ومن ذلك قوله تعالى : (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ. لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ)(٣). فهذا عنوان العلم المنسوب الى اقليدس. لأنّ المثلث الشكل أول أشكاله وهو أصل الأشكال ، وهو شكل إذا نصب في الشمس لا يوجد له ظل لتحديد رؤوس زواياه. وأخذ البلاغيون هذا النوع من المصري كالحلبي والنويري وابن الاثير الحلبي والحموي والسيوطي والمدني (٤). وهذا الفن قريب من التلميح الذي تقدّم ولكنّه أوسع من التلميح وأبعد مدى ، وقد تحدث العلوي عن الإشارة الى القصص والأخبار في فن «التلميح» (٥).

__________________

(١) الخيم : السجية. الضباب : الاحقاد.

(٢) النور ٤٣.

(٣) المرسلات ٣٠ ـ ٣١.

(٤) حسن التوسل ص ٣٠٢ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٦٦ ، جوهر الكنز ص ٢٣٧ ، خزانة الأدب ص ٣٧٣ ، معترك ج ١ ص ٤٠٧ ، معاهد التنصيص ج ٤ ص ١٥٦.

(٥) الطراز ج ٣ ص ١٧٠ ، نفحات ص ١٣٢ ، شرح الكافية ص ٢٤٧.

٥٣٦

الغين

الغرابة :

غرب : بعد ، والغريب : الغامض من الكلام ، وكلمة غريبة وقد غربت (١). قال ابن قيّم الجوزيّة : «الغرابة :هي أن يكون المعنى مما لم يسبق إليه على جهة الاستحسان فيقال : ظريف وغريب إذا كان عديم المثال أو قليله. والقرآن العظيم كله سهل ممتنع ألفاظه سهلة ومعانيه نادرة وأسلوبه غريب قد مازجت القلوب عذوبته وحلت في العيون طلاوته وراق في الاسماع سماعه واستقر في الطباع انطباعه فلهذا لم يسأم على ترداده ولم تملّه النفوس على دوام إيراده فكل آية منه حسنة المساق وكل كلمة منه عذبة المذاق وكل معنى منه دقّ ورقّ» (٢). وقال : «ومن هذا النوع في أشعار العرب والمخضرمين والمتأخرين كثير لا يحصى ، فمن ذلك قول العرب :

هوى صاحبي ريح الشّمال إذا جرت

وأشفى لقلبي أن تهبّ جنوب

يقولون لو عزّيت قلبك لارعوى

فقلت وهل للعاشقين قلوب

والغرابة عند ابن قيم الجوزية غير ما ذهب اليه المتأخرون فهي عنده الندرة والروعة وقد قرنها بالظرافة والسهولة ، أمّا عند الآخرين فهي مما لا يحسن في فصيح الكلام ، وقد اشترطوا لفصاحة المفرد شروطا هي : خلوصه من تنافر الحروف والغرابة ومخالفة القياس اللغوي والكراهة في السمع.

ويريدون بالغرابة «أن تكون الكلمة وحشية لا يظهر معناها فيحتاج في معرفته الى أن ينفّر عنها في كتب اللغة المبسوطة» (٣). ومن ذلك قول عيسى بن عمر وقد سقط عن حماره واجتمع عليه الناس : «ما لكم تكأكأتم عليّ كتكأكؤكم على ذي جنّة افرنقعوا عني» أي : اجتمعتم ، تنحّوا.

أو يخرج لها وجه بعيد كما في قول العجاج : «وفاحما ومرسنا مسرّجا» فانّه لم يعرف ما أراد بقوله : «مسرّجا» حتى اختلف في تخريجه فقيل هو من قولهم للسيوف : «سريجية» منسوبة الى قين يقال له «سريج» يريد أنّه في الاستواء والدقة كالسيف السريجيّ» ، وقيل : من السراج ، يريد أنّه في البريق كالسراج ، وهذا يقرب من قولهم «سرج وجهه» أي :حسن ، و «سرّج الله وجهه» أي : بهجه وحسّنه.

وكان ابن سنان قد قال عن فصاحة اللفظة المفردة : «أن تكون الكلمة ـ كما قال أبو عثمان الجاحظ ـ غير متوعّرة وحشيّة» (٤) وذكر عبارة عيسى ابن عمر أو أبي علقمة النحوي وبعض الأشعار ، كقول أبي تمّام :

لقد طلعت في وجه مصر بوجهه

بلا طائر سعد ولا طائر كهل

__________________

(١) اللسان (غرب).

(٢) الفوائد ص ١٧٢.

(٣) الايضاح ص ٣ ، التلخيص ص ٢٥ ، شروح التلخيص ج ١ ص ٨٣ ، المطول ص ١٨ ، الأطول ج ١ ص ١٩ ، الروض المريع ص ٨٤.

(٤) سر الفصاحة ص ٦٩.

٥٣٧

فانّ «كهلا» ههنا من غريب اللغة وقد روي أنّ الاصمعي لم يعرف هذه الكلمة وليست موجودة إلا في شعر بعض الهذليين وهو قوله :

فلو كان سلمى جاره أو أجاره

رياح بن سعد ردّه طائر كهل

وقد قيل : إنّ الكهل الضخم ، وكهل لفظة ليست بقبيحة التأليف لكنها وحشية غريبة.

الغصب :

الغصب : أخذ الشيء ظلما ، غضب الشيء يغصبه غصبا واغتصبه فهو غاصب ، غصبه على الشيء : قهره وغصبه منه ، والاغتصاب مثله (١).

الغصب أحد أنواع السرقات وذلك أن يغتصب شاعر أبيات شاعر آخر أو قوله ، وهو مثل صنيع الفرزدق بالشمردل اليربوعي وقد أنشد في محفل :

فما بين من لم يعط سمعا وطاعة

وبين تميم غير حزّ الحلاقم

قال الفرزدق : «والله لتدعته أو لتدعن عرضك» فقال : «خذه لا بارك الله لك فيه».

وقال ذو الرّمّة بحضرته : «لقد قلت أبياتا إنّ لها لعروضا وإنّ لها لمرادا ومعنى بعيدا» قال : «ما قلت؟» فقال : قلت :

أحين أعاذت بن تميم نساءها

وجرّدت تجريد اليماني من الغمد

ومدّت بضبعيّ الرباب ومالك

ومرو وسالت من ورائي بنو سعد

ومن آل يربوع زهاء كأنّه

دجى الليل محمود النكاية والرمد

فقال له الفرزدق : «إيّاك وإيّاها لا تعودنّ إليها وأنا أحق بها منك». قال : «والله لا أعود فيها ولا أنشدها أبدا إلا لك» (٢).

غلبة الفروع على الأصول :

غلبه يغلبه غلبا وغلبا ، وهي أفصح (٣).

وغلبة الفروع على الأصول هو التشبيه المعكوس أو المقلوب أو المنعكس وقد تقدم. والذي سمّاه كذلك ابن جني (٤).

الغلط :

الغلط : أن تعيا بالشيء فلا تعرف وجه الصواب فيه ، وقد غلط في الأمر يغلط غلطا ، وأغلطه غيره (٥).

قال ابن منقذ : «الغلط هو أن يغلط في اللفظ وما يغلط في المعنى» (٦). مثل قول زهير :

فينتج لكم غلمان أشأم كلهم

كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم (٧)

أراد أحمر ثمود وهو عاقر الناقة. وقد احتج له بعض العلماء فقال : «أراد عادا الأخرى لأنّهما عادان» كما قال الله تعالى : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى)(٨) فدلّ على أنّ ثمود عاد الاخرى.

وكقول بعض العرب في الحماسة :

وبيضاء من نسج ابن داود نثره

تخيّرتها يوم اللقاء الملابسا

وإنّما الدرع من نسج داود لا سليمان.

وكان العسكري قد تحدّث عن الغلط في

__________________

(١) اللسان (غصب).

(٢) العمدة ج ٢ ص ٢٧٥ ، الرسالة العسجدية ص ٥٤.

(٣) اللسان (غلب).

(٤) الخصائص ج ١ ص ٣٠٠.

(٥) اللسان (غلط).

(٦) البديع في نقد الشعر ص ١٤١.

(٧) أشام : مشؤوم. أحمر عاد : المراد به عاقر ناقة ثمود. يريد أن يقول تلك الحرب تطول عليكم فلا يسرع في انكشافها.

(٨) النجم ٥٠.

٥٣٨

المعاني (١) وذكر أمثلة كثيرة مما وقع فيه الشعراء ، وتحدّث القاضي الجرجاني عن أغاليط الشعراء وذكر بيت زهير وغيره (٢). وعقد ابن رشيق بابا في أغاليط الشعراء والرواة (٣) وذكر مآخذ الأصمعي على زهير والشماخ ومآخذ الآمدي على البحتري وغير ذلك.

الغلوّ :

غلا في الدين والأمر يغلو غلوّا ، جاوز حدّه وأفرط ، وفي الحديث : «ايّاك والغلوّ في الدين» أي التّشدّد فيه ومجاوزة الحد. والغلو : الإعداء ، وغلا بالسهم يغلو غلوا وغلوّا وغالى به غلاء رفع يده يريد به أقصى الغاية وهو التّجاوز. وغلا السّهم نفسه : ارتفع في ذهابه وجاوز المدى. والغلوة قدر رمية بسهم وقد تستعمل الغلوة في سباق الخيل ، والغلوة : الغاية مقدار رمية (٤) قال ابن رشيق : «واشتقاق الغلوّ من المغالاة ، ومن غلوة السهم وهي مدى رميته. يقال : «غاليت فلانا مغالاة وغلاء» إذا اختبرتما أيكما أبعد غلوة سهم ، ومنه قول النبي ـ عليه الصلاة والسّلام ـ : «جري المذكيات غلاء» (٥) وقد جاء في حديث داحس «غلاء» و «غلاب» بالباء أيضا. واذا قلت : «غلا السعر غلاء» فإنّما تريد أنّه ارتفع وزاد على ما كان ، وكذلك غلت القدر غليا أو غليانا ، إنّما هو أن يجيش ماؤها ويرتفع» (٦).

والغلوّ أحد انواع المبالغة وقد سمّاه ابن طباطبا «التشبيهات البعيدة التي لم يلطف أصحابها فيها ولم يخرج كلامهم في العبارة عنها سلسا عذبا» (٧) كقول خفاف بن ندبة :

أبقى لها التعداء من عتداتها

ومتونها كخيوطة الكتّان (٨)

وكان قدامة من أوائل الذين أشاروا الى هذا الفن ومصطلحه وقال : «إنّ الغلوّ عندي أجود المذهبين وهو ما ذهب اليه أهل الفهم بالشعر والشعراء قديما ، وقد بلغني عن بعضهم أنّه قال : «أحسن الشعر أكذبه» وكذا يرى فلاسفة اليونانيين في الشعر على مذهب لغتهم» (٩).

وقال العسكري : «الغلوّ تجاوز حدّ المعنى والارتفاع فيه الى غاية لا يكاد يبلغها» (١٠).

كقوله تعالى : (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ)(١١) وقوله : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ)(١٢) ، وقول الجعدي :

بلغنا السّماء مجدنا وسناؤنا

وإنّا لنرجو فوق ذلك مظهرا

وقول البحتري :

فلو أنّ مشتاقا تكلّف غير ما

في وسعه لسعى إليك المنبر

وعدّ الباقلّاني من البديع «الغلوّ والإفراط» (١٣) ، وتحدّث ابن رشيق في المبالغة عن هذا النوع ، وقال : «فأما الغلوّ الذي ينكره من ينكر المبالغة من سائر أنواعها ويقع فيه الاختلاف لا ما سواه ، ولو بطلت المبالغة كلها وعيبت لبطل التشبيه وعيبت الاستعارة الى كثير من محاسن الكلام» (١٤). وعقد للمبالغة بابا

__________________

(١) كتاب الصناعتين ص ٦٩ وما بعدها.

(٢) الوساطة ص ١٠ وما بعدها.

(٣) العمدة ج ٢ ص ٢٤٥ وما بعدها.

(٤) اللسان (غلا).

(٥) المذكية من الخيل : التي قد اتى عليها بعد قروحها سنة او سنتان.

(٦) العمدة ج ٢ ص ٦٥.

(٧) عيار الشعر ص ٨٩.

(٨) العتدات : القوائم. متونها : ضلوعها.

(٩) نقد الشعر ص ٦٥ ، وينظر شرح ديوان الحماسة ج ١ ص ١١.

(١٠) كتاب الصناعتين ص ٣٥٧.

(١١) الأحزاب ١٠.

(١٢) الأعراف ٤٠.

(١٣) إعجاز القرآن ص ١١٧.

(١٤) العمدة ج ٢ ص ٥٥.

٥٣٩

وقال : «ومن أسمائه أيضا الإغراق والإفراط ومن الناس من يرى أنّ فضيلة الشاعر إنّما هي في معرفته بوجوه الإغراق والغلوّ ولا أرى ذلك إلّا محالا لمخالفته الحقيقة وخروجه عن الواجب والمتعارف» (١) ، ثم قال : «وأصحّ الكلام عندي ما قام عليه الدليل وثبت فيه الشاهد من كتاب الله تعالى ونحن نجده قد قرن الغلو فيه بالخروج عن الحق فقال جلّ من قائل : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ)(٢).

ومنهم من يرى (٣) أنّ أحسن الغلوّ ما نطق فيه بـ «كاد» و «كأنّ» و «لو لا» كقول زهير :

لو كان يقعد فوق الشمس من شرّف

قوم بأحسابهم أو مجدهم قعدوا

وقول أبي صخر الهذلي :

تكاد يدي تندى اذا ما لمستها

وينبت في أطرافها الورق الخضر

وقوله تعالى : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ)(٤) وقوله : (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها)(٥) ، وقوله :(يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ)(٦).

وفرّق المصري بين الغلوّ والإغراق لأنّ منهم «من يجعله هو والإغراق شيئا واحدا» (٧) وقال : «وقد رأيت من لا يفرّق بين الغلوّ والإغراق ويجعل التسميتين لباب واحد وهي عندي أنّ معنى البابين مختلف كاختلاف اسميهما إلا أنّ الإغراق أصله في النزع وأصل في النزع وأصل الغلوّ بعد الرمية وذلك أنّ الرامي ينصب غرضا يقصد إصابته فيجعل بينه وبينه مدى يمكن معه تحقيق ذلك الغرض فاذا لم يقصد غرضا معيّنا ورمى السهم إلى غاية ما ينتهي اليه بحيث لا يجد مانعا يمنعه من استيفاء السهم قوته في البعد سميت هذه الرمية غلّوة فالغلو مشتق منها. ولما كان الخروج عن الحق الى الباطل يشبه خروج هذه الرمية عن حدّ الغرض المعتاد الى غير حدّ سمّي غلوّا. قال الله سبحانه وتعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ)(٨) وهو لا يعدّ من المحاسن إلا اذا اقترن به ما يقرّ به من الحق كـ «قد» للإحتمال و «لو» و «لو لا» للامتناع و «كاد» للمقاربة واداة التشبيه وآلة التشكيك وأشباه ذلك من القرائن اللفظية» (٩)

وفرّق ابن الأثير الحلبي بين الإغراق والغلو والمبالغة فقال : الإغراق والغلوّ والمبالغة هي ثلاث تسميات متقاربة وردت في باب واحد لقرب بعضها من بعض وسنذكر التمييز بين كل نوع منها. فاما الإغراق فهو الزيادة في المبالغة حتى يخرجها عن حدّها ... وأما الغلوّ فهو الزيادة في الخروج عن الحدّ ... وأما المبالغة فهي مشتقّة من «بلغ المنزل واديا» : جاءه. وحدّها بلوغ القصد من غير تجاوز الحدّ» (١٠).

والغلوّ عند ابن مالك ضربان (١١). مقبول ومردود ، فالمقبول أن لا يتضمّن دعوى كون الوصف على مقدار غير ممكن الوصف بما هو خارج عن طباق الموصوف. وهو قسمان :

أولاهما بالقبول ما اقترن به ما يقربه من الحق كقول الشاعر يصف فرسا :

ويكاد يخرج سرعة عن ظلّه

لو كان يرغب في فراق رفيق

والقسم الآخر ما كان غير مقترن ، كقول الشاعر :

__________________

(١) العمدة ج ٢ ص ٦٠.

(٢) المائدة ٧٧.

(٣) الوافي ص ٢٦٨ ، قانون البلاغة ص ٤٤٢ ، الرسالة العسجدية ص ١٥٤.

(٤) البقرة ٢٠.

(٥) النور ٤٠.

(٦) النور ٣٥.

(٧) حسن التوسل ص ٢٧٦ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٤٩ ، الروض المريع ص ١٠٣.

(٨) المائدة ٧٧.

(٩) تحرير التحبير ص ٣٢٣.

(١٠) جوهر الكنز ص ١٣٥.

(١١) المصباح ص ١٠٣.

٥٤٠