معجم المصطلحات البلاغيّة وتطوّرها

الدكتور أحمد مطلوب

معجم المصطلحات البلاغيّة وتطوّرها

المؤلف:

الدكتور أحمد مطلوب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة لبنان ناشرون
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٥

المقصود بما يدفعه» (١).

فالاحتراس عند هؤلاء هو التكميل ، ولكنّ ابن مالك أفرد التكميل بفن آخر وعرّفه بقوله : «التكميل أن تأتي في شيء من الفنون بكلام فتراه ناقصا لكونه مدخولا بعيب من جهة دلالة مفهومه فتكمله بجملة ترفع عنه النقص. مثل أن تجيد مدح رب السيف بالكرم دون الشجاعة أو رب القلم بالبلاغة دون سداد الرأي ونفاذ العزم فتراه ناقصا فتذكر معه كلاما يكمل المدح ويرفع ايهام الذم» (٢). وفرّق المصري بين الاحتراس والتكميل والتتميم فقال : «إن المعنى قبل التكميل صحيح تام ثم يأتي التكميل بزيادة يكمل بها حسنه إما بفن زائد أو بمعنى. والتتميم يأتي ليتمم نقص المعنى ونقص الوزن معا ، والاحتراس لاحتمال دخل على المعنى وإن كان تاما كاملا ووزن الكلام صحيحا.

وقد جعل ابن رشيق الاحتراس نوعا من التتميم وسوّى بينهما ، وقد ظهر الفرق بينهما فجعلهما في باب واحد غير سائغ» (٣). وفرّق بينه وبين المواربة فقال : «والفرق بينه وبين المواربة ـ بالراء المهملة ـ أيضا ، أنّ الاحتراس يؤتى به وقت العمل عند ما يتفطن المتكلم لموضع الدّخل ، والمواربة يؤتى بها وقت العمل وبعد صيرورة الكلام.

والمواربة ـ بالراء المهملة ـ تكون بالتصحيف والتحريف واهتدام الكلمة والزيادة والنقص ، والاحتراس بزيادة الجمل المفيدة المتضمنة معنى الانفصال عمّا يحتمله الكلام من الدخل ، والمواربة تكون في نفس الكلام وتكون منفصلة عنه. والاحتراس لا يكون إلا في نفس الكلام».

ثم فرّق بينه وبين المناقضة والانفصال فقال : «إنّ الاحتراس هو ما فطن له الشاعر أو الناثر وقت العمل فاحترس منه. والانفصال ما لم يفطن له حتى يدخل عليه ، فيأتي بجملة من الكلام أو بيت من الشعر ينفصل به عنه ذلك الدخل» (٤).

والأمثلة التي ذكرها معظم البلاغيين واحدة ، وقد اتفقوا على تسمية هذا الفن احتراسا ـ ما عدا بعضهم ـ وفرقوا بينه وبين التكميل والتتميم. ومن أمثلة هذا الفن في الكتاب العزيز قوله تعالى : (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(٥) فانه ـ تعالى ـ لما أخبر بهلاك من هلك بالطوفان أعقبه بالدعاء على الهالكين ووصفهم بالظلم ليعلم أنّ جميعهم كان مستحقا للعذاب احتراسا من ضعيف يتوهم أنّ الهلاك ربما شمل من لا يستحق العذاب ، فلما دعا على الهالكين ووصفهم بالظلم علم استحقاقهم لما نزل بهم وحلّ بساحتهم وظهر من ذلك صدق وعده لنبيه نوح ـ عليه‌السلام ـ وأعلمنا أنه قد أنجزه وعده الذي قال فيه : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)(٦).

ومن ذلك قول الخنساء :

ولو لا كثرة الباكين حولي

على إخوانهم لقتلت نفسي

ثم تخيّلت أنّ قائلا قال لها : لقد ساويت أخاك بالهالكين من إخوان الناس فكيف أفرطت في الجزع عليه دونهم؟ فاحترست من ذلك بقولها :

وما يبكون مثل أخي ولكن

أعزّي النفس عنه بالتأسي

وقول الفرزدق :

__________________

(١) الايضاح ص ٢٠٢ ، التلخيص ص ٢٢٩ ، شروح التلخيص ج ٣ ص ٢٣١ ، المطول ص ٢٩٥ ، الاطول ج ٢ ص ٤٦ ، الاتقان ج ٢ ص ٧٤ ، شرح عقود الجمان ص ٧٥ ، نفحات ص ١٧٢ ، شرح الكافية ص ٣١٦.

(٢) المصباح ٩٨.

(٣) تحرير التحبير ص ٢٤٥ ، وينظر خزانة الأدب ص ٤٥٨.

(٤) تحرير التحبير ص ٢٤٥.

(٥) هود ٤٤.

(٦) هود ٣٧.

٤١

لعن الاله بني كليب إنّهم

لا يغدرون ولا يفون لجار

فقوله : «لا يفون» احتراس لئلا يتوهم أنّ عدم غدرهم من الوفاء فقال : «ولا يفون» ليفيد أنه للعجز ، وقوله : «لجار» ايغال ؛ لأنّ ترك الوفاء للجار أشد قبحا.

الأحجية :

الاحجية مفرد الأحاجي وقد تقدمت ، والأحجية اللغز والمعمى ، وهذا قريب من التورية (١).

الاختتام :

الاختتام من اختتم ، وهو نقيض الافتتاح (٢). وهو في البلاغة أن يختم البليغ كلامه في أي مقصد كان بأحسن الخواتم فانها آخر ما يبقى على الاسماع.

وينبغي تضمينها معنى تاما يؤذن السامع بأنه الغاية والمقصد والنهاية. وهذه تسمية العلوي (٣) أما غيره فيسميه حسن الختام أو الخاتمة (٤).

ومن أمثلة ذلك خواتيم القرآن الكريم «فانّ الله تعالى ختم كل سورة من سوره بأحسن ختام وأتمّها بأعجب إتمام ، ختاما يطابق مقصدها ويؤدي معناها من أدعية أو وعد أو وعيد أو موعظة أو تحميد وغير ذلك من الخواتيم الرائقة» (٥). ومن ذلك ما قاله أبو تمام يذكر فتح عمورية ويهنىء المعتصم بها :

إن كان بين صروف الدهر من رحم

موصولة أو ذمام غير مقتضب

فبين أيامك اللاتي نصرت بها

وبين أيام بدر أقرب النّسب

وما قاله المتنبي :

قد شرّف الله أرضا أنت ساكنها

وشرّف الناس إذ سوّاك إنسانا

وما قاله أبو نواس في المأمون :

فبقيت للعلم الذي تهدي له

وتقاعست عن يومك الأيام

الاختراع :

الاختراع من اخترع الشيء أي ارتجله ، والخرع ـ بالتحريك ـ والخراعة : الرخاوة في الشيء ، ومنه قيل لهذه الشجرة الخروع لرخاوته ، وقيل : الخروع : كل نبات قصيف ريّان من شجر أو عشب ، وكل ضعيف رخو خرع وخريع (٦).

والاختراع عند ابن وهب «ما اخترعت له العرب اسما مما لم تكن تعرفه» (٧) وليس هذا ما قصد اليه البلاغيون والنقاد ، فالاختراع عند ابن رشيق : «خلق المعاني التي لم يسبق اليها والاتيان بما لم يكن منها قط ، والابداع إتيان الشاعر بالمعنى المستظرف والذي لم تجر العادة بمثله ، ثم لزمته هذه التسمية حتى قيل له بديع وإن كثر وتكرر ، فصار الاختراع للمعنى والابداع للفظ» (٨). ثم قال : «واشتقاق الاختراع هو من التليين ، يقال «بيت خرع» إذا كان لينا ، والخروع «فعول» منه ، فكأنّ الشاعر سهّل طريقة هذا المعنى ولينه حتى أبرزه» ، وهذا ما أشارت اليه المعاجم في «خرع».

وعدّ القرطاجني الاختراع الغاية في الاستحسان ، قال : «فمراتب الشعراء فيما يلمّون به من المعاني إذن

__________________

(١) عروس الأفراح ج ٤ ص ٤٧٣. وينظر المثل السائر ج ٢ ص ٢٢٤.

(٢) اللسان (ختم).

(٣) الطراز ج ٣ ص ١٨٣.

(٤) تحرير التحبير ص ٦١٦ ، بديع القرآن ص ٣٤٣ ، خزانة الأدب ص ٤٦٠ ، أنوار الربيع ج ٦ ص ٣٢٤.

(٥) الطراز ج ٣ ص ١٨٣ ـ ١٨٤.

(٦) اللسان (خرع).

(٧) البرهان في وجوه البيان ص ١٥٨.

(٨) العمدة ج ١ ص ٢٦٥ ، وينظر كفاية الطالب ص ٩٩.

٤٢

أربعة : اختراع واستحقاق وشركة وسرقة. فالاختراع هو الغاية في الاستحسان ، والاستحقاق تال له ، والشركة منها ما يساوي الآخر فيه الأول فهذا لا عيب فيه ، ومنها ما ينحط فيه الآخر عن الأول فهذا معيب ، والسرقة كلها معيبة وإن كان بعضها أشدّ قبحا من بعض» (١).

وقال ابن قيّم الجوزية : «الاختراع هو أن يذكر المؤلف معنى لم يسبق اليه ، واشتقاقه من التليين والتسهيل ، يقال : نبت خرع إذا كان لينا فكأن المتكلم سهل طريقه حتى أخرجه من العدم الى الوجود. ومنه في القرآن كثير ، من ذلك قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)(٢). ولم يسمع بمثل هذا التمثيل البديع لأحد قبل نزول القرآن ولو سمع لكان القرآن سابقا ولا يكون مثله ولا قريبا منه وكذلك جميع أمثال القرآن ليس لها أمثال ..

ومثال ذلك من السنة النبوية قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «حمي الوطيس» فانّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أول من تكلم بهذا حين قدّم المسلمون خالد بن الوليد في غزوة مؤتة حين حمل خالد في العدو ، والوطيس هو التنور ، فعبّر بشدة حميه ووقوده عن شدة الحرب واتقادها واتقاد نارها حين حمل خالد ابن الوليد رضي‌الله‌عنه. ومن ذلك قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «أما بعد» (٣).

وقد تكلم البلاغيون على هذا الفن في باب «سلامة الاختراع» ولم ينفرد بمثل هذا البحث غير ابن قيم الجوزية كما تشير الى ذلك المصادر المعروفة.

الاختزال :

الاختزال : الاقتطاع ، يقال : اختزله عن القوم مثل اختزعه ، واختزل فلان المال : اذا اقتطعه ، والاختزال :الحذف استعمله سيبويه كثيرا وقال ابن سيده : «لا أعلم ذلك عن غيره» ، وانخزل في كلامه : انقطع (٤).

والاختزال من أنواع الحذف ، وقد قسّم بعضهم هذا الاسلوب ، عدة أقسام ، والاختزال أحد تلك الأقسام ، وهو ما ليس اقتطاعا أي حذف بعض حروف الكلمة ، أو اكتفاء أي حذف أحد الشيئين المتلازمين ، أو احتباكا أي الحذف من الأول ما اثبت نظيره في الثاني ، ومن الثاني ما أثبت نظيره في الأول.

والاختزال أقسام ، لأن المحذوف اما كلمة : اسم ، أو فعل ، أو حرف ، أو أكثر (٥).

ومن حذف الاسم ، حذف المضاف ، وهو كثير جدا في القرآن الكريم ومنه (الْحَجُّ أَشْهُرٌ)(٦) أي : حج أشهر ، و (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ)(٧) أي : نكاح امهاتكم.

وحذف المضاف اليه مثل قوله تعالى : (رَبِّ اغْفِرْ لِي)(٨) ، أي : يا ربي. وحذف المبتدأ كقوله : (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ. نارٌ حامِيَةٌ)(٩) أي : هي نار ، وقوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ)(١٠) أي : فعمله لنفسه ، وقوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)(١١) ، أي : هم ، وقوله : (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها)(١٢) أي : دائم. وحذف الموصوف كقوله تعالى : (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ)(١٣) أي : حور قاصرات.

__________________

(١) منهاج البلغاء ص ١٩٦.

(٢) الحج ٧٣.

(٣) الفوائد ص ١٥٦.

(٤) اللسان (خزل).

(٥) معترك ج ١ ص ٣٢٣ ، الاتقان ج ٢ ص ٦٢.

(٦) البقرة ١٩٧.

(٧) النساء ٢٣.

(٨) الاعراف ١٥١.

(٩) القارعة ٩ ـ ١٠.

(١٠) الجاثية ١٥.

(١١) البقرة ١٨.

(١٢) الرعد ٣٥.

(١٣) الصافات ٤٨.

٤٣

وحذف الصفة كقوله : (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ)(١) أي صالحة.

وحذف المعطوف عليه كقوله : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ)(٢) أي : فضرب فانفلق.

وحذف المعطوف مع العاطف كقوله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ)(٣) أي :ومن أنفق بعده.

وحذف المبدل منه كقوله : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ)(٤) أي : لما تصفه ، والكذب بدل من الهاء.

وحذف الفاعل معنى كقوله : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ)(٥) أي : دعائه الخير. وحذف المفعول مثل قوله : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ)(٦) أي : إلها.

وحذف الحال كقوله : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ)(٧) أي : قائلين. وحذف المنادى كقوله تعالى : ألا يا اسجدوا (٨) أي : يا هؤلاء.

وحذف العائد ، ويقع في أربعة أبواب :

الأول : الصلة كقوله تعالى : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً؟)(٩).

الثاني : الصفة ، كقوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ)(١٠) أي : فيه.

الثالث : الخبر ، كقوله : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى)(١١) أي : وعده.

الرابع : الحال ، كقوله تعالى (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ)(١٢) أي : قائلين. وحذف مخصوص نعم كقوله : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ)(١٣) أي : أيوب.

وحذف الموصول كقوله : (آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ)(١٤) أي : والذي أنزل اليكم ؛ لأنّ الذي أنزل الينا ليس هو الذي أنزل الى من قبلنا ، ولهذا أعيدت «ما» في قوله : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ)(١٥).

ويطرد حذف الفعل اذا كان مفسرا كقوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ)(١٦) أي : وإن استجارك أحد.

ويكثر في جواب الاستفهام كقوله : (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا : خَيْراً)(١٧).

أي : أنزل.

وأكثر منه حذف القول كقوله : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا)(١٨) أي : يقولان ربنا.

ويأتي في غير ذلك كقوله : (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ)(١٩) أي : واتوا ، وقوله : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ

__________________

(١) الكهف ٧٩.

(٢) الشعراء ٦٣.

(٣) الحديد ١٠.

(٤) النحل ١١٦.

(٥) فصلت ٤٩.

(٦) الاعراف ١٥٢.

(٧) الرعد ٢٣ ـ ٢٤.

(٨) في المصحف سورة النّمل الآية ٢٥ ؛ (أَلَّا يَسْجُدُوا.) وما ذكره السيوطي في معترك ج ١ ص ٣٢٦ احدى القراءات في الآية. للتفصيل في هذه المسألة ينظر البحر المحيط ج ٧ ص ٦٨ ـ ٦٩.

(٩) الفرقان ٤١.

(١٠) البقرة ٤٨.

(١١) النساء ٩٥.

(١٢) الرعد ٢٣ ـ ٢٤.

(١٣) ص ٤٤.

(١٤) العنكبوت ٤٦.

(١٥) البقرة ١٣٦.

(١٦) التوبة ٦.

(١٧) النحل ٣٠.

(١٨) البقرة ١٢٧.

(١٩) النساء ١٧١.

٤٤

وَالْإِيمانَ)(١) أي : والفوا الايمان واعتقدوه.

ومن حذف الحروف حذف همزة الاستفهام كقوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ) انذرتهم (٢) أي :أأنذرتهم؟

وحذف الموصول الحرفي كقوله : (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ)(٣) ، أي : أن يريكم.

وحذف الجار يطرد مع أن وأنّ كقوله : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ، قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ ، بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ)(٤) أي : بأن. وقوله : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ)(٥) أي : بانكم. وجاء مع غيرهما كقوله : (قَدَّرْناهُ مَنازِلَ)(٦) أي : قدرنا له.

وحذف العاطف كقوله : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ ، قُلْتَ : لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا)(٧) أي : وقلت.

وحذف فاء الجواب كقوله : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)(٨) أي فالوصية.

وحذف حرف النداء وهو كثير كقوله : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا)(٩) أي : يا يوسف. وحذف «قد» في الماضي إذا وقع حالا كقوله : (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ)(١٠) أي : قد حصرت.

وحذف «لا» النافية كقوله : (تَاللهِ تَفْتَؤُا)(١١) أي لا تفتأ. وقوله : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ)(١٢) أي : لا يطيقونه.

وحذف لام التوطئة كقوله : (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَ)(١٣) أي : ولئن لم ينتهوا.

وحذف لام الأمر كقوله : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ)(١٤) أي : ليقيموا. وحذف لام «لقد» كقوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها)(١٥) أي : لقد.

ومن حذف أكثر من كلمة حذف مضافين كقوله : (فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)(١٦) أي : فانّ تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب.

وحذف ثلاثة متضايفات كقوله : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ)(١٧) أي : فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب ، فحذف ثلاثة من اسم كان وواحد من خبرها.

وحذف مفعولي باب «ظن» كقوله : (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)(١٨) أي : تزعمونهم شركاء.

وحذف الجار مع المجرور كقوله : (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً)(١٩) أي : بسيّئ ، و (آخَرَ سَيِّئاً) أي : بصالح.

وحذف العاطف مع المعطوف كقوله : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ)(٢٠) أي : والشر. وحذف حرف الشرط وفعله ويطرد بعد الطلب كقوله : (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ)(٢١) أي : إن اتبعتموني.

وحذف جواب الشرط كقوله : (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ)(٢٢) أي :

__________________

(١) الحشر ٩.

(٢) البقرة ٦.

(٣) الروم ٢٤.

(٤) الحجرات ١٧.

(٥) المؤمنون ٣٥.

(٦) يس ٣٩.

(٧) التوبة ٩٢.

(٨) البقرة ١٨٠.

(٩) يوسف ٢٩.

(١٠) النساء ٩٠.

(١١) يوسف ٨٥.

(١٢) البقرة ١٨٤.

(١٣) المائدة ٧٣.

(١٤) ابراهيم ٣١.

(١٥) الشمس ٩.

(١٦) الحج ٣٢.

(١٧) النجم ٩.

(١٨) القصص ٦٢ ، ٧٤.

(١٩) التوبة ١٠٢.

(٢٠) آل عمران ٢٦.

(٢١) آل عمران ٣١.

(٢٢) الانعام ٣٥.

٤٥

فافعل.

وحذف جملة القسم كقوله : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً)(١) أي : والله. وحذف جوابه كقوله : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً ...)(٢) الآيات ، أي : لتبعثن.

وحذف جملة مسببة عن المذكور كقوله : (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ)(٣) أي : فعل ما فعل.

ومنه حذف جمل كثيرة كقوله تعالى : (فَأَرْسِلُونِ. يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ)(٤) أي : فأرسلوني الى يوسف لأستبصره الرؤيا ففعلوا فأتاه فقال له : يا يوسف. وهذا هو ايجاز الحذف الذي تكلم عليه البلاغيون ولكنّ السيوطي (٥) وضع له مصطلحا وسماه «الاختزال» وفصّل القول فيه تفصيلا ، وجاء بأمثلة من كتاب الله وحده.

والاختزال عند السجلماسي أحد أنواع المفاضلة وهو «قول مركب من أجزاء فيه مشتملة بجملتها على مضمون تنقص عنه بطرح جزء منها شأنه أن يصرح به» (٦) ، وهو نوعان «الاصطلام» و «الحذف».

الاختصار :

الاختصار هو الايجاز ، وقد قال عنه عياش بن صحار هو «اللمحة الدالة» حينما سأله معاوية : «ما أقرب الاختصار» (٧)؟ وهذا الاسلوب من أبرز أساليب العرب ، فقد اهتموا بالعبارة الموجزة والكلام المختصر ليسهل حفظه ويكون تأثيره في النفوس عظيما. وقد حدّد البلاغيون والنقاد أسلوب التعبير تبعا للموضوع فقال ابن منقذ وهو يتحدث عن الاسهاب والاطناب والاختصار والاقتصار : «اعلم أنّ كل واحد من هذه الأقسام له موضع يأتي فيه فيحمد فان أتى في غيره لم يحمد. فان كان في الترغيب والترهيب والاصطلاح بين العشائر والاعتذار والانذار الى الأعداء والعساكر وما أشبه ذلك فيستحب فيه التطويل والشرح.

وأما غير ذلك فيستحب فيه الاختصار والاقتصار» (٨).

ومدحت العرب التطويل والتقصير فقال الشاعر :

يرمون بالخطب الطوال وتارة

وحي الملاحظ خيفة الرّقباء (٩)

وقال السيوطي عن الاختصار : «الايجاز والاختصار بمعنى واحد كما يؤخذ من المفتاح وصرّح به الخطيبي. وقال بعضهم : الاختصار خاص بحذف الجمل فقط بخلاف الايجاز. قال الشيخ بهاء الدين : وليس بشيء» (١٠). وذلك لأنّ الايجاز عند البلاغيين قد يكون بحذف الكلمة أو الجملة أو الجمل وهو ما سمّوه «ايجاز الحذف».

الاختصاص :

الاختصاص من اختص فلان بالأمر وتخصص له إذا انفرد ، ويقال : خصّصه واختصه : أفرده به دون غيره (١١).

والاختصاص عند الاصوليين التخصيص ، وقد اختلفت فيه عبارات أهل العلم فقال بعضهم : «هو إخراج صورة من حكم كان يقتضيها الخطاب به لو لا التخصيص». وهو شبيه بالنسخ من حيث اشتراكهما في اللبس ومن حيث أنّ كل واحد منهما

__________________

(١) النمل ٢١.

(٢) النازعات ١.

(٣) الأنفال ٨.

(٤) يوسف ٤٥ ـ ٤٦.

(٥) معترك ج ١ ص ٣٢٣ ، الاتقان ج ٢ ص ٦٢ ، وينظر الحذف في كتاب الاشارة الى الايجاز ص ٦ وما بعدها.

(٦) المنزع البديع ص ٧٦.

(٧) الكامل ج ٢ ص ٧٠٤.

(٨) البديع في نقد الشعر ص ١٨٢.

(٩) البيان ج ١ ص ٤٤ ، كتاب الصناعتين ص ٥٨ ، زهر الآداب ج ١ ص ١١٤.

(١٠) معترك ج ١ ص ٢٩٥ ، الاتقان ج ٢ ص ٥٤ ، الروض المريع ص ١٤١.

(١١) اللسان (خصص).

٤٦

يقتضي اختصاص الحكم ببعض ما تناوله اللفظ. وقد فرّق ابن قيم الجوزية بينهما من وجوه خمسة (١) :

الأول : أنّ الناسخ لا يكون إلا متأخرا عن المنسوخ.

الثاني : أنّ النسخ لا يكون إلّا بخطاب رفع بحكم الخطاب الأول ، والتخصيص قد يقع بقول وفعل وقياس.

الثالث : أنّ نسخ الشيء لا يكون إلّا بما هو مثله في القوة أو بما هو أقوى منه في الرتبة ، والتخصيص جائز بما هو دون المخصوص في الرتبة.

الرابع : أنّ التخصيص لا يقع في حكم واحد والنسخ جائز في مثله لا سيما على أصل من يبني نسخ الشيء قبل وقته.

الخامس : أنّ التخصيص ما أخرج من الخطاب ما لم يرد به ، والنسخ رافع ما أريد اثبات حكمه.

ثم قال : «والذي اعتمد عليه المحققون أنّ التخصيص إخراج بعض ما تناوله اللفظ العام أو ما يقوم مقامه بدليل منفصل في الزمان إن كان المخصص لفظيّا أو بالحس إن كان عقليا قبل تقرير حكمه».

ثم قال : «والتخصيص يسميه أرباب علم البيان الاختصاص عندهم ولا يحسن إلا أن يكون اختصاص الشيء بمعنى ظاهر ، مثل قوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى)(٢) اختصاصها دون سائر النجوم لأنها عبدت ، وقيل : إنّ النجوم تقطع السماء طولا وهي تقطعها عرضا».

ومن كلام العرب قول الخنساء في أخيها صخر :

يذكرّني طلوع الشمس صخرا

وأذكره لكل غروب شمس

وانما خصّت هذين الوقتين لأنّ طلوع الشمس يذكرها بغارته على أعدائها ، وغروبها يذكرها باقرائه ضيفانه ، فاختصت لهذين الوقتين من بين سائر الاوقات لهذين المعنيين.

وعبارات التخصيص ثلاثة :

الأولى : إنما جاءني زيد.

الثانية : جاءني زيد لا عمرو.

الثالثة : ما جاءني إلا زيد.

فيفهم من الأولى تخصيص المجيء أو تخصيص مجيء معين ظنه المخاطب مخصوصا بغيره أو مشاركا غيره فيه فأفاد اثباته لزيد ونفيه عن غيره دفعة واحدة ومن الثانية في دفعتين ، والثالثة بأصل الوضع تفيد نفي التشريك ولهذا لا يصح «ما زيد إلا قائم لا قاعد» لأنك بقولك : «إلا قائم» نفيت عنه كل صفة تنافي القيام فيندرج فيه نفي القعود فيقع «لا قاعد» تكرارا. ويصح «إنما زيد قائم لا قاعد» فان صيغة «إنّما» موضوعة للتخصيص ويلزمه نفي الشركة فليس له من القوة ما يدلّ عليه بالوضع ، ولهذا يصح «زيد هو الجائي لا عمرو».

فدلالة الأوليين على التخصيص أقوى ، ودلالة الثالثة على نفي التشريك. وقد تذكر الثالثة في مثل ما أدعى واحد أنك قلت قولا ثم قلت بخلافه فتقول : «ما قلت إلا ما قلته قبل» وعليه قوله تعالى حكاية عن عيسى ـ عليه الصلاة والسّلام ـ : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ)(٣). ليس المعنى : اني لم أزد على ما أمرتني به أن أقوله شيئا ، ولكن المعنى : اني لم أدع مما أمرتني به أن أقوله شيئا ولم يذكر ما يخالفه.

وحكم «غير» اذا وقع موقع «إلا» حكم «إلا» ، وأما «إنما» فالاختصاص فيها يقع مع المتأخر ، فاذا قلت : «إنما ضرب عمرا زيد» فالاختصاص في الضارب كما قال سبحانه وتعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ

__________________

(١) الفوائد ص ١٥٢.

(٢) النجم ٤٩.

(٣) المائدة ١١٧.

٤٧

الْعُلَماءُ)(١). واذا قلت : «انما ضرب زيد عمرا» فالاختصاص في المضروب. واذا قلت : «إنما هذا لك» فالاختصاص في «لك» بدليل انك تقول بعده : «لا لغيرك». واذا قلت : «إنما لك هذا» فالاختصاص في «هذا» بدليل انك تقول بعده «لا ذاك» قال الله تعالى : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ)(٢) فاذا وقع بعدها الفعل فالمعنى أنّ ذلك الفعل لا يصحّ إلا من المذكور كقوله تعالى : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٣).

وقد يجمع معها حرف النفي إمّا متأخرا كقولك : «إنما جاءني زيد لا عمرو» وإما متقدما كقولك : «ما جاءني زيد وإنما جاءني عمرو» ، فهناك لو لم تدخل «إنما» كان الكلام مع من ظن أيهما جاءك ، وإن أدخلها كان الكلام مع من غلط في الجائي. ولو قلت : «إنّ عمرا جاءني» فان كانت المستغنى عنها فظهرت فائدة دخول «ما» على «إنّ» في «إنما» (٤).

الاختلاس :

الخلس : الأخذ في نهزة ومخاتلة ، والاختلاس كالخلس ، وقيل إنه أوحى من الخلس وأخص.

وخلست الشيء واختلسته وتخلّسته اذا استلبته (٥).

والاختلاس من أنواع السرقات التي ذكرها الأوائل كالقاضي الجرجاني الذي قال : «ولست تعدّ من جهابذة الكلام ونقاد الشعر حتى تميز بين أصنافه وأقسامه وتحيط علما برتبه ومنازله فتفصل بين السرق والغصب ، وبين الاغارة والاختلاس» (٦).

ولم يذكر الفرق بين الاغارة والاختلاس. وذكر ابن رشيق الاختلاس ولم يحدده واكتفى بذكر أمثلة له ، ومن ذلك قول أبي نواس :

ملك تصوّر في القلوب مثاله

فكأنه لم يخل منه مكان

اختلسه من قول كثيّر :

أريد لأنسى ذكرها فكأنّما

تمثّل لي ليلى بكل سبيل (٧)

وهذا غير الاغارة التي حدّدها بقوله : «الاغارة أن يصنع الشاعر بيتا ويخترع معنى مليحا فيتناوله من هو أعظم منه ذكرا وأبعد صوتا فيروى له دون قائله» (٨) ومعنى ذلك أنّ الاختلاس هو التأثر ، أما الاغارة فهي السلب والادعاء.

اختلاف صيغ الألفاظ واتّفاقها :

عدّ ابن الاثير اختلاف صيغ الالفاظ واتفاقها النوع السادس من الصناعة اللفظية «الالفاظ المركبة» وقال : وهو من هذه الصناعة بمنزلة عليّة ومكانة شريفة ، وجلّ الألفاظ منوطة به.

ولقد لقيت جماعة من مدعي فن الصناعة وفاوضتهم وفاوضوني وسألتهم وسألوني فما وجدت أحدا منهم تيقّن معرفة هذا الموضوع كما ينبغي ، وقد استخرجت فيه أشياء لم أسبق اليها» (٩). ومن ذلك أنّ الألفاظ اذا نقلت من هيئة الى هيئة انتقل قبحها فصار حسنا وحسنها فصار قبحا. مثل لفظة «خود» فانها المرأة الناعمة ، واذا نقلت الى صيغة الفعل قيل «خوّد» ومعناها أسرع. فهي على صيغة الاسم جميلة رائعة ، وليست حسنة اذا جاءت فعلا كما في قول أبي تمام :

__________________

(١) فاطر ٢٨.

(٢) الرعد ٤٠.

(٣) الرعد ١٩.

(٤) الفوائد ص ١٥٢ وما بعدها.

(٥) اللسان (خلس).

(٦) الوساطة ص ١٨٣.

(٧) العمدة ج ٢ ص ٢٨٧.

(٨) العمدة ج ٢ ص ٢٨٤.

(٩) المثل السائر ج ١ ص ٢٨١ ، الجامع الكبير ص ٢٧١.

٤٨

والى بني عبد الكريم تواهقت

رتك النعام رأى الظلام فخوّدا (١)

ومن ذلك لفظة «ودع» وهي فعل ماض لا ثقل بها على اللسان ، ولكنها حينما جاءت بهذه الصيغة لم تحسن كقول أبي العتاهية :

أثروا فلم يدخلوا قبورهم

شيئا من الثروة التي جمعوا

وكان ما قدّموا لأنفسهم

أعظم نفعا من الذي ودعوا

وكانت حسنة بديعة بصيغة الأمر كقوله تعالى : (وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ)(٢) وبصيغة المستقبل كما في قوله : ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقد واصل في شهر رمضان فواصل معه قوم : «لو مدّ لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع له المتعمقون تعمقهم». وقول المتنبي :

تشقّكم بقناها كل سلهبة

والضّرب يأخذ منكم فوق ما يدع (٣)

ومثل ذلك لفظة «وذر» فانها لا تأتي بصيغة الماضي وانما بصيغة الأمر كقوله تعالى : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا)(٤) ، وصيغة المستقبل كقوله : (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ. وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ. لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ)(٥).

وقد تكون اللفظة حسنة وهي مفردة ولكنها تفقد ذلك الحسن حينما تثنّى ، ومن ذلك «الأخدع» التي جاءت حسنة رائعة في قول الشاعر :

تلفتّ نحو الحيّ حتى وجدتني

وجعت من الاصغاء ليتا وأخدعا (٦)

وجاءت ثقيلة مستكرهة في قول أبي تمام :

يا دهر قوم من أخدعيك فقد

أضججت هذا الأنام من خرقك

وعلة ذلك انها في الأول مفردة وفي الثاني مثناة.

ومن الألفاظ ما لا يحسن إلا بصيغة الجمع ، كلفظة اللب أي العقل ، فانها وردت في القرآن الكريم في مواضع كثيرة وهي مجموعة ولم ترد مفردة ، كقوله تعالى : (وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٧) ، وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ)(٨).

ومنها ما لا يحسن إلا في الافراد كلفظة «الطيف» التي تفقد جمالها حينما تجمع فيقال : «طيوف».

وللصيغ أثر في الحسن والقبح ، ولكنّ الذوق والثقافة والممارسة هي التي تضع الحقيقة أمام المتذوقين ، أي أنّه لا تحدد هذه المسائل بقواعد ثابتة يرجع اليها الدارسون ، وإن كان الاستقراء يقود الى أسس عامة كما فعل ابن الأثير الذي قال : «وأما فعل وافعوعل فانا نقول : «أعشب المكان ، فاذا كثر عشبه قلنا : اعشوشب. فلفظة «افعوعل» للتكثير ، على أني استقريت هذه اللفظة في كثير من الألفاظ فوجدتها عذبة طيبة على تكرار حروفها كقولنا : اخشوشن المكان ، واغرورقت العين ، واحلولى الطعم وأشباهها. وأما «فعلة» نحو : همزة ولمزة وجثمة ونومة ولكنة ولحنة وأشباه ذلك فالغالب على هذه اللفظة أن تكون حسنة ، وهذا أخذته بالاستقراء ، وفي اللغة مواضع كثيرة لا يمكن استقصاؤها. فانظر الى ما يفعله اختلاف الصيغة بالألفاظ ، وعليك أن تتفقد أمثال هذه المواضع لتعلم كيف تضع يدك في استعمالها ، فكثيرا ما يقع فحول الشعراء والخطباء في مثلها ، ومؤلف الكلام من كاتب وشاعر إذا مرّت به ألفاظ عرضها على ذوقه الصحيح فما يجد الحسن منها

__________________

(١) تواهقت الابل : مدت أعناقها وتبارت في السير.

رتك البعير ؛ عدا في مقاربة خطو. خود ؛ سار مسرعا.

(٢) الأحزاب ٤٨.

(٣) السلهب ؛ الطويل.

(٤) الحجر ٣.

(٥) المدثر ٢٦ ـ ٢٧ ـ ٢٨.

(٦) الليت ؛ صفحة العنق. الأخدع ؛ عرق في صفحة العنق.

(٧) ص ٢٩.

(٨) الزمر ٢١.

٤٩

موحّدا وحّده ، وما يجد الحسن منها مجموعا جمعه ، وكذلك يجري الحكم فيما سوى ذلك من الألفاظ» (١).

اختلاف صيغ الكلام :

يعمد الأديب الى صيغ مختلفة من الكلام لئلا يتكرر فيثقل وتمجه الاسماع ، قال التنوخي : «واذا تكرر واختلف المعنى وكان في الكلام دليل على معنى كل واحد من المتكررين فهو التجنيس ، وهو مما يستحسن ولا يتجنب ، فان لم يكن في الكلام ما يفي بتبيين المعنيين والحاق كل واحد منهما بلفظه فذلك مما ينبغي أن يتجنب ولا يؤتى لكونه مخلا بالبيان. فاجتناب هذا النوع من قواعد علم البيان واجتناب الأول من باب البديع الذي هو من محاسن الألفاظ» (٢).

مثال الأول قول ابراهيم بن سيّار للفضل بن الربيع :

هبني أسأت وما أسأت وما أسأ

ت أقرّ كي يزداد طولك طولا

ومثال الثاني وهو مبين في الكلام قول الشاعر :

لعمري لقد حبّبت كلّ قصيرة

اليّ وإن لم تدر ذاك القصائر

عنيت قصيرات الحجال ولم أرد

قصار الخطى شرّ النساء البحاتر (٣)

فلو اقتصر على البيت الأول لكان معيبا لاحتماله القصر والقصر. والقبيح قول كشاجم في المديح :

عمرته بفتية صباح

سمح بأعراضهم شحاح

لأنّ الباء في قوله «بأعراضهم» يجوز أن تتعلق بـ «سمح» فيكون هجوا ، ويجوز أن تتعلق بـ «شحاح» فيكون مدحا ، فهو ملبس بين المدح والهجو ، وليس في البيت ما يعيّن أحدهما.

الأخذ :

الأخذ والسرقة من الموضوعات الأولى التي تحدث عنها البلاغيون (٤) ، وهما أنواع كثيرة سيرد ذكرها في هذا المعجم.

اخراج الكلام مخرج الشّكّ :

عقد الزركشي بابا في «اخراج الكلام مخرج الشك في اللفظ دون الحقيقة لضرب من المسامحة وحسم العناد» (٥). وضرب له مثلا بقوله تعالى : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٦) ، وهو يعلم أنّه على الهدى وأنّهم على الضلال لكنه أخرج الكلام مخرج الشك تقاضيا ومسامحة ، ولا شك عنده ولا ارتياب.

وقوله : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ)(٧) ، وقوله : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ)(٨). أورده على طريق الاستفهام ، والمعنى : هل يتوقع منكم إن توليتم أمور الناس وتأمّرتم عليهم لما تبين لكم من المشاهد ولاح منكم في المخايل (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) تهالكا على الدنيا.

وإنما أورد الكلام في الآية على طريق سوق غير المعلوم سياق غيره ، ليؤديهم التأمل في التوقع عمن يتصف بذلك الى ما يجب أن يكون مسببا عنه من أولئك الذين أصمّهم الله وأعمى أبصارهم ، فيلزمهم به

__________________

(١) المثل السائر ج ١ ص ٢٩١ ـ ٢٩٢.

(٢) الأقصى القريب ص ١١٨.

(٣) البحتر والبحتري ؛ القصير المجتمع الخلق.

(٤) ينظر أسرار البلاغة ص ٣١٣ ، الطراز ج ٣ ص ٢٠١ ، شرح عقود الجمان ص ١٦٣.

(٥) البرهان ج ٣ ص ٤٠٩.

(٦) سبأ ٢٤.

(٧) الزخرف ٨١.

(٨) محمد ٢٢.

٥٠

على ألطف وجه إبقاء عليهم من أن يفاجئهم به وتأليفا لقلوبهم ، ولذلك التفت عن الخطاب الى الغيبة تفاديا عن مواجهتهم بذلك.

وقد يخرج الواجب في صورة الممكن كقوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً ، مَحْمُوداً)(١).

وقد يخرج الاطلاق في صورة التقييد كقوله : (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ)(٢).

الإخلال :

الاخلال من أخلّ بالشيء أي : أجحف ، وأخلّ بالمكان وبمركزه وغيره : غاب عنه وتركه ، وأخلّ به : لم يف به (٣).

والاخلال من عيوب ائتلاف اللفظ والمعنى ، وقد عرّفه قدامة بقوله : «هو أن يترك من اللفظ ما يتم به المعنى» (٤). ومن عيوب ائتلاف اللفظ والمعنى أيضا : «أن يزيد في اللفظ ما يفسد به المعنى» (٥).

ومن الأول قول الحارث بن حلّزة :

والعيش خير في ظلا

ل النّوك ممن عاش كدّا

أراد أن يقول : «والعيش خير في ظلال النوك من العيش بكد في ظلال العقل» فترك شيئا كثيرا.

ومثال الثاني قول بعضهم :

فما نطفة من ماء نحض عذيبة

تمنّع من أيدي الرقاة ترومها

بأطيب من فيها لوانك ذقته

إذا ليلة أسجت وغارت نجومها (٦)

وسمّى البغدادي هذا الموضوع «الاخلال بالافادة».

أداة التّشبيه :

أداة التشبيه هي اللفظة التي تدل على المماثلة والمشاركة ، وقد أشار اليها القدماء وعدّوها أساسا في اظهار صور التشبيه فقال سيبويه عن «الكاف» انها «تجيء للتشبيه» (٧) ، وقال المبرد مثل ذلك (٨).

وسمّاها السكاكي «كلمة التشبيه» (٩) غير أنّ القزويني وشرّاح تلخيصه سموها «أداة التشبيه» (١٠) وهو ما سار عليه المتأخرون.

وأداة التشبيه ثلاثة أنواع :

الأول ـ أسماء : ومنها : مثل ، وشبه ، وشبيه ، ومثل.

الثاني ـ أفعال : ومنها : حسب ، وظن ، وخال ، ويشبه ، وتشابه ، ويضارع.

الثالث ـ حرفان : وهما : كأنّ ، والكاف.

وقد تحذف الأداة فيسمى التشبيه مؤكدا كقول المتنبي :

بدت قمرا ومالت غصن بان

وفاحت عنبرا ورنت غزالا

وإذا ذكرت سمّي التشبيه مرسلا كقول المتنبي :

كالبدر من حيث التفتّ رأيته

يهدي الى عينيك نورا ثاقبا

كالشمس في كبد السماء وضوؤها

يغشى البلاد مشارقا ومغاربا

__________________

(١) الاسراء ٧٩.

(٢) الأعراف ٤٠.

(٣) اللسان (خلل).

(٤) نقد الشعر ص ٢٤٥ ، الموشح ص ٣٦٣ ، نضرة الاغريض ص ٤٢٧ ، قانون البلاغة ص ٤١٩.

(٥) نقد الشعر ص ٢٤٧ ، الموشح ص ٣٦٤ ، نضرة الاغريض ص ٤٢٨.

(٦) النطفة ؛ الماء الصافي قل أو كثر. أسجت ؛ سكنت.

(٧) الكتاب ج ٢ ص ١٧١.

(٨) المقتضب ج ٤ ص ١٤٠.

(٩) مفتاح العلوم ص ١٦٧.

(١٠) الايضاح ص ٢٣٥ ، التلخيص ص ٢٤٣ ، شروح التلخيص ج ٣ ص ٣٨٦ ، المطول ص ٣١١ ، الاطول ج ٢ ص ٦٥.

٥١

كالبحر يقذف للقريب جواهرا

جودا ويبعث للبعيد سحائبا

والأول عند البلاغيين أبلغ لأنّ الأداة محذوفة.

الإدماج :

الادماج : اللف ، يقال : أدمج الحبل أي : أجاد فتله ، وقيل : أحكم فتله ، ودمج الشيء دموجا إذا دخل في الشيء واستتر فيه ، وأدمجت الشيء إذا لففته في ثوب.

فالادماج إدخال الشيء في الشيء (١).

وقد بحث الاوائل هذا الفن وعقد العسكري فصلا باسم «المضاعفة» قال : «هو أن يتضمن الكلام معنيين :معنى مصرح به ومعنى كالمشار اليه» (٢). ولكن البلاغيين الآخرين عقدوا بابا باسم «الادماج» ؛ وعدّه ابن رشيق من الاستطراد ، وقال : «ومن الاستطراد نوع يسمى الادماج» (٣). وعقد له ابن منقذ بابا سماه «باب التعليق والادماج» وقال عنه : «هو أن تعلق مدحا بمدح وهجوا بهجو ومعنى بمعنى» (٤). ولكنّ المصري فرّق بين هذين الفنين فقال : «والفرق بين التعليق والادماج أنّ التعليق يصرح فيه بالمعنيين المقصودين على شدة اتحادهما ، والادماج يصرح فيه بمعنى غير مقصود قد أدمج فيه المعنى المقصود» (٥).

وكان قد عرّف التعليق بقوله : «هو أن يأتي المتكلم بمعنى في غرض من أغراض الشعر ثم يعلّق به معنى آخر من ذلك الغرض يقتضي زيادة معنى من معاني ذلك الفن كمن يروم مدحا لانسان بالكرم فيعلق بالكرم شيئا يدلّ على الشجاعة بحيث لو أراد أن يخلص ذكر الشجاعة من الكرم لما قدر» (٦). كقوله تعالى : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ)(٧) ، فانه ـ سبحانه وتعالى ـ لو اقتصر على وصفهم بالذل على المؤمنين لاحتمل أن يتوهم ضعيف الفهم أنّ ذلهم عجز وضعف ، فنفى ذلك عنهم وكمّل المدح لهم بذكر عزّهم على الكافرين ليعلم أنّ ذلهم للمؤمنين عن تواضع لله ـ سبحانه ـ لا عن ضعف ولا عجز بلفظ اقتضت البلاغة الاتيان به ليتم بديع اللفظ كما تمّ المدح ، فحصل في هذه الألفاظ الاحتراس مدمجا في المطابقة وذلك تبع للتعليق الذي هو المطلوب من الكلام.

ومنه قول بعضهم :

أترى القاضي أعمى

أم تراه يتعامى

سرق العيد كأنّ العي

د أموال اليتامى

فعلق خيانة القاضي في أموال اليتامى بما قدمه من خيانته في أمر العيد برابطة التشبيه.

وعرّف الادماج بقوله : «هو أن يدمج المتكلم غرضا له في ضمن معنى قد نحاه من جملة المعاني ليوهم السامع أنّه لم يقصده ، وإنما عرض في كلامه لتتمة معناه الذي قصد اليه» (٨). كقوله تعالى : (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ)(٩) ، فان هذه الجملة أدمج فيها المبالغة في الحمد ضمن المطابقة إذ أفرد نفسه ـ سبحانه ـ بالحمد حيث لا يحمد سواه.

ومنه قول بعض الاندلسيين :

أأرضى أن تصاحبني بغيضا

مجاملة وتحملني ثقيلا

__________________

(١) اللسان (دمج) ، التعريفات ص ١٠ ، أنوار الربيع ج ٦ ص ٢٧٩.

(٢) كتاب الصناعتين ص ٤٢٣.

(٣) العمدة ج ٢ ص ٤١ ، وينظر المنزع البديع ص ٤٦٤.

(٤) البديع في نقد الشعر ص ٥٨.

(٥) تحرير التحبير ص ٤٥١ ، بديع القرآن ص ١٧٣.

(٦) تحرير ص ٤٤٣ ، بديع القرآن ص ١٧١.

(٧) المائدة ٥٤.

(٨) تحرير ص ٤٤٩ ، بديع القرآن ص ١٧٢.

(٩) القصص ٧٠.

٥٢

وحقّك لارضيت بذا لأني

جعلت وحقّك القسم الجليلا

والبيت الثاني المقصود ؛ لأنه أدمج فيه الغزل في العتاب من الفنون ، والمبالغة في القسم من البديع.

وقسّمه ابن مالك قسمين :

الأول : يتضمن التصريح بمعنى من فن كفاية عن معنى من فن آخر كقول بعضهم :

أبى دهرنا إسعافنا في نفوسنا

فأسعفنا فيمن نحبّ ونكرم

فقلت له نعماك فيهم أتمّها

ودع أمرنا إنّ المهمّ المقدّم

فأدمج شكوى الزمان في التهنئة.

وقول ابن نباتة السعدي :

ولا بدّ لي من جهلة في وصاله

فمن لي بخلّ أودع الحلم عنده

فأدمج الفخر في الغزل.

الثاني : أن يقصد المتكلم الى نوع من البديع فيجيء في ضمنه بنوع آخر كقول بعض الاندلسيين السابق : «أأرضى أن تصاحبني ...» (١).

وسار المتأخرون على هذا التحديد والتقسيم (٢) ، وقالوا إنّ الادماج أعمّ من الاستتباع لأنه «تضمين كلام سيق لمعنى معنى آخر» كقول المتنبي :

أقلّب فيه أجفاني كأني

أعدّ بها على الدهر الذنوبا

فانه ضمن وصف الليل بالطول الشكاية من الدهر ، والاستتباع هو «المدح بشيء على وجه يستتبع المدح بشيء آخر» كقول المتنبي :

نهبت من الاعمار ما لو حويته

لهنّئت الدنيا بأنك خالد

فانه مدحه ببلوغه النهاية في الشجاعة إذ كثر قتلاه بحيث لو ورث أعمارهم لخلد في الدنيا على وجه استتبع مدحه بكونه سببا لصلاح الدنيا مهنأة بخلوده.

الارتفاد :

الارتفاد : الكسب ، يقال : ارتفد المال اكتسبه (٣).

وقد ذكره ابن رشيق في باب «الحشو وفضول الكلام» وقال معلقا على قول الشاعر :

ولو قبلت في حادث الدهر فدية

لقلنا على التحقيق نحن فداؤه

«فقوله ـ على التحقيق ـ حشو مليح فيه زيادة فائدة ، ومن الناس من يسمي هذا النوع من الكلام ارتفادا ، وأنشد بعض العلماء قول قيس بن الخطيم :

قضى لها الله حين صوّرها الخا

لق أن لا يكنّها سدف

والاتكاء عنده والارتفاد هو قول الشاعر «صوّرها الخالق» لان اسم الله ـ تعالى ـ قد تقدم» (٤).

الارتقاء :

هو الانتقال من الأدنى الى الأعلى في الوجه المراد مثل : «لا أبالي بالوزير ولا بالسلطان» (٥).

__________________

(١) المصباح ص ١٢٢ ـ ١٢٣.

(٢) ينظر حسن التوسل ص ٢٩٦ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٦٤ ، جوهر الكنز ص ٣٠٠ ، الايضاح ص ٣٧٥ التلخيص ص ٣٨٣ ، الطراز ج ٣ ص ١٥٧ ، شروح التلخيص ج ٤ ص ٣٩٨ ، المطول ص ٤٤٢ ، الأطول ج ٢ ص ٢١٨ ، خزانة الأدب ص ٤٥٧ ، معترك ج ١ ص ٣٨٧ ، الاتقان ج ٢ ص ٨٧ ، شرح عقود الجمان ص ١٢٦ ، حلية اللب ص ١٤٤ ، أنوار الربيع ج ٦ ص ٢٧٩ ، نفحات ص ٣٠٧ ، التبيان في البيان ص ٣٢٢ ، شرح الكافية ص ٣١٤.

(٣) اللسان (رفد).

(٤) العمدة ج ٢ ص ٧١.

(٥) حلية اللب ص ١٧١.

٥٣

الإرداف :

الإرداف من أردف ، يقال : أردفه ، أي ركب خلفه ، أي حمله خلفه على ظهر الدابة ، فهو رديف وردف (١).

والإرداف مما فرّعه قدامة من ائتلاف اللفظ مع المعنى وسماه هذه التسمية ، وقال عنه : «هو أن يريد الشاعر دلالة على معنى من المعاني فلا يأتي باللفظ الدال على ذلك المعنى بل بلفظ يدل على معنى هو ردفه وتابع له ، فاذا دلّ على التابع أبان عن المتبوع» (٢).

وكان المتقدمون كابن قتيبة وابن المعتز. قد بحثوا ذلك في باب الكناية والتعريض (٣) ولكن البلاغيين ساروا على مذهب قدامة فعرّفه العسكري بقوله : «الارداف والتوابع : أن يريد المتكلم الدلالة على معنى فيترك اللفظ الدال عليه الخاص به ، ويأتي بلفظ هو ردفه وتابع له ، فيجعله عبارة عن المعنى الذي أراده» (٤). وسمّاه ابن رشيق التتبيع وقال : «ومن أنواع الاشارة : التتبع وقوم يسمونه التجاوز ، وهو أن يريد الشاعر ذكر الشيء فيتجاوزه ويذكر ما يتبعه في الصفة وينوب عنه في الدلالة عليه» (٥).

وسماه ابن سنان الإرداف والتتبيع وقال : «ومن نعوت البلاغة والفصاحة أن تراد الدلالة على المعنى فلا يستعمل اللفظ الخاص الموضوع له في اللغة بل يؤتى بلفظ يتبع ذلك المعنى ضرورة فيكون في ذكر التابع دلالة على المتبوع. وهذا يسمى الإرداف والتتبيع ؛ لأنّه يؤتى فيه بلفظ هو ردف اللفظ المخصوص لذلك المعنى وتابعه» (٦).

وسمّاه التبريزي الإرداف وقال : «هو أن يريد الشاعر دلالة على معنى فلا يأتي باللفظ الدال عليه بل بلفظ هو تابع له» (٧). ونقل البغدادي هذا التعريف كما نقل تعريف قدامة (٨).

وعدّه ابن الأثير القسم الثاني من الكناية وذكر أنّ هذه تسمية قدامة ثم قال : «هو أن تراد الاشارة الى معنى فيترك اللفظ الدال عليه ويؤتى بما هو دليل عليه ومرادف له» (٩). وفرّعه الى خمسة فروع :

الأول : فعل المبادهة كقوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ)(١٠). فان المراد بقوله تعالى (لَمَّا جاءَهُ) أي أنّه سفيه الرأي ، يعني أنّه لم يتوقف في تكذيب وقت ما سمعه ولم يفعل كما يفعل المراجيح العقول المتثبتون في الأشياء ، فانّ من شأنهم إذا ورد عليهم أمر أو سمعوا خبرا أن يستعملوا فيه الروية والفكر ، ويتأنوا في تدبره الى أن يصح لهم صدقه أو كذبه ، فقوله (لَمَّا جاءَهُ) يعني أنّه ضعيف العقل عازب الرأي ، وقد عدل عن هذه العبارة الصريحة بقوله (لَمَّا جاءَهُ) وذلك آكد وأبلغ في هذا الباب.

الثاني : باب «مثل» كقول الرجل إذا نفى عن نفسه القبيح : «مثلي لا يفعل هذا». أي : أنا لا أفعله فنفى ذلك عن مثله وهو يريد نفيه عن نفسه قصدا للمبالغة فسلك به طريق الكناية لأنّه إذ نفاه عمن يماثله أو يشابهه فقد نفاه عنه لا محالة.

الثالث : هو ما يأتي في جواب الشرط كقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ)(١١) ، كأنه قال : «إن كنتم منكرين يوم البعث فهذا يوم البعث» فكنّى بقوله : (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) عن بطلان قولهم وكذبهم فيما ادّعوه وذلك رادف له.

الرابع : الاستثناء من غير موجب كقوله تعالى :

__________________

(١) اللسان (ردف) ، أنوار الربيع ج ٦ ص ٥٠.

(٢) نقد الشعر ص ١٧٨ ، جواهر الألفاظ ص ٧.

(٣) تأويل مشكل القرآن ص ١٩٩ ، البديع ص ٦٤.

(٤) كتاب الصناعتين ص ٣٥٠.

(٥) العمدة ج ١ ص ٣١٣.

(٦) سر الفصاحة ص ٢٧٠.

(٧) الوافي ص ٢٦٥.

(٨) قانون البلاغة ص ٤١٨ ، ٤٣٩.

(٩) الجامع الكبير ص ١٦٠.

(١٠) العنكبوت ٦٨.

(١١) الروم ٥٦.

٥٤

(لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ)(١) ، والضريع نبت وهو يبيس الشبرق ، ولا تقربه الابل أو الدواب لخبثه ، والمعنى ليس لهم طعام أصلا ، لأنّ الضريع ليس بطعام البهائم فضلا عن الانس.

ومن ذلك قول بعضهم :

وتفرّدوا بالمكرمات فلم يكن

لسواهم منها سوى الحرمان

والمراد نفي المكرمات عن سواهم لأنّه إذا كان لهم الحرمان من المكرمات فمالهم منها شي البتة.

الخامس : ليس مما تقدم بشيء كقوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)(٢) والمعنى المراد من هذا الكلام أنّك أخطأت وبئسما فعلت ، وقوله : (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) بيان لما كنى عنه بالعفو أي مالك أذنت لهم وهل أستأنيت؟ فذكر العفو دليل على الذنب ورادف له وإن لم يذكره.

ومن ذلك قول كثيّر :

وددت وما تغني الودادة أنني

بما في ضمير الحاجبية عالم

فان كان خيرا سرّني وعلمته

وإن كان شرا لم تلمني اللوائم

فان المراد من قوله «لم تلمني» أني أهجرها فأضرب عن ذلك جانبا ولم يذكر اللفظ المختص به ولكنه ذكر ما هو دليل عليه ورادف له.

ورجع المصري الى ما بدأه قدامة ونقل تعريفه وبعض أمثلته (٣) ، وقرّق الحموي بين الإرداف والكناية وقال : «قالوا : إنه هو والكناية شيء واحد.

قلت : إذ كان الأمر كذلك كان الواجب اختصارهما ، وانّما أئمة البديع كقدامة والحاتمي والرماني قالوا إنّ الفرق بينهما ظاهر. والإرداف هو أن يريد المتكلم معنى فلا يعبر عنه بلفظه الموضوع له بل يعبر عنه بلفظ هو رديفه وتابعه كقوله تعالى : (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ)(٤) فانّ حقيقة ذلك : جلست على المكان ، فعدل عن اللفظ الخاص بالمعنى الى لفظ هو رديفه ، وإنّما عدل عن لفظ الحقيقة لما في الاستواء الذي هو لفظ الإرداف من الإشعار بجلوس متمكن لا زيغ فيه ولا ميل. وهذا لا يحصل من لفظ «جلست» و «قعدت». ومن الامثلة الشعرية على الإرداف قول أبي عبادة البحتري يصف طعنة :

فأوجرته أخرى فأحالمت نصلها

بحيث يكون اللبّ والرعب والحقد (٥)

ومراده القلب فذكره بلفظ الإرداف.

والفرق بين الإرداف وبين الكناية أنّ الإرداف قد تقرر أنّه عبارة عن تبديل الكلمة بردفها ، والكناية هي العدول عن التصريح بذكر الشيء الى ما يلزم ؛ لأنّ الإرداف ليس فيه انتقال من لازم الى ملزوم ، والمراد بذلك انتقال المذكور الى المتروك كما يقال : «فلان كثير الرماد» ومراده نقله الى ملزومه وهي كثرة الطبخ للأضياف» (٦). ويبدو أنّ هذا التمييز لم يقع إلا بعد أن خاض السكاكي وشراح التلخيص في مباحث البلاغة التي ربطوها بالمنطق ، ولذلك فرّق السيوطي مثل ذلك التفريق وقال : «قال بعضهم : والفرق بين الكناية والإرداف أنّ الكناية انتقال من لازم الى ملزوم ، والإرداف من مذكور الى متروك» (٧). وذكر المدني أنّه والكناية شي واحد عند علماء البيان ، غير أنّ أئمة البديع فرقوا بينهما (٨).

__________________

(١) الغاشية ٦.

(٢) التوبة ٤٣.

(٣) تحرير التحبير ص ٢٠٧ ، بديع القرآن ص ٨٣.

(٤) هود ٤٤.

(٥) أوجره الرمح ؛ طعنه به في فيه.

(٦) خزانة الأدب ص ٣٧٦.

(٧) معترك ج ١ ص ٢٩٠ ، الاتقان ج ٢ ص ٤٨ ، شرح عقود الجمان ص ١١٧ ، الروض المريع ص ١١٧.

(٨) أنوار الربيع ج ٦ ص ٥١ ، وينظر نفحات ص ٧٩ ، شرح الكافية ص ١٩٩.

٥٥

ومن أمثلة الإرداف قول ابن أبي ربيعة :

بعيدة مهوى القرط إمّا لنوفل

أبوها وإما عبد شمس وهاشم

أراد أن يصف طول الجيد فلم يذكره بلفظه الخاص بل أتى بمعنى هو تابع لطول الجيد وهو بعد مهوى القرط.

وقول ليلى الأخيلية :

ومخرّق عنه القميص تخاله

بين البيوت من الحياء سقيما

أرادت وصفه الجود والكرم فجاءت بالإرداف والتوابع لهما ، أما ما يتبع الجود فانّ تخرق قميص هذا المنعوت فسرّ أنّ العفاة تجذبه فتخرّق قميصه من مواصلة جذبهم إياه ، وأما ما يتبع الكرم فالحياء الشديد الذي كأنه من إماتته نفس هذا الموصوف وإزالته عنه يخال سقيما.

ومنه قول الحكم الخضري :

قد كان يعجب بعضهنّ براعتي

حتى سمعن تتحنحي وسعالي

أراد وصف الكبر والسن فلم يأت باللفظ بعينه ، ولكنه أتى بتوابعه وهي السعال والتنحنح.

إرسال المثل :

ذكره الثعالبي ولم يعرّفه (١) ، وقال الحموي : «إرسال المثل نوع لطيف في البديع ولم ينظمه في بديعته غير الشيخ صفي الدين ، وهو عبارة عن أن يأتي الشاعر في بعض بيت بما يجري مجرى المثل من حكمة أو نعت أو غير ذلك مما يحسن التمثيل به» (٢). ونقل المدني هذا التعريف (٣). وذكره السبكي في البديع وقال عنه : «هو أن يورد المتكلم مثلا في كلامه ، وقد عرف ذلك في علم البيان في مجاز التمثيل» (٤).

وكان الوطواط والحلبي والنويري قد ذكروه قبل ذلك ولكنهم لم يعرّفوه (٥) ، وذكروا له أمثلة كقول أبي فراس الحمداني :

تهون علينا في المعالي نفوسنا

ومن نكح الحسناء لم يغلها المهر

وقول المتنبي :

وحيد من الخلّان في كلّ بلدة

إذا عظم المطلوب قلّ المساعد

تبكّي عليهن البطاريق في الدجى

وهنّ لدينا ملقيات كواسد

بذا قضت الأيام ما بين أهلها

مصائب قوم عند قوم فوائد

ومن إرسال المثل قوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)(٦) وقوله : (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ)(٧) ، وقوله : (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ)(٨) وقوله : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)(٩).

ومن كلامه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» ، وقوله : «آفة العلم النسيان وإضاعته أن تحدّث به غير أهله» ، وقوله : «الحياء من الايمان» وقوله : «لا ضرر ولا ضرار في الاسلام».

ومن ذلك قول زهير :

__________________

(١) يتيمة الدهر ج ١ ص ٢١٤ ، ٢١٩.

(٢) خزانة ص ٨٣.

(٣) أنوار ج ٢ ص ٥٩ ، نفحات ص ١٠٩.

(٤) عروس الافراح ج ٤ ص ٤٧٣.

(٥) حدائق السحر ص ١٥٥ ، حسن التوسل ص ٢٤٢ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٢٧ ، التبيان في البيان ص ٢٨١ ، شرح الكافية ص ١١٨.

(٦) آل عمران ٩٢.

(٧) يوسف ٤١.

(٨) هود ٨١.

(٩) المدثر ٣٨.

٥٦

ومن يجعل المعروف من دون عرضه

يفره ومن لا يتق الشّتم يشتم

وقول النابغة :

ولستّ بمستبق أخا لا تلمّه

على شعث ، أيّ الرجال المهذّب؟

وقول الأفوه الأودي :

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم

ولا سراة إذا جهّالهم سادوا

وقول لبيد :

وما المال والأهلون إلّا وديعة

ولا بدّ يوما أن تردّ الودائع

وقول القطامي :

قد يدرك المتأني بعض حاجته

وقد يكون مع المستعجل الزّلل

وقول بشار :

إذا كنت في كلّ الأمور معاتبا

صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه

وقوله :

من راقب الناس لم يظفر بحاجته

وفاز بالطيبات الفاتك اللهج

وقول أبي العتاهية :

إنّ الشباب حجّة التصابي

روائح الجنة في الشباب

وقول المتنبي :

إني لأعلم واللبيب خبير

أنّ الحياة وإن حرصت غرور

وقوله :

تلذّ له المروءة وهي تؤذي

ومن يعشق يلذّ له الغرام

وقوله :

على قدر أهل العزم تأتي العزائم

وتأتي على قدر الكرام المكارم

إرسال المثلين :

ذكره الثعالبي (١) ، وعرّفه الوطواط بقوله : «وتكون هذه الصنعة بأن يذكر الشاعر مثلين في بيت واحد» (٢). وقال الرازي : «هو عبارة عن الجمع بين المثلين» (٣). ونقل الحلبي والنويري هذا التعريف (٤).

ومن شواهد هذا الفن قول لبيد :

ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل

وكلّ نعيم لا محالة زائل

وقول أبي فراس :

ومن لم يوقّ الله فهو مضيّع

ومن لم يعزّ الله فهو ذليل

وقول المتنبي :

أعزّ مكان في الدنا سرج سابح

وخير جليس في الزمان كتاب

وقوله :

وكلّ امرىء يولي الجميل محبّب

وكلّ مكان ينبت العزّ طيّب

الإرصاد :

الإرصاد : الانتظار والاعداد ، ويقال : أرصدته إذا قعدت له على طريقه ترقبه (٥).

والإرصاد : هو أن يجعل قبل العجز من الفقرة أو البيت ما يدل على العجز إذا عرف الرويّ. ويسمّى

__________________

(١) يتيمة الدهر ج ١ ص ١١٧. (٢) حدائق السحر ص ١٥٦.

(٣) نهاية الايجاز ص ١١٢. (٥) اللسان (رصد). (٤) حسن التوسل ص ٢٤٢ ، ونهاية الارب ج ٧ ص ١٢٨.

٥٧

«التسهيم» ، وهو مأخوذ من الثوب المسهم ، وهو الذي يدل أحد سهامه على الآخر الذي قبله لكون لونه يقتضي أن يليه لون مخصوص به لمجاورة اللون الذي قبله. وكان ابن المقفع قد ذكره وإن لم يسمّه حينما قال : «وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك ، كما أنّ خير أبيات الشعر البيت الذي اذا سمعت صدره عرفت قافيته» (١). وعلّق الجاحظ عليه بقوله : «كأنه يقول : فرق بين صدر خطبة النكاح وبين صدر خطبة العيد وخطبة الصلح وخطبة التواهب حتى يكون لكل فن من ذلك صدر يدل على عجزه فانّه لا خير في كلام لا يدلّ على معناك ولا يشير الى مغزاك والى العمود الذي اليه قصدت والغرض الذي اليه نزعت».

وسماه قدامة التوشيح وقال : «هو أن يكون أول البيت شاهدا بقافيته ومعناها متعلقا به حتى أنّ الذي يعرف قافية القصيدة التي البيت منها إذا سمع أول البيت عرف آخره وبانت له قافيته» (٢). وفضّل العسكري أن يسمى التبيين وقال : «سمّي هذا النوع التوشيح ، وهذه التسمية غير لازمة بهذا المعنى ولو سمي تبيينا لكان أقرب. وهو أن يكون مبتدأ الكلام ينبئ عن مقطعه ، وأوله يخبر بآخره ، وصدره يشهد بعجزه حتى لو سمعت شعرا أو عرفت رواية ثم سمعت صدر بيت منه وقفت على عجزه قبل بلوغ السماع اليه. وخير الشعر ما تسابق صدره واعجازه ومعانيه وألفاظه» (٣).

ورأى ابن الأثير أنّ تسميته بالارصاد أولى ، وذلك حيث ناسب الاسم مسمّاه ولاق به ، أما التوشيح فنوع آخر من علم البيان» (٤). وسماه القزويني وشراح تلخيصه إرصادا وقال إنّه يسمى التسهيم أيضا (٥).

وذكر ابن رشيق تسمية قدامة وإن سماه تسهيما كما سماه علي بن هارون المنجم. قال الحاتمي : «قلت لعلي بن هارون المنجم : ما رأيت أعلم بصناعة الشعر منك في التسهيم ، فقال : وهذا لقب اخترعناه نحن. قلت : وما كيفيته؟ فأجابني بجواب لم يبرزه في عبارة يحكيها عن غيره : إنّ صفة الشعر المسهّم أن يسبق المستمع الى قوافيه قبل أن ينتهي اليها راوية منذ الشطر الأول قبل أن يخرج الى الشطر الأخير ومن قبل أن يسمعه» (٦). وسماه ابن وكيع المطمع (٧) ، وذكر ابن سنان ان بعضهم يسميه توشيحا (٨) ، وبعضهم يسميه تسهيما (٩) وسماه توشيحا المصري وابن مالك وابن الاثير الحلبي (١٠) ، والتوشيح عند ابن منقذ «هو أن تريد الشي فتعبر عنه عبارة حسنة وإن كانت أطول منه» (١١) كقول ابن المعتز :

آذريون أتاك في طبقه

كالمسك في ريحه وفي عبقه

__________________

(١) البيان والتبين ج ١ ص ١١٦.

(٢) نقد الشعر ص ١٩١.

(٣) كتاب الصناعتين ص ٣٨٢.

(٤) المثل السائر ج ٢ ص ٣٥٠.

(٥) الايضاح ص ٣٤٧ ، التلخيص ص ٣٥٦ ، شروح التلخيص ج ٤ ص ٣٠٥ ، المطول ص ٤٢٢ الاطول ج ٢ ص ١٩٠.

(٦) حلية المحاضرة ج ١ ص ١٥٢.

(٧) العمدة ج ٢ ص ٣١.

(٨) سر الفصاحة ص ١٨٧.

(٩) الوافي ص ٢٧١ ، قانون البلاغة ص ٤٤٣ ، البديع في نقد الشعر ص ١٢٧ ، الرسالة العسجدية ص ١٥٢ ، التبيان ص ١٨٣ ، تحرير التحبير ص ٢٦٣ ، بديع القرآن ص ١٠٠ ، منهاج البلغاء ص ٩٤ ، المصباح ص ٨٩ ، حسن التوسل ص ٢٦٦ ، بديع القرآن ص ١٠٠ ، منهاج البلغاء ص ٩٤ ، المصباح ص ٨٩ ، حسن التوسل ص ٢٦٦ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٤٢ ، جوهر الكنز ص ٢٤٨ ، الفوائد ص ٢٤٣ ، أنوار الربيع ج ٤ ص ٣٣٦ ، حلية اللب ص ١٣٤ ، التبيان في البيان ص ٣٢٦.

(١٠) تحرير ص ٢٢٨ ، بديع القرآن ص ٩٠ ، المصباح ص ٩١ ، جوهر الكنز ص ٢١٣.

(١١) البديع في نقد الشعر ص ٨٩.

٥٨

قد نفض العاشقون ما صنع ال

هجر بألوانهم على ورقه

فمدار البيت موضوع على أنه أصفر. وليس كذلك الإرصاد الذي اتفق عليه المتأخرون كالقزويني الذي قال : «الارصاد ويسمى التسهيم أيضا ، وهو أن يجعل قبل العجز من الفقرة أو البيت ما يدل على العجز اذا عرف الرويّ» (١) ، وتبعه في ذلك شراح تلخيصه كالسبكي والتفتازاني والاسفراييني والمغربي (٢).

وفرّق الحموي بين التوشيح والتسهيم فقال : «اتفق علماء البديع على أنّ التوشيح أن يكون معنى أول الكلام دالا على لفظ آخره ولهذا سموه التوشيح فانه ينزل فيه المعنى منزلة الوشاح وينزل أول الكلام وآخره منزلة محل الوشاح من العاتق والكشح اللذين يجول عليهما الوشاح» (٣). وقال عن التسهيم : «وتعريفه أن يتقدم من الكلام ما يدلّ على ما يتأخر تارة بالمعنى وتارة باللفظ كأبيات أخت عمرو ذي كلب فان الحذاق بمعاني الشعر وتأليفه يعلمون معنى قولها : «فاقسم يا عمرو لو نبهاك» يقتضي أن يكون تمامه : «إذن نبها منك داء عضالا» دون غيره من القوافي لأنه قال مكان «داء عضالا» : ليثا غضوبا ، أو : أفعى قتولا ، أو ما ناسب ذلك لكان «الداء العضال» أبلغ إذ كل منهما ممكن مغالبته والتوقي منه ، والداء العضال لا دواء له.

وهذا مما يعرف بالمعنى ، وأما ما يدلّ على الثاني دلالة لفظية فهو قولها بعده :

إذن نبّها ليث عرّيسة

مقيتا مفيدا نفوسا ومالا

وخرق تجاوزت مجهولة

بوجناء حرف تشكّى الملالا

فكنت النهار به شمسه

يقتضي أن يتلوه :

وكنت دجى الليل فيه الهلالا

ومنه قول البحتري :

أحلّت دمي من غير جرم وحرّمت

بلا سبب يوم اللقاء كلامي

فليس الذي قد حلّلت بمحلل

ومن هنا يعرف المتأدب أنّ تمامه :

وليس الذي قد حرّمت بحرام (٤)

وهذا الفن من محمود الصنعة لأنّ خير الكلام ما دلّ بعضه على بعض (٥) ومن أمثلته في كتاب الله قوله : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ، وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(٦). فاذا وقف السامع على قوله تعالى : (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ) عرف أنّ بعده (يَخْتَلِفُونَ) لما تقدم من الدلالة عليه. ومنه قوله : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً ، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ)(٧) ، فاذا وقف السامع على قوله ـ عزوجل ـ (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ) علم أنّ بعده (لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) وقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(٨) ، فانّ أول الآية يدل على آخرها.

ومنه قول زهير :

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش

ثمانين حولا ـ لا أبا لك ـ يشأم

وقول الآخر :

__________________

(١) الايضاح ص ٣٤٧ ، التلخيص ص ٣٥٦.

(٢) شروح التلخيص ج ٤ ص ٣٠٥ ، المطول ص ٤٢٢ ، الأطول ج ٢ ص ١٩٠.

(٣) خزانة الأدب ص ١٠٠.

(٤) خزانة الأدب ص ٣٧٤.

(٥) المثل السائر ج ٢ ص ٣٤٨ ، الجامع الكبير ص ٢٣٨.

(٦) يونس ١٩.

(٧) العنكبوت ٤١.

(٨) العنكبوت ٤٠.

٥٩

اذا لم تستطع شيئا فدعه

وجاوزه الى ما تستطيع

وقول البحتري :

أبكيكما دمعا ولو أني على

قدر الجوى أبكي بكيتكما دما

الازدواج :

الازدواج من أزدوج ، وازدوج الكلام وتزاوج أشبه بعضه بعضا في السجع أو الوزن ، او كان لاحدى القضيتين تعلق بالأخرى (١).

وكان الجاحظ قد عقد في «البيان والتبين» بابا سماه «من مزدوج الكلام» (٢) لم يعرّفه ، ولكن الأمثلة التي ذكرها تدل على أنّه أراد تساوي الفقرتين في الطول مع السجع ، كقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في معاوية : «اللهم علّمه الكتاب والحساب ، وقه العذاب».

وعقد العسكري بابا في «السجع والازدواج» وقال : «لا يحسن منثور الكلام ولا يحلو حتى يكون مزدوجا» (٣). ولم يفرق بين المصطلحين ، وكأن الازدواج عنده مرتبط بالسجع أو التوازن بين العبارتين اللتين تأتيان مسجوعتين أحيانا وغير مسجوعتين أحيانا اخرى ، ولكنه يفضل أن تكونا مسجوعتين ، قال وهو يتحدث عن وجوه السجع : «والذي هو دونهما أن تكون الأجزاء متعادلة وتكون الفواصل على أحرف متقاربة المخارج إذا لم يمكن أن تكون من جنس واحد ... والذي ينبغي أن يستعمل في هذا الباب ولا بدّ منه هو الأزدواج فان أمكن أن يكون كل فاصلتين على حرف واحد أو ثلاث أو اربع لا يتجاوز ذلك كان أحسن فان جاوز ذلك نسب الى التكلف. وإن أمكن أيضا أن تكون الأجزاء متوازنة كان أجمل وإن لم يكن ذلك فينبغي أن يكون الجزء الأخير أطول على أنّه قد جاء في كثير من ازدواج الفصحاء ما كان الجزء الأخير منه أقصر ... وينبغي أيضا أن تكون الفواصل على زنة واحدة وإن لم يمكن أن تكون على حرف واحد فيقع التعادل والتوازن». وتحدث عن عيوب الازدواج ، ومن ذلك التجميع وهو «أن تكون فاصلة الجزء الأول بعيدة المشاكلة لفاصلة الجزء الثاني» ، ومن عيوبه التطويل وهو «أن تجي الجزء الأول طويلا فتحتاج الى إطالة الثاني ضرورة».

وتحدث الخفاجي عن السجع والازدواج في باب واحد (٤) ، ولكنه قسّم الفواصل الى قسمين : ضرب يكون سجعا وهو ما تماثلت حروفه في المقاطع ، وضرب لا يكون سجعا ، وهو ما تقابلت حروفه في المقاطع ولم تتماثل. ولا يخلو كل واحد من هذين القسمين أي المتماثل والمتقارب من أن يكون يأتي طوعا سهلا وتابعا للمعاني وبالضد من ذلك حتى يكون متكلفا يتبعه المعنى. فان كان من القسم الأول فهو المحمود الدال على الفصاحة وحسن البيان ، وإن كان من الثاني فهو مذموم مرفوض.

ويبدو أنّه يريد بالازدواج المتقارب أي الذي لا تتماثل حروفه في المقاطع.

وعرّفه ابن منقذ بقوله : «هو أن تزاوج بين الكلمات والجمل بكلام عذب وألفاظ عذبة حلوة» (٥). ونقل ابن قيم الجوزية هذا التعريف (٦).

وقال المصري : «هو أن يأتي الشاعر في بيته من أوله الى آخره بجمل ، كل جملة فيها كلمتان مزدوجتان ، كل كلمة إما مفردة أو جملة. وأكثر ما يقع هذا النوع في أسماء مثناة مضافة» (٧).

وأطلقه الرماني على قسم من التجانس الذي

__________________

(١) اللسان (زوج).

(٢) البيان ج ٢ ص ١١٦.

(٣) كتاب الصناعتين ص ٢٦٠.

(٤) سر الفصاحة ص ٢٠٣.

(٥) البديع في نقد الشعر ص ١١١.

(٦) الفوائد ص ٢٢٥.

(٧) تحرير التحبير ص ٤٥٢.

٦٠