معجم المصطلحات البلاغيّة وتطوّرها

الدكتور أحمد مطلوب

معجم المصطلحات البلاغيّة وتطوّرها

المؤلف:

الدكتور أحمد مطلوب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة لبنان ناشرون
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٥

«مقتدر» ليشعر بالزيادة على زيادة قدرة الله تعالى والبيان عن عظم شأنه. ومن هذا المعنى قول أبي نواس :

فعفوت عني عفو مقتدر

أحلت له نعم فألفاها

والعرب عادتها أن تزيد في بناء الاسم ليشعر بزيادة المعنى الدال عليه» (١).

وكان ابن الأثير قد تحدّث عن مثل هذا في باب «قوة اللفظ لقوة المعنى» وذكر الأمثلة نفسها (٢). وتحدّث مثل ذلك الزّركشي وقال : «إنّ اللفظ اذا كان على وزن من الأوزان ثم نقل الى وزن آخر أعلى منه فلا بدّ أن يتضمّن من المعنى أكثر مما تضمنه أوّلا ، لأنّ الألفاظ أدلة على المعاني فاذا زيدت في الالفاظ وجب زيادة المعنى ضرورة» (٣) وعقد للزيادة المطلقة قسما ايضا وقال : «والاكثرون ينكرون إطلاق هذه العبارة في كتاب الله ويسمونه التأكيد ، ومنهم من يسميه بالصلة ، ومنهم من يسميه المقحم» (٤) ثم تحدّث عن الزيادة في الحروف والافعال ، ومن الأول قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ)(٥) وقوله : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ)(٦). ومن الثاني زيادة «كان» في قوله تعالى : (قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا)(٧) ، ومثل قولهم : «أصبح العسل حلوا».

__________________

(١) الفوائد ص ١٠٦.

(٢) المثل السائر ج ٢ ص ٦٠ ، الجامع الكبير ص ١٩٣.

(٣) البرهان في علوم القرآن ج ٣ ص ٣٤.

(٤) البرهان ج ٣ ص ٧٠ ، وينظر الروض المريع ص ١٦٣.

(٥) المائدة ١٣.

(٦) آل عمران ١٥٩.

(٧) مريم ٢٩.

٥٠١

السين

السّؤال والجواب :

ذكره الوطواط وقال : «تكون هذه الصنعة بأن يرد في البيت أو البيتين سؤال وجوابه» (١). ومنه قول الباخرزي :

قد قلت لها هجرتني ما العلّه؟

صدّت وتمايلت وقالت قل له

وقال : «والفرس يقدّرون صنعة السؤال والجواب حقّ قدرها ويستعملونها في القصيدة من مطلعها الى نهايتها على نسق واحد».

وذكر الرازي هذا الفن ولم يعرّفه ومثّل له بقول الباخرزي : «قد قلت لها ...» (٢) ومثّل له الحلبي والنويري (٣) بقول أبي نواس :

لك جسمي تعلّه

فدمي لم تحلّه

قال إن كنت مالكا

فلي الأمر كلّه

وقال ابن قيّم الجوزيّة : «هو أن يحكي كلاما بـ «قال» ثم يجيبه بـ «قال» أيضا» (٤) ، وهو في القرآن الكريم كثير منه قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ، قالُوا : أَتَتَّخِذُنا هُزُواً؟ قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ؟ قالَ : إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ. قالُوا : ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها؟ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ. قالُوا : ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ. قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ)(٥).

ومنه قول امرئ القيس :

ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة

فقالت لك الويلات إنّك مرجلي

فقلت لها سيري وارخي زمامه

ولا تمنعينا من جناك المعلّل

وقال الحموي إنّه المراجعة وهي : «أن يحكي المتكلّم مراجعة في القول ومحاورة في الحديث بينه وبين غيره بأوجز عبارة وأرشق سبك وألطف معنى وأسهل لفظ أما في بيت أو في ابيات» (٦).

وقال المدني عن المراجعة : «وسمّاها جماعة منهم الإمام فخر الدين الرازي : السؤال والجواب ... وقال الشيخ صفي الدين الحلي في شرح بديعيته : وذكر ابن أبي الاصبع أنّ هذا النوع من مخترعاته وقد وجدناه في

__________________

(١) حدائق السحر ص ١٥٩.

(٢) نهاية الايجاز ص ١١٤.

(٣) حسن التوسل ص ٢٥٥ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٣٦.

(٤) الفوائد ص ١٦٩.

(٥) البقرة ٦٧ ـ ٧١.

(٦) خزانة الادب ص ٩٩.

٥٠٢

كتب غيره بالاسم الثاني» (١).

السّابق واللّاحق :

السابق واللاحق من الأخذ والسّرقات ، وقد عقد ابن منقذ بابا له باسم «السابق واللاحق والتداول والتناول» وقال : «هو أن يأخذ البيت فينقص من لفظه أو يزيد في معناه أو يحرره فيكون أولى به من قائله لكنّ الأول سابق والآخر لاحق» (٢). ومنه قول علي بن الجهم :

وكم وقفة للريح دون بلادها

وكم عقبة للطير دون بلادي

أخذه ابو العلاء فقال :

وسألت كم بين العقيق الى الحمى

فجزعت من بعد النوى المتطاول

وعذرت طيفك في الجفاء لأنّه

يسري فيصبح دوننا بمراحل

وكقول الأخر :

له خلائق بيض لا يغيّرها

صرف الزمان كما لا يصدأ الذّهب

أخذه الآخر فقال :

صديق لي له نسب

صداقة مثله تجب

إذا نقدت خلائقه

تبهرج عنده الذّهب

ومنه قول الأفوه الأودي :

وترى الطّير على آثارها

رأي عين ثقة أن ستمارا

أخذه النابغة فقال :

إذا ما غزا بالجيش حلّق فوقهم

عصائب طير تهتدي بعصائب

جوانح قد أيقنّ أنّ قبيله

إذا ما التقى الجمعان أوّل غالب

أخذه الحطيئة فقال :

ترى عافيات الطّير قد وثقت لها

بشيع من الخيل العتاق منازله

أخذه حميد بن ثور فقال :

إذا ما غزا يوما رأيت غمامة

من الطير ينظرن الذي هو صانع

أخذه مسلم فقال :

قد عوّد الطّير عادات وثقن بها

فهنّ يتبعنه في كلّ مرتحل

موف على مهج في يوم ذي رهج

كأنّه أمل يمشي الى أجل

وقال أبو نواس :

واذا مجّ القنا علقا

وتراءى الموت في صوره

راح في ثنيي مفاضته

أسد يدمي شبا ظفره

يتأيا الطّير غدوته

ثقة بالشّبع من جزره (٣)

ثم أخذه أبو تمام فقال :

وقد ظلّلت أعقاب رايته ضحى

بأقدام طير في الدماء نواهل

أقامت مع الرايات حتى كأنها

مع الجيش إلا أنّها لم تقاتل

ثم أخذه المتنبي فقال :

له عسكرا خيل وطير اذا رمى

بها عسكرا لم تبق إلا جماجمه

وقال :

__________________

(١) أنوار الربيع ج ٢ ص ٣٥٠.

(٢) البديع في نقد الشعر ص ٢٢٢.

(٣) المفاضة : الدرع الواسعة. يتأيا الطير : يتحرى ويترقب. الجزر : ما يذبح ، اللحم.

٥٠٣

وذي لجب لا ذو الجناح أمامه

بناج ولا الوحش المثار بسالم

تمرّ عليه الشمس وهي ضعيفة

تطالعه من بين ريش القشاعم

فاومأ الى المعنى ايماء.

السّبر والتّقسيم :

السّبر : التّجربة. وسبر الشي سبرا. حزره وخبره ، والسّبر : استخراج كنه الأمر (١). وقال الشريف الجرجاني : «السبر والتقسيم كلاهما واحد وهو إيراد أوصاف الأصل أي المقيس عليه وإبطال بعضها ليتعين الباقي للعلية كما يقال علة الحدوث في البيت اما التأليف او الامكان ، والثاني باطل بالتخلف لأنّ صفات الواجب ممكنة بالذات وليست حادثة فتعين الأول» (٢) ، وقال : «السبر والتقسيم : هو حصر الأوصاف في الاصل والغاء بعض ليتعين الباقي للعلية كما يقال : علة حرمة الخمر إمّا الإسكار أو كونه ماء العنب او المجموع وغير الماء وغير الإسكار لا يكون علة بالطريق الذي يفيد إبطال علة الوصف فتعين الإسكار للعلة» (٣).

وتحدّث السّيوطي عنه وقال : «من الأنواع المصطلح عليها في علم الجدل السبر والتقسيم» (٤) ومن أمثلته في القرآن الكريم قوله تعالى : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ، قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ، قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ ، أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(٥). فان الكفّار لما حرّموا ذكور الأنعام تارة وإناثها أخرى ردّ تعالى ذلك عليهم بطريق السبر والتقسيم فقال : إنّ الخلق لله خلق من كل زوج مما ذكر ذكرا وأنثى فمم جاء تحريم ما ذكرتم؟ وما علته؟ ولا يخلو إما أن يكون من جهة الذكورة أو الأنوثة او اشتمال الرحم الشامل لهما أو لا يدرى له علة وهو التعبدي بأن أخذ ذلك عن الله ، والأخذ عن الله إما بوحي أو إرسال رسول أو سماع كلامه ومشاهدة تلقي ذلك عنه ، وهو في معنى قوله : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا.) فهذه وجوه التحريم لا تخرج عن وجه منها : والأول يلزم عليه أن تكون جميع الذكور حراما ، والثاني يلزم عليه أن تكون جميع الإناث حراما ، والثالث يلزم عليه تحريم الصنفين معا ، فبطل ما فعلوه من تحريم بعض في حالة وبعض في حالة ، لأنّ العلة على ما ذكر تقتضي إطلاق التحريم والأخذ عن الله بلا واسطة باطل ولم يدّعوه ، وبواسطة رسول كذلك لانه لم يأت اليهم رسول قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ واذا بطل جميع ذلك ثبت المدعى وهو أنّ ما قالوه افتراء على الله وضلال.

السّبك :

سبك الذهب والفضة ونحوه من الذائب يسبكه ويسبكه سبكا وسبّكه : ذوّبه وأفرغه في قالب ، السّبك تسبيك السبيكة من الذهب والفضة يذاب ويفرغ في مسبكة من حديد كأنها شق قصبة والجمع السبائك (٦).

تحدّث ابن منقذ عن الفكّ والسبك في باب واحد وقال : «أمّا الفكّ فهو أن ينفصل المصراع الأوّل من المصراع الثاني ولا يتعلّق بشيء من معناه» مثل قول زهير :

__________________

(١) اللسان (سبر).

(٢) التعريفات ص ١٠٢.

(٣) التعريفات ص ١٠٣ ، وينظر الروض المريع ص ١٣٠.

(٤) معترك ج ١ ص ٤٦٠.

(٥) الأنعام ١٤٣ ـ ١٤٤.

(٦) اللسان (سبك).

٥٠٤

حيّ الديار التي لم يعفها القدم

بلى وغيّرها الأرواح والدّيم

«وأما السّبك فهو أن يتعلق كلمات البيت بعضها ببعض من أوله الى آخره» (١) كقول زهير :

سيطعنهم ما ارتموا حتى إذا اطّعنوا

ضارب حتى إذا اما ضاربوا اعتنقا

السّجع :

السجع هو التسجيع (٢) ، وقد تقدّم الكلام عليه.

وهو أنواع :

السّجع الحالي :

هو التسجيع الحالي (٣) ، وقد تقدّم.

السّجع الطّويل :

هو التسجيع الطويل (٤) ، وقد تقدّم في الكلام على أنواع التسجيع.

السّجع العاطل :

هو التسجيع العاطل (٥) ، وقد تقدّم.

السّجع القصير :

هو التسجيع القصير (٦) ، وقد تقدّم في الكلام على أنواع التسجيع.

السّجع المتطرّف :

هو التسجيع المطرف (٧) ، وقد تقدّم.

السّجع المتماثل :

هو التسجيع المتماثل (٨) ، وقد تقدّم.

السّجع المتوازن :

هو التسجيع المتوازن (٩) ، وقد تقدّم.

السّجع المتوازي :

هو التسجيع المتوازي (١٠) ، وقد تقدّم.

السّجع المرصّع :

هو التسجيع المرصع (١١) ، وقد تقدّم.

السّجع المشطّر :

هو التسجيع المشطر (١٢) ، وقد تقدّم.

__________________

(١) البديع في نقد الشعر ص ١٦٢ ـ ١٦٣.

(٢) البيان ج ١ ص ١١ ، ٢٨٤ ، البرهان في وجوه البيان ص ٢٠٨ ، كتاب الصناعتين ص ٢٦٠ ، الخصائص ج ١ ص ٢١٦ ، اعجاز القرآن ص ٨٦ ، سر الفصاحة ص ٢٠١ ، اسرار البلاغة ص ١٠ ، احكام صنعة الكلام ص ٢٣٥ ، نهاية الايجاز ص ٣٤ ، مفتاح العلوم ص ٢٠٣ ، المثل السائر ج ١ ص ١٩٣ ، الجامع الكبير ص ٢٥١ ، الاقصى القريب ص ١١٠ ، حسن التوسل ص ٢٠٦ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٠٣ ، الايضاح ص ٣٩٣ ، التلخيص ص ٤٠٤ ، الفوائد ص ٢٢٦ ، شروح التلخيص ج ٤ ص ٤٤٥ ، المطول ص ٤٥٣ ، الاطول ج ٢ ص ٢٣٢ ، خزانة ص ٤٢٣ ، مقدمة في صناعة النظم والنثر ص ٧٠ ، الاتقان ج ٢ ص ٩٧ ، شرح عقود الجمان ص ١٥٠ ، التبيان في البيان ص ٤١٩.

(٣) معالم الكتابة ص ٦٩.

(٤) المثل السائر ج ١ ص ٢٤٠.

(٥) معالم الكتابة ص ٦٩.

(٦) المثل السائر ج ١ ص ٢٤٠.

(٧) الفوائد ص ٢٢٦.

(٨) معترك ج ١ ص ٥٠.

(٩) نهاية الايجاز ص ٣٤ ، معترك ج ١ ص ٥٠ ، التبيان في البيان ص ٤٢٠.

(١٠) نهاية الايجاز ص ٣٤ ، الفوائد ص ٢٢٦ ، معترك ج ١ ص ٥٠ ، شرح عقود الجمان ص ١٥١ ، التبيان في البيان ص ٤٢٠.

(١١) خزانة الادب ص ٤٢٣ ، معترك ج ١ ص ٥٠.

(١٢) خزانة ص ٤٢٣.

٥٠٥

السّجع المطرف :

هو التسجيع المطرّف أو المتطرّف (١) ، وقد تقدّم.

السّجع الموازي :

لم يذكره أحد بهذا الاسم غير الحموي (٢) ولعل فيه تصحيفا لأنّ التعريف الذي ذكره لهذا النوع هو ما ذكره الآخرون للمتوازي (٣) ، وقد تقدّم.

السّرقة :

سرق الشيء يسرقه سرقا وسرقا والاسم السّرق والسّرقة ، والسرقة : الأخذ بخفية ، ويقال : سرق الشيء سرقا : خفي (٤).

فطن العرب منذ عهد مبكر الى التجديد والتقليد وفرّقوا بين الابتداع والإتباع ووضعوا لذلك قواعد وأصولا. والسّرقات قديمة في الأدب العربي وقد وجدت بين شعراء الجاهلية ، وفطن النقاد والشعراء اليها ولحظوا مظاهرها بين امرئ القيس وطرفة بن العبد ، وبين الاعشى والنابغة الذبياني ، وبين أوس بن حجر وزهير بن ابن سلمى. وكان حسان بن ثابت يعتز بكلامه وينفي عن معانيه الأخذ والاغارة ، قال :

لا أسرق الشعراء ما نطقوا

بل لا يوافق شعرهم شعري

وكانت السرقة من موضوع الملاحاة بين جرير والفرزدق ، وكل ادّعى أنّ صاحبه يأخذ منه ، ومن ذلك قول الفرزدق يخاطب جريرا :

إن تذكروا كرمي بلؤم أبيكم

وأوابدي تتنحّلوا الأشعارا

وغضب على البعيث المجاشعي لما أخذه أحد معانيه فقال فيه :

إذا ما قلت قافية شرودا

تنحلّها ابن حمراء العجان

وكان الجاحظ قد أشار الى السرقات ومهّد للباحثين السبيل ، قال : «لا يعلم في الأرض شاعر قديم في تشبيه مصيب تامّ وفي معنى غريب عجيب أو في معنى شريف كريم أو في بديع مخترع إلا وكل من جاء من الشعراء من بعده أو معه إن هو لم يعد على لفظه فيسرق بعضه أو يدعيه بأسره فانّه لا يدع أن يستعين بالمعنى ويجعل نفسه شريكا فيه كالمعنى الذي تتنازعه الشعراء فتختلف ألفاظهم وأعاريض أشعارهم ولا يكون أحد منهم أحق بذلك المعنى من صاحبه ، أو لعله إن يجحد أنّه سمع بذلك المعنى قط وقال : «إنّه خطر على بالي من غير سماع كما خطر على بال الأول» (٥).

وعالج النقاد والبلاغيون موضوع السرقة ، وقال ابن طباطبا إنّ الشعراء السابقين غلبوا على المعاني الشعرية فضاق السبيل امام المحدثين ولم يكن من الأخذ بدّ.

وقال إنّه ينبغي على الشاعر أن يديم النظر في شعر السابقين لتعلق معانيها بفهمه وترسخ أصولها في قلبه واذا ما نظم الشعر وجدها أمام ناظريه ولكن لا ينبغي له أن يغير على معاني الآخرين فيودعها شعره لأنّ هذا لا يستر سرقته (٦).

ورأى الآمدي أن لا سرقة في الألفاظ لأنّها مباحة غير محظورة وإنّما السرقة تتحقّق في المعاني البديعة المخترعة التي يختص بها شاعر لا في المعاني المشتركة بين الناس الجارية في عاداتهم والمستعملة في أمثالهم ومحاوراتهم مما ترتفع الظنة فيه عن الذي يورده أن يقال أخذه من غيره ، قال : «وإنما السّرق

__________________

(١) نهاية الايجاز ص ٣٤ ، خزانة ص ٤٢٣ ، معترك ج ١ ص ٤٩ ، شرح عقود الجمان ص ١٥١ ، التبيان في البيان ص ٤٢٠.

(٢) خزانة ص ٤٢٣.

(٣) نهاية الايجاز ص ٣٤ ، الفوائد ص ٢٢٦ ، معترك ج ١ ص ٥٠ ، شرح عقود الجمان ص ١٥١.

(٤) اللسان (سرق).

(٥) الحيوان ج ٣ ص ٣١١.

(٦) عيار الشعر ص ١٠.

٥٠٦

يكون في البديع الذي ليس للناس فيه اشتراك» (١) وقال إنّ السرقة ليست من «كبير مساوئ الشعراء وخاصة المتأخّرين إذ كان هذا بابا ما تعرّى منه متقدّم ولا متأخّر» (٢).

وعني العسكري بهذا النوع وتحدّث عن حسن المأخذ وقبحه ، ويريد بحسن المأخذ أن يؤخذ المعنى ويكسى لفظا جديدا أجود من لفظه الأوّل ، ويريد بالقبيح أن يعمد الى المعنى ويؤخذ لفظه كله أو أكثره أو يخرج في معرض مستهجن (٣).

وتحدّث القاضي الجرجاني عنها وذكر أنّ المعاني المشتركة والمتداولة لا تعدّ سرقة ، قال : «فمتى نظرت فرأيت أنّ تشبيه الحسن بالشمس والبدر والجواد بالغيث والبحر والبليد البطيء بالحجر والحمار ، والشجاع الماضي بالسيف والنار والصب المستهام بالمخبول في حيرته والسليم في سهره ، والسقيم في انينه وتأمله امور متقرره في النفوس متصورة للعقول يشترك فيها الناطق والأبكم والفصيح والأعجم والشاعر والمفحم حكمت بأنّ السرقة عنها منتفية والأخذ بالاتباع مستحيل ممتنع (٤) ولا تطلق السرقة إلا على الأمور المنسوبة لشاعر أو كاتب بعينه.

وتحدّث ابن رشيق عنها وقال : «هذا باب متسع جدّا لا يقدر أحد من الشعراء أن يدّعي السلامة منه وفيه أشياء غامضة إلا عن البصير الحاذق بالصناعة ، وأخر فاضحة لا تخفى على الجاهل المغفل» (٥).

وحصر السرقات في الأنواع البديعية فقال : «السرقة إنما تقع في البديع النادر والخارج عن العادة وذلك في العبارات التي هي الألفاظ» (٦).

ودرس عبد القاهر السّرقات ، وقال إنّ المعاني العقلية يتّفق فيها العقلاء ، والتخييلية يختص بها كل شاعر أو أديب عن غيره (٧). وقال إنّ السرقة ليست مجرّد لفظ ومعنى وإنما الأمر صياغة وتصوير (٨) ، وهذا يرجع الى إيمانه بالنظم الذي هو توخي معاني النحو.

وعقد ابن فصولا مختلفة عن السرقة (٩) ، وكان ابن الأثير قد وقف طويلا عندها وتحدث عن أقسامها كالنسخ والسلخ وأخذ المعنى مع الزيادة عليه وعكس المعنى الى ضده (١٠).

ودخلت السرقات في كتب البلاغة حينما وضع القزويني كتابيه «التلخيص» و «الايضاح» فبعد أن انتهى من بحث فنون البديع ذكر أنّ لهذا العلم ملحقات لا ينبغي إهمالها وهي السرقات الشعرية والابتداء والتخلص والانتهاء (١١) ، وهذا اتجاه جديد في دراسة هذا الموضوع. فقد تكلم عليها السابقون مع فنون البلاغة والنقد الأخرى ولم يجعلوها من البديع أو يلحقوها به. وقد أثارت هذه المسألة بعضهم فتساءل العلوي قائلا : «هل تعدّ السرقة الشعرية من علم البديع أو ، لا؟» وأجاب أنّ للمسألة وجهين :

أحدهما : أنّها تكون معدودة فيه لأنّ كل واحد من السابق واللاحق إنما يتصرف في تأليف الكلام ونظمه وترديده بين الفصيح والأفصح والأقبح والأحسن ، وهذه هي فائدة علم البديع وخلاصة جوهره.

وثانيهما : أنّها غير معدودة في علم البديع ؛ لأنّ معنى السرقة هو الأخذ ومجرد الأخذ لا يكون متعلقا بأحوال الكلام ولا بشي من صفاته فلأجل

__________________

(١) الموازنة ج ١ ص ٥٢ ، وتنظر ص ٣٢٦.

(٢) الموازنة ج ١ ص ٢٩١.

(٣) كتاب الصناعتين ص ٢١٦.

(٤) الوساطة ص ١٨٣.

(٥) العمدة ج ٢ ص ٢٨٠.

(٦) قراضة الذهب ص ١٤.

(٧) اسرار البلاغة ص ٣٠٢ ، ٣٨٣ ، ٣٨٥.

(٨) دلائل الاعجاز ص ٣٧٣ ، ٣٨٥.

(٩) البديع في نقد الشعر ص ٢٦٤ ـ ٢٨٣.

(١٠) المثل السائر ج ٢ ص ٣٦٦ وما بعدها ، الجامع الكبير ص ٢٤٢ ، وما بعدها ، كفاية الطالب ص ١٠٩.

(١١) الايضاح ص ٤٠١ ، التلخيص ص ٤٠٨.

٥٠٧

هذا لم تكن معدودة في علم البديع (١).

واختار العلوي الأوّل وهو عدّها من جملة أصناف البديع وأكّد هذا بقوله : «والبرهان القاطع على ما ذكرناه هو أنّ علم البديع أمر عارض لتأليف الالفاظ وصوغها وتنزيلها على هيئة تعجب الناظر وتشوق القلب والخاطر ، وهذا موجود في السرقات الشعرية ، فانّ الشاعرين المفلقين يأخذ كل واحد منهما معنى صاحبه ويصوغه على خلاف تلك الصياغة ويقلبه على قالب آخر ، فإما زاد عليه وإما نقص عنه. وكل ذلك إنّما هو خوض في تأليف الكلام ونظمه وإذن الأخلق عدّها منه لما ذكرناه بل هي أخلق بذلك ، لأنا اذا عددنا الطباق والتجنيس والترصيع والتصريع من علوم البديع مع أنّها إنما اختصت بما اختصت به من التأليف وتنزيلها على تلك الهيئات من لسان واحد فكيف حالها اذا كانت مختصة بما ذكرناه من لسانين على هيئتين مختلفتين» (٢).

وقد تحدّث القزويني عن أنواع السرقات وتبعه في ذلك شراح التلخيص (٣) والسرقات أنواع كثيرة منها الانتحال والنسخ والمسخ والاغارة والالمام والسلخ والنقل والفلب وغيرها ، وفي هذا المعجم كثير من هذه الأنواع وقد أشير الى انها من الأخذ او السرقة (٤).

ولم يقف القزويني عند هذه الالوان وانما تحدث عما يتصل بالسرقة من الاقتباس والتضمين والعقد والحل والتلميح (٥) ، ولهذه الانواع حديث في هذا المعجم أيضا.

سلامة الابتداع :

السّلام والسلامة البراءة ، وتسلّم منه : تبرأ ، والسّلام العافية (٦). قال ابن الاثير الحلبي : «حقيقة هذا الباب أن يبتدع الشاعر معنى لم يسبق اليه ولم يتبع فيه» (٧). مثال ذلك قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)(٨). فقد ذكر ضعف الذباب الذي هو أقل المخلوقات سلبا لما يسلبه وعجز جميع الخلق عن القدرة على خلق مثله.

ومن هذا الباب قول عنترة :

وخلا الذباب به فليس ببارح

غردا كفعل الشارب المترنّم

هزجا يحكّ جناحه بجناحه

قدح المكبّ على الزناد الأجذم

فعنترة ابتدع معنى لم يسبق اليه ولم يشبهه أحد فيه.

وسمّاه المصري «سلامة الاختراع من الاتباع» وقال : «هو أن يخترع الاول معنى لم يسبق اليه ولم يتبع فيه» (٩) ، وهذا ما نقله ابن الاثير الحلبي وإن غيّر التسمية فقال : «سلامة الابتداع من الاتباع». وتبع المصري في التسمية الحلبي والنويري والسبكي والحموي والسيوطي والمدني (١٠).

__________________

(١) الطراز ج ٣ ص ١٨٩.

(٢) الطراز ج ٣ ص ١٨٩ ـ ١٩٠.

(٣) شروح التلخيص ج ٤ ص ٤٧٤ ، المطول ص ٤٦٢ ، الاطول ج ٢ ص ٢٤٢.

(٤) فحولة الشعراء ص ٣٨ ، الحيوان ج ٣ ص ٣١١ ، الكامل ج ١ ص ١٠٠ ، الموازنة ج ١ ص ٥٢ ، الوساطة ص ١٨٣ ، العمدة ج ٢ ص ٢٨٠ ، أسرار البلاغة ص ٢٤١ ، دلائل الإعجاز ص ٣٦٠ ، الاستدراك ص ٦١ ، نضرة الاغريض ص ٢٠٣ ، الأقصى القريب ص ١٠٧ ، منهاج البلغاء ص ١٩٤ ، ١٩٦ ، الطراز ج ٣ ص ١٨٨ ، شرح عقود الجمان ص ١٦٢.

(٥) الايضاح ص ٤١٦ ، التلخيص ص ٤٢٢.

(٦) اللسان (سلم).

(٧) جوهر الكنز ص ١٥٩.

(٨) الحج ٧٣.

(٩) تحرير التحبير ص ٤٧١ ، بديع القرآن ص ٢٠٠.

(١٠) حسن التوسل ص ٢٩٦ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٦٤ ، عروس الافراح ج ٤ ص ٤٦٩ ، خزانة ص ٤٠٤ ، شرح عقود الجمان ص ١٦٣ ، أنوار الربيع ج ٦ ص ٢٠٤ ، نفحات ص ١٧٤ ، شرح الكافية ص ٢١٩.

٥٠٨

سلامة الاختراع :

هو سلامة الاتبداع ، وقد سمّاه كذلك المصري والحلبي والنويري والسبكي والحموي والسيوطي والمدني (١).

السّلب والإيجاب :

سلبه الشي يسلبه سلبا ، والسّلب : ما يسلب.

وجب الشيء يجب وجوبا : لزم ، وأوجبه الله واستوجبه اي : استحقه ، واوجب ايجابا (٢).

قال العسكري : «هو أن تبني الكلام على نفي الشيء من جهة وإثباته من جهة أخرى أو الامر به في جهة والنهي عنه في جهة وما يجري مجرى ذلك» (٣).

كقوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً)(٤) ، وقول السموأل :

وننكر إن شئنا على الناس قولهم

ولا ينكرون القول حين نقول

وقول البحتري :

فابق عمر الزمان حتى نؤدّي

شكر إحسانك الذي لا يؤدّى

وقول أبي تمام :

الى سالم الأخلاق من كلّ عائب

وليس له مال على الجود سالم

ولم يعرّفه الباقلاني وإنما اكتفى بذكر بيت السموأل (٥) ، وسمّاه الخفاجي : الإيجاب والسلب ومثل له ببيت السموأل وقول البحتريّ :

يقيّض لي من حيث لا أعلم النوى

ويسري اليّ الشوق من حيث أعلم

في «لا اعلم» و «أعلم» من السلب والايجاب (٦).

والايجاب والسلب هو أحد أنواع التقابل التي تحدث عنها قدامة وقال : «ومما جاء في الشعر من التناقض على طريق الايجاب والسلب قول عبد الرحمن ابن عبد الله القس :

أرى هجرها والقتل مثلين فاقصروا

ملامكم فالقتل أعفى وأيسر (٧)

وقال التّبريزي عن السلب والايجاب : «هو أن يوقع الكلام على نفي شيء وإثباته في بيت واحد» (٨) ونقل هذا التعريف البغدادي والحلبي والنويري وابن قيم الجوزية (٩). وادّعى المصري أنّ هذا النوع من مبتدعاته ولكنّه استدرك على نفسه بحاشية في أصل كتابه «تحرير التحبير» وقال : «وقد عثرت على أنّ هذا الباب لمن تقدّمني من جهة تسميته لا من جهة شواهده» (١٠). وقال : «هو أن يقصد المادح أن يفرد ممدوحه بصفة مدح لا يشركه فيها غيره فينفيها في أول كلامه عن جميع الناس ويثبتها لممدوحه بعد ذلك» (١١). كقول الخنساء في اخيها :

وما بلغت كفّ امرىء متناولا

من المجد إلّا والذي نلت أطول

وما بلغ المهدون للناس مدحة

وإن أطنبوا إلّا الذي فيك أفضل

فقصد أبو نواس أخذ معنى الثاني من البيتين فلم يتهيأ له أخذه إلّا في بيتين وقصر عنه بعد ذلك تقصيرا كبيرا وذلك انه قال :

__________________

(١) المصادر السابقة.

(٢) اللسان (سلب) و (وجب).

(٣) كتاب الصناعتين ص ٤٠٥.

(٤) الاسراء ٢٣.

(٥) اعجاز القرآن ص ١٤٨.

(٦) سر الفصاحة ص ٢٤٠.

(٧) نقد الشعر ص ٢٣٩.

(٨) الوافي ص ٢٧٧.

(٩) قانون البلاغة ص ٤٤٧ ، حسن التوسل ص ٢٨٣ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٥٤ ، الفوائد ص ١٦١ ، كفاية الطالب ص ١٩٦.

(١٠) تحرير التحبير هامش ص ٥٩٢.

(١١) تحرير التحبير ص ٥٩٣.

٥٠٩

إذا نحن أثنينا عليك بصالح

فأنت كما نثني وفوق الذي نثني

وإن جرت الألفاظ يوما بمدحة

لغيرك إنسانا فأنت الذي نعني

ومن هذا الباب ما يقع في التشبيه والأخبار وتفسيرها بحيث يكون للمشبه أو المخبر عنه صفات فينفي بعضها ليثبت بعضها وينفي واحدة ليوجب اختها او يسلبها ويوجب غيرها كقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبيّ بعدي» فسلب النبوة ليوجب بقية المنازل التي كانت لهارون من موسى ـ عليهما‌السلام ـ ومن ذلك قول الشاعر :

فصرت كأني يوسف بين إخوتي

ولكن تعدّتني النبوّة والحسن

فسلب نفسه هاتين الصفتين من صفات يوسف ـ عليه‌السلام ـ ليثبت ما عداهما مما امتحن به يوسف من إخوته.

ولكنّ المصري حينما ألّف كتاب «بديع القرآن» لم ينسب «السلب والايجاب» الى نفسه ، وقد عرّفه بقوله : «هو بناء الكلام على نفي الشيء من جهة وإيجابه من جهة أخرى أو أمر بشيء من جهة ونهي عنه من غير تلك الجهة» (١). وهذا كتعريف العسكري ، وذكر له قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ ...) (الإسراء ٢٣) شاهدا كما فعل السابق ايضا ، وبذلك نفى عن نفسه تهمة الكذب التي أشار اليها بعضهم كالمدني الذي قال : «هذا النوع زعم ابن أبي الاصبع أنّه من مستخرجاته وهو موجود في كتب القدماء الذين نقل عنهم ككتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري وسر الفصاحة لابن سنان الخفاجي وبديع شرف الدين التيفاشي وذكره عز الدين الزنجاني في معيار النظار» (٢). ويبدو أنّ المدني لم يطلع على «بديع القرآن» أو على نسخة «تحرير التحبير» التي استدرك في احد هوامش صفحاتها ما ذكره.

وأرجع السّبكي السلب والايجاب الى الطباق بعد أن عرّفه كتعريف المصري في «بديع القرآن» (٣). ولم يخرج الحموي والسيوطي والمدني عما ذكره السابقون (٤).

السّلخ :

السلخ : كشط الإهاب ، سلخ يسلخ سلخا ، والسّلخ : ما سلخ عنه (٥).

والسلخ أحد أنواع السرقات وقد قال ابن الاثير هو : «أخذ بعض المعنى مأخوذا من سلخ الجلد الذي هو بعض الجسم المسلوخ» (٦). والسلخ عند القزويني الإلمام أيضا ، قال : «وإن كان المأخوذ المعنى وحده سمّي إلماما وسلخا» (٧) وهو ثلاثة أقسام :

الأول : كقول البحتري :

تصدّ حياء أن تراك بأوجه

أتى الذنب عاصيها فليم مطيعها

وقول المتنبي :

وجرم جرّه سفهاء قوم

وحلّ بغير جارمه العذاب

__________________

(١) بديع القرآن ص ١١٦.

(٢) أنوار الربيع ج ٥ ص ٢٨٠ ، وينظر خزانة الأدب ص ٣٦١.

(٣) عروس الافراح ج ٤ ص ٤٦٩ ، وينظر المنزع البديع ص ٣٣٤.

(٤) خزانة ص ٣٦١ ، شرح عقود الجمان ص ١١٢ ، أنوار الربيع ج ٥ ص ٢٨٠ ، نفحات ص ٣٠٥ ، شرح الكافية ص ٢٤٠.

(٥) اللسان (سلخ).

(٦) المثل السائر ج ٢ ص ٣٦٥ ، الجامع الكبير ص ٢٤٣.

(٧) الايضاح ص ٤٠٨ ، التلخيص ص ٤١٤ ، وينظر شروح التلخيص ج ٤ ص ٤٩٢ ، المطول ص ٤٦٦ ، الأطول ج ٢ ص ٢٤٦ ، التبيان في البيان ص ٣٦٣.

٥١٠

الثاني : كقول بعض الأعراب :

وريحها أطيب من طيبها

والطّيب فيه المسك والعنبر

وقول بشار :

وإذا أدنيت منها بصلا

غلب المسك على ريح البصل

الثالث : كقول الأعرابي :

ولم يك أكثر الفتيان مالا

ولكن كان أرحبهم ذراعا

وقول أشجع :

وليس بأوسعهم في الغنى

ولكنّ معروفه أوسع

ولم يبيّن القزويني هذه الأقسام الثلاثة واكتفى بالأمثلة ، ولكنّ العلوي قال عن الوجه الاول : «أن تكون السرقة مقصورة على المعنى لا غير ، من غير إيراد لفظ ما سرق منه. وهذا أدقّ السرقات مسلكا وأحسنها صورة وأعجبها مساقا» ومثاله قول بعض أهل الحماسة :

لقد زادني حبّا لنفسي أنني

بغيض الى كلّ امرىء غير طائل

فقد أخذ المتنبي هذا المعنى واستخرج منه ما يشبهه من جهة معناه ولم يورد شيئا من ألفاظه ولكنه عوّل فيه على المعنى وقصره عليه ، قال :

وإذا أتتك مذمّتي من ناقص

فهي الشّهادة لي بأني كامل

وقال العلوي عن الوجه الثاني : «أن تكون السرقة بأخذ المعنى وشيء يسير من اللفظ» كقول حسان بن ثابت يصف الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويمدحه :

ما إن مدحت محمدا بمقالتي

لكن مدحت مقالتي بمحمد

أخذه أبو تمام فأكمل معناه واسترق شيئا من لفظه على القلة ، فقال :

ولم أمدحك تفخيما لشعري

ولكنّي مدحت بك المديحا

وقال عن الوجه الثالث : «أن يؤخذ بعض المعنى» كقول بعض الشعراء :

عطاؤك زين لامرىء إن حبوته

ببذل وما كلّ العطاء يزين

وليس بشين لامرىء بذل وجهه

اليك كما بعض السؤال يشين

أخذه أبو تمام ونقص من معناه بعض النقصان فقال :

تدعى عطاياه وفرا وهي إن شهرت

كانت فخارا لمن يعفوه مؤتنفا

ما زلت منتظرا أعجوبة زمنا

حتى رأيت سؤالا يجتني شرفا (١)

السّهولة :

السهل نفيض الحزن ، والسهولة ضد الحزونة ، والسهل كل شيء الى اللين وقلة الخشونة. يقال :سهل سهولة وسهّله : صيّره سهلا (٢).

أدخل المتأخّرون السهولة في بديعياتهم وقال الحموي : «السهولة ذكرها التيفاشي مضافة الى باب الظرافة وشركها قوم بالانسجام. وذكرها ابن سنان الخفاجي في كتاب «سر الفصاحة» فقال في مجمل كلامه : «هو خلوص اللفظ من التكلف والتعقيد والتعسف في السبك». وقال التيفاشي : «السهولة أن يأتي الشاعر بألفاظ سهلة تتميز على ما سواها عند من له أدنى ذوق من أهل الأدب. وهي تدلّ على رقة الحاشية وحسن الطبع وسلامة الرويّة (٣).

__________________

(١) الطراز ج ٣ ص ١٩٢ ، وما بعدها.

(٢) اللسان (سهل).

(٣) خزانة الأدب ص ٤٥٤ ، نفحات ص ٣١١.

٥١١

وسمّاها المدني «التسهيل» (١) ، وذكر مثل ما قاله الحموي عن «السهولة» وقد تقدّم التسهيل.

ومن أحسن أمثلة هذا النوع قول بعضهم :

ألست وعدتني يا قلب أنّي

إذا ما تبت عن ليلى تتوب

فها أنا تائب عن حبّ ليلى

فمالك كلّما ذكرت تذوب؟

وقول أبي فراس الحمداني :

أساء فزادته الإساءة حظوة

حبيب على ما كان منه حبيب

يعدّ عليّ الواشيان ذنوبه

ومن أي للوجه المليح ذنوب؟

سهولة المخرج :

سهولة المخرج أن يتحدث الانسان بطلاقة بحيث لا يتكلف أو يتوقف. وقد ذكرها الجاحظ فقال : «وهذه الصفات التي ذكرها ثمامة بن أشرس فوصف بها جعفر بن يحيى ، كان ثمامة بن أشرس قد انتظمها لنفسه واستولى عليها دون جميع أهل عصره ، وما علمت أنّه كان في زمانه قروي ولا بلدي كان بلغ من حسن الإفهام مع قلة عدد الحروف ولا من سهولة المخرج مع السلامة من التكلف ما كان بلغه. وكان لفظه في وزن إشارته ، ومعناه في طبقة لفظه ، ولم يكن لفظه الى سمعك بأسرع من معناه الى قلبك» (٢).

سوء الاتّباع :

سوء الاتباع من باب السرقات وقد قال ابن رشيق : «وسوء الاتّباع أن يعمل الشاعر معنى رديا ولفظا رديا مستهجنا ثم يأتي من بعده فيتبعه فيه على رداءته» (٣) كقول أبي تمام :

باشرت أسباب الغنى بمدائح

ضربت بأبواب الملوك طبولا

وقال المتنبي :

إذا كان بعض الناس سيفا لدولة

ففي الناس بوقات لها وطبول

سوء الرصف :

قال العسكري : «وسوء الرصف تقديم ما ينبغي تأخيره منها وصرفها عن وجوهها وتغيير صيغتها ومخالفة الاستعمال في نظمها» (٤) وهو سوء النظم ، ومن ذلك المعاظلة كقول الفرزدق :

تعال فإن عاهدتني لا تخونني

نكن مثل من يا ذئب يصطحبان

فقد تراكبت الكلمات في الشطر الثاني. ومثله قوله أيضا للوليد بن عبد الملك :

الى ملك ما أمّه من محارب

أبوه ولا كانت كليب تصاهره

وقوله يمدح هشام بن اسماعيل :

وما مثله في الناس إلا مملّكا

أبو أمّه حيّ أبوه يقاربه

سوق المعلوم مساق غيره :

هو تجاهل العارف وقد تقدّم ، والذي سمّاه «سوق المعلوم مساق غيره» السّكّاكي ، قال : «ولا أحبّ تسميته بالتجاهل» (٥).

__________________

(١) أنوار الربيع ج ٦ ص ٢٧٠.

(٢) البيان ج ١ ص ١١١.

(٣) العمدة ج ٢ ص ٢٩١.

(٤) كتاب الصناعتين ص ١٦١.

(٥) مفتاح العلوم ص ٢٠٢ ، وينظر الايضاح ص ٣٧٨ ، التلخيص ص ٣٨٥ ، شروح التلخيص ج ٤ ص ٤٠٣ ، المطول ص ٤٤٣ ، الاطول ج ٢ ص ٢١٩ ، خزانة ص ١٢٢ ، أنوار الربيع ج ٥ ص ١١٩.

٥١٢

سياقة الأعداد :

هذا الفن هو الأعداد وسياقة العدد أو التعديد (١) وقد تقدّم.

سياقة العدد :

هو الأعداد وسياقة الأعداد ، والتعديد (٢) ، وقد تقدّم.

__________________

(١) حدائق السحر ص ١٤٩ ، نهاية الايجاز ص ١١٣. حسن التوسل ص ٢٤٧ ، نهاية الأرب ج ٧ ص ١٣٠ ، الفوائد ص ١٦٤ ، أنوار الربيع ج ٦ ص ١٢٨.

(٢) المصادر السابقة.

٥١٣

الشين

شبه كمال الاتّصال :

شبه كمال الاتّصال من مسائل الفصل والوصل ، وهو أن تكون الجملة الثانية في الفصل بمنزلة المتصلة بالأولى لكونها جوابا عن سؤال اقتضته الأولى فتنزّل منزلته فتنفصل الثانية عنها كما يفصل الجواب عن السؤال. قال السّكّاكي : «فتنزل ذلك منزلة الواقع ويطلب بهذا الثاني وقوعه جوابا له فيقطع عن الكلام السابق لذلك. وتنزيل السؤال بالفحوى منزلة الواقع لا يصار اليه إلا لجهات لطيفة ، إما لتنبيه السامع على موقعه أو لاغنائه أن يسأل ، أو لئلا يسمع منه شيء ، أو لئلا ينقطع كلامك بكلامه ، أو للقصد الى تكثير المعنى بتقليل اللفظ وهو تقدير السؤال وترك العاطف أو غير ذلك مما ينخرط في هذا السلك. ويسمّى النوع الأول قطعا والثاني استئنافا» (١).

والاستئناف ثلاثة أضرب : لأنّ السؤال الذي تضمنته الجملة الاولى إما عن سبب الحكم فيها مطلقا كقول الشاعر :

قال لي : كيف أنت؟ قلت عليل

سهر دائم وحزن طويل

أي : ما بالك عليلا وما سبب علتك؟ وإما عن سبب خاص كقوله تعالى : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي ، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ)(٢) كأنه قيل : هلى النفس أمّارة بالسوء؟ فقيل : إنّ النفس لأمارة بالسوء.

وإما عن غيرهما كقوله تعالى : (قالُوا : سَلاماً قالَ : سَلامٌ)(٣) كأنه قيل : فماذا قال ابراهيم عليه‌السلام؟

فقيل : قال : سلام.

ومنه قول الشاعر :

زعم العواذل أنّني في غمرة

كذبوا ، ولكن غمرتي ، لا تنجلي

فانه لما أبدى الشكاية من جماعات العذّال كان ذلك مما يحرك السامع ليسأل : أصدقوا في ذلك أم كذبوا؟

فأخرج الكلام مخرجه إذا كان ذلك قد قيل له ، ففصل.

ومنه قول المتنبي :

وما عفت الرياح لهم محلّا

عفاه من حدا بهم وساقا

فإنّه لما نفى الفعل الموجود عن الرياح كان مظنة أن يسأل عن الفاعل.

وقد يحذف صدر الاستئناف لقيام قرينة كقوله تعالى : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ، رِجالٌ)(٤) فيمن قرأ (يُسَبِّحُ) مبنيا للمفعول.

وقد يحذف الاستئناف كله ويقام ما يدل عليه مقامه كقول الحماسي :

زعمتم أنّ أخوتكم قريش

لهم إلف وليس لكم إلاف (٥)

__________________

(١) مفتاح العلوم ص ١٢١.

(٢) يوسف ٥٣.

(٣) هود ٦٩.

(٤) النور ٣٦ ـ ٣٧.

(٥) الالف والايلاف : العهد.

٥١٤

حذف الجواب الذي هو «كذبتم في زعمكم» وأقام قوله «لهم إلف وليس لكم إلاف» مقامه لدلالته عليه.

ويجوز أن يقدر قوله : «لهم إلف وليس لكم إلاف» جوابا لسؤال اقتضاه الجواب المحذوف ، كأنه لما قال المتكلم : «كذبتم» قالوا : «لم كذبنا؟» فقال : «لهم إلف وليس لكم إلاف» فيكون في البيت استئنافان.

وقد يحذف ولا يقام شيء مقامه كقوله تعالى : (نِعْمَ الْعَبْدُ*)(١) أي : أيوب أو هو ، لدلالة ما قبل الآية وما بعدها عليه. ونحوه قوله تعالى : (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ)(٢) أي : نحن (٣).

شبه كمال الانقطاع :

وهو أن تكون الجملة الثانية في الفصل بمنزلة المنقطعة عن الاولى ؛ لأنّ عطفها عليها موهم لعطفها على غيرها ويسمّى الفصل لذلك قطعا ، ومثاله قول الشاعر :

وتظنّ سلمى أنني أبغي بها

بدلا أراها في الضّلال تهيم

لم يعطف «أراها» على «تظن» لئلا يتوهم السامع أنّه معطوف على «أبغي» لقربه منه مع أنّه ليس بمراد ، ويحتمل الاستئناف.

وقسّم السكاكي القطع الى قسمين (٤) :

الأول : القطع للاحتياط وهو ما لم يكن لمانع من العطف كما في البيت : «وتظن سلمى ...».

الثاني : القطع للوجوب ، وهو ما كان لمانع كقوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)(٥) لأنّه لو عطف لعطف إما على جملة (قالُوا) وإما على جملة (إِنَّا مَعَكُمْ) وكلاهما لا يصحّ. وكذا قوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ)(٦).

وللقزويني في ذلك نظر لجواز أن يكون المقطوع في المواضع الثلاثة معطوفا على الجملة المصدّرة بالظرف ، وهذا القسم لم يبين امتناعه (٧).

شجاعة العربيّة :

شجع شجاعة : اشتد عند البأس ، والشجاعة شدة القلب في البأس (٨).

شجاعة العربية هو الالتفات وقد تقدّم ، وكان ابن جني (٩) قد سماه كذلك وتبعه ابن الأثير وابن الأثير الحلبي (١٠) ، غير أنّهما عدّا الالتفات أحد أنواعه ، ومن ذلك أيضا عكس الظاهر ، وتأنيث المذكّر ، وتذكير المؤنّث ، وتصوّر معنى الواحد للجماعة ، ومعنى الجماعة للواحد ، وتقدّم المفعول على الفعل ، وتقديم الظروف على المظروف ، وتقديم الخبر على المبتدأ ، ونوع الاستفهام ، وتقديم الظلمات على النور ، والتقديم بالذات ، وتقديم السببية ، وتقديم الرتبة ، وتقديم الشرف ، وتقديم الأكثر على الأقل. ولكنّ هذه الموضوعات ـ ما عدا ـ الالتفات أدخلها البلاغيون في أبواب أخرى تتصل بها كالتقديم والتأخير والتغليب والاستفهام.

وقد ذكر ابن الأثير أنّ هذا الفن سمي «شجاعة العربية» لأنّ «الشجاعة هي الإقدام وذاك أنّ الرّجل

__________________

(١) سورة ص ٣٠ ، ٤٤.

(٢) الذاريات ٤٨.

(٣) دلائل الاعجاز ص ١٨١ ، الايضاح ص ١٥٥ ، التلخيص ص ١٨٦ ، شروح التلخيص ج ٣ ص ٥٢ ، المطول ص ٢٥٨ ، الأطول ج ٢ ص ١٤.

(٤) مفتاح العلوم ص ١٢١.

(٥) البقرة ١٥.

(٦) البقرة ١٢.

(٧) الايضاح ص ١٥٥ ، التلخيص ص ١٨٥ ، وينظر دلائل الاعجاز ص ١٧٨ ، شروح التلخيص ج ٣ ص ٥٠ ، المطول ص ٢٥٧ ، الاطول ج ٢ ص ١٣.

(٨) اللسان (شجع).

(٩) الخصائص ج ٢ ص ٣٦٠.

(١٠) المثل السائر ج ٢ ص ٤ ، الجامع الكبير ص ٩٨ ، جوهر الكنز ص ١١٨.

٥١٥

الشجاع يركب ما لا يستطيعه غيره ويتورّد ما لا يتوّرده سواه وكذلك هذا الالتفات في الكلام فإنّ اللغة العربية تختص به دون غيرها من اللغات» (١) ، وذكر العلوي مثل ذلك عند كلامه على الالتفات (٢).

شجاعة الفصاحة :

لم يذكر أحد هذا النوع في البديع ، وهو من مستخرجات ابن جني قال : «هو عبارة عن حذف شيء من لوازم الكلام وثوقا بمعرفة السامع به» (٣).

وقال الشريف الرضي : «وكان شيخنا ابو الفتح رحمة الله يسمي هذا الجنس «شجاعة الفصاحة» لأنّ الفصيح لا يكاد يستعمله إلّا وفصاحته جريّة العنان ، غزيرة الموادّ» (٤) ، ومثاله قوله تعالى : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ)(٥) أي : الشمس ، ولم يجر لها ذكر ، وقوله : (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها)(٦) أي : المدينة ، ولم يجر لها ذكر ، وقوله : (إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ)(٧) أي : الروح ، ولم يجر لها ذكر.

ومنه قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «أرجو أن لا يطلع علينا نقابها» (٨) يريد نقاب المدينة ولم يجر لها لكنّه أقام علم المخاطبين بها مقام تصريحه.

ومن ذلك قول حاتم :

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر

أي : النفس ، ولم يجر لها ذكر.

قال المدني : «وأكثر الأمثلة المذكورة عند علماء المعاني من وضع المضمر موضع المظهر إما لا شتهاره ووضوح أمره أو لأنّ الذهن لا يلتفت الى غيره أو لغير ذلك من الاعتبارات. وليس من الحذف في شيء كما لا يخفى لكنّ ابن جني مثّل لهذا النوع بالحديث السابق فكأنه لاحظ أنّ المتكلم حذف من الكلام مرجع الضمير لعلم السامع به» (٩).

الشّماتة :

الشماتة : فرح العدوّ ، وقيل : الفرح ببلية العدوّ ، وقيل : الفرح ببليّة تنزل بمن تعاديه ، والفعل منهما : شمت به يشمت شماتة وشماتا وأشمته الله به (١٠).

وهذا النوع من مستخرجات المصري قال : «هو إظهار المسرة بمن نالته محنة أو أصابته نكبة ولم استمع في ذلك مثل قول ابن الرومي :

لا زال يومك عبرة لغدك

وبكت بشجو عين ذي حسدك

فلئن بكيت لطالما نكبت

بك همّة لجأت الى سندك

لو تسجد الأيّام ما سجدت

إلا ليوم فتّ في عضدك

يا نعمة ولّت غضارتها

ما كان أقبح حسنها بيدك

فلقد غدت بردا على كبدي

لمّا غدت نارا على كبدك

ورأيت نعمى الله زائدة

لما استبان النّقص في عددك

لم يبق لي مما برى جسدي

إلا بقايا الروح في جسدك (١١)

وقال المصري : «ولم أظفر منه في الكتاب العزيز بشيء

__________________

(١) المثل السائر ج ٢ ص ٤ ، الجامع الكبير ص ٩٨.

(٢) الطراز ج ٢ ص ١٣١.

(٣) أنوار الربيع ج ٥ ص ١٩٢.

(٤) المجازات النبوية ص ٣٤.

(٥) سورة ص ٣٢.

(٦) الاحزاب ١٤.

(٧) القيامة ٢٦.

(٨) النقاب : جمع نقب ، وهو الطريق في الجبل.

(٩) أنوار الربيع ج ٥ ص ١٩٣.

(١٠) اللسان (شمت).

(١١) تحرير التحبير ص ٥٦٧.

٥١٦

إلا قوله تعالى لفرعون وقد قال فرعون : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ)(١) الى قوله تعالى : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) الى قوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ : ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ)(٢) وعجز الاية أردت. وكقوله سبحانه : (هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)(٣).

ومن تتبع هذه المعاني وجدها كثيرة (٤).

__________________

(١) يونس ٩٠ ـ ٩١.

(٢) السجدة ٢٠.

(٣) التوبة ٣٥.

(٤) بديع القرآن ص ٢٨٢.

٥١٧

الصاد

صحّة الأقسام :

هو «استيفاء المتكلّم أقسام المعنى الذي هو آخذ فيه بحيث لا يغادر منه شيئا» (١) وهو التقسيم ، وقد تقدّم.

صحّة الأوصاف :

قال ابن سنان : «هو أن يمدح الإنسان بما يليق به ولا ينفر عنه» (٢) ، ولذلك عيب البحتري في مديحه الخليفة :

لا العذل يردعه ولا التّ

عنيف عن كرم يصدّه

وقيل : من هو الذي يجسر على عذل الخليفة وتعنيفه؟

وعيب عبد الرحمن القس في قوله :

سلّام ليت لسانا تنطقين به

قبل الذي نالني من صوته قطعا

وقيل : هذا غاية الغلظ والجفاء والمخالفة لعادة أهل الهوى.

وعيب على كثيّر قوله :

أريد لأنسى ذكرها فكأنّما

تمثّل لي ليلى بكلّ سبيل

وقيل : لم أراد أن ينسى ذكرها حتى تتمّل له؟

صحّة التّشبيه :

قال ابن سنان : «هو أن يقال أحد الشيئين مثل الآخر في بعض المعاني والصفات ولن يجوز أن يكون أحد الشيئين مثل الآخر من جميع الوجوه حتى لا يعقل بينهما تغاير البتة لأنّ هذا لو جاز لكان أحد الشيئين هو الآخر بعينه وذلك محال وإنّما الأحسن في التشبيه أن يكون أحد الشيئين يشبه الآخر في أكثر صفاته ومعانيه وبالضد حتى يكون رديء التشبيه ما قلّ شبهه بالمشبه به» (٣).

ومن التشبيهات الرائعة قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً)(٤).

ومن بديع التشبيه قول النابغة الذبياني :

فإنّك كالليل الذي هو مدركي

وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع

صحّة التّفسير :

صحة التفسير من أنواع المعاني عند قدامة وقد قال : «هي أن يضع الشاعر معاني يريد أن يذكر أحوالها في شعره الذي يصنعه فاذا ذكرها أتى بها من غير أن يخالف معنى ما أتى به منها ولا يزيد أو

__________________

(١) تحرير التحبير ص ١٧٣ ، بديع القرآن ص ٦٥ ، حسن التوسل ص ٢٥٦ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٣٦.

(٢) سر الفصاحة ص ٣٠١.

(٣) سر الفصاحة ص ٢٩٠.

(٤) النور ٣٩.

٥١٨

ينقص» (١).

وصحة التفسير هو التفسير وقد تقدّم.

صحّة التّقسيم :

هو صحّة الأقسام والتقسيم (٢) وقد تقدّما.

صحّة المقابلة :

عدّها قدامة من أنواع المعاني وأجناسها وقال : «هي أن يصنع الشاعر معاني يريد التوفيق بين بعضها وبعض أو المخالفة فيأتي في الموافق بما يوافق وفي المخالف بما يخالف على الصحة أو بشرط شروطا ويعدد أحوالا في أحد المعنيين فيجب أن يأتي بما يوافقه بمثل الذي شرطه وعدّده وفيما يخالف باضداد ذلك» (٣) ومنه قول الشاعر :

فواعجبا كيف اتفقنا فناصح

وفيّ ومطويّ على الغلّ غادر؟

فقد أتى بازاء كل ما وصفه من نفسه بما يضاده على الحقيقة ممن عاتبه حيث قال بازاء «ناصح» : «مطوي على الغل» وبازاء «وفي» : «غادر».

وقال ابن سنان : «هو أن يضع مؤلف الكلام معاني يريد التوفيق بين بعضها وبعض والمخالفة فيأتي في الموافق بما يوافق وفي المخالف بما يخالفه على الصحة» (٤). وقال البغدادي : «هو أن يؤتى بمعان يراد التوفيق بينها وبين معان أخرى ومضادة فيؤتى في الموافق بموافقه وفي المضاد بمضاده» (٥).

ولا يخرج كلام المصري عما ذكره قدامة والمتقدمون (٦) ، وسيكون التفصيل في «المطابقة» والفرق بينها وبين الطباق.

صحّة النّسق :

قال ابن سنان عن صحة النسق والنظم : «هو أن يستمر في المعنى الواحد واذا أراد أن يستأنف معنى آخر أحسن التخلّص اليه حتى يكون متعلقا بالأول وغير منقطع عنه» (٧).

ومعنى ذلك أنّه حسن الخروج عند الآخرين ، وقد أوضح ابن سنان ذلك فقال : «ومن هذا الباب خروج الشعراء من النسيب الى المدح ، فان المحدثين أجادوا التخلص حتى صار كلامهم في النسيب متعلقا بكلامهم في المدح لا ينقطع عنه ، فأما العرب المتقدمون فلم يكونوا يسلكون هذه الطريقة وإنّما كان أكثر خروجهم من النسيب إما منقطعا وإما مبنيا على وصف الابل التي ساروا الى الممدوح عليها».

الصّرف :

هو الالتفات والانصراف (٨) ، وقد سمّاه كذلك ابن وهب الذي قال : «واما الصرف فانه يصرفون القول من المخاطب الى الغائب ومن الواحد الى الجماعة» (٩). وقد تقدّم الكلام عليه في الالتفات وأشير اليه في الانصراف.

__________________

(١) نقد الشعر ص ١٥٤ ، وينظر كتاب الصناعتين ص ٣٤٥ ، اعجاز القرآن ص ١٤٣ ، سر الفصاحة ص ٣١٨ ، قانون البلاغة ص ٤١٢ ، تحرير ص ١٨٥ ، بديع القرآن ص ٧٤.

(٢) البيان ج ١ ص ٢٤٠ ، نقد الشعر ص ١٤٩ ، جواهر الالفاظ ص ٦ ، كتاب الصناعتين ص ٣٤١ ، إعجاز القرآن ص ١٤١ ، سر الفصاحة ص ٢٧٧ ، الوافي ص ٢٧٣ ، قانون البلاغة ص ٤١١ ، ٤٤٥ ، المثل السائر ج ٢ ص ٣٠٤ ، الجامع الكبير ص ٢١٨ ، جوهر الكنز ص ١٤٤ ، الروض المريع ص ١٢٩.

(٣) نقد الشعر ص ١٥٢.

(٤) سر الفصاحة ص ٣١٣.

(٥) قانون البلاغة ص ٤١١.

(٦) تحرير التحبير ص ١٧٩ ، بديع القرآن ص ٧٣.

(٧) سر الفصاحة ص ٣١٥.

(٨) البديع في نقد الشعر ص ٢٠٠ ، معالم الكتابة ص ٧٦.

(٩) البرهان في وجوه البيان ص ١٥٢.

٥١٩

الضاد

ضعف التّأليف :

الضّعف والضّعف : خلاف القوة ، وقيل الضّعف ـ بالضم ـ في الجسد ، والضّعف ـ بالفتح ـ في الرأي والعقل ، يقال : ضعف يضعف ضعفا وضعفا» (١).

وضعف التأليف أن يركب الكلام تركيبا خارجا على الأسلوب المألوف مثل : «ضرب غلامه زيدا» فانّ رجوع الضمير الى المفعول المتأخر ممتنع عند الجمهور لئلا يلزم رجوعه الى ما هو متأخر لفظا ورتبة. وقيل : يجوز لقول الشاعر :

جزى ربّه عني عديّ بن حاتم

جزاء الكلاب العاويات وقد فعل

وأجيب عنه بأنّ الضمير لمصدر «جزى» أي : ربّ الجزاء ، كما في قوله تعالى : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)(٢) أي : العدل.

وضعف التأليف من الموضوعات التي تحدث عنها البلاغيون في فصاحة الكلام ، وقد قال القزويني : «وأمّا فصاحة الكلام فهي خلوصه من ضعف التأليف ، وتنافر الكلمات والتعقيد مع فصاحتها» (٣).

__________________

(١) اللسان (ضعف).

(٢) المائدة ٨.

(٣) الايضاح ص ٤ ، التلخيص ص ٢٦ ، شروح التلخيص ج ١ ص ٩٥ ، المطول ص ٢٠ ، الاطول ج ١ ص ٢٢.

٥٢٠