معجم المصطلحات البلاغيّة وتطوّرها

الدكتور أحمد مطلوب

معجم المصطلحات البلاغيّة وتطوّرها

المؤلف:

الدكتور أحمد مطلوب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة لبنان ناشرون
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٥

يكون البيت صحيح المعنى مستقيم الوزن ، لا يضطر الشاعر فيه لاقامة الوزن الى اخراج المعنى عن وجه الصحة أو تقديم أو تأخير أو حذف (١)» ، وذكر أمثلة الفن السابق. ولكنّ حازما القرطاجني تحدث عن صلة الوزن بالمعنى ، أي أنّ للاعاريض اعتبارا من جهة ما تليق به من الأغراض فمنها أعاريض فخمة تصلح للفخر ، ومنها أعاريض رقيقة تصلح لاظهار الحزن ، وعلى هذا الأساس قسّم أوزان الشعر الى السّبط ، والجعد ، واللين الشديد ، والذي بين بين. ويقوم هذا التقسيم على اعتبار الحركات والسكنات ، فالسبطات هي التي تتوالى فيها ثلاثة متحركات ، والجعدة هي التي تتوالى فيها أربعة سواكن من جزءين أو ثلاثة من جزء ـ أي لا يكون بين ساكن منها وآخر إلّا حركة ـ والمعتدلة هي التي تتلاقى فيها ثلاثة سواكن من جزءين أو ساكنان في جزء ، والقوية هي التي يكون الوقوف في نهاية أجزائها على وتد أو سببين. والضعيفة هي التي يكون الوقوف في نهاية أجزائها على سبب واحد ويكون طرفاه قابلين للتغيير (٢). وهذه الحركات والسكنات لها ميزة في السمع وصفة أو صفات تخصه من جهة ما يوجد له رصانة في السمع أو طيش ، ومن جهة ما يوجد له سباطة وسهولة أو جعودة وتوعّر. ولما كانت أغراض الشعر مختلفة وجب أن تحاكى تلك الأغراض والمقاصد بما يناسبها من الاوزان ، وأعلى البحور درجة الطويل والبسيط ويتلوهما الوافر والكامل ، ومجال الشاعر في الكامل أفسح منه في غيره ، ويتلو ذلك الخفيف. أما المديد والرمل ففيهما ضعف ولين ، وأما المنسرح ففيه اضطراب وتقلقل ، وفي السريع والرجز كزازة ، وفي المتقارب سذاجة لتكرار أجزائه وإن كان الكلام فيه حسن الاطراد ، وفي الهزج سذاجة وحدّة ، وفي المجتث والمقتضب حلاوة قليلة على طيش فيهما ، وفي المضارع قبح ، ولذلك ينبغي أن يصاغ الشعر في الوزن الذي يلائم معناه.

ولم يتحدث البلاغيون الآخرون مثل هذا الحديث وانما تابعوا قدامة مع أنّ الفلاسفة المسلمين أشاروا الى هذه المسألة فقال الفارابي وهو يتحدث عن اليونان : «جعلوا لكل نوع من أنواع الشعر نوعا من أنواع الوزن مثل أنّ أوزان المدائح غير أوزان الأهاجي ، وأوزان الأهاجي غير أوزان المضحكات وكذلك سائرها» (٣) وقال ابن سينا : «واليونانيون كانت لهم أغراض محدودة فيما يقولون الشعر وكانوا ـ يخصون كل غرض بوزن على حدة ، وكانوا يسمون كل وزن باسم على حدة» (٤). ولعل حازما أراد أن يثبت غير ما قاله هذان الفيلسوفان حينما نسبا هذه المزية الى اليونان وحدهم فتحدث عن صلة الوزن بأغراض الشعر العربي ، أو «ائتلاف الوزن مع المعنى» ، ولكنه لم يفصّل القول في ذلك وظل بعيدا عن كشف أسرار هذا الائتلاف ، وظل البلاغيون الآخرون مرتبطين بما قاله قدامة في هذا الفن.

الابتداء :

ذكر البلاغيون أنّ الأديب ينبغي أن يتأنّق في ثلاثة مواضع من كلامه حتى يكون أعذب لفظا ، وأحسن سبكا ، وأصحّ معنى. وهذه المواضع هي : الابتداء ، والتخلص ، والانتهاء.

والابتداء أن يكون مطلع الكلام شعرا أو نثرا ، أنيقا بديعا ، لأنّه أول ما يقرع السمع فيقبل السامع على الكلام ويعيه ، وإن كان بخلاف ذلك أعرض عنه ورفضه وإن كان في غاية الحسن. وقد استحسن القدماء مطلع النابغة الذبياني :

كليني لهمّ يا أميمة ناصب

وليل أقاسيه بطيء الكواكب

__________________

(١) أنوار الربيع ج ٦ ص ٢٢٧.

(٢) منهاج البلغاء ص ٢٦٠.

(٣) رسالة في قوانين صناعة الشعراء (فن الشعر) ص ١٥٢.

(٤) كتاب المجموع ص ٣٠.

٢١

ومطلع أشجع السّلمي :

قصر عليه تحية وسلام

خلعت عليه جمالها الأيام

وقالوا إنّ الابتداءات البارعة التي تقدم أصحابها فيها معروفة ، منها :

أولا : قول النابغة المتقدم.

ثانيا : قول علقمة بن عبدة :

طحابك قلب في الحسان طروب

بعيد الشباب عصر حان مشيب

ثالثا : قول امرئ القيس :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل

رابعا : قول القطامي :

إنّا محيّوك فاسلم أيّها الطّلل

وإن بليت وإن أعيا بك الطيل

خامسا : قول أوس بن حجر :

أيّتها النفس أجملي جزعا

إنّ الذي تحذرين قد وقعا

إنّ الذي جمع الشجاعة والنج

دة والحزم والنّدى جمعا

الألمعيّ الذي يظنّ بك الظّن

نّ كأن قد رأى وقد سمعا

وقالوا : «لم يبتدئ أحد من الشعراء بأحسن مما ابتدأ به أوس بن حجر ، لأنّه افتتح المرثية بلفظ نطق به على المذهب الذي ذهب إليه منها في القصيدة فأشعرك بمرادة في أول بيت» (١).

سادسا : قول أبي ذؤيب.

أمن المنون وريبها تتوجّع

والدهر ليس بمعتب من يجزع

وقد ابتدأ كلامه في أوله بما دل على آخر غرضه.

ومثل هذه الابتداءات كثير في شعر القدماء والمحدثين.

واستقبحوا مطلع اسحاق الموصلي :

يا دار غيّرك البلى ومحاك

يا ليت شعري ما الذي أبلاك

لأنّ القصيدة في تهنئة المعتصم بالله لما بنى قصره بالميدان وجلس فيه ، وقيل : إنّ المعتصم تطيّر بهذا الابتداء وأمر بهدم القصر.

وليس ما وقع فيه اسحاق من قبح الابتداء فريدا بل قد وقع فيه شعراء كبار كالمتنبي قال الثعالبي : «ولأبي الطيب ابتداءات ليست لعمري من أحرار الكلام وغرره بل هي ـ كما نعاها عليه العائبون ـ مستشنعة لا يرفع السمع لها حجابه ولا يفتح القلب لها بابه» (٢) من ذلك قوله :

هذي برزت لنا فهجت رسيسا

ثم انصرفت وما شفيت نسيسا

فانه لم يرض بحذف علامة النداء من «هذي» حتى ذكر الرسيس والنسيس ، فأخذ بطرفي الثقل والبرد.

وأحسن الابتداءات ما ناسب المقصود ويسمى «براعة الاستهلال» كقول أبي تمام يهنئ المعتصم بفتح عمورية وكان أهل التنجيم زعموا أنّها لا تفتح في ذلك الوقت :

السيف أصدق أنباء من الكتب

في حدّه الحدّ بين الجدّ واللّعب

بيض الصفائح لاسود الصحائف في

متونهنّ جلاء الشّكّ والرّيب

وقول المتنبي يرثي أم سيف الدولة الحمدانى :

نعدّ المشرفية والعوالي

وتقتلنا المنون بلا قتال

__________________

(١) حلية المحاضرة ج ١ ص ٢٠٦.

(٢) يتيمة الدهر ج ١ ص ١٦١.

٢٢

ونرتبط السوابق مقربات

وما ينجين من خبب الليالي

وهذا ما ذهب اليه البلاغيون وأكّدوه (١). ومنهم من يسمي هذا الفن «حسن المطالع والمبادي» كالثعالبي الذي عقد فصلا للكلام على ابتداءات المتنبي الحسنة ، وابن قيم الجوزية الذي قال عنه : «وذلك دليل على جودة البيان وبلوغ المعاني الى الاذهان ، فانه أول شيء يدخل الأذن ، وأول معنى يصل الى القلب ، وأول ميدان يجول فيه تدبر العقل» (٢).

وقسمه الى قسمين :

الأول : جليّ كقوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٣) ، وأكثر مطالع سور القرآن الكريم على هذا النمط.

الثاني : خفّي كقوله تعالى : (الم. ذلِكَ الْكِتابُ)(٤) ، وما يجري مجرى ذلك من السور التي افتتحت بالحروف المفردة والمركبة.

الإبداع :

الابداع من «أبدع» وهو أن يأتي الشاعر بالبديع ، والبديع : الشيء الذي يكون أولا (٥).

والابداع سمة الشاعر المبتكر والكاتب المقتدر ، وقد وضعه البلاغيون والنقاد في قمة الانتاج وإن كان قليلا إذا قيس بغيره. قال ابن رشيق : «الابداع : هو اتيان الشاعر بالمعنى المستظرف الذي لم تجر العادة بمثله. ثم لزمته هذه التسمية حتى قيل له بديع وإن كثر وتكرر فصار الاختراع للمعنى والابداع للفظ ، فاذا تمّ للشاعر أن يأتي بمعنى مخترع في لفظ بديع فقد استولى على الأمد وحاز قصب السبق» (٦).

وقال الوطواط : «قال أرباب البيان إنّ هذه الصنعة عبارة عن نظم المعاني البديعة في ألفاظ حسنة بعيدة عن التكلف. وفي رأيي أنّ ذلك لا يدخل في جملة الصناعات لأنّ كلام العقلاء والفضلاء سواء المنظوم منه أو المنثور يجب أن يكون على هذا النسق فان لم يكن كذلك اعتبر من أحاديث العوام» (٧).

وقسم ابن الأثير المعاني الى ضربين :

أحدهما : يبتدعه مؤلف الكلام من غير أن يقتدي فيه بمن سبقه وهذا الضرب ربما يعثر عليه عند الحوادث المتجددة ويتنبه له عند الامور الطارئة.

ومن ذلك ما ورد في شعر أبي تمام في وصف مصلّبين :

بكروا وأسروا في متون ضوامر

قيدت لهم من مربط النّجار

لا يبرحون ومن راهم خالهم

أبدا على سفر من الأسفار

وهذا المعنى مما يعثر عليه عند الحوادث المتجددة ، والخاطر في مثل هذا المقام ينساق الى المعنى المخترع من غير كلفة كبيرة لشاهد الحال الحاضرة.

ومن هذا الضرب ما جاء في شعر المتنبي وفي وصفه الحمّى ، وهو قوله :

وزائرتي كأنّ بها حياء

فليس تزور إلا في الظلام

بذلت لها المطارف والحشايا

فعافتها وباتت في عظامي

كأنّ الصّبح يطردها فتجري

مدامعها بأربعة سجام

أراقب وقتها من غير شوق

مراقبة المشوق المستهام

__________________

(١) التلخيص ص ٤٢٩ ، الإيضاح ص ٤٢٨ ، عروس الأفراح ج ٤ ص ٥٣١ ، المختصر ج ٤ ص ٥٣١ ، المطول ٤٧٧ ، مواهب الفتاح ج ٤ ص ٥٣١.

(٢) الفوائد ص ١٣٧.

(٣) الفاتحة ٢.

(٤) البقرة ٢.

(٥) لسان العرب (بدع).

(٦) العمدة ج ١ ص ٢٦٥.

(٧) حدائق السحر ص ١٨٨.

٢٣

وأما الضرب الثاني وهو الذي يحتذى فيه على مثال سابق ومنهج مطروق فذلك جلّ ما يستعمله مؤلفو الكلام ، ولذلك قال عنترة :

هل غادر الشعراء من متردم

أم هل عرفت الدار بعد توهّم (١)

ولكن قول من قال : «لم يترك المتقدم للمتأخر شيئا» لا يؤخذ به ؛ لأنّ في كل زمان جديدا وفي كل عصر بديعا.

وقال المصري : «هو أن تكون مفردات كلمات البيت من الشعر أو الفصل من النثر أو الجملة المفيدة متضمنة بديعا بحيث تأتي في البيت الواحد والقرينة الواحدة عدة ضروب من البديع بحسب عدد كلماته أو جملته ، وربما كان في الكلمة الواحدة المفردة ضربان فصاعدا من البديع ومتى لم تكن كل كلمة بهذه المثابة فليس بابداع» (٢). واستخرج أحدا وعشرين ضربا من المحاسن في قوله تعالى (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ، وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ، وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ، وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(٣). ومن هذه الفنون : المناسبة والمطابقة والاستعارة والتمثيل والارداف والتعليل وصحة التقسيم (٤).

وقال السبكي : «هو ما يبتدع عند الحوادث المتجددة كالامثال التي تخترع وتضرب عند الوقائع» (٥) ، وهذا ما أفاض في الحديث عنه ابن الأثير عند ما تكلم على المعاني.

وذكر السيوطي أنّ الطيّبي سمّى هذا الفن إبداعا ، وسماه أهل البديعيات «سلامة الاختراع» (٦) ، ولكن تعريفهم للأخير يخرجه من الأول الذي عرّفه المصري ومن سار على نهجة تعريفا يختلف عن تعريف سلامة الاختراع ، قال المدني : «هذا النوع عبارة عن أن يخترع الشاعر معنى لم يسبق اليه ، وسماه بعضهم الابداع وهو اسم مطابق للمسمى غير أنّ أصحاب البديعيات وكثيرا من علماء البديع اصطلحوا على جعل الابداع اسما للاتيان في البيت الواحد والفقرة الواحدة بعدة أنواع من البديع ، وسمّوا هذا النوع بسلامة الاختراع ، ولكل ما اصطلح» (٧).

فالابداع عند بعضهم هو سلامة الاختراع ، والابداع عند آخرين هو أن يكون البيت من الشعر أو الفصل من النثر مشتملا على عدة ضروب من البديع وهو ما ذهب اليه المصري وتبعه فيه أصحاب البديعيات ، ولذلك كان للابداع وسلامة الاختراع تعريفان مختلفان عندهم وإن ذهب المدني الى ان «الابداع» اسم مطابق للمسمى ، غير أنّه خصّ بضروب البديع ، وخص سلامة الاختراع بالمعنى الجديد.

الإبدال :

الابدال من «أبدل» وأبدل الشي وبدّله : تخذه منه بدلا ، وأبدلت الشي بغيره وبدّله الله من الخوف أمنا ، وتبديل الشيء : تغييره ، وان لم تأت ببدل (٨).

وقد أدخله المتأخرون في فنون البديع وقالوا في تعريفه إنّه «إقامة بعض الحروف مقام بعض» ، وجعل منه ابن فارس «فانفلق» أي : فانفرق ، ولذلك قال تعالى : (فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)(٩). وعن

__________________

(١) المثل السائر ج ١ ص ٣١٢.

(٢) تحرير التحبير ص ٦١١ ، بديع القرآن ص ٣٤٠.

(٣) هود ٤٤.

(٤) السابقان وحسن التوسل ص ٣١٣ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٧٥ ، جوهر الكنز ص ٢٣١ ، خزانة الادب ص ٣٧٠ ، الاتقان ج ٢ ص ٩٦ ، معترك الاقران ج ١ ص ٤١٩ ، أنوار الربيع ج ٥ ص ٣٢٨ ، نفحات الأزهار ص ٢١٢.

(٥) عروس الافراح ج ٤ ص ٤٧٣.

(٦) شرح عقود الجمان ص ١٦٣ ، التبيان في البيان ص ٢٤٩ ، شرح الكافية ص ٢٩٢.

(٧) أنوار الربيع ج ٦ ص ٢٠٤.

(٨) اللسان (بدل).

(٩) الشعراء ٦٣.

٢٤

الخليل بن احمد في قوله تعالى : (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ)(١) انّه أريد فحاسوا ، فقامت الجيم مقام الحاء. وحكي عن أبي رياش في قول امرئ القيس :

وإن تك قد ساءتك مني خليقة

فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل

معناه «تنسلل» فأخرج اللام الثانية ياء لكسرة اللام الأولى. ومثله قول الآخر :

وإنّي لاستنعى وما بي نعسة

لعلّ خيالا منك يلقى خياليا

أراد : استنعس ، فاخرج السين ياءا (٢).

وليس هذا من فنون البديع بل هو من الدراسات اللغوية ، ولذلك بحثه ابن فارس في كتابه «الصاحبي» وتحدث عنه اللغويون في مباحثهم ، ولكن الباحثين في علوم القرآن كالزركشي والسيوطي عدوه من البديع وبحثوه مع التفويف وتأكيد المدح بما يشبه الذم والتقسيم والتدبيج.

إبراز الكلام في صورة المستحيل :

قد يبرز الكلام في صورة المستحيل وذلك على طريق المبالغة ليدل على بقية جمله ، كقوله تعالى : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ)(٣) وغالى بعض الشعراء في وصف النحول فقال :

ولو أنّ ما بي من جوى وصبابة

على جمل لم يبق في النار خالد

وهذا الفن من صور المبالغة المتناهية ، ولكنّ الزركشي تحدث عنه في فنون البديع (٤).

الإبهام :

الابهام بالباء الموحدة وهو الكلام الموهم لأنّ له أكثر من وجه ، وابهام الامر أن يشتبه فلا يعرف وجهه وقد أبهمه ، واستبهم عليهم الأمر : لم يدروا كيف يأتون له ، واستبهم عليه الأمر أي : استغلق (٥).

والابهام عند البلاغيين «إيراد الكلام محتملا لوجهين مختلفين» (٦) ، وسماه السكاكي التوجيه ، وسماه السيوطي كذلك. ولعله يريد السكاكي حينما قال عن التوجيه : «وعرّفه قوم بان يحتمل الكلام وجهين متباينين من المعنى احتمالا مطلقا من غير تقييد بمدح أو ذم أو غيره». وذكر تعريفا آخر ينطبق على الابهام فقال : «وقوم بأن يحتمل معنيين أحدهما مدح والآخر ذم ، وهذا رأي لا نرضاه. والذي عليه حذّاق الصنعة وأصحاب البديعيات وأولهم الصفي الحلي أنّ هذا التفسير للنوع المسمى بالابهام ـ بالباء الموحدة ـ كما اخترعه ابن أبي الاصبع وسماه وعرّفه بذلك» (٧). وقد فرّق المصري بين الابهام والاشتراك فقال : «الاشتراك لا يقع إلّا في لفظة مفردة لها مفهومان لا يعلم أيهما أراد المتكلم ، والابهام لا يكون إلّا في الجمل المؤتلفة المفيدة ويختص بالفنون كالمدح والهجاء والعتاب والاعتذار والفخر والرثاء والنسب وغير ذلك ، ولا كذلك الاشتراك» (٨) ، أي : أنّ الابهام عنده «أن يقول المتكلم كلاما يحتمل معنيين متضادين لا يتميز أحدهما على الآخر ولا يأتي في كلامه بما يحصل به التمييز فيما بعد ذلك بل يقصد ابهام الأمر فيهما قصدا» (٩).

__________________

(١) الاسراء ٥.

(٢) الصاحبي ص ٢٠٣ ، البرهان في علوم القرآن ج ٣ ص ٣٨٨ ، الاتقان ج ٢ ص ٨٩ ، معترك الأقران ج ١ ص ٣٩٢ ، الروض المريع ص ١٤٥.

(٣) الأعراف ٤٠.

(٤) البرهان ج ٣ ص ٤٧.

(٥) اللسان (بهم).

(٦) مفتاح العلوم ص ٢٠٢ ، وينظر الكشاف ج ١ ص ٤٠٠.

(٧) شرح عقود الجمان ص ١٢٧.

(٨) بديع القرآن ص ٣٠٦ ، تحرير التحبير ص ٥٩٦.

(٩) السابقان.

٢٥

وسار البلاغيون على خطا المصري في التسمية والتعريف (١) ، وقال المدني : «وزاد بعضهم : وينبغي أن يكون المراد انه إذا جرد عن القرائن ولم ينظر الى القائل والمقول فيه كان احتماله للمعنيين على السوية» (٢). وعقد العلوي فصلا للابهام والتفسير وقال : «إنّ المعنى المقصود إذا ورد في الكلام مبهما فانه يفيده بلاغة ويكسبه إعجابا وفخامة ، وذلك لانه إذا قرع السمع على جهة الابهام فان السامع له يذهب في إبهامه كل مذهب. ومصداق هذه المقالة قوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ)(٣) ثم فسّره بقوله : «أنّ دابر هؤلاء مقطوع مصبحين» (٤).

ولكن الابهام عند البلاغيين المتأخرين ولا سيما أصحاب البديعيات هو ما ذهب اليه المصري الذي ذكر له قول الشاعر مثالا :

جاء من زيد قباء

ليت عينيه سواء

فما علم هل أراد أنّ الصحيحة تساوي السقيمة أو العكس.

ومن إبهام العرب قول رجل من بني عبد شمس بن سعد بن تميم :

تضيّفني وهنا فقلت أسابقي

الى الزاد شلّت من يديّ الأصابع

ولم تلق للسعديّ ضيفا بقفرة

من الأرض إلّا وهو صديان جائع

فانّ ظاهر الشعر مبهم معناه فيظن سامعه أنه أراد ضيفا من البشر فيكون قد هجا به نفسه ، وانما هو يصف ذئبا غشي رحله في الليل وهو بالقفر ، وهذا فخر محض.

وكان ابن الأثير قد ذكر هذا الفن في الفصل الذي عقده للحكم على المعاني وقال إنّ المتنبي كثيرا ما يقصد الابهام في كافورياته ، ومن ذلك قوله في كافور :

فما لك تعنى بالأسنّة والقنا

وجدّك طعّان بغير سنان

فان هذا بالذم أشبه منه بالمدح لانه يقول : «لم تبلغ ما بلغته بسعيك واهتمامك بل بجد وسعادة ، وهذا لا فضل فيه ؛ لان السعادة تنال الخامل والجاهد (٥) ومن لا يستحقها» (٦).

ومن أمثلة الابهام التي ذكرها المدني قوله تعالى حكاية عن اليهود : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ، وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ)(٧). قال الزمخشري : «قولهم : «غير مسمع» حال من المخاطب ، أي اسمع وأنت غير مسمع ، وهو قول ذو وجهين ، يحتمل الذم أي : اسمع منا مدعوا عليك ـ بلا سمعت ـ لانه لو أجيبت دعوتهم عليه لم يسمع فكان أصمّ غير مسمع. قالوا ذلك اتكالا على أنّ قولهم ـ لا سمعت ـ دعوة مستجابة او اسمع غير مجاب الى ما تدعو اليه. ومعناه غير مسمع جوابا يوافقك فكأنك لم تسمع شيئا ، أو اسمع غير مسمع كلاما ترضاه فسمعك عنه ناب. ويجوز على هذا أن يكون «غير مسمع» مفعول «اسمع» أي : اسمع كلاما غير مسمع اياك لأنّ أذنك لا تعيه نبوّا عنه. ويحتمل المدح أي :اسمع كلاما غير مسمع مكروها ، من قولك اسمع فلان فلانا إذا سبّه. وكذلك قولهم «راعنا» يحتمل راعنا نكلمك أي ارقبنا وانتظرنا ، ويحتمل شبه كلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابّون بها وهي راعينا ، فكانوا سخرية بالدين وهزؤا برسول الله ـ صلّى الله

__________________

(١) حسن التوسل ص ٣١١ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٧٤ ، خزانة الأدب ص ٧٩ ، نفحات ص ٦٦ ، شرح الكافية ص ٨٩.

(٢) أنوار الربيع ج ٢ ص ٥.

(٣) الحجر ٦٦.

(٤) الطراز ج ٢ ص ٧٨.

(٥) كذا في طبعات المثل السائر ، وفي أنوار الربيع ج ٢ ص ١٦ ؛ الجاهل.

(٦) المثل السائر ج ١ ص ٣٥.

(٧) النساء ٤٦.

٢٦

عليه وسلم ـ يكلمونه بكلام محتمل ينوون به الشتيمة والاهانة ويظهرون به التوقير والاكرام. ليا بألسنتهم : فتلا بها وتحريفا ، أي يفتلون بألسنتهم الحق الى الباطل حيث يضعون «راعنا» موضع «انظرنا» و «غير مسمع» موضع : لا أسمعت مكروها. أو يفتلون بالسنتهم ما يضمرونه من الشتم الى ما يظهرونه من التوقير نفاقا.

فان قلت : كيف جاءوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعد ما صرّحوا وقالوا : سمعنا وعصينا؟

قلت : جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ولا يواجهونه بالسبّ ودعاء السوء. ويجوز أن يقولوه فيما بينهم ، ويجوز أن لا ينطقوا بذلك ولكنهم لما لم يؤمنوا جعلوا كأنهم نطقوا به» (١).

ومنه قول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقد ذكر عنده سريح بن الحضرمي وهو من الصحابة : «ذاك رجل لا يتوسّد القرآن» فيحتمل وجهين ذكرهما ثعلب عن ابن الأعرابي : أحدهما : المدح وهو انه لا ينام الليل حتى يتوسد القرآن معه فيكون مدحا.

والثاني : الذم وهو انه ينام ولا يتوسده معه أي لا يحفظه فيكون ذما.

ومن أمثلة الابهام قول محمد بن حازم الباهلي في الحسن بن سهل حين تزوج المأمون بابنته بوران :

بارك الله للحسن

ولبوران في الختن

يا ابن هرون قد ظفر

ت ولكن ببنت من

فلا يعلم ما أراد بـ «بنت من» في الرفعة أو في الحقارة ، ولما نمي هذا الشعر الى المأمون قال : «والله ما ندري أخيرا أراد أم شرا؟».

ومن ذلك قول الشاعر :

ويرغب أن يبني المعالي خالد

ويرغب أن يرضى صنيع الألائم

فان هذا يحتمل المدح والذم لانه إن قدّر «في» أولا و «عن» ثانيا فمدح وإن عكس فذم إذ يقال : رغب فيه ورغب عنه.

ومنه قول المتنبي في مدح كافور :

ويغنيك عما ينسب الناس أنه

اليك تناهى المكرمات وتنسب

فقد يريد به المدح ، أو السخرية أي : انه لا نسب لكافور.

وقوله :

وما طربي لما رأيتك بدعة

لقد كنت أرجو أن أراك فأطرب

فقد يحتمل السخرية والاستهزاء ، أو المدح.

وقوله :

وغير كثير أن يزورك راجل

فيرجع ملكا للعراقيين واليا

فظاهر البيت أنّ من رأى كافورا أفاد منه كسب المعالي ، وباطنه أنّ من رآه على ما به من النقص وقد صار الى الملك ضاق صدره أن يقصر عما بلغه وأن لا يتجاوز ذلك الى كسب المكارم ، وكذلك إذا رآه راجل لا يستكثر لنفسه أن يرجع واليا على العراقين.

والابهام فن بديع متسع الباب ، والأديب البارع يقدر أن ينزع فيه مذاهب مختلفة ، ويفتح أبوابا موصدة.

الاتّساع :

قال ابن رشيق : «هو أن يقول الشاعر بيتا يتسع فيه التأويل فيأتي كل واحد بمعنى وانما يقع ذلك لاحتمال اللفظ وقوته واتساع المعنى» (٢).

وقال المصري : «هو أن يأتي الشاعر ببيت يتسع فيه

__________________

(١) الكشاف ج ١ ص ٤٠٠.

(٢) العمدة ج ٢ ص ٩٣ ، وينظر المنزع البديع ص ٤٢٩.

٢٧

التأويل على قدر قوى الناظر فيه وبحسب ما تحتمل ألفاظه» (١).

وقال السبكي : «هو كل كلام تتسع تأويلاته فتتفاوت العقول فيها لكثرة احتمالاته لنكتة ما كفواتح السور» (٢).

وقال الحموي : «هذا النوع أي الاتساع يتسع فيه التأويل على قدر قوى الناظر فيه وبحسب ما تحتمل ألفاظه من المعاني» (٣).

وقال السيوطي : «هو أن يأتي بلفظ يتسع فيه التأويل بحسب قوى الناظر فيه وبحسب ما يحتمل اللفظ من المعاني كما وقع في فواتح السور» (٤).

وقال المدني : «هذا النوع عبارة عن أن يأتي المتكلم في كلامه نثرا كان أو نظما بلفظ فأكثر يتسع فيه التأويل بحسب ما يحتمله من المعاني» (٥).

وهذه التعريفات ترجع الى ما بدأه ابن رشيق وقرره المصري ، وهي تشير الى أنّ الاتساع يشمل الشعر والنثر ، فمن ذلك قوله تعالى : (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ)(٦) فقد اتسع التأويل في هاتين اللفظتين على ثلاثة وعشرين قولا ذكرها المدني وهي :

١ ـ هما الزوج والفرد من العدد ، وهذا تذكير بالحساب لعظم نفعه.

٢ ـ هما كل ما خلقه الله ، لأنّ الأشياء إمّا زوج أو فرد.

٣ ـ الشفع هو الخلق لكونه أزواجا ، والوتر هو الله تعالى وحده.

٤ ـ إنّ الشفع صفات الخلق لتبديلها بأضدادها كالقدرة والعجز ، والوتر صفات الله تعالى.

٥ ـ إنهما الصلاة ؛ لأنّ فيها شفعا ووترا.

٦ ـ إنّ الشّفع النحر ، والوتر يوم عرفة.

٧ ـ إنّ الشفع يوم التروية والوتر يوم عرفة.

٨ ـ إنّ الشفع شفع العشر الآخر من شهر رمضان ، والوتر وترها.

٩ ـ إنّ الشفع الليالي والايام ، والوتر يوم القيامة.

١٠ ـ إنّ الشفع شفع العشر التي أتمّ الله بها ليالي موسى ، والوتر وترها.

١١ ـ إنّ الشفع الصفا والمروة ، والوتر البيت الحرام.

١٢ ـ إنّ الشفع قوله تعالى : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ)(٧) والوتر من تأخر الى اليوم الثالث.

١٣ ـ إنّ الشفع آدم وحواء ، والوتر هو الله تعالى.

١٤ ـ إنّ الوتر آدم ، والشفع شفع بحواء.

١٥ ـ إنّ الشفع الركعتان من صلاة المغرب ، والوتر الركعة الثالثة.

١٦ ـ إنّ الشفع درجات الجنان ، لأنّها كلها شفع ، والوتر دركات النار لأنّها وتر.

١٧ ـ إنّ الشفع هو الله وهو الوتر أيضا.

١٨ ـ إنّ الشفع مسجدا مكة والمدينة ، والوتر مسجد بيت المقدس.

١٩ ـ إنّ الشفع القران في الحج والتمتع فيه ، والوتر الإفراد فيه.

٢٠ ـ إنّ الشفع الفرائض ، والوتر السّنن.

٢١ ـ إنّ الشفع الاعمال ، والوتر النية وهو الاخلاص.

٢٢ ـ إنّ الشفع العبادة التي تتكرر كالصوم والصلاة والزكاة ، والوتر العبادة التي لا تتكرر كالحج.

__________________

(١) تحرير التحبير ص ٤٥٤ ، بديع القرآن ص ١٧٣.

(٢) عروس الافراح ج ٤ ص ٤٦٩.

(٣) خزانة الأدب ص ٤٢٠.

(٤) شرح عقود الجمان ص ١٣٩ ، وينظر الروض المريح ص ١٣١ ، نفحات ص ١٦٩ ، شرح الكافية ص ٢٧٨.

(٥) أنوار الربيع ج ٦ ص ٥٣.

(٦) الفجر ٣.

(٧) البقرة ٢٠٣.

٢٨

٢٣ ـ إنّ الشفع الروح والجسد إذا كانا معا ، والوتر الروح بلا جسد ، فكأنه ـ تعالى ـ أقسم بها في حالتي الاجتماع والافتراق.

ومن الاتساع فواتح السور المشتملة على حروف التهجي ، فانّ التأويل فيها متسع أيضا.

ومن أمثلته الشعرية قول امرئ القيس :

مكر مفر مقبل مدبر معا

كجلمود صخر حطّه السيل من عل

فانه أراد أنّه يصلح للكر والفر ويحسن مقبلا مدبرا ، ثم قال «معا» أي جميع ذلك فيه وشبهه في سرعته وشدة جريه بجلمود صخر حطه السيل من أعلى الجبل ، فاذا انحط من عال كان شديد السرعة فكيف اذا أعانته قوة السيل من ورائه. وذهب قوم الى أنّ معنى قوله : «كجلمود صخر حطّه السيل من عل» انما هو الصلابة ؛ لان الصخر عندهم كلما كان أظهر للشمس والريح كان أصلب. وقال بعضهم : إنّما أراد الافراط فزعم أنّه يرى مقبلا ومدبرا في حال واحدة عند الكر والفر لشدة سرعته واعترض على نفسه واحتج بما يوجد عيانا فمثّله بالجلمود المنحدر من قنة الجبل ، فانك ترى ظهره في النصبة على الحال التي ترى فيها بطنه وهو مقبل اليك. وقال ابن رشيق بعد هذه التفسيرات : «ولعل هذا ما مرّ ببال امرئ القيس ، ولا خطر في وهمه ، ولا وقع في خلده ولا روعه» (١). وقال المصري أيضا : «ولم تخطر هذه المعاني بخاطر الشاعر في وقت العمل ، وانما الكلام إذا كان قويا من مثل هذا الفحل احتمل لقوته وجوها من التأويل بحسب ما تحتمل ألفاظه وعلى مقدار قوى المتكلمين فيه ولذلك قال الاصمعي : «خير الشعر ما أعطاك معناه بعد مطاولة» (٢).

ومنه قول الحماسي :

بيض مفارقنا تغلي مراجلنا

نأسوا بأموالنا آثار أيدينا

فانّ التأويل اتسع في قوله : «بيض مفارقنا» فقيل : أراد بذلك الطهارة والعفاف ، كقولهم : أبيض العرض والشيم والحسب. وقيل : أراد أنّهم كهول ومشايخ قد حنكهم التجارب وليسوا بالاغمار ، وقيل : أراد أنّهم ليسوا بعبيد لأنّ فرق الانسان اذا كان أبيض كان جميع جسده أبيض. وقيل : انحسار الشعر عن مقدم رؤوسهم لمداومتهم لبس البيض والمغافر. وقيل :معناه نحن كرام نكثر استعمال الطيب فابيضت مفارقنا لذلك. وقيل : نحن مكشوفو الرؤوس لا عيب فينا فعبّر عن النقاء بالبياض.

ومن ذلك قول المتنبي يذكر الروم :

وقد بردت فوق اللقان دماؤهم

ونحن أناس نتبع البارد السّخنا (٣)

أراد : أنّا نتبع البارد من الدماء سخنا ، كأنه يتوعدهم بقتل آخر ، فيكون قد أخذه من قول سويد بن كراع يصف كلابا وثورا :

فهزّ عليه الموت والموت دونه

على روقه منه مذاب وجامد (٤)

ويعني بالمذاب الحار ، وبالجامد البارد ، ويجوز أن يكون المتنبي أراد : ونحن أناس نتبع البارد من الطعام سخنا ، وكذلك أيضا عادتنا في الدماء.

اتّساق البناء :

يقال : وسق الليل واتّسق أي انضم ، والطريق يأتسق ويتسق : ينضم ، واتسق القمر : استوى ، واتساق القمر : امتلاؤه واجتماعه واستواؤه ليلة ثلاث عشرة وأربع عشرة ، وقال الفراء : الى ست عشرة فيهن امتلاؤه واتساقه (٥).

__________________

(١) العمدة ج ٢ ص ٩٣.

(٢) تحرير التحبير ص ٤٥٥.

(٣) اللقان موضع ببلاد الروم.

(٤) روقه ؛ قرنه.

(٥) اللسان (وسق).

٢٩

وذكر قدامة «اتساق البناء» (١) وقرنه بالسجع ولم يعرفه وانما قال إنّه كقول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لجرير بن عبد الله البجلي : «خير الماء الشبم ، وخير المال الغنم ، وخير المرعى : الأراك والسلم ، إذا سقط كان لجينا ، واذا يبس كان درينا ، واذا أكل كان لبينا» (٢).

اتّساق النّظم :

هذا الفن من صفات الشعر الجيد ، وقد ذكره ثعلب وقال إنّه «ما طاب قريضه ، وسلم من السناد والاقواء والاكفاء والاجازة والايطاء وغير ذلك من عيوب الشعر ، وما قد سهّل العلماء إجازته من قصر ممدود ، ومدّ مقصور ، وضروب أخر كثير وإن كان ذلك قد فعله القدماء وجاء عن فحولة الشعراء» (٣).

ومعظم الشعر يتصف باتساق النظم ، ولا يخرج منه إلا ما وقع فيه عيب أو ضرورة.

الاتّفاق :

الاتّفاق : التوافق والتظاهر ، والوفاق الموافقة ، ووفق الشيء ما لاءمه ، وقد وافقه موافقة ووفاقا واتفق معه وتوافقا (٤).

والاتفاق : «هو أن يتفق للشاعر شيء لا يتفق عاجلا كثيرا» (٥) ، وقد سماه ابن منقذ وابن قيم الجوزية «الاتفاق والاطراد» ، وقد عرفه الأول بما تقدم وعرّفه الثاني بمثل ذلك التعريف (٦).

وسماه المصري والسيوطي والمدني «الاتفاق» وعرفوه بما يشبه التعريف السابق فقال المصري : «هو أن تتفق للشاعر واقعة تعلمه العمل في نفسها فان للسبق الى معاني الوقائع التي يشترك الناس في مشاهدتها أو سماعها فضلا لا يجحد كما اتفق لبعض شعراء مصر ، ويقال إنه الرضي بن أبي حصينة وقد أغزى الملك الناصر صلاح الدين حاجبه حسام الدين لؤلؤ الافرنج الذين قصدوا الحجاز من بحر القلزم ، فظفر الحاجب بهم فقال ابن أبي حصينة في تهنئته مخاطبا للافرنج :

عدوكم لؤلؤ والبحر مسكنه

والدرّ في البحر لا يخشى من الغير

ثم قال بعد أبيات مخاطبا الملك الناصر ـ رحمه‌الله ـ.

فامر حسامك أن يحظى ينحرهم

فالدرّ مذ كان منسوب الى البحر (٧)

ثم قال : «ومن الاتفاق ان يتفق للشاعر أسماء لممدوحه ولآبائه يمكنه أن يستخرج منها مدحا لذلك الممدوح ولو لم تتفق تلك الاسماء على ما هي عليه لما اتفق استخراج ذلك المدح كقول أبي نواس :

عبّاس عبّاس إذا احتدم الوغى

والفضل فضل والربيع ربيع

وقد وقع في هذا البيت مع لطيف الاتفاق مليح الازدواج في قوله : «عباس عباس» و «الفضل فضل» و «الربيع ربيع». ولأبي نواس من القسم الاول من الاتفاق ما لم يتفق مثله في مرثية يرثي بها خلفا الاحمر :

وكان مما مضى لنا خلفا

وليس إذ بان منه من خلف

__________________

(١) جواهر الالفاظ ص ٣.

(٢) الشبم ؛ البارد. الاراك والسلم ؛ من أنواع النبات الطيب. اللجين ـ بفتح اللام ـ الخبط وذلك ان ورق الاراك والسلم يخبط حتى يسقط ويجف ثم يدق حتى يتلجن أي يتلزج. الدرين ؛ حطام المرعى إذا تناثر وسقط على الارض.

اللبين ؛ المدر للبن. يعني ان النعم اذا رعت الاراك والسلم غزرت ألبانها (النهاية في غريب الحديث ج ٤ ص ٢٢٩).

(٣) قواعد الشعر ص ٥٩.

(٤) اللسان (وفق).

(٥) البديع في نقد الشعر ص ٨٧.

(٦) الفوائد ص ٢٤٣.

(٧) تحرير التحبير ص ٥٠٣.

٣٠

فانه اتفق له من اسم المرثي تورية حسّنت موقع هذا البيت الى أن أتى في الطبقة العليا والغاية القصوى». ونقل الحموي هذا التعريف (١).

وقال السيوطي : «وهو عزيز الوقوع جدا ، وهو أن يتفق للشاعر واقعة واسم مطابق لتلك الواقعة» (٢).

وقال المدني : «هذا النوع وإن سمي بالاتفاق إلّا أنّه قليل الاتفاق لعزة وقوعه ، وهو عبارة عن أن يتفق للمتكلم واقعة وأسماء يطابقها إما مشاهدة أو سماعا» (٣).

ومن أمثلة ذلك قول أبي تمام :

لسلمى سلامان وعمرة عامر

وهندبني هند وسعدى بني سعد (٤)

ومن ذلك ما اتفق للشيخ شمس الدين الكوفي الواعظ في الوزير مؤيد الدين العلقمي حيث قال :

يا عصبة الاسلام نوحي والطمي

حزنا على ما حلّ بالمستعصم

دست الوزارة كان قبل زمانه

لابن الفرات فصار لابن العلقمي

فاتفق أنّ المذكورين كانا وزيرين وأنّ المورّى بهما نهران ، وقد طابق الناظم بينهما بالفرات الحلو والعلقم المر.

الاتّكاء :

الاتّكاء : الاحتمال على الشيء والاعتماد عليه ، يقال : توكأ على الشيء واتكأ : تحمل واعتمد فهو متكئ ، واتكأت الرجل اتكاء إذا وسّدته حتى يتكئ (٥).

والاتكاء الحشو الذي يحتمل عليه ويعتمد ، قال ابن رشيق هو : «أن يكون في داخل البيت من الشعر لفظ لا يفيد معنى وانما أدخله الشاعر لاقامة الوزن ، فان كان ذاك في القافية فهو استدعاء. وقد يأتي في حشو البيت ما هو زيادة في حسنه وتقوية لمعناه» (٦).

ومن ذلك قول ابن المعتز :

صببنا عليها ظالمين سياطنا

فطارت بها أيد سراع وأرجل

فقوله «ظالمين» حشو أقام به الوزن وبالغ في المعنى أشد مبالغة من جهته.

إثبات الشّيء للشّيء :

سماه المصري «اثبات الشيء للشيء ينفيه عن غير ذلك الشيء» ، وقد عرّفه بقوله : «هو أن يقصد المتكلم أن يفرد انسانا بصفة مدح لا يشركه فيها غيره فينفي تلك الصفة في أول كلامه عن جميع الناس ويثبتها له خاصة» (٧).

وذكر السبكي هذا الفن ولم يعرفه ، واكتفى بذكر مثال له (٨).

ومثاله قول الخنساء في أخيها صخر :

وما بلغت كفّ امرئ متناولا

من المجد إلّا والذي نلت أطول

وما بلغ المهدون للناس مدحة

وإن أطنبوا إلّا الذي فيك أفضل

فتناوله أبو نواس فقال في الأمين :

إذا نحن أثنينا عليك بصالح

فأنت كما نثني وفوق الذي نثني

وإن جرت الألفاظ منا بمدحة

لغيرك انسانا فأنت الذي نعني

__________________

(١) خزانة الأدب ص ٣٦٩ ، نفحات ص ٢١٨.

(٢) شرح عقود الجمان ص ١٣٦ ، شرح الكافية ص ٢٥٢.

(٣) أنوار الربيع ج ٥ ص ١٦٤.

(٤) السلامان ؛ شجر وماء لبني شيبان ، واسم.

(٥) اللسان (وكأ).

(٦) العمدة ج ٢ ص ٦٩.

(٧) بديع القرآن ص ٣٠٣.

(٨) عروس الافراح ج ٤ ص ٤٧٠.

٣١

قال المصري : «ومن هذا الباب قسم يقع في التشبيه والاخبار ، وهو أن يكون للمشبه أو المخبر عنه صفات فيعمد المتكلم الى نفي بعضها نفيا يلزم منه اثبات ما في تلك الصفات له ، كقول رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لعلي ـ عليه‌السلام ـ «اما ترضى أن تكون مني بمنزلة هرون من موسى إلا أنّه لا نبيّ بعدي» فسلبه النبوة مستثنيا لها من جميع ما كان لها من موسى ـ عليهما‌السلام ـ ومن القسم الأول من هذا الباب جميع معجزات الرسل ـ صلوات الله عليهم وسلامه ـ هي ، فان صورة المعجزة تنسب للنبي الذي جاءت على يده وتعدّ من فعله مجازا ، وهو في الحقيقة فعل الله تعالى ، ومن ذلك في الكتاب العزيز قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى)(١) ، فاثبت الرمي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إذ جاءت صورته على يده ونفى معناه عنه إذ كان لا يتأتى مثل ذلك الرمي إلا من الله سبحانه ، فان كل حصاة أصابت عين كل انسان من القوم ، وهذا لا يكون إلّا من فعل الله تعالى» (٢).

وذكر المصري أنّ هذا الفن من مبتدعاته وسماه في «تحرير التحبير» : باب السلب والإيجاب وعرفه مثل تعريف الأول فقال : «هو ان يقصد المادح أن يفرد ممدوحه بصفة مدح لا يشركه فيها غيره فينفيها في أول كلامه عن جميع الناس ويثبتها لممدوحه بعد ذلك» (٣). وذكر الأمثلة السابقة وأكملها بقول الشاعر :

فصرت كأني يوسف بين إخوتي

ولكن تعدّتني النبوّة والحسن

فسلب نفسه هاتين الصفتين من صفات يوسف ـ عليه‌السلام ـ ليثبت ما عداهما مما امتحن به يوسف من اخوته ، وهذا البيت وإن كان من شواهد الاستدراك فهو مما يليق أن يستشهد به ههنا.

ومن ذلك قول ابن الرومي :

كأنّا مع الجدران في جنباته

دمى في انقطاع الرزق لا في المحاسن

لما كانت الدمى موصوفة بهاتين الصفتين وكانت احداهما لائقة بالمعنى الذي قصده أثبتها ونفى ما عداها من الصفة التي لا تليق بغرضه.

ولكنّ هذين الفنين فن واحد وقد استدرك المصري على نفسه في الحاشية فقال : «قد عثرت على أنّ هذا الباب لمن تقدمني من جهة تسميته لا من جهة شواهده فسميته «اثبات الشيء للشيء بنفيه عن غير ذلك الشيء وتنزل باب السلب والايجاب بعد باب الاستثناء في أبواب من تقدمني». ولكنّ الأمثلة التي ذكرها للفنين واحدة ، وبذلك لم يكن هذا الفن من مبتدعاته أو مختلفا عن السلب والايجاب.

الإجازة :

الاجازة مشتقة المعنى من الاجازة في السقي ، يقال : أجاز فلان فلانا إذا سقى له أو سقاه. ويقال للذي يرد على أهل الماء فيستقي : مستجيز ، قال القطامي :

وقالوا فقيم قيّم الماء فاستجز

عبادة إنّ المستجيز على قتر (٤)

ويجوز أن يكون من «أجزت عن فلان الكأس» إذا تركته وسقيت غيره ، فجازت عنه دون أن يشربها.

والاجازة في الشعر أن تتم مصراع غيرك ، وقيل :الاجازة في الشعر أن يكون الحرف الذي يلي حرف الروي مضموما ثم يكسر أو يفتح ويكون حرف الرويّ

__________________

(١) الانفال ١٧.

(٢) بديع القرآن ص ٣٠٤ ، وينظر تحرير التحبير ص ٥٩٤.

(٣) تحرير التحبير ص ٥٩٣.

(٤) استجز ؛ اطلب ان تسقى ابلك. على قتر ؛ على خوف ، ويقال على خطر وحذر من أن لا يسقى.

٣٢

مقيدا. والاجازة في قول الخليل : أن تكون القافية طاء والأخرى دالا ونحو ذلك ، وهو الاكفاء في قول أبي زيد ، ورواه الفارسي : الاجازة بالراء غير معجمة (١).

فالاجازة «بناء الشاعر بيتا أو قسيما يزيده على ما قبله ، وربما أجاز بيتا أو قسيما بأبيات كثيرة» (٢). فأما ما أجيز فيه قسيم بقسيم فقول بعضهم لأبي العتاهية :أجز : «برد الماء وطابا» ، فقال : «حبّذا الماء شرابا». وأما ما أجيز فيه بيت ببيت فقول حسان بن ثابت وقد أرق ذات ليلة :

متاريك أذناب الامور إذا اعترت

أخذنا الفروع واجتنبنا أصولها

وأجبل فقالت ابنته : يا أبت ألا أجيزك عنه؟ فقال : أو عندك ذاك؟ قالت : بلى. قال : فافعلي ، فقالت :

مقاويل للمعروف خرس عن الخنا

كرام يعاطون العشيرة سولها

قال : فحمى الشيخ عند ذاك فقال :

وقافية مثل السنان ردفتها

تناولت من جوّ السماء نزولها

فقالت ابنته :

براها الذي لا ينطق الشعر عنده

ويعجز عن أمثالها أن يقولها

وذكر أنّ العباس بن الأحنف دخل على الذلفاء فقال : أجيزي عني هذا البيت :

أهدى له أحبابه أترجّة

فبكى وأشفق من عيافة زاجر

فقالت غير مفكرة :

خاف التلوّن إذ أتته لأنّها

لونان باطنها خلاف الظاهر

وأما ما أجيز فيه قسيم بيت ببيت ونصف فقول الرشيد للشعراء : أجيزوا : «الملك لله وحده» فقال الجماز :وللخليفة بعده

وللمحب إذا ما

حبيبه بات عنده

واستجاز سيف الدولة أبا الطيب قول العباس بن الأحنف :

أمنّي تخاف انتشار الحدي

ث ؛ وحظي في ستره أوفر

فصنع القصيدة المشهورة :

هواك هواي الذي أضمر

وسرّك سرّي فما أظهر

إلا أنّه خرج فيها عن المقصد.

والاجازة ليست فنا بديعيا كالجناس أو التورية وانما يدخل في الكلام على الشعر ، ولم يدخل في المعجم إلّا لانه قرن الى التضمين كما فعل ابن رشيق حينما عقد بابا واحدا للاجازة والتضمين.

الاجتلاب :

اجتلاب الشعر سوقه واستمداده من الغير ، وهو من اجتلب أي ساق واستمد (٣).

وقرن الحاتمي والصنعاني الاجتلاب بالاستلحاق ، وقال الثاني عن الأخذ والاستعانة : «فمنها المحمود ومنها المذموم ، فأحد رتبه أن يأخذ اللفظ جميعا والمعنى كالبيت والبيتين والسجع التام والسجعتين وذلك على وجهين : إما أن يكون اجتلابا واستلحاقا فلا يدعي أنّه له ، بل يستعين به ويكون مقرا به ، مثل ما فعل عمرو بن كلثوم ببيتي عمرو ذي الطوق وهما :

صددت الكأس عنا أمّ عمرو

وكان الكأس مجراها اليمينا

__________________

(١) العمدة ج ٢ ص ٥٠ ، اللسان (جوز).

(٢) العمدة ج ٢ ص ٨٩ ، وينظر نضرة الأغريض ص ١٩٤ وما بعدها.

(٣) اللسان (جلب).

٣٣

وما شرّ الثلاثة أمّ عمرو

بصاحبك الذي لا تصبحينا

فانه استلحقه بكلمته «ألا هبي بصحنك فاصبحينا» (١).

وكان ابن رشيق قد ذكر البيتين وقال : «وربما اجتلب الشاعر البيتين فلا يكون في ذلك بأس كما قال عمرو ذو الطوق : صددت ... فاستلحقهما عمرو بن كلثوم فهما في قصيدته ، وكان عمرو بن العلاء وغيره لا يرون ذلك عيبا ، وقد يصنع المحدثون مثل ذلك. قال زياد الاعجم :

أشمّ إذا ما جئت للعرف طالبا

حباك بما تحوي عليه أنامله

ولو لم يكن في كفه غير نفسه

لجاد بها فليتّق الله سائله

واستلحق البيت الأخير أبو تمام فهو في شعره. وأما قول جرير للفرزدق وكان يرميه بانتحال شعر أخيه الأخطل بن غالب :

ستعلم من يكون أبوه قينا

ومن كانت قصائده اجتلابا

فانما وضع الاجتلاب موضع السرق والانتحال لضرورة القافية ، هكذا ذكر العلماء من هؤلاء المحدثين ، وأما الجمحي فقال : من السرقات ما يأتي على سبيل المثل اجتلابا مثل قول أبي الصلت بن أبي ربيعة الثقفي :

تلك المكارم لا قعبان من لبن

شيبا بماء فعادا بعد أبوالا (٢)

ثم قال بعينه النابغة الجعدي لما أتى موضعه ، فبنو عامر ترويه للجعدي ، والرواة مجمعون انه لأبي الصلت ، فقد ذهب الجمحي في الاجتلاب مذهب جرير انّه انتحال ، ولم أر محدثا غيره يقول هذا القول» (٣).

فالاجتلاف والاستلحاق ليسا عيبا ، والى ذلك ذهب الحاتمي وقال : «وبعض العلماء لا يراهما عيبا ، ووجدت يونس بن حبيب وغيره من علماء الشعر يسمي البيت يأخذه الشاعر على طريق التمثيل فيدخله في شعره اجتلابا واستلحاقا فلا يرى ذلك عيبا. واذا كان الأمر كذلك فلعمري إنّه لا عيب فيما هذه سبيله» (٤).

الأحاجي :

يقال : كلمة محجية أي مخالفة المعنى للفظ ، وهي الأحجية والأحجوة ، والأحجية والحجيّا لعبة وأغلوطة يتعاطاها الناس بينهم ، وهي من نحو قولهم :أخرج ما في يدي ولك كذا. وفلان يأتينا بالأحاجي أي بالأغاليط (٥).

والأحاجي هي الأغاليط من الكلام وتسمى الألغاز ، وقد يسمّى هذا النوع : «المعمّى» ، قال ابن الأثير : «واما اللغز والاحجية فانهما شيء واحد وهو كل معنى يستخرج بالحدس والحزر لا بدلالة اللفظ عليه حقيقة ولا مجازا ولا يفهم من عرضه لأنّ قول القائل في الضرس :

وصاحب لا أملّ الدهر صحبته

يشقى لنفعي ويسعى سعي مجتهد

ما إن رأيت له شخصا فمذ وقعت

عيني عليه افترقنا فرقة الأبد

لا يدلّ على أنّه الضرس لا من طريق الحقيقة ولا من طريق المجاز ولا من طريق المفهوم ، وانما هو شيء يحدس ويحزر» (٦). ثم قال : «واذا ثبت هذا فاعلم أنّ هذا الباب الذي هو اللغز والاحجية والمعمّى يتنوع أنواعا : فمنه المصحّف ، ومنه

__________________

(١) الرسالة العسجدية ص ٥٢ ، وينظر حلية المحاضرة ج ٢ ص ٥٨.

(٢) القعب ؛ القدح الضخم.

(٣) العمدة ج ٢ ص ٢٨٣.

(٤) حلية المحاضرة ج ٢ ص ٥٨.

(٥) اللسان (حجا).

(٦) المثل السائر ج ٢ ص ٢٢٤.

٣٤

المعكوس ، ومنه ما ينقل الى لغة من اللغات غير العربية كقول القائل : اسمي اذا صحفته بالفارسية آخر ، وهذا اسمه اسم تركي وهو «دنكر» ـ بالدال المهملة والنون ـ وآخر بالفارسية «ديكر» ـ بالدال المهملة والياء المعجمة بثنتين من تحت ـ واذا صحفت هذه الكلمة صارت «دنكر» ـ بالنون ـ فانقلبت الياء نونا بالتصحيف ، وهذا غير مفهموم إلا لبعض الناس دون بعض. وانما وضع واستعمل لانه مما يشحذ القريحة ويحدّ الخاطر ؛ لانه يشتمل على معان دقيقة يحتاج في استخراجها الى توقد الذهن والسلوك في معاريج خفية من الفكر. وقد استعمله العرب في اشعارهم قليلا ، ثم جاء المحدثون فأكثروا منه ، وربما أتى منه بما يكون حسنا وعليه مشحة من البلاغة ، وذلك عندي بين بين فلا أعدّه من الأحاجي ولا أعدّه من فصيح الكلام».

ومن الأحاجي قول بعضهم :

سبع رواحل ما ينخن من الونا

شيم تساق بسبعة زهر

متواصلات لا الدؤوب يملّها

باق تعاقبها على الدّهر

هذان البيتان يتضمنان وصف أيام الزمان ولياليه ، وهي الاسبوع ، فان الزمان عبارة عنه.

وعلى هذا الاسلوب ورد قول المتنبي في وصف السفن :

وحشاه عادية بغير قوائم

عقم البطون حوالك الألوان

تأتي بما سبت الخيول كأنّها

تحت الحسان مرابض الغزلان (١)

وقد ورد من الألغاز شيء في كلام العرب المنثور غير أنّه قليل بالنسبة الى ما ورد في أشعارها ، وليس في كتاب الله شيء منها ، لانه لا يستنبط بالحدس والحزر كما تسنبط الالغاز.

الإحالة :

قال الدمنهوري : «الاحالة مصدر أحلته على كذا ، وهي قسمان : خفية وجلية ، كقوله تعالى : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ)(٢) إحالة على قوله : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ، وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(٣) ، وكقوله : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً)(٤). والإحالة في الآية الأولى ظاهرة وفي الثانية خفية لما قيل إنّها إحالة على قوله : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ)(٥) ، لتضمنه تفضيل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٦).

الاحتباك :

الاحتباك : شدّ الازار ، وكل شيء أحكمته وأحسنت عمله فقد احتبكته ، والمحبوك ما أجيد عمله ، والحبك : الشد والاحكام (٧). وكأن الاحتباك مأخوذ من الشد والاحكام ، وقد أشار الى ذلك السيوطي بقوله : «ومأخذ هذه التسمية من الحبك الذي معناه الشد والاحكام وتحسين أثر الصنعة في الثوب ، فحبك الثوب سدّ ما بين خيوطه من الفرج وشدّه ، وإحكامه بحيث يمنع عنه الخلل مع الحسن

__________________

(١) العقيم : الذي لا يلد. الحوالك : جمع حالكة وهي السوداء. المرابض ؛ جمع مريض ، وهو مأوى الغنم والوحش. يريد انه حشا الماء سفنا عادية بغير قوائم وبطونها عقم لانها لا تلد وهي سود الألوان لانها مقيرة. ويريد بالبيت الثاني ان السفن تحمل الجواري التي سبتها الفوارس.

(٢) النساء ١٤٠.

(٣) الانعام ٦٨.

(٤) النساء ١٦٣.

(٥) الأنبياء ١٠٥.

(٦) حلية اللب ص ١٦٩.

(٧) اللسان (حبك).

٣٥

والرونق وبيان أخذه منه أنّ مواضع الحذف من الكلام شبهت بالفرج بين الخيوط فلما أدركها الناقد البصير بصوغه الماهر في نظمه وحوكه فوضع المحذوف مواضعه كان حابكا له مانعا من خلل يطرقه فسدّ بتقديره ما يحصل به الخلل مع ما أكسبه من الحسن والرونق» (١).

والاحتباك أحد أقسام الحذف وقد سماه الزركشي «الحذف المقابلي» وعرّفه بقوله : «هو أن يجتمع في الكلام متقابلان فيحذف من واحد منهما مقابله لدلالة الآخر عليه» (٢). وذكره السيوطي باسم «الاحتباك» وقال عنه : «وهو من ألطف الأنواع وأبدعها وقلّ من تنبه له أو نبّه عليه من أهل البلاغة ، ولم أره إلّا في شرح بديعية الاعمى لرفيقه الاندلسي وذكره الزركشي في البرهان ولم يسمه هذا الاسم بل سماه «الحذف المقابلي» ، وأفرده بالتصنيف من أهل العصر العلامة برهان الدين البقاعي. قال الاندلسي في شرح البديعية : من أنواع البديع الاحتباك ، وهو نوع عزيز ، وهو أن يحذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني ، وفي الثاني ما أثبت نظيره في الاول» (٣).

ومنه قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ، قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ)(٤). الأصل : فان افتريته فعليّ إجرامي وانتم برآء منه ، وعليكم إجرامكم وأنا بريء مما تجرمون. فنسبة قوله تعالى : (إِجْرامِي) وهو الاول إلى قوله : (وعليكم إجرامكم) وهو الثالث كنسبة قوله : (وأنتم براء منه) وهو الثاني الى قوله تعالى : (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) وهو الرابع ، واكتفى من كل متناسبين بأحدهما.

ومنه قوله تعالى : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ)(٥) تقديره : إن أرسل فليأتنا بآية كما أرسل الأولون فاتوا بآية.

ومنه قوله تعالى : (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ)(٦) ، تقديره : أدخل يدك تدخل واخراجها تخرج ، إلّا انه قد عرض في هذه المادة تناسب بالطباق فلذلك بقي القانون فيه الذي هو نسبة الأول الى الثالث ، ونسبة الثاني الى الرابع على حالة الاكثرية فلم يتغير عن موضعه ولم يجعل بالنسبة التي بين الاول والثاني ، وبين الثالث والرابع وهي نسبة النظير ، كقول الشاعر :

وإني لتعروني لذكراك هزّة

كما انتفض العصفور بلّله القطر

أي : هزة بعد انتفاضة كما انتفض العصفور بلله القطر ثم اهتز.

وقد يحذف من الأول لدلالة الثاني عليه ، وقد يعكس ، وقد يحتمل اللفظ الأمرين. فالاول : كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ)(٧) في قراءة من رفع «ملائكته» أي : أنّ الله يصلي فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه وليس عطفا عليه.

والثاني : كقوله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ)(٨) أي : ما يشاء.

والثالث : كقوله : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ)(٩) ، فقد قيل : إنّ «أحق» خبر عن اسم الله تعالى ، وقيل بالعكس.

الاحتجاج النّظريّ :

احتج بالشيء اتخذه حجة ، والحجة البرهان

__________________

(١) الاتقان ج ٢ ص ٦٢ ، شرح عقود الجمان ص ١٣٣ ، معترك الأقران ج ١ ص ٣٢٣.

(٢) البرهان في علوم القرآن ج ٣ ص ١٢٩.

(٣) الاتقان ج ٢ ص ٦١ ، شرح عقود الجمان ص ١٣٣ ، معترك ج ١ ص ٣٢١.

(٤) هود ٣٥.

(٥) الانبياء ٥.

(٦) النمل ١٢.

(٧) الاحزاب ٥٦.

(٨) الرعد ٣٩.

(٩) التوبة ٦٢.

٣٦

والدليل ، وأحج خصمي أي أغلبه بالحجة (١).

والاحتجاج النظري لون من ألوان الكلام ، وسماه بهذا الاسم جماعة منهم أبو حيان الاندلسي وابن قيّم الجوزية وابن النقيب (٢) ، وسماه الزركشي «إلجام الخصم بالحجة» (٣) ، ولكن البلاغيين يسمونه «المذهب الكلامي».

وحقيقة هذا النوع احتجاج المتكلم على خصمه بحجة تقطع عناده وتوجب له الاعتراف بما ادعاه المتكلم وابطال ما أورده الخصم. وسمي المذهب الكلامي لأنّه «يسلك فيه مذهب أهل الكلام في استدلالهم على إبطال حجج خصومهم. والمراد بأهل الكلام علماء أصول الدين» (٤).

والمذهب الكلامي هو الفن الخامس من بديع ابن المعتز ، قال : «وهو مذهب سماه عمرو الجاحظ المذهب الكلامي ، وهذا باب ما أعلم أني وجدت في القرآن منه شيئا ، وهو ينسب الى التكلف ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا» (٥) ولم يحدد هذا الفن ، ولعله يريد به اصطناع أساليب الفلاسفة والمتكلمين في الجدل والاستدلال ، ولذلك نفاه عن القرآن الكريم.

ولم نعثر في كتب الجاحظ المعروفة على هذا المصطلح ، ولكنه يسخر أحيانا من الذين يتكلفون أداء الكلام تشبها بالمتكلمين (٦).

والمذهب الكلامي عند المتأخرين هو ايراد حجة للمطلوب على طريقة أهل الكلام ، وذلك أن يكون بعد تسليم المقدمات مقدمة مستلزمة للمطلوب ، وهذا ما نجده في كتاب الله وكلام العرب الذي استشهد به البلاغيون. وقد ذكره العسكري وأشار الى أن ابن المعتز نسبه الى التكلف (٧) ، وتحدث في أول كتاب الصناعتين عن وضوح الدلالة وقرع الحجة وهو مما يدخل في هذا الباب. قال : «ومن وضوح الدلالة وقرع الحجة قول الله سبحانه : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ، قالَ : مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ قُلْ : يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)(٨). فهذه دلالة واضحة على أنّ الله تعالى قادر على إعادة الخلق مستغنية بنفسها عن الزيادة فيها ؛ لأنّ الاعادة ليست بأصعب في العقول من الابتداء ، ثم قال تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ)(٩) ، فزادها شرحا وقوة ؛ لأنّ من يخرج النار من أجزاء الماء وهما ضدان ليس بمنكر عليه أن يعيد ما أفناه. ثم قال تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ)(١٠) فقوّاها أيضا وزاد في شرحها وبلغ بها غاية الايضاح والتوكيد لأنّ إعادة الخلق ليست بأصعب في العقول من خلق السماوات والأرض ابتداء» (١١). وهذا هو المذهب الكلامي عند المتأخرين ، أما ما ذكره في فصل المذهب الكلامي فهو متابعة لابن المعتز في معنى هذا الفن وأمثلته (١٢).

وتحدث عنه ابن رشيق في باب التكرار ونقل كلام ابن المعتز وامثلته ، وأقرّ بذلك النقل فقال : «وقد نقلت هذا الباب نقلا من كتاب عبد الله بن المعتز إلّا ما لاخفاء به عن أحد من أهل التمييز ، واضطرني الى ذلك قلة الشواهد فيه إلا ما ناسب قول أبي نواس :

سخنت من شدة البرودة حتى

صرت عندي كأنك النار

__________________

(١) اللسان (حجج).

(٢) البحر المحيط ج ٣ ص ٨٩ ، ٣٠٥ ، ج ٥ ص ٣٥٠ ، الفوائد ص ١٣٦ ، شرح عقود الجمان ١٢٣ ، حلية اللب ١٢٤.

(٣) البرهان في علوم القرآن ج ٣ ص ٤٦٨.

(٤) جوهر الكنز ص ٣٠٢.

(٥) البديع ص ٥٣.

(٦) الحيوان ج ٥ ص ١٠ وما بعدها.

(٧) كتاب الصناعتين ص ٤١٠.

(٨) يس ٧٨ ـ ٧٩.

(٩) يس ٨٠.

(١٠) يس ٨١.

(١١) كتاب الصناعتين ص ١٧ ـ ١٨.

(١٢) كتاب الصناعتين ص ٤١٠.

٣٧

لا يعجب السامعون من صفتي

كذلك الثلج بارد حار

فهذا مذهب كلامي فلسفي» (١). ولكنه وجد أمثلة هي أولى بهذه التسمية مما ذكره المؤلفون كنحو قول ابراهيم بن المهدي يعتذر الى المأمون من وثوبه على الخلافة :

البرّ منك وطاء العذر عندك لي

فيما فعلت فلم تعذل ولم تلم

وقام علمك بي فاحتج عندك لي

مقام شاهد عدل غير متّهم

وقول أبي عبد الرحمن العطوي :

فوحق البيان يعضده البر

هان في مأقط ألدّ الخصام

ما رأينا سوى الحبيبة شيئا

جمع الحسن كلّه في نظام

هي تجري مجرى الاصابة في الرأ

ي ومجرى الأرواح في الأجسام (٢)

وبدأ المذهب الكلامي يأخذ صورته الواضحة في كتب البلاغة ، فالتبريزي علّق على أبيات النابغة الذبياني : ـ

ولكنني كنت امرء لي جانب

من الأرض فيه مستراد ومذهب

ملوك وإخوان إذا ما لقيتهم

أحكّم في أموالهم وأقرّب

كفعلك في قوم أراك اصطنعتهم

فلم ترهم في مثل ذلك أذنبوا

بقوله : «أي لا تلمني في مدحي آل جفنة وقد أحسنوا اليّ كما لو أحسنت الى قوم فشكروا لك ولم تر ذلك ذنبا. وهذه طريقة الجدل ، وانما اتفق له بجودة القريحة وفضل التمييز» (٣).

وقال المصري : «المذهب الكلامي عبارة عن احتجاج المتكلم على المعنى المقصود بحجة عقلية تقطع المعاند له فيه ؛ لأنّه مأخوذ من علم الكلام الذي هو عبارة عن إثبات أصول الدين بالبراهين العقلية. وهو الذي نسبت تسميته الى الجاحظ وزعم ابن المعتز أنّه لا يوجد في الكتاب العزيز وهو محشو منه» (٤).

وبدأ هذا الفن يدخل في المحسنات المعنوية على يد أصحاب بلاغة السكاكي وقد عرّفه ابن مالك بقوله : «المذهب الكلامي أن تورد مع الحكم ردا لمنكره حجة على طريق المتكلمين أي صحيحة مسلّمة الاستلزام. وينقسم الى منطقي وجدلي ، فالمنطقي ما كانت حجته برهانا يقيني التأليف قطعي الاستلزام ، والجدلي ما كانت حجته أمارة ظنية لا تفيد إلا الرجحان. وأول من ذكر المذهب الكلامي الجاحظ وزعم أنّه ليس في القرآن منه شيء (٥) ، ولعله انما عنى القسم المنطقي فان الجدلي في القرآن منه كثير» (٦).

وقال الحلبي : «هو ايراد حجة للمطلوب على طريقة أهل الكلام» (٧).

وقال ابن الأثير الحلبي : «وحقيقة هذا النوع احتجاج المتكلم على خصمه بحجة تقطع عناده وتوجب له الاعتراف بما أدعاه المتكلم وإبطال ما أورده الخصم» (٨).

وسار القزويني وشراح تلخيصه على مذهب ابن مالك في إدخال هذا الفن في المحسنات المعنوية

__________________

(١) العمدة ٢ ص ٨٠.

(٢) العمدة ج ٢ ص ٧٩.

(٣) الوافي ص ٢٨٨ ، قانون البلاغة ص ٤٥٤.

(٤) تحرير التحبير ص ١١٩ ، بديع القرآن ص ٣٧.

(٥) هذا زعم ابن المعتز.

(٦) المصباح ص ٩٤ ، وينظر عروس الافراح ج ٤ ص ٣٦٩.

(٧) حسن التوسل ص ٢٢١ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١١٤.

(٨) جوهر الكنز ص ٣٠٢.

٣٨

وقال عنه : «هو أن يورد المتكلم حجة لما يدعيه على طريقة أهل الكلام» (١). وقال السبكي إنّ هذا ليس من البديع لأنّه تطبيق على مقتضى الحال فيكون من علم المعاني (٢). والمذهب الكلامي نوعان :

الأول : الجدلي ، وهو ما كانت حجته أمارة ظنية لا تفيد إلّا الرجحان ، وهذا النوع كثير في كتاب الله من ذلك قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)(٣). تقديره : والأهون أدخل في الامكان وقد أمكن البدء فالاعادة أدخل في الامكان من بدء الخلق. ومثله : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ)(٤). وقوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)(٥) ، وقوله (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ)(٦). ومن هذا النوع أبيات النابغة الذبياني : «ولكنني كنت امرء ...».

الثاني : المنطقي : وهو ما كانت حجته برهانا يقيني التأليف قطعي الاستلزام ، ولعل ابن المعتز عنى هذا النوع حينما نفاه من القرآن ، ولكن المصري قال : «ومن هذا الباب نوع منطقي وهو استنتاج النتيجة من مقدمتين فانّ أهل هذا العلم قد ذكروا أنّ أول سورة الحج الى قوله : (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ)(٧) منطو على خمس نتائج من عشر مقدمات. فالمقدّمات من أول السورة الى قوله تعالى : (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)(٨) والنتائج من قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ)(٩) الى قوله : (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ)(١٠). وتفصيل ترتيب المقدمات والنتائج أن يقال : الله أخبر أنّ زلزلة الساعة شيء عظيم ، وخبره هو الحقّ ، وأخبر عن المغيّب بالحق فهو حقّ ، فالله هو الحق ، والله يأتي بالساعة على تلك الصفات ولا يعلم صدق الخبر إلا بأحياء الموتى ليدركوا ذلك. ومن يأتي بالساعة يحيي الموتى فهو يحيي الموتى. وأخبر أن يجعل الناس من هول الساعة سكارى لشدة العذاب ولا يقدر على عموم الناس بشدة العذاب إلا من هو على كل شيء قدير ، فالله على كل شيء قدير. وأخبر أنّ الساعة يجازي فيها من يجادل في الله بغير علم ، ولا بدّ من مجازاته ، ولا يجازي حتى تكون الساعة آتية.

ولا تأتي الساعة حتى يبعث من في القبور فهو يبعث من في القبور وإنّ الله ينزّل الماء على الأرض الهامدة فتنبت من كل زوج بهيج والقادر على إحياء الأرض بعد موتها يبعث من في القبور ، وإن الله يبعث من في القبور» (١١).

وذكر المصري أنّ من هذا الباب جواب سؤال مقدر كقوله تعالى : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ)(١٢) لأنّ التقدير انّ قائلا قال بعد قوله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ)(١٣) ، فقد استغفر ابراهيم لأبيه فأخبر بقوله : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ) والله أعلم (١٤).

فالمذهب الكلامي من أساليب القرآن الكريم وكلام العرب ، وقد أوضح الحموي هذه المسألة

__________________

(١) الايضاح ص ٣٦٦ ، التلخيص ص ٣٧٤ ، شروح التلخيص ج ٤ ص ٣٦٨ ، المطول ص ٤٣٥ ، الأطول ج ٢ ص ٢٠٩.

(٢) عروس الأفراح ج ٤ ص ٣٧٢.

(٣) الروم ٢٧.

(٤) المؤمنون ٩١.

(٥) الأنبياء ٢٢.

(٦) يس ٧٩.

(٧) الحج ٧.

(٨) الحج ٥.

(٩) الحج ٦.

(١٠) الحج ٧.

(١١) تحرير التحبير ص ١١٩ ـ ١٢٠ ، بديع القرآن ص ٣٨ وما بعدها.

(١٢) التوبة ١١٤.

(١٣) التوبة ١١٣.

(١٤) تحرير التحبير ص ١٢٢.

٣٩

ورفض ما ذكره ابن المعتز فقال : «وقيل : إنّ ابن المعتز قال : لا أعلم ذلك في القرآن ، أعني المذهب الكلامي ، وليس عدم علمه مانعا من علم غيره» (١).

الاحتراس :

الاحتراس من احترس منه أي تحرز ، وتحرّست من فلان واحترست منه بمعنى : تحفظت منه (٢).

وقد تحدث الجاحظ عن «إصابة المقادير» وذكر أنّ طرفة قال في المقدار وإصابته :

فسقى ديارك ـ غير مفسدها ـ

صوب الربيع وديمة تهمي

فانه طلب الغيث على قدر الحاجة ؛ لأنّ الفاضل ضار (٣).

ومن محاسن الكلام عند ابن المعتز اعتراض كلام في كلام لم يتمم معناه ثم يعود اليه فيتممه في بيت واحد كقول كثيّر :

لو انّ الباخلين ـ وأنت منهم ـ

رأوك تعلّموا منك المطالا (٤)

وعدّه ابن رشيق من تتميم المنى ومبالغة في اللفظ شديدة وقال : «وهو الذي فتق للشعراء هذا الفن وتفّننوا فيه ونوعوه فجاءوا بالاحتراس وغيره فقال طرفة : فسقى ...» (٥). وسماه في العمدة التتميم وقال : «وهو التمام أيضا وبعضهم يسمي ضربا منه احتراسا واحتياطا» (٦) ثم عرفه بقوله : «ومعنى التتميم أن يحاول الشاعر معنى فلا يدع شيئا يتم به حسنة إلا أورده وأتى به إما مبالغة وإما احتياطا واحتراسا من التقصير».

وسماه ابن سنان «التحرز» وقال : «وأما التحرز مما يوجبه الطعن فأن يأتي بكلام لو استمر عليه لكان فيه طعن فيأتي بما يتحرز من ذلك الطعن كقول طرفة : «فسقى ...» فلو لم يقل ـ غير مفسدها ـ لظن به أنّه يريد توالي المطر عليها وفي ذلك فساد للديار ومحو لرسومها» (٧).

وسماه معظم البلاغيين الاحتراس ، وعرّفوه بمثل ما عرّفه به ابن سنان ، فقال ابن منقذ : «هو أن يكون على الشاعر طعن فيحترس منه» (٨). وقال المصري : «هو أن يأتي المتكلم بمعنى يتوجه عليه دخل فيفطن له فيأتي بما يخلصه من ذلك» (٩).

وقال ابن مالك : «الاحتراس أن تأتي في المدح أو غيره بكلام فتراه مدخولا بعيب من جهة دلالة منطوقه أو فحواه فتردفه بكلام آخر لتصونه عن احتمال الخطأ» (١٠).

وقال ابن قيم الجوزية : «وهو أن يذكر لفظا ظاهره الدعاء بالخير والنفع وذلك بما في ضمنه مما يوهم الشر فيذكر فيه كلمة تزيل ذلك الوهم وتدفع ذلك الوهن» (١١).

ولا تخرج تعريفات أبي حيان والزركشي والحموي والمدني عن هذا المعنى (١٢) وأدخله ملخصو المفتاح وشرّاحه في الاطناب وسمّوه الاطناب بالتكميل أو الاحتراس وعرّفه القزويني بقوله : «هو أن يؤتى في كلام يوهم خلاف

__________________

(١) خزانة الأدب ص ١٦٥ ، الاتقان ج ٢ ص ١٣٥ ، شرح عقود الجمان ص ١٢٣ ، حلية اللب ص ١٤٤ ، أنوار الربيع ج ٤ ص ٣٥٦.

(٢) اللسان (حرس).

(٣) البيان ج ١ ص ٢٢٧.

(٤) البديع ص ٥٩.

(٥) قراضة الذهب ص ٢٠.

(٦) العمدة ج ٢ ص ٥٠.

(٧) سر الفصاحة ص ٣٢٢.

(٨) البديع في نقد الشعر ص ٥٥.

(٩) تحرير التحبير ص ٢٤٥ ، بديع القرآن ص ٩٣.

(١٠) المصباح ص ٩٧.

(١١) الفوائد ص ١٥٢.

(١٢) البحر المحيط ج ٦ ص ٢٣٦ ، البرهان ج ٣ ص ٦٤ ، خزانة ص ٤٥٨ ، أنوار الربيع ج ٦ ص ٢٨٥.

٤٠