معجم المصطلحات البلاغيّة وتطوّرها

الدكتور أحمد مطلوب

معجم المصطلحات البلاغيّة وتطوّرها

المؤلف:

الدكتور أحمد مطلوب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة لبنان ناشرون
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٥

ظاهر يفهمه كل أحد مثل «زيد أسد» أي في الشجاعة ، ومنه ما هو خفي لا يدركه إلا من له ذهن يرتفع عن طبقة غير المثقفين كقول من وصف بني المهلب للحجاج لما سأله عنهم : «كانوا كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها» أي : لتناسب أصولهم وفروعهم في الشرف يمتنع تعيين بعضهم فاضلا وبعضهم أفضل منه كما أنّ الحلقة المفرغة لتناسب أجزائها يمتنع تعيين بعضها طرفا وبعضها وسطا.

ومنه ما لم يذكر فيه وصف المشبه ولا وصف المشبه به كالمثال الأول ومنه ما ذكر فيه وصف المشبه به وحده كالمثال الثاني ، ونحوه قول زياد ابن الاعجم :

وإنّا وما تلقي لنا إن هجوتنا

لكالبحر مهما تلق في البحر يغرق

وقول النابغة :

فانّك شمس والملوك كواكب

إذا طلعت لم يبد منهن كوكب

ومنه ما ذكر فيه وصف كل واحد منهما كقول أبي تمام :

صدفت عنه ولم تصدف مواهبه

عنّي وعاوده ظنّي فلم يخب

كالغيث إن جئته وافاك ريّقه

وإن ترحّلت عنه لجّ في الطّلب (١)

تشبيه المحسوس بالمحسوس :

هو أن يكون المشبه والمشبه به حسيين أي مدركين باحدى الحواس الخمس (٢). وقد تقدم الكلام عليه في طرفي التشبيه وفي التشبيه الحسي.

تشبيه المحسوس بالمعقول :

هو تشبيه ما يدرك بالحسّ بما لا يدرك به (٣) ، وقد تقدّم الكلام عليه في طرفي التشبيه وفي التشبيه التخييليّ.

التّشبيه المحمود :

عدّ المبرد من التشبيه المحمود قول الشاعر :

طليق الله لم يمنن عليه

أبو داود وابن أبي كثير

ولا الحجاج عيني بنت ماء

تقلب طرفها حذر الصقور

وقال : «وهذا غاية في صفة الجبان» (٤).

التّشبيه المختصر :

قال المبرّد : «والعرب تختصر في التشبيه وربما أو مأت به إيماء ، قال أحد الرجاز :

بتنا بحسان ومعزاه تئط

ما زلت أسعى بينهم والتبط

حتى إذا كان الظلام يختلط

جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط

يقول في لون الذئب واللبن إذا جهد وخلط بالماء ضرب الى الغبرة» (٥).

التّشبيه المردود :

هو التشبيه القاصر عن الغرض (٦) ، فتشبيه

__________________

(١) الايضاح ص ٢٥٠ ، التلخيص ص ٢٧٤ ، شروح التلخيص ج ٣ ص ٤٣٤ ، المطول ص ٣٣٩ ، الأطول ج ٢ ص ١٠٠ ، شرح عقود الجمان ص ٨٨.

(٢) حسن التوسل ص ١٠٧ ، نهاية الارب ج ٧ ص ٣٩ ، الايضاح ص ٢١٩ ، التلخيص ص ٢٥٠.

(٣) نهاية الايجاز ص ٥٩ ، البرهان ج ٣ ص ٤٢٠ ، حسن التّوسّل ص ١٠٨ ، نهاية الارب ج ٧ ص ٤٠ ، خزانة الأدب ص ١٨٣.

(٤) الكامل ج ٢ ص ٧٤٧.

(٥) الكامل ج ٣ ص ٨٧٥.

(٦) الإيضاح ص ٢٦٤ ، التلخيص ص ٢٨٨ ، شروح التلخيص ج ٣ ص ٤٦٧ ، المطول ص ٣٤٥ ، الاطول ج ٢ ص ١٠٧.

٣٤١

الشيء بالمسك في الرائحة مقبول لأنّ المسك أعرف الأشياء ولو شبه به في السواد لكان مردودا لانه ليس معروفا من هذا الجهة عرفانه من تلك. قال السيوطي : «قال عبد الباقي اليمني في كتابه : «اللهم إلا أن يذكر الغرض مصرحا به كقول القائل :

أشبهك المسك وأشبهته

في لونه قائمة قاعده

لا شكّ إذ لونكما واحد

أنّكما من طينة واحده

غرضه ذكر اللون ؛ لأنّ محبوبته سوداء ، وعلل ذلك بكونهما من طينة واحدة» (١).

التّشبيه المرسل :

هو التشبيه الذي تذكر في أداته (٢) كقوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً)(٣) وقوله : (عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ)(٤). ومنه قول البحتري :

وإذا الأسنّة خالطتها خلتها

فيها خيال كواكب في الماء

التّشبيه المركّب :

هو التشبيه الذي يتّحد فيه المشبه والمشبه به ويكون مركبا من شيئين أو أكثر. وهو غير التشبيه المتعدد الذي يكون جمعا للصور التشبيهية من غير تركيب (٥) وقد تقدم الكلام على التشبيه المتعدد.

وقال السجلماسي : «التشبيه المركب هو أن يقع التخييل في القول والتشبيه والتمثيل فيه لشيئين بشيئين وذاتين بذاتين» (٦) ، وأدخل فيه بعض الامثلة التي أدخلها غيره في التمثيل.

تشبيه المركّب بالمركّب :

وهو أن يكون كل من الطرفين كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامّت وتلاحقت حتى صارت شيئا واحدا (٧) كقول بشار :

كأنّ مثار النّقع فوق رؤوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

وهو تشبيه شيئين بشيئن ، قال المدني : «وإنّما أطلق عليه البديعيون تشبيه شيئين بشيئين باعتبار تعدد طرفيه» (٨). وقد تقدم.

تشبيه المركّب بالمفرد :

وهو كقول أبي تمام :

يا صاحبي تقصّيا نظريكما

تريا وجوه الأرض كيف تصوّر

تريا نهارا مشمسا قد زانه

زهر الرّبى فكأنما هو مقمر

فالمشبه وهو «نهار مشمس قد زانه زهر الربى» مركب ، والمشبه به مفرد وهو «مقمر» (٩).

التّشبيه المستحسن :

عدّ المبرّد من التشبيه المستحسن قول علقمة بن عبدة :

__________________

(١) شرح عقود الجمان ص ٩٠.

(٢) الايضاح ص ٢٦٣ ، التلخيص ص ٢٨٨ ، شروح التلخيص ج ٣ ص ٤٦٧ ، المطوّل ص ٣٤٤ ، الاطول ج ٢ ص ١٠٦ ، معترك ج ١ ص ٢٧٣ ، الاتقان ج ٢ ص ٤٣ ، شرح عقود الجمان ص ٩٠.

(٣) البقرة ١٧.

(٤) الحديد ٢١.

(٥) أسرار البلاغة ص ١٧٦.

(٦) المنزع البديع ص ٢٢٩.

(٧) جوهر الكنز ص ٦١ ، الطراز ج ١ ص ٢٨٩ ، شرح عقود الجمان ص ٨٦ ، الاطول ج ٢ ص ٩٦.

(٨) انوار الربيع ج ٥ ص ٣٠٦.

(٩) جوهر الكنز ص ٦٢ ، الطراز ج ١ ص ٢٩٥ ، شرح عقود الجمان ص ٨٦.

٣٤٢

كأنّ إبريقهم ظبي على شرف

مفدّم بسبا الكتّان ملثوم

فهذا حسن جدا (١).

التّشبيه المستطرف :

عدّ المبرّد من التشبيه المستطرف قول بشّار بن برد :

كأنّ فؤاده كرة تنزّى

حذار البين إن نفع الحذار

يروّعه السرار بكلّ أمر

مخافة أن يكون به السرار (٢)

التّشبيه المشروط :

قال الوطواط : «التشبيه المشروط ويكون بتشبيه شيء بشيء آخر بشرط من الشروط فيقولون لو كان هذا لكان ذاك» (٣). ومنه قول الوطواط نفسه :

عزماته مثل النجوم ثواقبا

لو لم يكن للثاقبات أفول

وقال الحلبي والنّويري : «أشبه وجه مولانا بالعيد المقبل لو كان العيد تبقى ميامنه وتدوم محاسنه» وكقوله : «وجه هو كالشمس لو لا كسوفها والقمر لو لا خسوفه» (٤).

ومن ذلك أيضا قول أبي تمام :

مها الوحش إلا أنّ هاتا أوانس

قنا الخطّ إلا أنّ تلك ذوابل

وقول الحريري :

يكاد يحكيك صوب الغيث منسكبا

لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا

والبدر لو لم يغب والشمس لو نطقت

والأسد لو لم تصد والبحر لو عذبا

التّشبيه المصيب :

عدّ المبرّد منه قول سلامة بن جندل :

كأنّ النعام باض فوق رؤوسهم

وأعينهم تحت الحديد جواحم

وقول ذي الرّمّة :

بيضاء في دعج صفراء في نعج

كأنّها فضّة قد مسّها ذهب

وقول امرئ القيس :

كأنّ الثريا علّقت في مصامها

بأمراس كتّان الى صمّ جندل (٥)

التّشبيه المطّرد :

وهو أن يجري على الصورة المطردة ، وذلك بأن يكون المشبه به أدخل في المعنى الجامع بينه وبين المشبه اما بالكبر او الايضاح او البيان. قال العلوي : «وعلامته أنّه لا بدّ من أن تكون لفظة «أفعل التفضيل» جارية في التشبيه. وهذا يدل على ما قلناه من اعتبار زيادة المشبه به على المشبه في تلك الصفة الجامعة بينهما ، فان لم يكن الأمر على ما قلناه من الزيادة كان التشبيه ناقصا وكان معيبا ولم يكن دالا على البلاغة.

__________________

(١) الكامل ج ٢ ص ٧٥٣.

(٢) الكامل ج ٢ ص ٧٦٠. السرار : آخر ليلة من الشهر.

(٣) حدائق السحر ص ١٤٢.

(٤) حسن التّوسّل ص ١١٦ ، نهاية الارب ج ٧ ص ٤٣ ، الإيضاح ص ٢٦٢ ، التلخيص ص ٢٨٦.

(٥) الكامل ج ١ ص ٣٦٧ ، ج ٢ ص ٧٤٤ ، ج ٣ ص ٨١٤ ، ٨٥٣. وفي ديوان ذي الرمة ص ٥ : «كحلاء في برج ...» دعجت العين : صارت شديدة السواد مع سعتها فصاحبها أدعج في دعجاء. البرج : سعة في بياض العين. النعج :البياض الخالص. والنعج التي تراها مكحولة وان لم تكحل.

٣٤٣

وهكذا الحال إذا كانا حاصلين على جهة الاستواء فلا مبالغة في ذلك فاذن لا بدّ من اعتبار الزيادة» (١).

التّشبيه المطلق :

قال الوطواط : «التشبيه المطلق ويكون بتشبيه شيء بشيء آخر بواسطة أداة التشبيه وبدون شرط أو عكس أو تفضيل أو ما شابه ذلك (٢).

وقال الحلبي والنويري : «هو أن تشبه شيئا بشيء من غير عكس ولا تبديل» (٣). وباب التشبيهات المطلقة واسع ، ومن ذلك قوله تعالى : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ)(٤) ، وقوله : (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ)(٥) ، وقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «الناس كأسنان المشط».

ومن ذلك قول البحتري :

كأنّما تبسم عن لؤلؤ

منضّد أو برد أو أقاح

وقول الصاحب بن عباد :

أتتني بالأمس أبياته

تغلّل روحي بروح الجنان

كبرد الشّراب وبرد الشّبا

ب وظلّ الأمان ونيل الأماني

وعهد الصّبا ونسيم الصّبا

وصفو الدنان ورجع القيان

التّشبيه المعرّى :

عدّ المظفر العلوي من التشبيه المعرّى قول النابغة :

مقذوفة بدخيس النّحض بازلها

له صريف صريف القعو بالمسد (٦)

وقال : إنّ أهل البديع يسمونه «التشبيه المعرّى» فاذا شبّهوا ما له حركة وجرس نصبوا كما قالوا : «صريف صريف» نصبا ، وإذا لم يكن كذلك رفعوا كما يقول القائل : «له رأس رأس الأسد» رفعا (٧).

تشبيه المعقول بالمحسوس :

هو إخراج ما لا تقع عليه الحاسة الى ما تقع عليه الحاسة ، وذلك أن يكون المشبه عقليا والمشبه به حسيا (٨) كقوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ)(٩). وقد تقدم في طرفي التشبيه.

تشبيه المعقول بالمعقول :

وذلك أن يكون المشبه والمشبه به عقليين كقول الشاعر :

ربّ حيّ كميّت ليس فيه

أمل يرتجى لنفع وضرّ

وعظام تحت التراب وفوق ال

أرض منها آثار حمد وشكر (١٠)

قال الحموي : «إنّ هذا النوع في هذا الباب ليس له مواقع المحسوسات وأحسن ما وجدت فيه أعني تشبيه المعقول بالمعقول قول أبي الطيّب المتنبي :

__________________

(١) الطراز ج ١ ص ٣٠٤.

(٢) حدائق السحر ص ١٣٩.

(٣) حسن التوسل ص ١١٥ ، نهاية الارب ج ٧ ص ٤٢.

(٤) يس ٣٩.

(٥) الحاقة ٧.

(٦) مقذوفة : مرمية باللحم رميا. الدخيس : الذي ادمج من كثرته وصلابته. النحض : اللحم.

بازلها : يعني سنها التي بزلت به أي انشق نابها.

صريف : صرير. القعو! البكرة التي يدور فيها المحور إذا كان من الخشب. المسد : الحبل من ليف.

(٧) نضرة الاغريض ص ١٧٠.

(٨) حسن التوسل ص ١٠٨ ، نهاية الارب ج ٧ ص ٤٠ ، خزانة الأدب ص ١٨٢.

(٩) العنكبوت ٤١.

(١٠) حسن التوسل ص ١٠٨ ، نهاية الارب ج ٧ ص ٣٩.

٣٤٤

كأنّ الهمّ مشغوف بقلبي

فساعة هجرها يجد الوصالا (١)

التّشبيه المعكوس :

هو التشبيه المقلوب والمنعكس ، وذلك بأن يجعل فيه المشبه مشبها به ويجعل المشبه به مشبها ، كقول البحتري :

في طلعة البدر شيء من محاسنها

وللقضيب نصيب من تثنّيها

وقول ابن المعتز :

ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا

مثل القلامة إذ قصّت من الظّفر

وقال الحلبي والنّويري : «التشبيه المعكوس وهو أن تشبه شيئين كل واحد منهما بالآخر» (٢). وليس في هذا التعريف بيان ، وقد أحسن السابقون في إيضاحه ، فابن جني سماه «غلبة الفروع على الأصول» وقال : «هذا فصل من فصول العربية تجده في معاني العرب كما تجده في معاني الأعراب ولا تكاد تجد شيئا من ذلك إلا والغرض فيه المبالغة (٣). وسمّاه ابن الاثير «الطرد والعكس» وقال : إنّ الغرض منه المبالغة وهو موضع من علم البيان حسن الموقع لطيف المأخذ (٤). وسماه العلوي «التشبيه المنعكس» وقال : «اعلم أنّ هذا النوع من التشبيه يرد على العكس والندور وبابه الواسع هو الاطّراد. وإنّما لقب بالمنعكس لما كان جاريا على خلاف العادة والالف في مجاري التشبيه وقد يقال له «غلبة الفروع على الأصول». وكل هذه الالقاب دالة على خروجه عن المقياس المطرد والمهيع المستمر ، وله موقع عظيم في إفادة البلاغة. وقد ذكره ابن الاثير في كتابه «المثل السائر» وقرره ابن جني في كتاب «الخصائص». والشرط في استعماله أن لا يرد إلا فيما كان متعارفا حتى تظهر في صورة الانعكاس لأنّه لو ورد في غير المتعارف لكان قبيحا ؛ لأنّ مطرد العادة في البلاغة على تشبيه الأدنى فاذا جاء على خلاف ذلك فهو معكوس» (٥).

والعلوي هنا قرر ما تعارف عليه البلاغيون من أنّ المشبه به ينبغي أن يكون الأصل وهو الأقوى والأوضح ولكنّ الشاعر قد يخرج على هذه القاعدة وهو يصوّر معانيه فيأتي بالتشبيهات التي لا تجري على ما قرره البلاغيون ، وفي ذلك إثراء لهذا الفن. وقد وقف عبد القاهر عند هذا اللون وقال إنّه يفتح بابا الى «دقائق وحقائق» وذلك بجعل «الفرع أصلا والأصل فرعا» (٦) ، وهو كثير في التشبيهات الصريحة وذلك «أنّهم يشبهون الشيء فيها بالشيء في حال ثم يعطفون على الثاني فيشبهونه بالأول فترى الشيء مشبها مرة ومشبها به أخرى» ومن أظهر ذلك قولهم في النجوم «كأنها مصابيح» ثم قولهم في المصابيح «كأنها نجوم» وتشبيه العيون بالنرجس ثم تشبيه النرجس بالعيون كقول أبي نواس :

لدى نرجس غضّ القطاف كأنّه

إذا ما منحناه العيون عيون

وتشبيه الثغر بالأقاحي ثم تشبيهها بالثغر كقول ابن المعتز :

والأقحوان كالثنايا الغرّ

قد صقلت أنواره بالقطر

وتشبيه أنوار الرياض بالنجوم كقول البحتري :

بكت السماء بها رذاذ دموعها

فغدت تبسّم عن نجوم سماء

ثم تشبه النجوم بالنّور :

__________________

(١) خزانة الأدب ص ١٨٢.

(٢) حسن التوسل ص ١١٧ ، نهاية الارب ج ٧ ص ٤٤.

(٣) الخصائص ج ١ ص ٣٠٢.

(٤) المثل السائر ج ١ ص ٤٢١ ، الجامع الكبير ص ٩٧.

(٥) الطراز ج ١ ص ٣٠٩.

(٦) أسرار البلاغة ص ١٨٧.

٣٤٥

قد أقذف العيس في ليل كأنّ به

وشيا من النّور أو روضا من العشب

وقد يمتنع هذا القلب في طرفي التشبيه وذلك أن يكون بين الشيئين تفاوت شديد في الوصف الذي لأجله نشبّه ثم قصدنا أن نلحق الناقص منهما بالزائد مبالغة ودلالة على أنّه يفضل أمثاله فيه. وقد فسّر عبد القاهر ذلك بقوله : «بيان هذا أنّ ههنا أشياء هي أصول في شدة السواد كخافية الغراب والقار ونحو ذلك ، فاذا شبهت شيئا بها كان طلب العكس في ذاك عكسا لما يوجبه العقل ونقضا للعادة ؛ لأنّ الواجب أن يثبت المشكوك فيه بالقياس على المعروف لا أن يتكلف في المعروف تعريفه بقياس على المجهول ، وما ليس بموجود على الحقيقة فأنت إذا قلت في شيء «هو كخافية الغراب» فقد أردت أن تثبت له سوادا زائدا على ما يعهد في جنسه وأن تصحح زيادة هي مجهولة له ، واذا لم يكن ههنا ما يزيد على خافية الغراب في السواد فليت شعري ما الذي تريد من قياسه على غيره. ولهذا المعنى ضعف بيت البحتري :

على باب قنّسرين والليل لاطخ

جوانبه من ظلمة بمداد

وذاك أنّ المداد ليس من الأشياء التي مزيد عليها في السواد ، كيف وربّ مداد فاقد اللون ، والليل والسواد بشدته أحق وأحرى أن يكون مثلا. ألا ترى الى ابن الرومي حيث قال :

حبر أبي حفص لعاب الليل

يسيل للإخوان أيّ سيل

فبالغ في وصف الحبر بالسواد حين شبهه بالليل ، وكأنّ البحتري نظر الى قول العامة في الشيء الأسود : «هو كالنقش» ثم تركه للقافية الى المداد» (١).

ولخّص قاعدة قلب التشبيه بقوله : «وجملة القول أنّه متى لم يقصد ضرب من المبالغة في إثبات الصفة للشيء والقصد الى إيهام في الناقص أنّه كالزائد واقتصر على الجمع بين الشيئين في مطلق الصورة والشكل واللون أو جمع وصفين على وجه يوجد في الفرع على حدّه أو قريب منه في الأصل فإنّ العكس يستقيم في التشبيه ومتى أريد شيء من ذلك لم يستقم» (٢).

ولا يأتي القلب في التمثيل أو التشبيه التمثيلي بهذه السهولة بل يحتاج الى تأويل وتخيّل يخرج عن الظاهر خروجا بيّنا أو يبعد عنه بعدا ظاهرا ، فهو يطاوع في التشبيه مطاوعة وينقاد القياس فيه انقيادا لا تعسف فيه ، ولا يطاوع تلك المطاوعة في التمثيل. ومثال قلب التمثيل قول القاضي التنوخي :

وكأنّ النجوم بين دجاها

سنن لاح بينهنّ ابتداع

وقول أبي طالب الرقي :

ولقد ذكرتك والظّلام كأنّه

يوم النوى وفؤاد من لم يعشق

وقول ابن بابك :

وأرض كأخلاق الكريم قطعتها

وقد كحّل الليل السماك فأبصرا

وهذه الصور تحتاج الى فضل تأمل ودقة تأول وبعد نظر ، وهي من تشبيه المحسوس بالمعقول الذي أنكره بعضهم وأكثر منه الشعراء في العصر العباسي أو هي ـ كما قال السجلماسي ـ من «الجري على غير المجرى الطبيعي» (٣) في التشبيه.

تشبيه المعنى بالصّورة :

هذا النوع من أحوال التشبيه عند ابن الاثير الحلبي قال : «إما تشبيه معنى بصورة كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ

__________________

(١) أسرار البلاغة ص ٢٠٢.

(٢) أسرار البلاغة ص ٢٠٤.

(٣) المنزع البديع ص ٢٢٧.

٣٤٦

ماءً)(١) ، فشبّه ما لا يدرك بالحاسة وهو الأعمال بما يدرك بالحاسة وهو السراب» (٢). وهذا من تشبيه المعقول بالمحسوس وقد تقدم.

تشبيه المعنى بالمعنى :

قال ابن الاثير الحلبي : «وأمّا تشبيه معنى بمعنى ، كقولك : «زيد أسد» فانّ الغرض تشبيه الشجاعة التي هي معنى في زيد بالشجاعة التي هي معنى في الأسد» (٣).

تشبيه المفرد بالمركّب :

وهو أن يكون المشبه مفردا والمشبه به غير مفرد كقوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ ، الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ ، الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ)(٤). وقول أبي نواس :

إذا امتحن الدنيا لبيب تكشّفت

له عن عدوّ في ثياب صديق

وقول أبي تمام :

خذها مثقّفة القوافي ربّها

لسوابغ النّعماء غير كنود

كالدرّ والمرجان ألف نظمه

بالشذر في عنق الفتاة الرّود (٥)

تشبيه المفرد بالمفرد :

قد يكون المشبه والمشبه به مقيدين كقولهم لمن لا يحصل من سعيه على طائل : «هو كالراقم على الماء» ، فالمشبه الساعي مفرد مقيد بأن لا يحصل من سعيه على شي والمشبه به الراقم مقيد بكون رقمه على الماء لأنّ وجه الشبه هو التسوية بين الفعل وعدمه وهو موقوف على اعتبار هذين القيدين.

أو يكونان غير مقيدين كتشبيه الخد بالورد.

أو يكونان مختلفين نحو «والشمس كالمرآة في كفّ الأشلّ» المشبه به وهو المرآة مقيد بكونه في كف الأشلّ بخلاف المشبه وهو الشمس. وعكسه نحو : «المرآة في كف الأشل كالشمس». ومنه قوله تعالى : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ)(٦). وقوله :(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً)(٧).

وقول المتنبي :

وإذا اهتزّ للندى بحرا

واذا اهتزّ للوغى كان نصلا

وإذا الأرض أظلمت كان شمسا

وإذا الارض امحلت كان وبلا

وقول البحتري :

تبسّم وقطوب في ندى ووغى

كالرعد والبرق تحت العارض البرد (٨)

التّشبيه المفرط :

عدّ المبرّد من التشبيه المفرط المتجاوز قولهم للسخي : «هو كالبحر» وللشجاع «هو كالأسد» (٩).

التّشبيه المفروق :

هو ما أتي بالمشبه والمشبه به واحدا بعد الآخر كقول المرقش الأكبر :

النّشر مسك والوجوه دنا

نير وأطراف الأكفّ عنم

__________________

(١) النور ٣٩.

(٢) جوهر الكنز ص ٦٠.

(٣) جوهر الكنز ص ٦١.

(٤) النور ٣٥.

(٥) جوهر الكنز ص ٦٢ ، الطراز ج ١ ص ٢٩٢ ، شرح عقود الجمان ص ٨٦.

(٦) البقرة ١٨٧.

(٧) النبأ ١٠.

(٨) جوهر الكنز ص ٦١ ، الطراز ج ١ ص ٢٨٦ ، شرح عقود الجمان ص ٨٦ ، الأطول ج ٢ ص ٩٢.

(٩) الكامل ج ٣ ص ٨٥٣.

٣٤٧

وقول المتنبي :

بدت قمرا ومالت خوط بان

وفاحت عنبرا ورنت غزالا (١)

التّشبيه المفصّل :

هو التشبيه الذي يذكر فيه وجه الشبه كقول أبي بكر الخالدي :

يا شبيه البدر حسنا

وضياء ومنالا

وشبيه الغصن لينا

وقواما واعتدالا

أنت مثل البدر لونا

ونسيما وملالا

زارنا حتى إذا ما

سرّنا بالقرب زالا

وقول الآخر :

وثغره في صفاء

وأدمعي كاللآلي

وقول أبي العلاء :

أنت كالشمس في الضياء وإن جا

وزت كيوان في علوّ المكان (٢)

التّشبيه المقارب :

عدّ المبرّد من التشبيه المقارب والقاصد الصحيح قول النابغة :

وعيد أبي قابوس في غير كنهه

أتاني ودوني راكس فالضواجع

فبتّ كأنّي ساورتني ضئيلة

من الرقش في أنيابها السّمّ ناقع

يسهّد من نوم العشاء سليمها

لحلي النساء في يديه قعاقع

تناذرها الراقون من سوء سمّها

تطلّقه طورا وطورا تراجع (٣)

التّشبيه المقبول :

وهو التشبيه الوافي بافادة الغرض كأن يكون المشبه به أعرف شيء بوجه الشبه إذا كان الغرض بيان حال المشبه من جهة وجه الشبه أو بيان المقدار. ثم الطرفان في الثاني إن تساويا في وجه الشبه فالتشبيه كامل في القبول ، وإلا فكلّما كان المشبّه به أسلم من الزيادة والنقصان كان أقرب الى الكمال. أو كأن يكون المشبّه به أتمّ شيء في وجه الشبه إذا قصد الحاق الناقص بالكامل ، أو كأن يكون المشبه به مسلّم الحكم معروفه عند المخاطب في وجه الشبه إذا كان الغرض بيان امكان الوجود (٤).

والتشبيهات الجيدة من الانواع الاخرى تدخل في تمثيل هذا الضرب من التشبيه.

التّشبيه المقلوب :

هو التشبيه المعكوس والمنعكس وغلبة الفروع على الاصول (٥) ، وقد تقدم.

__________________

(١) الإيضاح ص ٢٤٧ ، التلخيص ص ٢٧٣ ، شروح التلخيص ج ٣ ص ٤٢٨ ، المطول ص ٣٣٨ ، الاطول ج ٢ ص ٩٨.

(٢) الإيضاح ص ٢٥١ ، التلخيص ص ٢٧٧ ، شروح التلخيص ج ٣ ص ٤٤ ، المطوّل ص ٣٤٠ ، الاطول ج ٢ ص ١٠٢ ، شرح عقود الجمان ص ٨٨.

(٣) الكامل ج ٣ ص ٨٥٥.

(٤) الايضاح ص ٢٦٤ ، التلخيص ص ٢٨٨ ، شروح التلخيص ج ٣ ص ٤٦٧ ، المطول ص ٣٤٤ ، الاطول ج ٢ ص ١٠٦. شرح عقود الجمان ص ٩٠.

(٥) أسرار البلاغة ص ١٨٧ ، حسن التوسل ص ١١٧ ، نهاية الارب ج ٧ ص ٤٤ ، الطراز ج ١ ص ٣٠٩.

٣٤٨

التّشبيه الملفوف :

وهو ما أتي فيه بالمشبهين ثم بالمشبه بهما ، كقول امرئ القيس :

كأنّ قلوب الطير رطبا ويابسا

لدى وكرها العنّاب والحشف

البالي

شبه الرطب واليابس من قلوب الطير بالعنّاب والحشف البالي (١).

التّشبيه المنعكس :

وهو التشبيه المعكوس والمقلوب وغلبة الفروع على الاصول (٢) ، وقد تقدم.

التّشبيه الوهميّ :

التشبيه الوهمي هو ما لا وجود له ولا لأجزائه كلها أو بعضها في الخارج ولو وجد لكان مدركا باحدى الحواس الخمس ، وقد قال الحلبي إنّه يقرب من النوع المسمى «التشبيه الخيالي» (٣). ومنه قوله تعالى : (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ. طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ)(٤). فقد استقر في نفوس الناس من قبح الشياطين ما صار بمنزلة المشاهد كما استقر في نفوسهم من حسن الحور العين ما صار بمنزلة المشاهد ولذلك ربط سبحانه وتعالى بين شجر الزقوم ورؤوس الشياطين :

ومنه قول امرئ القيس :

أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي

ومسنونة زرق كأنياب أغوال

وأدخلوا هذا النوع في تشبيه العقلي بالعقلي لأنّه لا يدرك بشيء من الحواس الخمس الظاهرة مع أنّه لو أدرك لم يكن مدركا إلا بها (٥).

التّشبيهات العقم :

تحدّث الحاتمي عن التشبيهات العقم ونقل عن هارون الرشيد انه قال عن بيتي عنترة :

وخلا الذباب بها يغنّي وحده

غردا كفعل الشارب المترنّم

هزجا يحكّ ذراعه بذراعه

فعل المكبّ على الزناد الأجذم

«يا أصمعي هذا من التشبيهات العقم التي لا تنتج ثمرة ولا تلقح شجرة» (٦). ونقل عن الاصمعي أنّ أبا عمرو بن العلاء وخلفا الاحمر ويونس أجمعوا على أنّ التشبيهات العقم التي انفرد بها أصحابها ولم يشركهم فيها غيرهم ممن تقدم معدودات.

أحدها : قول عنترة في تشبيه حنك الغراب بالجلمين :

ظعن الذين فراقهم أتوقع

وجرى بينهم الغراب الأبقع

خرق الجناح كأنّ لحيي رأسه

جلمان بالأخبار هشّ مولع

ثانيها : قول عديّ بن الرقاع في تشبيه قرن الظبي :

تزجي أغنّ كأنّ إبرة روقه

قلم أصاب من الدواة مدادها

ثالثها : قول الراعي يصف قانصا جعد الرأس دنس الثياب :

__________________

(١) الايضاح ص ٢٤٧ ، التلخيص ص ٢٧٢ ، شروح التلخيص ج ٣ ص ٤٢٦ ، المطول ص ٣٣٨ ، الأطول ج ٢ ص ٩٨ ، شرح عقود الجمان ص ٨٧.

(٢) أسرار البلاغة ص ١٨٧ ، حسن التوسل ص ١١٧ ، نهاية الارب ج ٧ ص ٤٤ ، الطراز ج ١ ص ٣٠٩.

(٣) حسن التوسل ص ١١٢.

(٤) الصافات ٦٤ ـ ٦٥.

(٥) الإيضاح ص ٢٢٠ ، التلخيص ص ٢٤٤ ، شروح التلخيص ج ٣ ص ٣١٦ ، المطول ٣١٣ ، الاطول ج ٢ ص ٦٨.

(٦) حلية المحاضرة ج ١ ص ١٧٨.

٣٤٩

فكأنّ فروة رأسه من شعره

رعيت فأنبت جانباها فلفلا

رابعها : قول بشر بن أبي خازم بن عمرو الأسدي يشبّه عروق الأرطى إذ حفر أصله الثور باظلافه بالأعنّة :

يثير ويبدي عن عروق كأنّها

أعنّه خرّاز تخطّ وتبشر

خامسها : قول الطرّماح في وصف النعام :

مجتاب شملة برجد لسراته

قدرا وأسلم ما سواها البرجد (١)

سادسها : قول ذي الرّمة في تشبيه الليل :

وليل كجلباب العروس ادّرعته

بأربعة والشّخص في العين واحد

أحمّ علافيّ وأبيض صارم

وأعيس مهريّ وأروع ماجد

سابعها : قول مضرّس بن ربعي في صفة نعامة :

صفراء عارية الأكارع رأسها

مثل المدقّ وأنفها كالمبرد (٢)

ونقل ابن رشيق ما ذكره الحاتمي ثم قال : «وفي الشعر من هذا صدر جيد ، وفي القرآن تشبيه كثير» (٣).

التّشبيهات المجتمعة :

قال الرازي : «إنّما يكون كذلك إذا كان التشبيه في أمور كثيرة لا يتقيد البعض بالبعض وحينئذ يكون ذلك تشبيهات مضموما بعضها الى بعض لأغراض كثيرة وكل واحد منفرد بنفسه.

ولهذا النوع خاصيتان :

الأولى : أنّه لا يجب فيها الترتيب ، ألا ترى أنّك إذا قلت : «زيد كالأسد بأسا ، والبحر جودا ، والسيف مضاء ، والبدر بهاء» لم يجب عليك أن تحفظ لهذه التشبيهات نظاما.

الثانية : اذا اسقط البعض فإنّه لا يتغير حال الباقي كقولهم : «هو يصفو ويكدر ويحلو ويمر» ، ولو تركت ذكر الكدورة والمرارة وجدت المعنى في تشبيهك له بالماء في الصفاء وبالعسل في الحلاوة باقيا على حقيقته» (٤).

ومن التشبيهات المجتمعة قول امرئ القيس :

كأنّ قلوب الطير رطبا ويابسا

لدى وكرها العنّاب والحشف البالي

فليست لمضامّة الرطب في القلوب الى اليابس منها هيئة يقصد ذكرها أو يعنى بأمرها ، ولا لاجتماع الحشف البالي مع العناب. ولو فرّق التشبيه فقيل كأنّ الرطب في القلوب عناب وكأن اليابس حشف لم يكن أحد التشبيهين موقوفا في الفائدة على الآخر.

ونظيره في جمع التشبيهات قول المتنبي :

بدت قمرا ومالت خوط بان

وفاحت عنبرا ورنت غزالا

فهما تشبيهان كل واحد مستقل بنفسه وليس بينهما امتزاج فيحصل منه شيء واحد. وهذا ما ذكره عبد القاهر من قبل حينما تكلم على التشبيه المتعدد والفرق بينه وبين المركب (٥) ، ويكاد كلام الرازي يكون نقلا لذلك. وقد تقدم ذلك في «التشبيه المتعدد».

التّشديد :

هو الإعنات والالتزام والتضييق ولزوم ما لا يلزم (٦). وقد تقدّم.

__________________

(١) مجتاب : لابس. البرجد : كساء مخطط. سراته :

ظهره.

(٢) حلية المحاضرة ج ١ ص ١٧٨.

(٣) العمدة ج ١ ص ٢٩٦ ، وينظر نضرة الاغريض ص ١٦٤.

(٤) نهاية الإيجاز ص ٦٨.

(٥) أسرار البلاغة ص ١٧٦.

(٦) حسن التّوسّل ص ٢٢٠ ، نهاية الأرب ج ٧ ص ١١٣ ، الفوائد ص ٢٣٤ ، أنوار الربيع ج ٦ ص ٩٣ ، نفحات ص ٣١٦.

٣٥٠

التّشريع :

يقال : شرع بابا الى الطريق أنفذه ، وشرع الباب والدار شروعا : أفضي الى الطريق وأشرعه اليه (١).

وقال المدني : «التشريع في اللغة مصدر «شرّع» ـ بالتضعيف. يقال : شرّع بابا الى الطريق تشريعا أي فتحه وبيّنه كـ «أشرعه إشراعا». وشرّع الناقة تشريعا إذا أدخلها في شريعة الماء ـ وهي مورد الابل على الماء ـ والتشريع أيضا إيراد أصحاب الابل ابلهم شريعة لا يحتاج معها الى الاستقاء من البئر. ومنه حديث علي ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ أهون السقي التشريع». ومن المعنى الاول نقل الى الاصطلاح ، وهو أن تبنى القصيدة على وزنين من أوزان العروض وقافيتين ، فاذا أسقط من أجزاء البيت جزء أو جزءان صار ذلك البيت من وزن آخر ، كأنّ الشاعر شرع في بيته بابا الى وزن آخر. ولما خفي على ابن أبي الاصبع وجه مناسبة التشبيه بين اللغوي والاصطلاحي أو استبعده سمّى هذا النوع : «التوأم» ليطابق بين الاسم والمسمى (٢). وقد ذكر السيوطي أنّ الحريري ابتدع هذا النوع (٣) ، وأنّ الأجدابيّ سماه بهذه التسمية ، ويسمى أيضا «ذا القافيتين» (٤). وقال السبكي إنّ تسميته بالتشريع «عبارة لا يناسب ذكرها فانّ التشريع قد اشتهر استعماله فيما يتعلق بالشرع المطهر وكان اللائق اجتنابها» (٥).

وسمّاه بعضهم «التوشيح» ، قال ابن الاثير : «وهو أن يبني الشاعر أبيات قصيدته على بحرين مختلفين فاذا وقف من البيت على القافية الاولى كان شعرا مستقيما من بحر على عروض واذا أضاف الى ذلك ما بنى عليه شعره من القافية الأخرى كان أيضا شعرا مستقيما من بحر آخر على عروض وصار ما يضاف الى القافية الأولى للبيت كالوشاح ، وكذلك يجري الأمر في الفقرتين من الكلام المنثور فان كل فقرة منهما تصاغ من سجعتين» (٦).

وقال العلوي في تسميته تشريعا : «لأنّ ما هذا حاله من الشعر فانّ النفس تشرع الى تمام القافية وكمالها» (٧).

وسمّاه المصري «التوأم» وأراد بذلك مطابقة التسمية للمسمّى ، قال : «إنّه متى اقتصر على القافية الأولى كان من ضرب ذلك البحر الذي عمل الشاعر بيته منه ، فاذا استوفى أجزاءه وبناه على القافية الثانية كان البيت من ضرب غير ذلك الضرب من ذلك البحر ، وغالبه أن يختلف الرويان وإن جاز توافقهما» (٨). وقال السيوطي : «وهي تسمية مطابقة للمسمى» (٩).

ومن هذا الفن قول بعضهم :

واذا الرياح مع العشيّ تناوحت

هوج الرمال بكثبهنّ شمالا

ألفيتنا نفري الغبيط لضيفنا

قبل القتال ونقتل الأبطالا

فانه لو اقتصر على «الرمال» و «القتال» لكان الشعر من مجزوء الكامل ، وهو :

__________________

(١) اللسان (شرع).

(٢) أنوار الربيع ج ٤ ص ٣٤٣.

(٣) شرح عقود الجمان ص ١٥٥.

(٤) المصباح ص ٨١ ، الإيضاح ص ٣٩٩ ، التلخيص ص ٤٠٥ ، عروس الأفراح ج ٤ ص ٤٦١ ، المختصر ج ٤ ص ٤٦١ ، المطول ص ٤٥٨ ، خزانة الادب ص ١١٩ ، معترك ج ١ ص ٥٠ ، الاتقان ج ٢ ص ١٠٤ ، شرح عقود الجمان ص ١٥٥ ، الاطول ج ٢ ص ٢٣٧ ، مواهب الفتاح ج ٤ ص ٤٦١ ، أنوار الربيع ج ٤ ص ٣٤٣ ، نفحات ص ١١٧ ، شرح الكافية ص ١١٣.

(٥) عروس الأفراح ج ٤ ص ٤٦١ ، وينظر شرح عقود الجمان ص ١٥٥.

(٦) المثل السائر ج ٢ ص ٣٥٩ ، وينظر الايضاح في شرح مقامات الحريري ص ١٧.

(٧) الطراز ج ٣ ص ٧٠.

(٨) تحرير التحبير ص ٥٢٢ ، بديع القرآن ص ٢٣١.

(٩) شرح عقود الجمان ص ١٥٥.

٣٥١

وإذا الرياح مع العشيّ تناوحت هوج الرمال ألفيتنا نفري الغبيط لضيفنا قبل القتال ومنه قول الآخر :

اسلم ودمت على الحوادث مارسا

ركنا ثبير أو هضاب حراء

ونل المراد ممكنا منه على

رغم الدهور وفز بطول بقاء

ويصيران من المجزوء بقافية آخرى :

اسلم ودمت على الحوادث مارسا ركنا ثبير

ونل المراد ممكنا منه على رغم الدهور

وفي هذا الفن تكلف ظاهر ولذلك لا يستعمل إلّا قليلا ، وهو كما قال ابن الأثير : «ليس من الحسن في شيء» (١) ، ولذلك لم يهشّ له أصحاب البديعيات ، وقد قال الحموي : «ولا شك في أنّ هذا النوع لا يأتي إلا بتكلف زائد وتعسف ، فانه راجع الى الصناعة لا الى البلاغة والبراعة» (٢).

التّشطير :

الشّطر نصف الشيء ، والجمع أشطر وشطور ، وشطرته جعلته نصفين (٣).

وهذا الفن من ابتداع العسكري (٤) ، وقد عرّفه بقوله : «هو أن يتوازان المصراعان والجزءان وتتعادل أقسامهما مع قيام كل واحد منهما بنفسه واستغنائه عن صاحبه» (٥). ومثاله قول بعضهم : «من عتب على الزمان طالت معتبته ومن رضي عن الزمان طابت معيشته». ومنه قول أوس بن حجر :

فتحدركم عبس الينا وعامر

وترفعنا بكر اليكم وتغلب

وقول أبي تمام :

بمصعّد من حسنه ومصوّب

ومجمّع من نعته ومفرّق

وقول البحتري :

فقف مسعدا فيهن إن كنت عاذرا

وسر مبعدا عنهن إن كنت عاذلا

وجمع ابن منقذ التشطير والمقابلة في باب واحد وقال : «إنّ المقابلة والتشطير هو أن يقابل مصراع البيت الأول كلمات المصراع الثاني» (٦) ، كقول جرير :

وباسط خير فيكم بيمينه

وقابض شرّ عنكم بشماليا

وقول المتنبي :

أزورهم وظلام الليل يشفع لي

وأنثني وضياء الصّبح يغري بي

وقول ذي المرمة :

استحدث الركب عن أشياعهم خبرا

أم راجع القلب من إطرابهم طرب؟

وقال المصري : «هو أن يقسم الشاعر بيته شطرين ، ثم يصرّع كل شطر من الشطرين لكنّه يأتي بكل شطر مخالفا لقافية الآخر ليتميز من أخيه فيوافق فيه الاسم المسمّى (٧) ، كقول مسلم بن الوليد :

موف على مهج في يوم ذي رهج

كأنّه أجل يسعى الى أمل

وقول أبي تمام :

تدبير معتصم بالله منتقم

لله مرتغب في الله مرتقب

ثم قال المصري : «وعندي أنّ بيت أبي تمام أولى من بيت مسلم بهذا الباب ؛ لأنّه عمد الى كل شطر قدّره بيتا وصرّعه تصريعا صحيحا ، وبيت مسلم شطره

__________________

(١) المثل السائر ج ٢ ص ٣٦٠.

(٢) خزانة الادب ص ١٢٠.

(٣) اللسان (شطر).

(٤) كتاب الصناعتين ص ٢٦٧.

(٥) كتاب الصناعتين ص ٤١١.

(٦) البديع في نقد الشعر ص ١٢٨.

(٧) تحرير الحبير ص ٣٠٨.

٣٥٢

الأول مصرّع تصريعا صحيحا وشطره الثاني ليس بمصرّع لمخالفة روي وسطه وروي آخره في الاعراب ، اللهم إلا أن يجعل الشطر على ضربين :

ضرب يصرّع فيه أحد الشطرين دون الآخر ، وضرب يصرعان فيه معا». وقال ابن مالك عن التشطير : «ومن أحسن ما جاء منه قول أبي تمام» (١).

وعدّ القزويني التشطير من السجع وقال : «هو أن يجعل كل من شطري البيت سجعة مخالفة لاختها كقول أبي تمام» (٢) ، وتبعه شراح التلخيص (٣).

ورجع الحلبي والنويري والحموي الى تعريف المصري (٤) ، واقترب من ذلك المدني غير أنّه جمع رأي القزويني ورأي السابقين بتعريفه الذي قال فيه : «هو أن يقسم الشاعر كلّا من صدر بيته وعجزه شطرين ثم يسجع كل شطر منهما لكنّه يأتي بالصدر مخالفا للعجز في التسجيع» (٥).

التّشعيب :

الشّعب : الجمع والتفريق والاصلاح والافساد ضد ، يقال : شعبه يشعبه فانشعب وشعبّه فتشعّب.

وشعب الرجل أمره : إذا شتته وفرّقه. وشعّب الزرع وتشعّب : صار ذا شعب أي فرق ، وانشعب النهر وتشعّب : تفرقت منه أنهار (٦).

قال ابن منقذ : «هو أن يكون في المصراع الثاني كلمة من المصراع الأول» (٧). كقول أبي العلاء.

قد أورقت عمد الخيام وأعشبت

شعب الرجال ولون رأسي أغبر

ولقد سلوت عن الشّباب كما سلا

غيري ولكن للحبيب تذكّر

وقول كثيّر :

وما هجرتك النفس يا عزّ إنّها

قلتك ولا أن قلّ منك نصيبها

ولكنّهم يا أحسن الناس أولعوا

بقول إذا ما جئت : هذا حبيبها

وقول الشريف الرضي :

ولقد مررت على ديارهم

وطلولها بيد البلى نهب

فوقفت حتى عجّ من نصب

نضوي ولجّ بعذلي الرّكب

وتلفّتت عيني فمذ خفيت

عني الديار تلفّت القلب

وقال ابن قيّم الجوزيّة : «هو أن يكون في صدر الكلام كلمة من عجزه» (٨) كقوله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)(٩) ، كأبيات المعري وكثيّر عزّة.

وهذا قريب من رد العجز على الصدر ومن أنواع التجنيس.

التّشكيك :

الشّكّ نقيض اليقين ، يقال شككت في كذا وتشكّكت وشكّ في الأمر يشكّ شكا وشكّكه فيه غيره (١٠).

سمّاه ابن رشيق «التشكك» وقال : «وهو من ملح

__________________

(١) المصباح ص ٧٨.

(٢) الايضاح ص ٣٩٧ ، التلخيص ص ٤٠٢.

(٣) عروس الافراح ج ٤ ص ٤٥٤ ، المختصر ج ٤ ص ٤٥٤ ، المطول ص ٤٥٥ ، الاطول ج ٢ ص ٢٣٥ ، وينظر شرح عقود الجمان ص ١٥٢ ، نفحات ص ٢٧٠ ، شرح الكافية ص ١٨٩.

(٤) حسن التوسل ص ٢٧٣ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٤٧ ، خزانة الأدب ص ١٧٣.

(٥) أنوار الربيع ج ٦ ص ٣١٠.

(٦) اللسان (شعب).

(٧) البديع في نقد الشعر ص ٩١.

(٨) الفوائد ص ١٧١.

(٩) البقرة ١٤٤.

(١٠) اللسان (شكك).

٣٥٣

الشعر وطرف الكلام وله في النفس حلاوة وحسن موقع بخلاف ماللغلو والاغراق. وفائدته الدلالة على قرب الشبهين حتى لا يفرق بينهما ولا يميز أحدهما من الآخر» (١). ومعظم الأمثلة التي ذكرها من تجاهل العارف كقول زهير :

وما أدري وسوف إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء؟

ولكنّ المصري قال : «هو أن يأتي المتكلم في كلامه بلفظة تشكك المخاطب هل هي حشو أو أصلية لا غنى الكلام عنها مثل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ)(٢). فان لفظة «بدين» تشكك السامع هل هي فضلة ، إذ لفظة (تَدايَنْتُمْ) تغني عنها ، والناظر في علم البيان يعلم أنّها أصلية لأنّ لفظة الدين لها محامل وتقول : «داينت فلانا الموّدة يعني جازيته» ومنه «كما تدين تدان». ومن ذلك قول رؤبة :

داينت أروى والدّيون تقضى

فمطلت بعضا وأدّت بعضا

وأمثال هذا. وكل هذا هو الدّين المجازي الذي لا يكتب ولا يشهد عليه ، ولما كان المراد في الآية الكريمة تبيين الدين المالي الذي يكتب ويشهد عليه وفيه ، وتبيين الأحكام المعلقة به وما ينبغي أن يعمل فيه أوجبت البلاغة أن تقول : (بِدَيْنٍ) معناه يكتب ويشهد ليقول : (فَاكْتُبُوهُ) والله أعلم» (٣). وذهب الى مثل ذلك الحلبي والنويري وابن الاثير الحلبي والسبكي (٤).

ومن التشكيك ضرب آخر ، وهو أن يأتي المتكلم بجمل من المعاني في كلامه كل جملة معطوفة على الأخرى بـ «أو» التي هي موضوعة للتشكيك لا التي للتخيير ، كقول البحتري :

كأنما تبسم عن لؤلؤ

منضّد أو برد أو أقاح

قال المصري : «ومن التشكيك نوع التبس على بعض المؤلفين حتى أدخله في باب تجاهل العارف ، وهو أن يرى المتكلم شيئا شبيها بشيء فيشكك نفسه فيه لقصد تقريب المشبه من المشبه به ثم يعود عن المجاز الى الحقيقة فيزيل ذلك التشكيك فان لم يعد الى الحقيقة فهو تجاهل العارف ، وإن عاد فهو التشكيك المحض» (٥) ، كقول سلم :

تبدّت فقلت الشمس عند طلوعها

بجلد غنيّ اللون من أثر الورس

فلما كررت الطّرف قلت لصاحبي

على مرية ما ههنا مطلع الشمس

ثم قال : «فانظر كيف رجع الى التحقيق بعد التشكيك ، وقد خفي هذا الفرق عن ابن رشيق وغيره حتى أدخلوه في باب تجاهل العارف ، وهذا خلاف قول أبي تمام :

فو الله ما أدري أأحلام نائم

ألمّت بنا أم كان في الركب يوشع

فان سلما رجع عن التشكيك وأبو تمام لو يرجع ، فكان بيت سلم من التشكيك المحض وبيت حبيب من تجاهل العارف ، وقد ظهر الفرق بين البابين».

ولذلك عدّ المصري مبتدعا لهذا الفن لأنّ ما ذكره ابن رشيق من باب تجاهل العارف.

التّشهير :

الشهرة وضوح الأمر ، وقد شهره يشهره شهرا

__________________

(١) العمدة ج ٢ ص ٦٦ ، وينظر المنزع البديع ص ٢٧٦ ، الروض المريع ص ١٣١ ، كفاية الطالب ص ١٧٢.

(٢) البقرة ٢٨٢.

(٣) تحرير التحبير ص ٥٦٣ ، بديع القرآن ص ٢٧٩.

(٤) حسن التّوسّل ص ٣٠٤ ، نهاية الأرب ج ٧ ص ١٦٩ ، جوهر الكنز ص ٢٠٤ ، عروس الأفراح ج ٤ ص ٤٧٠ ، وقال ابن الاثير انه التجاهل (ينظر كفاية الطالب ص ١٧٢).

(٥) تحرير ص ٥٦٤.

٣٥٤

وشهرة فاشتهر ، وشهّره تشهيرا فاشتهر (١).

والتشهير أن يأتي الناثر في أثناء نثره ببيت لنفسه ، وقد أشار المصري الى هذا النوع عند كلامه على الاستعانة (٢).

التّصحيف :

التصحيف : الخطأ في الصحيفة (٣). والتصحيف هو «أن يقرأ الشيء بخلاف ما أراد كاتبه وعلى غير ما اصطلح عليه في تسميته. وأما لفظ التصحيف فإنّ أصله فيما زعموا أنّ قوما أخذوا العلم عن الصّحف من غير أن لقوا فيه العلماء فكان يقع فيما يروونه التغيير فيقال عندها قد صحّفوا فيه ، أي رووه عن الصّحف ومصدره التصحيف ومفعوله مصحّف» (٤).

وقد أشار الجاحظ الى ما يقع في الكلام من التصحيف (٥) ، وقال القاضي الجرجاني : «ومن أصناف البديع التصحيف» (٦) كقول البحتري :

ولم يكن المغتّرّ بالله إذ سرى

ليعجز والمعتزّ بالله طالبه

ثم قال القاضي : «وهذا يدخل في بعض الأقسام التي ذكرناها في التجنيس ولكن ما أمكن فيه التصحيف فله باب على حياله وجانب يتميز به عن غيره».

وذكر التّبريزي هذا النوع ولم يعرّفه واكتفى بأمثلة القاضي الجرجاني (٧) ونقل عنه ذلك البغدادي (٨).

وقد قال المصري عن التّبريزي : «ولم يذكره التّبريزي في أقسام التجنيس وجعل التصحيف بابا مفردا» (٩).

وعقد الحموي بابا سماه «المصحّف والمحرّف» ويريد به جناس التصحيف ، قال : «ومنهم من يسمّيه جناس الخطّ وهو ما تماثل ركناه خطا واختلفا لفظا» (١٠).

وقال السّيوطي : «هذا نوع رابع اخترعته ، وهو أن يأتي في المقصود بكلام لتصحيفه معنى معتبر فيقصد الى ذلك لتذهب نفس السامع الى كل من معنييه كما حكي عن بعض الأذكياء أنّه كتب الى بعض أصحابه أن يشتري له من البضائع الرائجة ، وأمر أن لا ينقط ليصلح للرائجة والرابحة» (١١).

التّصدير :

التّصدّر : نصب الصدر في الجلوس ، وصدر كتابه : جعل له صدرا ، وصدّره في المجلس فتصدّر.

والتصدير : حزام الرحل والهودج (١٢).

والتصدير هو ردّ العجز على الصدر أو ردّ الأعجاز على الصدور ، وسمّاه التبريزي والبغدادي «ردّ الكلام على صدره» (١٣) ، وذكر الجاحظ أنّه جاء في الصحيفة الهندية : «ويكون مع ذلك ذاكرا لما عقد عليه أول كلامه» (١٤) ونقل قول ابن المقفع : «حتى يكون لكل فن من ذلك صدر يدلّ على عجزه» (١٥) وقال في رسالة القيان : «إنّ الفروع لا محالة راجعة الى اصولها ، والأعجاز لاحقة بصدورها» (١٦). ولكن الجاحظ لم يعقد له بابا أو يمثّل له ، وكان ابن المعتز قد عدّه من فنون البديع الخمسة ، وهو الباب

__________________

(١) اللسان (شهر).

(٢) تحرير ص ٣٨٣.

(٣) اللسان (صحف).

(٤) التنبيه على حدوث التصحيف ص ٢٦.

(٥) الحيوان ج ١ ص ١٢١.

(٦) الوساطة ص ٤٦.

(٧) الوافي ص ٢٨٣.

(٨) قانون البلاغة ٤٥٠.

(٩) تحرير التحبير ص ١٠٥.

(١٠) خزانة الأدب ص ٣٦.

(١١) شرح عقود الجمان ص ١٤٢.

(١٢) اللسان (صدر).

(١٣) الوافي ص ٢٧٢ ، قانون البلاغة ص ٤٤٤.

(١٤) البيان ج ١ ص ٩٣.

(١٥) البيان ج ١ ص ١١٦.

(١٦) رسالة القيان ـ رسائل الجاحظ ج ٢ ص ١٤٦.

٣٥٥

الرابع (١) ، وقسّمه الى ثلاثة أقسام :

الأول : ما يوافق آخر كلمة فيه آخر كلمة في نصفه الأول ، كقول الشاعر :

تلقى إذا ما الأمر كان عرمرما

في جيش رأي لا يفلّ عرمرم

الثاني : ما يوافق آخر كلمة منه أول كلمة في نصفه الأول كقول الشاعر :

سريع الى ابن العمّ يلطم خدّه

وليس الى داعي النّدى بسريع

الثالث : ما يوافق آخر كلمة فيه بعض ما فيه كقول الشاعر :

عميد بني سليم أقصدته

سهام الموت وهي له سهام

ولم يسمّ ابن المعتز هذه الأقسام ولكنّ المصري قال : «والذي يحسن أن نسمي القسم الأول تصدير التقفية ، والثاني تصدير الطرفين ، والثالث تصدير الحشو» (٢).

وسمّاه الأصمعي التصدير فقال : «من حسن التصدير قول عامر بن الطفيل :

فكنت سناما في فزارة تامكا

وفي كلّ حي ذروة وسنام (٣)

وسمّاه الحاتمي التصدير أيضا وقال : «هو أن يبدأ الشاعر بكلمة في البيت في أوله أو في عجزه أو في النصف منه ثم يرددها في النصف الأخير فاذا نظم الشعر على هذه الصنعة تهيأ استخراج قوافيه وقبل أن يطرق أسماع مستمعيه ، وهو الشعر الجيد (٤). وتبعه في التسمية ابن رشيق الذي ذكر أقسام ابن المعتز وقال إنّه : «قريب من الترديد ، والفرق بينهما أنّ التصدير مخصوص بالقوافي تردّ على الصدور فلا تجد تصديرا إلا كذلك حيث وقع من كتب المؤلفين وإن لم يذكروا فيه فرقا والترديد يقع في أضعاف البيت إلا ما ناسب قول ابن العميد المقدم» (٥) ، وهو :

فإن كان مسخوطا فقل شعر كاتب

وإن كان مرضيّا فقل شعر كاتب

وقال : «وهو داخل ـ عندي ـ في باب الترديد إذ كان قوله عند السّخط «شعر كاتب» إنما معناه التقصير به وبسط العذر له إذ ليس الشعر من صناعته كما حكى ابن النحاس أنّهم يقولون «نحو كتابي» إذا لم يكن مجودا ، وقوله عند الرضى «شعر كاتب» إنما معناه التعظيم له وبلوغ النهاية في الظرف والملاحة لمعرفة الكتاب باختيار الالفاظ وطرق البلاغات فقد ضادّ وطابق في المعنى وإن كان اللفظ تجنيسا مرددا» (٦).

وسمّاه ابن منقذ «ترديدا» و «تصديرا» قال : «باب الترديد ويسمّى التصدير ، اعلم أنّ الترديد هو ردّ أعجاز البيوت على صدورها أو ترد كلمة من النصف الأول في النصف الثاني» (٧).

ومن التصدير نوع سماه عبد الكريم النهشلي المضادة كقول الفرزدق :

أصدر همومك لا يغلبك واردها

فكلّ واردة يوما لها صدر (٨)

وقال المصري عن ردّ الأعجاز على الصدور : «وهو الذي سمّاه المتأخرون التصدير» (٩) ، وذكر أقسام ابن المعتز ووضع لها أسماء ثم ذكر قسما رابعا ذهب عنه ابن المعتز وهو يأتي فيما الكلام فيه منفي ، واعتراض فيه إضراب عن أوله كقول أبي العطاء السّندي :

__________________

(١) البديع ص ٤٧.

(٢) تحرير التحبير ص ١١٧.

(٣) نضرة الإغريض ص ١٠٤.

(٤) حلية المحاضرة ج ١ ص ١٦٢.

(٥) العمدة ج ٢ ص ٣.

(٦) العمدة ج ١ ص ٣٣٥.

(٧) البديع في نقد الشعر ص ٥١.

(٨) العمدة ج ٢ ص ٤.

(٩) تحرير التحبير ص ١١٦ ، بديع القرآن ص ٣٦.

٣٥٦

فإنّك لم تبعد على متعهّد

بلى كلّ من تحت التراب بعيد

وقال إنّ قدامة جاء من التصدير بنوع آخره وسماه التبديل وهو «أن يصير المتكلم الآخر من كلامه أولا وبالعكس كقولهم : «اشكر لمن أنعم عليك وانعم على شكرك» (١) ، ونظم له شاهدا شعريا ، قال : «ولم أقف لهذا القسم على شاهد شعري فقلت :

اصبر على خلق من تعاشره

واصحب صبورا على أذى خلقك

ثم قال : «ولم يفرد له قدامة بابا فأذكره في أبوابه».

وليس في نقد الشعر المطبوع هذا النوع ، ولعل البغدادي (٢) نقله من كتاب آخر كما نقله المصري.

وفرّق المصري بين التصدير والتوشيح فقال : «وربما اختلط التوشيح بالتصدير لكون كل منهما يدلّ صدره على عجزه ، والفرق بينهما أنّ دلالة التصدير لفظية ودلالة التوشيح معنوية» (٣).

وقال المظفر العلوي : ويلقبه قوم ردّ أعجاز الكلام على صدوره وهو أن يبتدئ الشاعر بكلمة في البيت ثم يعيدها في عجزه أو نصفه ثم يردها في النصف الأخير ، واذا نظم الشعر على هذه الصنعة تيّسر استخراج قوافيه قبل أن تطرق اسماع مستمعيه» (٤). وقال ابن قيم الجوزية : «ردّ العجز على الصدر ويسمّى التصدير من ضروب البيان وفنون التلعب باللسان» (٥). وقال الحموي : «هذا النوع الذي هو ردّ الأعجاز على الصدور سمّاه المتأخرون التصدير ، والتصدير هو أخف على المستمع وأليق بالمقام» (٦) ، ولكنّ المدني قال : «ردّ العجز على الصدر هذا النوع سمّاه بعضهم بالتصدير ، والاول أولى لأنّه مطابق لمسماه ، وخير الاسماء ما طابق المسمّى» (٧). وفرّق بين مفهومه في النثر وفي الشعر ، فقال : «وهو في النثر : أن يجعل أحد اللفظين المكررين أعني المتفقين في اللفظ والمعنى أو المتجانسين وهما المتشابهان في اللفظ دون المعنى أو الملحقين بالمتجانسين وهما اللفظان اللذان يجمعهما الاشتقاق أو شبهه في أو الفقرة واللفظ الآخر في آخرها ، فيكون اربعة أقسام :

الأول : أن يكونا مكررين كقوله تعالى : (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ)(٨).

والثاني : أن يكونا متجانسين نحو قولهم : «سائل اللئيم يرجع ودمعه سائل».

والثالث : أن يجمع اللفظين الاشتقاق نحو قوله تعالى : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً)(٩).

والرابع : أن يجمعهما شبه الاشتقاق نحو قوله تعالى : (قالَ : إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ)(١٠).

وفي النظم : على أربعة أقسام وهو : أن يقع أحد اللفظين في آخر البيت والآخر في صدر المصراع الأول أو حشوه أو عجزه أو صدر المصراع الثاني فهذه اربعة أقسام. وعلى كل تقدير فاللفظان إمّا مكرران ، أو متجانسان ، أو ملحقان بهما ، فتصير الأقسام اثني عشر حاصلة من ضرب أربعة في ثلاثة ، وباعتبار أنّ الملحقين قسمان لأنّه إمّا أن يجمعهما الاشتقاق أو شبه الاشتقاق تصير الأقسام ستة عشر ، حاصلة من ضرب أربعة في أربعة». والاقسام التي ذكرها هي :

الأول : وقوع أحد اللفظين في آخر البيت والآخر في صدر المصراع الأول واللفظان مكرران كقول الشاعر :

__________________

(١) تحرير ص ١١٨.

(٢) قانون البلاغة ص ٤٠٩.

(٣) تحرير ص ٢٣١.

(٤) نضرة الإغريض ص ١٠٤.

(٥) الفوائد ص ٢٣٩.

(٦) خزانة الأدب ص ١١٤ ، وينظر المنزع البديع ص ٤٠٦ ، كفاية الطالب ص ١٤١.

(٧) أنوار الربيع ج ٣ ص ٩٤.

(٨) الأحزاب ٣٧.

(٩) نوح ١٠.

(١٠) الشعراء ١٦٨.

٣٥٧

سريع الى ابن العمّ يلطم وجهه

وليس الى داعي النّدى بسريع

وقول ابن جابر الاندلسي :

جمال هذا الغزال سحر

يا حبّذا ذلك الجمال

الثاني : وقوع أحد اللفظين المكررين في آخر البيت والثاني في حشو المصراع الأول كقول الشاعر :

تمتّع من شميم عرار نجد

فما بعد العشيّة من عرار

وقول أبي تمام :

ولم يحفظ مضاع المجد شيء

من الأشياء كالمال المضاع

الثالث : وقوع أحد اللفظين المكررين في آخر البيت والآخر في المصراع الأول ، كقول أبي تمام :

ومن كان بالبيض الكواعب مغرما

فمازلت بالبيض القواضب مغرما

وقول البحتري :

لقد غادرت في جسمي سقاما

بما في مقلتيك من السّقام

الرابع : وقوع أحد اللفظين المكررين في آخر البيت ، والآخر في أول المصراع الآخر كقول ذي الرّمّة :

وإن لم يكن إلا معرّج ساعة

قليلا فاني نافع لي قليلها

وقول كثيّر عزّة :

أصاب الردى من كان يبغي لها الردى

وجنّ اللواتي قلن عزّة جنّت

الخامس : هو وقوع أحد اللفظين في آخر البيت والآخر في صدر المصراع الأول واللفظان متجانسان كقول القاضي الجرجاني :

دعاني من ملامكما سفاها

فداعي الشوق قبلكما دعاني

وقول الآخر :

ذوائب سود كالعناقيد أرسلت

فمن أجلها منّا النفوس ذوائب

السادس : وقوع أحد اللفظين المتجانسين في آخر البيت ، والآخر في حشو المصراع الأول كقول الثعالبي :

واذا البلابل أفصحت بلغاتها

فانف البلابل باحتساء بلابل

وقول الآخر :

لا كان انسان تيمّم قاصدا

صيد المها فاصطاده إنسانها

السابع : وقوع أحد اللفظين المتجانسين في آخر البيت والآخر في آخر المصراع الاول كقول البحتري :

العيش في ظلّ داريّا إذا بردا

والراح تمزجها بالماء من بردى

وقول ابن جابر الاندلسي :

زرت الديار عن الأحبة سائلا

ورجعت ذا أسف ودمع سائل

ونزلت في ظلّ الأراكة قائلا

والربع أخرس عن جواب القائل

الثامن : وقوع أحد اللفظين المتجانسين في آخر البيت والآخر في صدر المصراع كقول الأرجاني :

أمّلتهم ثمّ تأملتهم

فلاح لي أن ليس فيهم فلاح

وقول الميكالي :

إنّ لي في الهوى لسانا كتوما

وفؤادا يخفي حريق جواه

غير أنّي أخاف دمعي عليه

ستراه يبدي الذي ستراه

٣٥٨

التاسع : وقوع أحد اللفظين في آخر البيت ، والآخر في صدر المصراع الأول واللفظان ملحقان بالمتجانسين جمعهما الاشتقاق كقول السريّ الرفّاء وقيل للبحتري :

ضرائب أبدعتها في السما

ح فلسنا نرى لك فيها ضريبا

وقول البحتري :

ضرب الجبال بمثلها من عزمه

غضبان يطعن بالحمام ويضرب

العاشر : وقوع أحد اللفظين الملحقين بالمتجانسين في آخر البيت والآخر في حشو المصراع الأول كقول امرئ القيس :

إذا المرء لم يخزن عليه لسانه

فليس على شيء سواه بخزّان

وقول أبي فراس :

يقول لي انتظر زمنا ومن لي

بأنّ الموت ينتظر انتظاري

الحادي عشر : وقوع أحد اللفظين الملحقين بالمتجانسين في آخر البيت والآخر في آخر المصراع الاول كقول الشاعر :

فدع الوعيد فما وعيدك ضائري

أطنين أجنحة الذباب يضير

وقول أبي تمام :

أعاذلتا ما أخشن الليل مركبا

وأخشن منه الملمات راكبه

الثاني عشر : وقوع أحد اللفظين الملحقين بالمتجانسين في آخر البيت والآخر في أول المصراع الثاني كقول أبي تمام :

ثوى في الثرى من كان يحيا به الورى

ويغمر صرف الدهر نائله الغمر

وقد كانت البيض القواضب في الوغى

بواتر فهي الآن من بعده بتر

وقول أبي فراس :

ولكنّني في ذا الزمان وأهله

غريب وأفعالي لديه غرائب

الثالث عشر : وقوع أحد اللفظين الملحقين اللذين يجمعهما شبه الاشتقاق في آخر البيت والآخر في صدر المصراع الأول كقول الحريري :

ولاح يلحى على جري العنان الى

ملهى فسحقا له من لائح لاح

وقول الكافي العماني :

ثنينا السوء عن ذاك التثني

وأثنيناه عن تلك الثنايا

الرابع عشر : وقوع أحد اللفظين المذكورين في آخر البيت والآخر في حشو المصراع الأول كقول الشاعر :

لعمري لقد كان الثّريا مكانه

تراه فأضحى الآن مثواه في الثرى

وقول أبي العلاء :

لو اختصرتم من الإحسان زرتكم

والعذب يهجر للإفراط في الخصر

الخامس عشر : وقوع أحد اللفظين المذكورين في آخر البيت والآخر في آخر المصراع الأول كقول الحريري :

ومضطلع بتلخيص المعاني

ومطّلع الى تلخيص عان (١)

وقول البحتري :

صفا مثلما تصفو المدام خلاله

ورقّت كما رقّ النسيم شمائله

السادس عشر : وقوع أحد اللفظين المذكورين في آخر البيت والآخر في صدر المصراع الثاني كقول

__________________

(١) التلخيص الاول : التبيين والشرح ، والثاني :

التلخيص (ينظر القاموس المحيط ـ لخص ـ).

٣٥٩

التهامي :

طيف ألمّ فزاد في آلامي

ألما ولم أعهده ذا إلمام

وقوله :

تخمد الحرب حين تغمد بأسا

وتسيل الدماء حين تسلّ

وردّ الأعجاز على الصدور أو التصدير عند ابن الاثير من باب التجنيس ، قال : «ورأيت الغانمي قد ذكر في كتابه بابا وسمّاه «ردّ الأعجاز على الصدور» خارجا عن باب التجنيس وهو ضرب منه وقسم من جملة أقسامه» (١). والى ذلك ذهب الخطيبي ، وقد قال السبكي إنّه «من أنواع التحسين اللفظية لا من الجناس كما توهمه الخطيبي» (٢).

وهذا الفن عند السكاكي والقزويني وشراح التلخيص ومن تبعهم من المحسنات اللفظية ، وقد أفردوه عن التجنيس (٣).

التّصرّف :

صرّف الشيء : أعمله في وجه كأنّه يصرفه عن وجه الى وجه ، وتصرف هو ، وتصاريف الأمور :

تخاليفها ، ومنه تصاريف الرياح والسحاب (٤).

والتصرّف من مبتدعات المصري ، قال : «هو أن يأتي الشاعر الى معنى فيبرزه في عدة صور تارة بلفظ الاستعارة وطورا بلفظ الإيجاز وآونة بلفظ الإرداف وحينا بلفظ الحقيقة» (٥). كقول امرئ القيس :

وليل كموج البحر أرخى سدوله

عليّ بأنواع الهموم ليبتلي

فقلت له لمّا تمطّى بصلبه

وأردف أعجازا وناء بكلكل

فإنّه أبرز هذا المعنى في لفظ الاستعارة ثم تصرّف فيه فأتى به بلفظ الايجاز فقال :

فيا لك من ليل طويل كأنّه

بكلّ مغار الفتل شدّت بيذبل

فان التقدير : فيا لك من ليل طويل ، فحذف الصفة لدلالة التشبيه عليها. ثم تصرّف فيه فأخرجه بلفظ الإرداف فقال :

كأنّ الثريا علّقت في مصامها

بأمراس كتّان الى صمّ جندل

ثم تصرف فيه فعبر عنه بلفظ الحقيقة فقال :

ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلي

بصبح وما الإصباح منك بأمثل

وهذا يدلّ على قوة الشاعر وقدرته ، ولذلك أتت قصص القرآن الكريم في صور شتى من البلاغة وما بين الايجاز والاطناب واختلاف معاني الألفاظ.

وسمّى المصري هذا الفن «الاقتدار» أيضا وقال : «هو أن يبرز المتكلم المعنى الواحد في عدة صور اقتدارا منه على نظم الكلام وتركيبه وعلى صياغة قوالب المعاني والأغراض ، فتارة يأتي به لفظ الاستعارة وطورا يبرزه في صورة الإرداف وآونة يخرجه مخرج الايجاز ، وحينا يأتي به في ألفاظ الحقيقة» (٦).

ونقل الحلبي والنّويري هذا الفن وأمثلته منه وسمياه

__________________

(١) المثل السائر ج ١ ص ٢٥١ ، الجامع الكبير ص ٢٥٨ ، كفاية الطالب ص ١٤١.

(٢) عروس الأفراح ج ٤ ص ٤٣٣.

(٣) مفتاح العلوم ص ٢٠٣ ، المصباح ص ٧٧ ، الايضاح ص ٣٩٠ ، التلخيص ص ٣٩٣ ، شروح التلخيص ج ٤ ص ٤٣٣ ، المطول ص ٤٤٩ ، الأطول ج ٢ ص ٢٢٨ ، شرح عقود الجمان ص ١٤٨ ، معترك ج ١ ص ٤٨ ، وينظر الروض المريع ص ١٦٢.

(٤) اللسان (صرف).

(٥) تحرير التحبير ص ٥٨٢.

(٦) بديع القرآن ص ٢٨٩.

٣٦٠