معجم المصطلحات البلاغيّة وتطوّرها

الدكتور أحمد مطلوب

معجم المصطلحات البلاغيّة وتطوّرها

المؤلف:

الدكتور أحمد مطلوب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة لبنان ناشرون
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٥

الباء

البدل :

بدل الشيء غيره ، والبديل البدل ويقال بدل ، وبدل الشيء وبدله وبديله : الخلف منه. وتبدّل الشيء وتبدل به واستبدله واستبدل به : أتخذ منه بدلا ، وأبدل الشيء وبدّله : تخذه بدلا (١).

وقد أطلق الجاحظ البدل على التشبيه والاستعارة ، وقال عند كلامه على قوله تعالى : (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى)(٢) : «ومن جعل للحيات مشيا من الشعراء أكثر من أن نقف عليهم» ولو كانوا لا يسمون انسيابها وانسياحها مشيا وسعيا لكان ذلك مما يجوز على التشبيه والبدل وإن قام الشيء مقام الشيء أو مقام صاحبه فمن عادة العرب ان تشبه به في حالات كثيرة.

وقال الله تعالى : (هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ)(٣) والعذاب لا يكون نزلا ولكنه أجراه مجرى كلامهم» (٤).

ولكن هذا المصطلح لم يستعمل في الكتب المتأخّرة للتشبيه والاستعارة ، وكأنه استقر في الدراسات النّحوية وقالوا : إنه «التابع المقصود بالحكم بلا واسطة» وهو عندهم أربعة أقسام :

الأول : بدل كلّ من كلّ كقوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)(٥).

الثاني : بدل بعض من كلّ مثل : «أكلت الرغيف ثلثه».

الثالث : بدل الاشتمال مثل : «أعجبني زيد علمه».

الرابع : البدل المباين ، وهو بدل الغلط أو النسيان مثل «خذ نبلا مدى» (٦) واستخدم السكاكي مصطلح «البدل» في كلامه على الفصل والوصل ، وعدّه من مواضع الفصل ، ففي البيت :

أقول له ارحل ، لا تقيمنّ عندنا

وإلا فكن في السّر والجهر مسلما

فصل الشاعر «لا تقيمن» عن «ارحل» لقصد البدل ؛ لأنّ المقصود من كلامه هذا إظهار كمال الكراهة لاقامته بسبب خلاف سره العلن. وقوله : «لا تقيمن عندنا» أوفى بتأدية هذا المقصود من قوله : «ارحل» لدلالة ذاك عليه بالتضمن مع التجرد عن التأكيد ، ودلالة هذا عليه بالمطابقة مع التأكيد. ومثله قوله تعالى : (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ. قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟)(٧).

فصل قالوا : (أَإِذا مِتْنا) عن (قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) لقصد البدل (٨).

__________________

(١) اللسان (بدل).

(٢) طه ٢٠.

(٣) الواقعة ٥٦.

(٤) الحيوان ج ٤ ص ٢٧٣.

(٥) الفاتحة ٦ ـ ٧.

(٦) شرح الأشموني ص ٤٣٥.

(٧) المؤمنون ٨١ ـ ٨٢.

(٨) مفتاح العلوم ص ١٢٨ ، الايضاح ص ١٥٣ ، التلخيص ص ١٨٤ ، شروح التلخيص ج ٣ ص ٤٣ ، المطول ص ٢٥٥ ، الأطول ج ٢ ص ١٠.

٢٢١

البديع :

بدع الشيء يبدعه بدعا وابتدعه : أنشأه وبدأه ، وابدعت الشيء : اخترعته لا على مثال. والبديع : المبدع ، والبديع من أسماء الله تعالى لا بداعه الاشياء وإحداثه اياها وهو البديع الأول قبل كل شيء. والبديع : الجديد (١).

وقد ذكر الجاحظ أنّ مصطلح البديع اطلقه الرواة على المستطرف الجديد من الفنون الشعرية وعلى بعض الصور البيانية التي يأتي بها الشعراء في أشعارهم فتزيدها حسنا وجمالا. قال معلقا على بيت الأشهب بن رميلة :

هم ساعد الدهر الذي يتّقى به

وما خير كف لا تنوء بساعد

«قوله : «هم ساعد الدهر» إنّما هو مثل ، وهذا الذي تسميه الرواة البديع» (٢).

لكن أبا الفرج الاصفهاني ذكر أنّ الشاعر العباسي مسلم بن الوليد كان أول من أطلق هذا المصطلح ، قال : «وهو فيما زعموا أول من قال الشعر المعروف بالبديع ، وهو لقّب هذا الجنس البديع واللطيف وتبعه فيه جماعة ، وأشهرهم فيه أبو تمام الطائي فانه جعل شعره كله مذهبا واحدا فيه» (٣).

ودفع الجاحظ غلوه في حب العرب والرد على الشعوبية إلى أن يقول : «والبديع مقصور على العرب ومن أجله فاقت لغتهم كل لغة ورأبت على كل لسان» (٤).

وكان المولّدون من الشعراء العصر العباسي قد أكثروا في أشعارهم من الصور البيانية التي سميت البديع ، قال الجاحظ : «ومن الخطباء الشعراء ممن كان يجمع الخطابة والشعر الجيد والرسائل الفاخرة مع البيان الحسن : كلثوم بن عمرو العتابي وكنيته أبو عمرو ، وعلى ألفاظه وحذوه ومثاله في البديع يقول جميع من يتكلف مثل ذلك من شعراء المولدين كنحو منصور النمري ومسلم بن الوليد الانصاري وأشباههما. وكان العتابي يحتذي حذو بشار في البديع ، ولم يكن من المولّدين أصوب بديعا من بشار وابن هرمة» (٥).

وقال «والراعي كثير البديع في شعره ، وبشار حسن البديع ، والعتابي يذهب شعره في البديع» (٦).

وشاع هذا اللون في الأدب ولجّ المولّدون. في اصطناعه وتباهوا بالسبق اليه مما حدا بالخليفة والشاعر العباسي ابن المعتز الى أن يؤلف «كتاب البديع» ليعلم أنّ بشارا ومسلما وأبا نواس ومن تقيلهم (٧) وسلك سبيلهم لم يسبقوا الى هذا الفن ، ولكن كثر في أشعارهم فعرف في زمانهم حتى سمي بهذا الاسم فأعرب عنه ودلّ عليه ، وليعرف أنّ المحدثين لم يسبقوا المتقدمين الى شيء من أبواب البديع. قال : «ثم إنّ حبيب بن أوس الطائي من بعدهم شغف به حتى غلب عليه وتفرع فيه وأكثر منه فأحسن في بعض ذلك وأساء في بعض وتلك عقبى الافراط وثمرة الاسراف ، وإنّما كان يقول الشاعر من هذا الفن البيت والبيتين في القصيدة وربما قرئت من شعر أحدهم قصائد من غير أن يوجد فيها بيت بديع ، وكان يستحسن ذلك منهم إذا أتى ناردا ويزداد حظوة بين الكلام المرسل» (٨).

وكان الجاحظ من أوائل الذين اعتنوا بالبديع وصوره ، وقد أطلقه على فنون البلاغة المختلفة ، وتعليقه على بيت الأشهب بن رميلة يوضح اتجاهه حيث سمّى الاستعارة بديعا. ونظر ابن المعتز الى البديع هذه النظرة ، وكانت فنونه عنده خمسة هي :

__________________

(١) اللسان (بدع).

(٢) البيان ج ٤ ص ٥٥.

(٣) الأغاني ج ١٩ ص ٣١.

(٤) البيان ج ١ ص ٥١.

(٥) البيان ج ١ ص ٥١.

(٦) البيان ج ٤ ص ٥٦.

(٧) تقيلهم ؛ حاكاهم.

(٨) البديع ص ١.

٢٢٢

الاستعارة ، والتجنيس ، والمطابقة ، ورد أعجاز الكلام على ما تقدمها ، والمذهب الكلامي ، وذكر ثلاثة عشر فنا سماها «محاسن الكلام والشعر» وهي : الالتفات ، والاعتراض ، والرجوع ، وحسن الخروج ، وتأكيد المدح بما يشبه الذم ، وتجاهل العارف ، والهزل الذي يراد به الجد ، وحسن التضمين ، والتعريض والكناية ، والافراط في الصفة ، وحسن التشبيه ، وإعنات الشاعر نفسه في القوافي ، وحسن الابتداءات.

وعاصره قدامة بن جعفر وجمع من البديع أنواعا كثيرة بعضها مما ذكره ابن المعتز وبعضها جديد كالتقسيم والترصيع والمقابلات والتفسير والمساواة والاشارة ولم يسمها بديعا وإنّما هي من محاسن الكلام ونعوته.

وعقد أبو هلال العسكري الباب التاسع من «كتاب الصناعتين» لشرح البديع ، وهو عنده مختلف الصور البيانية كالاستعارة والمجاز والمطابقة والتجنيس.

وصور البديع خمس وثلاثون ، وقد قال عنها : «فهذه أنواع البديع التي ادّعى من لا رويّة ولا دراية عنده أنّ المحدثين ابتكروها وأنّ القدماء لم يعرفوها وذلك لمّا أراد أن يفخم أمر المحدثين ؛ لأنّ هذا النوع من الكلام إذا سلم من التكلف وبرىء من العيوب كان في غاية الحسن ونهاية الجودة» (١).

وزاد سبعة فنون هي : التشطير ، والمجاورة ، والتطريز ، والمضاعفة ، والاستشهاد ، والتلطف ، والمشتق.

ولم يهتم القاضي الجرجاني بألوان البديع ولم يذكر منها إلا فنونا قليلة ، وقد أشار الى أنّ المحدثين سمّوا الاستعارة والمطابق والجناس وغيرها بديعا (٢).

وكانت نظرة الباقلاني الى البديع شاملة وقد ذكر كثيرا من فنونه في كتابه «إعجاز القرآن» ولكنه قال إنّه لا سبيل الى معرفة الاعجاز من البديع الذي ادّعوه في الشعر ووصفوه ، وذلك أنّ هذا الفن ليس فيه مما يخرق العادة ويخرج عن العرف بل يمكن استدراكه بالتعلم والتدرب (٣).

واهتم ابن رشيق بالبديع وفرّق بينه وبين المخترع ، فالمخترع من الشعر هو «ما لم يسبق اليه قائله ولا عمل أحد من الشعراء قبله نظيره أو ما يقرب منه» (٤).

والبديع هو الجديد ، وأصله في الحبال وذلك أن يفتل الحبل جديدا ليس من قوى حبل نقضت ثم فتلت فتلا آخر. قال : «والبديع ضروب كثيرة وأنواع مختلفة ، وأنا أذكر منها ما وسعته القدرة وساعدت فيه الفكرة» (٥).

وأدخل في البديع المجاز والاستعارة والتمثيل والمثل السائر والتشبيه والاشارة ، ولا يختلف عبد القاهر عن سابقيه ، والبديع عنده فنون البلاغة المختلفة ، قال : «وأما التطبيق والاستعارة وسائر أقسام البديع» (٦) ، وقال : «وهكذا تراهم يعدونها في أقسام البديع حيث يذكر التجنيس والتطبيق والتوشيح وردّ العجز على الصدر وغير ذلك» (٧).

وسمّى ابن منقذ أحد كتبه «البديع في نقد الشعر» وجمع فيه خمسة وتسعين فنا بلاغيا ، وسار المصري على خطاه في كتابيه «بديع القرآن» و «تحرير التحبير» وذكر أكثر من مائة فن بلاغي وابتدع فنونا جديدة.

إنّ البديع في القرون الستة الاولى للهجرة كان يدل على فنون البلاغة المختلفة ، ولكن السكاكي حينما قسم البلاغة الى علومها المعروفة أفرد بعض الموضوعات وسمّاها وجوها يصار اليها لتحسين الكلام وقسمها الى لفظية ومعنوية ، ومن الأولى

__________________

(١) كتاب الصناعتين ص ٢٦٧.

(٢) الوساطة ص ٣٤.

(٣) إعجاز القرآن ص ١٦٨.

(٤) العمدة ج ١ ص ٢٦٢ وينظر المنصف ص ٤٨.

(٥) العمدة ج ١ ص ٢٦٥.

(٦) أسرار البلاغة ص ٢٠.

(٧) أسرار البلاغة ص ٣٦٩ ، وينظر كفاية الطالب ص ٤٠.

٢٢٣

المطابقة والمقابلة والمشاكلة ومراعاة النظير ، ومن الثانية التجنيس ورد العجز على الصدر والقلب والسجع.

وكان بدر الدين بن مالك أول من أطلق مصطلح «البديع» على هذه الوجوه والمحسنات ، وقد قال عن البديع إنّه «معرفة توابع الفصاحة» (١) وقسمها الى ثلاثة أنواع.

الأول : الراجع الى الفصاحة اللفظية وهو أربعة وعشرون فنا منها : الترديد والتعطيف ورد العجز على الصدر والتشطير والترصيع.

الثاني : الراجع الى الفصاحة ويختص بافهام المعنى وتبيينه وهو تسعة عشر فنا منها : حسن البيان والايضاح والمذهب الكلامي والتبيين والتتميم والتقسيم.

الثالث : الراجع الى الفصاحة المختصة بتحسين الكلام وتزيينه ومنها : اللف والنشر ، والتفريق والجمع والتورية وحسن الابتداء وحسن الخاتمة.

وفصل القزويني البديع فصلا تاما عن البلاغة التي جعلها محصورة في المعاني والبيان ، والبديع عنده ضربان : ضرب يرجع الى المعنى كالمطابقة ومراعاة النظير والارصاد ، وضرب يرجع الى اللفظ كالجناس ورد العجز على الصدر والسجع.

ولم يخرج شرّاح التلخيص عما رسمه القزويني وإن أضاف بعضهم كالسبكي فنونا أخرى.

فالبديع بمعناه الأخير هو «علم يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال ووضوح الدلالة» (٢) ، أي أنّه تابع لعلمي المعاني والبيان.

البديعيّات :

شهد القرن السابع للهجرة لونا جديدا من التأليف في البلاغة هو «البديعيّات» وهي قصائد في مدح الرسول محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومن البسيط وروي الميم في أكثر الاحيان ، وتتضمن فنونا بلاغية يورّى عنها أو لا يورّى.

والبديعيات كثيرة ، ولعل أقدمها بديعية علي بن عثمان الاربلي في مدح بعض معاصريه. وقد ذكر ابن شاكر الكتبي (٣) ستة وثلاثين بيتا منها اشتملت على فنون بلاغية مختلفة. ويبدو أنّ هذه البديعية أول ما عرف في الأدب العربي من البديعيات ، وهي ليست في مدح النبي الكريم وليست من البسيط أو على روي الميم ، وانما هي في مديح بعضهم ومن الخفيف وروي اللام. وقد بدأها صاحبها بذكر الجناس التام والمطرف فقال :

بعض هذا الدلال والإدلال

حال بالهجر والتجنب حالي

وبالجناس المصحف والمركب فقال :

جرت إذ جزت ربع قلبي وإذ

لالي صبرا أكثرت من إذلالي

ومن البديعيات بديعية صفي الدين الحلي وهي في مائة وخمسة وأربعين بيتا ومطلعها :

إن جئت سلعا فسل عن جيرة العلم

واقرا السّلام على عرب بذي سلم

وبديعية ابن جابر الاندلسي وهي في مائة وسبعة وعشرين بيتا استهلها بقوله :

بطيبة انزل ويمّم سيد الأمم

وانثر له المدح وانشر أطيب الكلم

وسمّاها «الحلة السيرا في مدح خير الورى» (٤) وشرحها الرعيني الغرناطي بكتاب «طراز الحلة وشفاء الغلة».

__________________

(١) المصباح ص ٧٥.

(٢) الايضاح ص ٣٣٤ ، التلخيص ص ٣٤٧ ، شروح التلخيص ج ١ ص ٢٨٢ ، المطول ص ٤١٦ ، الأطول ج ٢ ص ١٨٠.

(٣) فوات الوفيات ج ٢ ص ١١٨.

(٤) السيراء ؛ المخططة ، أو يخالطها حرير.

٢٢٤

ونظم عز الدين الموصلي بديعية في مائة واربعين بيتا التزم فيها تسمية الفن البديعي مورّيا بكلمة عنه البيت الذي يتضمنها ، ومطلعها :

براعة تستهلّ الدمع في العلم

عبارة عن نداء المفرد العلم

وكان الموصلي أول من فعل ذلك ليتميز على الحلي الذي لم يلتزم بتسمية النوع.

وتوالى نظم البديعيات وظهر شعراء عنوا بها كوجيه الدين عبد الرحمن ابن محمد اليمني وشرف الدين عيسى بن حجاج بن عيسى بن شداد السعدي القاهري وزين الدين شعبان بن محمد القرشي الآثاري (١) الذي نظم ثلاث بديعيات : الصغرى وهي في مائة وتسعة وستين بيتا ومطلعها :

إن جئت بدرا فطب وانزل بذي سلم

سلّم على من سبا بدرا على علم

والوسطى وهي في ثلثمائة وثمانية أبيات ومطلعها :

دع عنك سلعا وسل عن ساكن الحرم

وخلّ سلمى وسل ما فيه من كرم

والكبرى وهي في أربعمائة وسبعة أبيات ومطلعها :

حسن البداعة حمد الله في الكلم

ومدح أحمد خير العرب والعجم

وكان يعاصر الآثاري أديب ناقد له أكبر الأثر في البديعيات وهو ابن حجة الحموي الذي وجد عصره يزخر بالبديعيات ، وكان قد أعجب ببديعتي الحلي والموصلي فنظم بديعية في مائة واثنين واربعين بيتا وورّى عن كل فن بكلمة ، ومطلعها :

لي في ابتدا مدحكم يا عرب ذي سلم

براعة تستهلّ الدمع في العلم

وشرحها بكتابه البلاغي «خزانة الأدب وغاية الارب» الذي يعدّ أهم كتب البلاغة في القرن الثامن للهجرة.

ولجلال الدين السيوطي بديعية سماها «نظم البديع في مدح خير شفيع» وهي في مائة واربعين بيتا ومطلعها :

من العقيق ومن تذكار ذي سلم

براعة تستهلّ الدمع في العلم

وشرحها شرحا موجزا وأشار الى أنّه عارض بها بديعية الحموي في التورية باسم النوع البديعي.

ونظمت عائشة الباعونية بديعية في مائة وثلاثين بيتا سمتها «الفتح المبين في مدح الأمين» ومطلعها :

في حسن مطلع أقماري بذي سلم

أصبحت في زمرة العشّاق كالعلم

ونظمتها على منوال بديعية الحموي من غير تسمية النوع البديعي وشرحتها شرحين.

ونظم عبد الغني النابلسي بديعيتين ولم يلتزم في إحداهما تسمية النوع والتزمه في الثانية. ومطلع الاولى :

يا منزل الركب بين البان فالعلم

من سفح كاظمة حيّيت بالديم

وشرحها بكتابه «نفحات الأزهار على نسمات الاسحار في مدح النبي المختار». ومطلع الثانية :

يا حسن مطلع من أهوى بذي سلم

براعة الشوق في استهلالها ألمي

وهناك بديعيات أخرى ومعظمها في مدح الرسول الكريم ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم

ومن البسيط وعلى رويّ الميم. ونظم المسيحيون بديعيات في المسيح ـ عليه‌السلام ـ ومنهم الخوري نيقولاوس بن نعمة الله الصائغ الذي يقول في مطلع بديعته :

بديع حسن امتداحي رسل ربهم

براعة في افتتاحي حمد ربهم

والخوري أرسانيوس الفاخوري الذي التزم في احدى

__________________

(١) تنظر البديعيات في بديعيات الآثاري ص ١٧ ، ٥١ ، ١٠١.

٢٢٥

بديعياته التورية على اسم النوع البديعي ومطلعها :

براعة المدح في نجم ضياه سمي

تهدي بمطلعها من عن سناه عمي

ومطلع الثانية :

فحيّ حيّ الجليل الجامع العظم

وبيت لحم وآلا قد سمت بهم

ولم يلتزم في الثالثة البسيط ولا الميم المكسورة وإنما اتخذ من الكامل والميم المضمومة سبيلا ، ومطلعها :

إني لأحكام القضاء مسلّم

ولسان حالي بالهوى متكلّم

وهذه البديعيات الكثيرة تدلّ على اهتمام كبير بفنون البديع في العهود المتأخرة وإن كان فيها إسراف في الصنعة وتفنن في إيجاد أنواع بديعية جديدة. ولم يستمر الشعراء في نظم هذا اللون من البديع فقد انصرفوا عنه وكادت البديعيات تختفي منذ مطلع القرن العشرين.

البراءة :

بريء من الأمر يبرأ ويبرؤ براءة وبراء ، وبرئ : إذا تخلص وبرىء أذا تنزه وتباعد (١).

وقد أدخل السبكي البراءة في البديع وقال : «ومحلها الهجاء ، وهو كما قال أبو عمرو بن العلاء وقد سئل عن أحسن الهجاء فقال : «هو الذي أذا أنشدته العذراء في خدرها لا يقبح عليها» (٢).

البراعة :

برع يبرع بروعا وبراعة وبرع فهو بارع : تمّ في كل فضيلة وجمال وفاق أصحابه في العلم وغيره ، والبارع : الذي فاق أصحابه في السؤدد (٣). قال الباقلاني : «وأما البراعة فهي فيما يذكر أهل اللغة الحذق بطريقة الكلام وتجويده. وقد يوصف بذلك كل متقدم في قول أو صناعة» (٤). وقال : «فأما وصف الكلام بالبراعة فمعناه أنّه حذقت طريقته وأجيد نظمه ، وقد يوصف بذلك كل مجيد قول أو صناعة فيجوز أن يوصف القرآن بالبراعة على هذا المعنى ، والمراد أنّه نظم ـ يخرج عن إمكان الناطقين لا على معنى أنّه تجويد كلام هو على معنى كلام العرب» (٥).

ويبدو أنّ هذا المصطلح أهمل ولم يدخل في الدراسات البلاغية ولذلك قال السبكي : «مما يوصف به الكلام والكلمة أيضا البراعة وأهملها الجمهور وقد ذكرها القاضي أبو بكر في الانتصار مع الفصاحة والبلاغة وحدّها بما يقرب من حد البلاغة» (٦). وقال السيوطي : «البراعة مثل البلاغة فيقال متكلم بارع وكلام بارع ولا يقال كلمة بارعة.

قد حدّها القاضي أبو بكر في الانتصار بما يقرب من حدّ البلاغة وأهملها الجمهور وذكرها هنا من زوائدي» (٧). وقد نظمها السيوطي في أرجوزته «عقود الجمان» فقال :

يوصف بالفصاحة المركّب

ومفرد ومنشىء مرتّب

وغير ثان صفه بالبلاغة

ومثله في ذلك البراعة

فالبراعة هي البلاغة وهذا ما ذهب اليه عبد القاهر حينما جمع بين البلاغة والفصاحة والبيان والبراعة ولم يفصل بينها جميعا وكل ما شاكل ذلك «مما يعبر به عن فضل بعض القائلين على بعض من حيث نطقوا وتكلموا وأخبروا السامعين عن الأغراض والمقاصد ، وراموا أن يعلموهم ما في نفوسهم ويكشفوا لهم عن

__________________

(١) اللسان (برأ).

(٢) عروس الافراح ج ٤ ص ٤٧٠.

(٣) اللسان (برع).

(٤) إعجاز القرآن ص ١٩٤.

(٥) نكت الانتصار لنقل القرآن ص ٢٦٠.

(٦) عروس الافراح ج ١ ص ٧٥.

(٧) شرح عقود الجمان ص ٣.

٢٢٦

ضمائر قلوبهم» (١).

براعة الاستهلال :

البراعة هي التفوق ، والاستهلال الافتتاح والابتداء ، فاستهل : رأى الهلال ، واستهل المولود صاح في أول زمان الولادة واستهلت السماء جادت بالهلل وهو أول المطر. قال المدني : «وكل من هذه المعاني مناسب للنقل منه الى المعنى الاصطلاحي وإن خصه بعضهم بالنقل من المعنى الثاني.

وإنّما سمي هذا النوع الاستهلال لأنّ المتكلم يفهم غرضه من كلامه عند ابتداء رفع صوته به» (٢).

وكان الجاحظ قد نقل عن ابن المقفع قوله : «ليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك ، كما أنّ خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته» (٣) وقال الجاحظ : «كأنه يقول فرّق بين صدر خطبة النكاح وبين صدر خطبة العيد وخطبة الصلح وخطبة التواهب حتى يكون لكل فن من ذلك صدر يدل على عجزه ، فانّه لا خير في كلام لا يدلّ على معناك ولا يشير الى مغزاك ، والى العمود الذي اليه قصدت ، والغرض الذي اليه نزعت».

وكانت هذه إشارة الى الاهتمام بمثل ذلك في النثر والشعر ، ولذلك قال ابن جني : «إذا كان المرسل حاذقا أشار في تحميده الى ما جاء بالرسالة من أجله» (٤).

وعقد الكلاعي فصلا سماه «الاشارة في الصدور الى الغرض المذكور» (٥).

وذكر ابن المعتز فنا في محاسن الكلام سماه «حسن الابتداءات» (٦) وقال الحموي عن هذه التسمية : «وفي هذه التسمية تنبيه على تحسين المطالع وإن أخلّ الناظم بهذه الشروط لم يأت بشيء من حسن الابتداء» (٧).

وقد فرّع المتأخرون من هذه التسمية «براعة الاستهلال» وهي كما قال التبريزي : «أن يبتدىء بما يدل على غرضه» (٨) ، كقول الخنساء في أخيها :

وما بلغت كفّ امرىء متناولا

من المجد إلا والذي نلت أطول

وما بلغ المهدون للناس مدحة

وإن أطنبوا إلا الذي فيك أفضل

ودخل الأخطل على معاوية فقال : إني مدحتك فاسمع. فقال : إن كنت شبهتني بالحية والصقر فلا حاجة لي فيه ، وإن كنت قلت كما قالت الخنساء في أخيها ، وأنشد البيتين فهات. فأنشده الأخطل :

إذا متّ مات الجود وانقطع الندى

ولم يبق إلّا من قليل مصرّد

فقال له معاوية : «ما زدت على أن نعيت اليّ نفسي».

وقال البغدادي : «وأما براعة الاستهلال فهي من ضروب الصنعة التي يقدمها أمراء الكلام ونقاد الشعر وجهابذة الألفاظ ، فينبغي للشاعر إذا ابتدأ قصيدة مدحا أو ذما أو فخرا أو وصفا أو غير ذلك من أفانين الشعر ابتدأها بما يدل على غرضه فيها ، كذلك الخطيب إذا ارتجل خطبة ، والبليغ إذا افتتح رسالة فمن سبله أن يكون ابتداء كلامه دالا على انتهائه وأوله ملخصا بآخره» (٩) ، وذكر أمثلة التبريزي.

ويتضح مما قاله المتقدمون أنّ براعة الاستهلال هي «ابتداء المتكلم بمعنى ما يريد تكميله وإن وقع في اثناء القصيدة» (١٠) ولذلك فرّق المصري بين أمثلتها وأمثلة حسن الابتداءات فقال بعد أن ذكر

__________________

(١) دلائل الاعجاز ص ٣٥.

(٢) أنوار الربيع ج ١ ص ٥٦.

(٣) البيان ج ١ ص ١١٦.

(٤) إحكام صنعة الكلام ج ١ ص ١١٦.

(٥) إحكام صنعة الكلام ص ٦٦ وما بعدها.

(٦) البديع ص ٧٥.

(٧) خزانة الأدب ص ٣.

(٨) الوافي ص ٢٨٤.

(٩) قانون البلاغة ص ٤٥٠.

(١٠) تحرير التحبير ص ١٦٨.

٢٢٧

أمثلة للأخير : «فهذه أمثلة ابتداءات القصائد ، وأما أمثلة بارعة اسلاتهلال فمنها قول محمد بن الخياط :

لمست بكفي كفّه أبتغي الغنى

ولم أدر أنّ الجود من كفّه يعدي

فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى

أفدت وأعداني فأنفدت ما عندي

ولقد أحسن البحتري اتباعه في هذا المعنى حيث قال :

أعدت يداه يدي وشرّد جوده

بخلي فأفقرني كما أغناني

ووثقت بالخلق الجميل معجّلا

منه فأعطيت الذي أعطاني

واذا نظرت الى فواتح السور الفرقانية جملها ومفرداتها رأيت من البلاغة والتفنن في الفصاحة ما لا تقدر العبارة على حصر معناه ، ومن أراد الوقوف على ذلك فليقف على كتابي المنعوت بالخواطر السوانح في كشف أسرار الفواتح» (١).

وقال الحلبي والنويري ما قاله المصري عن حسن الابتداءات أي أنّها «تسمية ابن المعتز وأراد بها ابتداءات القصائد. وقد فرّع المتأخرون من هذه التسمية براعة الاستهلال ، وهو أن يأتي الناظم أو الناثر في ابتداء كلامه ببيّنة أو قرينة تدل على مراده في القصيدة أو الرسالة أو معظم مراده ، والكاتب أشدّ ضرورة الى ذلك من غيره ليبني كلامه على نسق واحد دل عليه من أوله وهلة علم بها مقصده» (٢).

وقال ابن الاثير الحلبي عن براعة الاستهلال : «ويسمى حسن الابتداءات وهو من نعوت الألفاظ ، وهو أن يكون مطلع الكلام دالا على المقصود في حسن الابتداء» (٣). وهذا خلاف ما ذكره السابقون من أنّ براعة الاستهلال مما فرعه المتأخرون عن حسن الابتداءات.

وقال ابن قيم الجوزية : «هو أن يذكر الانسان في أول خطبته أو قصيدته أو رسالته كلاما دالا على الغرض الذي يقصده ليكون ابتداء كلامه دالا على انتهائه» (٤).

ثم قال : «هذا النوع قد قدمناه في فصل حسن المطلع لكن الزنجاني ـ رحمه‌الله ـ أفرد له بابا فأفردناه على حكم ما أفرده ، وكان في حسن المطلع زيادات يحتاج اليها فذكرناها ههنا ، وهذه الزيادة التي اقتضت افراده» (٥).

وعدّه القزويني من حسن الابتداء وقال : «وأحسن الابتداءات ما ناسب المقصود ، ويسمى براعة الاستهلال» (٦). كقول أبي تمام يهنىء المعصتم بالله بفتح عمورية وكان أهل التنجيم زعموا أنّها لا تفتح في ذلك الوقت :

السيف أصدق أنباء من الكتب

في حدّه الحدّ بين الجد واللّعب

بيض الصفائح لا سود الصحائف في

متونهنّ جلاء الشكّ والريب

 وتبع القزويني في ذلك شراح تلخيصه (٧).

وقال السيوطي : «ومن الابتداء الحسن نوع أخص منه يسمى براعة الاستهلال ، وهو أن يشتمل أول الكلام على ما يناسب الحال المتكلم فيه ويشير الى ما سبق الكلام لأجله. والعلم الأسنى في ذلك سورة الفاتحة التي هي مطلع القرآن الكريم فأنها مشتملة على جميع مقاصده» (٨).

__________________

(١) تحرير ص ١٧٢.

(٢) حسن التوسل ص ٢٥٠ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٣٣.

(٣) جوهر الكنز ص ٢١٨.

(٤) الفوائد ص ١٣٩.

(٥) الفوائد ص ١٤٠.

(٦) الايضاح ص ٤٣١ ، التلخيص ص ٤٣١.

(٧) شروح التلخيص ج ٤ ص ٥٣٣ ، المطول ص ٤٧٩ ، الأطول ج ٢ ص ٢٥٧.

(٨) معترك الاقران ج ١ ص ٧٥ ، الاتقان ج ٢ ص ١٠٦.

٢٢٨

وسمّاه الحموي براعة الاستهلال وقال وهو يتحدث عن حسن الابتداء «وقد فرّع المتأخرون منه براعة الاستهلال في النظم والنثر وفيها زيادة على حسن الابتداء فانّهم شرطوا في براعة الاستهلال أن يكون مطلع القصيدة دالا على ما بنيت عليه مشعرا بغرض الناظم من غير تصريح بل باشارة لطيفة تعذب حلاوتها في الذوق السليم ويستدل بها على مقصده من عتب أو عذر أو تنصل أو تهنئة أو مدح أو هجو وكذلك في النثر. فاذا جمع الناظم بين حسن الابتداء وبراعة الاستهلال كان من فرسان هذا الميدان وإن لم يحصل له براعة الاستهلال فليجتهد في سلوك ما يقوله في حسن الابتداء. وما سمي هذا النوع براعة استهلال إلا لأنّ المتكلم يفهم غرضه من كلامه عند ابتداء رفع صوته به. ورفع الصوت في اللغة هو الاستهلال ، يقال : استهل المولود صارخا إذا رفع صوته عند الولادة وأهل الحجيج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية ، وسمي الهلال هلالا لأنّ الناس يرفعون أصواتهم عند رؤيته» (١).

ومما وقع من براعات الاستهلال التي تشعر بغرض الناظم وقصده في قصيده براعة قصيدة الفقيه نجم الدين عمارة اليمني حيث قال :

إذا لم يسالمك الزمان فحارب

وباعد إذا لم تنتفع بالأقارب

فاشارات العتب والشكوى لا تخفى على أهل الذوق في هذه البراعة ، ويفهم منها أنّ بقية القصيدة تعرب عن ذلك.

ومن ألطف البراعات وأحشمها براعة مهيار الديلمي فانه بلغه أنّه وشي به الى ممدوحه فتنصل من ذلك بألطف عذر وأبرزه في معرض التغزل والنسيب فقال :

أما وهواها حلفة وتنصّلا

لقد نقل الواشي الواشي اليك فأمحلا

وما أحلى ما قال بعده :

سعى جهده لكن تجاوز حدّه

وكثّر فارتابت ولو شاء قلّلا

ولم يخرج المدني على ما قاله المتقدمون ولا سيما الحموي ، قال : «واعلم أنّ المتأخرين فرّعوا على حسن الابتداء براعة الاستهلال ، وهو أن يكون أول الكلام دالا على ما يناسب حال المتكلم متضمنا لما سبق الكلام لأجله من غير تصريح بل بألطف اشارة يدركها الذوق السليم» (٢). ثم قال : «اذا علمت ذلك فاعلم أنّ براعة الاستهلال في مطلع القصيدة هو كونه دالا على بنيت عليه من مدح أو هجاء أو تهنئة أو عتب أو غير ذلك. فاذا جمع المطلع بين حسن الابتداء وبراعة الاستهلال كان هو الغاية التي لا يدركها إلا مصلّي هذه الحلبة والحالب من أشطر البلاغة أوفر حلبه» (٣).

براعة التّخلّص :

هو التخلص وحسن التخلص ، ويراد به حسن الانتقال من غرض الى آخر في القصيدة ، ولم يكن القدماء يعنون بالتخلص وانما هو من حسنات المحدثين أو كما قال ابن طباطبا : «ما أبدعه المحدثون من الشعراء دون من تقدمهم ، لان مذهب الاوائل في ذلك واحد وهو قولهم عند وصف الفيافي وقطعها بسير النوق وحكاية ما عانوه في أسفارهم : انا تجشمنا ذلك الى فلان يعنون الممدوح كقول الأعشى :

الى هوذة الوهاب أزجي مطيتي

أرجّي عطاء صالحا من نوالكا (٤)

وكانوا يقولون عند الانتقال «دع ذا» و «عدّ عن ذا» ، قال الباقلاني : «ألا ترى أنّ كثيرا من الشعراء وقد وصف

__________________

(١) خزانة الأدب ص ٨.

(٢) أنوار الربيع ج ١ ص ٥٣.

(٣) أنوار الربيع ج ١ ص ٥٦.

(٤) عيار الشعر ص ١١١.

٢٢٩

بالنقص عند التنقل من معنى الى غيره والخروج من باب الى سواه ، حتى أنّ أهل الصنعة قد اتفقوا على تقصير البحتري مع جودة نظمه وحسن وصفه في الخروج من النسيب الى المديح وأطبقوا على أنّه لا يحسنه ولا يأتي فيه بشيء وإنّما اتفق له في مواضع محدودة خروج يرتضي وتنقل يستحسن» (١). وقال الحاتمي : «من حكم النسيب الذي يفتتح به الشاعر كلامه أن يكون ممتزجا بما بعده من مدح أو ذم أو غيرهما ، غير منفصل منه. فانّ القصيدة مثلها مثل خلق الانسان في اتصال بعض أجزائه ببعض ، فمتى انفصل واحد عن الآخر أو باينه في صحة التركيب غادر بالجسم عاهة تتخون محاسنه وتعفّي معالم جماله.

ووجدت حذاق الشعراء وأرباب الصناعة من المحدثين محترسين من مثل هذه الحال احتراسا يجنبهم شوائب النقصان ويقف على محجة الاحسان حتى يقع الاتصال ويؤمن الانفصال. وتأتي القصيدة في تناسب صدورها وأعجازها وانتظام نسيبها بمديحها كالرسالة البليغة والخطبة الموجزة لا ينفصل جزء منها عن جزء كقول مسلم بن الوليد وهو من بارع التخلص :

أجدّك هل تدرين أن ربّ ليلة

كأنّ دجاها من قرونك ينشر

نصبت لها حتى تجلّت بغرّة

كغرّة يحيى حين يذكر جعفر

وقول بكر بن النطاح :

ودويّة خلقت للسراب

فأمواجه بينها تزخر

كأنّ حنيفة تحميهم

فأليتهم خشن أزور

وهذا مذهب اختص به المحدثون لتوقد خواطرهم ولطف أفكارهم واعتمادهم البديع وأفانينه في أشعارهم ، فكأنه مذهب سهّلوا حزنه ونهجوا رسمه.

وأما الفحول الاوائل ومن تلاهم من المخضرمين والاسلاميين فمذهب المتعالم فيه : «عدّ عن كذا الى كذا» وقصارى كل رجل منهم وصفه ناقته بالعتق والكرم والنجابة والنجاء وأنّه امتطاها وادّرع عليها جلباب ليل وتجاوز بها جوف تنوفة الى الممدوح.

وهذا الطريق المهيع والمحجة اللهجم ، وربما اتفق لأحدهم معنى لطيف تخلص به الى غرضه ولم يتعمده إلا أنّ طبعه السليم ساقه اليه وصراطه المستقيم أضاء له مناره وأوقد له باليفاع ناره في الشعر» (٢).

ومنهم من يسمي هذا الفن خروجا وتوسلا (٣) قال ابن رشيق : «وأولى الشعر بأن يسمى تخلصا ما تخلص فيه الشاعر من معنى الى معنى ثم عاد الى الأول وأخذ في غيره ثم رجع الى ما كان فيه» (٤) كقول النابغة الذبياني آخر قصيدة اعتذر بها الى النعمان بن المنذر :

وكفكفت مني عبرة فرددتها

الى النحر منها مستهلّ ودامع

على حين عاتبت المشيب على الصّبا

وقلت : ألما أصح والشيب وازع؟

ثم تخلص الى الاعتذار فقال :

ولكنّ هما دون ذلك شاغل

مكان الشغاف تبتغيه الأصابع

وعيد أبي قابوس من غير كنهه

أتاني ودوني راكش فالضّواجع

ثم وصف حاله عند ما سمع من ذلك فقال :

فبتّ كأني ساورتني ضئيلة

من الرقش في أنيابها السمّ ناقع

يسهّد في ليل التمام سليمها

لحلي النساء في يديه قعاقع

__________________

(١) إعجاز القرآن ص ٥٦.

(٢) حلية المحاضرة ج ١ ص ٢١٥.

(٣) العمدة ج ١ ص ٢٣٦.

(٤) العمدة ج ١ ص ٢٣٧.

٢٣٠

تناذرها الراقون من سوء سمّها

تطلقه طورا وطورا تراجع

فوصف الحية والسليم الذي شبّه به نفسه ما شاء ، ثم تخلص الى الاعتذار الذي كان فيه فقال :

أتاني ـ أبيت اللعن ـ أنّك لمتني

وتلك التي تستكّ منها المسامع

وسماه ابن منقذ «التخليص والخروج» وقال : «ويستحب أن يكون الخروج والتشبيب في بيت واحد وهو شيء ابتدعه المحدثون دون المتقدمين» (١). وسماه ابن الزملكاني «التخليص» (٢) ، وسماه التنوخي. المخلص» (٣).

وقال ابن الاثير : «فأما التخلص فهو أن يأخذ المؤلف في معنى من المعاني فبينا هو فيه إذ أخذ معنى آخر وجعل الأول سببا اليه فيكون بعضه آخذا برقاب بعض من غير أن يقطع المؤلف كلامه ويستأنف كلاما آخر ، بل يكون جميع كلامه كأنما أفرغ إفراغا ، وذلك مما يدلّ على حذق الشاعر وقوة تصرفه وطول باعه واتساع قدرته» (٤).

وقال ابن الاثير الحلبي عن التخلص : «هو امتزاج ما يقدم الشاعر على المدح من نسيب أو غزل أو فخر أو وصف أو غير ذلك بأول بيت من قصيدة أو بأول كلام من النثر ثم يخرج منه الى المدح» (٥). ونقل ابن قيم الجوزية كلام ابن الاثير وقال «الانتقال من فن الى فن ويسمى التخلص» (٦) وفرّق بينه وبين «الاقتضاب» فقال : «فالفرق بينه وبين الاقتضاب أنّ التخلص لا يكون إلّا لعلاقة بينه وبين ما تخلص منه ، وأما الاقتضاب فليس شرطه أن يكون بينه وبين ما قبله علاقة بل يكون كلاما مستأنفا منقطعا عن الأول».

ووضعه القزويني وشراح تلخيصه ملحقا بالبلاغة وقال : «التخلص ونعني به الانتقال مما شبب الكلام به من تشبيب أو غيره الى المقصود كيف يكون؟ فاذا كان حسنا متلائم الطرفين حرّك من نشاط السامع وأعان على اصغائه الى ما بعده ، وإن كان بخلاف ذلك كان الأمر بالعكس» (٧).

وسماه ثعلب «حسن الخروج» (٨) ، وتبعه في ذلك تلميذه ابن المعتز فقال وهو يتحدث عن محاسن الكلام : «ومنها حسن الخروج من معنى الى معنى» (٩). وسماه التبريزي «براعة التخلص» (١٠) ، وقال البغدادي : «وأما براعة التخلص فان من حكم التشبيب أن يكون ممتزجا بما بعده من مدح أو هجاء وغيرهما وغير منفصل منه ، فان القصيدة مثلها كمثل الانسان في اتصال بعض أعضائه ببعض ، فمتى انفصل واحد عن الآخر بطل الجسم. وحذاق الشعر لا يفصلون بينهما بل يصلون الأول بالآخر حتى تراه كالرسالة والخطبة لا ينقطع جزء من جزء» (١١).

وقال المصري : «براعة التخلص هو امتزاج آخر ما يقدمه الشاعر على المدح من نسيب أو فخر أو وصف أو أدب أو زهد أو مجون أو غير ذلك بأول بيت من المدح. وقد يقع ذلك في بيتين متجاورين وقد يقع في بيت واحد. وهذه وإن لم تكن طريقة المتقدمين في غالب أشعارهم فان المتأخرين قد لهجوا بها وأكثروا منها ، وهي لعمري من المحاسن» (١٢).

وقال الحلبي والنويري : «براعة التخليص ، هو أن

__________________

(١) البديع في نقد الشعر ص ٢٨٨.

(٢) التبيان ص ١٨٤.

(٣) الأقصى القريب ص ٨٣.

(٤) الجامع الكبير ص ١٨١.

(٥) جوهر الكنز ص ١٥٧.

(٦) الفوائد ص ١٤٠.

(٧) الايضاح ص ٤٣٢ ، التلخيص ص ٤٣٢ ، شروح التلخيص ج ٤ ص ٥٣٥ ، المطول ص ٤٧٩ ، الأطول ج ٢ ص ٢٥٧.

(٨) قواعد الشعر ص ٥٠.

(٩) البديع ص ٦٠.

(١٠) الوافي ص ٢٨٥.

(١١) قانون البلاغة ص ٤٥٢.

(١٢) تحرير التحبير ص ٤٣٣.

٢٣١

يكون التشبيب أو النسيب ممزوجا بما بعده من مدح وغيره غير منفصل عنه» (١). وذكرا قول مسلم بن الوليد :

أجدك هل تدرين أن ربّ ليلة

كأنّ دجاها من قرونك تنشر

نصبت لها حتى تجلت بغرة

كغرّة يحيى حين يذكر جعفر

وقول المتنبي :

نودعهم والبين فينا كأنه

قنا ابن أبي الهيجاء في قلب فيلق

وهذا الاستشهاد كأنه يشير الى ما ذكره المصري من أنّ هذا الفن يقع في بيتين متجاورين أو يقع في بيت واحد.

ولا يخص براعة التخلص أو التخلص أو حسن التخلص أو حسن الخروج (٢) النظم وانما يشمل النثر أيضا ، وقد ذهب بعض المتكلمين الى أنها أحد وجوه الاعجاز. وهو دقيق يكاد يخفى في غير الشعر إلا على الحذاق من ذوي النقد ، وهو مبثوث في الكتاب العزيز» (٣). ومن براعة التخلص في الكتاب العزيز قوله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ)(٤) ، فانه ـ سبحانه وتعالى ـ أشار بقوله : (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) الى قصة يوسف ـ عليه‌السلام ـ فوطّأ بهذه الجملة الى ذكر القصة مشيرا اليها بهذه النكتة من باب الوحي والرمز ، وإنّما كانت أحسن القصص بكون كل قضية منها كانت عاقبتها الى خير ، فانّ أولها رميه في الجب فكانت عاقبته السلامة ، وبيع ليكون عبدا فاتخذ ولدا ، ومراودة امرأة العزيز له فعصمه الله ، ودخوله السجن وخروجه ملكا وظفر أخوته به أولا وظفر بهم آخرا ، وتطلعه الى أخيه بنيامين واجتماعه به وعمى أبيه وردّ بصره وفراقه له ولأخيه واجتماعه بهما ، وسجود أبويه وأخوته له تحقيقا لرؤياه من قبل (٥).

ومنه قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ)(٦). ثم قال : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)(٧) ثم أردفه بقوله :(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ)(٨). ثم قال : (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ. وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ)(٩) الى قوله : (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(١٠). قال ابن الأثير : «هذا كلام يسكر العقول ويسحر الألباب» (١١) وكان هذا الاستشهاد وشرحه ردا على من ذهب الى أنّ كتاب الله خال من التخلص كأبي العلاء محمد بن غانم المعروف بالغانمي ، وقد قال ابن الاثير عن قوله : «وهذا القول فاسد» (١٢). وذكر السيوطي مثل ذلك وردّ قول الغانمي أيضا (١٣).

فبراعة التخلص من الفنون التي تشمل الشعر كما تشمل النثر ، وهو من محاسن الكلام ، وأحد دعائم

__________________

(١) حسن التوسل ص ٢٥٤ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٣٥.

(٢) الطراز ج ٢ ص ٣٣٠ ، أنوار الربيع ج ٣ ص ٢٤٠.

(٣) بديع القرآن ص ١٦٨ ، تحرير التحبير ص ٤٣٣.

(٤) يوسف ٣.

(٥) تحرير التحبير ص ٤٣٨ ، بديع القرآن ص ١٦٩.

(٦) الشعراء ٦٩ ـ ٨١.

(٧) الشعراء ٨٣.

(٨) الشعراء ٩٠ ـ ٩١.

(٩) الشعراء ٩٤ ـ ٩٥.

(١٠) الشعراء ١٠٢.

(١١) المثل السائر ج ٢ ص ٢٦٦ ، وينظر الطراز ج ٢ ص ٣٣٢.

(١٢) المثل السائر ج ٢ ص ٢٦٥.

(١٣) معترك ج ١ ص ٦٠ ، شرح الكافية ص ١٣٠.

٢٣٢

الارتباط بين أجزاء القصيدة او الخطبة والرسالة أو غير ذلك من الفنون.

براعة الطّلب :

قال الحلبي والنويري : «هو أن تكون ألفاظ الطلب مقترنة بتعظيم الممدوح» (١) كقول أمية بن أبي الصّلت :

أأذكر حاجتي أم قد كفاني

حياؤك إنّ شيمتك الحياء

إذا أثنى عليك المرء يوما

كفاه من تعرضه النشاء

وكقول المتنبي :

وفي النفس حاجات وفيك فطانة

سكوتي بيان عندها وخطاب

وسماه ابن قيم الجوزية «براعة الطلب وحسن التوسل» وقال : «وهو أن تكون ألفاظ الطلب مهذبة مقترنة بتعظيم الممدوح» (٢).

وقال الحموي : «وهذا النوع من مستخرجات الشيخ عز الدين الزنجاني في كتاب المعيار ، وهو أن يلوح الطالب بالطلب بألفاظ عذبة مهذبة منقحة مقترنة بتعظيم الممدوح خالية من الالحاف والتصريح بل يشعر بما في النفس دون كشفه» (٣). وفرّق بينه وبين الادماج فقال : «إنّ الادماج أن يقدر معنى من المعاني ثم يدمج غرضه ضمنه ويوهم أنّه لم يقصده ، وهذا مقصور على الطلب فقط» (٤).

وذكر السيوطي مثل ذلك ونظمه بقوله :

وزاد في التبيان حسن الطّلب

بعد وسيلة أتى بالطلب

وقال : «هذا البيت من زيادتي» (٥) ثم ذكر ما ذكره السابقون من تعريف وأمثلة.

وذكر المدني (٦) ذلك أيضا ، وقال إنّ منه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ. وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)(٧).

براعة القطع :

سماه شبيب بن شبية «جودة القطع» (٨) ، وسماه الحلبي «براعة القطع» (٩) ، وسماه النويري «براعة المقطع» (١٠) وهو «الانتهاء» وقد تقدم.

براعة المطلع :

وهو الابتداء أو حسن الابتداء ، قال المدني : «قال أهل البيان من البلاغة حسن الابتداء ويسمى «براعة المطلع» وهو أن يتأنق المتكلم أول كلامه ويأتي بأعذب الألفاظ وأجزلها وأرقها وأسلسها وأحسنها نظما وسبكا وأصحها مبنى وأوضحها معنى وأخلاها من الحشو والركة والتعقيد والتقديم والتأخير الملبس والذي لا يناسب» (١١).

براعة المقطع :

هو جودة القطع وبراعة القطع والانتهاء وقد تقدم ،

__________________

(١) حسن التوسل ص ٢٥٥. نهاية الارب ج ٧ ص ١٣٥ ، شرح الكافية ص ٣١٨.

(٢) الفوائد ص ٢٣٣.

(٣) خزانة الأدب ص ٤٥٩ ، نفحات ص ٣٠٨.

(٤) خزانة ص ٤٥٩.

(٥) شرح عقود الجمان ص ١٧٤.

(٦) أنوار الربيع ج ٦ ص ٣١٩.

(٧) الشعراء ٧٥ ـ ٨٢.

(٨) البيان ج ١ ص ١١٢.

(٩) حسن التوسل ص ٢٥٥.

(١٠) نهاية الارب ج ٧ ص ١٣٥.

(١١) أنوار الربيع ج ١ ص ٣٤ ، نفحات الازهار ص ٤ ، شرح الكافية ص ٥٧.

٢٣٣

وسماه بهذه التسمية النويري والتفتازاني والاسفراييني (١) ، وسماه التيفاشي «حسن المقطع» (٢).

البسط :

البسط نقيض القبض ، بسطه يبسطه بسطا فانبسط ، وبسط الشيء : نشره (٣).

والبسط في البلاغة نقيض الايجاز ، وهو غير الاطناب ، وقد عدّه المصري من مبتدعاته وقال عنه : «هو أن يأتي المتكلم الى المعنى الواحد الذي يمكنه الدلالة عليه باللفظ القليل فيدل عليه باللفظ الكثير ، ليضمن اللفظ معاني أخر يزيد بها الكلام حسنا ، لو لا بسط ذلك بكثرة الالفاظ لم تحصل تلك الزيادة» (٤) ومن ذلك قول امرىء القيس :

نظرت اليك بعين جازئة

حوراء حانية على طفل (٥)

فانّ حاصله تشبيه عين هذه الموصوفة بعين الظبية فبسط الكلام ليزيده البسط معنى لولاه لم يوجد فيه فانّ لنظر الظبية الى خشفها عاطفة عليه بحنو واشفاق من الحسن ما ليس لمطلق نظرها ، أو لمنظرها في غير هذه الحالة.

ومنه قول البحتري :

أخجلتني بندى يديك فسوّدت

ما بيننا تلك اليد البيضاء

صلة غدت في الناس وهي قطيعة

عجبا وبر راح وهو جفاء

فان حاصل البيتين أنك قطعتني عنك خجلا من كثرة عطائك فبسط هذا الكلام لتحصيل زيادات من البديع لو لا البسط ما حصلت كالطباق في البيت الأول بذكر السواد والبياض ، والمقابلة في البيت الثاني بذكر الصلة والقطيعة والغدو والرواح والبر والجفاء.

وفرّق المصري بينه وبين الاستقصاء بقوله : «إنّ الاستقصاء هو حصر كل ما يتفرع من المعنى ويتولد عنه ، ويكون من سببه ولوازمه بحيث لا يترك فيه موضعا قد أخلقه بجدة الأخذ له فيستدركه ليستحقه بذكره. والبسط نقل المعنى من الايجاز الى الاطناب بسبب بسط العبارة عنه وإن لم يستقص كلّ ما يكون من لوازمه» (٦).

وقال السبكي : «وفسروه بما هو في معنى الاطناب» (٧) ولم يمثّل له.

وقال الحموي : «والبسط بخلاف الايجاز لكونه عبارة عن بسط الكلام لكن شروطه زيادة الفائدة» (٨).

وقال المدني : «البسط هو الاطناب وهو خلاف الايجاز ، ومنهم من خصّه بالاطناب بتكثير الجمل فقسّم الاطناب الى قسمين : بسط وزيادة ، فالأول الاطناب بالجمل والثاني الاطناب بغيرها. والبديعيون لا يعرفون ذلك» (٩).

البلاغة :

البلاغة الانتهاء والوصول ، يقال : بلغ الشيء يبلغ بلوغا وبلاغا : وصل وانتهى ، وتبلغ بالشيء وصل الى مراده ، والبلاغ : ما يتبلغ به ويتوصل الى الشيء المطلوب. والبلاغة : الفصاحة ، ورجل بليغ : حسن الكلام فصيحه يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه. وقد

__________________

(١) نهاية الارب ج ٧ ص ١٣٥ ، المطول ص ٤٨٢ ، الاطول ج ٢ ص ٢٦٠.

(٢) خزانة الأدب ص ٤٦٠ ، وينظر المطول ص ٤٨٢ ، الاطول ج ٢ ص ٢٦٠.

(٣) اللسان (بسط).

(٤) تحرير التحبير ص ٥٤٤ ، بديع القرآن ص ٢٥١.

(٥) جازئة ؛ مغنية لطفلها عن الطعام والشراب.

(٦) تحرير ص ٥٤٩.

(٧) عروس الافراح ج ٤ ص ٤٧١.

(٨) خزانة الأدب ص ٤٢٠ ، نفحات ص ١٨٣ شرح الكافية ص ٢٣٧.

(٩) أنوار الربيع ج ٦ ص ٢٢.

٢٣٤

بلغ بلاغة : صار بليغا (١).

ولعل أول ما تردد من معنى البلاغة في سؤال معاوية بن أبي سفيان لصحار ابن عياش ، فقد قال له : «ما هذه البلاغة التي فيكم؟» قال : «شيء تجيش به صدورنا فتقذفه على ألسنتنا». وقال له معاوية : «ما تعدّون البلاغة فيكم؟» قال : «الايجاز». قال له معاوية : «وما الايجاز؟» قال : «أن تجيب فلا تبطيء وتقول فلا تخطىء» (٢).

وفي كتاب «البيان والتبيين» للجاحظ تعريفات كثيرة للبلاغة عند العرب وغيرهم (٣) وفسرها عمرو بن عبيد في أول الأمر تفسيرا دينيا ثم قال : «فكأنك تريد تخير اللفظ في حسن الافهام : وقال : «إنّك اذا أوتيت تقرير حجة الله في عقول المكلفين وتخفيف المؤونة على المستمعين وتزيين تلك المعاني في قلوب المريدين بالالفاظ المستحسنة في الآذان ، المقبولة عند الاذهان رغبة في سرعة استجابتهم ونفي الشواغل عن قلوبهم بالموعظة الحسنة على الكتاب والسّنّة كنت قد أوتيت فصل الخطاب واستحققت على الله جزيل الثواب» (٤).

وقال الاصمعي عن البليغ إنّه «من طبق المفصل وأغناك عن المفسر» (٥).

وقال العتابي إنّ «كل من أفهمك حاجته من غير إعادة ولا حبسة ولا استعانة فهو بليغ ، فإن أردت اللسان الذي يروق الألسنة ويفوق كل خطيب فاظهار ما غمض من الحق وتصوير الباطل في صورة الحق» (٦).

واكتفى الجاحظ بذكر قول بعضهم وهو من أحسن ما اجتباه ودوّنه : «لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظة ولفظه معناه فلا يكون لفظه الى سمعك أسبق من معناه الى قلبك» (٧).

وقال المبرد : «إنّ حق البلاغة إحاطة القول بالمعنى واختيار الكلام وحسن النظم حتى تكون الكلمة مقارنة أختها ومعاضدة شكلها وأن يقرب بها البعيد ويحذف منها الفضول» (٨).

وقال العسكري : «البلاغة من قولهم : بلغت الغاية إذا انتهيت اليها وبلغتها غيري ومبلغ الشيء منتهاه.

والمبالغة في الشيء الانتهاء الى غايته فسميت البلاغة بلاغة لأنّها تنهي المعنى الى قلب السامع فيفهمه وسميت البلغة بلغة لانك تتبلغ بها فتنتهي بك الى ما فوقها وهي البلاغ أيضا» (٩). وأبدى رأيه في تعريفها وحدّها بقوله : «البلاغة كل ما تبلغ به قلب السامع فتمكنه في نفسه كتمكنه في نفسك ، مع صورة مقبولة ومعرض حسن» (١٠). والبلاغة عنده من صفة الكلام لا من صفة المتكلم ولذلك لا يجوز أن يسمى الله ـ سبحانه ـ بليغا إذ لا يصح أن يوصف بصفة موضوعها الكلام.

ولم يعرّف الخفاجي البلاغة تعريفا دقيقا واكتفى بالاشارة الى اضطراب القوم في حدّها ، وفرّق بينها وبين الفصاحة فقال : «والفرق بين الفصاحة والبلاغة أنّ الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ والبلاغة لا تكون إلا وصفا للالفاظ مع المعاني. لا يقال في كلمة واحدة لا تدل على معنى يفضل عن مثلها بليغة وإن قيل فيها فصيحة ، وكل كلام بليغ فصيح ، وليس كل فصيح بليغا» (١١).

ولم يعرّفها عبد القاهر ، والفصاحة والبلاغة والبراعة

__________________

(١) اللسان (بلغ).

(٢) البيان ج ١ ص ٩٦.

(٣) البيان ج ١ ص ٨٨.

(٤) البيان ج ١ ص ١١٤ ، عيون الاخبار ج ٢ ص ١٧٠.

(٥) البيان ج ١ ص ١٠٦.

(٦) البيان ج ١ ص ١١٣ ، وينظر الممتع ص ٣١١.

(٧) البيان ج ١ ص ١١٥.

(٨) البلاغة ص ٥٩.

(٩) كتاب الصناعتين ص ٦.

(١٠) كتاب الصناعتين ص ١٠.

(١١) سر الفصاحة ص ٦٠.

٢٣٥

والبيان عنده بمعنى واحد لأنّه يعبر بها عن «فضل بعض القائلين على بعض من حيث نطقوا وتكلموا وأخبروا السامعين عن الأغراض والمقاصد ، وراموا أن يعلموهم ما في نفوسهم ويكشفوا لهم عن ضمائر قلوبهم» (١).

ولم تأخذ البلاغة دلالتها المعروفة عند الرازي وهي عنده. «بلوغ الرجل بعبارته كنه ما في قلبه مع الاحتراز المخل والاطالة المملة» (٢).

وقال ابن الاثير إنّ الكلام يسمّى بليغا لأنّه بلغ الأوصاف اللفظية والمعنوية ، والبلاغة شاملة للالفاظ والمعاني وهي أخص من الفصاحة كالانسان من الحيوان فكل إنسان حيوان وليس كل حيوان إنسانا ، وكذلك يقال : «كل كلام بليغ فصيح ، وليس كل فصيح بليغا» وفرّق بينها وبين الفصاحة من وجه آخر غير الخاص والعام ، وهي أنّها لا تكون إلا في اللفظ والمعنى بشرط التركيب ، فان اللفظة المفردة لا تنعت بالبلاغة وتنعت بالفصاحة إذ يوجد فيها الوصف المختص بالفصاحة وهو الحسن وأما وصف البلاغة فلا يوجد فيها لخلوها من المعنى المفيد الذي ينتظم كلاما» (٣).

وحينما قسّم السكاكي البلاغة ووضع معالمها في كتابه «مفتاح العلوم» عرّفها تعريفا دقيقا فقال : «هي بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حدّا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها وايراد التشبيه والمجاز والكناية على وجهها» (٤).

وبهذا التعريف أدخل مباحث علم المعاني وعلم البيان وأخرج مباحث البديع لأنّه وجوه يؤتي بها لتحسين الكلام وهي ليست من مرجعي البلاغة.

وللبلاغة طرفان : أعلى وأسفل متباينان تباينا لا يتراءى لأحد ناراهما ، وبينهما مراتب متفاوتة تكاد تفوت الحصر ، فمن الأسفل تبتديء البلاغة وهو القدر الذي إذا نقص منه شيء التحق ذلك الكلام بأصوات الحيوانات ثم تأخذ في التزايد متصاعدة الى أن تبلغ حد الاعجاز ، وهو الطرف الأعلى وما يقرب منه.

وكان القزويني آخر من وقف عند البلاغة من المتأخرين وميّز بين بلاغة الكلام وبلاغة المتكلم فقال عن الأولى : «وأما بلاغة الكلام فهي مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته» (٥) ومقتضى الحال مختلف ومقامات الكلام متفاوتة فمقام التنكير يباين مقام التعريف ، ومقام الاطلاق يباين مقام التقييد ، ومقام التقديم يباين مقام التأخير ، ومقام الذكر يباين مقام الحذف ، ومقام القصر يباين مقام خلافه ، ومقام الفصل يباين مقام الوصل ، ومقام الايجاز يباين مقام الاطناب والمساواة ، وكذا خطاب الذكي يباين خطاب الغبي ، وكذا لكل كلمة مع صاحبتها مقام ، وتطبيق الكلام على مقتضى الحال هو الذي يسميه عبد القاهر النظم. وقال عن الثانية : «وأمّا بلاغة المتكلم فهي ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ» (٦).

وقال إنّ كل بليغ ـ كلاما كان أم متكلما ـ فصيح ، وليس كل فصيح بليغا ، وإنّ البلاغة في الكلام مرجعها الى الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد ، والى تمييز الكلام الفصيح من غيره.

وقسّم البلاغة الى ثلاثة أقسام فكان ما يحترز به عن الخطأ علم المعاني ، وما يحترز به عن التعقيد المعنوي علم البيان ، وما يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال وفصاحته علم البديع. فالبلاغة عنده ثلاثة أقسام : علم المعاني ، وعلم البيان ، وعلم البديع.

ولم يخرج المتأخرون (٧) عن هذا التعريف

__________________

(١) دلائل الاعجاز ص ٣٥.

(٢) نهاية الايجاز ص ٩.

(٣) المثل السائر ج ١ ص ٦٩ ، كفاية الطالب ص ٤١.

(٤) مفتاح العلوم ص ١٩٦.

(٥) الايضاح ص ٩ ، التلخيص ص ٣٣.

(٦) الايضاح ص ١١.

(٧) شروح التلخيص ج ١ ص ١٢٢ ، المطول ص ٢٥ ، الأطول ج ١ ص ٣٠.

٢٣٦

والتقسيم واصبح مصطلح البلاغة يضم هذه العلوم الثلاثة.

البليغ :

قال الحصري : «هو من يحوك الكلام على حسب المعاني ويخيط الألفاظ على قدود المعاني» (١). وهذا ما أصبح تعريفا للبلاغة حينما قالوا : «البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال».

ولا يكون البليغ متصفا بالبلاغة إلا إذا كان صاحب ذوق رفيع وثقافة واسعة وذا حفظ عظيم لتنطبع الصور في ذهنه ويحذو حذوها في أول الأمر ثم ينطلق بعيدا عنها.

البيان :

البيان ما يبين به الشيء من الدلالة وغيرها. وبان الشيء : اتضح فهو بيّن ، واستبان الشيء : ظهر. والبيان الفصاحة واللسن ، كلام بيّن : فصيح. والبيان الافصاح مع ذكاء والبيّن من الرجال : الفصيح والسمح اللسان.

وفلان أبين من فلان أي أفصح منه وأوضح كلاما ، والبيان : إظهار المقصود بأبلغ لفظ وهو من حسن الفهم وذكاء القلب مع اللسن ، وأصله الكشف والظهور (٢).

وفي القرآن الكريم اشارات كثيرة الى البيان منها قوله تعالى : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ)(٣) ، وقوله : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ. عَلَّمَهُ الْبَيانَ)(٤). وفي الحديث الشريف قوله ـ عليه‌السلام : «إنّ من البيان لسحرا» (٥).

وظلت كلمة «البيان» تحمل هذه المعاني العامة حتى اذا ما دخلت في الدراسات البلاغية أصبح لها مدلول غير الوضوح. وأول ما تصادفنا هذه الكلمة بمعناها القريب من الاصطلاح عند الجاحظ حيث سمّى احد كتبه «البيان والتبيين» وجمع فيه كثيرا من الأقوال وتحدث عن البيان ، ولعل تعريف جعفر بن يحيى الذي ذكره الجاحظ كان من أقدم ما دوّن قال : «قال ثمامة : قلت لجعفر بن يحيى : ما البيان؟

قال : أن يكون الاسم يحيط بمعناك ويجلي عن مغزاك وتخرجه عن الشركة ولا تستعين عليه بالفكرة. والذي لا بدّ منه أن يكون سليما من التكلف بعيدا من الصنعة ، بريئا من التعقيد ، غنيا من التأويل. وهذا هو تأويل قول الاصمعي : «البليغ من طبّق المفصل وأغناك عن المفسر» (٦).

والبيان عند الجاحظ واسع المعنى وهو الكشف والايضاح والفهم والافهام ، قال : «البيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى وهتك الحجاب دون الضمير حتى يفضي السامع الى حقيقته ويهجم على محصوله كائنا ما كان ذلك البيان ومن أي جنس كان ذلك الدليل ، لأنّ مدار الأمر والغاية التي اليها يجري القائل والسامع إنّما هو الفهم والافهام فبأي شيء بلغت الافهام وأوضحت عن المعنى فذلك هو البيان في ذلك الموضع» (٧). والدلالات على المعاني من لفظ وغير لفظ خمسة : اللفظ ، والاشارة ، والعقد ، والخط والنّصبة.

وتابعه ابن ذهب وقال إنّ الدلالات أربعة أوجه : بيان الأشياء بذواتها ، وبيان الاعتقاد ، وبيان العبارة ، وبيان الكتاب.

والبيان عند الرماني الاحضار لما يظهر به تميز الشيء من غيره من الادراك (٨) ، وأقسامه أربعة :

__________________

(١) زهر الآداب ج ١ ص ١٢١.

(٢) اللسان (بين).

(٣) آل عمران ١٣٨.

(٤) الرحمن ١ ـ ٤.

(٥) النهاية في غريب الحديث والأثر ج ١ ص ١٧٤.

(٦) البيان ج ١ ص ١٠٦ ، عيون الاخبار ج ٢ ص ١٧٣ ، العمدة ج ١ ص ٢٤٩.

(٧) البيان ج ١ ص ٧٦.

(٨) النكت في إعجاز القرآن ص ٩٨ ، وينظر المنزع البديع ص ٤١٤.

٢٣٧

كلام ، وحال ، واشارة ، وعلامة. وهذا قريب مما ذهب الجاحظ وابن وهب.

ونقل ابن رشيق كلام الرماني ثم قال : «البيان : الكشف عن المعنى حتى تدركه النفس من غير عقلة ، وإنّما قيل ذلك لأنّه قد يأتي التعقيد في الكلام الذي يدلّ ولا يستحق اسم البيان» (١).

والغريب أنّه لا يطلق البيان على البلاغة وإنّما هو عنده فن من فنونها كالمجاز والاستعارة والتشبيه والاشارة والتجنيس ، ولعل هذا الفهم هو الذي ضيّق نطاق بحثه وحصره في الفصل الذي عقده وذكر فيه بعض الأقوال البليغة.

ولم يحدّد ابن سنان البيان ولم يشر اليه ، وسمّى البلاغة فصاحة بمعناها الواسع ، وعدّ عبد القاهر الفصاحة والبلاغة والبراعة والبيان شيئا واحدا وهو التعبير عن فضل القائلين على بعض من حيث نطقوا وتكلموا وأخبروا السامعين عن الأغراض والمقاصد وراموا أن يعلموهم ما في نفوسهم ويكشفوا لهم عن ضمائر قلوبهم (٢).

وأخذ البيان عند ابن الاثير معنى واسعا ، وهو لتأليف النظم والنثر بمنزلة أصول الفقه للاحكام وأدلة الاحكام. ولكن هذه النظرة الواسعة بدأت تضيق حينما ألف السكاكي كتابه «مفتاح العلوم» وقسّم البلاغة الى المعاني والبيان وما يلحق بهما من محسنات معنوية ولفظية. وقد قال في تعريف البيان : «أمّا علم البيان فهو معرفة إيراد المعنى الواحد في طرق مختلفة بالزيادة في وضوح الدلالة عليه وبالنقصان ليحترز بالوقوف على ذلك عن الخطأ في مطابقة الكلام لتمام المراد منه» (٣). وأدخل الدلالات في تقسيم موضوعاته التي انحصرت في التشبيه والمجاز بأنواعه والكناية.

ولما جاء القزويني وجد الطريق معبدا ووجد فنون البيان قد انحصرت واستقرت فسار على هدى السكاكي وعرّف البيان بقوله : «هو علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه» (٤). وقسمه كتقسيم السكاكي ، لأنّ اللفظ المراد به لازم ما وضع له إن قامت قرينة على عدم إرادة ما وضع له فهو مجاز وإلا فهو كناية. ثم المجاز منه الاستعارة وهي ما تبتنى على التشبيه فيتعين التعرض له ، فانحصر المقصود في التشبيه والمجاز والكناية. وقدّم التشبيه على المجاز لابتناء الاستعارة عليه ، وقدّم المجاز على الكناية لنزول معناه من معناها منزلة الجزء من الكل. ولعل هذا سرّ إدخال الكناية في البيان لأنّها تحتاج الى قرينة تدل على المعنى المراد منها كما أنّ المجاز يحتاج الى هذه القرينة غير أنّ قرينة المجاز تمنع من إرادة المعنى الأصلي وقرينتها لا تمنع من إرادة المعنى الحقيقي.

وأخذ البيان عند الساكي والقزويني طابعا علميا ، وأصبح يدل على التشبيه والمجاز والكناية بعد أن كان يشمل فنون البلاغة كلها عند المتقدمين.

ولم يخرج المتأخرون (٥) على هذا التحديد الذي انتهى اليه السكاكي وأقره القزويني ، ولا يزال علم البيان يشمل الموضوعات الثلاثة : التشبيه والمجاز بأنواعه كالمجاز العقلي والمجاز المرسل والاستعارة ، ثم الكناية والتعريض.

__________________

(١) العمدة ج ١ ص ٢٥٤.

(٢) دلائل الاعجاز ص ٣٥.

(٣) مفتاح العلوم ص ٧٧.

(٤) الايضاح ص ٢١٢ ، التلخيص ص ٢٣٥.

(٥) شروح التلخيص ج ٣ ص ٢٥٦ ، المطول ص ٣٠٠ ، الاطول ج ٢ ص ٥٠.

٢٣٨

التاء

التّأسيس :

الأس والأسس والأساس : كل مبتدأ شيء ، والأس والأساس : أصل البناء ، وقد أسّ البناء يؤسه أسا وأسسه تأسيسا (١).

والتأسيس في الشعر هو ألف بينها وبين حرف الروي حرف متحرك نحو قول النابغة :

كليني لهمّ يا أميمة ناصب

وليل أقاسيه بطيء الكواكب

وإذا أسس بيت ولم يؤسس آخر فهو سناد (٢).

والتأسيس عند البلاغيين هو أن يبتدىء الشاعر ببيت غيره ويبني عليه ، وهو مشتق من أسّ البناء ، فان هذا قد جعل الشاعر يكون قد جعل بيت غيره أساسا بنى عليه شعره. وقد ذكره المصري في أثناء كلامه على الاستعانة (٣).

وابتدع السيوطي فنا سماه «التأسيس والتفريع» وقال : «هذا نوع لطيف اخترعته لكثرة استعماله في الكلام النبوي ، ولم أر في الأنواع المتقدمة ما يناسبه فسميته بالتأسيس والتفريع وذلك أن يمهد قاعدة كلية لما يقصده ثم يرتب عليها المقصود كقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «لكل دين خلق ، وخلق هذا الدين الحياء» و «لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح» و «لكل أمة فتنة ، وفتنة أمتي المال» و «لكل شيء زكاة ، وزكاة الجسد الصيام». وذكر أمثلة كثيرة من هذا النوع ثم قال : «وفي الأحاديث من ذلك شيء كثير وإنّما أطلت هنا بهذه الأمثلة تقريرا للنوع الذي اخترعته» (٤). وهذا المعنى للتأسيس غير ما قصد اليه المصري فالتأسيس عنده الاستعانة ولذلك ذكره في باب الاستعانة في حين أنّ السيوطي يريد به تفسير ما أسسه ، أو ذكره ، أو ايضاحه ، وذلك واضح في كلمات الرسول محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فلكل دين خلق ، ولكن ما خلقه؟ الجواب أو الايضاح والتفسير : «خلق هذا الدين الحياء». ومثل ذلك يقال في العبارات الأخرى.

التّأكيد :

أكّد العهد والعقد لغة في وكّده ، والتأكيد لغة في التوكيد ، وقد أكّدت الشيء ووكّدته (٥).

قال العلوي : «التأكيد تمكين الشيء في النفس وتقوية أمره. وفائدته إزالة الشكوك وإماطة الشبهات عما أنت بصدده» (٦). وله مجريان :

الأول : عام وهو يتعلق بالمعاني الإعرابية ، ولا يتعلق هذا النوع بمقاصد البلاغة.

الثاني : خاص يتعلق بعلوم البيان ويقال له التكرير أيضا. وهو قسمان :

١ ـ ما يكون تأكيدا في اللفظ والمعنى كقوله

__________________

(١) اللسان (أسس).

(٢) الموشح ص ٦.

(٣) تحرير التحبير ص ٣٨٥.

(٤) شرح عقود الجمان ص ١٤١.

(٥) اللسان (أكد).

(٦) الطراز ج ٢ ص ٧٦.

٢٣٩

تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ*)(١). فهذا تكرير من جهة اللفظ والمعنى ، ووجه ذلك أنّ الله ـ تعالى ـ إنما أوردها في خطاب الثقلين الجن والانس فكل نعمة يذكرها أو ما يؤول الى النعمة فإنه يردفها بقوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ*) تقريرا للآلاء وإعظاما لحالها.

ومن طلك قوله تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ)(٢). وإنما كرره لما يحصل فيه من إيقاظ النفوس بذكر قصص الأولين والاتعاظ بما أصابهم من المثلات (٣) وحل بهم من أنواع العقوبات فيكون بمنزلة قرع العصا لئلا تستولي عليهم الغفلة ويغلب عليهم الذهول والنسيان.

ومن ذلك قول المتنبي :

العارض الهتن بن العارض الهتن ب

ن العارض الهتن بن العارض الهتن

قال العلوي : «فهذا من بابا التكرير ثم من الناس من صوّبه في تكريره هذا ومنهم من قال انه قد أساء فيما أورده من ذلك. والأقرب أنّه مجيد في مطلق التكرير ، كما حكيناه فيما أوردناه من آي التنزيل ، فانّ ما أورده من هذا التكرير دالّ على إغراق الممدوح في الكرم لكن إنّما عرض فيه ما عرض لمن أنكره وزعم أنّه غير محمود فيما جاء به من جهة أنّ لفظة «العارض» ولفظة «الهتن» ليستا واردتين على جهة البلاغة فيهما لقلة الاستعمال لهما ، فمن أجل هذا كان ما قاله ليس بالغا في البلاغة مبلغا عظيما لا من جهة التكرير ، فانّه محمود لا محالة» (٤).

ومن ذلك ما قاله «أبو نواس» :

قمنا بها يوما ويوما وثالثا

ويوما ويوم للترحل خامس (٥)

والمراد من هذا أنّه أقام بها أربعة أيام ، وهذا تكرير ليس وراءه كبير فائدة.

٢ ـ ما يكون في المعنى دون اللفظ وهذا القسم يستعمل كثيرا في القرآن الكريم وغيره وهو ضربان :

الأول : المفيد ، كقوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ)(٦) فقوله : (وَالْجِبالِ) وارد على جهة التأكيد المعنوي وفائدته تعظيم شأن هذه الأمانة المشار اليها وتفخيم حالها.

ومن ذلك قول المقنع الكندي :

وإنّ الذي بيني وبين بني أبي

وبين بني عمي لمختلف جدّا

إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم

وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا

وإن ضيّعوا غيبي حفظت غيوبهم

وإن هم هووا عني هويت لهم رشدا

قال العلوي : «فانظر الى هذه الأبيات ما أجمعها لفنون الانصاف وأبلغها في مراعاة جانب الحق والاعتراف ، فهذه الالفاظ وإن كانت متغايرة لكنها متطابقة في المقصود دالة عليه» (٧).

الثاني : غير المفيد ، وهو أن ترد لفظتان مختلفتان تدلان على معنى واحد كقول أبي تمام :

قسم الزمان ربوعنا بين الصّبا

وقبولها ودبورها أثلاثا

فالصّبا والقبول لفظتان تدلان على معنى واحد وهما اسمان للريح التي تهب من ناحية المشرق.

__________________

(١) تكررت في سورة الرحمن عدة مرات.

(٢) القمر ١٧ ـ ١٨. ثم قال : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ. وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (الآيتان ٢١ ـ ٢٢) ثم قال : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) (الآية ٣٠).

(٣) العقوبات والتنكيل.

(٤) الطراز ج ٢ ص ١٨٢.

(٥) ويروى :

أقمنا به يوما ويوما وثالثا

ويوما له يوم الترحل خامس

(٦) الأحزاب ٧٢.

(٧) الطراز ج ٢ ص ١٨٦.

٢٤٠