معجم المصطلحات البلاغيّة وتطوّرها

الدكتور أحمد مطلوب

معجم المصطلحات البلاغيّة وتطوّرها

المؤلف:

الدكتور أحمد مطلوب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة لبنان ناشرون
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٥

أحدهما : ما نسبة الله تعالى الى نفسه ونعوذ بالله ممن ينقله إلى نفسه ، كما قيل عن أحد بني مروان إنّه وقّع على مطالعة فيها شكاية من عماله : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ)(١).

والآخر : تضمين آية كريمة في معنى هزل لا يحسن ذكر مثاله (٢). وهذا ما نقله المدني (٣) من شرح بديعية صفي الدين الحلي وذكره السيوطي ايضا (٤).

الاقتدار :

القدر والقدرة والمقدار : القوة ، وقدر عليه يقدر قدرة ، واقتدر فهو قادر وقدير وأقدره الله عليه.

والاقتدار على الشيء : القدرة عليه (٥).

والاقتدار من الفنون التي ابتدعها المصري وقال في تعريفه : «هو أن يبرز المتكلم المعنى الواحد في عدة صور اقتدارا منه على نظم الكلام وتركيبه وعلى صياغة قوالب المعاني والأغراض ، فتارة يأتي به لفظ الاستعارة وطورا يبرزه في صورة الإرداف وآونة يخرجه مخرج الايجاز ، وحينا يأتي به في ألفاظ الحقيقة» (٦). وسماه في «تحرير التحبير» التصرف وعرفه بمثل هذا التعريف (٧). كقول امرئ القيس يصف الليل :

وليل كموج البحر أرخى سدوله

عليّ بأنواع الهموم ليبتلي

فقلت له لمّا تمطّى بصلبه

وأردف أعجازا وناء بكلكل

فانه ابرز هذا المعنى في لفظ الاستعارة ثم تصرف فيه فأتى به بلفظ الايجاز فقال :

فيا لك من ليل كأنّ نجومه

بكل مغار الفتل شدّت بيذبل

ثم تصرّف فيه فأخرجه بلفظ الإرداف فقال :

كأنّ الثر يا علّقت في مصامها

بأمراس كتّان الى صمّ جندل

ثم تصرف فيه فعبر عنه بلفظ الحقيقة فقال :

ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلي

بصبح وما إلا صباح منك بأمثل

قال المصري : «ولا شبهة في أنّ هذا إنّما يأتي من قوة الشاعر وقدرته ، ولذلك أتت قصص القرآن الكريم في صور شتى من البلاغة ما بين الايجاز والاطناب واختلاف معاني الالفاظ» (٨).

ولخّص السيوطي كلام المصري وسار على مذهبه في بحث هذا الفن وسماه الاقتدار (٩).

الاقتسام :

هو افتعال من قولهم «اقتسم اقتساما وقاسم مقاسمة وقاسم قساما إذا حلف» (١٠) وقد أقسم بالله واستقسمه به وقاسمه : حلف له ، وتقاسم القوم.

تحالفوا ، وفسر قوله تعالى : (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ)(١١) بانهم الذين تقاسموا وتحالفوا على كيد الرسول (١٢). وهو في البلاغة «أن يحلف على شيء بما فيه فخر أو مدح أو تعظيم أو تغزل أو زهو أو غير ذلك مما يكون في رشاقة في الكلام وتحسين له» (١٣). وهذا تعريف العلوي ، وذكر من الاقتسام خمسة أمور :

__________________

(١) الغاشية ٢٥ ـ ٢٦.

(٢) خزانة الادب ص ٤٤٢ ، نفحات ص ٢٣٩.

(٣) أنوار الربيع ج ٢ ص ٢١٨.

(٤) شرح عقود الجمان ص ١٦٨.

(٥) اللسان (قدر).

(٦) بديع القرآن ص ٢٨٩.

(٧) تحرير ص ٥٨٢.

(٨) تحرير ص ٥٨٣ ، بديع القرآن ص ٢٩٠.

(٩) معترك الاقران ج ١ ص ٣٨٨ ، الاتقان ج ٢ ص ٨٧.

(١٠) الطراز ج ٣ ص ١٥٣.

(١١) الحجر ٩٠.

(١٢) اللسان (قسم).

(١٣) الطراز ج ٣ ص ١٥٣.

١٦١

الأول : الامتنان والفخر ، والامتنان كقوله تعالى : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)(١). فامتنّ الله ـ تعالى ـ وأكّد امتنانه بما يقرره من القسم.

والافتخار كقول الأشتر النخعي :

بقّيت وفري وانحرفت عن العلى

ولقيت أضيافي بوجه عبوس

إن لم أشنّ على ابن هند غارة

لم تخل يوما من نهاب نفوس

فضمّن هذا القسم على الوعيد ما فيه افتخار من الجود والشرف والسؤدد والشجاعة والبسالة.

الثاني : المدح والثناء كقول الشاعر :

آثار جودك في القلوب تؤثّر

وجميل بشرك بالنجاح يبشّر

إن كان في أمل سواك أعدّه

فكفرت نعمتك التي لا تكفر

فهذا إنّما ورد ههنا على جهة المدح والثناء على الممدوح بما هو أهله.

الثالث : تعظيم القدر كقوله تعالى : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)(٢) ومنه قول عمر بن أبي ربيعة :

قالت وعيش أخي وحرمة والدي

لأنبهنّ الحيّ إن لم تخرج

فخرجت خيفة قولها فتبسّمت

فعلمت أنّ يمينها لم تحرج

فضممتها ولثمتها وفديت من

حلفت عليّ يمين غير المحرج

فقد حكى يمينها على جهة الاعظام لها ورفع القدر منها.

الرابع : ما يكون على جهة التغزل ، ومثاله ما قاله بعض الشعراء :

جنى وتجنّى والفؤاد يطيعه

فلا ذاق من يجني عليّ كما يجني

فان لم يكن عندي كعيني ومسمعي

فلا نظرت عيني ولا سمعت أذني

فقوله : «فان لم يكن عندي كسمعي» فيه دلالة على القسم وهو متضمن له على جهة التغزل والاعجاب.

الخامس : أن يكون واردا على جهة الزهو والطرب ومثاله قول الشاعر :

حلفت بمن سوّى السماء وشادها

ومن مرج البحرين يلتقيان

ومن قام في المعقول من غير رؤية

بأثبت من إدراك كلّ عيان

لما خلقت كفّاك إلا لأربع

عقائل لم يعقل لهنّ ثوان

لتقبيل أفواه وإعطاء نائل

وتقليب هنديّ وحبس عنان

فهذا وارد في القسم على جهة الاعظام في المديح والاطراء على ممدوحه وإشادة ذكره واظهار أمره.

وسمّاه التبريزي القسم (٣) ، قال البغدادي : «هو أن يقسم الشاعر أو يحلف غيره بأقسام تتعلق بغرضه المقصود معتمدا بذلك الابداع فيما ينظم» (٤).

وذكر له بيتي الأشتر النخعي : «بقيت وفري ...» وقول أبي علي البصير معرضا بعلي ابن الجهم :

أكذبت أحسن ما يظنّ مؤمّلي

وهدمت ما شادته لي أسلافي

وعدمت عاداتي التي عوّدتها

قدما من الإتلاف والإخلاف

__________________

(١) الذاريات ٢٣.

(٢) الحجر ٧٢.

(٣) الوافي ص ٢٩٤.

(٤) قانون البلاغة ص ٤٥٨.

١٦٢

وصحبت أصحابي بعرض معرض

متحكّم فيه ومال وافي

وغضضت من ناري ليخفى ضوؤها

وقريت عذرا كاذبا أضيافي

إن لم أشنّ على عليّ خلّة

تضحي قذى في أعين الأشراف

وقال المصري : «هو أن يريد الشاعر الحلف على شيء فيحلف بما يكون له مدحا وما يكسبه فخرا ، أو ما يكون هجاء لغيره أو وعيدا له أو جاريا مجرى التغزل والترقق» (١) أو «خارجا مخرج الموعظة والزهد» (٢).

وذكر له الأمثلة السابقة للأقسام الخمسة وهي :

الفخر والمدح والتعظيم والغزل والزهد.

وقال ابن مالك : «القسم أن تحلف على شيء بما فيه من فخر أو مدح أو تعظيم أو تغزل أو زهد أو غير ذلك» (٣) ، وهذا قريب من كلام المصري وتقسيماته.

وقال الحلبي : «هو أن يريد الشاعر الحلف على شيء فيأتي في الحلف بما يكون مدحا له وما يكسبه فخرا أو يكون هجاءا لغيره أو وعيدا أو جاريا مجرى التغزل والترقق» (٤). وذكر النويري هذا التعريف (٥).

وقال ابن الأثير الحلبي : «حقيقة هذا الباب أن يريد الشاعر أن يحلف على شيء فيحلف بما يكون له مدحا وما يكسبه فخرا وما يكون تعريضا لغيره» (٦).

وقال السبكي : «هو الحلف على المراد بما يكون فيه تعظيم المقسم أو غير ذلك بما يناسبه» (٧).

وعرّفه الزركشي تعريفا نحويا فقال : «هو عند النحويين جملة يؤكد بها الخبر» (٨) ، وليس هذا ما قصد اليه البلاغيون.

ونفى الحموي أن يكون لهذا الفن كبير فائدة في البديع ، قال : «القسم أيضا حكاية حال واقعة وليس تحته كبير أمر ولكن تقرر أنّ الشروع في المعارضة ملزم (٩) ، وعرّفه بقوله : «هو أن يقصد الشاعر الحلف على شيء فيحلف بما يكون له مدحا وما يكسبه فخرا وما يكون هجاء لغيره». وردّ المدني هذا الكلام بقوله : «وهذا غلط صريح منه فانّ القسم من أنواع الانشاء وحكاية الحال من نوع الاخبار ، ولكن ليس هذا بمستنكر من ابن حجة فانّ باعه قصير جدا في المسائل العلمية» (١٠).

وقال السيوطي : «هو أن يريد المتكلم الحلف على شيء فيحلف بما يكون فيه فخر له أو تعظيم أو تنويه لقدره أو ذم لغيره أو جاريا مجرى الغزل والترفق أو خارجا مخرج الموعظة والزهد» (١١). وتحدث عنه في الانشاء وقال : «نقل القرافي في الاجماع على أنّه إنشاء وفائدته تأكيد الجملة الخبرية وتحقيقها عند السامع» (١٢).

فالاقتسام هو القسم ، ولكن العلوي انفرد بالمصطلح الأول في حين تردد الثاني في كتب البلاغة والنحو والأدب.

الاقتصاد :

القصد في الشيء : خلاف الافراط ، وهو ما بين الإسراف والتقتير ، واقتصد فلان في أمره ، أي :استقام (١٣) ، فالاقتصاد هو الاستقامة والاعتدال في

__________________

(١) تحرير التحبير ص ٣٢٧.

(٢) بديع القرآن ص ١١٢.

(٣) المصباح ص ١٢٠.

(٤) حسن التوسل ص ٢٧٧.

(٥) نهاية الارب ج ٧ ص ١٥٠.

(٦) جوهر الكنز ص ٣٠٧.

(٧) عروس الافراح ج ٤ ص ٤٦٩.

(٨) البرهان في علوم القرآن ج ٣ ص ٤٠.

(٩) خزانة الادب ص ١٤٥ ، وينظر نفحات الأزهار ص ٩٨.

(١٠) أنوار الربيع ج ٣ ص ٢٠٩.

(١١) معترك ج ١ ص ٤٠٨ ، الاتقان ج ٢ ص ٩٣ ، شرح عقود الجمان ص ١٣٩.

(١٢) معترك ج ١ ص ٤٤٩.

(١٣) اللسان (قصد) والمنصف ص ٩٠.

١٦٣

الامور.

وقد عرفه ابن الأثير بقوله : «أن يكون المعنى المضمر في العبارة على حسب ما يقتضيه المعبّر عنه في منزلته» (١).

ولخص التنوخي وابن الأثير الحلبي وابن قيم الجوزية كلام ابن الأثير (٢) ، ونقل العلوي كثيرا منه وقال في الاقتصاد : «ومعناه أن يكون المعنى المتدرج تحت العبارة على حسب ما يقتضيه المعبّر عنه مساويا له من غير زيادة فيكون إفراطا ، ولا نقصان فيكون تفريطا» (٣). كقوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٤).

فهذه الأوصاف على نهاية الاقتصاد والتوسط من غير إفراط ولا تفريط.

ومنه قول الفرزدق يمدح زين العابدين علي بن الحسين :

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

والبيت يعرفه والحلّ والحرم

هذا ابن خير عباد الله كلّهم

هذا التقيّ النقيّ الطاهر العلم

يكاد يمسكه عرفان راحته

ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

وقول البحتري :

فلو انّ مشتاقا تكلّف فوق ما

في وسعه لسعى اليك المنبر

الاقتصاص :

قصّ آثارهم يقصّها قصّا وقصصا وتقصّصا : تتّبعها بالليل ، وقيل : هو تتبّع الأثر أي وقت كان. ويقال :خرج فلان قصصا في أثر فلان وقصّا وذلك اذا اقتصّ أثره. وقيل : القاصّ يقصّ القصص لاتّباعه خبرا بعد خبر وسوقه الكلام سوقا (٥).

والاقتصاص كما عرّفه ابن فارس «هو أن يكون كلام في سورة مقتصّا من كلام في سورة أخرى أو في السورة معها» (٦) كقوله تعالى : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)(٧) ، والآخرة دار الثواب لا عمل فيها فهذا مقتصّ : من قوله : (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى)(٨).

ونقل الزركشي هذا الباب من ابن فارس وأشار الى ذلك (٩) ، وفعل مثله السيوطي (١٠).

وذكر العسكري الاقتصاص بمعنى سوق القصة ، قال : «واذا دعت الضرورة الى سوق خبر واقتصاص كلام فتحتاج الى أن تتوّخى فيه الصدق وتتحرّى الحق فانّ الكلام حينئذ يملكك ويحوجك الى اتباعه والانقياد له» (١١). وكان ابن طباطبا قد ذكر اقتصاص الخبر أو الحكاية عند كلامه على ما يضطر اليه الشاعر ، وقال : «على أنّ الشاعر إذا اضطر الى اقتصاص خبر في شعر دبّره تدبيرا يسلس له معه القول ويطرد فيه المعنى فبنى شعره على وزن يحتمل أن يخشى بما يحتاج الى اقتصاصه بزيادة من الكلام يخلط به أو نقص يحذف منه ، وتكون الزيادة

__________________

(١) المثل السائر ج ٢ ص ٣١٦ ، الجامع الكبير ص ٢٢٦.

(٢) الأقصى القريب ص ١٠٠ ، جوهر الكنز ص ١٣٩ ، الفوائد ص ٢٢٦.

(٣) الطراز ج ٢ ص ٣٠١.

(٤) البقرة ٢ ـ ٥.

(٥) اللسان (قصص).

(٦) الصاحبي ص ٢٣٩.

(٧) العنكبوت ٢٧.

(٨) طه ٧٥.

(٩) البرهان في علوم القرآن ج ٣ ص ٢٩٧.

(١٠) الاتقان ج ٢ ص ٨٨.

(١١) كتاب الصناعتين ص ١٤٧.

١٦٤

والنقصان يسيرين غير مخدجين لما يستعان فيه بهما وتكون الالفاظ المزيدة غير خارجة من جنس ما يقتضيه بل تكون مؤيدة له وزائدة في رونقه وحسنه (١). ومثل له بقصيدة الأعشى فيما اقتصه من خبر السّموأل والتي قال فيها :

كن كالسّموأل إذ طاف الهمام به

في جحفل كزهاء الليل جرّار

ثم قال ابن طباطبا بعد الأبيات : «فانظر الى استواء هذا الكلام وسهولة مخرجه وتمام معانيه وصدق الحكاية فيه ووقوع كل كلمة موقعها الذي أريدت له من غير حشد مجتلب ولا خلل شائن ، وتأمل لطف الأعشى فيما حكاه في قوله : «أأقتل ابنك صبرا أو تجيء بها» فاضمر ضمير الهاء في قوله : «واختار أدرعه أن لا يسب بها» فتلافى ذلك الخلل بهذا الشرح فاستغنى سامع هذه الأبيات عن استماع القصة فيها لاشتمالها على الخبر كله بأوجز كلام وأبلغ حكاية وأحسن تأليف وألطف إيماءة» (٢).

وقال المصري : «هو أن يقتص المتكلم قصة بحيث لا يغادر منها شيئا في ألفاظ قليلة موجزة جدا بحيث لو اقتصها غيره ممن لم يكن في مثل طبقته من البلاغة أتى بها في أكثر من تلك الالفاظ. وأكثر قصص الكتاب العزيز من هذا القبيل كقصة موسى ـ عليه‌السلام ـ في طه ، فان معانيها أتت بألفاظ الحقيقة تامة غير محذوفة وهي مستوعبة في تلك الالفاظ.

وقد رأيت أكثر العلماء على تقديم الأعشى في اقتصاصه قصة السموأل في أدرع امرىء القيس الشاعر التي أودعها عنده لما قصد قيصر ووفاء السّموأل بها حتى سلمها لأهل امرىء القيس وبذل دونها دم ولده وهو يشاهده» (٣). ومن ذلك قول النابغة في اقتصاصه قصة الزرقاء للنعمان (٤) والتي منها :

فاحكم كحكم فتاة الحيّ إذ نظرت

الى حمام شراع وارد الثّمد

لقد تحدث المصري عن الاقتصاص في باب الايجاز ، وتحدث عنه في باب التنظير أيضا (٥) ، وتكلم ابن فارس والزركشي والسيوطي عليه في فصول خاصة اتخذت من هذا المصطلح عنوانا.

الاقتضاب :

القضب : القطع ، قضبه يقضبه قضبا واقتضبه وقضّبه فانقضب وتقضّب : انقطع ، واقتضب الحديث : انتزعه واقتطعه ، واقتضاب الكلام :

ارتجاله (٦) قال العسكري : «الاقتضاب أخذ القليل من الكثير ، وأصله من قولهم : «اقتضبت الغصن» إذا قطعته من شجرته ، وفيه معنى السرعة أيضا» (٧).

والاقتضاب عند بعضهم (٨) الاشتقاق الذي تقدم.

وله معنى آخر أشار اليه البلاغيون كابن الاثير وهو خلاف التخلص وذلك «أن يقطع الشاعر كلامه الذي فيه ويستأنف كلاما آخر غيره من مديح أو هجاء أو غير ذلك ولا يكون للثاني علاقة بالأول.

وهو مذهب العرب ومن يليهم من المخضرمين ، وأما المحدثون فانهم تصرفوا في التخلص فأبدعوا فيه وأظهروا منه كل غريبة» (٩). وقال التنوخي : «وأما الاقتضاب فالانتقال من كلام الى غيره بكلمة تدلّ على الانتقال من غير أن يعلق بعض الكلام ببعض ، وهو غالبا بقولهم : «أما بعد» وقولهم : «وبعد» وبكلمات كثيرة غيرهما. وقد سمي هذا «فصل

__________________

(١) عيار الشعر ص ٤٣.

(٢) عيار الشعر ص ٤٥.

(٣) تحرير التحبير ص ٤٥٩.

(٤) تحرير ص ٤٦٤.

(٥) تحرير ص ٤٥٩ ، بديع القرآن ص ٢٣٩.

(٦) اللسان (قضب).

(٧) كتاب الصناعتين ص ٣٩.

(٨) حدائق السحر ص ١٠٣ ، الفوائد ص ٢٢٠ ، حسن التوسل ص ١٩٣ ، نهاية الارب ج ٧ ص ٩٥.

(٩) المثل السائر ج ٢ ص ٢٥٩ ، الجامع الكبير ص ١٨١.

١٦٥

الخطاب» ، وفصل الخطاب حقيقته هو تخليص المعاني بعضها من بعض والاتيان بكل شيء في موضعه ومع ما يناسبه ولعله خلاصة علم البيان» (١).

وقال القزويني : «وقد ينتقل من الفن الذي شبب الكلام به الى ما يلائمه ويسمّى ذلك الاقتضاب وهو مذهب العرب ومن يليهم من المخضرمين» (٢) وألحق به ما ذكره التنوخي وهو «فصل الخطاب» وقال : «ومن الاقتضاب ما يقرب من التخلص كقول القائل بعد حمد الله : «أما بعد» ، قيل وهو «فصل الخطاب» (٣) كقوله تعالى : (هذا ، وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ)(٤) ، وقوله : (هذا ذِكْرٌ ، وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ)(٥).

ومنه قول الكاتب : «هذا باب» و «هذا فصل». ولا يخرج عن ذلك البلاغيون الآخرون كالعلوي وابن قيم الجوزية والسبكي والتفتازاني والحموي والاسفراييني والمغربي (٦).

ومن بديع ما جاء في الاقتضاب قول البحتري يمدح الفتح بن خاقان بعد انخساف الجسر به في قصيدته التي مطلعها :

متى لاح برق أو بدا طلل قفر

جرى مستهلّ لا بكيء ولا نزر

وبعده :

فتى لا يزال الدهر بين رباعه

أياد له بيض وأفنية خضر

فبينا هو في غزلها إذ خرج الى المديح على جهة الاقتضاب بقوله :

لعمرك ما الدنيا بنا قصة الجدا

إذا بقي الفتح بن خاقان والقطر

فخرج الى المديح من غير أن يكون هناك له سبب من الأسباب.

ومن ذلك ما قاله أبو نواس في قصيدته التي مطلعها :

يا كثير النوح في الدمن

لا عليها بل على السكن

فضمنها غزلا كثيرا ثم قال بعد ذلك :

تضحك الدنيا الى ملك

قام بالآثار والسّنن

سنّ للناس الندى فندوا

فكأنّ المحل لم يكن

قال العلوي : «وأكثر مدائح أبي نواس مؤسسة على الاقتضاب من غير ذكر التخلص» (٧). والاقتضاب عند السجلماسي هو «اقتضاب الدلالة» (٨) وهو أربعة أنواع : التتبيع والكناية والتعريض والتلويح ، ولكل فن موضعه.

الاقتطاع :

القطع : إبانة بعض أجزاء الجرم من بعض فصلا ، واقتطعه فانقطع وتقطّع (٩) أي : فصله ، والاقتطاع هو أخذ قطعة من الشيء.

وكان ابن فارس قد عقد بابا باسم «القبض» وقال عنه : «ومن سنن العرب القبض محاذاة للبسط وهو النقصان من عدد الحروف (١٠)» كقول القائل :

غرثى الوشاحين صموت الخلخل

أراد : الخلخال. وقول الآخر :

ليس شيء على المنون بخال

__________________

(١) الأقصى القريب ص ٨٤.

(٢) الايضاح ص ٤٣٣ ، التلخيص ص ٤٣٣.

(٣) الايضاح ص ٤٣٤ ، التلخيص ص ٤٣٤.

(٤) ص ٥٥.

(٥) ص ٤٩.

(٦) الطراز ج ٢ ص ٣٤٧ ، الفوائد ص ١٤١ ، شروح التلخيص ج ٤ ص ٥٣٨ ، المطول ص ٤٨٠ ، الاطول ج ٢ ص ٢٥٨ ، خزانة الأدب ص ١٥٠ ، التبيان في البيان ص ٣٨٤.

(٧) الطراز ج ٢ ص ٣٥٣.

(٨) المنزع البديع ص ٢٦٢.

(٩) اللسان (قطع).

(١٠) الصاحبي ص ٢٢٨.

١٦٦

أي : بخالد. وقال : «وهذا كثير في أشعارهم ، وما أحسب في كتاب الله ـ جلّ ثناؤه ـ منه إلا انه روي عن بعض القراء انه قرأ «ونادوا يا مال» (١) أي : يا مالك. والله أعلم بصحة ذلك» (٢).

وسماه السيوطي الاقتطاع ، وهو من أنواع الحذف عنده ، قال : «الحذف على أنواع : أحدها ما يسمى بالاقتطاع وهو حذف بعض حروف الكلمة ، وأنكر ابن الاثير ورود هذا النوع في القرآن. وردّ بأنّ بعضهم جعل منه فواتح السور على القول بأنّ كل حرف منها من اسم من اسمائه. وأدعى بعضهم أنّ الباء في (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ)(٣) أول كلمة «بعض» ثم حذف الباقي. ومنه قراءة بعضهم : «ونادوا يا مال» بالترخيم ، ولما سمعها بعض السلف قال : ما أغنى أهل النار عن الترخيم.

وأجاب بعضهم أنّهم لشدة ما هم فيه عجزوا عن إتمام الكلمة. ويدخل في هذا النوع حذف «أنا» في قوله : (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي)(٤) الأصل : «لكن أنا» حذفت همزة «أنا» تخفيفا وادغمت النون في النون» (٥). وهذا قريب مما ذكره ابن فارس ، وهو من أنواع الحذف او الايجاز بالحذف.

الاقتناص :

قنص الصيد يقنصه قنصا وقنصا واقتنصه وتقنّصه : صاده ، والاقتناص : الاصطياد (٦).

وقد ذكر السيوطي أنّ ابن فارس ذكره (٧) ، وليس الأمر كذلك وانما ذكر الاقتصاص وقال عنه : «هو أن يكون كلام في سورة مقتصا من كلام في سورة أخرى أو في السورة معها» (٨). ولعل محقق كتاب «معترك الاقران في إعجاز القرآن» وقع في سهو ، وإن أشار الى ذلك في الهامش ولكنه أثبت مصطلح «الاقتناص» وذكر تعريف ابن فارس للاقتصاص ، على الرغم من أنّ السيوطي ذكره باسم «الاقتصاص» في كتابه «الاتقان في علوم القرآن» (٩) ، وذكره الزركشي بهذا الاسم من قبل ونقل تعريف ابن فارس أيضا (١٠).

فالاقتناص هو الاقتصاص عند جميعهم ، ولكن مصطلح «الاقتصاص» أليق بمقام القرآن الكريم ، وقد تقدم الاقتصاص.

الإقحام :

قحم الرجل في الأمر : رمى بنفسه فيه من غير رويّة ، والاقحام : الارسال في عجلة (١١) ويقال : اقحم فلان نفسه بينهم إذا دخل بينهم.

وقد قال السبكي : «وهو يعلم مما سبق» (١٢) ، ولم يفسر ذلك ، والذي سبق «الاشارة» التي تعني دلالة اللفظ القليل على المعنى الكثير أي انه من الايجاز ، وبذلك يكون الاقحام هو إدخال شيء على الكلام مما يزيد عليه ، ولعله يريد شيئا آخر ، ولكن البلاغيين لم يذكروا ذلك.

الأقسام :

الأقسام جمع قسم ولم يذكر هذا المصطلح إلا ابن منقذ الذي قال : «إنّ محاسن الشعر الأقسام الشريفة للمعاني اللطيفة» (١٣). وهذا تعريف أو قول

__________________

(١) الزخرف ٧٧ ، وفي القرآن الكريم ؛ (وَنادَوْا يا مالِكُ).

(٢) الصاحبي ص ٢٢٩.

(٣) المائدة ٦.

(٤) الكهف ٣٨.

(٥) الاتقان ج ٢ ص ٦١. معترك الاقران ج ١ ص ٣١٩.

(٦) اللسان (قنص).

(٧) معترك ج ١ ص ٣٩١.

(٨) الصاحبي ص ٢٣٩.

(٩) الاتقان ج ٢ ص ٨٨.

(١٠) البرهان في علوم القرآن ج ٣ ص ٢٩٧.

(١١) اللسان (قحم).

(١٢) عروس الافراح ج ٤ ص ٤٧١.

(١٣) البديع في نقد الشعر ص ١٤٠.

١٦٧

يحتاج إلى إيضاح لأنّ الأمثلة التي ذكرها لا تحدد ذلك تحديدا دقيقا. ومن باب الأقسام قول النابغة :

نبئت أنّ أبا قابوس أوعدني

ولا قرار على زأر من الأسد

ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه

إذن فلا رفعت سوطي اليّ يدي

وقول أبي فراس :

لا ضربت لي بالعراق خيمة

ولا أنثنت أناملي على قلم

إن لم أثرها من ديار فارس

شعث النواصي فوقها سود اللمم

حتى ترى لي بالعراق وقعة

يشرب فيها الماء ممزوجا بدم

وقول علي بن مقلد أبي شجاع سديد الملك :

فان لم تكن عندي كسمعي وناظري

فلا نظرت عيني ولا سمعت أذني

فانّك أحلى في جفوني من الكرى

وأطيب طعما في فؤادي من الأمن

الاكتفاء :

كفى يكفي كفاية إذا قام بالأمر ، وكفى الرجل واكتفى : اضطلع ، وكفاك الشيء يكفيك واكتفيت به. وكفاه الأمر : اذا قام فيه مقامه (١).

تحدث ابن رشيق في باب الايجاز وقال : إن الايجاز عند الرماني على ضربين مطابق لفظه لمعناه لا يزيد عليه ولا ينقص عنه مثل : «سل أهل القرية».

ومنه ما فيه حذف للاستغناء عنه في ذلك الموضع كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(٢) وقال : إنّ الضرب الأول مما ذكره الرماني يسمى المساواة ، والضرب والثاني مما ذكره يسمونه «الاكتفاء» وهو «داخل في باب المجاز وفي الشعر القديم والمحدث منه كثير يحذفون بعض الكلام لدلالة الباقي على الذاهب» (٣). وقد سمّى الرماني هذا النوع الايجاز بالحذف ، (٤) وهو المصطلح الذي شاع في كتب البلاغة حينما قسموا الايجاز الى : إيجاز حذف وايجاز قصر. وعقد الحموي بابا للاكتفاء وقال : هو أن يأتي الشاعر ببيت من الشعر وقافيته متعلقة بمحذوف فلم يفتقر الى ذكر المحذوف لدلالة باقي لفظ البيت عليه ويكتفى بما هو معلوم في الذهن فيما يقتضي تمام المعنى. وهو نوع ظريف ينقسم الى قسمين : قسم يكون بجميع الكلمة وقسم يكون ببعضها. والاكتفاء بالبعض أصعب مسلكا لكنه أحلى موقعا ولم أره في كتب البديع ولا في شعر المتقدمين. فشاهد الاكتفاء بجميع الكلمة كقول ابن مطروح :

لا أنتهي لا أنثني لا أرعوي

ما دمت في قيد الحياة ولا إذا

فمن المعلوم أنّ باقي الكلام : «ولا إذا مت» لما تقدم من قوله «الحياة» ومتى ذكر تمامه في البيت الثاني كان عيبا من عيوب الشعر مع ما يفوته من حلاوة الاكتفاء ولطفه وحسن موقعه في الأذهان» (٥).

والاكتفاء ببعض الكلمة عزيز الوقوع جدا ولم يوجد في كتب البديع ومن ذلك قول ابن سناء الملك :

أهوى الغزالة والغزال وإنّما

نهنهت نفسي عفّة وتدينا

ولقد كففت عنان عيني جاهدا

حتى إذا أعييت أطلقت العنا

أي : العنان (٦).

__________________

(١) اللسان (كفي).

(٢) يوسف ٨٢.

(٣) العمدة ج ١ ص ٢٥١.

(٤) النكت في إعجاز القرآن ص ٧٠.

(٥) خزانة الأدب ص ١٢٦.

(٦) خزانة ص ١٢٩ ، نفحات ص ٨١.

١٦٨

وذكر السيوطي ما قاله ابن رشيق ، ذلك أنّ الحذف على أنواع أحدهما الاكتفاء وهو «أن يقتضي المقام ذكر شيئين بينهما تلازم وارتباط فيكتفي بأحدهما عن الآخر لنكتة ويختص غالبا بالارتباط العطفي كقوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ)(١) ، أي : والبرد.

وخصّ الحرّ بالذكر لأنّ الخطاب للعرب وبلادهم حارة والوقاية عندهم من الحر أهم لأنه أشد عندهم من البرد. وقيل : لأنّ البرد تقدم ذكر الامتنان بوقايته صريحا في قوله : (وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها)(٢).

ولخّص السيوطي في كتابه «شرح عقود الجمان» ما ذكره الحموي في خزانته وذكر بعض أمثلته.

وقال المدني : «إنّ الاكتفاء ضرب من الايجاز وهو نوعان : نوع يكون بكلمة فأكثر ، ونوع يكون ببعض الكلمة. فالأول «هو أن يقتضي المقام ذكر شيئين بينهما تلازم وارتباط فيكتفي بأحدهما عن الآخر لنكتة ولا يكون المكتفى عنه إلا آخرا لدلالة الأول عليه ، وذلك الارتباط قد يكون بالعطف وهو الغالب» (٣) كقوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ)(٤). وقد يكون بالشرط وجوابه كقوله تعالى :(فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ)(٥) ، أي : فافعل. وقد يكون بالقسم بدأ به كقوله تعالى : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً. وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً. وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً. فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً. فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً)(٦) أي : لتبعثنّ. وقد يكون بطلب الفعل للمتعلق كقوله تعالى : (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً)(٧) أي بسيء ، «وآخر سيئا» أي بصالح. أو بطلبه للمفعول كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ)(٨) ، أي : إلها.

وقد يكون بطلب حرف الشرط لجملة الشرط وجوابه كقول الشاعر :

قالت بنات العم يا سلمى وإن

كان فقيرا معدما قالت : وإن

أي : وإن كان كذلك رضيته أيضا.

وقد يكون بالاسمية والخبرية لـ «إنّ» وأمثالها كقول الشاعر :

ويقلن شيب قد علاك

وقد كبرت فقلت : إنّه

أي : أنه كذلك.

وعلّق المدني على تعريف صفي الدين الحلي وهو قريب من تعريف الحموي بانه «شامل لنوعي الاكتفاء غير أنه لا يشمل الاكتفاء في النثر كما هو ظاهر ، والحدّ الذي ذكرناه شامل للنظم والنثر معا» (٩).

وأما النوع الثاني من الاكتفاء وهو الذي يكون ببعض الكلمة فهو «حذف بعض حروف القافية من آخرها لدلالة الباقية عليه» ثم قال : «واحترزنا بالقافية عن غيرها كقوله :

فنعم الفتى تعشو الى ضوء ناره

طريف بن مال ليلة الجوع والحصر

أي : ابن مالك. وبقولنا : «من آخرها» عن مثل قوله :

غرثى الوشاحين صموت الخلخل

أي : الخلخال. فلا يسمى ذلك اكتفاء عند البديعيين.

وقد يسمى في غير هذا العلم بالاقتطاع ولا يختص بالقافية. وسماه ابن جني في كتاب التعاقب بالايحاء وعقد له بابا فقال في باب الايحاء : «هو الاكتفاء عن

__________________

(١) النحل ٨١.

(٢) النحل ٨٠. ينظر الاتقان ج ٢ ص ٦١ ، ومعترك ج ١ ص ٣٢٠ ، شرح الكافية ص ١٠٥.

(٣) أنوار الربيع ج ٣ ص ٧١. وينظر المنزع البديع ص ١٨٨ ، الروض المريع ص ١٤٣.

(٤) النحل ٨١.

(٥) الأنعام ٣٥.

(٦) النازعات ١ ـ ٥.

(٧) التوبة ١٠٢.

(٨) الأعراف ١٥٢.

(٩) أنوار الربيع ج ٣ ص ٧٣.

١٦٩

الكلمة بحرف من أولها». وسماه ابن فارس في فقه اللغة بالقبض ، وهو وارد في القرآن والحديث وكلام العرب» (١) ونقل بعض أمثلة القبض والاقتطاع التي ذكرها ابن فارس والسيوطي ، كقول الشاعر :

قواطنا مكّة من ورق الحما

أي : الحمام. وقول الآخر :

ليس حيّ على المنون بخال

أي : بخالد.

ومنه قول القاضي الفاضل :

لعبت جفونك بالقلوب وحبّها

والخدّ ميدان وصدغك صولجا

أي : صولجان. ومثل ذلك يكون بلا تورية ، أما الاكتفاء مع التورية فكقول ابن نباتة :

بروحي أمر الناس نأيا وجفوة

وأحلاهم ثغرا وأملحهم شكلا

يقولون في الاحلام يوجد شخصه

فقلت : ومن ذا بعده يجد الأحلا

أي : الأحلام ، ولكنه ورّى عن الجمال أيضا.

الإكثار :

الكثرة : نقيض القلة ، وأكثره جعله كثيرا (٢).

وقد جعله الأدباء من سمات بعض الكلام الذي لا يكون موجزا فقال جعفر البرمكي : «إذا كان الاكثار أبلغ كان الايجاز تقصيرا ، واذا كان الايجاز كافيا كان الاكثار عيا» (٣). أي أنّ البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال ولذلك كان استعمال الاكثار في مكانه من أسباب البلاغة أي أنّه ليس عيبا في موضعه ولكن إذا كان الايجاز كافيا كان الاكثار عيا. قال الجاحظ وهو يتحدث عن إياس بن معاوية : «فان كان إياس عند نفسه عييا فذاك أجدر بان يهجر الاكثار. وبعد فما نعلم أحدا رمى إياسا بالعي وانما عابوه بالاكثار» (٤).

الإكمال :

الكمال : التمام ، وقيل : التمام الذي تجزأ منه أجزاؤه ، واكملت الشيء أي أجملته وأتممته ، وأكمله هو واستكمله وكمله : أتمه وجمله ، والاكمال : التمام (٥).

قال العلوي : «وهو إفعال من أكمل الشيء إذا حصّله على حالة لا زيادة عليها في تمامه. وهو في مصطلح علماء البيان مقول على أن تذكر شيئا من أفانين الكلام فترى في إفادته المدح كأنه ناقص لكونه موهما بعيب من جهة دلالة مفهومه فتأتي بجملة فتكمله بها تكون رافعة لذلك العيب المتوهم. وهذا مثاله أن تذكر من كان مشهورا بالشجاعة دون الكرم ومن كان عالما بالبلاغة دون سداد الرأي ونفاذ العزيمة فترى في ظاهر الحال أنّه ناقص بالاضافة الى عدم تلك الصفة المفقودة عنه فتذكر كلاما يكمل المدح ويرفع التوهم كما قال كعب بن سعد الغنوي في ذلك :

حليم إذا ما الحلم زيّن أهله

مع الحلم في عين العدو مهيب

فانه لو اقتصر على قوله : «حليم إذا ما الحلم زين أهله» لأوهم الى السامع أنّه غير واف بالمدح ؛ لأنّ كل من لا يعرف منه إلا الحلم ربما طمع فيه عدوه فنال منه ما يذم به ، فلما كان ذلك متوهما عند إطلاقه أردفه بما يكون رافعا للاحتمال مكملا للفائدة بوصف الحلم ، وهو قوله : «مع الحلم في عين العدو مهيب» ليدفع به ما ذكرناه من التوهم.

وكقول السموأل بن عادياء :

__________________

(١) أنوار ج ٣ ص ٨٣ ؛ الصاحبي ص ٢٢٨.

(٢) اللسان (كثر).

(٣) عيون الأخبار ج ٢ ص ١٧٤.

(٤) البيان ج ١ ص ٩٩.

(٥) اللسان (كمل).

١٧٠

وما مات منا سيّد في فراشه

ولا طلّ منا حيث كان قتيل (١)

فلو اقتصر على قوله : «وما مات منا سيد في فراشه» لأوهم أنّهم صبر على الحروب والقتل دون الانتصار من أعدائهم فلا جرم أكمله بقوله : «ولا طلّ منا حيث كان قتيل» فارتفع ذلك الاحتمال المتوهم وزال» (٢).

وهذا ما سماه البلاغيون التكميل أو الاطناب بالتكميل (٣) ، وقد تقدم.

الالتئام :

يقال : تلاءم القوم والتأموا : اجتمعوا واتفقوا ، ويقال : التأم الفريقان والرجلان إذا تصالحا واجتمعا.

والتأم الجرح التئاما : إذا برأ والتحم (٤).

والالتئام في البلاغة أن تكون كلمات النظم متناسبة ليس فيها ما يثقل على النطق عند اجتماعها ، وهو ما تحدث عنه البلاغيون في باب التنافر عند كلامهم على فصاحة الكلام وخلوصه من ضعف التأليف وتنافر الكلمات (٥) ، وذكروا له قول القائل :

وقبر حرب بمكان قفر

وليس قرب قبر حرب قبر

وقول أبي تمام :

كريم متى أمدحه أمدحه والورى

معي واذا ما لمته لمته وحدي

وقد أشار المرزوقي الى ذلك وقال وهو يتحدث عن عمود الشعر : «وعيار التحام أجزاء النظم والتئامه على تخير من لذيذ الوزن ، الطبع واللسان فما لم يتعثر الطبع بأبنيته وعقوده ولم يتحبس اللسان في فصوله ووصوله بل استمرا فيه واستسهلاه بلا ملال ولا كلال فذاك يوشك أن يكون القصيدة منه كالبيت ، والبيت كالكلمة تسالما لأجزائه وتقارنا» (٦). وهذا ما تحدث الجاحظ عنه من قبل وقال : «ومن ألفاظ العرب ألفاظ تتنافر وإن كانت مجموعة في بيت شعر لم يستطع المنشد إنشادها إلا ببعض الاستكراه فمن ذلك قول الشاعر :

وقبر حرب بمكان قفر

وليس قرب قبر حرب قبر

ولما رأى من لا علم له أنّ أحدا لا يستطيع أن ينشدها هذا البيت ثلاث مرات في نسق واحد فلا يتتعتع ولا يتلجلج وقيل لهم إنّ ذلك إنّما اعتراه إذ كان من أشعار الجن ، صدّقوا ذلك. ومن ذلك قول ابن يسير في احمد بن يوسف حين استبطأه :

هل معين على البكا والعويل

أم معزّ على المصاب الجليل

ميّت مات وهو في ورق العي

ش مقيم به وظل ظليل

في عداد الموتى وفي عامر الدن

يا أبو جعفر أخي وخليلي

لم يمت ميتة الوفاة ولكن

مات عن كلّ صالح وجميل

__________________

(١) طل الرجل ـ بالبناء للمجهول ـ أهدر دمه.

(٢) الطراز ج ٣ ص ١٠٨.

(٣) إعجاز القرآن ص ١٤٣ ، الوافي ص ٢٧٤ ، قانون البلاغة ص ٤٤٦ ، تحرير ص ٣٥٧ ، بديع القرآن ص ١٤٣ ، المصباح ص ٩٨ ، حسن التوسل ص ٢٨٧ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٥٧ ، الفوائد ص ٨٩ ، خزانة الأدب ص ١٧٠ ، أنوار الربيع ج ٥ ص ١٨٥ ، الايضاح ص ٢٠٢ ، التلخيص ص ٢٢٩ ، شروح التلخيص ج ٣ ص ٢٣١ ، المطول ص ٢٩٥ ، الأطول ج ٢ ص ٤٦ ، معترك ج ١ ص ٣٦٩ ، الاتقان ج ٢ ص ٧٤ ، شرح عقود الجمان ص ٧٤ ، الروض المريع ص ١٥٠.

(٤) اللسان (لأم).

(٥) الايضاح ص ٥ ، التلخيص ص ٢٦ ، شروح التلخيص ج ١ ص ٧٧ ، المطول ص ٢٠ ، الاطول ج ١ ص ٢٣.

(٦) شرح ديوان الحماسة ج ١ ص ١٠.

١٧١

لا أذيل الآمال بعدك إنّي

بعدها بالآمال حقّ بخيل

كم لها وقفة بباب كريم

رجعت من نداه بالتعطيل

ثم قال :

لم يضرها والحمد لله شيء

وانثنت نحو عزف نفس ذهول

فتفقد النصف الأخير من هذا البيت فانك ستجد بعض ألفاظه يتبرأ من بعض. وأنشدني أبو العاصي قال : أنشدني خلف الأحمر في هذا المعنى :

وبعض قريض القوم أولاد علّة

يكدّ لسان الناطق المتحفظ (١)

وقال أبو العاصي : وأنشدني في ذلك أبو البيداء الرياحي :

وشعر كبعر الكبش فرّق بينه

لسان دعيّ في القريض دخيل

أما قول خلف : «وبعض قريض القوم أولاد علّة» فانه يقول : إذا كان الشعر مستكرها وكانت ألفاظ البيت من الشعر لا يقع بعضها مماثلا لبعض ، كان بينها من التنافر ما بين أولاد العلّات. واذا كانت الكلمة ليس موقعها الى جنب أختها مرضيا موافقا كان على اللسان عند إنشاد ذلك الشعر مؤونة.

قال : وأجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء ، سهل المخارج ، فتعلم بذلك أنّه قد أفرغ إفراغا واحدا وسبك سبكا واحدا ، فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان (٢). وذكر ما لا تتباين الفاظه ولا تتنافر أجزاؤه ، ومن ذلك قول أبي حيّة النميري :

رمتني وستر الله بيني وبينها

عشيّة آرام الكناس رميم

رميم التي قالت لجارات بيتها

ضمنت لكم ألّا يزال يهيم

ألا ربّ يوم لو رمتني رميتها

ولكنّ عهدي بالنضال قديم

فهذه الأبيات من الشعر المتلائم الجميل.

وذكر الرماني مثل ما ذكر الجاحظ حينما تحدث عن التلاؤم وجاء بأمثلته أيضا وقال إنّ «المتلائم في الطبقة العليا القرآن كله» (٣). ونقل ابن رشيق كلام الجاحظ في باب النظم (٤).

الالتجاء :

لجأ الى الشيء والمكان يلجأ لجأ ولجوء وملجأ ولجيء والتجأ وألجأت أمري الى الله أسندت.

والتجأت وتلجأت إذا استندت اليه واعتضدت به أو عدلت عنه الى غيره كأنه إشارة الى الخروج والانفراد (٥).

وقال ابن منقذ : «هو أن تستعمل اللفظة في غير موضعها من المعنى» (٦) ، وربط المعاظلة بالالتجاء في باب واحد ، وقال : إنّ ذلك مثل قول بعض العرب :

وذات هدم عار نواشرها

تصمت بالماء تولبا جدعا (٧)

سمّى الطفل تولبا ، والتولب الجحش.

ومنه قول الفرزدق :

فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي

ولكنّ زنجيا عظيم المشافر

لأنّه استعار المشافر للانسان وإنما هي للجمال لا للرجال.

__________________

(١) أولاد علة ؛ بنو رجل واحد من أمهات شتى.

(٢) البيان ج ١ ص ٦٥.

(٣) النكت في إعجاز القرآن ص ٨٨.

(٤) العمدة ج ١ ص ٢٥٧.

(٥) اللسان (لجأ).

(٦) البديع في نقد الشعر ص ١٥٨.

(٧) الهدم ـ بكسر الهاء ـ الكساء إذا ضوعفت رقاعه. النواشر ؛ عصب الذراع.

١٧٢

وقال ابن شيث القرشي : «هو أن يضطر الكاتب الى أن يأتي بلفظة غير مستعملة في الذي هو بصدده فيقيمها مقام المستعملة. ومثاله : «فما المعشاق عدمت سلوها والمقلات (١) فقدت فلوها إلا دون ما أنا عليه من الوجد به والغرام». فاستعمل «فلوها» في مكان «ولدها» حتى قابل بها «سلوها» وهو محتمل وربما كان جيدا. وفي الشعر :

ليبكك الشّرب والمدامة وال

إخوان طرا وطامع طمعا

وذات هدم باد نواشرها

تصمت بالماء تولبا جدعا (٢)

وهذا ما سماه عبد القاهر الاستعارة غير المفيدة (٣) وقد تقدمت.

الالتزام :

الالتزام هو الارتباط بالشيء ، يقال : لزم الشيء يلزمه والتزمه وألزمه إياه فالتزمه ، ورجل لزمة : يلزم الشيء فلا يفارقه (٤).

والالتزام في البلاغة هو «الاعنات» وقد تقدم ، ويسمى التضييق أو التشديد أو لزوم ما لا يلزم ، وهذا الأخير أكثر استعمالا في كتب البلاغة. وممن سماه «التزاما» ابن مالك والمصري والحموي والسيوطي والمدني (٥).

الالتفات :

لفت وجهه عن القوم : صرفه ، والتفت التفاتا ؛ والتلفت أكثر منه ، وتلفت الى الشيء والتفت اليه صرف وجهه اليه ، ويقال : لفت فلانا عن رأيه أي صرفته عنه ومنه الالتفات (٦).

والالتفات من الأساليب العريقة في اللغة العربية وقد عرفه الجاهليون كامريء القيس الذي قال :

تطاول ليلك بالاثمد

ونام الخليّ ولم ترقد

وبات وباتت له ليلة

كليلة ذي العائر الأرمد

وذلك من نبأ جاءني

وخبرته عن أبي الأسود

قال الزمخشري : «وقد التفت امرؤ القيس ثلاث التفاتات في ثلاثة أبيات» (٧) ، ثم قال : «وتلك على عادة افتنانهم في الكلام وتصرفهم فيه ، ولأنّ الكلام إذا نقل من أسلوب الى أسلوب كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع وايقاظا للاصغاء اليه من إجرائه على أسلوب واحد ، وقد تختص مواقعه بفوائد» (٨).

وجاء الالتفات في كتاب الله العزيز ، وأول سورة فيه تحمل هذا اللون من التعبير فقد قال سبحانه وتعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(٩). فقد التفت من الغيبة الى الخطاب. وجاء في كلام العرب ، وقد انتبه القدماء لمثل هذا الاسلوب وذكره الفراء ولم يسمّه (١٠).

وذكره أبو عبيدة وقال : «والعرب قد تخاطب فتخبر عن الغائب والمعنى للشاهد فترجع الى

__________________

(١) المقلات ؛ المرأة التي لا يعيش لها ولد.

(٢) معالم الكتابة ص ٧٩.

(٣) ينظر أسرار البلاغة ص ٣٠.

(٤) اللسان (لزم).

(٥) المصباح ص ٨١ ، تحرير التحبير ص ٥١٧ ، بديع القرآن ص ٢٢٧ ، خزانة الادب ص ٤٣٤ ، معترك ج ١ ص ٥١ ، شرح عقود الجمان ص ١٥٥ ، أنوار الربيع ج ٦ ص ٩٣ ، نفحات ص ٣١٦ ، شرح الكافية ص ٢٠٣.

(٦) اللسان (لفت).

(٧) الكشاف ج ١ ص ١١.

(٨) الكشاف ج ١ ص ١٢.

(٩) الفاتحة ٢ ـ ٥.

(١٠) معاني القرآن ج ١ ص ٦٠ ، ١٩٥ ، ٤٦٠.

وينظر جمهرة أشعار العرب ص ١٣.

١٧٣

الشاهد» (١).

ولعلّ الأصمعي أوّل من سمّاه التفاتا ، فقد سأل إسحاق بن إبراهيم الموصلّي : أتعرف التفاتات جرير؟

قال : وما هي؟ فأنشده :

أتنسى إذ تودّعني سليمى

بفرع بشامة سقي البشام

ألا تراه مقبلا على شعره ثم التفت الى البشام فدعا له (٢).

وأدخله ابن قتيبة في باب «مخالفة ظاهر اللّفظ معناه» وقال : «ومنه أن تخاطب الشاهد بشيء ثم تجعل الخطاب له على لفظ الغائب كقوله ـ عزوجل ـ :(حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها)(٣).

قال الشاعر :

يا دار ميّة بالعلياء فالسّند

أقوت وطال عليها سالف الأبد

وكذلك أيضا تجعل خطاب الغائب للشاهد كقول الهذلي :

يا ويح نفسي كان جدة خالد

وبياض وجهك للتراب الأعفر (٤)

وقال المبرد : «والعرب تترك مخاطبة الغائب الى مخاطبة الشاهد ومخاطبة الشاهد الى مخاطبة الغائب. قال الله ـ جلّ وعزّ ـ : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ)(٥) ، كانت المخاطبة للأمة ثم انصرفت الى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إخبارا عنهم.

وقال عنترة :

شطّت مزار العاشقين وأصبحت

عسرا عليّ طلابك ابنة مخرم

فكان يتحدث عنها ثم خاطبها» (٦).

والالتفات أول محاسن الكلام التي ذكرها ابن المعتز بعد فنون البديع الخمسة وهي : الاستعارة والتجنيس والمطابقة ورد أعجاز الكلام على ما تقدمها والمذهب الكلامي ، وقال في تعريف الالتفات : «هو انصراف المتكلم عن المخاطبة الى الإخبار ، وعن الإخبار إلى المخاطبة وما يشبه ذلك.

ومن الالتفات الانصراف من معنى يكون فيه الى معنى آخر» (٧).

وسماه ابن وهب «الصّرف» وقال «وأما الصرف فانهم يصرفون القول من المخاطب الى الغائب ومن الواحد الى الجماعة» (٨). وسماه ابن منقذ «الانصراف» وقال : «هو أن يرجع من الخبر الى الخطاب من الخطاب الى الخبر» (٩). وسمّاه كذلك ابن شيث القرشي وقال : «هو ان تبتدىء المخاطبة بهاء الكناية ثم تنصرف الى المخاطبة بالكاف ، وهذا يحتمل إذا كان الأمر مما تكنيه مهما دون غيره» (١٠).

وسماه قوم الاعتراض (١١) ، وهو فن آخر ، وقد تقدم في الاطناب بالاعتراض ، والاعتراض ، ولكن الاخرين سموه التفاتا ، وبدأ هذا الاسلوب يدخل في دراسة البلاغة والنقد ، وقد تحدث عنه قدامة في نعوت المعاني وقال : «هو أن يكون الشاعر آخذا في معنى فكأنه يعترضه إما شك أو ظن بأنّ رادا يردّ عليه قوله أو

__________________

(١) مجاز القرآن ج ٢ ص ١٣٩ ، وينظر ج ١ ص ١١ ، ٢٥٢ ، ٢٧٣.

(٢) حلية المحاضرة ج ١ ص ١٥٧ ، كتاب الصناعتين ص ٣٩٢ ، العمدة ج ٢ ص ٤٦.

(٣) يونس ٢٢.

(٤) تأويل مشكل القرآن ص ٢٢٣.

(٥) يونس ٢٢.

(٦) الكامل ج ٢ ص ٧٢٩.

(٧) البديع ص ٥٨ ، وينظر العمدة ج ٢ ص ٤٦ ، المنصف ٦٢ ، المنزع البديع ص ٤٤٢ ، الروض المريع ص ٩٨.

(٨) البرهان في وجوه البيان ص ١٥٢.

(٩) البديع في نقد الشعر ص ٢٠٠.

(١٠) معالم الكتابة ص ٧٦.

(١١) حلية المحاضرة ج ١ ص ١٥٧ ، العمدة ج ٢ ص ٤٥.

١٧٤

سائلا يسأله عن سببه فيعود راجعا على ما قدمه فاما أن يؤكّده أو يذكر سببه أو يحل الشك فيه» (١). وهذا هو الاعتراض او الرجوع ، وقد عدّه العسكري النوع الثاني من الالتفات ، أما النوع الأول فهو ما ذكره الاصمعي (٢). وبذلك يتضح أنّ الالتفات لم يكن واضحا عند قدامة والعسكري وضوحه عند المتقدمين.

ونقل الباقلاني رواية الأصمعي السابقة وعلق على بيت جرير :

متى كان الخيام بذي طلوح

سقيت الغيث أيّتها الخيام

بقوله : «ومعنى الالتفات أنّه اعترض في الكلام قوله : «سقيت الغيث» ولو لم يعترض لم يكن ذلك التفاتا وكان الكلام منتظما» (٣) ولذلك قال الحاتمي : «وقد سماه قوم الاعتراض» (٤) ، وقال ابن رشيق : «وهو الاعتراض عند قوم ، وسماه الآخرون الاستدراك» (٥) ، وقال الصنعاني : «ويسمى الاعتراض» ولكنه عرفه تعريف الالتفات فقال : «وهو الانصراف عن الاخبار الى المخاطبة ، وعن المخاطبة الى الاخبار». ثم قال : «وقيل الالتفات هو أن يكون المتكلم آخذا في معنى فيعدل عنه الى غيره قبل تمام الأول ثم يعود اليه فيتمه فيكون فيما عدل اليه مبالغة وزيادة حسنة» (٦) ، وهذا هو الاعتراض أو الرجوع الذي ذكره السابقون.

وتحدث عنه التبريزي في فصل مستقل في حين انه أفرد الاستدراك والرجوع بفصل آخر ، وقال عنه : «الالتفات : أن يكون الشاعر في كلام فيعدل عنه الى غيره قبل أن يتم الأول ثم يعود اليه فيتمه فيكون فيما عدل اليه مبالغة في الاول وزيادة في حسنه» (٧). ونقل البغدادي هذا التعريف (٨).

وبدأ الالتفات يأخذ معنى دقيقا بعد أن بدأت البلاغة تستقر ، وقد عرّفه الرازي بقوله : «إنّه العدول عن الغيبة الى الخطاب أو على العكس» (٩). وأدخله السكاكي في علم المعاني وقال : «إنّ هذا النوع أعني نقل الكلام عن الحكاية الى الغيبة لا يختص المسند اليه ولا هذا القدر بل الحكاية والخطاب والغيبة ثلاثتها ينقل كل واحد منها الى الآخر ، ويسمّى هذا النقل التفاتا عند علماء علم المعاني. والعرب يستكثرون منه ويرون الكلام إذا انتقل من أسلوب الى أسلوب أدخل في القبول عند السامع وأحسن تطرية لنشاطه واملأ باستدرار اصغائه» (١٠) ، وهذا ما ذكره الزمخشري من قبل (١١). وقال السكاكي إنّه قد ينتقل بالصيغة من الماضي الى المضارع (١٢) ، وذكره مرة ثالثة في البديع (١٣) وأحال الى كلامه في الموضعين السابقين ، وهذا يدل على أنّ الالتفات كان عنده من علم المعاني مرة ، ومن علم البديع تارة أخرى.

وكان كلام ابن الاثير على الالتفات مسهبا ، وهو عنده من الصناعة المعنوية قال : «وحقيقته مأخوذة من التفات الانسان عن يمينه وشماله فهو يقبل بوجهه تارة كذا وتارة كذا ، وكذلك يكون هذا النوع من الكلام خاصة لأنّه ينتقل فيه عن صيغة الى صيغة كالانتقال من خطاب حاضر الى غائب أو من خطاب غائب الى حاضر ، أو من فعل ماض الى مستقبل أو من مستقبل

__________________

(١) نقد الشعر ص ١٦٧ ، وينظر حسن التوسل ص ٢٢٤.

(٢) كتاب الصناعتين ص ٣٩٢.

(٣) إعجاز القرآن ص ١٥٠.

(٤) حلية المحاضرة ج ١ ج ١٥٧.

(٥) العمدة ج ٢ ص ٤٥.

(٦) الرسالة العسجدية ص ١٤٦.

(٧) الوافي ص ٢٧٨.

(٨) قانون البلاغة ص ٤٤٧.

(٩) نهاية الايجاز ص ١١٢ ، الايضاح في شرح مقامات الحريري ص ١٨.

(١٠) مفتاح العلوم ص ٩٥.

(١١) الكشاف ج ١ ص ١٢.

(١٢) مفتاح العلوم ص ١١٨.

(١٣) مفتاح العلوم ص ٢٠٠.

١٧٥

الى ماض» (١). وسماه «شجاعة العربية» وهو عنده ثلاثة أقسام :

الاول : الرجوع من الغيبة الى الخطاب ومن الخطاب الى الغيبة ، وقد ردّ في هذا البحث ما ذهب اليه الزمخشري من أنّ في الانتقال تطرية لنشاط السامع وايقاظا للاصغاء اليه وقال : «والذي عندي في ذلك أنّ الانتقال من الخطاب الى الغيبة أو من الغيبة الى الخطاب لا يكون إلا لفائدة اقتضته وتلك الفائدة أمر وراء الانتقال من أسلوب الى أسلوب غير أنّها لا تحدّ بحدّ ولا تضبط بضابط ولكن يشار الى مواضع منها ليقاس عليها غيرها» (٢). وكان الزمخشري قد أشار الى مثل ذلك بعبارة موجزة فقال : «وقد تختص مواقعه بفوائد» (٣) ، أي أنّه رأى أنّ الانتقال من أسلوب الى أسلوب ليس للتطرية والايقاظ والتنبيه وحدها.

ومن أمثلة الرجوع من الغيبة الى الخطاب قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(٤) فقد رجع من الغيبة في أول الكلام الى الخطاب في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ.)

ومن الرجوع من خطاب الغيبة الى خطاب النفس قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ : ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ، قالَتا : أَتَيْنا طائِعِينَ فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)(٥) ، فانه قال : (وَزَيَّنَّا) بعد قوله : (ثُمَّ اسْتَوى) وقوله : (فَقَضاهُنَ) و (وَأَوْحى.)

ومن الرجوع من خطاب النفس الى خطاب الجماعة قوله تعالى : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٦).

ومن الرجوع من خطاب النفس الى خطاب الواحد قوله تعالى : (حم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٧).

ومن ذلك قول أبي تمام :

وركب يساقون الركاب زجاجة

من السّير لم تقصد لها كفّ قاطب

فقد أكلوا منها الغوارب بالسّرى

وصارت لها أشباحهم كالغوارب

يصرّف مسراها جذيل مشارق

إذا آبه همّ عذيق مغارب

يرى بالكعاب الرود طلعة ثائر

وبالعرمس الوجناء غرّة آيب

كأنّ بها ضغنا على كلّ جانب

من الارض أو شوقا الى كلّ جانب

إذا العيس لاقت بي أبا دلف فقد

تقطّع ما بيني وبين النوائب

هنالك تلقى الجود من حيث قطّعت

تمائمه والمجد مرخي الذوائب (٨)

قال ابن الأثير : ألا ترى أنه قال في الأول : «يصرّف مسراها» مخاطبة للغائب ثم قال بعد ذلك : «إذا العيس لاقت بي» مخاطبا نفسه. وفي هذا من الفائدة إنّه لما

__________________

(١) المثل السائر ج ٢ ص ٤ ، الجامع الكبير ص ٩٨.

(٢) المثل السائر ج ٢ ص ٥ ، كفاية ص ١٩٠.

(٣) الكشاف ج ١ ص ١٢.

(٤) الفاتحة ٢ ـ ٥.

(٥) فصلت ١١ ـ ١٢.

(٦) يس ٢٢.

(٧) الدخان ١ ـ ٦.

(٨) الركب ؛ الجماعة الراكبون. القاطب ؛ الذي يمزج الخمر بالماء. الغوارب ؛ جمع غارب وهو الكاهل. السرى ؛ سير الليل. يصرف مسراها ؛ يسيرها. الجذيل ؛ تصغير جذل وهو عود ينصب لتحتك به الجمال الجربى. العذيق ؛ تصغير عذق.

الكعاب ؛ البارزة النهدين. الرود ؛ الفتاة الناعمة.

العرمس ؛ الناقة الشديدة. الوجناء ؛ القوية.

١٧٦

صار الى مشافهة الممدوح والتصريح باسمه خاطب عند ذلك نفسه مبشرا لها بالبعد عن المكروه والقرب من المحبوب ، ثم جاء بالبيت الذي يليه معدولا به عن خطاب نفسه الى خطاب غيره وهو أيضا خطاب لحاضر فقال : «هنالك تلقى الجود». والفائدة بذلك أنّه يخبر غيره بما شاهده كأنه يصف له جود الممدوح وما لاقاه منه إشارة بذكره وتنويها باسمه وحملا لغيره على قصده وفي صفته جود الممدوح بتلك الصفة الغريبة البليغة وهي قوله : «حيث قطّعت تمائمه» ما يقتضي له الرجوع الى خطاب الحاضر ، والمراد بذلك أنّ محل الممدوح هو مألف الجود ومنشؤه ووطنه. وقد يراد به معنى آخر ، وهو أنّ هذا الجود قد أمن عليه الآفات العارضة لغيره من المنّ والمطل والاعتذار وغير ذلك إذ التمائم لا تقطع إلا عمن أمنت عليه المخاوف» (١).

ومن الرجوع من الخطاب الى الغيبة قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)(٢).

والثاني : الرجوع عن الفعل المستقبل الى فعل الأمر وعن الفعل الماضي الى فعل الأمر فالأول كقوله تعالى : (يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ ، وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ ، قالَ : إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)(٣).

ومن الرجوع عن الفعل الماضي الى فعل الأمر قوله تعالى : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(٤).

الثالث : الإخبار عن الفعل الماضي بالمستقبل وعن المستقبل بالماضي ، فالأول كقوله تعالى :(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ)(٥).

وعلى هذا ورد قول تأبط شرا :

بأنّي قد لقيت الغول تهوي

بسهب كالصحيفة صحصحان

فأضربها بلا دهش فخرّت

صريعا لليدين وللجران (٦)

والضرب الثاني وهو المستقبل كقوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ)(٧).

وليس في كتب البلاغة الأخرى أوسع مما ذكر ابن الأثير ، وإن كان القزويني رجع الى السكاكي وأدخل الالتفات في علم المعاني وتبعه شراح تلخيصه كالسبكي والتفتازاني والسيوطي والاسفراييني والمغربي (٨). أما الذين لم يتبعوا السكاكي فقد بحثوه في باب مستقل وإن لم يخرجوا على الاتجاه العام الذي ساد قبلهم (٩) ، غير أنّ المصري قال : «وفي

__________________

(١) المثل السائر ج ٢ ص ١٠ ـ ١١.

(٢) يونس ٢٢.

(٣) هود ٥٣ ـ ٥٤.

(٤) الأعراف ٢٩.

(٥) فاطر ٩.

(٦) السهب ؛ الأرض المستوية. الصحصان ؛ الارض الواسعة. الجران ؛ مقدم العنق.

(٧) النمل ٨٧.

(٨) الايضاح ص ٧١ ، التلخيص ص ٩٤ ، عروس الافراح ج ١ ص ٤٦٣ ، المطول ص ١٣٠ ، المختصر ج ١ ص ٤٦٣ ، شرح عقود الجمان ص ٢٨ ، الاطول ج ١ ص ١٥٣ ، مواهب الفتاح ج ١ ص ٤٦٣.

(٩) الأقصى القريب ص ٤٤ ، الطراز ج ٢ ص ١٣١ ، التبيان ص ١٧٣ ، البرهان الكاشف ص ٣١٣ ، تحرير ص ١٢٣ ، بديع القرآن ص ٤٢ ، نضرة الاغريض ص ١٠٥ ، منهاج البلغاء ص ٣١٥ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١١٦ ، جوهر الكنز ص ١١٩ ، الفوائد ص ٩٨ ، البرهان ج ٣ ـ ـ ص ٣١٤ ، خزانة ص ٥٩ ، معترك ج ١ ص ٣٣٧ ، الاتقان ج ٢ ص ٤١ ، ٨٥ حلية اللب ص ٧٤ ، أنوار الربيع ج ١ ص ٣٦٢ ، نفحات الازهار ص ٥٣ ، التبيان في البيان ص ٢٣٢ ، شرح الكافية ص ٧٨.

١٧٧

الالتفات نوع غير النوعين المتقدمين وهو أن يكون المتكلم آخذا في معنى فيمر فيه الى أن يفرغ من التعبير عنه على وجه ما فيعرض له أنه متى اقتصر على هذا المقدار كان معناه مدخولا من وجه غير الوجه الذي بنى معناه عليه فيلتفت الى الكلام فيزيد فيه ما يخلّص معناه من ذلك الدخل كقول شاعر الحماسة :

فانّك لم تبعد على متعهد

بلى كلّ من تحت التراب بعيد

فانّ هذا الشاعر بنى معناه على أنّ المقبور قريب من الحي الذي يريد تعاهده بالزيارة إذ القبور بأفنية البيوت غالبا ، فلما فرغ من العبارة عن معناه الذي قدّره على هذا التقدير عرض له كأنّ قائلا يقول له : وأي قرب بين الميت المدفون تحت التراب والحي فالتفت متلافيا هذا الغلط بقوله : «بلى كل من تحت التراب بعيد» كأنّ هذا الشاعر بنى معناه على أنّ المقبور الى بعد» (١). وهذا ما سموه الاعتراض والرجوع.

وقال المصري : «والفرق بين الاحتراس والالتفات أنّ الاعتراض والانفصال يكونان في بيت واحد وفي بيتين وفي آية وفي آيتين ، والالتفات لا يكونان فيه إلا في بيت واحد وآية واحدة» (٢).

الالتقاط :

اللّقط أخذ الشيء من الأرض ، لقطه يلقطه لقطا والتقطه : أخذه من الارض واللقطة : اسم الشيء الذي تجده ملقى فتأخذه (٣).

والالتقاط والتلفيق من أنواع السرقات وقد جمعهما الحاتمي في باب واحد وقال : «وهي ترقيع الالفاظ وتلفيقها واجتذاب الكلام من أبيات حتى ينظم بيتا» (٤). ومن التلفيق قول يزيد بن الطثرية :

إذا ما رآني مقبلا غضّ طرفه

كأنّ شعاع الشّمس دوني يقابله

فقوله : «إذا ما رآني مقبلا» من قول جميل :

إذا ما رأوني طالعا من ثنيّة

يقولون من هذا وقد عرفوني

وقوله : «غضّ طرفه» من قول جرير :

فغضّ الطرف إنّك من نمير

فلا كعبا بلغت ولا كلابا

وقوله : «كأنّ شعاع الشمس دوني تقابله» من قول عنترة بن عكبرة الطائي :

إذا أبصرتني أعرضت عني

كأنّ الشمس من قبلي تدور

ومن الالتقاط والترقيع قول ابن هرمة :

كأنّك لم تسر بجنوب خلص

ولم تلمم على الطّلل المحيل

التقطه ولفقه من بيتين أحدهما قول جرير :

كأنك لم تسر ببلاد نعم

ولم تنظر بناظره الخياما

فصدر بيت ابن هرمة من صدر البيت ، وعجزه من قول الكميت :

ألم تلمم على الطّلل المحيل

بفيد وما بكاؤك بالطلول

وقال الحاتمي : «وممن كان يرقع ويلفق مع سعة صدره وغزارة بحره أبو نواس فمن ذلك قوله :

أشمّ طوال الساعدين كأنّما

يناط نجادا سيفه بلواء

__________________

(١) تحرير التحبير ص ١٢٥.

(٢) تحرير ص ١٢٦.

(٣) اللسان (لقط).

(٤) حلية المحاضرة ج ٢ ص ٩٠.

١٧٨

صدر هذا البيت مجتذب من قول المساور بن هند :

أشمّ طوال الساعدين شمردل

يكاد يساوي غارب الفحل غاربه

أو من قول زياد بن عبد الله بن قرة حيث يقول :

أشم طوال الساعدين كأنما

يناط الى جذع طوال حمائله

وقوله : «نجادا سيفه بلواء» من قول العنبري» (١).

وذكر ابن رشيق الالتقاط والتلفيق ولم يعرفهما وانما اكتفى ببعض أمثلة الحاتمي (٢). وعرّف ابن منقذ الالتقاط بقوله : «وهو ما يتطارحه العلماء والشعراء والكتاب بينهم ، وهو أن يطرح بيت ويولد من كل كلمة منه بيت أو من كلمتين أو ثلاثة أو غير ذلك مثلما ذكر في كتاب الصناعتين التلفيق والالتقاط وهو أن يكون البيت ملفقا من ابيات قبله» (٣). وذكر الأمثلة التي ذكرها الحاتمي وابن رشيق.

الإلجاء :

الالجاء من ألجأ أي أسند ، وألجأه الى الشيء : اضطره اليه. والالجاء : الاضطرار (٤).

وقد عرّفه المصري بقوله : «هو أن تكون صحة الكلام المدخول ظاهره موقوفة على الاتيان فيه بما يبادر الخصم الى ردّه بشيء يلجئه الى الاعتراف بصحته. وملخص تعريفه أن يقال : لكل كلام يرد فيه على المعترض عليه جواب مدخول إذا دخله الخصم به التجأ الى تصحيح الجواب» (٥) ، كقوله تعالى :(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ)(٦) ، قال الله تعالى في جواب هذا القول : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)(٧) فان للخصم أن يقول : نحن إنّما أردنا القصص والأخبار ونحن نعلم أنّ الأعجمي إذا القى الكلام الى العربي لا يخرجه عن كونه تعلم معانيه من الأعجمي. فظاهر الكلام لا يصلح أن يكون ردا على المشركين فيقال لهم : هب أنّ الأعجمي علمه المعاني فهذه العبارة الهائلة التي قطعت أطماعكم عن الاتيان بمثلها من علمها له؟ أفان كان هو الذي أتى بها من قبل نفسه كما زعمتم فقد أقررتم أنّ رجلا واحدا منكم أتى بهذا المقدار من الكلام الذي هو مائة سورة وأربع عشرة سورة ، وقد عجزتم بأجمعكم ، وكل من تدعونه من دون الله عن الاتيان بأقصر سورة. فان قلتم : إنّ الاعجمي علمه المعاني والالفاظ فهذا أشد عليكم لأنّه إقرار بأنّ رجلا أعجميا قدر على ما بين من الآيات المتضمنة للأخبار والقصص وقد عجزتم عن ثلاث آيات منهن ، يلجئهم ذلك الى الاقرار بأنّه من عند الله.

وقال السبكي : «هو ذكر اعتراض وجواب» (٨) ، ولم يذكر له أمثلة. ويبدو أنّ المصري انفرد بالحديث عن هذا الفن ، لأنّ «الالتجاء والمعاظلة» الذي ذكره ابن منقذ غير ذلك (٩) ، فالالتجاء والمعاظلة ـ كما تقدم ـ هو ما سماه عبد القاهر الاستعارة غير المفيدة ، والإلجاء الذي ذكره المصري والسبكي هو «ذكر اعتراض وجواب».

إلجام الخصم بالحجّة :

يقال : ألجم الفرس أي وضع له اللجام ، وفي الحديث : «من سئل عما يعلمه فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة» ، أي أنّ الممسك عن

__________________

(١) حلية المحاضرة ج ٢ ص ٩١.

(٢) العمدة ج ٢ ص ٢٨٩.

(٣) البديع في نقد الشعر ص ٢٠١.

(٤) اللسان (لجأ).

(٥) بديع القرآن ص ٢٢٦.

(٦) النحل ١٠٣.

(٧) النحل ١٠٣.

(٨) عروس الافراح ج ٤ ص ٤٧٠.

(٩) البديع في نقد الشعر ص ١٥٨.

١٧٩

الكلام ممثل بمن ألجم نفسه بلجام (١).

وإلجام الخصم بالحجة هو الاحتجاج النظري وقد تقدم ، أو المذهب الكلامي وقد سماه الزركشي «الجام الخصم بالحجة» وقال : «هو الاحتجاج على المعنى المقصود بحجة عقلية تقطع المعاند له فيه.

والعجب من ابن المعتز في بديعه حيث أنكر وجود هذا النوع في القرآن وهو من أساليبه» (٢).

الألغاز :

ألغز الكلام وألغز فيه : عمّى مراده وأضمره على خلاف ما أظهره ، واللغز : ما ألغز من كلام فشبّه معناه ، واللغز : الكلام الملبّس ، وقد ألغز في كلامه يلغز إلغازا إذا ورّى فيه وعرّض ليخفى. واللغز واللغيزى والالغاز : حفرة يحفرها اليربوع في جحرة تحت الأرض (٣).

وكان الخليل بن احمد الفراهيدي قد ذكره فقال : «رأيت أعرابيا يسأل أعرابيا عن البلصوص ما هو؟ فقال : طائر. قال : فكيف تجمعه؟ قال : البلنصى. قال الخليل : «فقد ألغز رجاز فقال : «فما البلصوص يتبع البلنصى» كان لغزا» (٤). وعقد الجاحظ بابا في اللغز والجواب (٥) ، ولكنّ ذلك أقرب الى اسلوب الحكيم.

وقال الحاتمي : «وإنّما سمي اللغز لغزا ؛ لأنّ اللغز والالغاز ما خفي مذهبه وبعد مطلبه مأخوذ من الارض اللغز واللغيزى وهي الخفية» (٦) ، وهذا تعريف لغوي ، ولكنّ ابن وهب قال عنه : «هو قول استعمل فيه اللفظ المتشابه طلبا للمعاياة والمحاجة. والفائدة في ذلك في العلوم الدنيوية رياضة الفكر في تصحيح المعاني واخراجها من المناقضة والفساد الى معنى الصواب والحق وقدح الفطنة في ذلك واستنجاد الرأي في استخراجها» (٧). وذلك مثل قول الشاعر :

ربّ ثور رأيت في جحر نمل

ونهار في ليلة ظلماء

فالثور ههنا القطعة من الأقط وهي اللبن اليابس ، والنهار فرخ الحبارى ، فاذا استخرج هذا صحّ المعنى ، واذا حمل على ظاهر لفظه كان محالا.

وقال الخفاجي : «إن الموضوع على وجه الالغاز قد قصد قائله إغماض المعنى وإخفاءه وجعل ذلك فنا من الفنون التي يستخرج بها أفهام الناس وتمتحن أذهانهم» (٨) وذكر أنّ شيخه أبا العلاء المعري كان يستحسن هذا الفن ويستعمله في شعره كثيرا ، ومنه قوله :

وجبت سرابيّا كأنّ إكامه

جوار ولكن مالهنّ نهود

تمجّس حرباء الهجير وحوله

رواهب خيط والنهار يهود

فألغز بقوله : «جوار» عن الجواري من الناس ، وهو يريد كأنهن يجرين في السراب. وبقوله : «نهود» عن نهود الجواري ، وهو يريد بنهود «نهوض» أي كأنهنّ يجربن في السراب ومالهن على الحقيقة نهوض. وأراد بقوله : «تمجّس حرباء» أي صار لاستقباله الشمس كالمجوس التي تعبدها وتسجد لها وجعل الرواهب النعام لسوادها ، ويهود : يرجع ، وهو يلغز بذلك عن اليهود لمّا ذكر المجوس والرواهب.

والالغاز عند ابن الاثير الاغاليط من الكلام أو الأحاجي وقد يسمى المعمّى قال : «وأما اللغز والاحجية فانّهما شيء واحد ، وهو كل معنى يستخرج بالحدس والحزر لا بدلالة اللفظ حقيقة ومجازا ولا يفهم من عرضه لأنّ قول القائل في

__________________

(١) اللسان (لجم).

(٢) البرهان في علوم القرآن ج ٣ ص ٤٦٨.

(٣) اللسان (لغز).

(٤) مراتب النحويين ص ٦٣.

(٥) البيان ج ٢ ص ١٤٧.

(٦) حلية المحاضرة ج ٢ ص ١٧٨.

(٧) البرهان في وجوه البيان ص ١٤٧.

(٨) سر الفصاحة ص ٢٦٥.

١٨٠