معجم المصطلحات البلاغيّة وتطوّرها

الدكتور أحمد مطلوب

معجم المصطلحات البلاغيّة وتطوّرها

المؤلف:

الدكتور أحمد مطلوب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة لبنان ناشرون
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٥

رجال إذا لم يقبلوا الحقّ منهم

ويعطوه عادوا بالسيوف القواطع

وإنما تمّ جودة المعنى بقوله : «ويعطوه».

وقال التبريزي : «والتكميل أن يذكر الشاعر المعنى فلا يدع من الأحوال التي تتم بها صحته وتكمل معها شيئا إلا أتى به» (١). ونقل البغدادي هذا التعريف (٢).

وقال المصري : «وهو أن يأتي المتكلم أو الشاعر بمعنى من معاني المدح أو غيره من فنون الشعر وأغراضه ثم يرى مدحه والاقتصار على ذلك المعنى فقط غير كامل فيكمله بمعنى آخر» (٣). وعرّفه بمثل ذلك ابن مالك والحلبي والنويري وابن قيم الجوزية والحموي والمدني (٤).

وقال القزويني : «الاطناب بالتكميل أو الإحتراس هو أن يؤتى في كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفعه ، وهو ضربان : ضرب يتوسط الكلام كقول طرفة :

فسقى ديارك ـ غير مفسدها ـ

صوب الربيع وديمة تهمي

وضرب يقع في آخر الكلام كقوله تعالى : (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ)(٥) ، فانّه لو اقتصر على وصفهم بالذلة على المؤمنين لتوهم أنّ ذلتهم لضعفهم فلما قيل : (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) علم أنّها منهم تواضع لهم.

ومنه قول الحماسي :

وما مات منا سيّد في فراشه

ولا طلّ منا حيث كان قتيل (٦)

فانه لو اقتصر على وصف قومه بشمول القتل إياهم لأوهم أنّ ذلك لضعفهم وقلتهم ، فأزال هذا الوهم بوصفهم بالانتصار من قاتلهم.

وتبعه في ذلك شراح تلخيصه كالسبكي والتفتازاني والاسفراييني (٧).

الإطناب بالتّوشيع :

وهو أن يؤتى في عجز الكلام بمثنى مفسر باسمين أحدهما معطوف على الآخر كما جاء في الخبر : «يشيب ابن آدم ويشيب فيه خصلتان : الحرص وطول الأمل». وقول الشاعر :

سقتنيّ في ليل شبيه بشعرها

شبيهة خديها بغير رقيب

فما زلت في ليلين : شعر وظلمة

وشمسين من خمر ووجه حبيب

وقول البحتري :

لما مشين بذي الأراك تشابهت

أعطاف قضبان به وقدود

في حلتي حبر وروض فالتقى

وشيان : وشي ربي ووشي برود

وسفرن فامتلأت عيون راقها

وردان : ورد جنى وورد خدود

ومنه قول الآخر :

أمسي وأصبح من تذكاركم وصبا

يرثي لي المشفقان : الأهل والولد

__________________

(١) الوافي ص ٢٧٤.

(٢) قانون البلاغية ص ٤٤٦.

(٣) تحرير ص ٣٥٧ ، بديع القرآن ص ١٤٣.

(٤) المصباح ص ٩٨ ، حسن التوسل ص ٢٨٧ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٥٧ ، الفوائد ص ٨٩ ، خزانة الأدب ص ١٧٠ ، أنوار الربيع ج ٥ ص ١٨٥.

(٥) المائدة ٥٤.

(٦) طل الرجل ـ بالبناء للمجهول ـ ؛ أهدر دمه.

(٧) الايضاح ص ٢٠٢ ، التلخيص ص ٢٢٩ ، شروح التلخيص ج ٣ ص ٢٣١ ، المطول ص ٢٩٥ ، الاطول ج ٢ ص ٤٦. وينظر معترك ج ١ ص ٣٦٩ ، الاتقان ج ٢ ص ٧٤ ، شرح عقود الجمان ص ٧٤.

١٤١

قد خدّد الدمع خدي من تذكركم

واعتادني المضنيان : الوجد والكمد

وغاب عن مقلتي نومي لغيبتكم

وخانني المسعدان : الصبر والجلد

لا غرو للدمع أن تجري غواربه

وتحته المضرمان : القلب والكبد

كأنما مهجتي شلو بمسبعة

ينتابها الضاريان : الذئب والأسد

لم يبق غير خفيّ الروح في جسدي

فدى لك الباقيان : الروح والجسد (١)

الإطناب بذكر الخاصّ :

ومنه الاطناب بذكر الخاص بعد العام وذلك للتنبيه على فضله حتى كأنه ليس من جنسه تنزيلا للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات كقوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ)(٢) ، وقوله : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى)(٣). ومنه قول المتنبي :

فان تفق الأنام وأنت منهم

فان المشك بعض دم الغزال

وقول ابن الرومي :

كم من أب قد علا بابن ذرى شرف

كما علت برسول الله عدنان (٤)

الإطناب بالزّيادة :

ويكون على أنواع : منها دخول حرف فأكثر من حروف التوكيد كقوله تعالى : (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ)(٥) وقوله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ)(٦).

ومنها دخول الأحرف الزائدة كقوله تعالى : (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا)(٧) ، وقوله : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ)(٨).

ومنها التأكيد الصناعي ، وهو أربعة أقسام :

أحدها : التوكيد المعنوي بـ «كل» و «أجمع» و «كلا» و «كلتا» كقوله تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ)(٩) ، وفائدته رفع توهم المجاز وعدم الشمول.

ثانيها : التأكيد اللفظي وهو تكرار اللفظ الأول إما بمرادفه نحو قوله تعالى : (ضَيِّقاً حَرَجاً)(١٠) ، وإما بلفظه فيكون في الاسم والفعل والحرف والجملة فالاسم نحو قوله تعالى : (قَوارِيرَا. قَوارِيرَا)(١١) وقوله : (دَكًّا دَكًّا)(١٢). والفعل نحو قوله : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً)(١٣). واسم الفعل نحو قوله : (هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ)(١٤). والحرف نحو قوله تعالى : (فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها)(١٥). والجملة نحو قوله تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ

__________________

(١) تحرير ص ٣١٦ ، المصباح ص ٨٠ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٤٨ ، جوهر الكنز ص ٢١٨ ، الايضاح ص ١٩٦ ، التلخيص ص ٢٢٢ ، الطراز ج ٣ ص ٨٩ ، شروح التلخيص ج ٣ ص ٢١٥ ، المطول ص ٢٩٢ ، الاطول ج ٢ ص ٤٢.

(٢) البقرة ٩٨.

(٣) البقرة ٢٣٨.

(٤) الايضاح ص ١٩٧ ، التلخيص ص ٢٢٣ ، شروح التلخيص ج ٣ ص ٢١٦ ، المطول ص ٢٩٢ ، الاطول ج ٢ ص ٤٣ ، البرهان ج ٢ ص ٤١٢ ، شرح عقود الجمان ص ٧٢.

(٥) يس ١٤.

(٦) المؤمنون ١٥ ـ ١٦.

(٧) مريم ٢٩.

(٨) البقرة ١٣٧.

(٩) الحجر ٣٠.

(١٠) الانعام ١٢٥.

(١١) الانسان ١٥ ـ ١٦.

(١٢) الفجر ٢١.

(١٣) الطارق ١٧.

(١٤) المؤمنون ٣٦.

(١٥) هود ١٠٨.

١٤٢

يُسْراً)(١).

وقد تقترن الثانية بـ «ثم» نحو قوله تعالى : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ. ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ)(٢).

ومن هذا النوع تأكيد الضمير المتصل بالمنفصل كقوله تعالى : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ)(٣). ومنه تأكيد المنفصل بمثله كقوله تعالى : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ)(٤).

ثالثها : تأكيد الفعل وهو عوض عن تكرار الفعل مرتين ، وفائدته رفع توهم المجاز في الفعل ، والأصل في هذا النوع أن ينعت بالوصف المراد كقوله تعالى : (اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً)(٥).

رابعها : الحال المؤكدة كقوله تعالى : (وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا)(٦) ، وقوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)(٧).

وفي هذه الأنواع كلها جاء الاطناب بالزيادة لغرض من الأغراض ، فاذا انتفى الغرض لم يعد الاطناب مفيدا (٨).

اعتدال الوزن :

ذكره قدامة ولم يعرّفه ، وقال إنّه كقول من قال : «اصبر على حر اللقاء ومضض النزال وشدة المصاع ودوام المراس» (٩) ، ولو قال : «على حر الحرب ومضض النازلة وشدة الطعن ومداومة المراس» لبطل رونق التوازن ، لان «اللقاء» و «النزال» و «المصاع» و «المراس» بوزن واحد في الحركة والسكون والزوائد.

ومثله قول القائل : «إذا كنت لا تؤتى في نقص كرم ، وكنت لا أوتى من ضعف سبب ، فكيف أخاف منك خيبة أمل أو عدولا عن اغتفار زلل ، أو فتورا عن لم شعث أو إصلاح خلل» ، فجعل «نقصا» بازاء «ضعف» و «كرما» بازاء «سبب» و «عدولا» بازاء «فتور» مناسبة في التقدير وموازنة في البناء ، ولو جعل مكان «كرم» : سماحة ، ومكان «سبب». شكرا ، لبطل التوازن (١٠).

وهذا يدل على أنّ التوازن أو الايقاع مهم في النثر لأنّه يضفي عليه جمالا إذا جاء فير متكلف ، أو كان غير بعيد عن المعنى الذي يقصد الأديب اليه.

الاعتراض :

يقال : اعترض الشيء دون الشيء ، أي : حال دونه ، واعترض فلان الشيء : تكلفه ، واعترض عرضه : نحا نحوه ، واعترض له بسهم : أقبل قبله فرماه فقتله (١١).

وهذا من الفنون التي تحدث عنها المتقدمون وسماه بعضهم التفاتا ، قال الحاتمي عن الالتفات : «وقد سمّاه قوم الاعتراض» (١٢) ، وقال ابن رشيق عنه : «وهو الاعتراض عند قوم» (١٣) ، وقال الصغاني : «ومن أنواع الفصاحة الالتفات ويسمى الاعتراض» (١٤). وهذه تسمية الاصمعي ، فقد حكى الحاتمي وابن رشيق ما روي عن اسحاق بن ابراهيم أنّ الاصمعي قال له : «أتعرف التفاتات جرير»؟ فقال : ما هي؟ وانشده :

أتنسى إذ تودعنا سليمى

بعود بشامة سقي البشام

ثم قال : «ألا تراه مقبلا على شعره ، ثم التفت الى

__________________

(١) الشرح ٥ ـ ٦.

(٢) الانفطار ١٧ ـ ١٨.

(٣) البقرة ٣٥.

(٤) يوسف ٣٧.

(٥) الاحزاب ٤١.

(٦) مريم ٣٣.

(٧) البقرة ٦٠.

(٨) معترك الاقران ج ١ ص ٣٣٣ ، الاتقان ج ٢ ص ٦٤.

(٩) ماصع ؛ قاتل وجالد.

(١٠) جواهر الالفاظ ص ٤.

(١١) اللسان (عرض).

(١٢) حلية المحاضرة ج ١ ص ١٥٧.

(١٣) العمدة ج ٢ ص ٥٤.

(١٤) الرسالة العسجدية ص ١٤٦.

١٤٣

البشام فدعا له» (١)؟ وليس هذا هو الاعتراض الذي قال ابن المعتز عنه : «ومن محاسن الكلام أيضا والشعر اعتراض كلام في كلام لم يتم معناه ثم يعود اليه فيتممه في بيت واحد (٢) كقول كثير :

لو انّ الباخلين ـ وأنت منهم ـ

رأوك تعلّموا منك المطالا

فقد اعترض بقوله ـ وأنت منهم ـ والاعتراض في كلام العرب «كثير قد جاء في القرآن وفصيح الشعر ومنثور الكلام ، وهو جار عند العرب مجرى التأكيد فلذلك لا يشنع عليهم ولا يستنكر عندهم أن يعترض به بين الفعل وفاعله ، والمبتدأ وخبره وغير ذلك مما لا يجوز الفصل فيه بغيره إلا شاذا أو متأولا» (٣).

ودخل هذا الاسلوب في كتب البلاغة وعرّفه العسكري بمثل ما عرفه ابن المعتز وذكر أمثلته (٤) ، واشترط ابن منقذ أن لا تكون الجملة المعترضة زائدة بل يكون فيها فائدة (٥). وقسّمه الرازي الى ثلاثة أقسام (٦) :

الأول : مذموم كقول الشاعر :

وما يشفي صداع الرأس

مثل الصارم العضب

الثاني : وسط كقول امرئ الشاعر :

ألا هل أتاها والحوادث جمّة

بأنّ امرأ القيس بن تملك بيقرا

الثالث : لطيف ، وهو الذي يكسو المعنى جمالا كقوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ)(٧). وأدخله السكاكي في المحسنات المعنوية وقال عنه : «ويسمى الحشو ، وهو تدرج في الكلام ما يتم المعنى بدونه (٨) كقول طرفة :

فسقى ديارك ـ غير مفسدها ـ

صوب الربيع وديمة تهمي

وأشار ابن الأثير الى أنّ بعضهم يسميه حشوا ، ثم قال عنه : «وحدّه كل كلام أدخل فيه لفظ أو مركب لو أسقط لبقي الأول على حاله» (٩). وقال ابن الزملكاني : «هو أن يأتوا في حشو الكلام بما يتم الغرض دونه» (١٠). وذكر ابن مالك أنّ قدامة يسميه التفاتا (١١) ، ولكن الأمثلة التي ذكرها قدمة أقرب الى الرجوع منه الى الاعتراض وإن كان قد قال : «ومن نعوت المعاني الالتفات وهو أن يكون الشاعر آخذا في معنى فكأنه يعترضه إما شك فيه أو ظن بأنّ رادّا يرد عليه قوله أو سائلا يسأله عن سببه فيعود راجعا الى ما قدّمه» (١٢) ، وهذا قريب من الرجوع.

وقال ابن شيث القرشي : «هو أن يذكر قضية ثم يحاشيه منها» (١٣) ، وهو أنواع : منه مثل : «وخشيت أن يمر في ظن سيدنا ـ وحاشاه ـ أن الأمر كذا فيعجل بالمؤاخذة ، وهو أبسط من ذلك علما وأوسع حلما» ، وقول الشاعر :

حسبتك تجفوني بما قال حاسدي

 ـ وحاشاك ـ بل غير الجفا منك أليق

ومنه نوع آخر على طريق المزج أو طريق التفاؤل ،

__________________

(١) حلية المحاضرة ج ١ ص ١٥٧ ، العمدة ج ٢ ص ٤٦ ، وينظر الوافي ص ٢٧٨.

(٢) البديع ص ٥٩.

(٣) الخصائص ج ١ ص ٣٣٥.

(٤) كتاب الصناعتين ص ٣٩٤.

(٥) البديع في نقد الشعر ص ١٣٠.

(٦) نهاية الايجاز ص ١١١ ، الايضاح في شرح مقامات الحريري ص ١٨.

(٧) الواقعة ٧٥ حتى ٧٧.

(٨) مفتاح العلوم ص ٢٠٢.

(٩) المثل السائر ج ٢ ص ١٨٣ ، الجامع الكبير ص ١١٨.

(١٠) التبيان ص ١٧٤.

(١١) المصباح ص ٩٩.

(١٢) نقد الشعر ص ١٦٧.

(١٣) معالم الكتابة ص ٨٠.

١٤٤

ومثاله : «الناس كلهم أبناء الدنيا وأخلاقهم ـ حاشا سيدنا ـ أخلاقها ، فما يراد منهم الوفاء ولا يردّ منهم الجفاء» ، وقول المتنبي :

وتحتقر الدّنيا احتقار مجرّب ـ

يرى كلّ ما فيها ـ وحاشاك ـ فانيا

ومنه نوع آخر وهو حسن ، ومثاله : «وجدت من الألم ـ وعافاك الله ـ كذا وكذا ، فكيف أنكر أن تتنكر عليّ الأيام وتتوالى على جسمي الآلام ، وقد أربيت على الستين ـ ضاعفها الله لك عددا ـ وجعلك بالذكر الجميل بعد العمر الطويل مخلدا» ، وقول الشاعر :

إنّ الثمانين ـ وبلغتها ـ

قد أحوجت سمعي الى ترجمان

وسماه التنوخي اعتراضا (١) ، وقال الحلبي : «وهو الذي سماه الحاتمي وسماه ابن المعتز اعتراض كلام في كلام لم يتم معناه ثم يعود فيتمه» (٢). وذكر ابن الأثير الحلبي أنّهم يسمونه التمام أيضا (٣). وهذه تسمية لم ترد كثيرا في كتب البلاغة إذ استحسن البلاغيون تسميته اعتراضا كالزركشي والقزويني والعلوي وابن قيم الجوزية والسبكي والتفتازاني والسيوطي والاسفراييني والمغربي (٤). وذكر الحموي التسميات السابقة وأشار الى أنّ تسمية ابن المعتز هي «اعتراض كلام في كلام لم يتم معناه» وقال إنّ اسمه التمام وإنّ الحاتمي سماه التتميم (٥) ، وسماه بعضهم الاستدراك والرجوع (٦). ولكنه حينما تحدث عنه عقد له فصلا باسم «الاعتراض» وقال : «هو عبارة عن جملة تعترض بين الكلامين تفيد زيادة في معنى غرض المتكلم» (٧). وفرّق بينه وبين الحشو بقوله : «ومنهم من سماه الحشو وقالوا في المقبول منه «حشو اللوزينج» وليس بصحيح. والفرق بينهما ظاهر وهو أنّ الاعتراض يفيد زيادة في غرض المتكلم والناظم ، والحشو إنما يأتي لاقامة الوزن لا غير. وفي الاعتراض من المحاسن المكملة للمعاني المقصودة ما يتميز به على أنواع كثيرة».

وذكر المدني له عدة مصطلحات كالتمام والتتميم (٨) ، ولكنه عقد له فصلا باسم «الاعتراض» (٩) كما فعل الحموي وغيره ، وقال إنّه «متى خلا عن نكتة سمي حشوا فلا يعد حينئذ من البديع بل هو من المستهجن» وذكر أنّ النكت فيه كثيرة منها التنزيه كما في قوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ ـ سُبْحانَهُ ـ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ)(١٠).

ومنها الدعاء كقول أبي المنهال عوف بن محلم الخزاعي :

إنّ الثمانين ـ وبلغتها ـ

قد أحوجت سمعي الى ترجمان.

ومنها التنبيه كقول الآخر :

واعلم ـ فعلم المرء ينفعه ـ

أن سوف يأتي كلّ ما قدرا.

ومنه تخصيص أحد المذكورين بزيادة التأكيد في أمر علق بهما كقوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ ـ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ

__________________

(١) الأقصى القريب ص ٥٨.

(٢) حسن التوسل ص ٢٢٦ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١١٨.

(٣) جوهر الكنز ص ١٢٨.

(٤) البرهان ج ٣ ص ٥٦ ، الايضاح ص ٢٠٦ ، التلخيص ٢٣١ ، الطراز ج ٢ ص ١٦٧ ، الفوائد ص ٩٤ ، عروس الافراح ج ٣ ص ٢٣٧ ، المطول ص ٢٩٦ ، المختصر ج ٣ ص ٨٣ ، ص ٤٣٧ ، معترك ج ١ ص ٣٧١ ، الاتقان ج ٢ ص ٧٥ ، شرح عقود الجمان ص ٧٥ ، الاطول ج ٢ ص ٤٧ ، مواهب ج ٣ ص ٢٣٧ ، الروض المريع ص ٩٨ ، نفحات ص ٢٥٣.

(٥) خزانة الأدب ص ١٢١.

(٦) خزانة ص ٣٦٧.

(٧) خزانة ص ٣٦٦.

(٨) أنوار الربيع ج ٣ ص ٥٢.

(٩) أنوار الربيع ج ٥ ص ١٣٦.

(١٠) النحل ٥٧.

١٤٥

لِي وَلِوالِدَيْكَ)(١).

ومنها المطابقة والاستعطاف كما في قول المتنبي :

وخفوق قلب لو رأيت لهيبه

 ـ يا جنّتي ـ لرأيت فيه جهنّما

ومنها بيان السبب لأمر فيه غرابة كما في قول الشاعر :

فلا هجره يبدو ـ وفي اليأس راحة ـ

ولا وصله يصفو لنا فنكارمه

ومنها المدح كما في قول أبي محمد الخازن :

فأية طربة للعفو إنّ ال

كريم ـ وأنت معناه ـ طروب

ومما جاء بين كلامين متصلين معنى وهو أكثر من جملة أيضا قوله تعالى : (قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ)(٢). فقوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) ليس من قول أم مريم وإنما هو اعتراض من كلام الله ـ سبحانه ـ والنكتة فيه تعظيم الموضوع وتجهيلها بقدر ما وهب لها منه.

وهذه النكت أشار اليها القزويني وشراح تلخيصه حينما تحدثوا عن «الاطناب بالاعتراض» (٣) :

الإعجاز :

نزل القرآن الكريم فكان حجة بلاغية تحدى العرب بل الانس والجن على أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. وكان العرب يسمعونه فيخرّون لروعته وجماله ساجدين ويتأثرون به تأثرا شديدا وقد دفع المؤلفين فيما بعد الى أن يبحثوا عن ذلك ويوضحوا مسألة إعجاز القرآن ، ويبينوا سر ذلك الاعجاز الذي تحداهم الله به حينما قال : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)(٤).

كان المتكلمون أول من تحدثوا عن إعجازه وبلاغته فقالت المعتزلة ـ إلا النظام وهشاما الفوطي وعباد بن سليمان ـ : «تأليف القرآن ونظمه معجز محال وقوعه منهم كاستحالة إحياء الموتى منهم وانّه علم لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ. وقال النظام : الآية والاعجوبة في القرآن ما فيه من الاخبار عن الغيوب ، فأما التأليف والنظم فقد كان يجوز أن يقدر عليه العباد لو لا أنّ الله منعهم بمنع وعجز أحدثهما فيهم. وقال هشام وعباد : لا نقول إنّ شيئا من الأعراض يدلّ على الله سبحانه وتعالى ـ ولا نقول أيضا إنّ عرضا يدل على نبوة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ. ولم يجعلا القرآن علما للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وزعما أنّ القرآن أعراض» (٥).

ويتضح من ذلك أنّ للمعتزلة رأيين في الاعجاز :

الأول : إنّه معجز بنظمه.

إنّه معجز بالصّرفة.

ورأى الرماني أنّ القرآن معجز ببلاغته ، وهو أعلى طبقات الكلام ، والبلاغة عنده ايصال المعنى الى القلب في أحسن صورة من اللفظ ، وأعلاها طبقة في الحسن بلاغة القرآن ، وأعلى طبقات البلاغة معجز للعرب كإعجاز الشعر المفحم ، فهذا معجز للمفحم خاصة كما إنّ ذلك معجز للكافة (٦).

ويرى الخطّابي أنّ بلاغة القرآن ترجع الى جمال ألفاظه وحسن نظمه وسموّ معانيه وتأثيره في النفوس ، قال : «واعلم أنّ القرآن إنما صار معجزا لأنّه جاء بأفصح

__________________

(١) لقمان ١٤.

(٢) آل عمران ٣٦.

(٣) الايضاح ص ٢٠٦ ، التلخيص ٢٣١ ، شروح التلخيص ج ٣ ص ٢٣٧ ، المطول ص ٢٩٦ ، الأطول ج ٢ ص ٤٧. وينظر المنصف ص ٦٣ ، التبيان في البيان ص ٣١٦ ، شرح الكافية ص ٣٢٠.

(٤) الاسراء ٨٨.

(٥) مقالات السلاميين ج ١ ص ٢٢٥.

(٦) النكت في اعجاز القرآن ص ٦٩.

١٤٦

الالفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمنا أصح المعاني» (١) ، وأشار الى تأثير القرآن في النفوس فقال : «قلت في إعجاز القرآن وجها آخر ذهب عنه الناس فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ من آحادهم وذلك صنيعه في القلوب وتأثيره في النفوس» (٢) وبذلك يكون للخطابي رأيان :

الأول : مجيء القرآن بأفصح الالفاظ وأحسن النظم.

الثاني : تأثيره في النفوس.

وذهب الباقلاني الى أنّ كتاب الله معجز ؛ لأنّه نظم خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلام العرب ولذلك رأى أنّ البديع ليس من الأسباب التي يعلل بها الإعجاز ، قال : «لا سبيل الى معرفة اعجاز القرآن من البديع الذي ادّعوه في الشعر ووصفوه فيه ، وذلك أنّ هذا الفن ليس فيه ما يخرق العادة ويخرج عن العرف ، بل يمكن استدراكه بالتعلم والتدرب به والتصنع له كقول الشعر ورصف الخطب وصناعة الرسالة والحذق في البلاغة» (٣). وبذلك يرى أنّ القرآن معجز باسلوبه ونظمه البديع وألفاظه ، وبأثره في النفوس ، لا بما فيه من وجوه البلاغة او فنونها.

وعاد الخفاجي الى ما قاله النظام في الإعجاز وقرّر أنّ وجه الاعجاز صرف العرب عن معارضة القرآن بأن سلبوا العلوم التي بها كانوا يتمكنون من المعارضة في وقت مرامهم ذلك ، قال : «إنّ الصحيح أنّ وجه الإعجاز في القرآن هو صرف العرب عن معارضته ، وأنّ فصاحته قد كانت في مقدورهم لو لا الصّرف.

وهذا هو المذهب الذي يعوّل عليه أهل هذه الصناعة وأرباب هذا العلم» (٤). ولكنه قال إنّ القائل بالصرف يحتاج الى تحقق الفصاحة ليعرف ما هي ، ليقطع بأنها كانت في مقدورهم ومن جنس فصاحتهم. وذهب الى أن لا فرق بين القرآن وفصيح الكلام المختار في هذه القضية ، ومتى رجع الانسان الى نفسه وكان معه أدنى معرفة بالتأليف المختار وجد في كلام العرب ما يضاهي القرآن في تأليفه (٥). وبذلك يكون للخفاجي رأيان :

الأول : إنّ القرآن خرق العادة بفصاحته التي وقع التزايد فيها موقعا خرج عن مقدور البشر ، ولكنه جعل القرآن طبقات في الفصاحة.

الثاني : الصّرفة.

وذهب عبد القاهر الجرجاني الى أنّ كتاب الله معجز بنظمه أي أنّه يعود الى تلاؤم المعاني في الكلمات المفردة تلاؤما يؤدي الى الغرض ، لأنّ الالفاظ «لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة ولا من حيث هي كلم مفردة وإنّما تثبت لها الفضيلة وخلافها في ملائمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها وما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ» (٦). فعبد القاهر يرجع الإعجاز الى النظم والتأليف ، ولكنه يرى أنّ إدراك هذين الأمرين يعود الى الذوق والاحساس الروحاني وكثرة الاطلاع على كلام العرب وتذوقه (٧).

وذهب الزمخشري الى أنّ القرآن معجز من جهتين :

الأولى : ما فيه من الاخبار عن الغيوب.

الثاني : نظمه ، وهذا عنده أمّ الإعجاز والقانون الذي وقع عليه التحدي ومراعاته أهم ما يجب على المفسر (٨). وهو بذلك يتابع عبد القاهر ، ولأجل إيضاح ذلك طبّق قوانين البلاغة على كتاب الله ، وقال إنّ المفسر لا يستطيع أن يغوص على معانيه ما لم يكن بارعا في علمين مختصين به هما : علم المعاني

__________________

(١) بيان إعجاز القرآن ص ٢٤.

(٢) بيان إعجاز القرآن ص ٦٤.

(٣) إعجاز القرآن ص ١٦٨.

(٤) سر الفصاحة ص ٢٦٥.

(٥) سر الفصاحة ص ١١٠.

(٦) دلائل الاعجاز ص ٣٨.

(٧) دلائل الاعجاز ص ٢٩٩.

(٨) الكشاف ج ١ ص ٧٧.

١٤٧

وعلم البيان.

ورأى الرازي أنّ إعجاز الكتاب العزيز وبلاغته راجعان الى الفصاحة التي يشتمل عليها نظمه وبدائعه (١).

واستعرض السكاكي الآراء في الإعجاز فوجد أنها أربعة ثم أورد وجها خامسا رآه أحسن الآراء وخير الوجوه ، وقال : «فهذه أقوال أربعة يخمّسها ما يجده أصحاب الذوق أنّ وجه الاعجاز هو أمر من جنس البلاغة والفصاحة ولا طريق لك الى هذا الخامس إلا طول خدمة هذين العلمين ـ المعاني والبيان ـ بعد فضل إلهي من هبة يهبها بحكمته من يشاء ، وهي النفس المستعدة لذلك فكل ميسر لما خلق له ، ولا استبعاد في انكار هذا الوجه ممن ليس معه ما يطلع عليه ، فلكم سحبنا الذيل في إنكاره ثم ضممنا الذيل ما ان ننكره ، فله الشكر على جزيل ما أولى ، وله الحمد في الآخرة والأولى» (٢). وانتهى الى أنّ شأن الاعجاز يدرك ولا يوصف كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها وكالملاحة ، قال : «ومدرك الاعجاز عندي هو الذوق ليس إلا ، وطريق اكتساب الذوق خدمة هذين العلمين ـ المعاني والبيان ـ نعم للبلاغة وجوه ملتثمة ربما تيسرت إماطة اللثام عنها لتجلى عليك أما نفس وجه الاعجاز فلا» (٣). وهذه نظرة تعتمد على الذوق والادراك الروحاني أكثر من اعتمادها على التعليلات التي أوردها كثير من العلماء. وهذا ما يحمد للسكاكي الذي عاش في زمن تحكّم المنطق فيه وأخذت النظرة العقلية تطغى في التعليل والتفسير.

وكان لهذه الآراء وغيرها أثر في دراسة البلاغة لأنّها دفعت الناس الى الوقوف على أساليبه وما فيه من فنون القول ، ولذلك كانت معظم كتب «إعجاز القرآن» كتبا بلاغية ، وهذا من فضل القرآن العظيم.

الأعداد :

تحدّث الرازي عن التّعديد وقال : «هو إيقاع الأعداد من الأسماء المفردة في النثر والنظم على سياق واحد ، فإن روي فيه ازدواج أو تجنيس أو مطابقة أو مقابلة أو نحوها فذلك في غاية الحسن» (٤). ومنه قول القائل : «فلان اليه الحلّ والعقد والقبول والردّ والأمر والنهي والإثبات والنفي» ، وقول المتنبي :

الخيل والليل والبيداء تعرفني

والطّعن والضّرب والقرطاس والقلم

وقال ابن الزملكاني : «هو إيقاع الألفاظ المفردة على سياق واحد» (٥) ، كقوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)(٦) ، وقوله : (الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ)(٧).

وقال الحلبي والنويري إنه يسمّى : «سياقة العدد» أو «سياقة الأعداد» ونقلا كلام الرازي ومثاليه :النثري والشعري (٨). وكان الثعالبي قد سمّاه «سياقة الأعداد» (٩). وفعل مثل ذلك الوطواط الذي قال : «سياقة الأعداد : وتكون هذه الصنعة بأن يسوق الكاتب أو الشاعر في نثره أو نظمه عددا من الأسماء المفردة على نسق واحد بحيث يكون كل واحد من هذه الأسماء له معنى قائم بذاته ويكون اسما كذلك لشيء آخر. وهذه الصنعة أكثر قبولا وأشد أسرا إذا اقترنت بازدواج اللفظ أو التجنيس أو التضاد أو أي صنعة أخرى من

__________________

(١) نهاية الايجاز ص ٧.

(٢) مفتاح العلوم ص ٢٤٣.

(٣) مفتاح العلوم ص ١٩٦.

(٤) نهاية الايجاز ص ١١٣ ، وينظر الايضاح في شرح مقامات الحريري ص ٢١.

(٥) التبيان ص ١٧٧.

(٦) البقرة ٢٥٥.

(٧) الحشر ٢٤.

(٨) حسن التوسل ص ٢٤٧ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٣٠.

(٩) يتيمة الدهر ج ١ ص ٢١٢.

١٤٨

صناعات البلاغة» (١) وقال ابن قيم الجوزية «ويسمى أيضا سياق الأعداد» (٢) ، وذكر تعريف الرازي ومثاليه وأمثلة أخرى من القرآن الكريم كقوله تعالى : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ)(٣). ولا يخرج كلام الزركشي عن كلام السابقين وإن أضاف : «وأكثر ما يؤخذ في الصفات ومقتضاها ألّا يعطف بعضها على بعض لاتحاد محلها ويجري مجرى الوصف في الصدق على ما صدق» (٤).

وهذا ما سماه غير المتقدّمين «الأعداد» قال الحموي : «هذا النّوع أعني التعديد ذكره الإمام فخر الدين الرازي وغيره وسماه قوم الأعداد» (٥) ، ويبدو من هذا الكلام أنّ التعديد أو الأعداد من استخراج الرازي غير أنّ الثعالبي والوطواط ذاكره قبله.

ولم يخرج الآخرون عن كلام الرازي وسمّوه تعديدا أو سياقة الأعداد وسياقة العدد (٦).

الإعراض :

الاعراض عن الشيء : الصّدّ عنه ، وأعرض عنه : صدّ (٧).

وقد سمّاه ابن الزملكاني : «الإعراض عن صريح الحكم» وقال : «تيقظ لهذا الفن فانّه دقيق السلك ، لبيق السبك ، ويجيء على وجوه شتى» (٨) ، ومن ذلك قوله تعالى : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ)(٩). أعرض عن ذكر مقدار الجزاء والثواب وذكر ما هو معلم مشترك بين جميع أعمال البر تضخيما لمقدار الجزاء لما فيه من إبهام المقدار وتنزيلا له منزلة ما قد علم ، فهو غير محتاج الى بيانه. وهذا على حدّ قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : إنّما الأعمال بالنيات ، وإنّما لامرىء ما نوى ، فمن كانت هجرته الى الله ورسوله فهجرته الى الله ورسوله».

أعرض عن ذكر الجزاء الى اعادة الشرط تنبيها على وضوح ما ينال وتضخيما لشأن ما أتى من العمل وصار السكوت عن مراتب الثواب أبلغ من بيانها. والى ذلك ذهب الزركشي ونقل كلام ابن الزملكاني (١٠).

الإعنات :

العنت : دخول المشقة على الانسان ولقاء الشدة ، يقال : أعنت فلان فلانا إعناتا إذا أدخل عليه عنتا أي مشقة ، والإعنات : تكليف غير الطاقة (١١).

والإعنات في البلاغة من تسمية ابن المعتز الذي قال : «ومن إعنات الشاعر نفسه في القوافي وتكلفه من ذلك ما ليس له» (١٢) قول الشاعر :

عصاني قومي والرشاد الذي به

أمرت ومن يعص المجرّب يندم

فصبرا بني بكر على الموت إنّني

أرى عارضا ينهلّ بالموت والدم

وسماه بعضهم لزوم ما لا يلزم ، والتضييق ، والتشديد ، والالتزام (١٣) ، وذكر ابن الأثير الحلبي أنّ تجاهل

__________________

(١) حدائق السحر ص ١٤٩.

(٢) الفوائد ص ١٦٤.

(٣) الحشر ٢٣.

(٤) البرهان ج ٣ ص ٤٧٥.

(٥) خزانة الأدب ص ٤١٦.

(٦) معترك ج ١ ص ٣٩٧ ، الاتقان ج ٢ ص ٩٠ ، شرح عقود الجمان ص ١٤٩ ، حلية اللب ص ١٦٦ ، أنوار الربيع ج ٦ ص ١٢٨ ، نفحات ص ٢١٣.

(٧) اللسان (عرض).

(٨) البرهان الكاشف ص ٣١٢.

(٩) النساء ١٠٠.

(١٠) البرهان في علوم القرآن ج ٣ ص ٤١١.

(١١) اللسان (عنت).

(١٢) البديع ص ٧٤. وينظر الغيث المسجم ج ١ ص ٧٢.

(١٣) الوافي ص ٢٩٥ ، قانون البلاغة ص ٤٥٨ ، الايضاح في شرح مقامات الحريري ص ١٦ ، الفوائد ص ٢٣٤ ، خزانة الأدب ص ٤٣٤ ، شرح عقود الجمان ص ١٥٥ ، أنوار الربيع ج ٦ ص ٩٣.

١٤٩

العارف يقال للاعنات (١). ولكنّ الفنّين مختلفان وقد شاع في الكتب مصطلح «لزوم ما لا يلزم» أكثر من شيوع مصطلح ابن المعتز ، والاثنان واردان وصحيحان ؛ لأنّ الإعنات هو إلزام الشاعر نفسه بما لا ينبغي. قال ابن الأثير : «وهو من أشق هذه الصناعة مذهبا وأبعدها مسلكا. وذلك لأنّ مؤلفه يلتزم ما لا يلزمه ، فان اللازم في هذا الموضع وما جرى مجراه إنّما هو السجع الذي هو تساوي أجزاء الفواصل من الكلام المنثور في قوافيها ، وهذا فيه زيادة على ذلك وهو أن تكون الحروف التي قبل الفاصلة حرفا واحدا وهو في الشعر أن تتساوى الحروف التي قبل رويّ الأبيات الشعرية» (٢).

وزاد العلوي في تعريفه فقال : «ويقال له : الاعنات ، ويرد في المنظوم والمنثور من الكلام ، ومعناه في لسان علماء البيان أن يلتزم الناظم قبل حرف الرويّ حرفا مخصوصا أو حركة مخصوصة من الحركات قبل حرف الروي أيضا وهكذا القول في الردف فانه يجعله على حدّ حرف متماثل وهكذا إذا ورد في النثر يكون على هذه الطريقة. فحاصل الأمر في لزوم ما لا يلزم هو أن يلتزم حرفا مخصوصا قبل حرف الروي من المنظوم أو حركة مخصوصة» (٣).

وقال الحلبي : «هو أن يعنت نفسه في التزام ردف أو دخيل أو حرف مخصوص قبل حرف الروي أو حركة مخصوصة» (٤). وذكر النويري هذا التعريف (٥).

وقال ابن مالك : «الالتزام أن يلتزم المتكلم في السجع أو التقفية قبل حرف الروي ما لا يلزمه من مجيء حرف بعينه أو حرفين أو أكثر ، ويحمد منه ما عدم الكلفة لدلالته على الاقتدار وقوة المادة» (٦).

وقريب من هذا تعريف المصري الذي قال : «هو أن يلتزم الناثر في نثره أو الشاعر في شعره قبل رويّ البيت من الشعر حرفا فصاعدا على قدر قوته وبحسب طاقته مشروطا بعدم الكلفة (٧). وتعريف الحموي والسيوطي (٨).

وقد ورد هذا الفن في القرآن الكريم (٩) إلّا أنه يسير ، ومن ذلك قوله تعالى : (وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ)(١٠) ، وقوله : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ)(١١) ، وقوله : (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ. وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ)(١٢) ، وقوله : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ. وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ)(١٣).

ومن الشعر قول عروة بن أذينة :

إنّ التي زعمت فؤادك ملّها

خلقت هواك كما خلقت هوى لها

بيضاء باكرها النعيم فصاغها

بلباقة فأدقّها وأجلّها

واذا وجدت لها وساوس سلوة

شفع الضمير الى الفؤاد فسلّها

ومن التزام حركة الفتح قبل حرف الروي قول ابن الرومي :

لما تؤذن الدنيا به من صروفها

يكون بكاء الطفل ساعة يولد

__________________

(١) جوهر الكنز ص ٢٠٨.

(٢) المثل السائر ج ١ ص ٢٦٧.

(٣) الطراز ج ٢ ص ٣٩٨.

(٤) حسن التوسل ص ٢٢٠.

(٥) نهاية الارب ج ٧ ص ١١٣.

(٦) المصباح ص ٨١.

(٧) تحرير التحبير ص ٥١٧ ، بديع القرآن ص ٢٢٧.

(٨) خزانة ص ٤٣٤ ، معترك ج ١ ص ٥١ ، شرح عقود الجمان ص ١٥٥ ، نفحات ص ٣١٦.

(٩) ينظر تحرير ص ٥١٧ ، بديع القرآن ص ٢٢٧ ، خزانة ص ٤٣٥ ، معترك ج ١ ص ٥١ ، أنوار الربيع ج ٦ ص ٩.

(١٠) الطور ١ ـ ٢.

(١١) التكوير ١٥ ـ ١٦.

(١٢) الانشقاق ١٧ ـ ١٨.

(١٣) الضحى ٩ ـ ١٠.

١٥٠

وإلّا فما يبكيه منها وإنّه

لأوسع مما كان فيه وأرغد

إذا أبصر الدنيا استهلّ كأنّه

بما سوف يلقى من أذاها يهدّد

وكان هذا الفنّ في العهود الاولى يأتي سهلا منقادا في البيتين والثلاثة ، وقد يأتي في العشرين كما في قصيدة كثيّر عزّة التي يقول فيها :

خليليّ هذا ربع عزّة فاعقلا

قلوصيكما ثم احللا حيث حلّت

وما كنت أدري قبل عزّة ما البكا

ولا موجعات القلب حتى تولّت

هنيئا مريئا غير داء مخامر

لعزة من أعراضنا ما استحلّت

فما أنا بالداعي لعزة بالجوى

ولا شامت إن نعل عزّة زلّت

وإنّي وتهيامي بعزّة بعد ما

تخلّيت مما بيننا وتخلّت

لكا لمرتجي ظلّ الغمامة كلّما

تبوأ منها للمقيل اضمحلّت

ولكن المتأخرين أسرفوا في استعماله ، ونظم ابو العلاء ديوانا سماه «اللزوميات» والتزم فيه بهذا الفن كل الالتزام. ومعظم البلاغيين لا يستسيغون الاعنات إذا جاء متكلفا ، وقد قال الخفاجي : «وليس يغتفر للشاعر إذا نظم على هذا الفن لأجل ما ألزم نفسه ما لا يلزمه شيء من عيوب القوافي ؛ لأنه إنما فعل ذلك طوعا واختيارا من غير إلجاء ولا إكراه. ونحن نريد الكلام الحسن على أسهل الطرق وأقرب السبل وليس بنا حاجة الى المتكلف المطرح وإن ادّعى علينا قائله أنّ مشقة نالته وتعبا مرّ به في نظمه» (١).

وفرّق ابن الأثير بين المتكلف وغير المتكلف فقال : «أما المتكلف فهو الذي يأتي بالفكرة والروية وذلك أن ينضى الخاطر في طلبه ويبعث على تتبعه واقتصاص أثره ، وغير المتكلف يأتي مستريحا من ذلك كله ، وهو أن يكون الشاعر في نظم قصيدته أو الخطيب أو الكاتب في انشاء خطبته أو كتابه ، فبينا هو كذلك إذ سنح له نوع من هذه الأنواع بالاتفاق لا بالسعي والطلب. ألا ترى الى قول أبي نواس في مثل هذا الموضع :

اترك الاطلال لا تعبأ بها

إنّها من كلّ بؤس دانيه

وانعت الراح على تحريمها

إنّما دنياك دار فانيه

من عقار من رآها قال لي :

صيدت الشمس لنا في آنيه

وألحق بهذا الفن تصغير الكلمات الأخيرة من الشعر أو من فواصل الكلام المنثور كقول بعضهم :

عزّ على ليلى بذي سدير

سوء مبيتي ليلة الضمير

مقضّبا نفسي في طمير

تنتهز الرعدة في ظهيري

يهفو اليّ الزور من صديري

ظمآن في ريح وفي مطير

وازر قرّ ليس بالغرير

من لد ما ظهر الى سحير

حتى بدت لي جبهة القمير

لأربع خلون من سهير (٢)

الإغارة :

أغار على القوم إغارة وغارة : دفع عليهم الخيل ، وقيل : الإغارة المصدر والغارة الاسم من الاغارة على

__________________

(١) سر الفصاحة ص ٢١٢.

(٢) المثل السائر ج ١ ص ٢٧٥ : الجامع الكبير ص ٢٦٧.

١٥١

العدو (١).

والاغارة من السرقات ، قال الحاتمي : «وهو أن يسمع الشاعر المفلق والفحل المتقدم الأبيات الرائعة ندرت لشاعر في عصره وباينت مذاهبه في أمثالها من شعره ويكون بمذهب ذلك الشاعر المغير أليق وبكلامه أعلق فيغير عليها مصافحة ويستنزل شاعرها عنها قسرا بفضل الاغارة فيسلمها اليه اعتمادا لسلمه ومراقبة لحربه وعجزا عن مساجلة يمينه» (٢).

وقال ابن رشيق في باب السرقات : «الاغارة : أن يصنع الشاعر بيتا ويخترع معنى مليحا فيتناوله من أعظم منه ذكرا وأبعد صوتا فيروى له دون قائله كما فعل الفرزدق بجميل وقد سمعه ينشد :

ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا

وإن نحن أومأنا الى الناس وقّفوا

فقال : متى كان الملك في بني عذرة؟ إنما هو في مضر وأنا شاعرها ، فغلب الفرزدق على البيت ولم يتركه جميل ولا أسقطه من شعره ، وقد زعم بعض الرواة أنّه قال له : تجاف لي عنه ، فتجافى جميل عنه ، والأول أصح. فما كان هكذا فهو إغارة ، وقوم يرون أنّ الإغارة أخذ اللفظ بأسره والمعنى بأسره ، والسّرق أخذ بعض اللفظ أو بعض المعنى ، كان ذلك لمعاصر أو قديم» (٣). ونقل الصنعاني هذا الكلام (٤). وقال المظفر العلوي : «هي ادعاء اللفظ والمعنى من غير أن يفكر الشاعر او يتعنّى ، فما ذم شاعر في السرقات بأقبح منها» (٥) وقال : هي «أقبح وجوه السرقات وأشنعها وأدناها منزلة وأوضعها» (٦).

ومن الاغارة ما قاله ذو الرّمة : لقيت الفرزدق يوما فقلت له : لقد قلت أبياتا إنّ لها لعروضا ، وإنّ لها لمرادا ومعنى بعيدا. فقال لي : ما قلت؟ قلت : قلت :

أحين أعاذت بي تميم نساءها

وجُرّدت تجريد اليماني من الغمد

ومدّت بضبعيّ الرباب ومالك

وعمر وشالت من ورائي بنو سعد

ومن آل يربوع زهاء كأنّها

دجى الليل محمود النكاية والورد

فقال له الفرزدق : لا تعودنّ بها ، فأنا أحق بها منك.

فقال : والله لا أعود فيها أبدا وما أرويها إلا لك فهي في قصيدة الفرزدق التي يقول فيها :

وكنّا إذا القيسيّ نبّ عتوده

ضربناه فوق الانثيين على الكرد

وكان الأحوص بقباء فمرّ عليه موسى شهوات فأنشد قصيدة له حتى مرّ بهذا البيت :

وكذاك الزمان يذهب بالنا

س وتبقى الديار والآثار

فقال الأحوص على رويّها قصيدة أولها :

ضوء نار بدا لعينك أم شبّ

ت بذي الأثل من سلامة نار

فأدخل فيها هذا البيت فقال موسى شهوات : «ما رأيت مثلك يا أحوص ، أنشدتك قصيدة لي فذهبت بأفضل بيت فيها فقال الأحوص : «والله ما هو لي ولا لك ، وما هو إلا للبيد حيث يقول :

وكذاك الزمان يذهب بالنا

س وتبقى الديار والآثار

فعفا آخر الزمان عليهم

فعلى آخر الزمان الديار (٧)

الإغراب :

الإغراب هو الاستغراب وقد تقدم ، وذلك بأن يأتي

__________________

(١) اللسان (غور).

(٢) حلية المحاضرة ج ٢ ص ٣٩.

(٣) العمدة ج ٢ ص ٢٨٤.

(٤) الرسالة العسجدية ص ٥٤.

(٥) نضرة الأغريض ص ٤٤٥.

(٦) نضرة الاغريض ص ٢١٧.

(٧) حلية المحاضرة ج ٢ ص ٣٩ ـ ٤١.

١٥٢

المتكلم بمعنى غريب نادر لم يسمع بمثله أو سمع وهو قليل الاستعمال. وسماه قوم النوادر (١).

الإغراق :

أغرق في الشيء : جاوز الحد ، وأصله من نزع السهم (٢) والاغراق فوق المبالغة ودون الغلو (٣) ، وقد سماه ثعلب «الافراط في الاغراق» (٤) ولم يعرّفه كقول امرئ القيس :

وقد أغتدي والطير في وكناتها

بمنجرد قيد الأوابد هيكل

وذكر ابن المعتز «الافراط في الصفة» (٥) وسماه الرازي «الاغراق في الصفة» (٦) وهي تسمية الوطواط (٧).

وتحدث عنه العسكري في باب الغلو وقال : «الغلو تجاوز حد المعنى والارتفاع فيه الى غاية لا يكاد يبلغها» (٨) كقوله تعالى : (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ)(٩) وقول الشاعر :

يتقارضون إذا التقوا في موطن

نظرا يزيل مواطن الأقدام

وقال الحاتمي : «وبعضهم يسميه الغلو» ثم قال : «وجدت العلماء بالشعر يعيبون على أبيات الاغراق ويختلفون في استهجانها واستحسانها ويعجب بعض منهم بها وذلك على حسب ما يوافق طباعه واختياره ، ويرون أنها من إبداع الشاعر الذي يوجب الفضلة له.

ويقولون : «إنّ أحسن الشعر أكذبه» وان الغلو إنما يراد به المبالغة. قالوا : واذا أتى الشاعر من الغلو بما يخرج به عن الموجود ويدخل في باب المعدوم فانما يراد به المثل وبلوغ الغاية في النعت. واحتجوا بقول النابغة وقد سئل : من أشعر الناس؟ فقال : «من استجيد كذبه وأضحك رديّه». وقد طعن على هذا المذهب لمنافاته الحقيقية ، وانه لا يصحّ عند التأمل والفكرة» (١٠).

وسماه ابن رشيق الغلو وقال إنّ من أسمائه :

الإغراق والإفراط (١١) ، وربط بين الغلو والاغراق في المعنى ، فالأول مشتق من «المغالاة ومن غلوة السهم وهي مدى رميته» والثاني «أصله في الرمي وذلك أن تجذب السهم في الوتر عند النزع حتى تستغرق جميعه بينك وبين حنية القوس». ثم قال : «وهذه التسمية تدلّ على ما نحوت اليه وأشرت نحوه» (١٢). وقال : إنّ «أحسن الاغراق ما نطق فيه الشاعر أو المتكلم بـ «كاد» أو ما شاكلها نحو «كأن» و «لو» و «لو لا» (١٣).

وفرّق المصري بين الاغراق والغلو فقال : «وقد رأيت من لا يفرق بين الغلو والاغراق ويجعل التسميتين لباب واحد. وعندي أنّ معنى البابين مختلف كاختلاف اسميهما إلا أنّ الاغراق أصله في النزع وأصل الغلو بعد الرمية وذلك أنّ الرامي ينصب غرضا يقصد إصابته فيجعل بينه وبينه مدى يمكن معه تحقيق ذلك الغرض فاذا لم يقصد غرضا معينا ورمى السهم الى غاية ما ينتهي اليه بحيث لا يجد مانعا يمنعه من استيفاء السهم قوته في البعد سميت هذه الرمية غلوة ، فالغلو مشتق منها. ولما كان الخروج عن الحق الى الباطل يشبه خروج هذه الرمية عن حدّ الغرض المعتاد الى غير حدّ سمّي غلوا» (١٤) وقال ابن مالك

__________________

(١) ينظر نقد الشعر ص ١٧٠ ، البديع في نقد الشعر ص ١٣٢ ، تحرير التحبير ص ٥٠٦ ، بديع القرآن ص ٢٢٢ ، جوهر الكنز ص ٢٢٧ ، خزانة الادب ص ٢٢٣ ، أنوار الربيع ج ٥ ص ٣٣٨.

(٢) اللسان (غرق) وينظر المنصف ص ٧٨.

(٣) ينظر تحرير ص ٣٢١.

(٤) قواعد الشعر ص ٤٠.

(٥) البديع ص ٦٥.

(٦) نهاية الايجاز ص ١١٤.

(٧) حدائق السحر ص ١٧٥.

(٨) كتاب الصناعتين ص ٣٥٧.

(٩) الاحزاب ١٠.

(١٠) حلية المحاضرة ج ١ ص ١٩٥.

(١١) العمدة ج ٢ ص ٦٠.

(١٢) العمدة ج ٢ ص ٦٥.

(١٣) العمدة ج ٢ ص ٦٤.

(١٤) تحرير التحبير ص ٣٢٣.

١٥٣

عن الاغراق إنّه قسمان أحسنهما وأدخلهما في القبول ما اقترن به ما يقربه من حد الصحة كـ «قد» و «كاد» و «لو» و «لو لا» وحرف التشبيه. وقال عن الغلو إنّ المقبول منه «أن لا يتضمن دعوى كون الوصف على مقدار غير ممكن الوصف بما هو خارج عن طباق الموصوف» (١).

ولكنّ معظم البلاغيين آثروا مصطلح «الإغراق» وقد قال ابن منقذ عنه : «هو أن يبالغ في الشيء بلفظه ومعناه» (٢) ، وقال الحلبي : «هو فوق المبالغة ودون الغلوّ» (٣) ، وقال عن الغلوّ : «ومنهم من يجعله هو والإغراق شيئا واحدا». (٤) وذكر النويري مثل ذلك (٥).

وجمع ابن الاثير الحلبي الإغراق والغلوّ والمبالغة في باب واحد وقال : «هي ثلاث تسميات متقاربة وردت في باب واحد لقرب بعضها من بعض» (٦) ، وقال في الإغراق : «هو الزيادة في المبالغة حتى يخرجها عن حدّها». وفي الغلوّ : «هو زيادة في الخروج عن الحدّ». وفي المبالغة : «بلوغ القصد في المعنى من غير تجاوز في الحدّ». ومثّل للإغراق بقول ابن المعتزّ :

صببنا عليها ظالمين سياطنا

فطارت بها أيد سراع وأرجل

وللغلو بقول الشاعر :

تظلّ تحفر عنه إن ضربت به

بعد الذراعين والساقين والهادي

وللمبالغة بقول الآخر :

تصرّم الدهر لا وصل فيطمعني

فيما لديك ولا نأي فيسليني

وكيف أعجب من عصيان قلبك لي

يوما إذا كان قلبي فيك يعصيني

والإغراق عند العلوي أحد أنواع المبالغة وقد قال عنه إنّه «ما كان ممكن الوقوع لكنه ممتنع وقوعه في العادة» (٧) كقول المتنبّي :

كفى بجسمي نحولا إنّني رجل

لو لا مخاطبتي إيّاك لم ترني

وحصر القزويني المبالغة في التبليغ والإغراق والغلوّ لأنّ «المدعي للوصف من الشدة أو الضعف إما إن يكون ممكنا في نفسه ، والثاني الغلو ، والاول إما أن يكون ممكنا في العادة أو لا ، الأوّل التبليغ ، والثاني الإغراق» (٨). وذكر للإغراق قول الشاعر :

ونكرم جارنا ما دام فينا

ونتبعه الكرامة حيث مالا

وتبعه في ذلك شرّاح تلخيصه والسيوطي (٩). ووضع الحموي الإغراق فوق المبالغة ودون الغلوّ وقال عنه : «هو في الاصطلاح إفراط وصف الشيء بالممكن البعيد وقوعه عادة» (١٠) ، وقال المدني : «الإغراق هو أن تدّعي لشيء وصفا بالغا حدّ الإمكان عقلا والاستحالة عادة» (١١).

ومن الإغراق الى جانب ما تقدّم قول امرئ القيس :

تنوّرتها من أذرعات وأهلها

بيثرب أدنى دارها نظر عال

فإنّ أذرعات في الشام ويثرب في الحجاز ، وبينهما ما بينهما من الجبال.

__________________

(١) المصباح ص ١٠٣.

(٢) البديع في نقد الشعر ص ٨٣.

(٣) حسن التوسل ص ٢٧٦.

(٤) حسن التوسل ص ٢٧٦.

(٥) نهاية الارب ج ٧ ص ١٤٩.

(٦) جوهر الكنز ص ١٣٥.

(٧) الطراز ج ٣ ص ١٢٧.

(٨) الايضاح ص ٣٦٥ ، التلخيص ص ٣٧٠.

(٩) شروح التلخيص ج ٤ ص ٣٦٠ ، المطول ص ٤٣٤ ، الاطول ج ٢ ص ٢٠٧ ، شرح عقود الجمان ص ١٢٢ ، حلية اللب ص ١٤١ ، شرح الكافية ص ١٥٢.

(١٠) خزانة الادب ص ٢٢٧ ، نفحات ص ٢٠٦.

(١١) أنوار الربيع ج ٤ ص ٢١٩.

١٥٤

وقول ابن الفارض :

كأني هلال الشّكّ لو لا تأوّهي

خفيت فلم تهد العيون لرؤيتي

وقول مجنون ليلى :

ألا إنّما غادرت يا أمّ مالك

صدى أينما تذهب به الريح يذهب

وقول بشار :

في حلّتي جسم فتى ناحل

لو هبّت الريح به طاحا

افتتاحات الكلام :

هي الابتداء أو حسن الابتداء أو حسن الافتتاح ، وهذه تسمية التنوخي الذي قال : «وأما افتتاحات الكلام وخواتمه فينبغي لمن نظم شعرا أو ألف خطبة أو كتابا أن يفتتحه بما يدل على مقصوده منه ويختمه بما يشعره بانقضائه ، وأن يقصد ما يروق من الالفاظ والمعاني لاستمالة سامعيه اليه» (١).

الافتنان :

يفنن الرجل الكلام أي يشتق في فن بعد فن ، ورجل مفنّ : يأتي بالعجائب وامرأة مفنّة ، وافتنّ الرجل في حديثه وفي خطبته إذا جاء بالأفانين وهو مثل أشتق. وافتن الرجل في كلامه : اذا توسع وتصرف ، وافتن : أخذ في فنون من القول (٢).

والافتنان من الفنون التي ابتدعها المصري وقال عنه : «أن يفتن المتكلم فيأتي بفنين متفاوتين من فنون الكلام في بيت واحد أو جملة واحدة مثل النسيب والحماسة والهجاء والهناء والعزاء» (٣). كقوله تعالى : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا)(٤) فقد جمعت هذه اللفظات التي هي بعض آية الوعد والوعيد والتبشير والتحذير. وقوله : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ)(٥).

فقد جمعت هاتان الآيتان التعزية والفخر.

ومنه قول عبد الله بن طاهر بن الحسين.

أحبك يا ظلوم وأنت عندي

مكان الروح من جسد الجبان

ولو أني أقول مكان روحي

خشيت عليك بادرة الطعان

وقول أبي نواس للعباس بن الفضل بن الربيع يعزيه بالرشيد ويهنئه بالأمين :

تعزّ أبا العباس عن خير هالك

بأكرم حيّ كان أو من هو كائن

حوادث أيام تدور صروفها

لهنّ مساوي مرة ومحاسن

وفي الحي بالميت الذي غيّب الثرى

فلا أنت مغبون ولا الموت غابن

فقد جمع بين التعزية والتهنئة.

ولم يخرج الآخرون كالحلبي والنويري والسبكي والحموي والسيوطي والمدني (٦) عن هذه الدلالة والأمثلة وإن زاد المدنّي أمثلة أخرى ، من ذلك قول عنترة الذي ذكر النسيب والحماسة في قوله :

إن تغد في دوني القناع فانّني

طبّ بأخذ الفارس المستلئم (٧)

__________________

(١) الأقصى القريب ص ٨٥.

(٢) اللسان (فنن).

(٣) تحرير التحبير ص ٥٨٨ ، بديع القرآن ص ٢٩٥.

(٤) مريم ٧٢.

(٥) الرحمن ٢٦ ـ ٢٧.

(٦) حسن التوسل ص ٣٠٩ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٧٣ ، عروس الافراح ج ٤ ص ٤٧٠ ، خزانة ص ٦١ ، معترك ج ١ ص ٣٨٨ ، الاتقان ج ٢ ص ٨٧ ، شرح عقود الجمان ص ١٣٦ ، أنوار الربيع ج ١ ص ٣٢٠ ، نفحات ص ٢٣٦ ، شرح الكافية ص ٩٨.

(٧) أغدقت المرأة القناع على وجهها ؛ أرسلته.

المستلئم ؛ الذي ليس لأمة الحرب وهي الدرع.

١٥٥

فأول البيت نسيب وآخره حماسة.

ومن الافتنان بالهجو والمدح قول ربيعة في يزيد بن حاتم يفضله على يزيد بن أسيد وكان في لسانه تمتمة فعرّض بها في هذه الأبيات :

لشتان ما بين اليزيدين في النّدى

يزيد سليم والأعزّ ابن حاتم

فهمّ الفتى الازديّ إتلاف ماله

وهمّ الفتى القيسي جمع الدراهم

فلا يحسب التمتام أني هجوته

ولكنني فضّلت أهل المكارم

ومن أمثلته قول الشريف الرضي جامعا بين الحماسة والمدح والهجو تعريضا لا تصريحا :

ما مقامي على الهوان وعندي

مقول صارم وأنف حميّ

وإباء محلّق بن عن الضي

م كما راغ طائر وحشيّ

أيّ عذر له الى المجد إن ذل

ل غلام في غمده المشرفيّ

ألبس الذلّ في ديار الأعادي

وبمصر الخليفة العلويّ

من أبوه أبي ومولاه مولا

ي إذا ضامني البعيد القصيّ

لفّ عرقي بعرقه سيدا النا

س جميعا محمد وعليّ

إنّ ذلّي بذلك الجو عزّ

وأوامي بذلك النّقع ريّ

قد يذل العزيز ما لم يشمر

لانطلاق وقد يضام الأبيّ

إنّ شرا عليّ اسراع عزمي

في طلاب العلى وحظي بطيّ

أرتضي بالأذى ولم يقف العز

م قصورا ولم تعز المطيّ

تاركا أسرتي رجوعا الى حي

ث غديري قذ ورعيي وبيّ

كالذي يخبط الظلام وقد أق

مر من خلفه النهار المضيّ

ومن ذلك قول أبي الفتيان محمد بن حيوس يخاطب نصر بن محمود صاحب حلب مهنيا له بالملك ومعزيا له في أبيه :

صبرنا على حكم الزمان الذي سطا

على أنّه لولاك لم يكن الصّبر

عرانا ببوسى لا يماثلها الأسى

تقارن نعمى لا يقابلها شكر

الإفراط :

يقال : أفرط في الأمر : أسرف وتقدم ، والافراط :

إعجال الشيء في الأمر قبل التثبت ، يقال : أفرط فلان في أمره أي عجّل فيه. وأفرط عليه : حمله فوق ما يطيق ، وكل شيء جاوز قدره فهو مفرط ، والافراط : الزيادة على ما أمرت (١).

وقد قيل للاصمعي : من أشعر الناس؟ قال : من يأتي الى المعنى الخسيس فيجعله بلفظه حسنا ، ويأتي الى المعنى الكبير فيجعله بلفظه خسيسا (٢) ، وذلك عن طريق المبالغة والافراط في الصفة. وذكر الجاحظ الافراط في الصفة وقال : «وإذ قد ذكرنا شيئا من الشعر في صفة الضرب والطعن فقد ينبغي أن نذكر بعض ما يشاكل هذا الباب من إسراف من أسرف واقتصاد من اقتصد. فاما من أفرط فقول مهلهل :

__________________

(١) اللسان (فرط) وينظر المنصف ص ٨١.

(٢) حلية المحاضرة ج ١ ص ١٥٦ ، العمدة ج ٢ ص ٥٧.

١٥٦

فلولا الريح أسمع من بحجر

صليل البيض تقرع بالذكور (١)

وهذا ما ذكره قدامة فيما بعد وأدخله في المبالغة (٢).

ومن أشعار المقتصدين في الشعر قول بعضهم :

تركت الركاب لأربابها

فأجهدت نفسي على ابن الصعق

جعلت يديّ وشاحا له

وبعض الفوارس لا يعتنق

وممن صدق على نفسه عمرو بن الاطنابة حيث يقول :

وإقدامي على المكروه نفسي

وضربي هامة الرجل المشيح

وقولي كلما جشأت وجاشت

مكانك تحمدي أو تستريحي (٣)

وتحدث ابن قتيبة عن ذلك واستحسن المبالغة والافراط في الاستعارة وقال : «وكان بعض أهل اللغة يأخذ على الشعراء أشياء من هذا الفن وينسبها فيه الى الافراط وتجاوز المقدار ، وما أرى ذلك إلا جائزا حسنا» (٤). وأشار المبرد الى الافراط في قول الشاعر :

فلو أنّ ما أبقيت مني معلّق

بعود ثمام ما تأوّد عودها

وقال : إنّ هذا متجاوز «وأحسن منه ما أصاب به الحقيقة ونبه فيه بفطنته على ما يخفى عن غيره وساقه برصف قوي واختصار قريب» (٥).

وأشار ثعلب الى الإفراط في الغلو وذكر له أمثلة (٦) كقول النابغة :

وإنّك شمس والملوك كواكب

إذا طلعت لم يبد منهن كوكب

وذكر ابن المعتز الافراط في الصفة وعدّه من محاسن الكلام (٧). وتحدث عنه قدامة في باب المبالغة (٨) ، وتكلم عليه القاضي الجرجاني فقال : «فأما الافراط فمذهب عام في المحدثين وموجود كثير في الاوائل ، والناس فيه مختلفون فمستحسن قابل ومستقبح رادّ ، وله رسوم متى وقف الشاعر عندها ولم يتجاوز الوصف حدّها جمع بين القصد والاستيفاء وسلم من النقص والاعتداء ، فاذا تجاوزها اتسعت له الغاية وأدته الحال الى الاحالة ، وإنّما الاحالة نتيجة الافراط وشعبة من الاغراق ، والباب واحد ، ولكن له درج ومراتب. فاذا سمع المحدث قول الأول :

ألا إنّما غادرت يا أمّ مالك

صدّى أينما تذهب به الريح يذهب

وقول آخر من المتقدمين :

ولو أنّ أبقيت مني معلّق

بعود ثمام ما تأوّد عودها

جسر على أن يقول :

أسرّ إذا نحلت وذاب جسمي

لعلّ الريح تسفي بي اليه (٩)

وبدأ هذا الفن يدخل الدراسات البلاغية ، فتحدث عنه ابن رشيق في باب الغلو والإغراق (١٠) ، وعرّفه ابن الاثير بقوله : «وأما الإفراط فهو الإسراف وتجاوز الحد ، يقال : «أفرط في الشيء إذا أسرف وتجاوز الحد» (١١).

وفرّق بينه وبين التفريط فقال : «أما التفريط والإفراط فهما ضدان أحدهما أن يكون لمعنى المضمر في العبارة دون ما تقتضيه منزلة المعبّر عنه. والآخر أن

__________________

(١) الحيوان ج ٦ ص ٤١٨.

(٢) نقد الشعر ص ٦٢ ، ٢٤٣.

(٣) الحيوان ج ٦ ص ٤٢٥.

(٤) تأويل مشكل القرآن ص ١٣١.

(٥) الكامل ج ١ ص ٢٥٣ ، وينظر العمدة ج ٢ ص ٦١.

(٦) قواعد الشعر ص ٤٠.

(٧) البديع ص ٦٥.

(٨) نقد الشعر ص ١٦٠.

(٩) الوساطة ص ٤٢٠.

(١٠) العمدة ج ٢ ص ٦٠.

(١١) المثل السائر ص ٣١٦ ، الجامع الكبير ص ٢٢٦.

١٥٧

يكون المعنى فوق منزلته».

وعقد ابن الزملكاني فصلا لفن سماه «الافراط والنزول» وقال : «إنّ هذا الغرض لا يوصف قاصده بالكذب إذ كان غرضه معلوما وكان متجوزا في مقاله غير قاصد الى البتّ به والقطع بمقتضاه» (١).

ومثّل له ببعض كلام الله من ذلك قوله : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ)(٢). وعقد المصري بابا سماه «الإفراط في الصفة» وقال : «وهو الذي سمّاه قدامة المبالغة ، وسماه من بعده التبليغ ، وأكثر الناس على تسمية قدامة لأنّها أخفّ وأعرف» (٣) وتحدث في هذا الباب عن المبالغة بمعناها العام وقال إنّها جاءت في كتاب الله العزيز.

وقال القرطاجني : «هو أن يغلو في الصفة فيخرج بها عن حد الامكان الى الامتناع والاستحالة» (٤).

ولخّص التنوخي وابن قيم الجوزية وابن الأثير الحلبي ما ذكره ابن الأثير (٥) ، وقال الحلبي والنويري إنّ «المبالغة تسمى التبليغ والافراط في الصفة» (٦).

وسار العلوي على خطى ابن الأثير وقال إنّ الافراط الزيادة عن الحد أو هو «تجاوز الحد في المدح والذم وغيرهما من المقاصد» (٧) وقال إنّ في الاقتصاد مذهبين :

الاول : جوازه ، وقالوا : «إنّ أحسن الشعر أكذبه» بل أكذبه يكون أصدقه.

والثاني : منعه بعضهم وزعم أنّ للأمر حدودا ونهايات مما يدخل تحت الامكان فاما ما كان من الأمور مما لا يدخل تحت الامكان ولا يعقل وجوده فلا وجه له. وجوّزه العلوي على كل أحواله لأنّه «إذا كان جائز الوجود فهو معجب لا محالة لاشتماله على المبالغة في المدائح وأنواع الذم وإن لم يكن جائز الوجود فالاعجاب به أشد والملاحة فيه أدخل ، وقد ورد مثل ذلك في كتاب الله تعالى» (٨).

ومن أمثلة الافراط قول عنترة :

وأنا المنية في المواطن كلّها

والطّعن مني سائق الآجال

وقول بشار :

إذا ما غضبنا غضبة مضريّة

هتكنا حجاب الشّمس أو قطّرت دما

وقول المتنبي :

كأنّ الهام في الهيجا عيون

وقد طبعت سيوفك من رقاد

وقد صغت الأسنة من هموم

فما يخطرن إلا في فؤاد

وقول أبي نواس :

وأخفت أهل الشّرك حتى أنّه

لتخافك النّطف التي لم تخلق

الإفراط في الاستعارة :

هو الخروج عن حدّ الاستعمال والعادة ، وكان أبو تمام قد اتّهم بذلك لأنّه خرج على عمود الشعر في الاستعارة ، ولذلك قال الآمدي : «إنّ للاستعارة حدا تصلح فيه اذا جاوزته فسدت وقبحت» (٩). وقال : «وإنما استعارت العرب المعنى لما ليس هو له إذا كان يقاربه أو يناسبه أو يشبهه في بعض أحواله أو كان سببا من أسبابه فتكون اللفظة المستعارة حينئذ

__________________

(١) البرهان الكاشف ص ٣١٠.

(٢) النحل ٧٧.

(٣) تحرير التحبير ص ١٤٧ ، بديع القرآن ص ٥٤.

(٤) منهاج البلغاء ص ٧٦.

(٥) الأقصى القريب ص ١٠٠ ، الفوائد ص ٢٠٨ ، جوهر الكنز ص ١٣٩.

(٦) حسن التوسل ص ٢٣٤ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٢٤.

(٧) الطراز ج ٢ ص ٢٩٩ ، ٣١١.

(٨) الطراز ج ٢ ص ٣١٢.

(٩) الموازنة ج ١ ص ٢٥٩.

١٥٨

لائقة بالشيء الذي استعيرت له وملائمة لمعناه» (١).

وعابوا المتنبي لأنّه يفرط أحيانا في الاستعارة (٢) ، وإن كان لا يخرج على عمود الشعر كأبي تمام :

ومن قبيح استعارات أبي تمام قوله :

يا دهر قوّم من أخدعيك فقد

أضججت هذا الأنام من خرقك (٣)

وقوله :

فضربت الشتاء في أخدعيه

ضربة غادرته عودا ركوبا (٤)

وقوله :

تروح علينا كلّ يوم وتغتدي

خطوب كأنّ الدهر منهن يصرع

ومن افراط المتنبي في الاستعارة قوله :

مسرّة في قلوب الطيب مفرقها

وحسرة في قلوب البيض واليلب (٥)

وقوله :

تجمعت في فؤاده همم

ملء فؤاد الزمان إحداها

ولكنّ هذا اللون من الاستعارات ليس محظورا على الشاعر إذا كان مثل المتنبي أو أبي تمام.

الاقتباس :

يقال : قبست منه نارا أقبس قبسا فأقبسني أي :أعطاني منه قبسا ، وكذلك اقتبست منه نارا واقتبست منه علما أيضا أي : استفدته (٦).

فالاقتباس هو الأخذ والاستفادة ، وقد عرف هذا اللون من الأخذ منذ عهد مبكر وكانوا يسمون الخطبة التي لا توشّح بالقرآن الكريم بتراء. وروى الجاحظ عن عمران بن حطان انه قال : «إنّ أول خطبة خطبتها عند زياد ـ أو عند ابن زياد ـ فاعجب بها الناس وشهدها عمي وأبي ، ثم اني مررت ببعض المجالس فسمعت

رجلا يقول لبعضهم : هذا الفتى أخطب العرب لو كان في خطبته شيء من القرآن» (٧).

وقد عرّف الرازي الاقتباس بقوله : «هو أن تدرج كلمة من القرآن أو آية منه في الكلام تزيينا لنظامه وتضخيما لشأنه» (٨).

وقال الحلبي : «هو أن يضمن الكلام شيئا من القرآن أو الحديث ولا ينبّه عليه للعلم به» (٩) ، وذكر مثل ذلك النويري (١٠).

وقال ابن قيم الجوزية : «ويسمّى التضمين ، وهو أن يأخذ المتكلم كلاما من كلام غيره يدرجه في لفظه لتأكيد المعنى الذي أتى به أو ترتيب ، فان كان كلاما كثيرا أو بيتا من الشعر فهو تضمين وإن كان كلاما قليلا أو نصف بيت فهو إيداع» (١١) وعرّفه القزويني بمثل ما عرّفه الحلبي والنويري وأضاف قائلا : «لا على أنّه منه» (١٢). كقول الحريري : «فلم يكن إلا كلمح البصر أو هو أقرب حتى أنشد فاغرب» ، والاقتباس من الآية السابعة والسبعين من سورة النحل وهي : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ.)

ومنه قول الحماسي :

__________________

(١) الموازنة ج ١ ص ٢٥٠.

(٢) الوساطة ص ٤٢٩.

(٣) الاخدعان ؛ مثنى الأخدع ، وهما عرقان في صفحتي العنق. الخرق ؛ الحمق.

(٤) العود ؛ المسن من الابل.

(٥) اليلب ؛ الدروع تتخذ من الجلود.

(٦) اللسان (قبس) والثعالبي كتاب «الاقتباس من القرآن الكريم».

(٧) البيان ج ٢ ص ١١٨ ، والرواية في ج ٢ ص ٦ أيضا.

(٨) نهاية الايجاز ص ١١٢ ، وينظر الايضاح في شرح مقامات الحريري ص ١٩.

(٩) حسن التوسل ص ٣٢٣.

(١٠) نهاية الارب ج ٧ ص ١٨٢.

(١١) الفوائد ص ١١٧.

(١٢) الايضاح ص ٤١٦ ، التلخيص ص ٤٢٢.

١٥٩

إذا رمت عنها سلوة قال شافع

من الحب ميعاد السلوّ المقابر

ستبقى لها مضمر القلب والحشا

سريرة ودّ يوم تبلى السرائر

والاقتباس من الآية التاسعة من سورة الطارق وهي :(يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ.)

والاقتباس منه ما لا ينتقل فيه اللفظ المقتبس عن معناه الاصلي الى معنى آخر كما تقدم ، ومنه بخلاف ذلك كقول ابن الرومي :

لئن أخطأت في مدح

ك ما أخطأت في منعي

لقد أنزلت حاجاتي

«بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ»

والاقتباس من الآية السابعة والثلاثين من سورة ابراهيم وهي : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ.) ولا بأس بتغيير يسير لأجل الوزن أو غيره (١) كقول بعضهم عند وفاة بعض أصحابه :

قد كان ما خفت أن يكونا

إنّا الى الله راجعونا

والاقتباس من الآية ١٥٦ من سورة البقر ، وهي :(الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا : إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ.)

وقول عمر الخيام :

سبقت العالمين الى المعالي

بصائب فكرة وعلوّ همّه

ولاح بحكمتي نور الهدى في

ليال للضلالة مدلهمسه

يريد الجاهلون ليطفؤوه

«ويأبى الله إلّا أن يتمّه»

والاقتباس من الآية الثانية والثلاثين من سورة التوبة ، وهي : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ، وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ.)

وكقول الآخر :

فلو كانت الأخلاق تحوي وراثة

ولو كانت الآراء لا تتشعّب

لأصبح كلّ الناس قد ضمّهم هوى

كما أنّ كلّ الناس قد ضمّهم أب

ولكنها الأقدار كلّ ميسّر

لما هو مخلوق له ومقرّب

اقتبس من لفظ الحديث الشريف : «اعملوا ، كلّ ميسّر لما خلق له». وسار المتأخرون في هذا السبيل كالسبكي والتفتازاني والسيوطي والاسفراييني والمغربي (٢) ، غير أنّ الحموي ذكر رأيا جديدا نسبه الى العلماء وهو أن جعل الاقتباس نوعين : فما قام به الناثرون من الخطباء والمنشئين يسمى الاقتباس ، وما يتم على أيدي الشعراء في أشعارهم يسمى التضمين.

وذلك أنّ العلماء في هذا الباب قالوا : «إنّ الشاعر لا يقتبس بل يعقد ويضمن ، وأما الناثر فهو الذي يقتبس كالمنشئ والخطيب» (٣).

وذكر الحموي أيضا أنّ الاقتباس من كتاب الله على ثلاثة أقسام : مقبول ومباح ومردود. فالاول : ما كان في الخطب والمواعظ والعهود ومدح النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ونحو ذلك.

والثاني : ما كان في الغزل والرسائل والقصص.

والثالث : على ضربين :

__________________

(١) الايضاح ص ٤١٩ ، التلخيص ص ٤٢٣.

(٢) عروس الافراح ج ٤ ص ٤٧٣ ، ٥٠٩ ، المطول ص ٤٧١ ، المختصر ج ٤ ص ٥٠٩ ، الاتقان ج ١ ص ١١٣ ، شرح عقود الجمان ص ١٦٦ ، الاطول ج ٢ ص ٢٥٠ ، مواهب ج ٤ ص ٥٠٩ ، التبيان في البيان ص ٣٤٤ ، شرح الكافية ص ٣٢٦.

(٣) خزانة الادب ص ٤٤٤.

١٦٠