الحديث النبوي في النحو العربي

الدكتور محمود فجال

الحديث النبوي في النحو العربي

المؤلف:

الدكتور محمود فجال


الموضوع : اللغة والبلاغة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٤

وفي هذا الفصل مسائل :

المسألة الأولى :

بيان ما يقوله من يروي حديثا بالمعنى

قال «ابن الصلاح» :

ينبغي لمن روى حديثا بالمعنى أن يتبعه بأن يقول : أو كما قال ، أو نحو هذا ، وما أشبه ذلك من الألفاظ.

روي ذلك عن «ابن مسعود» ، و «أبي الدرداء» ، و «أنس» ـ رضي‌الله‌عنهم ـ.

قال «الخطيب» : والصحابة أرباب اللسان ، وأعلم الخلق بمعاني الكلام ، ولم يكونوا يقولون ذلك إلا تخوّفا من الزلل لمعرفتهم بما في الرواية على المعنى من الخطر (١).

روى «ابن عبد البر» عن «الشعبي» عن «مسروق» عن «عبد الله ابن مسعود» أنه حدث يوما بحديث فقال : سمعت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثم أرعد وأرعدت ثيابه. وقال : أو نحو هذا ، أو شبه هذا (٢).

وكذلك يحسن للقارىء الذي اشتبهت عليه لفظة أن يقول بعدها : «أو كما قال» (٣).

__________________

(١) «مقدمة ابن الصلاح» ٣٣٣ ، وانظر «جامع بيان العلم» ١ : ٧٩ ، و «تدريب الراوي» ٢ : ١٠١ ، وفي «محاسن البلقيني» فائدة) ليس في ذلك النقل عن هؤلاء ، أنهم جوزوا نقل الحديث بالمعنى كما فهمه بعض من لا يصح فهمه. وانظر «الكفاية» ٣١١.

(٢) «جامع بيان العلم» ١ : ٧٩.

(٣) «تدريب الراوي» ٢ : ١٠٢.

٨١

المسألة الثانية

حكم اختصار الحديث الواحد

ورواية بعضه دون بعض والزيادة فيه

ذهب بعضهم إلى جواز نقصان الرواية مطلقا (١)

روي عن «مجاهد» و «يحي بن معين» القول بنقصان الحديث وعدم الزيادة فيه ، عند خوف الخطأ في الحديث (٢).

وحجة من ذهب إلى هذا المذهب ما روي عن «ابن عمر» أن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال في حجة الوداع ـ : نضر الله من سمع مقالتي فلم يزد فيها ، فرب حامل كلمة إلى من هو أوعى لها منه.

قالوا : وهذا يدل على أن النقصان منها جائز ، إذ لو لم يكن كذلك لذكره كما ذكر الزيادة (٣). وهذا مذهب «مسلم».

وذهب كثير ممن منع نقل الحديث على المعنى إلى منع نقصان الرواية ، لأن في ذلك قطع الخبر وتغييره ، فيؤدي إلى إبطال معناه وإحالته.

روى «الخطيب» عن «عبد الملك بن عمير» يقول : والله إني لأحدث بالحديث فما أدع منه حرفا (٤).

وذهب بعض من أجاز الرواية على المعنى إلى جواز نقصان الرواية ، إن رواه الراوي مرة أخرى بتمامه ، أو علم أن غيره قد رواه بتمامه (٥).

__________________

(١) وينبغي تقييد الإطلاق بما إذا لم يكن المحذوف متعلقا بالمأتي به ، تعلقا يخل بالمعنى حذفه ، كالاستثناء والحال ، ونحو ذلك. «توضيح الأفكار» ٢ : ٣٩٢ ـ ٣٩٣ ، و «تدريب الراوي» ٢ : ١٠٤.

(٢) «المحدث الفاصل» ٥٤٣.

(٣) «الكفاية» ٢٨٩.

(٤ ، ٥) «الكفاية» ٢٩٠.

٨٢

واختار «الخطيب» وجوب نقل الرواية على التمام ، وحرمة الحذف إن كان فيما حذف منها معرفة حكم وشرط وأمر. لا يتم التعبد والمراد بهذا الخبر إلا بروايته على وجهه (١). وعلى هذا الوجه يحمل قول من قال : لا يحل اختصار الحديث.

وروى «الخطيب» عن «مالك» أنه كان لا يرى أن يختصر الحديث إذا كان عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

وسئل «أبو عاصم النبيل» عن اختصار الحديث ، فقال : نعم يكره ، لأنهم يخطئون المعنى (٢).

كما ذهب «الخطيب» إلى جواز رواية الحديث على النقصان ، وحذف بعضه إن كان المتروك من الخبر متضمنا لعبادة أخرى ، وأمرا لا تعلق له بمتضمن البعض الذي رواه ولا شرطا فيه ، لأن الذي تركه ـ والحالة هذه ـ بمنزلة عبارتين منفصلتين ، أو سيرتين ، أو قضيتين لا تعلّق لأحدهما بالأخرى ...

وكان «سفيان الثوري» يروي الأحاديث على الاختصار لمن قد رواها له على التمام ، لأنه كان يعلم منهم الحفظ لها ، والمعرفة بها (٣).

وقال «الخطيب» : إن كان النقصان من الحديث شيئا لا يتغير به المعنى ، كحذف بعض الحروف والألفاظ ، والراوي عالم واع محصل لما يغير المعنى ، وما لا يغيره من الزيادة والنقصان فإن ذلك سائغ له ، على قول من أجاز الرواية على المعنى دون من لم يجز ذلك (٤).

__________________

(١) «الكفاية» ٢٩٠ ، وفيه : لا فرق بين أن يكون ذلك تركا لنقل العبادة ، كنقل بعض أفعال الصلاة ، أو تركا لنقل فرض آخر هو الشرط في صحة العبارة ، كترك نقل وجوب الطهارة ونحوها.

(٢) «الكفاية» ٢٩١.

(٣) انظر «الكفاية» ٢٩٢ ـ ٢٩٣ ، و «المحدث الفاصل» ٥٤٣ ، و «مقدمة ابن الصلاح» ٣٣٤ ، و «توضيح الأفكار» ٢ : ٣٩٢ ، و «تدريب الراوي» ٢ : ١٠٤.

(٤) «الكفاية» ٢٩٢.

٨٣

المسألة الثالثة :

حكم تقطيع متن الحديث الواحد وتفريقه في الأبواب

يجوز تفريق المتن الواحد في موضعين ، إذا كان متضحا لحكمين. ويجوز إذا كان المتن متضمنا لعبادات وأحكام لا تعلق لبعضها ببعض ، فإنه بمثابة الأحاديث المنفصل بعضها من بعض ، ويجوز تقطيعه. وقد فعله «مالك» و «البخاري» (١) وغير واحد من أئمة الحديث ، كـ «أبي داود» و «النسائي» (٢).

روى «الخطيب» أن أبا الحارث قال : رأيت أبا عبد الله ـ يعني أحمد ابن حنبل ـ قد أخرج أحاديث ، وأخرج حاجته من الحديث ، وترك الباقي يخرج من أول الحديث شيئا ، ومن آخره شيئا ، ويدع الباقي (٣).

وروى أيضا أن «إسحاق بن إبراهيم» ، قال : سألت أبا عبد الله عن الرجل يسمع الحديث ، وهو إسناد واحد ، فيجعله ثلاثة أحاديث؟ قال : لا يلزمه كذب ، وينبغي أن يحدث بالحديث كما سمع ، ولا يغيره (٤).

__________________

(١) وفي «محاسن البلقيني» : وما تقدم من صنيع «البخاري» لم يفعله «مسلم» ، بل يسوق الحديث بتمامه ولا يقطعه. وذلك من جملة أسباب ترجيحه عند جماعة.

(٢) انظر «الكفاية» ٢٩٤ ، و «مقدمة ابن الصلاح» ٣٣٦.

(٣) «الكفاية» ٢٩٤.

(٤) «الكفاية» ٢٩٥.

٨٤

المسألة الرابعة :

طريق السلامة من اللحن والتصحيف في الحديث

قال «ابن الصلاح» : وأما التصحيف فسبيل السلامة منه الأخذ من أفواه أهل العلم أو الضبط ، فإن من حرم ذلك وكان أخذه وتعلمه من بطون الكتب كان من شأنه التحريف ، ولم يفلت من التبديل والتصحيف. (١).

وقال «السيوطي» : فإن وجد في كتابه كلمة من غريب العربية غير مضبوطة أشكلت عليه جاز أن يسأل عنها العلماء بها ، ويرويها على ما يخبرونه به.

فعل ذلك «أحمد» و «إسحاق» وغيرهما (٢).

روى «الخطيب» : عن «أبي حاتم سهل بن محمد» ، قال : كان «عفان ابن مسلم» يجيّ إلى «الأخفش» وإلى أصحاب النحو يعرض عليهم الحديث يعربه. فقال «الأخفش» : عليك بهذا ، وكان بعد ذلك يجيّ إليّ حتى عرض عليّ حديثا كبيرا.

وروى عن «الوليد بن مسلم» قال : كان «الأوزاعي» يعطي كتبه إذا كان فيها لحن لمن يصلحها.

وروى عن «عبد الله بن المبارك» يقول : إذا سمعتم عني الحديث فاعرضوه على أصحاب العربية ، ثم أحكموه (٣).

وروى عن «أبي بكر بن دريد» قال : أخبرنا «الرياشي» عن «الأصمعي» قال : كنت في مجلس «شعبة» ، فقال : «فيسمعون جرش طير الجنة» فقلت : «جرس» فنظر إلي فقال : خذوها عنه ، فإنه أعلم بهذا منا.

__________________

(١) «مقدمة ابن الصلاح» ٣٣٨.

(٢) «تدريب الراوي» ٢ : ١١٠.

(٣) «الكفاية» ٣٧٤.

٨٥

قال أبو بكر : يقال : سمعت جرس الطير ، إذا سمعت صوت منقاره على شيء يأكله ، وسميت النحل جوارس من هذا ، لأنها تجرس الشجر ، أي : تأكل منه ، والجرس الصوت الخفي ، واشتقاق الجرس من الصوت والحس (١).

وروي عن «جابر بن عبد الله» ، قال قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إذا أرفت الحدود فلا شفعة» فقال لي «الطبري» : سمعت أبا محمد الباقي يقول :

ذكر لنا أبو القاسم الداركي ـ شيخ الشافعية ـ هذا الحديث في تدريسه في كتاب الشفعة ، فقال : إذا أزفت الحدود ، فسألت «ابن جني» النحوي عن هذه الكلمة ، فلم يعرفها ، ولا وقف على صحتها. فسألت «المعافى بن زكريا» عن الحديث ، وذكرت له طرفه ، فلم أستتم المسألة حتى قال : إذا أرفت الحدود ، والأرف : المعالم ، يريد إذا بينت الحدود ، وعينت المعالم ، وميزت ، فلا شفعة (٢).

وقال «السخاوي» : سئل «أحمد» عن حرف فقال : اسألوا عنه أصحاب الغريب فإني أكره أن أتكلم في قول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالظن (٣).

وعن «ابن راهويه» (٤) أنه كان إذا شك في الكلمة يقول : أهاهنا فلان ، كيف هذه الكلمة؟ وسمع «سعيد بن شيبان» ـ وكان عالما بالعربية ـ «ابن عيينة» ، وهو يقول : «تعلق من ثمار الجنة» بفتح اللام ، فقال له : «تعلق» يعني : بضمها ، من علق ، يعني : بفتح اللام ، فرجع «ابن عيينة» إليه (٥).

__________________

(١) «الكفاية» ٣٧٥.

(٢) «الكفاية» ٣٧٦ ، و «فتح المغيث» ٢ : ٢٤٣.

(٣) وهذا لا يدل على عدم خبرته في اللغة ، ولكنه يريد أن يعطينا درسا في التثبت والضبط. ففي «المنهج الأحمد في تراجم أصحاب أحمد» ١ : ٥ : قال «المروزي» : كان «أبو عبد الله» لا يلحن في الكلام ، ولمّا نوظر بين يدي الخليفة كان يقول : كيف أقول ما لم يقل؟! ولم يلحن في كلمة في تلك الثلاثة الأيام التي نوظر فيها. وقال «أحمد» : كتبت من العربية أكثر ممّا كتب «أبو عمرو بن العلاء» ، وكان يسأل عن ألفاظ من اللغة تتعلّق بالتفسير والأخبار فيجيب عن ذلك بأوضح جواب ، وأفصح عبارة.

(٤) تضبط «راهويه» براء ، وهاء وواو مفتوحتين ، وسكون ياء ، وكسر هاء ثانية ، على الأشهر. ويقال : بضم هاء وفتح تحتيه. «المغني» ١٠٨.

(٥) «فتح المغيث» ٢ : ٢٤٢ ـ ٢٤٣.

٨٦

المسألة الخامسة

اللحن والتصحيف والتحريف

معنى اللحن :

قال «أبو الحسين» أحمد بن فارس بن زكريا» ـ ٣٩٥ ه‍ في «معجم مقاييس اللغة» ٥ : ٢٣٩ ـ ٢٤٠ :

اللّحن : بسكون الحاء ، إمالة الكلام عن جهته الصحيحة في العربية ، يقال : لحن لحنا ، وهو عندنا من الكلام المولّد ، لأن اللّحن محدث لم يكن في العرب العاربة ، الذين تكلموا بطباعهم السّليمة.

واللّحن : بالتحريك ، الفطنة ، يقال : لحن ، يلحن ، لحنا ، فهو لحن ، ولاحن. وفي الحديث : «لعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض» (١).

معنى التصحيف :

هو تغيير في نقط الحروف أو حركاتها ، مع بقاء صورة الخط (٢) ، مثلا كلمة «فحمة» إذا لم تنقط يمكن أن تقرأ «قحمة» و «فحمة» وقد قال «الزمخشري» في «ربيع الأبرار» ١ : ٦٣٤ : «التصحيف : قفل ضلّ مفتاحه».

معنى التحريف :

هو العدول بالشيء عن جهته ، وحرّف الكلام تحريفا ، عدل به عن جهته ،

__________________

(١) هذا النص نقله «السخاويّ» في «فتح المغيث» ٢ : ٢٣٢. والحديث أخرجه «البخاريّ» في «صحيحه» في (كتاب الحيل ـ باب حدثنا محمد بن كثير) ٨ : ٦٢ ، و «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب الأقضية ـ باب الحكم بالظاهر ، واللحن بالحجة) ٥ : ١٢٩ ، و «ابن ماجه» في «سننه» في (كتاب الأحكام ـ باب قضية الحاكم لا تحل حراما ، ولا تحرم حلالا) ٢ : ٧٧٧ ، عن «أمّ سلمة» ـ رضي‌الله‌عنها ـ ، ورواه آخرون كـ «الترمذيّ» ، و «النسائيّ» و «مالك» ، و «أحمد».

(٢) مقدمة «القسطلاني» بشرحها «نيل الأماني» ص : ٥٦

٨٧

وهو قد يكون بالزيادة فيه ، والنقص منه ، وقد يكون بتبديل بعض كلماته ، وقد يكون بحمله على غير المراد منه. فالتحريف أعم من التصحيف (١).

موقف العلماء من اللحن أو التصحيف في الحديث :

إذا وقع في الرواية لحن أو تصحيف ، فقد اختلف العلماء فيما يفعله حينئذ :

أـ فمنهم من يرويه على الخطأ كما سمعه (٢) ، كـ «محمد بن سيرين» ، و «أبي معمر عبد الله بن سخبرة» ، و «أبي عبيد القاسم بن سلام» ، و «رجاء بن حيوة» ، و «نافع» ـ مولى عبد الله بن عمر ـ و «أبي الضحى : مسلم بن صبيح».

وقال «السخاوي» : قيل : وهو اختيار «العز بن عبد السّلام» كما حكاه عنه صاحبه «ابن دقيق العيد» في «الاقتراح» : إنه يترك روايته إياه عن ذا الشيخ مطلقا ؛ لأنه إن تبعه فيه ، فالنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يلحن ، وإن رواه عنه على الصواب فهو لم يسمعه منه كذلك (٣).

ب ـ ومنهم من يرويه على الصواب ، ولا سيما في اللحن الذي لا يختلف المعنى به (٤). كـ «ابن المبارك» ، و «الأوزاعي» ، و «الشعبي» و «القاسم

__________________

(١) «توجيه النظر» ٣٦٥. وانظر «كلمة عن التصحيف والتحريف» في مقدمة تحقيق الدكتور محمود أحمد ميرة لكتاب «تصحيفات المحدثين» لـ «العسكري» وقد قال في آخر الكلمة : ولعلّ هذه النّظرة السريعة تبلّ غلّة الصادي ، وتلقي ظلالا على معنى «التصحيف والتحريف» فتوضّح المراد منهما ، أو تقربه.

(٢) قال «ابن الصلاح» في «مقدمته» ٢٣٨ ـ ٢٤٠ : وهذا غلوّ في اتباع اللفظ ، والمنع من الرواية بالمعنى.

(٣) «فتح المغيث» ٢ : ٢٣٤.

(٤) قال «ابن الصلاح» في «مقدمته» ٢٣٨ ـ ٢٤٠ :

وهو مذهب المحصّلين والعلماء من المحدثين ، والقول به في اللحن الذي لا يختلف به المعنى وأمثاله ، لازم على مذهب تجويز رواية الحديث بالمعنى ، وقد سبق أنه قول الأكثرية. وفي «محاسن البلقيني» ٢٣٨ : ذكر «ابن أبي خيثمة» سئل «الشعبي ، وأبو جعفر محمد بن علي بن حسين ، وعطاء ، والقاسم» عن الرجل يحدّث بالحديث فيلحن : أأحدث كما سمعت ، أو أعربه؟ فقالوا : لا ، بل أعربه.

٨٨

ابن محمد» ، و «ابن عيينة» ، و «ابن المديني» ، و «ابن راهويه» ، و «الحسن بن علي الحلواني» ، و «الحسن بن محمد الزعفراني» ، و «عطاء» ، و «همام» ، و «النضر بن شميل» ، و «أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين» ، و «الأعمش».

اختاره «النووي» ، وتبعه «السيوطي» ، وصوبه «ابن عبد البر» ، و «ابن كثير».

٨٩

المسألة السادسة :

تقويم اللحن بإصلاح الخطأ

إذا كان اللحن يحيل المعنى فلا بد من تغييره ، وكثير من الرواة يحرفون الكلام عن وجهه ، ويزيلون الخطاب عن موضعه ، وليس يلزم من أخذ عمن هذه سبيله أن يحكي لفظه إذا عرف وجه الصواب ، بخلافه إذا كان الحديث معروفا ، ولفظ العرب به ظاهرا معلوما ، ألا ترى أن المحدث لو قال : لا يؤمّ المسافر المقيم ، فنصب «المسافر» ورفع ، «المقيم» كان قد أحال المعنى ، فلا يلزم اتباع لفظه.

قال «الرامهرمزي» : كنا عند «عبد الله بن أحمد بن موسى عبدان» يوما وهو يحدثنا ، و «أبو العباس بن سريج» حاضر ، فقال عبدان : من دعي فلم يجب فقد عصى الله ورسوله ففتح الياء من قوله «يجب» فقال له «ابن سريج» : إن رأيت أن تقول : يجب ـ بضم الياء ـ ، فأبى «عبدان» أن يقول ، وعجب من صواب «ابن سريج» ، كما عجب «ابن سريج» من خطئه (١).

وروى «الرامهرمزي» عن «حماد بن زيد» قال : كنا عند «أيوب» ، فحدثنا فلحن وعنده «الخليل بن أحمد» فنظر إلى وجهه «الخليل» ، فقال «أيوب» : أستغفر الله (٢).

وروى عن «محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان» قال : إذا سمعت الحديث فيه اللحن والخطأ فلا تحدّث إلا بالصواب ، إنهم لم يكونوا يلحنون.

وروى عن «عاصم» قال : ما رأيت أحدا كان أعرب من «زر بن حبيش» كان «ابن مسعود» يسأله (٣).

__________________

(١) «المحدث الفاصل» ٥٢٧ ، و «الكفاية» ٢٨٧.

(٢) «المحدث الفاصل» ٥٢٥.

(٣) «المحدث الفاصل» ٥٢٦ ، و «زر بن حبيش» هو أبو مريم بن حباشة بن أوس الأسدي الكوفي ، أحد أعلام التابعين المخضرمين ، أدرك الجاهلية والإسلام ، ولم ير النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، توفي سنة (٨٣ ه‍) ، وله (١٢٧) سنة ، أخرج له الستّة. انظر «تقريب التهذيب» ١ : ٢٥٩.

٩٠

ومن اللحن ما يستقبح ولا يزيل المعنى ، كقول بعض المحدثين : لبيك بحجة وعمرة معا ، بنصبهما (١).

وروى عن أبي أمامة قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : تعلموا القرآن ، فإنه يأتي يوم القيامة شافعا لأصحابه ، وعليكم بالزهراوان : البقرة ، وآل عمران (٢).

وروى «الخطيب» عن «عبد الله بن أحمد» قال : كان إذا مر بأبي لحن فاحش غيّره ، وإذا كان لحنا سهلا تركه. وقال : كذا قال الشيخ.

وروى عن «عبد الله بن أحمد بن حنبل» يقول : ما زال القلم في يد أبي حتى مات. ويقول : إذا لم ينصرف الشيء في معنى ، فلا بأس أن يصلح ، أو كما قال (٣).

قال «ابن حزم» : وأما اللحن في الحديث فإن كان شيئا له وجه في لغة العرب ، فليروه كما سمعه ، ولا يبدله ولا يرده إلى أفصح منه ولا إلى غيره. وإن كان شيئا لا وجه له في لغة العرب البتة فحرام على كل مسلم أن يحدّث باللحن عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فإن فعل فهو كاذب مستحق للنار في الآخرة ، لأنا قد أيقنا أنه ـ عليه‌السلام ـ لم يلحن قط ، كتيقننا أن السماء محيطة بالأرض ، وأن الشمس تطلع من المشرق ، وتغرب في المغرب. فمن نقل عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ اللحن فقد نقل عنه الكذب بيقين ، وفرض عليه أن يصلحه ويبشره ـ أي يمحه ـ من كتابه ، ويكتبه معربا ، ولا يحدّث به إلا معربا. ولا يلتفت إلى ما وجد في كتابه من لحن ، ولا إلى ما حدث شيوخه ملحونا.

ولهذا لزم لمن طلب الفقه أن يتعلم النحو واللغة ، وإلا فهو ناقص لا تجوز له الفتيا في دين الله ـ عزوجل ـ.

__________________

(١) «المحدث الفاضل» ٥٢٨.

(٢) «المحدث» ٥٢٩ ، والحديث أخرجه «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب صلاة المسافرين ـ باب فصل قراءة القرآن وسورة البقرة) ٢ : ١٩٧ بلفظ «اقرأوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران». وهذه الرواية سليمة. وقد استشهد «الرامهرمزي» بهذا تدليلا على بعض اللحن الذي كان يقع من بعض الرواة على غير هيئة كلام العرب. ولا يعقل أن يكون ذلك من لفظه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

(٣) «الكفاية» ٢٨٧.

٩١

وقد روي عن «نافع» عن «ابن عمر» أنه كان يضرب ولده على اللحن. (١)

قال «السخاوي» : قال «الأوزاعي» : أعربوا الحديث فإن القوم كانوا عربا. وعنه أيضا : لا بأس بإصلاح اللحن في الحديث. (٢).

وروى «ابن عبد البر» : عن جابر قال : سألت عامرا (يعني الشعبي) وأبا جعفر (يعني محمد بن علي) والقاسم (يعني ابن محمد) وعطاء (يعني ابن رباح) عن الرجل يحدث بالحديث فيلحن ، أأحدث به كما سمعت أم أعربه؟ قالوا : لا بل أعربه. (٣).

وروى عن «أبي موسى محمد بن المثني» ، قال : سألت أبا الوليد عن الرجل يصيب في كتابة الحرف المعجم غير معجم ، أو يجد الحرف المعجم تغير بعجمة نحو التاء ثاء ، والباء ياء ، وعنده في ذلك التصحيف والناس يقولون الصواب؟ قال : يرجع إلى قول الناس فإن الأصل الصحة.

وروى عن «يحيى بن معين» يقول : لا بأس أن يقوّم الرجل حديثه على العربية (٤).

__________________

(١) «الإحكام في أصول الأحكام» ٢٦٣ ـ ٢٦٤ ، وفي «فتح المغيث» ٢ : ٢٣٦ : ونحوه قول «أبي عمران الفسوي» فيما حكاه عنه «القابسي» إن كان مما لا يوجد في كلام أحد من العرب قرئ على الصواب وأصلح ، لأنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يكن يلحن ، وإن كان مما يقوله بعض العرب ، ولم يكن في لغة قريش فلا ، لأنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يكلم الناس بلغتهم .. ومن ثمّ أشار «أبو فارس» إلى التروي في الحكم على الرواية بالخطأ والبحث الشديد ، فإن اللغة واسعة.

(٢) «فتح المغيث» ٢ : ٢٣٤.

(٣) «جامع بيان العلم» ١ : ٧٨ ، و «الكفاية» ٢٩٦ ، و «المحدث الفاصل» ٥٢٥.

(٤) «جامع بيان العلم» ١ : ٨٠.

٩٢

وروى عن «علي بن الحسن» قال : قلت لابن المبارك : يكون في الحديث لحن أأقوّمه؟ قال : نعم لأن القوم لم يكونوا يلحنون ، اللحن منا (١).

روى «الخطيب» عن رجل قال لـ «الأعمش» : إن كان «ابن سيرين» ليسمع الحديث فيه اللحن ، فيحدث به على لحنه. فقال «الأعمش» :

إن كان «ابن سيرين» يلحن ؛ فإن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يلحن ، يقول : قوّمه.

وفي رواية : فقوّموه (٢).

وروى عن همام قال : إذا حدّثتكم عن «قتادة» ، فكان في حديثه لحن ، فقوموه ، فإنه كان لا يلحن (٣).

وروى عن «النضر بن شميل» أنه قال : كان «عوف بن أبي جميلة» رجلا لحانا ، قد كسوت لكم حديثه كسوة حسنة (٤).

قال «السخاوي» :

وحكى «ابن فارس» عن شيخه أبي الحسن ، علي بن إبراهيم القطان ، راوي سنن «ابن ماجه» عنه ، فقال : إنه كان يكتب الحديث على ما سمعه لحنا ، ويكتب على حاشية كتابه : كذا قال ، يعني الذي حدث به ، والصواب كذا.

قال «ابن فارس» : وهذا أحسن ما سمعت في هذا الباب.

ونحوه قول «الميانشي» : صوب بعض المشايخ هذا ، وأنا أستحسنه ، وبه آخذ. وأشار «ابن الصلاح» إلى أنه أبقى للمصلحة ، وأنفى للمفسدة ، يعني

__________________

(١) «جامع بيان العلم» ١ : ٨١.

(٢) «الكفاية» ٢٩٥.

(٣) «الكفاية» ٢٩٧ ، ولقد كان شعبة ، وحماد ، وخالد بن الحارث ، وبشر بن المفضل ، والحسن البصري لا يلحنون البتة.

(٤) «الكفاية» ٢٩٨.

٩٣

لما فيه من الجمع بين الأمرين ، ونفي التسويد عن الكتاب إن لو وجد له وجه ، حيث تجعل الضبة (١) تصحيحا. هذا كله في الخطأ الناشيء عن اللحن والتصحيف.

وأما الناشئ عن سقط خفيف ، كسقوط «ابن» وحرف لا يغير إسقاطه المعنى ، فإن مثل هذا لا بأس بروايته وإلحاقه من غير تنبيه على سقوطه. كما نص الإمام «أحمد» حيث قال له «أبو داود» ـ صاحب السنن ـ : وجدت في كتابي :

(حجاج ، عن جريج ، عن أبي الزبير) يجوز لي أن أصلحه «ابن جريج»؟

فقال : أرجو أن يكون هذا لا بأس به.

وسأله ابنه «عبد الله» عن الرجل يسمع الحديث فيسقط من كتابه الحرف مثل الألف واللام ، ونحو ذلك ، أيصلحه؟ فقال : لا بأس به أن يصلحه.

ونحوه أنه قيل لـ «مالك» : أرأيت حديث النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يزاد فيه الواو والألف ، والمعنى واحد؟ فقال : أرجو أن يكون خفيفا (٢).

__________________

(١) وفي «توضيح الأفكار» ٢ : ٣٦٧ : «التمريض» هو كتابة صورة (ض) هكذا في الحرف الذي يشار إلى تمريضه.

و «التضبيب» كالتمريض ، وهو عبارة عن الصورة التي قالها «القاضي عياض». قال : شيوخنا من أهل المغرب يتعاملون أن الحرف إذا كتب عليه (صح) أن ذلك علامة لصحة الحرف ، فيوضع حرف كامل على حرف صحيح. وإذا كان عليه (صاد) ممدودة دون (حاء) كان علامة أن الحرف غير مستقيم. ا ه والحرف غير التام ، الذي وضع ليدل على اختلال الحرف ، يسمى «ضبة» ، أي : أن الحرف مقفل ، لا يتجه لقراءة ، كما أن الضبة مقفل بها.

(٢) «فتح المغيث» ٢ : ٢٣٧ ـ ٢٣٩

٩٤

المسألة السابعة :

اتباع المحدث على لفظه وإن خالف اللغة الفصيحة

ذكر «ابن الصلاح» أن كثيرا ما نرى ما يتوهمه كثير من أهل العلم خطا وربما غيروه ، صوابا ، ذا وجه صحيح ، وإن خفي واستغرب ، ولا سيما فيما يعدونه خطأ من جهة العربية ، وذلك لكثرة لغات العرب وتشعّبها.

هذا «أبو الوليد ، هشام بن أحمد الكناني الوقشي» مع تقدمه في اللغة ، وكثرة مطالعته ، وافتنانه ، وثقوب فهمه ، وحدّة ذهنه ، جسر على الإصلاح كثيرا ، وغلط في أشياء من ذلك. وكذلك غيره ممن سلك مسلكه (١).

ولا سيما وقد قال «أبو عبيد القاسم بن سلام» ـ ٢٢٤ ه‍ : لأهل الحديث لغة ، ولأهل العربية لغة ، ولغة أهل العربية أقيس ، ولا نجد بدا من اتباع لغة أهل الحديث من أجل السماع (٢).

وقال «ابن الصلاح» : أخبرني بعض أشياخنا عمن أخبره عن «القاضي الحافظ عياض» بما معناه ، أن الذي عليه استمر عمل أكثر الأشياخ أن ينقلوا الراوية كما وصلت إليهم ولا يغيروها في كتبهم ، حتى في أحرف من القرآن ، استمرت الرواية فيها في الكتب على خلاف التلاوة المجمع عليها ، ومن غير أن يجيء ذلك في الشواذ. ومن ذلك ما وقع في (الصحيحين والموطأ) وغيرها.

__________________

(١) «مقدمة ابن الصلاح» ٣٤٠ ، و «فتح المغيث» ٢ : ١٧٨ ، ٢٣٧.

(٢) «الكفاية» ٢٨٠ ، و «فتح المغيث» ٢ : ٢٣٧ ، وفي «الكفاية» ٣٩٩ عن علي بن المديني ، ذكر وكيعا واللحن ، فقال : كان وكيع يلحن ، ولو حدثت عنه بألفاظه لكان عجبا ، كان يقول : حدثنا مسعر عن عيشة.

وعن هشيم قال : كان إسماعيل بن أبي خالد ـ وقد لقي أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فاحش اللحن ، كان يقول : حدثني فلان عن أبوه.

٩٥

لكن أهل المعرفة منهم ينبهون على خطئها هذا ، عند السماع والقراءة ، وفي حواشي الكتب ، مع تقريرهم ما في الأصول على ما بلغهم (١).

قال «ابن الصلاح» : الأولى سدّ باب التغيير والإصلاح ، لئلا يجسر على ذلك من لا يحسن ، والطريق الأول (٢) أسلم مع التبيين ، فيذكر ذلك عند السماع كما وقع ، ثم يذكر وجه صوابه. إما من جهة العربية ، وإما من جهة الرواية.

وإن شاء قرأه أولا على الصواب ، ثم قال : وقع عند شيخنا ، أو في روايتنا ، أو من طريق فلان كذا وكذا .. وهذا أولى من الأول كيلا يتقوّل على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما لم يقل. وأصلح ما يعتمد عليه من الإصلاح ، أن يكون ما يصلح به الفاسد قد ورد من أحاديث أخر ، فإنّ ذاكره آمن من أن يكون متقوّلا على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما لم يقل.

... وأما إصلاح ذلك وتغييره في كتابه وأصله ، فالصواب تركه ، وتقرير ما وقع في الأصل على ما هو عليه ، مع التضبيب عليه ، وبيان الصواب خارجا في الحاشية ، فإن ذلك أجمع للمصلحة ، وأنفى للمفسدة (٣).

وروى «الخطيب» عن أبي هريرة عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : إذا قلت لأخيك يوم الجمعة والإمام يخطب : أنصت ، فقد لغيت. قال «أبو الزّناد» :وهذه لغة «أبي هريرة» ، وإنما هو لغوت (٤).

وروى عن سفيان ، عن عمرو ، قال : سمعت رجلا من أهل الأرض يقول :سمعت أبد الله بن أياس ، يقول : إن الله لما خلق إبليس نخر.

قال «الخطيب» : أراد هذا الراوي أن يقول : عبد الله ، فأبدل من العين

__________________

(١) «مقدمة ابن الصلاح» ٣٣٩.

(٢) أي : روايته على الخطأ.

(٣) «مقدمة ابن الصلاح» ٣٣٩ ـ ٢٤٠.

(٤) «الكفاية» ٢٨١. وهذا الحديث أخرجه «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب الجمعة ـ باب في الإنصات يوم الجمعة في الخطبة) ٣ : ٥.

٩٦

همزة ، وهذا خلاف لغة قيس في العنعنة.

إبدال الهمزة عينا ، كـ «أنّ» تنطق «عنّ» في لغة «قيس» ، ويقال لها : عنعنة «قيس» على وجه الذم لها ، وهم معروفون بها.

ومن الناس من يقلب في كلامه الراء غينا ، والقاف همزة ، وهكذا من في لسانه عجمة ، يقلب القاف كافا ، والذال دالا :وروى عن عثمان بن عطاء ، قال : كان «مكحول» رجلا أعجميا ، لا يستطيع أن يقول : قل ، يقول : «كل» وكلّ ما قاله «مكحول» بالشام قبل منه.

قال «الخطيب» : أراد عثمان أن مكحولا كان عندهم ـ مع عجمة لسانه ـ بمحلّ الأمانة ، وموضع الإمامة ، يقبلون منه ، ويعملون بخبره ، ولم يرد أنهم كانوا يحكمون لفظه (١).

روى «الخطيب» عن زياد بن خيثمة ، عن علي بن النعمان بن قراد ، عن رجل ، عن عبد الله بن عمر ، عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : خيرت بين الشفاعة أو نصف أمتي في الجنة ، فاخترت الشفاعة ، لأنها أعم وأكفى ، أترونها للمتقين؟لا ، ولكنها للمتلوثين الخطاؤون (٢).

قال «زياد» : أما أنها لحن ، ولكن هكذا حدثنا الذي حدثنا (٣).

روى عن أبي عبد الرحمن ، أحمد بن شعيب النسائي ، قال : لا يعاب اللحن على المحدثين ، وقد كان «إسماعيل بن أبي خالد» يلحن ، و «سفيان» و «مالك بن أنس» وغيرهم من المحدثين (٤).

__________________

(١) «الكفاية» ٢٨٣.

(٢) أخرجه «ابن ماجه» في «سننه» في (كتاب الزهد ـ باب ذكر الشفاعة) ٢ : ١٤٤١ ، من حديث «أبي موسى الأشعري» ولا لحن فيه.

(٣) «الكفاية» ٢٨٤ ، و «فتح المغيث» ٢ : ٢٣٤ ، و «مسند أحمد» في مسند «ابن عمر».

(٤) «الكفاية» ٢٨٦.

٩٧

وروى عن الحسن قال : قال رجل لـ «عثمان بن أبي العاص» : يا أبا عبد الله بنتمونا بونا بعيدا ، قال : وما ذلك؟ قال : تصدقون وتفعلون وتفعلون. قال :

وإنكم لتغبطونا بكثرتنا هذه؟ قال : إي والله.

قال عثمان : والذي نفسي بيده لدرهم ينفقه أحدكم يخرجه من جهده ، ويضعه في حقه أفضل في نفسي من عشرة آلاف ينفقها أحدنا غيضا من فيض ، قال «إسماعيل بن إبراهيم» ـ أحد رجال السند ـ بنتمونا ـ بالكسر ـ وإنما هو بنتمونا (١).

وروى «ابن عبد البر» عن إسماعيل بن أمية ، قال : كنا نردّ نافعا على إقامة اللحن في الحديث ، فيأبى (٢).

وروى «السخاوي» عن أبي الحسن بن المنادي ، قال : كان جدي لا يرى بإصلاح الغلط الذي لا يشك في غلطه بأسا (٣).

__________________

(١) «الكفاية» ٢٨٦.

(٢) «جامع بيان العلم» ١ : ٨١.

(٣) «فتح المغيث» ٢ : ٢٣٩.

٩٨

الفصل الثاني :

الاحتجاج بالحديث والاستشهاد به

لقد كان من المنهج الحق بالبداهة أن يتقدم الحديث النبوي سائر كلام العرب ، من نثر وشعر ، في باب الاحتجاج في اللغة والنحو ، إذ لا تعهد العربية في تاريخها بعد «القرآن الكريم» بيانا أبلغ من الكلام النبوي ، ولا أروع تأثيرا ، ولا أفعل في النفس ، ولا أصح لفظا ، ولا أقوم معنى منه ، ولكن ذلك لم يقع كما ينبغي ، لانصراف اللغويين والنحويين المتقدمين إلى ثقافة ما يزوّدهم به رواة الأشعار خاصة ، انصرافا استغرق جهودهم ، فلم يبق فيهم لرواية الحديث ودراسته بقية.

والدقة في البحث العلمي تملي علينا حين نريد الخوض في ظاهرة الاحتجاج بالحديث النبوي أن نجعل رأي اللغويين على حدة ، ونتكلم عليه على انفراد ، كما نتكلم عن رأي النحويين ـ قديمهم وحديثهم ـ في هذه الظاهرة على انفراد أيضا ، لأن اللغويين لا يوجد فيهم من منع الاستشهاد بالحديث في اللغة (١).

الاستشهاد بالحديث عند اللغويين :

قال الشيخ «أحمد الإسكندري» : «مضت ثمانية قرون والعلماء من أول أبي الأسود الدؤلي إلى ابن مالك لا يحتجون بلفظ الحديث في اللغة إلا الأحاديث المتواترة ، وقد اختلف في عددها ، فقيل : ثلاثة ، وقيل : خمسة ، إلى ستة عشر ...» (٢).

__________________

(١) نبهت على هذا لأنني رأيت الكثير ممن كتب في هذه الظاهرة لا يميّز بين اللغويين والنحويين ، فيستدل برأي اللغويين على النحويين ، وبالعكس ، علما أن بينهما اتفاقا من وجه ، وافتراقا من وجوه ، فلا يصح الجمع.

(٢) «محاضر الجلسات» ١ : ٢٩٨ ـ ٣٠١.

٩٩

ولأجل إحقاق الحق علينا تبيان بطلان هذا الكلام ، لأن الإجماع قائم على صحة الاستشهاد بالحديث في اللغة بين القدامى والمحدثين. وإليك البيان : لو ذهبنا نتصفح كتب اللغة قاطبة لرأينا الأحاديث النبوية منثورة فيها بكثرة مستفيضة ، سواء منها المتواتر وغير المتواتر (١).

فمن اللغويين الذين استشهدوا بالحديث في مسائل اللغة :

«أبو عمرو بن العلاء ، والخليل ، والكسائي ، والفراء ، والأصمعي ، وأبو عبيد ، وابن الأعرابي ، وابن السكيت ، وأبو حاتم ، وابن قتيبة ، والمبرد ، وابن دريد ، وأبو جعفر النحاس ، وابن خالويه ، والأزهري ، والفارابي ، والصاحب بن عباد ، وابن فارس ، والجوهري ، وابن بري ، وابن سيده ، وابن منظور ، والفيروزأبادي» وغيرهم.

قال «السيوطي» : «قال أبو الحسن الشاري : ومذهبي ومذهب شيخي أبي ذر الخشني ، وأبي الحسن ابن خروف ، أن «الزّبيدي» أخلّ بكتاب «العين» كثيرا ، لحذفه شواهد القرآن والحديث ، وصحيح أشعار العرب منه ..

ولما علم ذلك الإمام «التياني» عمل كتابه «فتح العين» وأتى فيه بما في العين من صحيح اللغة .. دون إخلال بشيء من شواهد القرآن والحديث ...» (٢)

فهذا صريح في أن «الخليل» كان يستشهد في كتابه «العين» بالحديث ، ولم يكن «الخليل» بدعا من اللغويين ، وما صنعه «الخليل» صنعه غيره من أئمة اللغة ..

__________________

(١) الحديث المتواتر : هو ما رواه جمع تحيل العادة تواطؤهم على الكذب عن مثلهم من أول السند إلى منتهاه ، على ألا يختل هذا الجمع في أي طبقة من طبقات السند. وهذا النوع قطعي الثبوت ، وهو بمنزلة العيان ، يجب العمل به ، ويكفر جاحده ، والتواتر أعلى مراتب النقل.

وينقسم المتواتر إلى تواتر لفظي ، وتواتر معنوي ، فاللفظي : ما رواه بلفظه جمع عن جمع ـ لا يتوهم تواطؤهم على الكذب ـ من أوله إلى منتهاه ، كحديث : «من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار». والمعنوي : ما اتفق نقله على معناه من غير مطابقة في اللفظ ، ومثال ذلك : أحاديث الشفاعة ، وأحاديث الرؤية ، وأحاديث نبع الماء من بين أصابعه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وغير ذلك.

وقد جمع «السيوطيّ» كثيرا من الأحاديث المتواترة في كتابه : «الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة» ، كما صنف المحدث «محمد بن جعفر الكتاني» كتابة : «نظم المتناثر من الحديث المتواتر».

«أصول الحديث» : ٣٠١.

(٢) «المزهر» ١ : ٨٨.

١٠٠