الحديث النبوي في النحو العربي

الدكتور محمود فجال

الحديث النبوي في النحو العربي

المؤلف:

الدكتور محمود فجال


الموضوع : اللغة والبلاغة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٤

ورخص «سعيد بن المسيّب» ـ ٩٤ ه‍ ، لـ «عبد الرحمن بن حرملة» بالكتابة حينما شكا إليه سوء حفظه.

و «عامر الشعبي» الذي كان يقول : ما كتبت سوداء في بيضاء ... كان يردد قوله : «الكتاب قيد العلم» (١) ، وكان يحض على الكتابة ويقول : «إذا سمعتم مني شيئا فاكتبوه ولو في حائط».

ومثله نسب لـ «الضحاك بن مزاحم» ـ ١٠٥ ه‍ ...

إلى أن جاء «عمر بن عبد العزيز» فحسم الأمر ، وأمر «ابن شهاب الزهري» ـ ١٢٤ ه‍ ، وغيره كـ «أبي بكر بن حزم» بجمع السنن ، (٢) وقد أرسل كتبا إلى الآفاق يحث فيها على تدوين الحديث ودراسته ، وعند ذلك أجمعت الأمة على الكتابة التي أصبحت من ضروريات حفظ الحديث لا يمكن الاستغناء عنها (٣).

__________________

(١) انظر «سنن الدارمي» (باب من رخص في كتابة العلم) ١ : ١٢٨.

(٢) «جامع بيان العلم» ١ : ٧٦.

(٣) «السنة قبل التدوين» ٣٢١ ـ ٣٢٨ ، ٣٣٧.

٦١
٦٢

الباب الثالث

المحدّثون يتمتعون بدقة منقطعة النظير

وفيه فصلان :

(الفصل الأول) : صفة رواية الحديث ، وشرط أدائه.

آراء العلماء في رواية المعنى.

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : بيان ما يقوله من يروي حديثا بالمعنى.

المسألة الثانية : حكم اختصار الحديث الواحد.

ورواية بعضه دون بعض ، والزيادة فيه.

المسألة الثالثة : حكم تقطيع متن الحديث الواحد ، وتفريقه في الأبواب

المسألة الرابعة : طريق السلامة من اللّحن والتصحيف في الحديث.

المسألة الخامسة : اللّحن والتصحيف.

المسألة السادسة : تقويم اللحن بإصلاح الخطأ.

المسألة السابعة : اتّباع المحدّث على لفظه وإن خالف اللغة الفصيحة.

(الفصل الثاني) : الاحتجاج بالحديث والاستشهاد به.

مطلب : معنى الاستشهاد ، والاحتجاج والتمثيل.

٦٣

الفصل الأول :

صفة رواية الحديث وشرط أدائه

آراء العلماء في رواية الحديث بالمعنى

أجمع العلماء على أن الراوي إذا لم يكن عالما عارفا بالألفاظ ، ومدلولاتها ، ومقاصدها ، خبيرا بما يحيل معانيها ، بصيرا بمقادير التفاوت بينها ، فإنه لا تجوز له الرواية بالمعنى ، بل يتعين عليه أن يؤدي نفس (١) اللفظ الذي سمعه ، لا يخرم منه شيئا ، ولا يبدل لفظا بلفظ (٢).

واختلفوا في جواز الرواية بالمعنى فيما إذا كان الراوي عالما عارفا بصيرا بذلك (٣).

ولهم في ذلك أقوال أشهرها :

القول الأول : مذهب اللفظ ، وأقصد بذلك أنه مذهب عدم جواز الرواية بالمعنى ، ووجوب مراعاة اللفظ.

وهذا مذهب «عبد الله بن عمر» ـ من الصحابة (٤) ـ ، وقال به طائفة من المحدثين والفقهاء والأصوليين. ومذهب «محمد بن سيرين» بالبصرة ،

__________________

(١) ورد في كتاب «الكتابة الصحيحة» ٣٦٩ : سأفعل نفس الشيء خطأ) وسأفعل الشيء نفسه (صواب).

وورد في «معجم الأخطاء الشائعة» ٢٥٢ : ويقولون : جاء نفس الرجل. والصواب : جاء الرجل نفسه ؛ لأن كلمتي «نفس» و «عين» إذا كانتا للتوكيد ، وجب أن يسبقها المؤكّد ، وأن تكونا مثله في الضبط الإعرابي ، وأن تضاف كل واحدة منهما إلى ضمير مذكور حتما ، يطابق هذا المؤكّد في التذكير والتأنيث ، والإفراد والتثنية والجمع. ا ه

(أقول) كلمة «نفس» إن أردنا أن يكون إعرابها توكيدا فتؤخر عن المؤكّد وجوبا ، ولا يمتنع تقديمها إن أعربت بحسب موقعها من الإعراب. وقد ورد في «لسان العرب» (مادة : نفس) ٦ : ٢٣٦ ما يجيز ذلك ، وهذا نصه : «ونفس الشيء : ذاته ، ومنه ما حكاه «سيبويه» من قولهم : نزلت بنفس الجبل ، ونفس الجبل مقابلي ، ونفس الشيء عينه ، يؤكّد به» وانظر «الكتاب» لسيبويه ١ : ٣٩٠. فعلى ذلك يحكم بصحة العبارات المتقدمة أسلوبا ، وليست هي من قبيل الخطأ الشائع. والله أعلم.

(٢) انظر «تدريب الراوي» ٢ : ٩٨.

(٣) انظر «مقدمة ابن الصلاح» ٣٣١ ـ ٣٣٣.

(٤) انظر «كشف الأسرار» ٣ : ٥٥.

٦٤

و «القاسم بن محمد» بالحجاز ، و «رجاء بن حيوة» بالشام. وقال «القرطبي» : وهو الصحيح من مذهب «مالك» ، ومذهب «ثعلب» واختيار «الجصاص» من الحنفيّين.

واقتصر بعضهم على اللفظ ، ولو خالف اللغة الفصيحة ، وكذا لو كان لحنا.

وهو معتمد «مسلم» ، فإنه في «صحيحه» يميز اختلاف الرواة حتى في حرف المتن (١).

وروى «الخطيب» عن «سفيان الثوري» قال : كان «إبراهيم بن ميسرة» لا يحدث إلا على ما سمع. وكذا «ابن طاووس» (٢) وروى عن «قتيبة» قال : كانوا يقولون : الحفّاظ أربعة : إسماعيل بن علية ، وعبد الوارث ، ويزيد بن زريع ، ووهيب. كان هؤلاء يؤدون اللفظ (٣).

وروى «الخطيب» عن «عبد الرحمن بن أبي ليلى» قال : قلنا لـ «زيد ابن أرقم» : يا أبا عمرو ألا تحدثنا؟ فقال : قد كبرنا ونسينا ، والحديث عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ شديد (٤).

وروى «الرامهرمزي» عن «عمر بن الخطاب» أنه قال : من سمع حديثا فحدّث به كما سمع فقد سلم. وروى نحوه عن «عبد الله بن عمرو».

وروى عن «بشير بن نهيك» قال : كنت أكتب عند أبي هريرة ما سمعت منه فإذا أردت أن أفارقه جئت بالكتاب فقرأته عليه ، فقلت : أليس هذا ما سمعته منك؟ قال : نعم (٥).

وروى عن الساجي أن «الربيع» حدثهم عن «الشافعي» أنه قال في

__________________

(١) «فتح المغيث» ٢ : ٢١٢ ، و «الكفاية» ٣١١ ، و «المحدث الفاصل» ٥٣٤ ، ٥٣٥.

(٢) «الكفاية» ٣١١ ، ٣١٢.

(٣) «الكفاية» ٣١٦.

(٤) «الكفاية» ٢٦٦.

(٥) «المحدث الفاصل» ٥٣٨.

٦٥

صفة المحدث : ويكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمعه ، لا يحدّث به على المعنى ، لأنه إذا حدّث به على المعنى وهو غير عالم بما يحتمل معناه ، لا يدري لعلّه أن يحمل الحلال على الحرام ، وإذا أداه بحروفه لم يبق وجه تخاف منه إحالة الحديث (١).

وروى عن «عبد الكريم الجزري» أنه قال : إني لأحدّث الحديث ما أترك منه كلمة (٢).

ومن هذا المذهب مذهب من لم يجز تقديم كلمة على كلمة.

روى «الخطيب» عن «محمد بن سيرين» عن أبي هريرة قال : سأل رجل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : أيصلي الرجل في ثوب واحد؟ فقال : أو كلّكم يجد ثوبين؟ ... قال : وسأل رجل عمر : أتصلي في ثوب واحد؟ فقال : أوسعوا على أنفسكم إذ أوسع الله عليكم ـ أو إذا وسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم (٣) ـ

قال «عاصم» : لا أدري بأيهما بدأ ... وذكر بقية الحديث. (٤)

ومن هذا المذهب مذهب من لم يجز إبدال كلمة بكلمة.

روى «الخطيب» عن «عبيد بن عمير» ، وهو يقص ، يقول : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «مثل المنافق كمثل الشاة الرابضة بين الغنمين»

__________________

(١) «المحدث الفاصل» ٥٣٩.

(٢) «المحدث الفاصل» ٥٤٣.

(٣) أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب الصلاة ـ باب الصلاة في القميص والسراويل والتبّان والقماء) ١ : ٩٦.

(٤) «الكفاية» ٢٧٣.

٦٦

فقال «ابن عمر» : ويلكم ... لا تكذبوا على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، إنما قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «مثل المنافق كمثل الشّاة العائرة بين الغنمين (١)»

وروى عن «أنس بن مالك» قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ :

«من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من جهنم» أو «مقعده من النار» (٢).

ومن هذا المذهب من لم يجز إبدال حرف بحرف وإن كانت صورتهما واحدة.

روى «الخطيب» عن «معن بن عيسى» قال : كان «مالك بن أنس» يتقى في حديث رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما بين التي والذي ، ونحوهما.

وروى عن «معن» قال : كان «مالك» يتحفظ من الباء والتاء والثاء في حديث رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (٣).

ومن هذا المذهب مذهب من لم يجز زيادة حرف واحد ، ولا حذفه ، وإن كان لا يغيّر المعنى.

روى «الخطيب» عن «ابن عمر» قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : لا تدخلوا على القوم المعذبين ـ يعني حجر ثمود ـ إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تكونوا باكين ، فلا تدخلوا عليهم فيصيبكم. أو قال :

يصيبكم مثل ما أصابهم.

وروى عن «الزهري» أنه سمع «أنس بن مالك» يقول : نهى

__________________

(١) «الكفاية» ٢٦٨. بهذا اللقط أخرجه «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب صفات المنافقين وأحكامهم) ٨ : ١٢٥ و «النسائي» في «سننه» في (كتاب الإيمان وشرائعه ـ مثل المنافق) ٨ : ١٢٤.

وبنحوه أخرجه «الدارمي» في «سننه» في (باب من رخص في الحديث إذا أصاب المعنى) ١ : ٩٣ و «أحمد» في «مسنده» ٢ : ٣٢ ، ٦٨ ، ٨٢. والجميع عن «عبد الله بن عمر» ـ رضي‌الله‌عنهما ـ. العائرة : المترددة الحائرة لا تدري لأيهما تتبع.

(٢) «الكفاية» ٢٦٩. وتقدم تخريجه ، في (الفصل الثاني) «تدوين الحديث النبوي».

(٣) «الكفاية» ٢٧٥.

٦٧

رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن الدباء ، والمزفت أن ينتبذ فيه ، فقيل لسفيان : أن ينبذ فيه؟ فقال : لا.

هكذا قاله لنا «الزهري» : ينتبذ فيه (١).

ومن هذا المذهب من لا يرى تخفيف حرف ثقيل ، ولا تثقيل حرف خفيف ، وإن كان المعنى واحدا.

روى «الخطيب» عن «حميد بن عبد الرحمن» عن أمه أم كلثوم بنت عقبة ، قالت : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «ليس الكاذب من أصلح بين الناس فقال خيرا ، أو نمى خيرا».

قال «حماد» : سمعت هذا الحديث من رجلين ، فقال أحدهما : نمى خيرا ، خفيفة ، وقال الآخر : نمّى خيرا ، مثقلة (٢).

ومن هذا المذهب مذهب من لا يرى رفع حرف منصوب ، ولا نصب حرف مرفوع أو مجرور ، وإن كان معناهما سواء.

وروى «الخطيب» عن أبي حنظلة قال : سألت ابن عمر ، كم صلاة السفر؟ قال : ركعتين ، قلت : وأين قول الله ـ عزوجل ـ : «فإن خفتم» ونحن آمنون؟ فقال : سنّة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أو سنّه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (٣).

وروى عن «عبد الله بن عمرو» قال : كان على ثقل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ رجل يقال له : «كركرة» فمات ، فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : هو في النار ، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها.

__________________

(١) «الكفاية» ٢٧٤.

(٢) «الكفاية» ٢٧٨.

(٣) «الكفاية» ٢٧٩.

٦٨

قال «أبو عبد الله البخاري» : قال «ابن سلام» : «كركرة» (١).

واستدلوا بقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ، وأداها كما سمعها ، فرب حامل فقه إلى غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» (٢).

فقد أمر بمراعاة اللفظ في النقل ، لأن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أوتي من جوامع الكلم ، والفصاحة في البيان ما هو نهاية لا يدركه فيه غيره ، ففي التبديل بعبارة أخرى لا يؤمن التحريف أو الزيادة والنقصان فيما كان مرادا له (٣).

قال «فخر الإسلام البزدوي» : واستدلوا بالمعقول ، وهو أن النقل بالمعنى ربما يؤدي إلى اختلال معنى الحديث ، فإن الناس متفاوتون في إدراك معنى اللفظ الواحد كما أشار إليه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بقوله : «فرب حامل فقه إلى غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» ، ولهذا يحمل كل واحد منهم اللفظ الواحد على معنى لا يحمله عليه غيره ، وقد صادفنا من المتأخرين من يتنبه في آية أو خبر لفوائد لم يتنبه لها أهل الأعصار السالفة من العلماء المحققين ، فعلمنا أنه لا يجب أن يقف السامع على جميع فوائد اللفظ في الحال ، وإن كان فقيها ذكيا ، مع أنه ـ عليه‌السلام ـ قد أوتي جوامع الكلم ، وكان أفصح العرب لسانا ، وأحسنها بيانا ، فلو جوزنا النقل بالمعنى ربما حصل التفاوت العظيم ، مع أن الراوي يظن أنه لا تفاوت ، ولأنه لو جاز تبديل لفظه ـ عليه‌السلام ـ بلفظ آخر لجاز تبديل لفظ الراوي أيضا بالطريق الأولى ؛ لأن التغيير في لفظ غير الشارع أيسر منه في لفظ الشارع ، ولجاز ذلك في الطبقة الثالثة والرابعة ، وذلك يفضي إلى سقوط الكلام الأول ؛ لأن الإنسان وإن اجتهد في تطبيق الترجمة لا يمكنه الاحتراز عن تفاوت ، وإن

__________________

(١) «الكفاية» ٢٨٠.

(٢) بنحوه أخرجه «الترمذي» في «سننه» في (أبواب العلم ـ باب في الحثّ على تبليغ السّماع) ٤ : ١٤١ و «ابن ماجه» في «سننه» في (المقدمة) ١ : ٨٤ ـ ٨٥ ، و (كتاب المناسك ـ باب الخطبة يوم النحر) ٢ : ١٠١٥ ، و «الدارمي» في «سننه» في (باب الاقتداء بالعلماء) ١ : ٧٥ ، و «أحمد» في «مسنده» في عدة مواضع ١ : ٤٣٧ ، ٣ : ٢٢٥ ، ٤ : ٨٠ ، ٥ : ١٨٣.

(٣) «أصول السرخسي» ١ : ٣٥٥ ، وروى الحديث بروايات مختلفة. انظر «الكفاية» ٢٦٧ ، ٣٠٥.

٦٩

قلّ ، فإذا توالت هذه التفاوتات كان التفاوت الآخر تفاوتا فاحشا ، بحيث لا يبقى بين الكلامين الأول ، وبين الآخر مناسبة.

ونقل عن «أبي العباس ، أحمد بن يحيى بن ثعلب» : أنه كان يذهب هذا المذهب ، ويقول : إن عامة الألفاظ التي لها نظائر في اللغة إذا تحققتها وجدت كل لفظة منها مختصة بشيء لا تشاركها صاحبتها فيه ، فمن جوز العبارة ببعضها عن البعض لم يسلم عن الزيغ عن المراد ، والذهاب عنه (١).

القول الثاني : مذهب المعنى ، وأقصد بذلك أنه مذهب جواز (٢) الرواية بالمعنى.

وهذا مذهب جمهور السلف والخلف ، فهو المذهب الذي تشهد به أحوال الصحابة ، وقال به «الحسن البصري» ، و «الشعبي» ، و «النخعي» ، و «عمرو بن دينار» (٣) ، و «سفيان الثوري» (٤) ، و «حماد بن زيد» (٥).

وهو مذهب الأئمة الفقهاء الأربعة.

وقال «الرامهرمزيّ» : قد دلّ قول «الشافعي» (٦) في صفة المحدث مع رعاية اتباع اللفظ على أنه يسوغ للمحدث أن يأتي بالمعنى دون اللفظ إذا كان عالما بلغات العرب ، ووجوه خطابها ، بصيرا بالمعاني والفقه ، عالما بما يحيل المعنى ، وما لا يحيله ، فإنه إذا كان بهذه الصفة جاز له نقل اللفظ ، فإنه يحترز بالفهم عن تغيير

__________________

(١) «كشف الأسرار» ٣ : ٥٥.

(٢) هذا الجواز في الجملة ، أي في تجويزه بعض الصور على الخصوص ، لا في تجويزه على العموم. «كشف الأسرار» ٣ : ٥٥.

(٣) «الكفاية» ٣١١ ـ ٣١٢.

(٤) «الكفاية» ٣١٥.

(٥) «الكفاية» ٣١٦.

(٦) انظر «الرسالة» لـ «الشافعي» «الرواية بالمعنى» الفقرات التالية : ٧٤٤ ، ٧٥٧ ، ١٠٠١ ، ١٠١٣ ، ١٠١٥ ، ١٠٣٦ ، ١٠٤٢.

٧٠

المعاني وإزالة أحكامها ، ومن لم يكن بهذه الصفة كان أداء اللفظ له لازما ، والعدول عن هيئة ما يسمعه عليه محظورا ، وإلى هذا رأيت الفقهاء من أهل العلم يذهبون.

وروى عن «محمد بن مسلم بن مسعدة» ـ وهو من أهل رامهرمز ـ قال :قلت لـ «محمد بن منصور» ـ قاضي الأهواز ـ في شيء جرى بيني وبينه :ثلاثة يشددون في الحروف ، وثلاثة يرخصون ، فممن رخص فيها : الحسن ، وكان الحسن يقول : يحكي الله ـ تعالى ـ عن القرون السالفة بغير لغاتها ، أفكذب هو!؟ وكان «محمد بن منصور» متكئا ، فاستوى جالسا ، ثم أخذ بمجامع كفه ، وقال : ما أحسن هذا!! أحسن الحسن جدا.

وقال «قتادة» عن «زرارة بن أوفى» : لقيت عدّة من أصحاب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فاختلفوا عليّ في اللفظ ، واجتمعوا في المعنى (١).

وروى عن «يحيى بن آدم» قال : سمعت «سفيان الثورى» يقول : إنما نحدثكم بالمعاني.

وروى عن «أبي حمزة» قال : قلت لإبراهيم النخعي : إنا نسمع منك الحديث ، فلا نستطيع أن نجيء به كما سمعناه ، قال : أرأيتك إذا سمعت تعلم أنه حلال من حرام؟ قال : نعم. قال : فهكذا كلّ ما نحدّث. (٢).

وروى «الرامهرمزي» أيضا عن «أبي هشام الرفاعي» قال : سمعت «يزيد بن هارون» وقد قال في حديث رواه في صلاة الصبح ، فقال «المستملي» : صلاة الغداة. فقال «يزيد» : صلاة الفجر.

وروى أن «محمد بن مصعب القرقسانيّ» كان يقول : أيش تشددون على أنفسكم؟! إذا أصبتم المعنى فحسبكم (٣).

__________________

(١) «المحدث الفاصل» ٥٣٠.

(٢) «المحدث الفاصل» ٥٣٥.

(٣) «الكفاية» ٣١٧.

٧١

وروى «الخطيب» عن «أبي سعيد» قال : كنا نجلس إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عسى أن نكون عشرة نفر ، نسمع الحديث ، فما منا اثنان يؤديانه ، غير أن المعنى واحد (١).

وروى «الخطيب» عن «علي بن خشرم» يقول : كان «ابن عيينة» يحدثنا ، فإذا سئل عنه بعد ذلك حدثنا بغير لفظه الأول ، والمعنى واحد (٢).

قال «الخطابي» : إنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعث مبلغا ومعلّما ، فهو لا يزال في كل مقام يقومه ، وموطن يشهده ، يأمر بمعروف ، وينهى عن منكر ، ويشرع في حادثة ، ويفتي في نازلة ، والأسماع إليه مصغية ، والقلوب لما يرد عليها من قوله واعية ، وقد يختلف عنها عباراته ، ويتكرر فيها بيانه ، ليكون أوقع للسامعين ، وأقرب إلى فهم من كان منهم أقل فقها ، وأقرب بالإسلام عهدا ، وأولو الحفظ والإتقان من فقهاء ، الصحابة يوعونها كلها سمعا ، ويستوفونها حفظا ، ويؤدونها على اختلاف جهاتها ، فتجمع لك لذلك في القضية الواحدة عدة ألفاظ ، تحتها معنى واحد ، وذلك كقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «الولد للفراش ، وللعاهر الحجر» (٣) ، وفي رواية اخرى : «وللعاهر الأثلب» ، وقد مر بمسامعي ولم يثبت عندي : «وللعاهر الكثكث».

وقد يتكلم ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في بعض النوازل ، بحضرته أخلاط من الناس ، قبائلهم شتى ، ولغتهم مختلفة ، ومراتبهم في الحفظ والإتقان غير متساوية ، وليس كلهم يتيسر

__________________

(١) «الكفاية» ٣٠٩ ـ ٣١٠.

(٢) «الكفاية» ٣١٦.

(٣) أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب الفرائض ـ باب الولد للفراش) ٨ : ٩ ، و «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب الرضاع ـ باب الولد للفراش) ٤ : ١٧١ ، و «النسائي» في «سننه» في (كتاب الطلاق ـ باب إلحاق الولد بالفراش) ٦ ١٨٠ ، و «أبو داود» في «سننه» في (كتاب الطلاق ـ باب الولد للفراش) ٢ : ١٨٢. وانظر «نصب الراية» في (باب الرجعة) ٢ :

٢٣٦ ، و «مجمع الزوائد» في (باب الولد للفراش) ٥ : ١٣. وجاء في «فتح الباري» ١٢ : ٣٧ :أخرج «أبو أحمد الحاكم» من حديث «زيد بن أرقم» رفعه : «الولد للفراش وفي فم العاهر الحجر» ، و «ابن حبان» من حديث «ابن عمر» : «الولد للفراش ، وبفي العاهر الأثلب». ا ه

اللغويات : الفراش : المستفرشة. العاهر : الزاني ، وقال «النووي» : ومعنى وللعاهر الحجر ، أي :

له الخيبة ولا حقّ له في الولد ، ولا يراد بالحجر هنا معنى الرجم ، لأنه ليس كلّ زان يرجم ، الأثلب : قيل : الحجر ، وقيل : دقاقه ، وقيل : التراب.

٧٢

لضبط اللفظ وحصره ، أو يتعمّد لحفظه ووعيه ، وإنما يستدرك المراد بالفحوى ، ويتعلق منه بالمعنى ، ثم يؤديه بلغته ، ويعبر عنه بلسان قبيلته ، فيجتمع في الحديث الواحد إذا انشعبت طرقه عدّة ألفاظ مختلفة ، موجبها شيء واحد (١).

قال «السرخسي» ـ ٤٩٠ ه‍ : وحجة القائلين بجواز المعنى : ما اشتهر من قول الصحابة : أمرنا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بكذا ، ونهانا عن كذا.

والنقل بالمعنى مشهور ، والعلماء يذكرون في تصانيفهم : بلغنا نحوا من ذلك. وهذا لأن نظم الحديث ليس بمعجز ، والمطلوب منه ما يتعلق بمعناه ، وهو الحكم من غير أن يكون له تعلق بصورة النظم ، وإنما يعتبر النظم في نقل القرآن ؛ لأنه معجز مع أنه قد ثبت أيضا فيه نوع رخصة ببركة دعاء رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على ما أشار إليه في قوله ـ : «أنزل القرآن على سبعة أحرف» إلا أن في ذلك رخصة من حيث الإسقاط ، وهذا من حيث التخفيف والتيسير (٢).

__________________

(١) مقدمة المصحح لكتاب «غريب الحديث» لـ «أبي عبيد».

(٢) «أصول السرخسي» ١ : ٣٥٥ ، و «تدريب الراوي» ٢ : ٩٩ ـ ١٠٢. وحديث : «أنزل القرآن على سبعة أحرف» أخرجه بنحوه «البخاري» في «صحيحه» في عدة محالّ ، منها في كتاب فضائل القرآن ـ باب أنزل القرآن على سبعة أحرف) ٦ : ١٠٠ ، و «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب صلاة المسافرين ـ باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف) ٢ : ٢٠٢ ، و «أبو داود» في «سننه» في (أبواب الوتر ـ باب أنزل القرآن على سبعة أحرف) ٢ : ٧٦. و «الترمذي» في «سننه» في (أبواب القراءات ـ باب ما جاء أنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف) ٤ : ٢٦٤.

و «النسائي» في «سننه» في (كتاب الافتتاح ـ باب جامع ما جاء في القرآن) ٢ : ١٥٠.

و «أحمد» في «مسنده» في مواطن كثيرة ، منها :

١ : ٢٤ ، ٤٠ ، ٢ : ٣٠٠ ، ٣٣٢ ، ٤٤٠ ، ٥ : ١٦.

قال «السندي» في حاشيته على «شرح السيوطي» على «سنن النسائي» ٢ : ١٥٠ ، أي : سبع لغات مشهورة ، وكان ذلك رخصة ، تسهيلا عليهم ، ثم جمعه «عثمان» ـ رضي‌الله‌عنه ـ حين خاف الاختلاف عليهم في القرآن ، وتكذيب بعضهم بعضا على لغة قريش التي أنزل عليها أولا.

والله أعلم. وفي «الوافي في شرح الشاطبية» (ص : ٨) والصواب أن قراءات الأئمة السبعة بل العشرة التي يقرأ الناس بها اليوم هي جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن وورد فيها الحديث : «أنزل القرآن على سبعة أحرف». وهذه القراءات جميعها موافقة لخط مصحف من المصاحف العثمانية التي بعث بها «عثمان» ـ رضي‌الله‌عنه ـ إلى الأمصار بعد أن أجمع الصحابة عليها وعلى اطّراح كلا ما يخالفها).

٧٣

وقال «فخر الإسلام البزدوي» ـ ٤٨٢ ه‍ : كانو ينقلون الحديث الواحد الذي جرى في مجلس واحد ، في واقعة معينة ، بألفاظ مختلفة ، مثل ما روي في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد ، ودعا بعد الفراغ ، فقال : «اللهم ارحمني ومحمدا ، ولا ترحم بعدنا أحدا» أنه ـ عليه‌السلام ـ قال : «لقد حجرت واسعا» (١) ، وروى : «لقد ضيقت واسعا» ، «لقد منعت واسعا. والإجماع منعقد على جواز شرح الشرع للعجم بلسانهم ، وإذا جاز إبدال العربية بالعجمية فلأن يجوز إبدالها بعربية أخرى أولى ، إذ التفاوت بين العربية وترجمتها بالعربية أقل مما بينها ، وبين العجمية. وسفراء رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كانوا يبلّغون أوامره ونواهيه ، إلى البلاد بلغاتهم ، ويعلّمونهم بألسنتهم (٢).

وقال «الخطيب» ويدل على ذلك : اتفاق الأمة على أن للعالم بمعنى خبر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، وللسامع بقوله أن ينقل معنى خبره بغير لفظه وغير اللغة العربية ، وأن الواجب على رسله وسفرائه إلى أهل اللغات المختلفة من العجم وغيرهم أن يرووا عنه ما سمعوه وحملوه ، مما أخبرهم به وتعبدهم بفعله على ألسنة رسله سيما إذا كان السفير يعرف اللغتين ، فإنه لا يجوز أن يكل ما يرويه إلى ترجمان ، وهو يعرف الخطاب بذلك اللسان ، لأنه لا يأمن الغلط ، وقصد التحريف على الترجمان ، فيجب أن يرويه بنفسه. وإذا ثبت ذلك صح أن القصد برواية خبره وأمره ونهيه إصابة معناه ، وامتثال موجبه ، دون إيراد نفس لفظه وصورته ، وعلى هذا الوجه لزم العجم وغيرهم من سائر الأمم دعوة الرسول إلى دينه ، والعلم بأحكامه ، ويدل على ذلك أنه إنما ينكر الكذب والتحريف على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، وتغيير معنى اللفظ ، فإذا سلم راوي الحديث على المعنى من ذلك كان مخبرا بالمعنى المقصود من اللفظ ، وصادقا على الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، وبمثابة من أخبر عن كلام زيد وأمره

__________________

(١) أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب الأدب ـ باب رحمة الناس بالبهائم) ٧ : ٧٧ وأخرج قريبا منه «ابن ماجه» في «سننه» في (كتاب الطهارة ـ باب الأرض يصيبها البول كيف تغسل) ١ : ١٧٦ ، و «الترمذي» في «سننه» في (كتاب الطهارة ـ باب ما جاء في البول يصيب الأرض) ١ : ٩٩.

(٢) «كشف الأسرار» ٣ : ٥٥.

٧٤

ونهيه وألفاظه ، بما يقوم مقام كلامه ، وينوب منابه من غير زيادة ولا نقصان ، فلا يعتبر في أن راوي ذلك قد أتى بالمعنى المقصود ، وليس بكاذب ولا محرف ، وقد ورد القرآن بمثل ذلك ، فإن الله ـ تعالى ـ قصّ من أنباء ما قد سبق قصصا كرر ذكر بعضها في مواضع بألفاظ مختلفة ، والمعنى واحد ، ونقلها من ألسنتهم إلى اللسان العربيّ ، وهو مخالف لها في التقديم والتأخير والزيادة والنقصان ، ونحو ذلك.

وقد حكيت هذه الحجة بعينها عن «الحسن» (١).

قال «السرخسي» : الخبر إما أن يكون محكما (٢) ، له معنى واحد معلوم بظاهر المتن ، أو يكون ظاهرا (٣) ، معلوم المعنى بظاهره على احتمال شيء آخر ، كالعام الذي يحتمل الخصوص ، والحقيقة التي تحتمل المجاز. أو يكون مشكلا (٤) ، أو يكون مشتركا (٥) يعرف المراد بالتأويل ، أو يكون مجملا (٦) لا يعرف المراد به إلا

__________________

(١) «الكفاية» ٣٠٣ ، ٣٠٤ ، وانظر «المحدث الفاصل» ٥٣٠ ، و «الكفاية» ٢٠٧ ، ٢٠٨.

(٢) تعريف المحكم : «ما ازداد وضوحا وقوة على النص ، وأحكم المراد به عن احتمال النسخ والتبديل» وسمّي محكما من إحكام البناء. قال تعالى : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) آل عمران : ٧ ، «كشف الأسرار» ١ : ٤٩ ، ٥١.

(٣) تعريف الظاهر : «اسم لكل كلام ظهر المراد به للسامع بصيغته» نحو قوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) النساء : ٣ ، فإنه ظاهر في الإطلاق. وقوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) البقرة : ٢٧٥ هذا ظاهر في الإحلال. «كشف الأسرار» ١ : ٤٦.

(٤) تعريف المشكل : «اسم لما يشتبه المراد منه بدخوله في أشكاله على وجه لا يعرف المراد إلا بدليل يتميّز به من بين سائر الأشكال» ، مثل «أحرم» أي : دخل في الحرم ، و «أشتى» أي : دخل في الشتاء. والمشكل يقابل النص. «كشف الأسرار» ١ : ٥٢ وتعريف النص : «ما ازداد وضوحا على الظاهر بمعنى من المتكلم ، لا في نفس الصيغة» «كشف الأسرار» ١ : ٤٦ ، ٤٧.

(٥) تعريف المشترك : «كل لفظ احتمل معنى من المعاني المختلفة ، إذا تعين انتفى الآخر» مثل اسم العين ، فإنه للناظر ، ولعين الماء ، وللشمس ، وللميزان. «كشف الأسرار» ١ : ٣٧ ، ٣٨ ، و «أصول السرخسي» ١ : ١٢٦.

(٦) تعريف المجمل : «هو ما ازدحمت فيه المعاني ، واشتبه المراد اشتباها لا يدرك بنفس العبارة بل بالرجوع إلى الاستفسار ، ثم الطلب ، ثم التأمل» وذلك مثل : الربا ، والصلاة ، والزكاة ... «كشف الأسرار» ١ : ٥٤ ، ٥٥

٧٥

ببيان ، أو يكون متشابها (١) ، أو يكون من جوامع الكلم.

فأما المحكم فيجوز نقله بالمعنى لكل من كان عالما بوجوه اللغة ، لأن المراد به معلوم حقيقة ، وإذا كساه العالم باللغة عبارة أخرى لا يتمكن فيه تهمة الزيادة والنقصان.

فأما الظاهر فلا يجوز نقله بالمعنى إلا لمن جمع إلى العلم باللغة العلم بفقه الشريعة ؛ لأنه إذا لم يكن عالما بذلك لم يؤمن إذا كساه عبارة أخرى ألّا تكون تلك العبارة في احتمال الخصوص والمجاز مثل العبارة الأولى ، وإن كان ذلك هو المراد به ، ولعل العبارة التي يروي بها تكون أعم من تلك العبارة لجهله بالفرق بين الخاص والعام.

فإذا كان عالما بفقه الشريعة يقع الأمن عن هذا التقصير منه عند تغيير العبارة فيجوز له النقل بالمعنى كما كان يفعله «الحسن» ، و «النخعي» ، و «الشعبي».

فأما المشكل ، والمشترك ، فلا يجوز فيهما النقل بالمعنى أصلا ؛ لأن المراد بهما لا يعرف إلا بالتأويل ، والتأويل يكون بنوع من الرأي كالقياس ، فلا يكون حجة على غيره.

وأما المجمل فلا يتصور فيه النقل بالمعنى ، لأنه لا يوقف على المعنى فيه إلا بدليل آخر.

والمتشابه كذلك ، لأنا ابتلينا بالكف عن طلب المعنى فيه ، فكيف يتصور نقله بالمعنى.

__________________

(١) تعريف المتشابه : «هو الذي لا طريق لدركه أصلا إلا التسليم على اعتقاد الحقّيّة قبل الإصابة» ومثاله : إثبات رؤية الله تعالى بالأبصار حقا في الآخرة ، بنص القرآن الكريم ، بقوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) القيامة : ٢٢ ، ٢٣ «كشف الأسرار» ٥٥ ، ٥٩.

٧٦

وأما ما يكون من جوامع الكلم ، فالنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مخصوص بهذا النظم فلا يقدر أحد على ما كان هو مخصوصا به (١).

القول الثالث : لا تجوز الرواية بالمعنى في حديث رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خاصة ، وتجوز في غيره ، يروى ذلك عن «مالك» و «الخليل». روى «الخطيب» عن «مالك بن أنس» أنه قال : كل حديث للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يؤدّى على لفظه ، وعلى ما روي ، وما كان عن غيره فلا بأس إذا أصاب المعنى (٢).

القول الرابع : لا تجوز الرواية بالمعنى لغير الصحابة والتابعين ، وتجوز لهم ، لأن الحديث إذا قيده الإسناد وجب ألّا يختلف لفظه فيدخله الكذب (٣).

القول الخامس : لا تجوز الرواية بالمعنى لغير الصحابة خاصة ، لظهور الخلل في اللسان بالنسبة لمن جاء بعدهم ، بخلاف الصحابة ، فهم أرباب اللسان ، وأعلم الخلق بالكلام. حكاه «الماوردي» و «الروياني» في (باب القضاء) ، بل جزما بأنه لا يجوز لغير الصحابي ، وجعلا الخلاف في الصحابي دون غيره (٤).

وبه جزم «ابن العربي» في «أحكام القرآن» قال : لأنا لو جوزناه لكل أحد لما كنّا على ثقة من الأخذ بالحديث ، والصحابة اجتمع فيهم أمران :الفصاحة ، والبلاغة جبلّة ، ومشاهدة أقوال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ؛ فأفادتهم المشاهدة عقل المعنى جملة ، واستيفاء المقصود كله (٥).

القول السادس : وهو قول «الماورديّ» في «الحاوي» : إن كان الراوي

__________________

(١) «أصول السرخسي» ١ : ٣٥٥ ـ ٣٥٧ بتصرف ، انظر الأمثلة التطبيقية على ذلك : «كشف الأسرار» ٣ : ٥٥.

(٢) «الكفاية» ٢٨٨ ، و «فتح المغيث» ٢ : ٢١٥ ، و «تدريب الراوي» ٢ : ١٠١.

(٣) «فتح المغيث» ٢ : ٢١٥.

(٤) «فتح المغيث» ٢ : ٢١٥.

(٥) انظر «تدريب الراوي» ٢ : ١٠١.

٧٧

ذاكرا اللفظ الذي سمعه لم يجز أن يغيّره ، وإن لم يكن ذاكرا إياه ـ بأن نسيه ـ جاز ؛ لأنه تحمّل اللفظ والمعنى ، وقد عجز عن أداء أحدهما فيلزمه أداء الآخر ، ولا سيما أنّ تركه قد يكون كتما للأحكام (١).

القول السابع : يجوز المعنى لمن يحفظ اللفظ ، ليتمكّن من التصرّف فيه ، دون من نسيه (٢).

القول الثامن : لا تجوز الرواية والتبليغ بالمعنى خاصة ، بخلاف الإفتاء والمناظرة (٣). وهو مذهب «ابن حزم» ، وقد قال : حكم الخبر عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يورد بنص لفظه ، لا يبدّل ولا يغير إلا في حال واحدة ، وهي أن يكون المرء قد تثبّت فيه ، وعرف معناه يقينا ، فيسأل فيفتى بمعناه وموجبه ، فيقول : حكم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بكذا ، وحرّم كذا ، والواجب في هذه القضية ما صح عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو كذا.

وأما من حدّث وأسند القول إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقصد التبليغ لما بلغه عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فلا يحل له إلا أن يتحرى الألفاظ كما سمعها لا يبدل حرفا مكان آخر ، وإن كان معناهما واحدا ، ولا يقدم حرفا ، ولا يؤخر آخر (٤).

وبرهان ذلك : ما روى «الخطيب» عن «البراء بن عازب» أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : يا براء كيف تقول إذا أخذت مضجعك؟ قال :

قلت : الله ورسوله أعلم. قال : «إذا أويت إلى فراشك طاهرا فتوسد يمينك ، ثم قل : اللهم أسلمت وجهي إليك ، وفوضت أمري إليك ، وألجأت ظهري إليك ، رغبة ورهبة إليك ، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، آمنت بكتابك الذي أنزلت ،

__________________

(١) انظر «تدريب الراوي» ٢ : ١٠١.

(٢) انظر «تدريب الراوي» ٢ : ١٠٢.

(٣) «فتح المغيث» ٢ : ٢١٥.

(٤) «الإحكام في أصول الأحكام» ٢٦٠ ـ ٢٦١.

٧٨

وبنبيك الذي أرسلت» فقلت كما علمني ، غير أني قلت : ورسولك ، فقال بيده في صدري : «ونبيك» فمن قالها من ليلته ثم مات ، مات على الفطرة» (١).

القول التاسع : قال «الغزالي» : «يجوز إبدال لفظ بلفظ آخر ، يرادفه ويساويه في المعنى ، كما يبدل القعود بالجلوس ، والعلم بالمعرفة ، والاستطاعة بالقدرة ، والإبصار بالإحساس بالبصر ، والحظر بالتحريم ، وسائر ما لا يشك فيه. وعلى الجملة ما لا يتطرق إليه تفاوت الاستنباط والفهم ، وإنما ذلك فيما فهمه قطعا لا فيما فهمه بنوع استدلال يختلف فيه الناظرون. وإلى هذا ذهب «الخطيب» (٢).

وقال «الغزالي» أيضا : ويدل على جواز ذلك للعالم الإجماع على جواز شرح الشرع للعجم بلسانهم ، فإذا جاز إبدال العربية بعجمية ترادفها فلأن يجوز عربية بعربية ترادفها وتساويها أولى.

وكذلك كان سفراء رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في البلاد يبلغونهم أوامره بلغتهم ، وكذلك من سمع شهادة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فله أن يشهد على شهادته بلغة أخرى ، وهذا لأنا نعلم أنه لا تعبد في اللفظ ، وإنما المقصود فهم المعنى ، وإيصاله إلى الخلق ، وليس ذلك كالتشهد والتكبير وما تعبّد فيه باللفظ.

فإن قيل : فقد قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها ، فرب مبلّغ أوعى من سامع ، ورب حامل فقه ليس بفقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه».

قلنا : هذا هو الحجة ، لأنه ذكر العلة ، وهو اختلاف الناس في الفقه ، فما لا يختلف الناس فيه من الألفاظ المترادفة فلا يمنع منه ، وهذا الحديث بعينه قد نقل

__________________

(١) «الكفاية» ٢٧٠ ، ٣٠٦ ، و «المحدث الفاصل» ٥٣٢.

والحديث بلفظه أخرجه «الترمذي» في «سننه» في (أبواب الدعوات ـ باب ما جاء في الدعاء إذا أوى إلى فراشه) ٥ : ١٣٥.

وقريبا منه أخرج «البخاريّ» في «صحيحه» في (كتاب التوحيد ـ باب قول الله تعالى : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ ...)) ٨ : ١٩٦.

(٢) «الكفاية» ٣٠٠ ، و «المستصفى» ١ : ١٦٨.

٧٩

بألفاظ مختلفة والمعنى واحد ، وإن أمكن أن تكون جميع الألفاظ قول رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في أوقات مختلفة ، لكن الأغلب أنه حديث واحد ونقل بألفاظ مختلفة فإنه روي : «رحم الله امرأ» ، و «نضر الله امرأ» ، وروي : «ورب حامل فقه لا فقه له» ، وروي : «حامل فقه غير فقيه». وكذلك الخطب المتحدة ، والوقائع المتحدة ، رواها الصحابة ـ رضي‌الله‌عنهم ـ بألفاظ مختلفة فدل ذلك على الجواز» (١). ا. ه

القول العاشر : إن كان المطلوب بالحديث عملا ، كالتعبد بلفظه ، لم يجز المعنى ، وإن كان المطلوب به علما ، كالعقائد جاز المعنى ؛ لأن المعول في العلم على معناه دون لفظه. (٢)

واعلم أن هذا الخلاف لا يجري في أربعة أنواع :

النوع الأول : ما تعبد بلفظه ، كالتشهد والقنوت ، ونحوهما ، (٣) صرّح به «الزركشي».

النوع الثاني : ما هو من جوامع كلمه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ التي افتخر بإنعام الله عليها بها.

ذكره «السيوطي» في «التدريب» (٤).

النوع الثالث : ما يستدل بلفظه على حكم لغوي ، إلا أن يكون الذي أبدل اللفظ بلفظ آخر عربيا ، يستدل بكلامه على أحكام العربية.

ذكره جمهور النحاة.

النوع الرابع : ما تضمنته بطون الكتب ، فليس لأحد أن يغيّر لفظ شيء من كتاب مصنّف ، لأنه لا يملك تغيير تصنيف غيره (٥).

__________________

(١) انظر «الكفاية» ٣٠٥ ، و «المستصفى» ١ : ١٦٨ ، ١٦٩.

(٢) انظر «تدريب الراوي» ٢ : ١٠٢ ، و «فتح الباري» ٨ : ٣٠٤.

(٣) «الكفاية» ٣٠٤ ، و «تدريب الراوي» ٢ : ١٠٢.

(٤) «تدريب الراوي» ٢ : ١٠٢

(٥) «مقدمة ابن الصلاح» ٣٣١ ـ ٣٣٣ ، و «تهذيب الراوي» (٢ : ١٠٢).

٨٠