الحديث النبوي في النحو العربي

الدكتور محمود فجال

الحديث النبوي في النحو العربي

المؤلف:

الدكتور محمود فجال


الموضوع : اللغة والبلاغة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٤

نقضه سبيلا ، ولا أصابوا للتهمة عليه طريقا ، ولو كان فيهم أفصح منه لعارضوه به ، ثم لجعلوا من ذلك سببا لنقض دعوته ، والإنكار عليه ، غير أنهم عرفوا منه الفصاحة على أتم وجوهها ، وأشرف مذاهبها ، ورأوا له في أسبابها ما ليس لهم ، ولا يتعلقون به ، ولا يطيقونه ، وأدنى ذلك أن يكون قوي العارضة ، مستجيب الفطرة ، ملهم الضمير ، متصرف اللسان ، يضعه من الكلام حيث شاء ، لا يستكره في بيانه معنى ، ولا يندّ في لسانه لفظ ، ولا تغيب عنه لغة ، ولا تضرب له عبارة ، ولا ينقطع له نظم ، ولا يشوبه تكلف ، ولا يشق عليه منزع ، ولا يعتريه ما يعتري البلغاء في وجوه الخطاب ، وفنون الأقاويل ، من التخاذل ، وتراجع الطبع ، وتفاوت ما بين العبارة والعبارة ، والتكثر لمعنى بما ليس منه ، والتحيف لمعنى آخر بالنقص فيه ، والعلوّ في موضع ، والنزول في موضع ، إلى غير ذلك.

وقد نزه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن جميعها ، وسلم كلامه منها ، وخرج سبكه خالصا لا شوب فيه ، وكأنما وضع يده على قلب اللغة ينبض تحت أصابعه. ولو هم اطلعوا منه على غير ذلك ، أو ترامى كلامه إلى شيء من أضداد هذه المعاني لأطالوا في رد فصاحته ، وعرّضوا ، ولكان ذلك مأثورا عنهم ، دائرا على ألسنتهم ، مستفيضا في مجالسهم ومناقلاتهم ، ثم لردّوا عليه القرآن ، ولم يستطع أن يقوم لهم في تلاوته وتبيينه ، ثم لكان فيهم من يعيب عليه في مجلس حديثه ، ومحاضرة أصحابه ، أو ينتقص أمره ، ويغضّ من شأنه ، فإنّ القوم خلّص لا يستجيبون إلا لأفصحهم لسانا ، وأبينهم بيانا ، وخاصة في أول النبوّة ، وحدثان العهد بالرسالة ، فلما لم يعترضه شيء من ذلك ، وهو لم يخرج من بين أظهرهم ، ولا جلا عن أرضهم ، ورأينا هذا الأمر قد استمر على سنته ، واطرد إلى غايته ، وقام عليه الشاهد القاطع من أخبارهم ، علمنا قطعا وضرورة أنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان أفصح العرب ، وأنه آية من آيات الله ، لأولئك القوم ، و (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(١)(٢).

__________________

(١) البقرة : ١٨٧.

(٢) «تاريخ آداب العرب» ٢ : ٢٨٣ ـ ٢٨٧.

٢١

وقال الأستاذ محمود محمد شاكر في مقال «المقتطف» (عدد يوليو سنة ١٩٣٤ ص ١١٤ ـ ١١٥) :

«إن اتساع الفكرة في هذا الزمن ، ثم بساطتها ، ثم خفاء موضع الفلسفة العالية فيها ، ثم تغلغل النظرة الفلسفية إلى أعماق الحقيقة الحية في الكون : هو رأس ما يمتاز به كبار الأفذاذ والبلغاء في عصرنا هذا. وهو النوع الذي لم تعرفه العربية إلا في القليل من شعرائها ، وفي القليل من شعر هؤلاء الشعراء ، وليس في العربية من هذا النوع إلا معجزتان : إحداهما : القرآن ، والأخرى : ما صحّ من حديث الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، ففيهما وحدهما تبلغ الفكرة في نفسها ، ثم بتعبيرها وألفاظها ، ثم بشمول معانيها لجميع الحقائق الواشجة بها ، ثم بتنسّمها في ألفاظها وكلماتها نسمة الرّوح العطر في جوّ السّحر ، ثم فوق ذلك كله البساطة واللين والتقارب والتعاطف بين هذه المعاني كلها ـ نقول : يبلغ هذا كله مبلغا يكون منه ما هو كنسيم الجنة في طيبه ونعمته ، ويكون منه ما هو كحزّ المواسي في علائق القلوب ، ويكون منه ما هو كالنار تستعر وتتلذّع ، ويكون منه ما ينتظم البنيان الإنساني البليغ المتفهم فبهزّه هزّ الزلزلة أعصاب الأرض ، وبهذا كان القرآن معجزا ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وبمثله كان حديث الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هو ذروة البلاغة البشرية التي تتقطّع دونها أعناق الرجال» (١).

وأخيرا ما أثمرت بلاغة مثل ما أثمرته بلاغة السماء في القرآن الكريم ، ثم بلاغة الأرض في كلامه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

ولم يأت عن أحد من روائع الكلم مثل ما جاء عنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

__________________

(١) التعريف بكتاب «مفتاح كنوز السنة» : د ، ه ، للمحدث أحمد محمد شاكر.

٢٢

القسم الأول

دراسة مستفيضة لظاهرة الاستشهاد

بالحديث النبويّ في النحو العربيّ

وفيه ثلاثة أبواب :

(الباب الأول) : مدخل إلى علم النّحو العربيّ.

(الباب الثاني) : مدخل إلى علم الحديث النّبويّ.

(الباب الثالث) : المحدّثون يتمتّعون بدقّة منقطعة النظير.

٢٣
٢٤

الباب الأول

مدخل إلى علم النحو العربي

وفيه ثلاثة فصول :

(الفصل الأول) : معرفة اللغة والإعراب أصل لمعرفة الحديث النّبويّ.

(الفصل الثاني) : فائدة تعلّم النّحو.

(الفصل الثالث) : آراء علماء الشريعة في تعلّم النّحو.

٢٥

الفصل الأول :

معرفة اللغة والإعراب أصل لمعرفة الحديث النبوي

«النّحو» دعامة العلوم العربية ، وقانونها الأعلى ، ولن تجد منها علما يستقلّ بنفسه عن «النحو» ، أو يستغنى عن معونته ، أو يسير بغير نوره وهداه.

وجميع العلوم النقلية ـ على جليل شأنها ـ لا سبيل إلى استخلاص حقائقها ، والنفاذ إلى أسرارها ، بغير هذا العلم ، فهل ندرك كلام الله ـ تعالى ـ ونفهم دقائق التفسير ، وأحاديث الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأصول العقائد ، وأدلة الأحكام ، والفقه الإسلاميّ ، والبحوث الشرعيّة ، إلّا بإلهام النحو ، وإرشاده؟.

و «النحو» وسيلة المستعرب ، وسلاح اللغوي ، وعماد البلاغي ، وأداة المشرّع والمجتهد ، والمدخل إلى العلوم الشرعية والعربيّة جميعا. فليس عجيبا أن يصفه الأعلام السابقون بأنه : «قانون اللغة ، وميزان تقويمها» (١) ، وأن يفرغ له العباقرة من أسلافنا ، يجمعون أصوله ، ويثبتون قواعده ، ويرفعون بنيانه شامخا ، ركينا ، في إخلاص نادر ، وصبر لا ينفد (٢).

قال «أحمد بن علي القلقشنديّ» ـ ٨٢١ ه‍ :

«ومما يحتاج إليه الكاتب «النحو» ، والأخذ منه بالحظ الوافر ، وصرف اهتمامه إلى القدر الكافي منه». (٣)

__________________

(١) «صبح الأعشى» ١ : ١٦٧.

(٢) مقدمة «النحو الوافي» بتصرف.

(٣) «ضوء الصبح المسفر» ٥٨.

٢٦

وقال «شهاب الدين محمود الحلبي» ـ ٧٢٥ ه‍ :

«ويتبع ذلك (١) قراءة ما يتفق له من كتب «النحو» التي يحصل بها المقصود من معرفة العربية ، بحيث يجمع بين طرفي الكتاب الذي يقرؤه ، ويستكمل استشراحه ، ويكبّ على الإعراب ويلازمه ، ويجعله دأبه ، ليرتسم في فكره ، ويدور على لسانه ، وينطلق به عقال قلمه وكلمه ، ويزول به الوهم عن سجيته ، ويكون على بصيرة من عبارته ، فإنه لو أتى من البراعة بأتم ما يكون ، ولحن ذهبت محاسن ما أتى به ، وانهدمت طبقة كلامه ، وألقى جميع ما يحسنه ، ووقف به عند ما جهله» (٢).

وقد كان الجهابذة من أسلافنا يتباهون بمعرفته.

ففي أول مقدمة «تدريب الراوي» يتحدث «السيوطي» ـ ٩١١ ه‍ ـ رحمه‌الله ـ بأنه عبر لجة قاموس «علم الحديث الشريف» حيث وقف غيره بشاطئه ، ولم يكتف بورود مجاريه ، حتى بقر عن منبعه ومناشئه ... ثم قال : مع ما أمدني الله به من العلوم ، فذكر التفسير ... وعلومه ... والفقه ... واللغة .. ثم قال :

والنحو الذي يفتضح فاقده بكثرة الزلل ، ولا يصلح الحديث للحان.

وقال «الجاحظ» ـ ٢٥٥ ه‍ : «كان أيوب السختياني يقول : تعلّموا النحو ؛ فإنّه جمال للوضيع ، وتركه هجنة للشريف» (٣).

__________________

(١) أي : الآلات والأصول التي يحتاجها من يريد أن يكون منشئا وكاتبا.

(٢) «حسن التوسل إلى صناعة الترسل» ٨٠ ، وهذا النص نقله «القلقشنديّ» في «ضوء الصبح المسفر» ٥٨ ، معزوا ل : «حسن التوسل».

(٣) «البيان والتبيين» ٢ : ٢١٩.

٢٧

ومن كلام «مالك بن أنس» ـ ١٧٩ ه‍ :

«الإعراب حلي اللّسان ، فلا تمنعوا ألسنتكم حليّها» (١).

وقال «عمر» ـ رضي‌الله‌عنه ـ ٢٣ ه‍ :

«تعلموا اللحن والفرائض ، فإنه من دينكم».

قال «يزيد بن هارون» ـ ٢٠٦ ه‍ : اللحن هو اللغة (٢).

وقال «أبو إسحاق الشاطبي» (٣) : «إنّ هذه الشريعة المباركة عربية ، فمن أراد تفهمها فمن جهة لسان العرب يفهم ، ولا سبيل إلى تطلب فهمها من غير هذه الجهة» (٤).

__________________

(١) «صبح الأعشى» ١ : ١٦٩

(٢) «صبح الأعشى» ١ : ١٤٨ : وفيه : أخرجه «ابن أبي شيبة».

(٣) «الشاطبي» نسبة لمدينة «شاطبة» ، وهي مدينة كبيرة ، ذات قلعة حصينة ، بشرق الأندلس ، يخترق بطاحها واد عليه بساتين جميلة. خرج منها جماعة من العلماء ، واستولى عليها الإفرنج : ٦٤٥ ه‍ ، فمن هؤلاء صاحب الترجمة «إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي ، الغرناطي ، أبو إسحاق» (المتوفّى : ٧٩٠ ه‍) الشهير بالشاطبي ، الحافظ ، الأصولي ، اللغوي. كان بارعا في العلوم ، وهو من أفراد العلماء المحققين الأثبات ، له القدم الراسخ والإمامة العظمى في الفنون.

من كتبه «الموافقات» تحسّ حين تقرؤه أنك تتلقى الشريعة من إمام أحكم أصولها خبرة ، وأشرب مقاصدها دراية. و «المجالس» شرح به كتاب البيوع من «صحيح البخاري». و «الاعتصام».

وشرح الألفية المسماة : «المقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية» مخطوط في خمسة مجلدات ضخام ، كتبت سنة ٨٦٢ ه‍ ، والنسخة نفيسة موجودة في خزانة الرباط (الرقم ٦ جلاوي).

قال «التنبكتي» : لم يؤلف عليها ـ أي : الخلاصة ـ مثله بحثا وتحقيقا. فيما أعلم. أه وحين تقرؤه تشعر أنك بين يدي رجل هو من أغزر النحاة علما ، وأوسعهم نظرا ، وأقواههم في الاستدلال حجة. انظر «نيل الابتهاج بتطريز الديباج» مطبوع على هامش «الديباج» ٤٦ ـ ٥٠ ، و «الأعلام».

١ : ٧٥.

(٤) «الموافقات» ٢ : ٦٤.

٢٨

وقال «المبارك ، ابن الأثير ، مجد الدين أبو السعادات» ـ ٦٠٦ ه‍ :

«... معرفة اللغة والإعراب هما أصل لمعرفة الحديث وغيره ، لورود الشريعة المطهرة بلسان العرب ...» (١).

وقال «ضياء الدين بن الأثير» (٢) : «أما علم النحو فإنه في علم البيان من المنظوم والمنثور بمنزلة (أبجد» في تعليم الخط ، وهو أول ما ينبغي إتقان معرفته لكل أحد ينطق باللسان العربي ، ليأمن معرّة اللحن» (٣).

ولهذا «قالوا : إن الأئمة من السلف والخلف أجمعوا قاطبة على أنه شرط في رتبة الاجتهاد ، وأن المجتهد لو جمع كل العلوم لم يبلغ رتبة الاجتهاد حتى يعلم «النحو» فيعرف به المعاني التي لا سبيل لمعرفتها بغيره. فرتبة الاجتهاد متوقفة عليه ، لا تتم إلا به ... (٤)»

__________________

(١) «جامع الأصول» ١ : ٣٧ ، ونقل هذه العبارة «حاجي خليفة» في كتابه «كشف الظنون» ١ :

٦٣٦.

(٢) من لطف مبدع الكون أن نشأ ثلاثة أعلام في بيت واحد ، لأب واحد ، نشأ الجميع في جزيرة «ابني عمر» (جزيرة أوس وكامل ابني عمر بن أوس التغلبي) (وهي مدينة فوق الموصل على دجلتها ، ودجله محيطة بها) فبرز كلّ واحد منهم في فن من الفنون حتى أصبح مرجعا فيه ، وهؤلاء الثلاثة هم أبناء الأثير :

الأول : «علي بن محمد ، أبو الحسن ، عز الدين ، ابن الأثير» ـ ٦٤٠ ه‍ (المؤرخ) صاحب كتاب الكامل ، المعروف بتاريخ ابن الأثير ، وأكثر من جاء بعده من المؤرخين عيال على كتابه هذا ، وصاحب كتاب «أسد الغابة في معرفة الصحابة». انظر «وفيات الأعيان» ٣ : ٣٤٨ ، و «الأعلام» ٤ : ٣٣١.

والثاني : «المبارك بن محمد ، أبو السعادات ، مجد الدين ، ابن الأثير» ـ ٦٠٦ ه‍ (المحدث اللغوي) أشهر العلماء ذكرا ، وأكبر النبلاء قدرا ، وأحد الأفاضل المشار إليهم ، وفرد الأماثل المعتمد في الأمور عليهم.

صاحب كتاب «النهاية» في غريب الحديث. وكتاب «جامع الأصول في أحاديث الرسول». انظر «وفيات الأعيان» ٤ : ١٤١ ، و «الأعلام» ٥ : ٢٧٢.

والثالث : «نصر الله بن محمد ، أبو الفتح ، ضياء الدين ، ابن الأثير» ـ ٦٣٧ ه‍ (كان بارعا في الأدب ، وتحرير الرسائل) ، وكان قوي الحافظة. من محفوظاته : شعر أبي تمام ، والمتنبي ، والبحتري. ومن تآليفه : «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر». انظر «وفيات الأعيان» ٥ : ٣٨٩ ، و «الأعلام» ٨ : ٣١.

(٣) «المثل السائر» ١ : ٤٤

(٤) «لمع الأدلة في أصول النحو» (الفصل الحادي عشر).

٢٩

ولهذا الاعتبار رسم المنهج الرفيع في دراسة النحو ، فتعاقبت طوائف النحاة ، وتوالت زمرهم في ميدانيه ، وتلقى الراية نابغ عن نابغ ، وألمعيّ في إثر ألمعيّ ، وتسابقوا مخلصين دائبين ، فرادى وزرافات ، في إقامة صرحه ، وتشييد أركانه ، فأقاموه سامق البناء ، وطيد الدّعامة ، مكين الأساس وهذا ما حمل علماء اللغة الأجانب على الاعتراف بفضلهم ، والإشادة ببراعتهم (١).

وكانت الناس فيما سلف تتعاير باللحن (٢) ، وكان مما يسقط الرجل بالمجتمع أن يلحن ، حتى قال «عبد الملك بن مروان» ـ ٨٦ ه‍ وقد قيل له : (أسرع إليك الشيب) : شيبني ارتقاء المنابر مخافة اللحن.

وكان يرى اللحن في الكلام أقبح من التفتيق في الثوب النفيس (٣).

قال «الأصمعي» : خاصم «عيسى بن عمر الثقفي النحوي» رجلا إلى «بلال بن أبي بردة» فجعل «عيسى» يتتبّع الإعراب ، وجعل الرجل ينظر إليه ، فقال له «بلال» : لأن يذهب بعض حقّ هذا أحبّ إليه من ترك الإعراب ، فلا تتشاغل به ، واقصد لحجّتك (٤).

قال «علي بن محمد الأشموني» ـ نحو ٩٠٠ ه‍ قال «المطرزي» ـ ٦١٦ ه‍ : نقط الياء من (قائل) و (بائع) عامي ، قال : ومرّ بي في بعض تصانيف «أبي الفتح ، ابن جني» ـ ٣٩٢ ه‍ أن «أبا علي» ـ ٣٧٧ ه‍ دخل على واحد من المتسمين بالعلم ، فإذا بين يديه جزء مكتوب فيه (قايل)

__________________

(١) من ذلك ما قاله «دي بور» في كتابه «تاريخ الفلسفة في الإسلام» ، ونصه كما جاء في ترجمة د. محمد أبي ريدة ، ص : ٤ ـ : «علم النحو أثر رائع من آثار العقل العربي ، بما له من دقة في الملاحظة ، ومن نشاط في جمع ما تفرق ، وهو أثر عظيم يرغم الناظر فيه على تقديره ، ويحق للعرب أن يفخروا به». مقدمة «النحو الوافي».

(٢) قالوا : أول لحن سمع بالبادية : هذه عصاتي ، وأول لحن سمع في العراق : حيّ على الفلاح (بكسر الياء بدل فتحها). «البيان والتبيين» ٢ : ٢١٩.

(٣) «عيون الأخبار» ٢ : ١٥٨ ومن قول ابنه «مسلمة» : «اللحن في الكلام أقبح من الجدري في الوجه».

(٤) «البيان والتبيين» ٢ : ٢١٨.

٣٠

بنقطتين من تحت. فقال «أبو عليّ» لذلك الشيخ : هذا خطّ من؟ فقال : خطي. فالتفت إلى صاحبه وقال : قد أضعنا خطواتنا في زيارة مثله ، وخرج من ساعته.

قال «محمد بن علي الصبان» ـ ١٢٠٦ ه‍ : كان الواجب عليه أن يقول : خطّ من هذا؟ لوجوب صدارة الاستفهام وما أضيف إليه (١).

وقد كان السابقون يقدرون (٢) الرجل بقدر ما فيه من علم ، ويسقطونه بقدر جهله.

قال «أبو محمد الأزدي» ـ ٣٤٨ ه‍ : واظب على العلم فإنه يزين الرجال. كنت يوما في حلقة «أبي سعيد السيرافي» ـ ٣٦٨ ه‍ ، فجاء «ابن عبد الملك» خطيب جامع المنصور ، وعليه السواد ، والطويلة ، والسيف ، والمنطقة ، فقام إليه الناس وأجلسوه ، فلما جلس قال : لقد عرفت قطعة من هذا العلم ، وأريد أن استزيد منه ، فأيهما خير «سيبويه» أو «الفصيح» (٣)؟ فضحك الشيخ ومن في حلقته ، ثم قال : يا سيدنا «محبرة» اسم أو فعل أو حرف؟ فسكت ، ثم قال : حرف ، فلما قام لم يقم له أحد (٤).

و «الحجاج» ـ ٩٥ ه‍ على أنه من الخطباء الأبيناء البلغاء ، كان في طبعه تقزز من اللحن أن يقع منه أو من غيره ، فإذا وقع منه حرص على ستره ، وإبعاد من اطلع عليه منه.

__________________

(١) انظر «شرح الأشموني» على الألفية ، «حاشية الصبان» ٤ : ٢٨٨.

(٢) يقال : قدر فلانا : عظّمه ، وفي التنزيل : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) الأنعام : ٩١.

(٣) «الفصيح» اسم كتاب لـ «أبي العباس ثعلب ، أحمد بن يحيى» ـ ٢٩١ ه‍ إمام الكوفيين في النحو واللغة. «بغية الوعاة» ١ : ٣٩٦.

(٤) «أخبار الحمقى والمغفلين» ١٢٤.

٣١

ذكر أنه سأل «يحيى بن يعمر الليثي» (١) ـ ١٢٩ ه‍ :

أتسمعني ألحن على المنبر؟ فقال يحيى : الأمير أفصح الناس إلّا أنه لم يكن يروي الشعر. قال : أتسمعني ألحن حرفا؟ قال : نعم ، في آي القرآن.

قال : فذاك أشنع ، وما هو؟ قال : تقول : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ...)(٢) تقرؤها «أحبّ» بالرفع.

فأنف «الحجاج» أن يطلّع له رجل على لحن ، فبعث به إلى خراسان.

وكان «الحجاج» يعجب بفصاحة «يحيى» هذا ، فسأله يوما : أخبرني عن «عنبسة بن سعيد» أيلحن؟ قال : كثيرا ، قال : أفأنا ألحن؟ قال : لحنا خفيفا ، قال : كيف ذلك؟ قال : تجعل (أن : إن) و (إن : أن) ، ونحو ذلك.

قال : لا تساكنّي ببلد ، أخرج (٣).

وقال «السيوطي» في أول مقدمة «تدريب الراوي» في ذمّ من يدعي الحديث بغير علم النحو ـ : «... أو تلفّظ بكلمة من الحديث لم يأمن أن يزل في إعرابها ، فصار بذلك ضحكة للناظرين ، وهزأة للساخرين».

وقال في «تدريب الراوي» ٢ : ١٠٧ :

وروى «الخليلي» في «الإرشاد» عن «العباس بن المغيرة بن عبد الرحمن» عن أبيه قال : جاء «عبد العزيز الدراورديّ» في جماعة إلى أبي ليعرضوا عليه كتابا ، فقرأ لهم «الدراورديّ» ، وكان رديء اللسان يلحن ، فقال أبي : ويحك يا «دراورديّ» أنت كنت إلى إصلاح لسانك قبل النظر في هذا الشأن أحوج منك. إلى غير ذلك.

__________________

(١) هو أبو سليمان ، من علماء التابعين ، وقد أدرك بعض الصحابة ، وهو أول من نقط المصاحف ، ولد بالأهواز ، وسكن البصرة ، عارف بالحديث ، والفقه ، ولغات العرب. وفي لغته إغراب وتقعر. كان فصيحا ، ينطق بالعربية طبيعة غير متكلف. أعجب «الحجاج» بقوّة أسلوبه ، فطلبه فجاءه إلى العراق ، وحادثه فلم ترضه صراحته ، فردّه إلى خراسان. «بغية الوعاة» ٢ : ٣٥٤ ، و «الأعلام» ٨ : ١٧٧.

(٢) التوبة : ٢٤.

(٣) «طبقات النحويين واللغويين» ٥ ، و «من تاريخ النحو» ٨ ـ ١٢.

٣٢

وكان الرجل فيما مضى يخشى من ظهور اللحن على لسانه.

لقى أحدهم رجلا من أهل الأدب ، وأراد أن يسأله عن أخيه ، وخاف أن يلحن ، فقال : أخاك ، أخوك ، أخيك ، هاهنا؟ فقال الرجل : لا ، لي ، لو ، ما هو حضر (١).

فهذا الجواب لا يخلّص صاحبه من معرّة الجهل ، ولو كان المسؤول عاقلا لسلك طريق العلم ، ونفض عن نفسه عار الجهل.

وقال «ابن الصلاح» ـ ٦٤٣ ه‍ : روّينا عن «النضر بن شميل» ـ ٢٠٣ ه‍ قال : «جاءت هذه الأحاديث على الأصل معربة». وقال «الأصمعي» ـ ٢١٦ ه‍ : إن أخوف ما أخاف (٢) على طالب العلم إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «من كذب عليّ متعمدا فليتبوّأ مقعده من النار» ؛ (٣) لأنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يكن يلحن ، فمهما رويت عنه ولحنت فيه ، كذبت عليه.

وقال «الحافظ العراقي» ـ ٨٠٦ ه‍ في «ألفيته» ٣٤٧ :

وليحذر اللحان والمصحفا

على حديثه بأن يحرفا

فيدخلا في قوله : «من كذبا»

فحقّ النحو على من طلبا

فحقّ على طالب الحديث أن يتعلّم من النحو واللغة ما يتخلّص به من شين اللحن والتحريف ومعرّتهما.

__________________

(١) «أخبار الحمقى والمغفلين» ١٢٣.

(٢) وإنما قال «الأصمعي» : «أخاف» ، ولم يجزم ؛ لأن من لم يعلم العربية ، وإن لحن لم يكن متعمدا الكذب. «توضيح الأفكار» ٢ : ٣٩٣.

(٣) أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب العلم ـ باب إثم من كذب على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ) ١ : ٣٦ ، و «مسلم» في مقدمة «صحيحه» ١ : ٨ من حديث «أبي هريرة». وقد أفاض في تخريجه وأجاد «أبو الفيض ، جعفر الكتاني» في كتابه : «نظم المتناثر من الحديث المتواتر» ٢٠ ـ ٢٤.

٣٣

ولا بد لمن يريد تعلم النحو من الشغف به ، ومجالسة أهله ، وإدامة النظر في كتبه ، وبذل الوسع في تحصيله ، والوقوف على أبوابه وفصوله ، ليطلع على خفاياه ، ويدرك خباياه.

وكان فيما سلف «أبو عبد الله ، الحسين بن أحمد بن خالويه» (المتوفى ٣٨٠ ه‍ بحلب) (١) إمام النحو والأدب ، وأحد أفراد الدّهر في كل فن من فنون العلم ، وكانت الرحلة إليه من الآفاق. هذا الإمام الذي لا يشق له غبار في علوم العربية جاءه رجل وقال له : أريد أن أتعلّم من العربية ما أقيم به لساني. فقال : أنا منذ خمسين سنة أتعلم النحو ، ما تعلمت ما أقيم به لساني (٢).

فهذا الإمام لم يبالغ ، ولكنه يريد أن يقرر أنه دائب في تحصيل العلم لا يفتر ، وقد فاز بجزئه ، ولم يحط بكله ، وفي التنزيل : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)(٣) ، فمن أراد أن يقيم لسانه ، فعليه أن ينصرف للعلم بكليته.

وعن «شعبة» ـ ١٦٠ ه‍ : «من طلب الحديث ولم يبصر العربية فمثله مثل رجل عليه برنس (٤) ليس له رأس».

وعن «حماد بن سلمة» ـ ١٦٧ ه‍ قال : «مثل الذي يطلب الحديث ولا يعرف النحو ، مثل الحمار عليه مخلاة لا شعير فيها».

وقال «السيوطي» ـ ٩١١ ه‍ : كان «حماد بن سلمة» يمرّ بـ «الحسن البصريّ» في الجامع فيدعه ، ويذهب إلى أصحاب العربية يتعلّم منهم (٥).

__________________

(١) كان العلماء قديما يعدون «حلب الشهباء» مدينة العلم والعلماء ، فلقد أسهمت إسهاما بالغا في تخريج العلماء والزهاد ، بالإضافة إلى المدن العظيمة التالية : «مكة المكرمة» ، و «المدينة المنورة» ، و «دمشق» ، و «القاهرة» ، و «بغداد». والله الكريم أسأل أن يعيد لهذه البلاد نشاطها العلمي ، وازدهارها الفكري ؛ ليعود للإسلام سالف عزه ، وتالد مجده.

(٢) «بغية الوعاة» ١ : ٥٢٩.

(٣) يوسف : ٧٦.

(٤) البرنس ـ بالضم ـ قلنسوة طويلة ، أو كل ثوب رأسه منه دراعة كان أوجبة أو قمطرا. «قاموس».

(٥) «بغية الدعاة» ١ : ٥٤٨.

٣٤

وقال «شمس الدين السخاوي» ـ ٩٠٢ ه‍ : عن «أبي أسامة ، حماد ابن سلمة» (١) ، أنه قال لإنسان : إن لحنت في حديثي فقد كذبت عليّ فإني لا ألحن. وصدق ـ رحمه‌الله ـ فإنه كان مقدما في ذلك ، بحيث إنّ «سيبويه» شكى إلى «الخليل بن أحمد» ـ ١٧٥ ه‍ أنه سأله عن حديث : «هشام بن عروة» (٢) عن أبيه في رجل رعف ، يعني بضم العين على لغة ضعيفة. فانتهره ، وقال له : أخطأت ، إنما هو (رعف) (٣) ، يعني بفتحها ، فقال له «الخليل» : صدق ، أتلقى بهذا أبا أسامة (٤)؟! وهو سبب تعلّم «سيبويه» العربية (٥).

__________________

(١) كان إماما رأسا في العربية ، فصيحا بليغا ، كبير القدر ، صاحب سنّة ، شديدا على المبتدعة ، زاهدا ، حجة ، روى له «مسلم» والأربعة ، وتوفي سنة ١٦٧ ه‍ ، وفيه قال «اليزيديّ» :

يا طالب النحو ألا فابكه

بعد أبي عمرو وحمّاد

انظر «بغية الدعاة» ١ : ٥٤٨ ـ ٥٤٩.

(٢) هشام بن عروة بن الزبير بن العوام ، أبو المنذر ، القرشي ، الأسدي ، (٦١ ـ ١٤٦ ه‍) : تابعي ، من أئمة الحديث ، ومن علماء «المدينة» ، ولد وعاش فيها. وزار «الكوفة» فسمع منه أهلها ، ودخل بغداد ، وافدا على «المنصور» العباسي ، فكان من خاصته ، وتوفي بها. روى نحو أربعمائة حديث. «الأعلام» ٨ : ٨٧.

(٣) الرّعاف : دم يسبق من الأنف ، رعف يرعف ، ويرعف رعفا ورعافا ، ورعف ورعف. قال «الأزهري» : ولم يعرف : رعف ، ولا رعف ، في فعل الرّعاف. قال «الجوهري» : ورعف ـ بالضم ـ لغة فيه ضعيفة.

(٤) جاء في «توضيح الأفكار» ٢ : ٣٩٣ سأل أحدهم حماد عن حديث هشام بن عروة عن أبيه في رجل رعف ، فانتهرني ، وقال : أخطأت إنما هو مرعف ـ بفتح العين ـ ...) أقول : لا وجود لكلمة (مرعف) في شيء من كتب اللغة ، ففي النقل تحريف. والله أعلم.

(٥) انظر «فتح المغيث» ٢ : ٢٢٨ ، و «تدريب الراوي» ٢ : ١٠٦ وذكر أستاذنا العلامة المحقق «عبد السّلام محمد هارون» في نشأة «سيبويه» وطلبه للنحو) في مقدمة تحقيقه وشرحه لكتاب «سيبويه» ص : ٧ ـ ما يلي : ... طفق «سيبويه» يطلب العلم ، فكان الحديث والفقه من أول ما يدرس العلماء فأعجبه ذلك ، وصحب الفقهاء وأهل الحديث ، وكان يستملي الحديث على «حماد بن سلمة بن دينار البصري» ـ ١٦٧ ه‍ قال «القفطي» : «وكان شديد الأخذ» فبينما هو يستملي قول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «ليس من أصحابي إلا من لو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء» ، فقال «سيبويه» : «ليس أبو الدرداء» وظنه اسم «ليس». فقال «حماد» : لحنت يا سيبويه ، ليس هذا حيث ذهبت ، وإنما «ليس» هاهنا استثناء ، ـ

٣٥

ـ قال «القلقشندي» : قال «عثمان المهريّ» : أتانا كتاب «عمر ابن الخطاب ـ لعنة الله عليه ـ ونحن بأذربيجان يأمرنا بأشياء ، ويذكر فيها : تعلموا العربية ، فإنها تثبّت العقل ، وتزيد في المروءة.

ولله درّ «أبي سعيد البصري» حيث يقول :

النحو يبسط من لسان الألكن

والمرء تكرمه إذا لم يلحن

وإذا طلبت من العلوم أجلّها

فأجلّها عندي مقيم الألسن

 ـ قال صاحب «الريحان والريعان» : واللحن قبيح في كبراء الناس وسراتهم.

كما أن الإعراب جمال لهم ، وهو يرفع الساقط من السّفلة ، ويرتقي به إلى مرتبة تلحقه بمن كان فوق نمطه وصنفه.

__________________

فقال : لا جرم ، سأطلب علما لا تلحنني فيه ، فلزم «الخليل» فبرع. انظر «أخبار النحويين والبصريين» ٤٢ ، ٤٣ ، و «إنباه الرواة» ٢ : ٣٥٠ ، ٣٥٥ ، و «مجالس العلماء» ١٥٤ ، و «بغية الوعاة» ١ : ٥٤٨ ، و «مغني اللبيب» ٣٨٧ ، و «سيبويه إمام النحاة» ٨٤.

وخبر آخر يرويه «حماد» أنه جاء إليه «سيبويه» مع قوم يكتبون شيئا من الحديث ، قال «حماد» : فكان فيما أمليت ذكر «الصفا» ، فقلت : «صعد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الصفا» ، وكان هو الذي يستملّ ، فقال : «صعد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الصفاء» ، فقلت : يا فارسيّ ، لا تقل :الصفاء ؛ لأن «الصفا» مقصور. فلما فرغ من مجلسه كسر القلم ، وقال : «لا أكتب شيئا حتى أحكم العربية» انظر «مجالس العلماء» ١٥٤.

ولعل هاتين الحادثتين المثيرتين مع حوادث أخرى هي التي حدت بسيبويه إلى العناية الشديدة بتعلّم النحو. ونحو ذلك ما حفز من بعد «عثمان بن جني» حينما كان يقرأ النحو بجامع الموصل ، فمر به «أبو علي» فسأله عن مسألة في التصريف فقصّر فيها ، فقال له «أبو علي» : «زبّبت قبل أن تحصرم!» فلزمه من يومئذ مدة أربعين سنة ، واعتنى بالتصريف إلى أن تصدّر مكان «الفارسي» فيه ببغداد. «بغية الوعاة» ٢ : ١٣٢.

أما الحديث : «ليس من أصحابي إلا من لو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء» فقد ورد في معظم تراجم «سيبويه» ، ولم أعثر عليه في كتب الحديث ، ويروى الحديث في «الجامع الصغير» ٢ : ١٤٨ هكذا : «ما من أحد من أصحابي إلا ولو شئت لأخذت عليه في بعض خلقه غير أبي عبيدة بن الجراح».

٣٦

قال : وإذا لم يتجه الإعراب فسد المعنى ؛ فإنّ اللحن يغيّر المعنى واللفظ ، ويقلبه عن المراد به إلى ضده ، حتى يفهم السامع خلاف المقصود منه.

وقد روي أن أعرابيا سمع قارئا يقرأ : «أن الله برىء من المشركين ورسوله» (١) بجر «رسوله» فتوهم عطفه على «المشركين» ، فقال ، أو برىء الله من رسوله؟ فبلغ ذلك «عمر بن الخطاب» ـ لعنة الله عليه ـ فأمر ألّا يقرأ القرآن إلا من يحسن العربية. على أن «الحسن» قد قرأها بالجرّ على القسم.

وقد ذهب على الأعرابي فهم ذلك لخفائه.

وسمع أعرابي رجلا يقول : (أشهد أن محمدا رسول الله) ، بفتح «رسول» فتوهم أنه نصبه على النعت ، فقال : يفعل ما ذا؟

وقال رجل لآخر : ما شانك؟ بالنصب ، فظن أنه يسأل عن شين به ، فقال : عظم في وجهي.

وقال رجل لأعرابي : كيف أهلك؟ (٢) بكسر اللام ، وهو يريد السؤال عن أهله ، فتوهّم أنه يسأل عن كيفية هلاك نفسه ، فقال : صلبا.

__________________

(١) التوبة : ٣ ، قال «الألوسي» ـ ١٢٧٠ ه‍ : قرأ «الحسن» و «ابن أبي إسحاق» و «عيسى بن عمرو» : «ورسوله» بالنصب ، وعليها فالعطف على اسم «أنّ» وهو الظاهر ، وجوّز أن تكون الواو بمعنى «مع» ، ونصب «رسوله» على أنه مفعول معه ، أي : برىء معه منهم. وعن «الحسن» أنه قرأ بالجر ، على أن الواو للقسم ، وهي كالقسم بعمره ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في قوله ـ سبحانه ـ : «لعمرك».

وقيل : يجوز كون الجر على الجوار ، وليس بشيء ، وهذه القراءة لعمري موهمة جدا ، وهي في غاية الشذوذ ، والظاهر أنها لم تصح» ثم ذكر «الألوسي» قصة الأعرابي المذكورة ، ثم قال : فعندها أمر «عمر» بتعليم العربية ، ونقل أنّ «أبا الأسود الدؤلي» سمع ذلك فرفع الأمر إلى «علي» ـ كرم الله وجهه ـ فكان ذلك سبب وضع النحو. والله أعلم. أه «روح المعاني» ١٠ : ٤٧. قال «أبو حيان» ـ ٧٥٤ ه‍ : وقرىء : «ورسوله» بالجر شاذا ، ورويت عن «الحسن». «البحر المحيط» ٥ : ٦

(٢) في العبارة لحن ، وصوابها كيف أهلك)؟ وتعرب «كيف» هنا : اسم استفهام في محل رفع خبر مقدم ، و «أهل» : مبتدأ مؤخر مرفوع ، وهو مضاف ، و «الكاف» : ضمير متصل في محل جر مضاف إليه.

٣٧

ودخل رجل على «زياد بن أبيه» فقال : إن أبونا مات ، وإن أخينا وثب على مال أبانا فأكله (١). فقال «زياد» للّذي أضعته من كلامك أضرّ عليك مما أضعته من مالك.

وقيل لرجل : من أين أقبلت؟ فقال : من عند أهلونا (٢). فحسده آخر حين سمعه ، وظن ذلك فصاحة ، فقال : أنا والله أعلم من أين أخذها ، من قوله : (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا)(٣) فأضحك كلّ منهما من نفسه (٤).

قال «ابن حزم الأندلسيّ» ـ ٤٥٧ ه‍ : قد حدثني «يونس بن عبد الله بن مغيث» قال : أدركت بـ «قرطبة» مقرئا يعرف بالقرشي ، أحد مقرئين ثلاثة للعامّة كانوا فيها ، وكان هذا القرشي لا يحسن النحو ، فقرأ عليه قارىء يوما سورة «ق» : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ)(٥) فردّه عليه القرشي «تحيد» بالتنوين ، فراجعه القارئ ، وكان يحسن النحو ، فلجّ المقرئ ، وثبت على التنوين. وانتشر ذلك الخبر إلى أن بلغ إلى «يحيى بن مجاهد الفزاري الألبيري» ، وكان منقطع القرين في الزهد والخير والعقل ، وكان صديقا لهذا المقرئ ، فمضى إليه فدخل عليه وسلّم عليه ، وسأله عن حاله ، ثم قال له : إنه بعد عهدي بقراءة القرآن على مقرئ فأردت تجديد ذلك عليك ، فسارع المقرئ إلى ذلك ،

__________________

(١) في العبارة لحن ، وصوابها إنّ أبانا مات ، وإنّ أخانا وثب على مال أبينا فأكله) كما هو مقرر في باب «الأسماء الستة» ، فـ «أب» و «أخ» اسمان يرفعان بالواو ، وينصيان بالألف ، ويجران بالياء.

(٢) «أهلون» لفظ ملحق بجمع المذكر السالم ؛ لذا يستحق في إعرابه الرفع بالواو ، والنصب والجر بالياء. وهو ملحق ؛ لأن مفرده «أهل» وهو اسم جنس جامد ، ولم تجتمع فيه شروط جمع المذكر السالم من العلمية أو الوصفية. وصواب الإجابة على مقتضى القاعدة من عند أهلينا). أما حسد الآخر حين سمعه ، وظنه فصاحة فهو دليل الغباء ؛ لذا أورد هذه الحادثة الإمام «أبو الفرج عبد الرحمن الجوزي» ـ ٥٩٧ ه‍ في كتابه «أخبار الحمقى والمغفلين» في (الباب الثامن عشر في المغفلين من المتحذلقين ، فيمن قصد الفصاحة والإعراب ، في كلامه من المغفلين) ص : ١٢٣.

(٣) الفتح : ١١.

(٤) «صبح الأعشى» ١ : ١٦٨.

(٥) ق : ١٩.

٣٨

فقال له «الفزاري» : أريد أن أبتدئ بالمفصل (١) ، فهو الذي يتردّد في الصلوات.

فقال له المقرئ : ما شئت ، فبدأ عليه من أوّل المفصل ، فلما بلغ سورة «ق» وبلغ الآية المذكورة ، ردّها عليه المقرئ ، بالتنوين ، فقال له «يحيى بن مجاهد» : لا تفعل ، ما هي إلا غير منونة ، بلا شك ، فلجّ المقرئ.

فلما رأى «يحيى بن مجاهد» لجاجه قال له : يا أخي إنه لم يحملني على القراءة عليك إلا لترجع إلى الحق في لطف ، وهذا عظيمة أوقعك فيها قلة علمك بالنحو ، فإنّ الأفعال لا يدخلها تنوين البتة ، فتحيّر المقرئ ، إلّا أنه لم يقنع بهذا.

فقال «يحي بن مجاهد» : بيني وبينك المصاحف ، فبعثوا فأحضرت جملة من مصاحفهم الجيران ، فوجدوها مشكولة بلا تنوين ، فرجع المقرئ إلى الحق ... قال «أبو محمد» : هذا المقرئ واهم مغفل (٢).

وقد كان سلفنا يعنون بتصحيح اللسان.

قال «أبو زيد النحويّ» (٣) قال رجل لـ «الحسن» : ما تقول في رجل ترك أبيه وأخيه؟.

__________________

(١) المفصّل : هو السّبع السابع من القرآن ، سمي به لكثرة فصله بالبسملة ، أو لقلة المنسوخ منه ، ولهذا يسمى بالمحكم أيضا. وقد اختلف في تحديد أول المفصل على اثنى عشر قولا ، كما في «الإتقان» ١ : ١٢١ ، والذي رجحه «ابن كثير» في تفسيره ٤ : ٢٢٠ أن ابتداء المفصل من سورة «ق» ؛ لرواية «أحمد» في «مسنده» ٤ : ٩ ، ٣٤٣ عن «أوس بن حذيفة» ـ رضي‌الله‌عنه ـ أنه سأل الصحابة :

كيف تحزّبون القرآن؟ فذكروا أنه سبعة أحزاب ، الحزب الأخير هو المفصل من «ق» حتى تختم. وهذه الرواية حسّن إسنادها «ابن كثير» في «فضائل القرآن» : ٤٩ ، و «العراقي» في تخريج أحاديث الإحياء في (كتاب آداب تلاوة القرآن ـ الباب الثاني). وانظر منهج ابن الجوزى في تفسيره «زاد المسير» ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

(٢) «الإحكام في أصول الأحكام» ٦٧٥ ـ ٦٧٧.

(٣) لعله : «سعيد بن أوس ، أبو زيد الأنصاري» توفي نحو ٢١٥ ه‍ بالبصرة عن ٩٣ سنة. كان إماما نحويا ، غلبت عليه اللغة والنوادر والغريب. قال «السيرافي» : كان أبو زيد يقول : كلما قال «سيبويه» :

«أخبرني الثقة» فأنا أخبرته به روى له «أبو داود» و «الترمذي».

قيل : كان «الأصمعي» يحفظ ثلث اللغة ، و «أبو زيد» ثلثي اللغة ، و «الخليل» نصف اللغة ، و «عمرو بن كركرة الأعرابي» يحفظ اللغة كلّها. «بغية الوعاة» ١ : ٥٨٣.

٣٩

فقال «الحسن» : ترك أباه وأخاه.

فقال الرجل : فما لأباه وأخاه؟

فقال «الحسن» فما لأبيه وأخيه؟

فقال الرجل لـ «الحسن» : أراني كلما كلمتك خالفتني (١)!

قال «ابن هشام الأنصاري» ـ ٧٦١ ه‍ في «مغنى اللبيب» ٨٧٧ : وحكى «العسكريّ» في كتاب «التصحيف» أنه قيل لبعضهم : ما فعل أبوك بحماره؟ فقال : باعه. فقيل له : لم قلت : باعه؟ قال :

فلم قلت أنت : بحماره؟ فقال : أنا جررته بالباء ، فقال : فلم تجرّ باؤك ، وبائي لا تجر؟!.

وحكى «أبو بكر التاريخيّ» في كتاب «أخبار النّحويّين» أن رجلا قال لسمّاك بالبصرة : بكم هذه السمكة؟ فقال : بدرهمان ، فضحك الرجل ، فقال السمّاك : أنت أحمق ، سمعت «سيبويه» يقول : ثمنها درهمان.

وقد يكون سبب اللحن الفهم السقيم ، والقياس الفاسد.

قال «ابن هشام» يوما : ترد الجملة الاسمية الحالية بغير واو في فصيح الكلام ، خلافا لـ «الزمخشري» ، كقوله تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) ، (٢) فقال بعض من حضر : هذه الواو في أولها.

وقال أيضا يوما : الفقهاء يلحنون في قولهم : «البايع» بغير همز ، فقال قائل : فقد قال الله ـ تعالى ـ : (فَبايِعْهُنَّ)(٣).

__________________

(١) «أخبار الحمقى والمغفلين» ١٢٠.

(٢) الزمر : ٦٠.

(٣) الممتحنة : ١٢.

٤٠