الحديث النبوي في النحو العربي

الدكتور محمود فجال

الحديث النبوي في النحو العربي

المؤلف:

الدكتور محمود فجال


الموضوع : اللغة والبلاغة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٤

«لا» التي لنفي الجنس

مسألة (٣٧)

في أنّ «لا» النافية للجنس لا تعمل في المعرفة (١)

«لا» النافية للجنس تعمل عمل «إنّ» ، فتنصب المبتدأ اسما لها ، وترفع الخبر خبرا لها. ولا فرق في هذا العمل بين المفردة ـ وهي التي لم تتكرر ـ نحو : لا غلام رجل قائم ، وبين المكررة ، نحو : «لا حول ولا قوة إلا بالله» (٢)

ولا يكون اسم «لا» النافية للجنس وخبرها إلا نكرة ، فلا تعمل في المعرفة ، وما ورد من ذلك مؤوّل بنكرة ، كقولهم : «قضية ولا أبا حسن لها» (٣) ، فالتقدير : ولا مسمّى بهذا الاسم لها (٤) ، ويدل على أنه معامل معاملة النكرة وصفه بالنكرة ، كقولك : لا أبا حسن حلّالا لها.

__________________

(١) موارد المسألة : «شرح الشاطبي» ، و «شرح ابن عقيل» ٢ : ٥.

(٢) ومع أنها تعمل مفردة ومكررة ، فعملها بعد استيفاء شروطها ، وهي مفردة واجب ، وعملها مكررة جائز.

وشروط إعمالها ستة ، أربعة ترجع إليها : كونها نافية ، وللجنس ، ونصا ، وعدم جار لها.

وواحد لمعموليها ، وهو : تنكيرهما. وواحد لاسمها ، وهو :

اتصاله بها. ويلزمه تأخير الخبر عنه ، فلا حاجة لجعله شرطا مستقلا انظر «حاشية الخضري» ١ : ١٤١.

(٣) أي : هذه قضية ولا أبا حسن قاض لها ، وهو نثر من كلام «عمر» في حق «عليّ» ـ رضي‌الله‌عنهما ـ كما في شرح الجامع. ثم صار مثلا للأمر المتعسّر. «حاشية الخضري» ١ : ١٤١.

(٤) هكذا أوّله «ابن عقيل» ، وليس تأويله بصحيح ؛ لأن المسمى بأبي حسن موجود ، وكثيرون ؛ فالنفي غير صادق. وقد أوّله العلماء بتأويلين آخرين :

أحدهما : أن الكلام على حذف مضاف ، والتقدير : ولا مثل أبي حسن لها. و «مثل» كلمة متوغلة في الإبهام ، لا تتعرف بالإضافة ، ونفي المثل كناية عن نفي وجود أبي الحسن نفسه.

والثاني : أن يجعل «أبا حسن» عبارة عن اسم جنس ، وكأنه قد قيل : ولا فيصل لها ، وهذا مثل تأويلهم في باب الاستعارة ، نحو : «حاتم» بالمتناهي في الجود ، ونحو : «مادر» بالمتناهي في البخل ، ونحو :

«يوسف» بالمتناهي في الحسن. وضابطه أن يؤوّل الاسم العلم بما اشتهر به من الوصف.

(قولهم : وترفع الخبر خبرا لها) بالشروط المتقدمة. وإن كان اسمها مضافا أو شبيها بالمضاف ، فهو معرب منصوب ، نحو لا صاحب علم ممقوت) ، و (لا طالعا جبلا حاضر).

والشبيه بالمضاف هو (ما اتصل به شيء من تمام معناه) ، وإن كان اسمها مفردا بني على ما ينصب به لو كان معربا. (والتفصيل في كتب النحو).

٢٠١

ومثله الحديث الشريف : (إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده ، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده) (١) ، ويفيد النفي العام.

مسألة (٣٨)

في حذف خبر «لا» النافية للجنس (٢)

الأغلب حذف خبر «لا» النافية للجنس ، إن علم في لغة الحجاز.

وواجب حذفه في لغة تميم وطيء ، فلم يلفظوا به أصلا ، نحو : لا بأس ، ونحو قوله ـ تعالى ـ : (قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ)(٣) ، وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ)(٤).

وقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (لا ضرر ولا ضرار) (٥).

وقوله ـ عليه صلوات الله ـ : (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر) (٦).

__________________

(١) أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب المناقب ـ باب علامات النبوة في الإسلام) ٤ : ١٨٢ ، و «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب الفتن) ٨ : ١٨٦. وانظر «فتح الباري» ٦ : ٦٢٥ ، و «همع الهوامع» في (الإضافة).

(٢) موارد المسألة : «شرح الشاطبي» ، و «همع الهوامع» (لا النافية للجنس).

(٣) الشعراء : ٥٠.

(٤) سبأ : ٥١.

(٥) أخرجه «ابن ماجه» في «سننه» في (كتاب الأحكام ـ باب من بنى في حقه ما يضر بجاره) ٢ : ٧٨٤.

و «مالك» في «الموطأ» في (كتاب الأقضية ـ باب القضاء في المرفق) ٢ : ٧٤٥.

و «أحمد» في «مسنده» ١ : ٣١٣ ، عن «عبد الله بن عباس» و «عبادة بن الصامت».

(٦) أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب الطب ـ باب الجذام) ٧ : ١٧ ، و (باب لا هامة) ٧ : ٢٧.

و «مسلم» في «صحيحه» في (باب الطب والمرض والرقي ـ باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر) ٧ : ٣١.

و «أبو داود» في «سننه» في (كتاب الطب ـ باب في الطيرة) ٤ : ١٧.

و «ابن ماجه» في «سننه» في (كتاب الطب ـ باب من كان يعجبه الفأل ، ويكره الطيرة) ٢ : ١١٧١ ، عن «أبي هريرة» و «ابن عباس».

وانظر «شرح صحيح مسلم» للنووي ١٤ : ٢١٣.

٢٠٢

مسألة (٣٩)

في حكم الخبر المجهول (١)

إذا جهل الخبر سواء أكان خبرا لـ «لا» أم خبرا للمبتدأ ـ وجب ذكره ، نحو قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «لا أحد أغير من الله ـ عزوجل ـ» (٢)

وإذا علم من سياق أو غيره فحذفه كثير ، نحو قوله تعالى : (فَلا فَوْتَ)(٣) أي : لهم ، و (قالُوا : لا ضَيْرَ)(٤) أي : علينا.

ولو ذكر لجاز عند الحجازيين.

وحذف الخبر المعلوم يلتزمه التميميون والطائيون.

__________________

(١) موارد المسألة : «أوضح المسالك» ١ : ٢٩٤ ، و «التصريح» ١ : ٢٤٦.

(٢) أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب التفسير ـ باب قوله : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) ٥ : ١٩٤ ، و (سورة الأعراف) ٥ : ١٩٦ ، من حديث «عبد الله بن مسعود» برواية : «لا أحد أغير من الله».

وفي (كتاب الكسوف ـ باب الصدقة في الكسوف) ٢ : ٢٥ ، وفي (كتاب النكاح ـ باب الغيرة) ٦ : ١٥٦ ، وفي (كتاب التوحيد ـ باب قول الله تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) ٨ : ١٧١ ، برواية :

«ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته يا أمة محمد ...».

وأخرجه «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب الكسوف ـ باب صلاة الكسوف) ٣ : ٢٧ ، برواية : «إن من أحد أغير من الله» من حديث «عائشة».

وفي (كتاب التوبة ـ باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش) ٨ : ١٠٠ برواية : «ليس أحد أغير من الله من أجل ذلك حرّم الفواحش» ، وبرواية : «لا أحد أغير من الله» من حديث «عبد الله».

و «مالك» في «الموطأ» في (كتاب صلاة الكسوف ـ باب العمل في صلاة الكسوف) ١ : ١٨٦.

و «النسائي» في «سننه» في (كتاب الكسوف) ٣ : ١٣٣ برواية : «ما من أحد أغير من الله» ، من حديث «عائشة».

و «أحمد» في «مسنده» ١ : ٣٨١ ، ٤٣٦ برواية : «لا أحد أغير من الله ـ عزوجل ـ».

(٣) سبأ : ٥١ ، والآية بتمامها : «وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ».

(٤) الشعراء : ٥٠ ، وتمام الآية : «قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ».:

٢٠٣

«ظنّ» وأخواتها

مسألة (٤٠)

في أنّ «تعلّم» بمعنى «اعلم» (١)

تستعمل «تعلّم» بمعنى «اعلم» ، كقول «زياد بن سيار» :

تعلّم شفاء النفس قهر عدوّها

فبالغ بلطف في التّحيّل والمكر

والكثير المشهور استعمالها في «أنّ» وصلتها ، كقول «زهير بن أبي سلمى» :

فقلت تعلّم أنّ للصّيد غرّة

وإلّا تضيّعها فإنّك قاتله

وقوله : تعلّم رسول الله أنّك مدركي

وفي حديث الدجال : «تعلموا أن ربكم ليس بأعور» (٢).

و «أن» مع اسمها وخبرها سدت مسدّ مفعولي «تعلّم».

قال «النووي» في شرحه لصحيح مسلم :

اتفق الرواة على ضبطه «تعلّموا» بفتح العين واللام المشددة ، وكذا نقله «القاضي» وغيره عنهم ، قالوا : ومعناه : اعلموا وتحققوا ، يقال : تعلّم بمعنى اعلم.

__________________

(١) مورد المسألة : «شرح الأشموني» ٢ : ٢٤ ، وشرح النووي ١٨ : ٥٥.

(٢) أخرجه «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب الفتن وأشراط الساعة ـ باب ذكر ابن صياد) ٨ : ١٩٣ ، برواية : «تعلّموا أنه أعور ـ أي الدجال ـ وأن الله تبارك وتعالى ليس بأعور»

و «أبو داود» في «سننه» في (كتاب الملاحم ـ باب خروج الدجال) ٤ : ١١٧ برواية : عن عبادة ابن الصامت أنه حدثهم ، أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال إني قد حدثتكم عن الدجال حتى خشيت ألّا تعقلوا ، إنّ مسيح الدجال رجل قصير أفحج جعد أعور مطموس العين ، ليس بناتئة ولا جحراء ، فإن ألبس عليكم فاعلموا أنّ ربكم ليس بأعور). قال «الخطابي» : الأفحج : الذي إذا مشى باعد بين رجليه. الجحراء : الذي قد انخسفت فبقى مكانها غائرا كالجحر ، يقول : إنّ عينه سادّة لمكانها. مطموسة : أي : ممسوحة ليست بناتئة ولا منخسفة. انظر مختصر «سنن أبي داود» ٦ : ١٧٥.

٢٠٤

«الفاعل»

مسألة (٤١)

في جر الفاعل (١)

قد يجر لفظ الفاعل بإضافة المصدر ، نحو قوله تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ)(٢).

أو بإضافة اسم المصدر ، كحديث : «من قبلة الرجل امرأته الوضوء» (٣).

مسألة (٤٢)

في أنّ الفاعل ضمير دلّ عليه الفعل (٤)

الفاعل ونائبه لا يحذفان ؛ لأنهما عمدتان ، ومنزلان من فعلهما منزلة الجزء.

فإن ورد ما ظاهره أنهما فيه محذوفان فيحملان على أنهما ضميران مستتران راجع لما

__________________

(١) موارد المسألة : «شرح الأشموني» ٢ : ٤٤ ، و «أوضح المسالك» ١ : ٣٣٦.

(٢) البقرة : ٢٥١.

(٣) أخرجه «مالك» في «الموطأ» في (كتاب الطهارة ـ باب الوضوء من قبلة الرجل امرأته) ١ : ٤٤ ، أورده موقوفا مرة على «عبد الله بن مسعود» ، وأخرى على «ابن شهاب».

ونسبة «المراديّ» في «شرح ألفية ابن مالك» ٣ : ٩ الحديث لـ «عائشة» ـ رضي‌الله‌عنها ـ لم أرها ، فلا أدري ما صحتها!! بل ظاهر ما نقل عن «عائشة» ـ رضي‌الله‌عنها ـ من عدم الوضوء من القبلة يردّ ما نسب إليها من إيجاب الوضوء. «نصب الراية» ١ : ٧١ ـ ٧٥.

(٤) موارد المسألة : «أوضح المسالك» ١ : ٣٣٩ ، و «مغنى اللبيب» ١٤٧ ، ٧٧٠ ، و «شرح شذور الذهب» ١٦٦ ، و «همع الهوامع» (الفاعل».

٢٠٥

دل عليه الفعل ، كالحديث : «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» (١).

ففاعل الفعل «يشرب» ضمير مستتر يعود على الشارب الذي استلزمه الفعل «يشرب» ، فإن «يشرب» يستلزم الشارب ، وحسّن ذلك تقدّم نظيره.

ويدرك ذلك بمجرد قراءة الحديث ، لأن قوله : «لا يزني الزاني» يتّسق مع المقدر ، وهو «يشرب الشارب». وعلى ذلك فقس ، وتلطّف لكل موضع بما يناسبه.

وعن «الكسائي» إجازة حذف الفاعل ، وتابعه على ذلك «السهيلي» و «ابن مضاء».

وعن «الكسائي» إجازة حذف الفاعل تمسّكا بنحو ما أوّل في قوله تعالى : (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ)(٢) أي : بلغت الروح ، وفي الحديث : «ولا يشرب الخمر» أي : ولا يشرب هو ، أي : الشارب ، وقول «سواد بن المضرّب السعدي» :

فإن كان لا يرضيك حتّى تردّني

إلى قطريّ لا إخالك راضيا

أي : إذا كان هو ـ أي : ما تشده مني.

__________________

(١) أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب المظالم ـ باب النّهبى بغير إذن صاحبه) ٣ : ١٠٧ ، وفي أول (كتاب الأشربة) ٦ : ٢٤١. و «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب الإيمان ـ باب حدثني حرملة بن يحيى) ١ : ٥٤.

و «أبو داود» في «سننه» في (كتاب السنة ـ باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه) ٤ : ٢٢١ و «ابن ماجه» في «سننه» في (كتاب الفتن ـ باب النهي عن النهبة) ٢ : ١٢٩٩

و «النسائي» في «سننه» في (كتاب القسامة ـ باب ما جاء في كتاب القصاص من المجتبى مما ليس في السنن) ٨ : ٦٢ ، وفي (كتاب الأشربة ـ باب ذكر الروايات المغلظات في شرب الخمر) ٨ : ٣١٣ ، وفي (كتاب قطع السارق ـ باب تعظيم السرقة) ٨ : ٦٤.

و «الترمذي» في «سننه» في (أبواب الإيمان ـ باب لا يزني الزاني وهو مؤمن) ٤ : ١٢٧.

(٢) القيامة : ٢٦.

٢٠٦

مسألة (٤٣)

في لغة «أكلوني البراغيث» (١)

ومن العرب من يلحق الفعل الألف والواو والنون ، على أنها حروف دوالّ ، كتاء التأنيث ، لا ضمائر. وهذه اللغة يسميها النحويون لغة : «أكلوني البراغيث».

ومنها قول «أبي قيس الرّقيّات» :

تولّى قتال المارقين بنفسه

وقد أسلماه مبعد وحميم

وقول «أحيحة بن الجلاح» :

يلومونني في اشتراء النخي

ل أهلي ، فكلّهم يعذل

ومن النحويين من جعلها ضمائر.

ثم اختلفوا ، فقيل : ما بعدها بدل منها.

وقيل : مبتدأ ، والجملة السابقة خبر.

والصحيح أنها حروف ، لا ضمائر ، لنقل الأئمة أنها لغة عزيت لـ «طيىء» و «أزدشنوءة» و «بلحارث».

وكان «ابن مالك» يسميها لغة : «يتعاقبون فيكم ملائكة».

قال «ابن حجر» في «فتح الباري» ٢ : ٣٤ :

قال «القرطبي» : الواو في قوله : «يتعاقبون» علامة الفاعل المذكر

__________________

(١) موارد هذه المسألة : «شرح الشاطبي» آخر مبحث (المعرب والمبنى) ومبحث (كون الوصف فاعلا) ، و «التسهيل» ٤٤ ، ١٤٠ ، ٢٢٦ ، و «شواهد التوضيح» ١٩٢ ، و «مغنى اللبيب» ٤٧٨ ، و «شرح شذور الذهب» ١٧٧ ، و «شرح القطر» ٢٥٣ ، و «شرح الأشموني» ٢ : ٤٧ ، و «شرح ابن عقيل» ١ : ١٦١ ، و «همع الهوامع» مبحث (الفاعل) ٢ : ٢٥٦ ـ ٢٥٧.

٢٠٧

المجموع على لغة «بلحارث» ، وهم القائلون : «أكلوني البراغيث» ، ومنه قول الشاعر : (١)بحوران يعصرن السليط أقاربه وهي لغة فاشية ، وعليها حمل «الأخفش» قوله تعالى : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)(٢).

وتوارد جماعة من الشراح على أن هذا الحديث من هذا القبيل ، ووافقهم «ابن مالك». وناقشه «أبو حيان» زاعما أن هذه الطريق اختصرها الراوي ، واحتج لذلك بما رواه «البزار» من وجه آخر عن «أبي هريرة» بلفظ : «إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم : ملائكة بالليل ، وملائكة بالنهار».

وقد سومح في العزو إلى مسند «البزار» ، مع أن هذا الحديث بهذا اللفظ في الصحيحين (٣) ، فالعزو إليهما أولى ... ا ه.

وعلى رأي «أبي حيان» فلا شاهد في الحديث على هذه الرواية.

__________________

(١) هو «الفرزدق». السليط : الزيت. أقارب : فاعل «يعصر» ، والنون علامة لكون الفاعل جمعا ، كتاء التأنيث. «الخزانة» ٢ : ٣٨٦.

(٢) الأنبياء : ٣ ، قال «ابن هشام» في «شرح شذور الذهب» ١٧٩ : والأجود تخريجها على غير ذلك ، وأحسن الوجوه فيها إعراب «الذين ظلموا» مبتدأ ، و «أسروا النجوى» خبرا.

(٣) الذين خرّجوا هذا الحديث على لغة «أكلوني البراغيث» اعتمدوا على رواية «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب مواقيت الصلاة ـ باب فضل صلاة العصر) ١ : ١٣٩ ، و «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب المساجد ـ باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما) ٢ : ١١٣ ، و «مالك» في «الموطأ» في (كتاب قصر الصلاة في السفر ـ باب جامع الصلاة) ١ : ١٧٠ ، و «النسائي» في «سننه» في (كتاب الصلاة ـ باب فضل صلاة الجماعة) ١ : ٢٤٠.

والرواية هي : «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» ولو تتبعوا روايات الحديث لعثروا على الروايات الأخرى ، ففي «البخاري» في (كتاب بدء الخلق ـ باب ذكر الملائكة ـ صلوات الله عليهم ـ) ٤ : ٨١ عن أبي هريرة ـ رضي‌الله‌عنه ـ قال قال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «الملائكة يتعاقبون. ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» الحديث ، والظاهر أن الحديث روى مختصرا ومطولا عن طريق «أبي الزناد». وهذا يقوى بحث «أبي حيان» كما قال «ابن حجر». وانظر «فتح الباري» ٢ : ٣٤ ـ ٣٥ ففيه تحرير عزيز ، و «شرح السيوطي» و «حاشية السندي» على «سنن النسائي» ١ : ٢٤٠.

٢٠٨

مسألة (٤٤)

في معنى «ولا ذو عهد في عهده» (١)

قال «ابن مالك» :

وإنّما تلزم فعل مضمر

متّصل ، أو مفهم ذات حر

قال «ابن عقيل» : تلزم تاء التأنيث الساكنة الفعل الماضي في موضعين :

أحدهما : أن يسند الفعل إلى ضمير مؤنث متصل ، ولا فرق في ذلك بين المؤنث الحقيقيّ والمجازيّ ، نحو : (هند قامت) ، و (الشمس طلعت).

فإن كان الضمير منفصلا لم يؤت بالتاء ، نحو : (هند ما قام إلا هي) (٢)

الثاني : أن يكون الفاعل ظاهرا ، حقيقي التأنيث ، نحو : (فامت هند). وهو المراد بقوله : (أو مفهم ذات حر) وأصل (حر : حرح).

وفهم من كلامه أن التاء لا تلزم في غير هذين الموضعين ، فلا تلزم في المؤنث المجازيّ الظاهر ، فتقول : (طلع الشمس) ، و (طلعت الشمس).

وقال «الشاطبي» : إن قوله : «أو مفهم ذات حر» لما عطف على (مضمر) وقد وصف بـ (متصل) كان المعطوف شريك المعطوف عليه في ذلك الوصف ، كأنه قال : أو مفهم ذات حر متصل ، وهو شبيه بقوله ـ عليه‌السلام ـ : (لا يقتل مسلم بكافر ، ولا ذو عهد في عهده) (٣).

قال المحققون : معناه : ولا ذو عهد في عهده بكافر ، أي : ولا ذو عهد من الكفرة ، كالذمي ، والمستأمن. وبذلك يصح المعنى.

__________________

(١) موارد المسألة : «شرح الشاطبي» ، و «شرح ابن عقيل» ٢ : ٨٨ ، و «حاشية السندي على شرح السيوطي لسنن النسائي» ٨ : ٢٠.

(٢) يفيد كلام «الدماميني» في «شرح التسهيل» جواز الوجهين في الضمير المنفصل. انظر «حاشية يس على التصريح» ١ : ٢٧٨.

(٣) أخرجه «أبو داود» في «سننه» في (كتاب الجهاد ـ باب في السرية تردّ على أهل العسكر) ٣ : ٨١ ، وفي (كتاب الديات ـ باب أيقاد المسلم بالكافر) ٤ : ١٨١ ، و «النسائي» في «سننه» في (كتاب القسامة ـ باب القود بين الأحرار والمماليك في النفس) ٨ : ٢٠ ، و (باب سقوط القود من المسلم للكافر) ٨ : ٢٤ ، و «ابن ماجه» في «سننه» في (كتاب الديات ـ باب لا يقتل مسلم بكافر) ٢ : ٨٨٨ ، و «أحمد» في «مسنده» ١ : ١١٩ ، ١٢٢ ، ٢ : ١٩٤ ، ٢١١ ، بلفظ «مؤمن» مكان «مسلم» في جميع الروايات.

٢٠٩

«التنازع»

مسألة (٤٥)

في التنازع بين أكثر من عاملين (١)

قد يكون التنازع بين أكثر من عاملين ، وقد يتعدد المتنازع فيه ، من ذلك قوله ـ عليه الصلاة والسّلام ـ : (تسبّحون وتحمدون وتكبّرون دبر كلّ صلاة ثلاثا وثلاثين) (٢)

فـ «دبر» منصوب على الظرفية ، و «ثلاثا وثلاثين» منصوب على أنه مفعول مطلق ، وقد تنازعهما كلّ من العوامل الثلاثة.

وأعمل الأخير لقربه ، وأعمل الأولين في ضميريهما وحذفهما لأنهما فضلتان ، والأصل : تسبحون الله فيه إياه ، وتكبرون الله فيه إياه.

وقول الشاعر :

طلبت فلم أدرك بوجهي فليتني

قعدت ولم أبغ الندى عند سائب

المتنازع : طلبت ـ وأدرك ـ وأبغ.

والمتنازع فيه : الندى ـ وعند.

__________________

(١) موارد المسألة : «شرح الأشموني» ومعه «حاشية الصبان» ٢ : ١٠٠ ـ ١٠١ ، و «شرح قطر الندى» ٢٧٦.

(٢) أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب الأذان ـ باب الذكر بعد الصلاة) ١ : ٢٠٥.

و «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب المساجد ومواضع الصلاة ـ باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته) ٢ : ٩٧

و «ابن ماجه» في «سننه» في (كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها ـ باب ما يقال بعد التسليم) ١ : ٢٩٩.

وانظر «فتح الباري» ٢ : ٣٢٥.

٢١٠

«الاستثناء»

مسألة (٤٦)

في إعراب «إلا الإذخر» (١)

حكم المستثنى بـ «إلا» النصب ، إن وقع بعد تمام الكلام الموجب سواء كان متصلا أو منقطعا ، نحو : (قام القوم إلا زيدا ، وضربت القوم إلا زيدا ، ومررت بالقوم إلا زيدا ، وقام القوم إلا حمارا ، وضربت القوم إلا حمارا ، ومررت بالقوم إلا حمارا).

فإن وقع بعد تمام الكلام الذي ليس بموجب ، وهو المشتمل على النفي أو شبهه ، والمراد بشبه النفي : النهي ، والاستفهام.

فإما أن يكون الاستثناء متصلا أو منقطعا ، والمراد بالمتصل أن يكون المستثنى بعضا مما قبله. وبالمنقطع ألا يكون بعضا مما قبله.

فإن كان متصلا جاز نصبه على الاستثناء ، وجاز إتباعه لما قبله في الإعراب.

وهو المختار. (وهذا رأي ابن مالك) أطلق فيه القول ولم يقيد فدل على ارتضائه مذهب الجماعة ... قال : لأن سبب ترجيح الإتباع طلب التشاكل ، والأصل في هذا قول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (لا يختلى خلاها ، ولا يعضد شجرها) فقال له «العباس» : «إلا الإذخر يا رسول الله» فقال : «إلا الإذخر» (٢).

والأصح في هذا قول الجماعة بعدم التفضيل ، بناء على تعليل سيبويه ، ولموافقة كلام العرب ، وما استشهد به لا شاهد فيه.

__________________

(١) موارد المسألة : «شرح الشاطبي» و «شرح ابن عقيل» ٢ : ٢٠٩ ـ ٢١٥ ، و «فتح الباري» ١ : ٢٠٦ ، وانظر «حاشية يس على التصريح» ١ : ٣٤٨.

(٢) أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب البيوع ـ باب ما قيل في الصّوّاغ) ٣ : ١٣ باللفظ.

و (باب في الجنائز ـ باب الإذخر والحشيش في القبر) ٢ : ٩٥ باللفظ أيضا. وفي (كتاب العلم ـ باب كتابة العلم) ١ : ٣٦ بلفظ : «لا يختلى شوكها» ، وفي (كتاب الديات ـ باب من قتل له قتيل فهو بخير النّظرين) ٨ : ٣٨ قريب منه. و «ابن ماجه» في «سننه» في (كتاب المناسك ـ باب فضل مكة) ٢ : ١٠٣٨ قريب منه.

و «أحمد» في «مسنده» ١ : ٢٥٣. لا يختلي : لا يحصد ، يقال : اختليته إذا قطعته.

٢١١

وفي «فتح الباري» : «إلا الإذخر» بالنصب ، ويجوز رفعه على البدل مما قبله. ا ه

وإن كان الاستثناء منقطعا تعين النصب عند جمهور العرب ، ولا يجوز الإتباع. وأجازه بنو تميم.

مسألة (٤٧)

في الاستثناء بـ «بيد» (١)

قال «ابن الناظم» : الاستثناء المنقطع هو الإخراج بـ «إلا» أو «غير» أو «بيد» لما دخل في حكم دلالة المفهوم ، فالإخراج جنس ، وقولي بـ «إلا» أو «غير» أو «بيد» مدخل لنحو : (ما فيها إنسان إلا وتدا) ، و (ما عندي أحد غير فرسي).

ولنحو قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أني من قريش واسترضعت في بني سعد) (٢)

وقال «الصبان» : «بيد» تخالف «غير» في أربعة أوجه : أنها لا تقع صفة ، ولا يستثنى بها إلا في الانقطاع ، وتضاف إلى «أنّ» وصلتها فقط ، ولا تقطع عن الإضافة.

__________________

(١) موارد المسألة : «شرح ابن الناظم» ١١٤ ، و «حاشية الصبان» ٢ : ١٥٤ ، و «مغنى اللبيب» (بيد) ١٥٥ ، و «شرح الكافية للرضي» ١ : ٢٤٦.

(٢) قال «البغدادي» في «تخريج أحاديث شرح الكافية للرضي» ورقه / ٥ / مخطوط : قال «السيوطي» في «اللآلي المنتثرة في الأحاديث المشتهرة» عن «الحافط ابن كثير» : إن هذا الحديث لا أصل له ، ونبه عليه صاحب «المواهب اللدنية» ثم قال : لكن معناه صحيح.

وانظر «المقاصد الحسنة» ٩٥ ، و «التلخيص الحبير» ٤ : ٧ ، و «كشف الخفاء» ١ : ٢٠٠ ، و «النشر في القراءات العشر» ١ : ٢٢٠ ، و «المصنوع في معرفة الحديث الموضوع» ٦٠.

٢١٢

ويقال فيها «ميد» بالميم ، وظاهر كلامه في «التسهيل» أنها اسم ، لكنه قال في توضيحه : المختار عندي أنه حرف استثناء بمعنى «لكن» ، ولا دليل على اسميتها. قاله «الدماميني».

تقول : (فلان كثير المال بيد أنه بخيل).

قال «ابن هشام» في «المغنى» : تأتي «بيد» بمعنى : من أجل ، كما في الحديث : «أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أني من قريش».

قال «ابن مالك» وغيره : هي فيه بمعنى «غير» على حد قوله :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

أي من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم. كما بسطه «الدماميني».

مسألة (٤٨)

في استعمال «سوى» (١)

«سوى» ليس فيها معنى «في» ، وليس بظرف زمان ولا مكان البتة.

و «سوى» مثل «غير» معنى واستعمالا ، يقال : سوى الشيء ، أي : غيره.

فتعامل «سوى» بما تعامل به «غير» من الرفع والنصب والجر ، وهذا اختيار «ابن مالك».

__________________

(١) موارد المسألة : «شرح ابن الناظم» : ١٢١ ، و «شرح الشاطبي» ، و «شرح الأشموني» ٢ : ١٥٨ ، و «شرح المرادي» ٢ : ١١٠ ، و «شرح ابن عقيل» ٢ : ٢٢٦.

٢١٣

فمن استعمالها مجرورة قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ :

(دعوت ربّي ألّا يسلّط على أمّتي عدوّا من سوى أنفسها) (١)

وقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (ما أنتم في سواكم من الأمم إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود ، أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض) (٢) ، وقول «المرار بن سلامة العقيلي» :

ولا ينطق الفحشاء من كان منهم

إذا جلسوا منّا ولا من سوائنا

ومن استعمالها مرفوعة قول «محمد بن عبد الله المدني» :

وإذا تباع كريمة أو تشترى

فسواك بائعها وأنت المشتري

وقول «الفند الزماني» :

ولم يبق سوى العدوا

ن دنّاهم كما دانوا

فسواك : مرفوع بالابتداء وسوى العدوان : مرفوع بالفاعلية.

__________________

(١) أخرجه «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب الفتن ـ باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض) ٨ : ١٧١.

و «أبو داود» في «سننه» في (كتاب الفتن والملاحم ـ باب ذكر الفتن ودلائلها) ٤ : ٩٨.

و «الترمذي» في «سننه» في (أبواب الفتن ـ باب سؤال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثلاثا في أمّته) ٣ : ٣١٩.

و «أحمد» في «مسنده» ٥ : ٢٧٨ ، ٢٨٤.

(٢) أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب تفسير القرآن ـ سورة الحج ، باب : وترى الناس سكارى) ٥ : ٢٤١. وفي (كتاب الأنبياء ـ باب قصة يأجوج ومأجوج) ٤ : ١١٠.

و «الترمذي» في «سننه» في (أبواب صفة الجنة ـ باب ما جاء في كم صفّ أهل الجنة) ٤ : ٨٩.

و «ابن ماجه» في «سننه» في (كتاب الزهد ـ باب صفة أمة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ) ٢ : ١٤٣٢.

و «أحمد» في «مسنده» ٣ : ٣٣.

ولا يوجد شاهد في جميع هذه الروايات لعدم ورود ذكر «في سواكم».

وهناك حديث فيه شاهد على المسألة ، وهو ما أخرجه «الترمذيّ» في «سننه» في (أبواب الزهد ـ باب ما جاء في الزّهادة في الدّنيا) ٤ : ٣ ، بسنده عن «عثمان بن عفان» عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «ليس لابن آدم حقّ في سوى هذه الخصال : بيت يسكنه ، وثوب يواري عورته ، وجلف الخبز والماء» وقال : هذا حديث صحيح.

٢١٤

ومن استعمالها منصوبة على غير الظرفية قوله :

لديك كفيل بالمنى لمؤمّل

وإنّ سواك من يؤمّله يشقى

فسواك : اسم «إنّ».

ومذهب «سيبويه» و «الفراء» والجمهور : أنها لا تخرج عن الظرفية ، إلا في ضرورة الشعر ، فنحو : (قام القوم سوى زيد).

فسوى عندهم منصوبة على الظرفية ، وهي مشعرة بالاستثناء. وما استشهد به على خلاف ذلك يحتمل التأويل.

مسألة (٤٩)

في «ما حاشا» (١)

وفي «الفتح الرباني» : روى «أحمد» في «مسنده» عن «ابن عمر» ـ رضي‌الله‌عنهما ـ أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «أسامة أحب الناس إليّ ما حاشا فاطمة ولا غيرها».

قال «ابن هشام» في «المغنى» : (حاشا) على ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون فعلا متعديا متصرفا ، تقول : حاشيته بمعنى استثنيته.

ومنه الحديث الشريف.

ما : نافية ، والمعنى أنه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ لم يستثن فاطمة. وتوهّم «ابن مالك» أنها «ما» المصدرية. و «حاشا» الاستثنائية ، بناء على أنه من كلامه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ فاستدلّ به على أنه قد يقال : (قام القوم ما حاشا زيدا) ، كما قال :

رأيت الناس ما حاشا قريشا

فإنّا نحن أفضلهم فعالا

__________________

(١) موارد المسألة : «شرح المرادي» ٢ : ١١٩ ، و «شرح الشاطبي» و «شرح ابن عقيل» ٢ : ٢٣٩ ، و «شرح ابن الناظم» ١٢٣ ، و «شرح الأشموني» ٢ : ١٦٦ ، و «مغنى اللبيب» ١٦٤ ، و «بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني» : ٢٢ : ١٩٩ ـ ٢٠٠

٢١٥

ويرده أن في «معجم الطبراني» : «ما حاشا فاطمة ولا غيرها».

وهذا الذي نقله «ابن هشام» عن الطبراني يوافق رواية المسند هنا ، وكلاهما واضح صريح.

ويؤيده صحة اللفظ الذي هنا أن «الذهبي» نقله في «تاريخ الإسلام» في ترجمة «أسامة بن زيد» قال : وقال «موسى بن عقبة» وغيره عن «سالم» عن «ابن عمر» قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (أحبّ الناس إليّ أسامة ما حاشا فاطمة ولا غيرها).

وروى «ابن سعد» في «الطبقات» قصة إمارة «أسامة» كنحو الحديث السابق من طريق «زهير» عن «موسى بن عقبة».

وفي آخره قال سالم : ما سمعت عبد الله يحدث هذا الحديث قط إلا قال : ما حاشا فاطمة.

وأصرح من ذلك كله : ما رواه «الطيالسي» في سنده عن «سالم» عن أبيه ، قال : ما سمعت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول : «أسامة أحب الناس إليّ» ولم يستثن فاطمة ولا غيرها.

لكن نقل «الهيثمي» في «مجمع الزوائد» نحوه أيضا. وفي آخره : وكان «ابن عمر» يقول : حاشا فاطمة.

وقال «الهيثمي» : رواه «أبو يعلى» ، ورجاله رجال الصحيح وهذه الرواية التي في «أبي يعلى» متناقضة في ظاهرها مع رواية المسند هنا ، ومع رواية «ابن سعد» فإن ظاهرها استثناء فاطمة من أن أسامة أحبّ الناس كلهم إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ. ورواية المسند والروايات الأخرى تدل على أن الكلام عام ، وأن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يستثن فاطمة ولا غيرها. ولعل رواية «أبي يعلى» فيها خطأ من راو أو من ناسخ ، أو هي رواية شاذة تخالف سائر الروايات (١). والله أعلم.

__________________

(١) وانظر «فيض القدير» ١ : ٤٨٣.

٢١٦

«الحال»

مسألة (٥٠)

في الحال الجامدة (١)

وفي «شرح الشاطبي» : وقد تأتي الحال جامدة على حذف مضاف مشتق ، وهذا معنى تقديره بالكاف ، وفيه الدلالة على التشبيه ، كما جاء قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا) (٢)

أي : مثل رجل.

وفي «عمدة القاري» :

رجلا : نصب على أنه تمييز. قاله أكثر الشراح.

وفيه نظر ؛ لأن التمييز ما يرفع الإبهام المستقر عن ذات مذكورة ، أو مقدرة. فالأول :نحو : (عندي رطل زيتا). والثاني : نحو : (طاب زيد نفسا). قالوا : والفرق بينهما أن زيتا رفع الإبهام عن رطل ، ونفسا لم يرفع إبهاما ، لا عن طاب ، ولا عن زيد ، إذ لا إبهام فيهما ، بل رفع إبهام ما حصل من نسبته إليه ، وهنا لا يجوز أن يكون من القسم الأول ، وهو ظاهر ، ولا من الثاني ، لأن قوله : «يتمثل» ليس فيه إبهام ، ولا في قوله «الملك» ، ولا في نسبة التمثل إلى الملك. فإذن قولهم : هذا نصب على التمييز غير صحيح.

__________________

(١) موارد المسألة : «شرح الشاطبي» و «التصريح» ١ : ٣٧٠ ، و «عمدة القاري شرح البخاري»؟؟؟ ، و «فتح الباري» ١ : ١٨.

(٢) أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (باب كيف كان بدء الوحي) ١ : ٣ ، و «النسائي» في «سننه» في (كتاب الافتتاح ـ باب جامع ما جاء في القرآن) ٢ : ١٤٨.

و «مالك» في «الموطأ» في (كتاب القرآن ـ باب ما جاء في القرآن) ١ : ٢٠٣.

٢١٧

بل الصواب أن يقال : إنه منصوب بنزع الخافض ، وأن المعنى : يتصور لي الملك تصور رجل ، فلما حذف المضاف المنصوب بالمصدرية أقيم المضاف إليه مقامه.

وأشار «الكرماني» إلى جواز انتصابه بالمفعولية إن ضمّن «تمثل» معنى اتخذ ، أي : اتخذ الملك رجلا مثالا ، وهذا أيضا بعيد من جهة المعنى على ما لا يخفى. وإلى انتصابه بالحالية.

ثم قال : فإن قلت : الحال لا بد أن يكون دالا على الهيئة ، والرجل ليس بهيئة.

قلت : معناه على هيئة رجل. ا ه

قلت : الأحوال التي تقع من غير المشتقات لا تؤول بمثل هذا التأويل ، وإنما تؤول من لفظها ، كما في قولك : (هذا بسرا أطيب من رطبا).

والتقدير : متبسرا ، ومترطبا.

وأيضا قالوا : الاسم الدال على الاستمرار لا يقع حالا ، وإن كان مشتقا ، نحو : أسود وأحمر ، لأنه وصف ثابت ، فمن عرف زيدا عرف أنه أسود.

وأيضا : الحال في المعنى خبر عن مصاحبة فيلزم أن يصدق عليه ، والرجل لا يصدق على الملك. ا ه «العيني».

٢١٨

مسألة (٥١)

في مجيئ الحال من النكرة (١)

من أحكام الحال ألا يكون صاحبها نكرة محضة (٢)

ومجيء الحال من النكرة بلا مسوّغ قليل ، ومنه قولهم : (مررت بماء قعدة رجل) ، وقولهم : (عليه مائة بيضا).

وأجاز «سيبويه» : فيها رجل قائما ، وفي الحديث : «صلّى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قاعدا ، وصلى وراءه رجال قياما» (٣).

قال «السّهيليّ» : وقد تحسن الحال من النكرة في مثل هذا الموطن ، لأنها قد تفيد معنى ، كما حسنت في حديث «الموطأ». وذكر الحديث المتقدم.

قال «سيبويه» : وذلك مقيس.

وذهب «الخليل» و «يونس» إلى أن ذلك مما لا يجوز أن يقاس عليه. وإنما يحفظ ما ورد منه.

__________________

(١) موارد المسألة : «شرح الأشموني» ٢ : ١٧٦ ، و «أمالي السهيلي» ٩٣ ، و «شرح ابن عقيل» ٢ : ٢٦٣ ، و «شرح شذور الذهب» ٢٥٣.

(٢) النكرة المحضة : هي التي يكون معناها شائعا بين أفراد مدلولها ، مع انطباقه على كل فرد ، مثل كلمة «رجل» ، بخلاف : «رجل صالح» فإنها نكرة غير محضة ؛ لأنها مقيدة ، تنطبق على بعض أفراد من الرجال ؛ وهم الصالحون ، دون غيرهم ، فاكتسبت بهذا التقييد شيئا من التخصيص والتحديد ، ومثل الصفة غيرها من كل ما يخرج النكرة من عمومها وشيوعها الأكمل إلى نوع من التحديد وتقليل أفرادها ، كإضافة النكرة الجامدة إلى نكرة أخرى ، وكوقوعها نعتا لنكرة محضة ، أو وقوعها حالا ، أو غير هذا من سائر القيود. والنكرة المحضة تسمى نكرة تامة ، كـ «ما» التعجبية ، وإذا كانت غير محضة تسمى : نكرة ناقصة. انظر «النحو الوافي» ١ : ٢١٣.

(٣) أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب الأذان ـ باب إنما جعل الإمام ليؤتم به) ١ : ١٦٩ برواية : «... فصلى جالسا ، وصلى وراءه قوم قياما ، فأشار إليهم أن اجلسوا ...» وفي هذه العبارة أيضا دليل لما ساق النحاة الحديث للاستدلال به. و «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب الصلاة ـ باب ائتمام المأموم بالإمام) ٢ : ١٩. و «مالك» في «الموطأ» في (كتاب صلاة الجماعة ـ باب صلاة الإمام وهو جالس) ١ : ١٣٥ قريب من لفظ الشاهد.

٢١٩

«حروف الجر»

مسألة (٥٢)

في ورود «من» لابتداء الغاية الزمانية (١)

تأتي «من» لابتداء الغاية الزمانية. وهذا ما أثبته «الكوفيون». ومنعه أكثر البصريين.

و «ابن هشام» اختار رأي الكوفيين ، وعلى ذلك قوله ـ تعالى ـ : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ)(٢) والحديث : «فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة» (٣)

وقول «النابغة الذبياني» :

تخيّرن من أزمان يوم حليمة

إلى اليوم قد جرّبن كلّ التّجارب (٤)

__________________

(١) موارد المسألة : «أوضح المسالك» ٢ : ١٢٩ ، و «مغنى اللبيب» ٤٢٠ (من) ، و «شرح الأشموني» ٢ : ٢١١.

(٢) التوبة : ١٠٨.

(٣) أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب الاستسقاء ـ باب إذا استشفعوا إلى الإمام ليستسقي لهم لم يردّهم) ٢ : ١٩.

و «النسائي» في «سننه» في (كتاب الاستسقاء ـ باب متى يستسقي الإمام) ٣ : ١٥٥.

و «مالك» في «الموطأ» في (كتاب الاستسقاء ـ باب ما جاء في الاستسقاء) ١ : ١٩١.

(٤) «حليمة» هي بنت الحارث بن أبي شمّر الغساني ، ملك عرب الشام ، وفيها سار المثل ، فقيل : «ما يوم حليمة بسرّ» أي : خفيّ ، وهذا اليوم هو اليوم الذي قتل فيه «المنذر بن المنذر» ملك عراق العرب ، فسار بعربها إلى «الحارث الغسّاني». وهو أشهر أيام العرب ، وإنما نسب اليوم إلى «حليمة» ؛ لأنها حضرت المعركة محضّضة لعسكر أبيها. فتزعم العرب أنّ الغبار ارتفع في يوم حليمة حتى سدّ عين الشمس ، وظهرت الكواكب المتباعدة من مطلع الشمس ، فسار بها المثل اليوم.

الشاهد : أنّ «من» ابتدائية في الزمن.

قال «أبو حيان» في «شرح التسهيل» بعد إيراد الشواهد الكثيرة : وكونها لابتداء الغاية للزمان مختلف فيه ، منع من ذلك البصريون ، وأثبته الكوفيون ، وهو الصحيح ، وقد كثر ذلك في لسان العرب ، نثرها ونظمها كثرة تسوّغ القياس ، وتأويل البصريين لذلك مع كثرته ليس بشيء. «شرح أبيات مغنى اللبيب» ٥ : ٣٠٤ ـ ٣٠٦ والضمير في «تخيّرن» نائب عن الفاعل ، وهو يرجع الى «السيوف» ؛ لأن «النابغة» يصف السيوف بهذا البيت. «المقاصد النحوية» ٣ : ٢٧٢.

٢٢٠