الحديث النبوي في النحو العربي

الدكتور محمود فجال

الحديث النبوي في النحو العربي

المؤلف:

الدكتور محمود فجال


الموضوع : اللغة والبلاغة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٤

مسألة (١٢)

في اتصال «نون الوقاية» باسمي الفاعل والتفضيل (١)

جاء في «شواهد التوضيح» ١١٨ ـ ١١٩ :

مقتضى الدليل أن تصحب نون الوقاية الأسماء المعربة المضافة إلى ياء المتكلم لنفيها خفاء الإعراب. فلما منعوها ذلك كان كأصل متروك ، فنبهوا عليه في بعض الأسماء المعربة المشابهة للفعل ، كقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لليهود : فهل أنتم صادقوني (٢) وقول الشاعر :

وليس بمعييني وفي الناس ممتع

صديق إذا أعيا عليّ صديق

وكقول الآخر :

وليس الموافيني ليرفد خائبا

فإنّ له أضعاف ما كان أمّلا

ولما كان لأفعل التفضيل شبه بفعل التعجب ، اتصلت به النون المذكورة أيضا في قول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «غير الدجال أخوفني عليكم» (٣).

والأصل فيه : أخوف مخوفاتي عليكم. فحذف المضاف إلى الياء وأقيمت هي مقامه ، فاتصل «أخوف» بها مقرونة بالنون ، كما اتصل «معيي» و «الموافى» بها في البيتين المذكورين.

__________________

(١) موارد المسألة : «شرح الشاطبي» ، و «شرح المرادي» ١ : ١٦٧ ، و «شرح الأشموني» ١ : ١٢٦ ، و «مغنى اللبيب» ٤٥١ ، و «همع الهوامع» (الضمير) ، و «الأشباه والنظائر» ٤ : ٤٣.

(٢) أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب الطب ـ باب ما يذكر في سمّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ) ٧ : ٣٢ ، و «أحمد» في «مسنده» ٢ : ٤٥١ ، عن أبي هريرة.

(٣) أخرجه «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب الفتن وأشراط الساعة ـ باب ذكر الدجال وصفته وما معه) ٨ : ١٩٧ ، عن النوّاس بن سمعان. و «أحمد» في «مسنده» ٥ : ١٤٥ ، عن أبي ذر.

١٦١

ولحاقها مع هذين في غاية من القلة ، فلا يقاس عليه.

قال «ابن حجر» في «فتح الباري» ١٠ : ٢٤٥ :

«فهل أنتم صادقوني»؟ كذا وقع في هذا الحديث في ثلاثة مواضع.

قال «ابن التين» : ووقع في بعض النسخ : «صادقيّ» بتشديد الياء بغير نون ، وهو الصواب في العربية ؛ لأن أصله : صادقوني ، فحذفت النون للإضافة ، فاجتمع حرفا علة سبق الأول بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت ، ومثله : (وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ)(١) ، وفي حديث بدء الوحي : «أو مخرجيّ هم» ا ه.

وإنكاره الرواية من جهة العربية ليس بجيد ، فقد وجّهها غيره. (٢)

قال «العكبريّ» في «إعراب الحديث النبوي» : ٦٠ :

قوله : غير الدجال أخوف ظاهر اللفظ يدل على أن غير الدجال هو الخائف ، لأنك إذا قلت : زيد أخوف على كذا ، دل على أن زيدا هو الخائف ، وليس معنى الحديث على هذا ، وإنما المعنى : إنى أخاف على أمتي من غير الدجال أكثر من خوفي عليهم منه ، فعلى هذا يكون فيه تأويلان :

أحدهما : أن «غير» مبتدأ ، و «أخوف» خبر مبتدأ محذوف ، أي : غير الدجال أنا أخوف على أمتي منه.

والثاني : أن يكون «أخوف» على النسب ، أي : غير الدجال ذو خوف شديد على أمتي ، كما تقول : فلانة طالق ، أي : ذات طلاق.

__________________

(١) إبراهيم : ٢٢.

(٢) كابن مالك ، وقد صدرت المسألة بقوله.

١٦٢

المعرف بأداة التعريف

قال «الشاطبي» عند قول «ابن مالك» :

«أل» حرف تعريف أو اللام فقط

فنمط عرّفت قل فيه النّمط

«النمط» : ضرب من البسط ، والنمط أيضا : الجماعة من الناس أمرهم واحد. وفي الحديث «خير هذه الأمة النمط الأوسط ، يلحق بهم التالي ، ويرجع إليهم الغالي» (١).

__________________

(١) نسب «ابن منظور» في «لسان العرب» (نمط) هذا الحديث لـ «عليّ» ـ كرم الله وجهه ـ والمعنى الذي أراد «علي» أنه كره الغلوّ والتقصير في الدين.

وقال «الغزالي» ـ ٥٠٥ ه‍ في «إحياء علوم الدين» ١ : ١٣٨ : قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «عليكم بالنّمط الأوسط الذي يرجع إليه الغالي ، ويرتفع إليه التالي»

قال «العراقيّ» ـ ٨٠٦ ه‍ : رواه «أبو عبيد» في «غريب الحديث» موقوفا على «عليّ» ، ولم أجده مرفوعا.

«تنبيه عزيز» قال «محمد الخضر حسين» ـ ١٣٧٧ ه‍ في ترجمته لـ «الغزالي» : ... فلا عجب أن يبلغ كتاب «الإحياء» في الغوص على أسرار الشريعة ، والبحث عن دقائق علم الأخلاق ، وأحوال النفس ، غاية بعيدة ، فكتاب «الإحياء» من صنع عقل نشأ في قوة ، ورسخ في علوم الشريعة ، وخاض في العلوم العقلية ، فوقف على كبيرها وصغيرها ، وفرّق بين سليمها ومعيبها ، وخلص بعد هذا من كدور الهوى ، وظلمات الحرص على عرض الدنيا.

وقد كان الناقدون لكتاب «الإحياء» يعيبونه بما احتواه من بعض الأحاديث الضعيفة ، أو الموضوعة ، وربما اعتذروا عن مؤلفه بأنه لم يكن طويل الباع في علم الحديث ، بل نقلوا عنه أنه كان يقول عن نفسه : «أنا مزجى البضاعة في علم الحديث».

وقد قام بإصلاح هذا النقص «الحافظ العراقيّ» ، فألّف في تخريج أحاديثه كتابا في مجلدين ، ثم اختصره في مجلد سماه : «المغنى عن حمل الأسفار في الأسفار».

وإذا وجد العلماء في كتاب «الإحياء» مآخذ معدودة ، فإنه من صنع بشر ، غير معصوم من الزلل ، وكفى كتاب «الإحياء» فضلا وسموّ منزلة أن تكون درر فوائده فوق ما يتناوله العد ، وأن يظفر منه طلاب العلم ، وعشاق الفضيلة ، بما لا يظفرون به من كتاب غيره ، «ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا» ا ه. وانظر في «الوسيط في علوم ومصطلح الحديث» : ٣٥٤.

وهذا كله وإن جاء في غير موضعه ، لكنّ الكلام ذو شجون. (أي : متداخل بعضه في بعض ، ومشتبك بعضه ببعض ، يقال : شجر متشجّن ، إذا التفّ بعضه ببعض).

١٦٣

قال «أبو عبيد» : الطريقة ، يقال : الزم هذا النمط.

قال : والنمط أيضا : الضرب من الضّروب ، والنوع من الأنواع ، يقال : ليس هذا من ذلك النمط ، أي : من ذلك النوع. وهذا المعنى يقال في المتاع والعلم ، وغير ذلك.

مسألة (١٣)

في «أل» الزائدة (١)

قال «الشاطبي» : حكى البغداديون أن من العرب من يقول : (قبضت الأحد عشر الدرهم)

وفي الحديث : «أن امرأة كانت تهراق الدماء» (٢)

والحديث عند «ابن مالك» حجة في إثبات القوانين ، وبناء القياس.

وقال «ابن هشام» في «المغنى» ٥٩٩ :

فالدماء : تمييز على زيادة «أل».

قال «ابن مالك» : أو مفعول على أن الأصل «تهريق» ، ثم قلبت الكسرة فتحة ، والياء ألفا ، كقولهم : جاراة وناصاة وبقي ، وهذا مردود ؛ لأن شرط ذلك تحرك الياء ، كجارية وناصية وبقي. ا ه

__________________

(١) المراد بالزائدة هنا ما ليست موصولة ، وليست للتعريف ، ولو لم تصلح للسقوط.

(٢) أخرجه «مالك» في «الموطأ» في (كتاب الطهارة ـ باب المستحاضة) ١ : ٦٢ هكذا :

«عن أم سلمة ، زوج النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن امرأة كانت تهراق الدماء في عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فاستفتت لها أم سلمة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ..

وأخرجه «أبو داود» في «سننه» في (كتاب الطهارة ـ باب في المرأة تستحاض) ١ : ٧١ ، و «النسائي» في «سننه» في (كتاب الحيض ـ باب المرأة يكون لها أيام معلومة تحيضها كل شهر) ١ : ١٨٢ ، وفي (كتاب الطهارة ـ باب الاغتسال من الحيض) ١ : ١٢٠.

و «الدارمي» في «سننه» في (كتاب الصلاة والطهارة ـ باب غسل المستحاضة ، وباب إذا اختلطت على المرأة أيام حيضها) ١ : ١٩٩ ، ٢٢١ ، و «أحمد» في «مسنده» ٦ : ٢٩٣ ، وانظر «التلخيص الحبير» ١ : ١٧٩.

في الجميع جاءت الرواية : «تهراق الدم» عدا «الموطأ».

١٦٤

قال «السيوطي» في «الهمع» في (العوامل) :

واختلف في نصب الفعل اللازم اسما تشبيها بالمتعدي.

أجازه بعض المتأخرين ، قياسا على تشبيه الصفة المشبهة باسم الفاعل المتعدي ، نحو : زيد تفقأ الشحم ، أصله : تفقأ شحمه ، فأضمرت في «تفقأ» ، ونصبت «الشّحم» تشبيها بالمفعول به. واستدلّ بما روي في الحديث : «كانت امرأة تهراق الدماء» ومنعه «الشّلوبين» ، وقال : لا يكون ذلك إلا في الصفات.

وتأوّلوا الأثر على أنه إسقاط حرف الجرّ ، أو على إضمار فعل ، أي : بالدماء ، أو يهريق الله الدماء منها. قال «أبو حيان» : وهذا هو الصحيح ؛ إذ لم يثبت ذلك من لسان العرب.

وقال «السهيلي» في «أماليه» ٧٣ :

وأما «تهراق الدماء» فإن «الدماء» مفعول بالإراقة ، والمعنى : تهريق الدماء ، ولكن العرب تعدل بالكلمة إلى وزن ما هو في معناها ، وهي في معنى تستحاض ، وتستحاض على وزن ما لم يسم فاعله. والتي تهريق الدماء هي التي تستحاض ، ولا يجوز أن يقال : هي تهراق الماء والخل ، لعدم هذا المعنى فيه. ا ه.

ويمكننا أن نستخلص في إعراب «الدماء» خمسة أعاريب :

(١) أنه تمييز على اعتبار «أل» زائدة.

(٢) أنه مفعول على أن الأصل تهريق ، وهو قول «ابن مالك» ، أو مفعول بالإراقة ، وهو قول «السهيلي».

(٣) أنه منصوب على التشبيه بالمفعول به. وهو قول بعض المتأخرين.

(٤) أنه على إسقاط حرف الجر ، أي : بالدماء.

(٥) أنه على إضمار فعل ، أي يهريق الله الدماء منها.

١٦٥

مسألة (١٤)

في العلم بالغلبة

درجة العلم بالغلبة (أي التغلب بالشهرة) درجة تلحقه بالعلم الشخصي في أحكامه ، فمظهر الكلمة أنها معرفة بـ «أل» ، أو بالإضافة ، ولكن حقيقتها أنها صارت معرفة بعلمية الغلبة. ومن أمثلة العلم بالغلبة : المدينة ، والعقبة ، وإمام النحاة ، وغيرها مما هو علم بالغلبة كالنابغة ، والأعشى ، والأخطل ... وأصل النابغة : الرجل العظيم ، وأصل الأعشى : من لا يبصر ليلا. وأصل الأخطل :

الهجّاء. ثم تغلّب على كل أصل مما سبق الاستعمال والاشتهار في العلمية وحدها.

فـ «أل» التي في العلم بالغلبة قد صارت قسما مستقلا من «أل» الزائدة اللازمة (أي : التي لا تفارق الاسم الذي دخلت عليه) ، ويسمى «أل :التي للغلبة» ولم تبق للعهد كما كانت ، وبالرغم من أنها زائدة ، ولازمة فإنها تحذف وجوبا عند ندائه ، أو إضافته ، مثل : (يا رسول الله قد بلّغت رسالتك) ، (هذا مصحف عثمان) ، (يا نابغة ، أسمعنا من طرائفك) (١).

فلا يجوز بقاؤها من واحد منهما ، فلا تقول : (يا الأعشى) ولا (يا الأخطل) وفي الحديث (٢) : «إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن» (٣).

__________________

(١) انظر النحو الوافي ١ : ٤٣٥.

(٢) الحديث أورده «الشاطبي» في شرحه ، و «ابن الناظم» في شرحه : ٤٠.

(٣) أخرجه «أحمد» في «مسنده» ٣ : ٤١٩ ، وفيه : سأل رجل «عبد الله بن خنبش» : كيف صنع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حين كادته الشياطين؟ قال : جاءت الشياطين إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من الأودية وتحددت عليه من الجبال ، وفيهم شيطان معه شعلة من نار يريد أن يحرق بها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، قال : فرعب ، قال جعفر : أحسبه قال : جعل يتأخر ، قال : وجاء جبريل عليه‌السلام فقال : يا محمد قل ، قال : ما أقول؟ قال : قل : أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ ، ومن شر ما ينزل من السماء ، ومن شر ما يعرج فيها ، ومن شر ما ذرأ في الأرض ، ومن شر ما يخرج منها ، ومن شر فتن الليل والنهار ، ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن ، فطفئت نار الشياطين ، وهزمهم الله ـ عزوجل ـ.

١٦٦

«المبتدأ والخبر»

مسألة (١٥)

في دخول الباء الزائدة على المبتدأ

عرّف «ابن هشام» المبتدأ بقوله : «اسم أو بمنزلته ، مجرّد عن العوامل اللفظية أو بمنزلته ، مخبر عنه ، أو وصف رافع لمكتفى به»

فمن أمثلة ما هو بمنزلة المجرد عند «ابن عصفور» قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «ومن لم يستطع فعليه بالصوم» (١)

فالباء عنده زائدة في قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «بالصوم» ، والصوم : مبتدأ ، وعليه : جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم ، وكأنه قال : الصوم واجب عليه.

وهناك رأي آخر ذكره «الرضي» ، وهو أن من أسماء الأفعال الظروف وشبهها تجر ضمير مخاطب كثيرا ، وضمير غائب شاذ قليلا ، نحو قوله : (عليه شخصا ليسني) ونحو الحديث.

__________________

(١) قطعة من حديث ، وتمامه : «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء».

أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب النكاح ـ باب قول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : من استطاع منكم الباءة فليتزوج) ٦ : ١١٧.

و «مسلم» في «صحيحه» في أول (كتاب النكاح) ٤ : ١٢٨.

و «ابن ماجه» في «سننه» في (كتاب النكاح ـ باب ما جاء في فضل النكاح) ١ : ٥٩٢ ، و «أبو داود» في «سننه» في (كتاب النكاح ـ باب التحريض على النكاح). ٢ : ٢١٩.

وفي «بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني» ١٦ : ١٣٨

وقال «البغداديّ» في «تخريج أحاديث شرح الكافية للرضي» (مخطوط) : قال «السيوطي» في «الجامع الكبير» : قد جاء في السنن الستة ، وفي مسند «أحمد» ، وفي الضياء ، وفي سنن ابن حبان ، عن ابن مسعود. ا ه.

الباءة : يطلق على الجماع والعقد ، وجاء : كسر شديد يذهب بشهوته. وانظر «شرح مسلم» للنووي ٩ : ١٧٢.

١٦٧

فيكون قوله «عليه» : اسم فعل أمر ، ومعناه ليلزم ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا ، و «بالصوم» : مفعول به زادت معه الباء ، وهو حسن من جهة المعنى ، ولكنه ضعيف من جهة الصناعة ، وذلك لأن الأصل في فعل الأمر أن يكون للمخاطب لا للغائب ، ولأن زيادة الباء مع المفعول غير ثابتة في غير هذا الموضع حتى يحمل عليها ما هنا. (١)

مسألة (١٦)

في تركيب «أو مخرجيّ»؟ (٢)

الأصل في : «أو مخرجيّ هم» (٣) : أو مخرجوي هم ، أي : بعد إسقاط النون للإضافة ، فاجتمعت واو ساكنة وياء ، فأبدلت الواو ياء ، وأدغمت في الياء ، وأبدلت الضمة ، التي كانت قبل الواو كسرة ، تكميلا للتخفيف ، كما فعل باسم مفعول «رميت» حين قيل فيه : «مرميّ» ، وأصله : مرمويّ.

ومثل : «مخرجيّ» من الجمع المرفوع المضاف إلى ياء المتكلم ، قال أبو ذويب الهذليّ :

أودى بنيّ وأودعوني حسرة

عند الرّقاد وعبرة ما تقلع

و «مخرجيّ» : خبر مقدم ، و «هم» : مبتدأ مؤخر ، ولا يجوز العكس ؛ لأن مخرجيّ

__________________

(١) انظر «شرح الرضي للكافية» في (أسماء الأفعال) ، وتعليق «محمد محي الدين عبد الحميد» علي «أوضح المسالك» ١ : ١٣٢ ، و «الكافي شرح الهادي» ١٣٨٩ ، و «شرح الشاطبي».

(٢) موارد المسألة : «شواهد التوضيح» : ١٣ ، و «شرح الشاطبي» ، و «شرح قطر الندى» ٣٥٣ (الفاعل).

(٣) أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب بدء الوحي) عن «عائشة» ١ : ٣ ، قال له ورقة :

«هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى ، يا ليتني فيها جذعا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك ، فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : أو مخرجيّ هم؟ قال : نعم ، لم يأت رجل قطّ بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا موزّرا ...»

وفي «سيرة ابن هشام» ١ : ٢٠٤ قال «ورقة» :

فيا ليتي إذا ما كان ذاكم

شهدت فكنت أوّلهم ولوجا

١٦٨

نكرة ، فإن إضافته غير محضة ، إذ هو اسم فاعل بمعنى الاستقبال ، فلا تتعرف بالإضافة. وإذا ثبت كونه نكرة ، لم يصح جعله مبتدأ ، لئلا تخبر بالمعرفة عن النكرة ، دون مصحح.

ولو روي «مخرجيّ» مخفف الياء ، على أنه مفرد ، لجاز وجعل مبتدأ ، وما بعده فاعل سد مسدّ الخبر ، كما تقول : أو مخرجي بنو فلان؟ لأن «مخرجي» صفة معتمدة على استفهام ، مسندة إلى ما بعدها ، لأنه وإن كان ضميرا فهو منفصل ، والمنفصل من الضمائر يجري مجرى الظاهر. ومنه قول الشاعر :

منجز أنتم وعدا وثقت به

أم اقتفيتم جميعا نهج عرقوب

ومن هذا القبيل قول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : أحي والداك (١)؟ والاعتماد على النفي كالاعتماد على الاستفهام ، ومنه قول الشاعر.

خليليّ ما واف بعهدي أنتما

إذا لم تكونا لي على من أقاطع

مسألة (١٧)

الجملة الواقعة خبرا وهي نفس المبتدأ معنى لا تحتاج لرابط (٢)

الجملة إن كانت نفس المبتدأ في المعني لم تحتج إلى رابط ، كقول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (أفضل ما قلته أنا والنبيّون من قبلي : لا إله إلا الله) (٣).

__________________

(١) أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب الجهاد ـ باب الجهاد بإذن الأبوين) ٤ : ١٨.

(٢) موارد هذه المسألة : «شرح شذور الذهب» ٢٠٨ ، و «شرح الكافية» للرضي ٢ : ٣٥٠ ، و «شرح قطر الندى» ١٦٥ ، و «شرح الأشموني» ١ : ١٩٧ ، و «همع الهوامع» (المبتدأ والخبر) ، و «النحو الوافي» ١ : ٦٥٥.

(٣) أخرجه «مالك» في «الموطأ» في (كتاب القرآن ـ باب ما جاء في الدعاء) ١ : ٢١٥ ، و «الترمذي» في «سننه» في (كتاب الدعوات ـ باب في فضل لا حول ولا قوة إلا بالله) ٥ : ٢٣١.

١٦٩

فـ «أفضل» مبتدأ ، و «ما» اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة ، والجملة بعده صلة.

وجملة : (لا إله إلا الله) هي الخبر ، وقد استغنت عن الرابط ؛ لأنها نفس المبتدأ في المعنى ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ : أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(١) ، وقوله ـ عزوجل ـ : (دَعْواهُمْ فِيها : سُبْحانَكَ اللهُمَ)(٢).

ونحو (أوّل قولي إني أحمد الله) بكسر «إنّي» فجملة «إني أحمد الله» جملة أخبر بها عن هذا المبتدأ ، وهي مستغنية عن عائد يعود على المبتدأ ؛ لأنها نفس المبتدأ في المعنى ، فكأنه قيل : أول قولي هذا الكلام المفتتح بـ «إني».

وأما فتح «أنّي» فلها ضابط ، وهو أن تقع خبرا عن قول ، وخبرها قول كأحمد ونحوه ، وفاعل القولين واحد ، فما استوفى هذا الضابط كالمثال المذكور جاز فيه الفتح على معنى أوّل قولي حمد الله.

مسألة (١٨)

مسوّغات الابتداء بالنكرة (٣)

المبتدأ محكوم عليه دائما بالخبر ، والمحكوم عليه لا بد أن يكون معلوما عند الحكم ، ولو إلى حدّ ما ، وإلا كان الحكم لغوا لا قيمة له ، لصدوره عن مجهول.

وصارت الجملة غير مفيدة إفادة تامة مقصودة.

__________________

(١) يونس : ١٠.

(٢) يونس : ١٠.

(٣) موارد المسألة : «شرح ابن الناظم» : ٤٤ ، و «شرح الشاطبي» و «مغني اللبيب» ٦٠٩ ، ٦١٠ ، و «أوضح المسالك» ١ : ١٤٤ ، و «النحو الوافي» ١ : ٤٨٥. وانظر «أمالي السهيلي» : ٩٩ ، مسألة في تذكير الشاة.

١٧٠

لكن إذا أفادت النكرة الفائدة المطلوبة صح وقوعها مبتدأ ، وقد أوصل النحاة مواضع النكرة المفيدة حين تقع مبتدأ إلى نحو أربعين موضعا ، والأساس الذي تقوم عليه هو «الإفادة» ، فعلى هذا الأساس وحده يرجع الحكم على صحة الابتداء بالنكرة ، أو عدم صحته. فمن مسوغات الابتداء بالنكرة :

أـ حذف الموصوف ، وبقاء الصفة ، نحو قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (سوداء ولود خير من حسناء عقيم) (١) أي : امرأة سوداء.

ب ـ النكرة المتعلق بها معمول ، وهو المجرور ، نحو : (رغبة في الخير خير) ويجري مجرى هذا ما كان مثله في كون النكرة عاملة عمل الفعل النصب في معمول ، ومن ذلك قول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (أمر بمعروف صدقة ، ونهي عن منكر صدقة) (٢).

ج ـ النكرة المضافة إلى نكرة ، نحو قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (خمس صلوات كتبهنّ الله على العباد) (٣).

__________________

(١) رواه «الطبراني» في الكبير ، و «الديلمي» ، عن «معاوية بن حيدة» ، قال «الهيثمي» : فيه «على بن الربيع» ، وهو ضعيف.

ورواه «ابن حبان» في الضعفاء ، من رواية : «بهز بن حكيم عن أبيه عن جده» قال «العراقي» في تخريج أحاديث «إحياء علوم الدين» : لا يصح.

وأورده في «الميزان» في ترجمة : «علي بن الربيع» من حديثه عن «بهز عن أبيه عن جده» ، وقال :

قال «ابن حبان» : هذا منكر لا أصل له ، ولما كثرت المناكير في رواية «علي» المذكور بطل الاحتجاج به. وذكره «ابن الأثير» في «النهاية» ، ورفعه «الأزهري» وأخرجه غيره عن «عمر» مرفوعا.

انظر «فيض القدير» ٤ : ١١٥ ، و «كشف الخفاء» ١ : ٤٥٧.

(٢) أخرجه «مسلم» في «صحيحه» في (باب الزكاة ـ باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف) ٣ : ٨٢.

و «أحمد» في «مسنده» ٥ : ١٦٧ ، ١٦٨ ، ١٧٨.

(٣) أخرجه «مالك» في «الموطأ» في (كتاب صلاة الليل ـ باب الأمر بالوتر) ١ : ١٢٣ ، وأخرج قريبا منه «ابن ماجه» في «سننه» في (كتاب إقامة الصلاة ـ باب ما جاء في فرض الصلوات الخمس) ١ : ٤٤٩ ، وانظر «التلخيص الحبير» ٢ : ١٥٥.

١٧١

د ـ كون الظرف والمجرور غير مختص ، كقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (في أربعين شاة شاة) (١).

والمسوغ هنا تقدم الخبر ، وهو جار ومجرور على المبتدأ ، نحو : (في الدار رجل) و (عند زيد نمرة).

ه ـ النكرة مؤخرة ، والخبر نكرة وهو مقدم ، والمسوّغ وجود البيان ، كقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «مسكين مسكين رجل لا زوج له» (٢) فرجل : هو المبتدأ عند «ابن مالك» ، ومسكين : خبره. وفي هذا النوع يجب تقديم الخبر.

مسألة (١٩)

في ثبوت خبر المبتدأ بعد «لو لا» (٣)

إذا وقع المبتدأ بعد «لو لا» الامتناعية

فالجمهور أطلقوا وجوب حذف الخبر ، بناء على أنه لا يكون بعدها إلا كونا مطلقا ، ولحنوا «المعري» في قوله :

يذيب الرعب منه كلّ عضب

فلو لا الغمد يمسكه لسالا

__________________

(١) أخرجه «ابن ماجه» في «سننه» في (كتاب الزكاة ـ باب صدقة الغنم» ١ : ٥٧٧ ، ٥٧٨ ، و «أحمد» في «مسنده» ٣ : ٣٥ ، عن «ابن عمر».

(٢) وفي «مجمع الزوائد» في (كتاب النكاح ـ باب الحث على النكاح) ٤ : ٢٥٢ : رواه «الطبراني» في الأوسط ، ورجاله ثقات ، عن أبي نجيح مرفوعا ، إلا أن أبا نجيح لا صحبة له. بنحوه. وفي «تقريب التهذيب» ٢ : ٣٧٤ : أبو نجيح هو يسار المكي ، مولى ثقيف ، مشهور بكنيته ، ثقة ، من الثالثة ، وهو والد «عبد الله بن أبي نجيح» مات سنة : ١٠٩ ه‍.

(٣) موارد المسألة : «شواهد التوضيح» ٦٥ ، و «شرح الشاطبي» و «أوضح المسالك» ١ : ١٥٦ ، و «التصريح على التوضيح» ١ : ١٧٩ ، و «شرح المرادي» ١ : ٢٨٨ ، و «همع الهوامع».

١٧٢

وقيد «الرماني» و «ابن الشجري» و «الشلوبين» وجوب حذف الخبر بما إذا كان الخبر كونا مطلقا.

فلو أريد كون بعينه لا دليل عليه لم يجز الحذف ، نحو : لو لا زيد سالمنا ما سلم ، ومنه حديث «عائشة» : «لو لا قومك حديثو عهد بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم» (١).

وذهب «الكوفيون» إلى أن الاسم المرفوع بعد «لو لا» فاعل بفعل

__________________

(١) أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب العلم ـ باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشدّ منه) ١ : ٤٠ ، برواية : «يا عائشة : لو لا قومك حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين ...».

وفي (كتاب الحج ـ باب فضل مكة وبنيانها) ٢ : ١٥٦ برواية : «لو لا حدثان قومك بالكفر» ، ورواية : «لو لا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية» ، ورواية : «لو لا حداثة قومك بالكفر» ، ورواية : «لو لا أن قومك حديث عهد بجاهلية».

وفي (كتاب التمني ـ باب ما يجوز من «الّلو» ، وقوله تعالى : (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً)) ٨ : ١٣٠ ، برواية : «لو لا أنّ قومك حديث عهدهم بالجاهلية» و «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب الحج ـ باب جدر الكعبة وبابها» ٤ : ١٠٠ ، برواية : «لو لا حدثان قومك بالكفر» ، ورواية : «ولو لا أن قومك حديث عهدهم في الجاهلية» بتنوين «حديث» ورفع «عهدهم» على إعمال الصفة المشبهة.

و «الترمذي» في «سننه» في (أبواب الحج ـ باب ما جاء في كسر الكعبة) ٢ : ١٨١ ، برواية :

«لو لا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية».

و «النسائي» في «سننه» في (كتاب مناسك الحج ـ باب بناء الكعبة) ٥ : ٢١٤ ، برواية : «لو لا حدثان قومك بالكفر».

قال «السيوطي» في «شرحه على سنن النسائي» ٥ : ٢١٤ : الخبر في هذه الرواية محذوف وجوبا ، أي : موجود. وبرواية : «لو لا حداثة عهد قومك بالكفر» ، ورواية : «لو لا أن قومك حديث عهد بجاهلية».

قال «السيوطي» في «شرحه على سنن النسائي» ٥ : ٢١٥ : كذا روي بالإضافة وحذف الواو ـ وقال «المطرزي» : لا يجوز حذف الواو في مثل هذا ، والصواب : حديثو عهد.

وتعقب «السندي» هذا في «حاشيته على شرح السيوطي على سنن النسائي» رادّا على «المطرزي» بقوله : وردّ بأنه من قبيل : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) فقد قالوا : تقديره : أول فريق كافر ، أو فوج كافر. يريدون أن هذه الألفاظ مفردة لفظا ، وجمع معنى ، فيمكن رعاية لفظها ، ولا يخفى أن لفظ «القوم» كذلك.

وأجيب أيضا : بأن (فعيلا) يستوي فيه الجمع والإفراد.

وأخرجه «أحمد» في «مسنده» ٦ : ١٠٢ ، ١٧٦ ، ١٨٠ ، بروايات مقاربة لما ذكر.

وانظر «فتح الباري» ١ : ٢٢٤ ، و «التلخيص الحبير» ٢ : ٢٦١.

١٧٣

محذوف. وقيل : هو مرفوع بـ «لو لا».

وقال «السيوطي» في «همع الهوامع» في (المبتدأ والخبر) :والظاهر أن الحديث حرّفته الرواة بدليل أنّ في بعض رواياته : «لو لا حدثان قومك». وهذا جار على القاعدة.

وقد بينت في كتاب «أصول النحو» من كلام «ابن الضائع» و «أبي حيان» : أنه لا يستدل بالحديث على ما خالف القواعد النحوية ، لأنه مروي بالمعنى ، لا بلفظ الرسول. والأحاديث رواها العجم والمولدون ، لا من يحسن العربية ، فأدوها على قدر ألسنتهم. (١)

وفي التصريح ١ : ١٧٩ : قال «ابن أبي الربيع» : لم أر هذه الرواية ، يعني بهذا اللفظ ، من طريق صحيح ، والروايات المشهورة في ذلك : «لو لا حدثان قومك» «لو لا حداثة قومك» «لو لا أن قومك حديثو عهد بجاهلية» ونحو ذلك.

__________________

(١) أقول : هذا الكلام لا يصبر على السّبر أمام المناقشة العلمية الجادة ، وهو في صورته برّاق يجذب الأسماع ، وفي حقيقته زائف واهن كبيت العنكبوت ، والحق ما قاله الإمام «ابن مالك» علّامة جيّان ، لا ما اختاره «أبو حيّان». ومذهب «ابن الضائع» مذهب ضائع.

وتقليد «الجلال» لهما خاو من توفيق ذي الجلال.

وما ذكره «ابن الطيّب» كلام طيّب ، وهذا نصه في مؤلّفه : «فيض نشر الانشراح من روض طي الاقتراح» ورقة : ٣٩ ، ٤١ (مخطوط) : قد تقرر في علوم الاصطلاح أن شرط الرواية بالمعنى عند من يجيزها : العلم بما يحيل المعنى أو ينقصه ، والإحاطة بمواقع الألفاظ ، فلا يجوز لمن خشي الإخلال ، وعري عن معرفة ما اشترطوه ...

ثم قال : من شروط الرواية بالمعنى : أن يقول الراوي بالمعنى بعد كمال مرويه أو كما قال) (أو نحوه) مما يدل على الشك.

وهذا لا نكاد نجده في شيء من الدواوين الحديثية إلا في ألفاظ بعض الصحابة ، كأنس ، وابن مسعود ، كما نبه عليه «الخطيب» وغيره. والصحابة وإن رووا بالمعنى فإنه لا يضرنا في الاستدلال بكلامهم ، والاستشهاد به ، لأنهم عرب فصحاء ، فما غيرهم ممن تقدمهم من الكفار بأولى منهم ، كما هو ظاهر ، وعدم ذكرهم لما اشترطوه دليل على أنهم لم يرووا بالمعنى ، إذ تركهم للشرط ، ربما يكون تدليسا ، ويبعد اتصاف جميع رواة الكتب الستة ، وغيرها بالدّلسة. والله أعلم.

ومنها : أن لا يكون المروي مدونا في كتاب ، وأما المدون في كتاب فقد اتفقوا على منع روايته بالمعنى. وحكى عليه «ابن الصلاح» الإجماع. وما استدل به «ابن مالك» وغيره إنما هو من المدون في الكتب الصّحاح ، ومصنفوها إنما رووها عن كتب شيوخهم ، وهكذا.

١٧٤

وقال «ابن مالك» في «شواهد التوضيح» : ٦٥ :

تضمن هذا الحديث ثبوت خبر المبتدأ بعد «لو لا» ، وهو مما خفي على النحويين إلّا «الرماني» و «الشجري».

وقد يسرت لي في هذه المسألة زيادة على ما ذكراه. فأقول ـ وبالله أستعين ـ : إن المبتدأ المذكور بعد «لو لا» على ثلاثة أضرب :

(١) مخبر عنه بكون غير مقيّد.

(٢) ومخبر عنه بكون مقيّد ، لا يدرك معناه عند حذفه.

(٣) ومخبر عنه بكون مقيّد ، يدرك معناه عند حذفه.

فالأول ، نحو : (لو لا زيد لزارنا عمرو) ، فمثل هذا يلزم حذف خبره ، لأن المعنى : لو لا زيد ، على كل حال من أحواله ، لزارنا عمرو. فلم تكن حال من أحواله أولى بالذكر من غيرها ، فلزم الحذف لذلك ، ولما في الجملة من الاستطالة المحوجة

__________________

ـ وبالجملة من أمعن النظر في أئمة الحديث ، وعلم احتياطهم ، وما كانوا عليه من التحرز في الرواية بالمعنى والإتقان علم علما ضروريا أن مثل «البخاري» و «مسلم» لم يدخلوا في صحاحهم ما هو مروى بالمعنى أصلا ، فأنت ترى «مسلما» كيف يتحرز في «صحيحه» في ألفاظ شيوخه ، إذا روى عن جماعة كلهم عن واحد ، وتختلف عباراتهم في التحديث ، والإخبار ، فيقول : قال فلان : حدثنا ، وقال فلان : أخبرنا ، مع أنهم صرحوا باتحاد التحديث والإخبار ، ومع ذلك يحتاط في ألفاظهم ، فضلا عن ألفاظ الحديث. فالقول بأن مثل هؤلاء يروون بالمعنى مع هذا التحفظ البالغ ، والاحتياط الخارج عن الطوق بعيد جدا.

والذي تدل له الاصطلاحات وهو الظاهر أنهم يجيزون الرواية بالمعنى ، في نحو الوعظ ، والتقرير باللسان.

وأما ما يثبتونه في الدواوين فلا معنى للقول فيه بالرواية بالمعنى ، ولا سيما مع عدم التنبيه عليه ، ولا ذكر الشروط المشروطة ممن يقول به ، ويميل إليه. ثم اعتناؤهم في الروايات والجمع بينها ، وضبطها والوقوف عندها من غير إقدام على تبديلها ، ولا اجتراء على إبطالها ظاهر في أن المقصود الألفاظ حتى إنهم لا يغيرون لغة ضعيفة لأخرى مشهورة ، بل صرحوا بإبقاء الألفاظ على ما هي عليه ، ولو كانت ملحونة غير صالحة.

وأجازوا قراءتها على القواعد دون تغييرها وإصلاحها. فلو كان المعتمد هو الرواية بالمعنى دون الألفاظ ما أبقوا ذلك ، ولا أجازوه ولا تركوا الألفاظ التي ظاهرها اللحن والتصحيف مثبتة ، بل يصلحون ذلك اعتمادا على ما اختاروه من أن المقصود المعنى ، على أنا نجدهم يتأولون ذلك ، ويخرّجونه على الوجوه البعيدة ، ويتكلفون له أكثر مما يتكلفون للآي القرآنية.

وكونهم يعتنون هذا الاعتناء بمجرد كلام الرواة اللحانين المغيرين لأصل الأحاديث مما لا معنى له مع تنصيصهم على إبقاء اللحن في مواضعه ، وعدم إصلاحه. والله أعلم.

١٧٥

إلى الاختصار.

الثاني : وهو المخبر عنه بكون مقيّد ، ولا يدرك معناه إلا بذكره ، نحو : (لو لا زيد غائب لم أزرك). فخبر هذا النوع واجب الثبوت ؛ لأن معناه يجهل عند حذفه.

ومنه قول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «لو لا قومك حديثو عهد بكفر» أو «حديث عهدهم بكفر».

فلو اقتصر في مثل هذا على المبتدأ ، لظن أن المراد : لو لا قومك على كل حال من أحوالهم لنقضت الكعبة ، وهو خلاف المقصود ، لأن من أحوالهم بعد عهدهم بالكفر فيما يستقبل. وتلك الحال لا تمنع من نقض الكعبة ، وبنائها على الوجه المذكور.

ومن هذا النوع قول «عبد الرحمن بن الحارث» لـ «أبي هريرة» : «إنّي ذاكر لك أمرا ، ولو لا مروان أقسم عليّ فيه لم أذكره لك» (١).

ومن هذا النوع قول الشاعر :

لو لا زهير جفاني كنت منتصرا

ولم أكن جانحا للسّلم إن جنحوا

ومثله :

لو لا ابن أوس نأى ما ضيم صاحبه

يوما ولا نابه وهن ولا حذر

الثالث : وهو المخبر عنه بكون مقيّد يدرك معناه عند حذفه ، كقولك : (لو لا أخو زيد ينصره لغلب) ، و (لو لا صاحب عمرو يعينه لعجز) ، و (لو لا حسن الهاجرة يشفع لها لهجرت).

فهذه الأمثلة وأمثالها ، يجوز فيها إثبات الخبر وحذفه ، لأن فيها شبها بـ (لو لا زيد لزارنا عمرو) ، وشبها بـ (لو لا زيد غائب لم أزرك)

فجاز فيها ما وجب فيهما من الحذف والثبوت.

ومن هذا النوع قول «أبي العلاء المعري» في وصف سيف :

فلو لا الغمد يمسكه لسالا

__________________

(١) أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب الصوم ـ باب الصائم يصبح جنبا) ٢ : ٢٣٣.

١٧٦

مسألة (٢٠)

في سد الحال مسد الخبر (١)

قالوا : (أخطب ما يكون الأمير قائما)

التقدير : إذ كان ، أو إذا كان قائما. وقائما : نصب على الحال من الضمير في «كان» ، وحذفت جملة «كان» التي هي الخبر للعلم بها ، وسد الحال مسدها.

وهذه الحال لا تصلح خبرا لمباينتها المبتدأ ، إذ الخطابة لا يصح أن يخبر عنها بالقيام.

وجعل «قائما» حالا مبنيّ على تمام «كان».

وامتنع جعل «كان» ناقصة ، وجعل المنصوب خبرها ، لأمرين :

الأول : إن العرب لم تستعمل في هذا الموضع إلّا أسماء منكورة مشتقة من المصادر ، فحكمنا بأنها أحوال ، إذ لو كانت أخبارا لـ «كان» المضمرة لجاز أن تكون معارف ونكرات ، ومشتقة وغير مشتقة.

الثاني : وقوع الجملة الاسمية مقرونة بالواو موقعه ، كقوله ـ عليه الصلاة والسّلام ـ : «أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو ساجد» (٢).

__________________

(١) موارد المسألة : «شرح ابن الناظم» : ٥٠ ، و «شرح الأشموني» ١ : ٢١٩ ، و «شرح الكافية للرضي» ١ : ١٠٥ ، و «شرح الشاطبي» مخطوط ، و «مغنى اللبيب» ٥٣٧ ، و «شرح قواعد الإعراب» للكافيجي ص : ٤٧ (آلة كاتبة).

(١) أخرجه «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب الصلاة ـ باب ما يقال في الركوع والسجود) ٢ : ٤٩ ، و «أبو داود» في «سننه» في (كتاب الصلاة ـ باب في الدعاء في الركوع والسجود) ١ : ٢٣١. وانظر «مختصر سنن أبي داود» ١ : ٤٢٠.

وقال «البغدادي» في «تخريج أحاديث شرح الكافية للرضي» ورقة / ٣ / (مخطوط) : أخرجه «البزار» عن ابن مسعود. كذا في الذيل للسيوطي ، وتمامه عند «مسلم» و «أبي داود» و «النسائي» عن أبي هريرة : «فأكثروا الدعاء». كذا في الجامع الصغير.

١٧٧

وقول الشاعر :

خير اقترابي من المولى حليف رضا

وشرّ بعدي عنه وهو غضبان

الشاهد في الحديث وقوع الجملة الاسمية الحالية مقرونة بالواو مع الخبر ، وسادا عنه.

قال «ابن هشام» في «مغنيه» : ٥٣٧ :

والحديث من أقوى الأدلة على انتصاب «قائما» في (ضربي زيدا قائما) على الحال ، لا على أنه خبر لـ «كان» محذوفة ، إذ لا يقترن الخبر بالواو.

مسألة (٢١)

في رفع ونصب «سبّوح قدّوس»

قال «الشاطبي» عند قوله : (وبعد لو لا غالبا حذف الخبر ..) : ... ما جرى من الأسماء مجرى المصادر ، نحو : «سبوح قدّوس ربّ الملائكة والرّوح» (١).

وفي «الكتاب» ١ : ١٦٥

أما «سبّوحا قدّوسا ربّ الملائكة والرّوح» فليس بمنزلة : سبحان الله ؛ لأن السّبّوح والقدوس اسم ، ولكنّه على قوله : أذكر سبوحا قدّوسا ، وذاك أنه خطر على باله ، أو ذكره ذاكر فقال : سبّوحا ، أي : ذكرت سبّوحا ، كما تقول : أهل

__________________

(١) أخرجه «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب الصلاة ـ باب ما يقال في الركوع والسجود) ٢ : ٥١.

و «أبو داود» في «سننه» في (كتاب الصلاة ـ باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده) ١ : ٢٣٠.

و «النسائي» في «سننه» في (كتاب الافتتاح ـ باب الدعاء في السجود» ٢ : ٢٢٤ عن عائشة.

و «أحمد» في «مسنده» ٦ : ٣٥ ، وغيرهم.

١٧٨

ذاك ، إذا سمعت الرجل ذكر الرجل بثناء أو بذمّ كأنه قال : ذكرت أهل ذاك ؛ لأنه حيث جرى ذكر الرجل في منطقة ، صار عنده بمنزلة قوله : أذكر فلانا ، أو ذكرت فلانا ، كما أنّه حيث أنشد ثم قال : صادقا ، صار الإنشاد عنده بمنزلة قال ، ثم قال : صادقا وأهل ذاك ، فحمله على الفعل متابعا للقائل والذاكر. فكذلك :سبّوحا قدّوسا ، كأن نفسه صارت بمنزلة الرجل الذاكر والمنشد حيث خطر على باله الذكر ، ثم قال : سبّوحا قدّوسا ، أي : ذكرت سبّوحا ، متابعا لها فيما ذكرت وخطر على بالها.

وخزلوا الفعل لأنّ هذا الكلام صار عندهم بدلا من «سبّحت» كما كان مرحبا بدلا من رحبت بلادك وأهلت.

ومن العرب من يرفع فيقول : «سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والروح» كما قال : أهل ذاك وصادق والله.

وكلّ هذا على ما سمعنا العرب تتكلّم به رفعا ونصبا.

وفي «همع الهوامع» في «المفعول به» :وأما «سبوح قدوس» فيقالان بالرفع عند سماع من يذكر الله على إضمار مذكورك فليسا بمصدرين ، وبالنصب على إضمار : ذكرت سبوحا قدوسا ، أي :أهل ذلك ، فاختلف على هذا الفعل الناصب واجب الإضمار ، أو جائزه.

فقال «الشلوبين» وجماعة بالأول ، وآخرون بالثاني.

١٧٩

«كان» وأخواتها

مسألة (٢٢)

في استعمال أفعال بمعنى «صار» (١)

ألحق قوم ، منهم «ابن مالك» بـ «صار» في العمل ما وافقها في المعنى من الأفعال. من ذلك : (آض ، وعاد ، وآل ، ورجع وحار ، واستحال ، وتحول ، وارتد)

نورد بعض الأحاديث الواردة في ذلك : قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض) (٢)

فلا ترجعوا بمعنى : لا تصيروا. وكفارا : منصوب على الخبر ، أي : كالكفار.

يضرب : استئناف لبيان صيرورتهم كالكفرة ، أو المراد : لا ترتدوا عن الإسلام إلى ما كنتم عليه من عبادة الأصنام حال كونكم كفارا ضاربا بعضكم رقاب بعض.

والأول أقرب (٣).

__________________

(١) موارد المسألة : «شواهد التوضيح» : ١٣٩ ، و «شرح الشاطبي» ، و «شرح الأشموني» ١ : ٢٢٩ ، و «همع الهوامع» (كان وأخواتها).

(٢) أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب العلم ـ باب الإنصات للعلماء) ١ : ٣٨ ، وفي (كتاب الفتن ـ باب قول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : لا ترجعوا بعدي كفارا ...) ٨ : ٩١ عن ابن عمر.

و «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب الإيمان ـ باب لا ترجعوا بعدي كفارا ...) قال في حجّة الوداع : ويحكم أو قال : ويلكم ، لا ترجعوا بعدي ... الحديث ١ : ٥٨ و «النسائي» في «سننه» في (كتاب تحريم الدم ـ تحريم القتل) ٧ : ١٢٦ ، و «أبو داود» في «سننه» في (كتاب السنة ـ باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه) ٤ : ٢٢١ ، و «أحمد» في «مسنده» ٤ : ٣٥١ ، وفيه :

«إني مكاثر بكم الأمم فلا ترجعن بعدي .. الحديث» في مسند الصنّابحي الأحمسي رضي‌الله‌عنه. انظر «فتح الباري» ١٣ : ٢٦.

(٣) انظر «حاشية السندي» على «شرح السيوطي» لـ «سنن النسائي» ٧ : ١٢٦.

١٨٠