الحديث النبوي في النحو العربي

الدكتور محمود فجال

الحديث النبوي في النحو العربي

المؤلف:

الدكتور محمود فجال


الموضوع : اللغة والبلاغة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٤

بالوقوع ، وعلى فرض وقوعه فالمغيّر لفظا بلفظ في معناه عربيّ مطبوع يحتج بكلامه في اللغة ، ونحن نعرف مقدار تحري علماء الحديث ، وضبطهم لألفاظه ، حتى إذا شك راو عربي بين قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «على وجوههم» ، وبين قوله : «على مناخرهم» (١) ، أثبتوا شكه ، ودوّنوه مبالغة في التحري والدقة. هذا إلى جانب كثير من الرواة ، صحابة وتابعين دوّنوا الأحاديث من عهد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فهذا «عبد الله بن عمرو بن العاص» كان يكتب الحديث حياة رسول الله ، وكذلك روي عن «عبد الله بن عمر» ، و «أنس بن مالك» ، و «سهل بن سعد الساعدي» من الصحابة الكرام.

وهذا «عمر بن عبد العزيز» ـ ١٠١ ه‍ يكتب إلى الآفاق أن : «انظروا ما كان من حديث رسول الله ، أو سنته فاكتبوه» ثم كان «الزهري» ـ ١٢٤ ه‍ ، و «ابن أبي عروبة» ـ ١٥٦ ه‍ ، و «الربيع بن صبيح» ـ ١٦٠ ه‍ ممن دونوا الحديث كتابة. ثم شاع التدوين في الطبقات التي بعد هؤلاء ، وهذا كاف في غلبة الظن ، بأن الذي في مدونات الطبقة الأولى لفظ النبي نفسه ، فإن كان هناك إبدال لفظ بمرادفه ، فإنما أبدله عربيّ فصيح يحتجّ به.

وإن وقع بعد ذلك شك في بعض الروايات من غلط أو تصحيف ، فنزر يسير ، لا يقاس أبدا إلى أمثاله في الشعر ، وكلام العرب ، فكثير من الأشعار نفسها رويت بروايات مختلفة ، وبعضها موضوع ، وربما كان ما فطنوا إلى وضعه منه أقل من القليل ، وجاز عليهم أكثر الموضوع إذ كان واضعه قد أحسن المحاكاة. قال «الخليل بن أحمد» : «إن النحارير ربما أدخلوا على الناس ما ليس من كلام العرب إرادة اللبس والتعنيت» (٢). وأنتم تحتجون بهذا الشعر والنثر ، على عجره

__________________

(١) في الحديث : «... وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم ـ أو على مناخرهم ـ إلّا حصائد ألسنتهم». أخرجه «الترمذي» في «سننه» في (أبواب الإيمان ـ باب ما جاء في حرمة الصلاة) ٤ : ١٢٥ ، من حديث «معاذ بن جبل» ـ رضي‌الله‌عنه ـ ، وقال : هذا حديث حسن صحيح.

(٢) «الصاحبي» ٣٠ المطبعة السلفية بالقاهرة.

١٢١

وبجره ، هذا من حيث المتن ، وأما من حيث السند فقد عرف المجيزون والمانعون أن ما في روايات الحديث من ضبط ، ودقة ، وتحرّ ، لا يتحلى ببعضه كل ما يحتج به النحاة واللغويون من كلام العرب ، حتى قال «الأعمش» : «كان هذا العلم عند أقوام كان أحدهم لأن يخر من السماء أحب إليه من أن يزيد فيه واوا أو ألفا أو دالا» (١).

وأما المانع الثاني ، وهو وقوع لحن في بعض الأحاديث المروية ، فهو شيء ـ إن وقع ـ قليل جدا ، لا يبنى عليه حكم ، وقد تنبه إليه الناس وتحاموه ، ولم يحتج به أحد ، ولا يصح أن يمنع من أجله الاحتجاج بهذا الفيض الزاخر من الحديث الصحيح إلا إن جاز إسقاط الاحتجاج بالقرآن الكريم ؛ لأن بعض الناس يلحن فيه. وأنت تعرف إلى هذا أنهم قد تشددوا في أخذ الناس بضبط ألفاظ الحديث ، حتى إذا لحن فيه شاد (٢) أو عاميّ ، أقاموا عليه النكير ، بل إن بعضهم ليدخله النار بسببه ، وكان هذا التشديد تقليدا متوارثا في حملة الحديث حتى يومنا هذا.

قال «جمال الدين القاسمي» ـ ١٣٣٢ ه‍ : «من قرأ حديث رسول الله ، وهو يعلم أنه يلحن فيه ، سواء أكان في أدائه أم في إعرابه ، يدخل في هذا الوعيد الشديد ، (يعني قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) ؛ لأنه بلحنه كاذب عليه» (٣) حتى الذين يروونه بالمعنى يعظمون أمر اللحن في الحديث ، فهذا إمام أهل الشام «الأوزاعيّ» يقول : «أعربوا الحديث فإن القوم كانوا عربا» ، ويقول : «لا بأس بإصلاح اللحن في الحديث».

__________________

(١) «الكفاية» ١٧٨.

(٢) شدا ، يشدو ، شدوا ، من باب قتل ، يقال : شدا من العلم شيئا ، وهو شاد ، وأخذ منه شدا : طرفا وذروا. «أساس البلاغة» (شدو).

(٣) «قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث» ١٧٣.

١٢٢

وهذا «حماد بن سلمة» يقول : «من لحن في حديثي فليس يحدّث عني». وإليك هذه السلسلة : عن «الحسن بن علي الحلواني» قال : «ما وجدتم في كتابي عن عفان لحنا فأعربوه ، فإن عفان كان لا يلحن». وقال لنا «عفان» : «ما وجدتم في كتابي عن «حماد بن سلمة» لحنا فأعربوه ، فإن حمادا كان لا يلحن». وقال «حماد» : «ما وجدتم في كتابي عن قتادة لحنا فأعربوه ، فإن قتادة كان لا يلحن».

انظر كتاب (ألف باء) للبلوي ١ : ٤٤.

وأغلب الظن أن من يستشهد بالحديث من المتقدمين لو تأخر بهم الزمن إلى العهد الذي راجت فيه بين الناس ثمرات علماء الحديث ، من رواية ودراية لقصروا احتجاجهم عليه ، بعد القرآن الكريم ، ولما التفتوا قط إلى الأشعار والأخبار التي لا تلبث أن يطوقها الشك إذا وزنت بموازين فن الحديث العلمية الدقيقة ...

وجرى على الاحتجاج بالحديث العلماء حتى عصرنا الحاضر ، منهم المرحوم الأستاذ طه الراوي (١) ، فقد كان يذهب إلى الاحتجاج بما صح منها دون قيد ولا شرط ، ويعرض للذين اعترضوا بوجود أعاجم في رواة بعض الأحاديث فيقول : «والقول بأن في رواة الحديث أعاجم ليس بشيء ، لأن ذلك يقال في رواة الشعر والنثر اللذين يحتج بهما ، فإن فيهم الكثير من الأعاجم ، وهل في وسعهم أن يذكروا لنا محدّثا ممن يعتد به أن يوضع في صفّ «حماد الراوية» الذي كان يكذب ويلحن ويكسر ، ومع ذلك لم يتورع الكوفيون ، ومن نهج منهجهم عن الاحتجاج بمروياته ، ولكنهم تحرجوا في الاحتجاج بالحديث ...

__________________

(١) هو أديب ، باحث ، عراقي ، من أعضاء المجمع العلمي بدمشق ، ولد سنة ١٣٠٧ ه‍ في «رواة» ، وهي قرية مشرفة على الفرات ، وتوفي بغداد سنة ١٣٦٥ ه‍. «الأعلام» ٣ : ٢٣٢.

١٢٣

ثم لا أدري لم ترفّع النحويون عما ارتضاه اللغويون من الانتفاع بهذا الشأن ، والاستقاء من ينبوعه الفياض العذب الزلال ، فأصبح ربع اللغة به خصيبا بقدر ما صار ربع النحو منه جديبا :

وكان حالهما في الحكم واحدة

لو احتكمنا من الدنيا إلى حكم (١)

قال الدكتور «محمد محمد أبو شهبة» في كتابه «دفاع عن السنة» ص : ٣٢ : «.. من اطلع على منهج المحدثين في النقد ، وطريقتهم في التعديل والتجريح ، ومبالغتهم في التحري عن معرفة حقيقة الراوي ، وطوية نفسه ، والأخذ بالظنة والتهمة في رد مروياته يكاد يجزم بأن تجويز الكذب على الراوي المستجمع للشروط أمر فرضي ، واحتمال عقلي ، وهذه الحقيقة قد تبدو لبعض من لم يدرس كتب الرجال والنقد عند المحدثين ، فيها شيء من المغالاة ، ومن أبعد النجعة في كتب القوم عرف ، ومن عرف اعترف».

__________________

(١) نظرة في النحو (مجلة المجمع العلمي بدمشق ١٤ : ٣٢٥ ـ ٣٢٧) عن «في أصول النحو» ٥٣ ـ ٥٥.

١٢٤

فكرة التحرز الديني في ترك الاحتجاج بالحديث فكرة غير مقنعة :

جاء في كتاب «الرواية والاستشهاد باللغة»

ص : ١٣٦ ـ ١٣٧ ، ٢٥٩ ـ ٢٦٠ تعليله في صرف النحاة أنفسهم عن الاستشهاد بالقرآن والحديث في أنهم تحرجوا من استخدامهما في دراستهم.

ووقف «التحرز الديني» بينهم وبين الإفادة منهما ...

إذ نظروا إلى نصوص القرآن والحديث نظرة تقديس وتنزيه ، فانصرفوا عنهما في الدراسة والاستدلال عليها بفعل «التحرز الديني» وحين تناولوا نصوص القرآن والحديث بعد ذلك بالتفسير والإعراب ، صاحبتهم تلك الرهبة نفسها ، وبخاصة مع نص القرآن ...

قال المؤلف : أما ما ارتآه المتأخرون من تعلّات بعد ذلك لما انتهجه السابقون من النحاة من أن ذلك الانصراف عن الحديث كان بسبب الرواية بالمعنى أو اللحن في المتن ، فإن ذلك كله لا يثبت أمام الواقع التاريخي المبكر من رواية الحديث وجمعه ...

هذه التعليلات غير مقنعة!! وإنما المقنع حقا الاعتراف بحقيقة الأمر الذي صرفهم عن هذه النصوص الموثقة ، وحقيقة الأمر ـ إن لم يجانبني الصواب ـ كان «التحرز الديني» تماما كما حدث في القرآن ...

أقول ـ وبالله التوفيق ـ إن فكرة التحرز الديني ، ونظرة التقديس والتنزيه فكرة غير مقنعة ، فالنحاة قاطبة استدلوا بالقرآن الكريم دون تردد فيه ، فقد بلغت شواهد «سيبويه» القرآنية / ٣٧٣ / آية ، وشواهد «المقتضب» لـ «المبرد» تجاوزت خمسمائة آية. وقد استشهدت المصنفات النحوية بالقرآن الكريم باستفاضة ، كمصنفات «ابن جني» ـ ٣٩٢ ه‍ ، و «الزمخشري» ـ ٥٣٨ ه‍ ، و «ابن يعيش» ـ ٦٤٣ ه‍ ، و «الزنجاني» ـ ٦٦٠ ه‍ ، و «ابن مالك» ـ ٦٧٢ ه‍ ، و «الرضي» ـ ٦٨٦ ه‍ ، و «ابن هشام» ـ ٧٦١ ه‍ ، و «ابن عقيل» ـ ٧٦٩ ه‍ ، وغيرهم.

١٢٥

نعم وقف فريق من النحاة موقفا يتسم بالشدة والعنف تجاه القراء ، قال «أبو الفتح» في «الخصائص» ١ : ٧٣ : «ولم يؤت القوم في ذلك من ضعف أمانة ، ولكن أتوا من ضعف دراية».

ومع كل هذا لم يصرفوا أنفسهم عن الاستشهاد بالقرآن ، وهذه المؤلفات النحوية بين أيدينا شاهد صدق على صحة ما ذهبت إليه.

أما الحديث النبوي فالقدامى لم يستشهدوا به في مسائل النحو والصرف.

وعندي أن سبب ذلك يعود لعدم تعاطيهم هذا العلم ، ولعدم ممارستهم إيّاه ، كما أفاده «محمد بن الطيب الفاسي» ـ ١١٧٠ ه‍ ، شيخ «الزبيدي» صاحب «تاج العروس» ، لذا نجد الإمام «ابن مالك» يكثر الاستشهاد بالحديث ، وما ذلك إلا لأنه أمّة في الاطلاع على علم الحديث (١).

أما التحرز الديني ونظرة التنزيه والتقديس فغير وارد البتة ؛ لأننا مأمورون بفهم القرآن والحديث ومعاطاتهما.

وأما تعليل المتأخرين من أن سبب انصراف القدامى عن الاحتجاج بالحديث يعود إلى الرواية بالمعنى ، واللحن في المتن ، فتعليل فيه وجهة نظر إلى حدّ ما ؛ فقد ذهب فريق من العلماء إلى جواز الرواية بالمعنى ، وقد قال «سفيان الثوري» : «إنما نحدثكم بالمعاني» ومنعها فريق آخر.

أما اللحن في المتن ، فقد وردت نصوص مرفوعة للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تخالف تعابيرها ما شاع من استعمال البصريين ، كحديث : «إن قعر جهنم سبعين خريفا» ، وحديث : «إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون» ، وحديث : «كل أمتي معافى إلا المجاهرون» ، في بعض الروايات ، وغيرها من الأحاديث. فتوهّم من لا دراية له بلهجات العرب ولغاتها أنه لحن.

ونحن لا نعذر القدامى في عدم احتجاجهم بالحديث ، ولكن عدم ممارستهم لهذا الفن الجليل صرفهم عن الاحتجاج به. وفاقد الشيء لا يعطيه. والله أعلم.

__________________

(١) «بغية الوعاة» ١ : ١٣٤.

١٢٦

الاتجاه الثالث :

التوسط بين المنع والجواز

ومن أبرز من نهج هذا النهج «أبو إسحاق الشاطبي» ـ ٧٩٠ ه‍ في شرحه للألفية ، المسمى بـ «المقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية». فقد قال ما ملخصه في باب «الاستثناء» : لم نجد أحدا من النحويين استشهد بحديث رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، وهم يستشهدون بكلام أجلاف العرب وسفهائهم ، الذين يبولون على أعقابهم ، وأشعارهم التي فيها الفحش والخنى ، ويتركون الأحاديث الصحيحة ، لأنها تنقل بالمعنى ، وتختلف رواياتها وألفاظها ، بخلاف كلام العرب وشعرهم ، فإنّ رواته اعتنوا بألفاظها ، لما ينبني عليه من النحو ، ولو وقفت على اجتهادهم قضيت منه العجب ، وكذا القرآن ووجوه القراءات.

وأما الحديث فعلى قسمين :

قسم يعتني ناقله بمعناه دون لفظه ، فهذا لم يقع به استشهاد أهل اللسان.

وقسم عرف اعتناء ناقله بلفظه لمقصود خاص ، كالأحاديث التي قصد بها بيان فصاحته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ككتابه لهمدان ، وكتابه لوائل بن حجر ، والأمثال النبوية ؛ فهذا يصح الاستشهاد به في العربية. و «ابن مالك» لم يفصّل هذا التفصيل الضروري الذي لا بدّ منه ، وبنى الكلام على الحديث مطلقا ، ولا أعرف له سلفا إلا «ابن خروف» ؛ فإنه أتى بأحاديث في بعض المسائل ، حتى قال «ابن الضائع» : لا أعرف هل يأتي بها مستدلا بها ، أم هي لمجرد التمثيل؟

والحق أنّ «ابن مالك» غير مصيب في هذا ، فكأنه بناه على امتناع نقل الحديث بالمعنى ، وهو قول ضعيف. (١)

وبهذا الموقف الوسط الذي سلكه «الشاطبي» عارض المانعين للاحتجاج بالحديث ، ورماهم بالتناقض ؛ لأنهم لا يستشهدون بحديث

__________________

(١) «خزانة الأدب» ١ : ٦

١٢٧

رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في حين يستشهدون بكلام أجلاف العرب. كما عارض المجيزين مطلقا ، دون تفرقة ، كـ «ابن مالك» وقال : لأنه لم يفضّل هذا التفصيل الضروريّ ، الذي لا بد منه ، وبنى الكلام على الحديث مطلقا ، ثم قال : والحق أن «ابن مالك» غير مصيب في هذا ، فكأنه بناه على امتناع نقل الحديث بالمعنى ، وهو قول ضعيف.

ونلاحظ أن «الشاطبي» قسّم الأحاديث ، إلى قسمين :

القسم الأول : ما يعتني ناقله بمعناه دون لفظه ، وهذا لم يقع به استشهاد أهل اللسان.

القسم الثاني : عرف اعتناء ناقله بلفظه ، لمقصود خاص ، كالأحاديث التي قصد بها فصاحته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ككتابه لهمدان ، وكتابه لوائل بن حجر ، والأمثال النبوية. وهذا القسم يصح الاستشهاد به في النحو.

وكان هذا التقسيم الذي قدّمه «الشاطبي» الأساس الذي بنى عليه المعاصرون موقفهم من حجية الحديث ، فالشيخ «محمد الخضر حسين» (١) يأخذ بهذا التقسيم ، ثم يضيف إليه قسما ثالثا ، هو ـ في الواقع ـ تفصيل لما أجمل «الشاطبي».

وقد (٢) عالج هذا الموضوع في «مجلة مجمع اللغة العربية» على خير ما يعالجه عالم ثبت متروّ ، وقاض منصف ، وانتهى من بحثه إلى النتيجة المرضية الآتية :

من الأحاديث ما لا ينبغي الاختلاف بالاحتجاج به في اللغة و (القواعد) ، وهو ستة أنواع :

__________________

(١) عالم جليل ، وأديب باحث ، من أعضاء المجمعين العربيّين بدمشق والقاهرة ، تخرّج بجامع الزيتونة ، ودرّس فيه ، وفي الأزهر ، وقد عمل مصححا في دار الكتب المصرية خمس سنوات ، وتولى مشيخة الأزهر ، وترأس تحرير مجلة «نور الإسلام» الأزهرية ، ومجلة «لواء الإسلام». كان هادئ الطبع وقورا ، وقد خصّ قسما كبيرا من وقته لمقاومة الاستعمار ، وانتخب رئيسا لجبهة الدفاع عن شمال إفريقية في مصر. له تآليف مفيدة ، منها : «الدعوة إلى الإصلاح» ، و «رسائل الإصلاح» ، و «نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم» ، و «نقض كتاب في الشعر الجاهلي» توفي سنة ١٣٧٧ ه‍. «الأعلام» ٦ : ١١٤.

(٢) من هنا من «في أصول النحو» ٥٥.

١٢٨

أولها : ما يروى بقصد الاستدلال على كمال فصاحته ـ عليه‌السلام ـ ، كقوله : «حمي الوطيس» (١) ، وقوله : «مات حتف أنفه» ، وقوله : «الظلم ظلمات يوم القيامة» (٢) ، إلى نحو هذا من الأحاديث القصار المشتملة على شيء من محاس البيان ، كقوله : «فارجعن مأزورات غير مأجورات» ، (٣) وقوله : «إنّ الله لا يملّ حتى تملّوا» (٤).

ثانيها : ما يروى من الأقوال التي يتعبّد بها ، أو أمر بالتعبد بها ، كألفاظ القنوت والتحيات ، وكثير من الأذكار والأدعية التي كان يدعو بها في أوقات خاصة. (٥)

ثالثها : ما يروى على أنه كان يخاطب كل قوم من العرب بلغتهم. ومما هو ظاهر أن الرواة يقصدون في هذه الأنواع الثلاثة إلى رواية الحديث بلفظه.

رابعها : الأحاديث التي وردت من طرق متعددة ، واتحدت ألفاظها فإن اتحاد الألفاظ مع تعدد الطرق دليل على أن الرواة لم يتصرفوا في ألفاظها ، والمراد أن تتعدد طرقها إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أو إلى الصحابة أو إلى التابعين الذين ينطقون الكلام العربي فصيحا.

خامسها : الأحاديث التي دوّنها من نشأ في بيئة عربية لم ينتشر فيها فساد اللغة ، ك : «مالك بن أنس» ، و «عبد الملك بن جريج» و «الشافعي».

__________________

(١) قطعة من حديث أخرجه «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب الجهاد والسّير ـ باب في غزوة حنين) ٥ : ١٦٧ و «أحمد» في «مسنده» ١ : ٢٠٧.

(٢) أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب المظالم ـ باب الظلم ظلمات يوم القيامة) ٣ : ٩٩ ، من حديث «عبد الله بن عمر» ـ رضي‌الله‌عنهما ـ.

(٣) أخرجه «ابن ماجه» في «سننه» في (كتاب الجنائز ـ باب ما جاء في اتباع النساء الجنائز) ١ : ٥٠٣ ، من حديث «علي» ـ رضي‌الله‌عنه ـ.

(٤) هذا قطعة من حديث «عائشة» ـ رضي‌الله‌عنها ـ رواه «البخاري» في «صحيحه» في كتاب اللباس ـ باب الجلوس على الحصير ونحوه) ٧ : ٥٠ ، و «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب صلاة المسافرين ـ باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره) ٢ : ١٨٩ ، وانظر «فتح الباري» ١٠ : ٣١٤.

(٥) قال «ابن حجر» في «فتح الباري» ٨ : ٣٠٤ : «الأقوال المنصوصة إذا تعبّد بلفظها لا يجوز تغييرها ولو وافق المعنى ...».

١٢٩

سادسها : ما عرف من حال رواته أنهم لا يجيزون رواية الحديث بالمعنى ، مثل : «ابن سيرين» ، و «القاسم بن محمد» ، و «رجاء بن حيوة» ، و «علي بن المديني».

ومن الأحاديث ما لا ينبغي الاختلاف في عدم الاحتجاج به ، وهي الأحاديث التي لم تدوّن في الصدر الأول ، وإنما تروى في بعض كتب المتأخرين ...

والقسم الثالث الذي أضافه هو الحديث الذي يصح أن تختلف الأنظار في الاستشهاد بألفاظه ، هو الحديث الذي دوّن في الصدر الأول ولم يكن من الأنواع الستة المبينة آنفا ، وهو على نوعين :

حديث يرد لفظه على وجه واحد ، وحديث اختلفت الرواية في بعض ألفاظه :

(١) أما الحديث الوارد على وجه واحد ، فالظاهر صحة الاحتجاج به ؛ نظرا إلى أن الأصل الرواية باللفظ ، وإلى تشديدهم في الرواية بالمعنى ، ويضاف إلى هذا كله عدد من يوجد في السند من الرواة الذين لا يحتج بأقوالهم ، فقد يكون بين «البخاري» ومن يحتج بأقواله من الرواة واحد أو اثنان ، وأقصاهم ثلاثة.

ومثال هذا النوع أن «الحريري» أنكر على الناس قولهم قبل الزوال : (سهرنا البارحة) قال : وإنما يقال : (سهرنا الليلة) ، ويقال بعد الزوال : (سهرنا البارحة) ا ه.

والشاهد على صحة ما يقوله الناس حديث أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان إذا أصبح قال : «هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا؟» (١).

__________________

(١) بهذا اللفظ أخرجه «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب الرؤيا ـ باب رؤيا النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ٤ : ١٧٨١ من حديث «سمرة بن جندب» (طبع البابي الحلبي) ، وبلفظ : «هل رأى أحد منكم من رؤيا» أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب التعبير ـ باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح) ٨ : ٨٤ ، و «مالك» في «الموطأ» في (كتاب الرؤيا ـ باب ما جاء في الرؤيا) ٢ : ٩٥٧ من حديث «سمرة» أيضا. وبلفظ : هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا» أخرجه «أحمد» في «مسنده» ٥ : ١٤.

١٣٠

وحديث : «وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح ـ وقد ستره الله ـ فيقول : عملت البارحة كذا» (١).

ففي قوله : «إذا أصبح قال : هل رأى أحد منكم البارحة» وقوله : «ثم يصبح فيقول : عملت البارحة» شاهد على صحة أن يقول الرجل متحدثا عن الليلة الماضية ، وهو في الصباح : سهرنا البارحة ، أو وقع البارحة كذا.

(٢) وأما الأحاديث التي اختلفت فيها الرواية ... فنجيز الاستشهاد بما جاء في رواية مشهورة لم يغمزها أحد المحدثين بأنها وهم من الراوي.

وأما ما يجيء في رواية شاذة ، أو في رواية يقول فيها بعض المحدثين : إنها غلط من الراوي ، فنقف دون الاستشهاد بها.

وخلاصة البحث : إنا نرى الاستشهاد بألفاظ ما يروى في كتب الحديث المدونة في الصدر الأول وإن اختلفت فيها الرواية ، ولا نستثني إلا الألفاظ التي تجيء في رواية شاذة أو يغمزها بعض المحدثين بالغلط أو التصحيف غمزا لا مرد له ، ويشد أزرنا في ترجيح هذا الرأي أن جمهور اللغويين وطائفة عظيمة من النحويين يستشهدون بالألفاظ الواردة في الحديث ولو على بعض رواياته. (٢) ا ه.

وإذا كان قد وقع في رواية بعض الأحاديث غلط أو تصحيف ، فإن هذا لا يقتضي ترك الاحتجاج به جملة ، وإنما غايته ترك الاحتجاج بهذه الأحاديث فقط ، وحمله على ضبط أحد الرواة في هذه الألفاظ خاصة (٣). وقد وقع في الأشعار غلط

__________________

(١) أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب الأدب ـ باب ستر المؤمن على نفسه) ٧ : ٨٩ ، عن أبي هريرة بنحوه.

(٢) مجلة مجمع اللغة العربية ٣ : ٢٠٨ ـ ٢١٠ ، من «في أصول النحو» ٥٥ ـ ٥٨.

(٣) «مجلة مجمع اللغة العربية» ٣ : ٢٠٧.

١٣١

وتصحيف ، ومع ذلك فهي حجة من غير خلاف. وإذا كان «العسكريّ» (١) قد ألّف كتابا في تصحيف رواة الحديث ، فقد ألّف كتابا فيما وقع من أصحاب اللغة والشعر من التصحيف.

__________________

(١) «العسكري ، أبو أحمد الحسن بن عبد الله» ـ ٣٧٢ ه‍. له كتاب «تصحيفات المحدّثين» ورمز «الزركلي» في «الأعلام» ٢ : ١٩٦ إلى أنه مخطوط. وقد قام الدكتور محمود ميره بتحقيقه. كما قام بطبعه بالقاهرة بالمطبعة العربية الحديثة. الطبعة الأولى ١٤٠٢ ه‍ ـ ١٩٨٢ م.

ول «العسكريّ» كتاب «شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف» وقد حققه الأستاذ عبد العزيز أحمد. وطبع بالقاهرة في مطبعة مصطفى البابي الحلبي. الطبعة الأولى ١٣٨٣ ه‍ ـ ١٩٦٣ م

ويقول «الزّركليّ» بعد ما ذكر كتاب «تصحيفات المحدثين» : ولعله كتابه المطبوع باسم «شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف» ا ه.

والصواب أنهما كتابان مختلفان. لذا قال «العسكري» في مقدمة «شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف» : سئلت بأصبهان وبالرّيّ إفراد ما يحتاج إليه أصحاب الحديث مما يحتاج إليه أهل الأدب ، فجعلته كتابين.

وانظر «المزهر» ٢ : ٣٥٣.

١٣٢

الكشف عن مذهب السيوطي والبغدادي في الاحتجاج بالحديث في النحو :

أما «السيوطي» فموقفه متردد بين الاتجاه الثاني ، والاتجاه الثالث ، فقد أيد اتجاه؟؟؟ المانعين : فقال في «الاقتراح» ٥٥ :

(ومما يدل لصحة ما ذهب إليه «ابن الضائع» و «أبو حيان» أن «ابن مالك» استشهد على لغة «أكلوني البراغيث» بحديث : «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» وأكثر من ذلك حتى صار يسميها : لغة يتعاقبون. وقد استدل به «السهيلي» ، ثم قال : لكني أقول : إن الواو فيه علامة إضمار ؛ لأنه حديث مختصر رواه «البزار» مطولا محردا ، قال فيه : «إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم ، ملائكة بالليل ، وملائكة بالنهار).

وقال «ابن الأنباري» في «الإنصاف» في منع «أن» في خبر «كاد» :

(وأما حديث : «كاد الفقر أن يكون كفرا» فإنه من تغييرات الرواة ، لأنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أفصح من نطق بالضاد). ا ه.

كما أيّد اتجاه الوسط ، فقال في «الاقتراح» ٥٢ : «وأما كلامه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيستدل منه بما ثبت أنه قاله على اللفظ المروي ، وذلك نادر جدا ، إنما يوجد في الأحاديث القصار على قلة أيضا ، فإن غالب الأحاديث مروي بالمعنى ، وقد تداولتها الأعاجم والمولدون قبل تدوينها ، فرووها بما أدّت إليه عباراتهم ، فزادوا ونقصوا ، وقدّموا وأخّروا ، وأبدلوا ألفاظا بألفاظ ، ولهذا ترى الحديث الواحد في القصة الواحدة مرويا على أوجه شتّى ، بعبارات مختلفة ، ومن ثمّ أنكر على «ابن مالك» إثباته القواعد النحوية بالألفاظ الواردة في الحديث» ا ه.

ولهذا اختلفت عبارات المصنفين في الوصول إلى حقيقة مذهب «السيوطي» فقد تقدم قول «ابن الطيب» : لا نعلم أحدا من علماء العربية في الاحتجاج بالحديث الشريف إلا ما أبداه الشيخ «أبو حيان» في شرح

١٣٣

التسهيل ، و «أبو الحسن ابن الضائع» في شرح الجمل ، وتابعهما على ذلك «الجلال السيوطي» ـ رحمه‌الله.

أما «البغدادي» (١) فقد قال : وتوسط «الشاطبي» فجوز الاحتجاج بالأحاديث التي اعتني بنقل ألفاظها. ثم أورد كلامه من شرح الألفية ، ثم قال :وقد تبعه «السيوطي» في «الاقتراح» وذكر كلامه (٢).

__________________

(١) «خزانة الأدب» ١ : ٦.

(٢) جاء في كتاب «ابن الشجري ومنهجه في النحو» رسالة ماجستير للأستاذ «عبد المنعم أحمد التكريتي» ٢١٥ ـ ٢٢٤ : وهناك من وقف من الفريقين موقفا وسطا ، كـ «الشاطبي» ثم ذكر كلامه ، وبعده قال المؤلف : «وتبعه في هذا الرأي «البغدادي» و «السيوطي» ، ونسب ذلك في الذيل إلى «خزانة الأدب» و «الاقتراح».

أقول ـ وبالله التوفيق ـ : مذهب «السيوطي» متردد بين مذهبي الوسط والمنع ، كما أوضحته آنفا.

أما «البغدادي» فمذهبه حسب ما يبدو لي أنه متابع لـ «ابن مالك» و «الرضي» و «الدماميني» ، لأنه قال بعد أن نقل كلام «ابن الضائع ، وأبي حيان» : وقد ردّ هذا المذهب الذي ذهبوا إليه «البدر الدماميني» في شرح التسهيل ، ولله درّه! فإنه قد أجاد وأفاد. والله ـ تعالى ـ أعلم.

١٣٤

مطلب : معنى الاستشهاد والاحتجاج والتمثيل

كتب النحو والصرف تستعمل عبارات ، مثل : واستشهدوا بكذا ، وهذا لا يستشهد بشعره ، والاستشهاد بهذا البيت لا يصح لعدم معرفة قائله.

وكذلك يقولون : واحتجوا بكذا ، وهذا لا يحتجّ به ، والاحتجاج بما قالوه مردود.

والاحتجاج ومشتقاته يتردد كثيرا في المصنفات التي صنّفت للمسائل الخلافية في النحو ، مثل كتاب «الإنصاف في مسائل الخلاف» للأنباري.

أما التمثيل فيستعمل في الأمثلة المصنوعة ، وفي سوق القواعد وإيضاحها ، وهي كلام من جاوز عصر الاستشهاد من الشعراء والكتّاب.

ف «الاستشهاد» أو «الاحتجاج» هو ما نسب إلى قائل موثوق به في عصر الاستشهاد أو إلى قبيله من القبائل الموثوق بلغاتها.

فإذا كان النص من هذا النوع اعتبر أساسا للقواعد النحوية والصرفية ، وينبغي احترامه.

و «التمثيل» هو الذي يسوقه النحويّ نفسه ، أو ساقه عمّن لا يحتج بكلامهم. وهو غير ملزم.

ويدخل في المثال ما يساق من أمثلة فيها التكلف والصنعة مما يطلق عليه اسم «التمارين» كما يقال : صغ من كذا على مثال كذا. وكذلك التراكيب التي لم ترد في نص عربي قديم مما يوجد نماذجه الكثيرة في بابي التنازع والاشتغال وما لا ينصرف.

والشاهد في اللغة : اسم فاعل من شهد الشيء إذا عاينه.

والشهادة : الخبر القاطع.

واستشهده : سأله أن يشهد.

الحجّة : الدليل والبرهان. يقال حجّه ، يحجّه ، حجّا ، غلبه ، على حجّته ،

١٣٥

ويقال : حاججت فلانا فحججته ، أي : غلبته بالحجة ، وذلك الظفر يكون عند الخصومة.

والجمع : حجج ، والمصدر الحجاج.

ويقال : حاججته ، فأنا محاجّ ، وحجيج (فعيل بمعنى فاعل) ، وهو محجوج.

وفي «التعريفات» (باب الحاء) ٤٤ :

الحجّة : ما دلّ على صحة الدعوى.

وقيل : الحجة والدليل واحد.

فلفظ الحجة يستخدم في المواقف التي تتطلب المغالبة والجدل بقصد التفوق ، ونصرة الرأي.

كما يستعمل هذا اللفظ ، ومشتقاته ، للدلالة على فصاحة عربى أو هجنته ، فيقال عنه مثلا : يحتج به ، وعلماء اللغة يجعلونه حجة.

وأما «الشاهد» ـ عند أهل النظر ـ فهو جزئي يذكر لإثبات القاعدة ، من كلام الله ـ تعالى ـ ، وكلام رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، وكلام العرب العرباء الثابتة فصاحتهم ، الموثوق بعربيتهم.

وأما «المثال» فهو جزئي يذكر لإيضاح القاعدة (١).

__________________

(١) انظر «لسان العرب» (حجج) ٢ : ٢٢٨ ، و «معجم مقاييس اللغة» ٢ : ٣٠ و «الرواية والاستشهاد باللغة» ١٠١.

١٣٦

القسم الثاني

دراسة نحويّة للأحاديث النبوية الواردة

في أكثر شروح ألفيّة ابن مالك

وفيه ثمانية وثلاثون بابا نحويّا

وفيها عشر ومائة مسألة

١٣٧

الكلام على الأحاديث المذكورة في مقدمات شروح الألفية

استحب العلماء أن تستفتح الكتب والمصنفات بحديث «إنما الأعمال بالنيات». فجعله «البخاريّ» ـ ٢٥٦ ه‍ ، في أول صحيحه ، وابتدأ به «النووي» ـ ٦٧٦ ه‍ ، في كتبه الثلاثة : «رياض الصالحين» و «الأذكار» و «الأربعين حديثا النووية».

وفائدة هذا البدء تنبيه طالب العلم أن يصحح نيته لوجه الله ـ تعالى ـ في طلب العلم ، وعمل الخير.

ولهذا استهل «أبو إسحاق الشاطبي» ـ ٧٩٠ ه‍ ، به في مقدمة كتابه «المقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية» فقال : ... ومن غرس جنى ثمرة غرسه ، و «إنّما الأعمال بالنيّات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» (١) وفي هذا الحديث النبوي مسائل نحوية شريفة ، تعرف في مظانها ، وسنعرض لمسألتين منها : (الأولى) في إشكال ورود الجزاء بنفس الشرط.

و (الثانية) في إشكال تأنيث «دنيا» إذا نكرت.

__________________

(١) أخرجه «البخاري» في أول «صحيحه» وفي (كتاب الإيمان ـ باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة) ، ومواضع أخرى من صحيحه.

و «مسلم» في (كتاب الإمارة ـ باب قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : إنما الأعمال بالنية) عن «عمر بن الخطاب» رضي‌الله‌عنه. وله ألفاظ.

قال «ابن حجر العسقلاني» في «التلخيص الحبير» ١ : ٦٧ : ولم يبق من أصحاب الكتب المعتمدة من لم يخرّجه سوى «مالك» فإنه لم يخرجه في «الموطأ».

١٣٨

(المسألة الأولى) شرط الجواب الإفادة ، والأصل تغاير الشرط والجزاء ؛ لتحصل الإفادة.

فلا يقال : (من أطاع أطاع ، وإن يقم زيد يقم)

كما لا يقال في الابتداء : (زيد زيد).

فإن دخله معنى يخرجه للإفادة جاز ، نحو : (إن لم تطع الله عصيت) أريد به التنبيه على العقاب ، فكأنه قال : وجب عليك ما وجب على العاصي.

ويقال : ومن أطاع نجا ، وإن يقم زيد قمت.

وقد وقع الشرط والجزاء في هذا الحديث متحدين.

والجواب : أن التغاير يقع تارة باللفظ ، وهو الأكثر ، وتارة بالمعنى ، ويفهم ذلك من السياق.

ومن أمثلته قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً)(١).

وهو مسؤول على إرادة المعهود المستقر في النفس ، كقولهم : (أنت أنت) أي : الصديق الخالص. وقولهم : (هم هم) أي : الذين لا يقدر قدرهم. وقوله الشاعر :

أنا أبو النّجم وشعري شعري

وقال «ابن هشام» هو مسؤول على إقامة السبب مقام المسبب ، لاشتهار المسبب (٢) ، أي : فقد استحق الثواب العظيم المستقر للمهاجرين.

وقال «ابن مالك» : قد يقصد بالخبر الفرد بيان الشهرة ، وعدم التغير ، فيتحد بالمبتدأ لفظا ، كقول الشاعر :

خليلي خليلي دون ريب وربما

ألان امرؤ قولا فظنّ خليلا

__________________

(١) الفرقان : ٢٥.

(٢) ورد في فتح الباري ١ : ١٦ (لاشتهار السبب) وصوابه (لاشتهاب المسبب) كما في «مغنى اللبيب» : ١٣٢.

١٣٩

وقد يفعل مثل هذا بجواب الشرط ، كقولك : (من قصدني فقد قصدني) أي : فقد قصد من عرف بإنجاح قاصده.

وقال غيره : إذا اتحد لفظ المبتدأ والخبر ، والشرط والجزاء علم منهما المبالغة إما في التعظيم ، وإما في التحقير. (١)

(المسألة الثانية) أورد «ابن مالك» (٢) إشكالا في تأنيث «دنيا» مع كونه منكرا ، فكان حقه ألّا يستعمل كما لا يستعمل : «قصوى» و «كبرى». فقال : «دنيا» في الأصل مؤنث «أدنى» ، و «أدنى» أفعل تفضيل ، وأفعل التفضيل إذا نكر لزم الإفراد والتذكير ، وامتنع تأنيثه وتثنيته وجمعه.

إلا أن «دنيا» خلعت عنه الوصفية غالبا ، وأجريت مجرى ما لم يكن قط وصفا ، مما وزنه «فعلى» كرجعى وبهمى.

وفي وروده منكرا مؤنثا قول «الفرزدق» :

لا تعجبنّك دنيا أنت تاركها

كم نالها من أناس ثم قد ذهبوا (٣)

قال «الشاطبي» في مقدمة كتابه «المقاصد الشافية» :

... وإنما أتى الناظم بفعل (أحمد ربي) ... لئلا يكون كلامه أجذم عن البركة والخير على ما جاء في الحديث.

خرّج «أبو داود» عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «كل كلام لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم» وفي لفظ «النسائي» : «كل أمر لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع» (٤).

__________________

(١) «فتح الباري» ١ : ١٦ ، و «مغنى اللبيب» : ١٣٢ ، و «همع الهوامع» (مبحث الجوازم) ٤ : ٣٢٦.

(٢) «شواهد التوضيح والتصحيح» (البحث الخامس والعشرون) : ٨٠.

(٣) مطلع قصيدة يهجو بها «الطرمّاح».

(٤) يروى أجذم ، وأقطع ، وأبتر.

وله ألفاظ أخر أوردها الحافظ «عبد القادر الرهاوي» في أول الأربعين البلدانية. انظر «التلخيص الحبير» ٣ : ١٧٤ ، و «ابن ماجه» في «سننه» في (كتاب النكاح ـ باب خطبة النكاح) رقم ١٨٩٤ ، و «مسند أحمد» ٢ : ٣٥٩.

١٤٠