الحديث النبوي في النحو العربي

الدكتور محمود فجال

الحديث النبوي في النحو العربي

المؤلف:

الدكتور محمود فجال


الموضوع : اللغة والبلاغة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٤

ولقد قال «ابن الطيب الفاسي» : ذهب إلى الاحتجاج بالحديث الشريف جمع من أئمة اللغة (١) ، منهم : «ابن مالك ، وابن هشام ، والجوهري ، وصاحب البديع ، والحريري ، وابن سيده ، وابن فارس ، وابن خروف ، وابن جني ، وابن بري ، والسهيلي». وغيرهم ممن يطول ذكره.

ويمكن أن نقول : إنه لا يختلف موقف النحاة عن موقف اللغويين ، إذ لا يعقل أن يستشهد «الخليل» مثلا بالحديث في اللغة ، ثم لا يستشهد به في النحو ، واللغة والنحو صنوان ، يخرجان من أصل واحد. وإن كانت شواهد النحاة من الحديث ليست في غزارة شواهد اللغويين وكثرتها ، فهي قليلة بالنسبة إليها ، وبخاصة عند النحاة القدماء.

الاستشهاد بالحديث عن النحويين :

السنة النبوية هي الأصل الثاني للشريعة الإسلامية بعد القرآن الكريم ، جاءت مبينة له وشارحة ، فصّلت موجزه ، وقيّدت مطلقه ، وقد اتفق العلماء على حجية السنة ، والأخذ بها.

قال «الشوكاني» : «إن ثبوت السنة المطهرة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية ، لا يخالف في ذلك إلّا من لا حظّ له في الإسلام (٢)».

فكان الصحابة ـ رضي‌الله‌عنهم ـ إذا عرض لهم أمر بحثوا عنه في كتاب الله ـ تعالى ـ فإن لم يجدوه طلبوه في السنة ، وإلّا اجتهدوا في حدود القرآن والسنة وأصولها ، فكان ذلك مدعاة عنايتهم بالأحاديث وحفظها ، بلفظها أو بمعناها ، يستلهمونها من أقواله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عارفين الظروف والملابسات التي قيلت فيها.

أما في ميدان النحو فقد سكت علماء المرحلة الأولى عن الاستدلال بالحديث ، لم يشذ منهم أحد ؛ لأنه وقع في بعض الأحاديث شيء من الأساليب

__________________

(١) ليس كلّ من ذكرهم «ابن الطيب» هم من أهل اللغة ، بل فيهم نحاة ، كـ «ابن مالك» و «ابن هشام» وغيرهما. وصنيعه هذا من قبيل التغليب.

(٢) «إرشاد الفحول» ٣٣.

١٠١

والتراكيب غير الجارية على ما شاع من الاستعمال العربي ، وقد لجأ النحاة إلى تأويلها ، فمن ذلك :

(١) الحديث : «إن قعر جهنم سبعين خريفا» (١)

«سبعين» منصوبة على رأي الكوفيين الذين يجيزون أن تكون «إنّ» وأخواتها ناصبة للجزأين ، كقول «عمر بن أبي ربيعة» :

إذا اسودّ جنح الليل فلتأت ولتكن

خطاك خفافا ؛ إنّ حرّاسنا أسدا

والذين يمنعون هذا يخرّجون الحديث على أن القعر مصدر (قعرت البئر) إذا بلغت قعرها ، و «سبعين» منصوبة على الظرفية ، أي : إن بلوغ قعر جهنم يكون في سبعين عاما.

ويؤوّلون البيت بإعراب «أسدا» حالا ، أي : إن حراسنا تلقاهم أسدا ، أي : كالأسد (٢).

__________________

(١) قال «النووي» في «شرح مسلم» ٣ : ٧٢ : وقع في معظم الأصول والروايات : «لسبعين» بالياء ، وهو صحيح إما على مذهب من يحذف المضاف ، ويبقى المضاف إليه على جره ، فيكون التقدير :

سير سبعين ، وإما على أن «قعر جهنم» مصدر ، يقال : قعرت الشيء إذا بلغت قعره ، ويكون «سبعين» ظرف زمان ، وفيه خبر «إنّ» ، التقدير : إن بلوغ قعر جهنم لكائن سبعين خريفا ، والخريف : السنة ا ه.

وقد أورد هذه الرواية «الفيروزأبادي» في «القاموس» في (مادة : إنن).

وقد أخرجه «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب الإيمان ـ باب أدنى أهل الجنة منزلة) ١ : ١٣٠ بلفظ «إن قعر جهنم لسبعون خريفا» ، من قول «أبي هريرة». وهو بهذا اللفظ لا يخالف القواعد النحوية.

وقال «النووي» ـ عن هذه الرواية ـ : هكذا هو في بعض الأصول : «لسبعون» بالواو ، وهذا ظاهر ، وفيه حذف تقديره : إن مسافة قعر جهنم سير سبعين سنة. ا ه.

(٢) انظر «مغني اللبيب» ٥٥ ـ ٥٦.

١٠٢

(٢) الحديث : «إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون» (١) الأصل : إنه ، أي : الشأن ، كما قال «الأخطل» :

إنّ من يدخل الكنيسة يوما

يلق فيها جآذرا وظباء

ووجهت بأن «من» زائدة ، واسم «إنّ» : «أشد» (٢).

(٣) الحديث : «كل أمتي معافى إلا المجاهرون» (٣) أي : بالمعاصي.

والمعروف في الاستثناء أن الكلام إذا كان تاما موجبا وجب نصب المستثنى ، ولكن هذا هو رأي الجمهور.

والرفع جائز في لغة حكاها «أبو حيان» ، وخرج عليها بعضهم هذا الحديث ، ويكون الرفع على التبعية.

__________________

(١) ذكر هذه الرواية «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب اللباس والزينة ـ باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة) ٦ : ١٦١ من حديث «عبد الله بن مسعود» مع روايات أخرى بحذف «من» وحدها ، وبحذفها مع «إن» أيضا. ورواه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب اللباس ـ باب عذاب المصوّرين يوم القيامة) ٧ : ٦٤ بحذف «من».

وفي «فتح الباري» ١٠ : ٣٨٣ : «وقع عند (مسلم) من طريق أبي معاوية ، عن الأعمش «إن من أشد الناس» ، واختلفت نسخه ، ففي بعضها «المصورين» وهي للأكثر ، وفي بعضها «المصورون» ، وهي لأحمد عن أبي معاوية أيضا».

(٢) انظر «مغنى اللبيب» ٥٦.

(٣) رواه «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب الزهد والرقائق ـ باب النهي عن هتك الإنسان ستر نفسه) ٨ : ٢٢٤.

ورواه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب الأدب ـ باب ستر المؤمن على نفسه) ٧ : ٨٩ كلاهما بلفظ «إلا المجاهرين». وفي «فتح الباري» ١٠ : ٤٨٦ : «المجاهرين» رواية الأكثر ، وفي رواية النسفي «المجاهرون» بالرفع ، وعليها شرح «ابن بطال» و «ابن التين».

(تنبيه مهم) يلاحظ من هذا الحديث أن بعض النحاة يتعلقون بروايات غير مشهورة ، ويغفلون الروايات الصحيحة المشهورة. وليس هذا الصنيع من البحث العلمي الجاد في شيء.

١٠٣

وقال «ابن مالك» : «إلّا» بمعنى : لكن ، وما بعدها مبتدأ ، خبره محذوف (١).

وخرّج على هذا أيضا قراءة «عبد الله بن مسعود» و «أبيّ» و «الأعمش» : «فشربوا منه إلا قليل منهم» (٢) بالرفع (٣). وقراءة «ابن كثير» و «أبي عمرو» : «ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك» (٤) بالرفع (٥).

أي : لكن امرأتك.

وغير ذلك من الأحاديث الجارية على ما شاع من الاستعمال العربي.

أما في المرحلة الثانية ، وبعد أن ظهرت الحاجة واضحة إلى موارد جديدة للاستدلال والاحتجاج ، فقد ذهب كثير من العلماء إلى الحديث يلتمس فيه ما يؤيد أقيسته ، ويعضد أحكامه ، في حين رفض بعضهم اعتبار الحديث مصدرا جديدا للاحتجاج به في المادة النحوية.

وتوسّط فريق ثالث ، فرأى أنّ من الممكن الاحتجاج ببعض الحديث دون بعض.

وهكذا نشأ الخلاف في الاحتجاج بالحديث النبوي.

ويمكن أن نقسّم هذه الاختلافات إلى ثلاثة اتجاهات :

الاتجاه الأول :

ذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى صحة الاحتجاج بالحديث النبوي في النحو العربي.

__________________

(١) وفي «مغنى اللبيب» ٥٥٨ : قال «الفراء» في «إلا قليل» : إن «قليل» مبتدأ ، حذف خبره ، أي : لم يشربوا.

وقال جماعة في «إلا امرأتك» بالرفع : إنه مبتدأ ، والجملة بعده خبر.

(٢) البقرة : ٢٤٩.

(٣) انظر القراءة في «البحر المحيط» ٢ : ٢٦٦.

(٤) هود : ٨١.

(٥) انظر القراءة في «حجة القراءات» ٣٤٧.

١٠٤

قال «ابن الطيب» : وقد استدل بالحديث في كتب النحاة طوائف ، منهم : «الصفّار ، والسيرافي ، والشريف الغرناطي ، والشريف الصقلي» في شروحهم لكتاب «سيبويه» ، و «ابن عصفور» ، و «ابن الحاج» (١) في شرح «المقرّب». و «ابن الخبّاز» في شرح «ألفية ابن معطي» وغيرهم.

وشيّد أركانه المحققون ، كالإمام «النووي» في «شرح مسلم» وغيره.

والعلامة المحقّق «البدر الدماميني» في شرح «التسهيل» وغيره. وقاضي القضاة «ابن خلدون» في مواضع من مصنفاته ، بل خصّ هذه المسألة بالتصنيف ، وأجاب عن كل ما أورده جوابا شافيا» (٢) ا ه.

وقال «ابن الطيب» أيضا : «ذهب إلى الاحتجاج به والاستدلال بألفاظه وتراكيبه جمع من الأئمة ، منهم : شيخا هذه الصناعة وإماماها ، الجمالان :

ابنا مالك وهشام ، والجوهري ، وصاحب البديع (٣) ، والحريري ، وابن سيده ، وابن فارس ، وابن خروف ، وابن جني ، وأبو محمد عبد الله بن بري ، والسّهيليّ ، وغيرهم ممن يطول ذكره.

وهذا الذي ينبغي التعويل عليه والمصير إليه ، إذ المتكلم به ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أفصح الخلق على الإطلاق ، وأبلغ من أعجزت فصاحته الفصحاء على جهة العموم والاستغراق ، فالاحتجاج بكلامه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ الذي هو أفصح العبارات ، وأبلغ الكلام ، مع تأييده بأسرار البلاغة ، ودلائل الإعجاز ، من الملك

__________________

(١) هو أحمد بن محمد بن أحمد الأزديّ ، أبو العبّاس ، الإشبيليّ ، المعروف بابن الحاج. قرأ على «الشلوبين» وغيره. له على كتاب «سيبويه» إملاء ، وله إيرادات على «المقرّب» ، وغير ذلك. كان متحققا بالعربية ، حافظا للغات ، مقدّما في العروض. قال في «البدر السافر» : برع في لسان العرب ، حتى لم يبق فيه من يفوقه أو يدانيه. توفي سنة ٦٤٧ ه‍ ، وقيل : سنة ٦٥١ ه‍. «بغية الوعاة» ١ : ٣٥٩.

(٢) «تحرير الرواية في تقرير الكفاية» : ٩٨.

(٣) كتاب «البديع» في النحو ، لمحمد بن مسعود الغزنيّ (ـ ٤٢١ ه‍). أكثر «أبو حيان» من النقل عنه ، وذكره «ابن هشام» في «المغنى». «بغية الوعاة» ١ : ٢٤٥.

١٠٥

العلّام ، وأولى وأجدر من الاحتجاج بكلام الأعراب الأجلاف ، بل لا ينبغي أن يلتفت في هذا المقام لمقال من جار عن الوفا» (١).

ومن الأئمة الذين استشهدوا بالحديث في النحو :

«الزمخشري ، وعز الدين الزنجاني ، وناظر الجيش ، وأبو علي الشلوبيني ، وابن الشجري ، وابن يعيش ، وعلم الدين السخاوي ، والأشموني ، والكافيجي ، والرضي ، وابن عقيل ، والشيخ الأزهري» وغيرهم.

وأكثر من الاستشهاد بالحديث «السهيليّ» (ـ ٥٨١ ه‍) في كتابه : «أمالي السهيلي» في النحو واللغة والحديث والفقه ، فقد ذكر فيه أربعا وسبعين مسألة ، وتناول مشكلات وقعت في الحديث ، وأغلبها مشكلات نحوية ولغوية.

وفاقهم في ذلك كله «ابن مالك» ، وبلغ الذروة في كتابه «شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح» فقد عقده للأحاديث التي يشكل إعرابها ، وذكر لها وجوها يستبين بها أنها من قبيل العربي الصحيح. بل إنّ «ابن الضائع» و «أبا حيان» وهما على رأس من رفض الاستشهاد بالحديث لم تخل كتبهما من بعض الأحاديث.

وقد فطن إلى هذا «ابن الطيب الفاسي» فقال :

«بل رأيت الاستشهاد بالحديث في كلام أبي حيان نفسه مرات ، ولا سيما في مسائل الصرف ، إلا أنه لا يقر له عماد ، فهو في كل حين في اجتهاد» (٢).

وقد أكثر «ابن مالك» (ـ ٦٧٢ ه‍) من الاستدلال بما وقع في الأحاديث على إثبات القواعد الكلية في لسان العرب ، ولا سيما في كتابه «التسهيل» إكثارا

__________________

(١) «تحرير الرواية في تقرير الكفاية» ٩٦.

(٢) «تحرير الرواية في تقرير الكفاية» ٩٩.

١٠٦

ضاق به «أبو حيان» شارح «التسهيل» غير مرة ، حتى غلا في بعض هذه المرات ، فقال : «والمصنف قد أكثر من الاستدلال بما ورد في الأثر متعقبا بزعمه على النحويين ، وما أمعن النظر في ذلك!! ولا صحب من له التمييز (١)!!!»

ثم جاء «ابن هشام» (ـ ٧٦١ ه‍) تلميذ «أبي حيان» ونقيضه في مذهبه إزاء الاستشهاد في الحديث ، يكثر من الاحتجاج به في كتبه ما وجد إلى ذلك سبيلا ، كغيره من النحاة ، حتى لفت نظر مترجميه على أنه «كان كثير المخالفة لشيخه أبي حيان ، شديد الانحراف عنه» (٢).

وقد قرر هذا الاتجاه وأيده «البدر الدماميني» (ـ ٨٢٨ ه‍) في شرحه لـ «التسهيل» المسمى : «تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد» نقل «البغداديّ» (ـ ١٠٩٣ ه‍) ـ صاحب خزانة الأدب ـ كلام «البدر الدماميني» من شرح «التسهيل» ، وهذا نصه :

وقد أكثر المصنف من الاستدلال بالأحاديث النبوية ، وشنّع (أبو حيان) عليه ، وقال : إن ما استند إليه من ذلك لا يتم له ، لتطرّق احتمال الرواية بالمعنى ، فلا يوثق بأن ذلك المحتجّ به لفظه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ حتّى تقوم به الحجة.

وقد أجريت ذلك لبعض مشايخنا فصوّب رأي (ابن مالك) فيما فعله ، بناء على أن اليقين ليس بمطلوب في هذا الباب ، وإنما المطلوب غلبة الظن الذي هو مناط الأحكام الشرعية ، وكذا ما يتوقّف عليه من نقل مفردات الألفاظ وقوانين الإعراب ، فالظن في ذلك كلّه كاف. ولا يخفى أنه يغلب على الظن أن ذلك المنقول المحتجّ به لم يبدّل ؛ لأن الأصل عدم التبديل ، ولا سيما والتشديد في الضبط ، والتحري في نقل الأحاديث شائع بين النّقلة والمحدّثين. ومن يقول منهم بجواز النقل بالمعنى فإنما هو عنده بمعنى التجويز العقلي الذي لا ينافي وقوع نقيضه ، فلذلك تراهم يتحرّون في الضبط ويتشددون ، مع قولهم بجواز النقل بالمعنى ؛ فيغلب على الظن من هذا

__________________

(١) «الاقتراح» ٥٣.

(٢) «بغية الوعاة» ٢ : ٦٩.

١٠٧

كله أنها لم تبدّل ، ويكون احتمال التبديل فيها مرجوحا ، فيلغى ولا يقدح في صحة الاستدلال بها.

ثم إنّ الخلاف في جواز النقل بالمعنى إنما هو فيما لم يدوّن ولا كتب ، وأما ما دوّن وحصّل في بطون الكتب ، فلا يجوز تبديل ألفاظه من غير خلاف بينهم.

قال «ابن الصلاح» ـ بعد أن ذكر اختلافهم في نقل الحديث بالمعنى ـ :

إنّ هذا الخلاف لا نراه جاريا ولا أجراه الناس ـ فيما نعلم ـ فيما تضمنته بطون الكتب ، فليس لأحد أن يغير لفظ شيء من كتاب مصنّف ، ويثبت فيه لفظا آخر. أه.

وتدوين الأحاديث والأخبار بل وكثير من المرويات ، وقع في الصّدر الأول قبل فساد اللغة العربية ، حين كان كلام أولئك المبدّلين على تقدير تبديلهم يسوغ الاحتجاج به ، وغايته يومئذ تبديل لفظ بلفظ يصح الاحتجاج به ، فلا فرق بين الجمع في صحة الاستدلال ؛ ثم دوّن ذلك المبدل ـ على تقدير التبديل ـ ومنع من تغييره ونقله بالمعنى ، كما قال «ابن الصلاح» فبقي حجّة في بابه. ولا يضر توهم ذلك السابق في شيء من استدلالهم المتأخر ، والله أعلم بالصواب» ا ه.

بهذا ردّ «الدماميني» مذهب المانعين من الاستدلال بالحديث ، ولله درّه! فإنه قد أجاد في الرد (١).

قال «ابن الطيب» : ما رأيت أحدا من الأشياخ المحققين إلا وهو يستدل بالأحاديث على القواعد النحوية ، والألفاظ اللغوية ، ويستنبطون من الأحاديث النبوية الأحكام النحوية والصرفية واللغوية ، وغير ذلك من أنواع العلوم اللسانية ، كما يستخرجون منها الأحكام الشرعية. وأخيرا : الحق ما قاله الإمام «ابن مالك»

__________________

(١) «خزانة الأدب» ١ : ٧.

١٠٨

علّامة جيّان (١) ، لا ما قاله «أبو حيان» ، وكلام «ابن الضائع» كلام ضائع (٢).

ـ ولو صحّ أن القدماء لم يستشهدوا بالحديث فليس معناه أنهم كانوا لا يجيزون الاستشهاد به ؛ إذ لا يلزم من عدم استدلالهم بالحديث عدم صحة الاستدلال به ، فـ «سيبويه» مثلا إذا ذهبنا نقرأ كتابه المسمى بـ «الكتاب» فلن نجد فيه كلاما رفعه للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولا مرة واحدة ، وفي «الكتاب» نصوص كثيرة توافق الأحاديث النبوية. وقد أحصيت ثمانية نصوص منها ، ولكن «سيبويه» لم يستشهد بها على أنها أحاديث من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بل على أنها من كلام العرب.

قال «سيبويه» في كتابه ١ : ٣٩٦ : «وأما قولهم : كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه» (٣).

فقد جعله كلاما صادرا من العرب الذين يحتج بكلامهم (٤).

ويمكننا القول بكل صراحة : إن عدم استدلال بعضهم بالحديث على أنه مرفوع للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا يعني أنهم لا يجيزون الاستدلال به ، وإنما يعني عدم خبرتهم بهذا العلم الدقيق ، وهو علم رواية الحديث ودرايته ، لأن تحصيله بحاجة إلى فراغ ، وطول زمان ، كما يعني عدم تعاطيهم إيّاه.

__________________

(١) جيّان : مدينة بالأندلس ، شرقي قرطبة ، وهي مسقط رأس «ابن مالك». «معجم البلدان» ٢ : ٢٩٥.

(١) جيّان : مدينة بالأندلس ، شرقي قرطبة ، وهي مسقط رأس «ابن مالك». «معجم البلدان» ٢ : ٢٩٥.

(٢) «تحرير الرواية في تقرير الكفاية» ١٠١.

(٣) بنحوه أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب الجنائز ـ باب ما قيل في أولاد المشركين) ٢ : ١٠٤ ، وفي (كتاب القدر ـ باب الله أعلم بما كانوا عاملين) ٧ : ٢١١. و «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب القدر ـ باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم أطفال الكفار وأطفال المسلمين) ٨ : ٥٢. و «أحمد» في «مسنده» ٢ : ٢٧٥ ، ٣٩٣ ، ٤١٠ ، من حديث «أبي هريرة» ، و «مالك» في «الموطأ» في (كتاب الجنائز ـ باب جامع الجنائز) ١ : ٢٤١ ، و «أبو داود» في «سننه» في (كتاب السنة ـ باب في ذراري المشركين) ٤ : ٢٢٩.

(٤) «فهارس كتاب سيبويه» ٧٦٢.

١٠٩

أما «ابن مالك» فهو إمام في الحديث بالإضافة إلى إمامته في علم العربية ، وهذا هو السبب الذي حدا به إلى الاستشهاد بالحديث.

قال «الصلاح الصفدي» : كان ـ ابن مالك ـ أمّة في الاطلاع على الحديث ، فكان أكثر ما يستشهد بالقرآن ، فإن لم يكن فيه شاهد عدل إلى الحديث ، فإن لم يكن فيه شاهد عدل إلى أشعار العرب (١).

والقدامى لم يثيروا هذه القضية ، ولم يناقشوا مبدأ الاحتجاج بالحديث ، وبالتالي لم يصرحوا برفض الاستشهاد به ، وإنما هو استنتاج من المتأخرين الذين لاحظوا ـ خطأ ـ أن القدامى لم يستشهدوا بالحديث ، فبنوا عليه أنهم يرفضون الاستشهاد به ، ثم حاولوا تعليل ذلك.

وأما «المبرد» فقد صرح بالحديث النبوي بكل بساطة في كتابه «المقتضب» ٢ : ٢١٥ بقوله : وجاء عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «ليس في الخضروات صدقة» (٢).

إذن فقد كان المتأخرون مخطئين فيما ادعوه من رفض النحاة القدامى الاستشهاد بالحديث ، وكانوا واهمين حينما ظنوا أنهم هم أيضا برفضهم الاستشهاد بالحديث إنما يتأثرون (٣) خطاهم ، وينهجون نهجهم.

ونحن نحمّل «ابن الضائع» و «أبا حيان» تبعة شيوع هذه القضية الخاطئة ، فهما أوّل من روّج لها ، ونادى بها ، وعنهما أخذها العلماء ، دون تمحيص

__________________

(١) «بغية الوعاة» ١ : ١٣٤.

(٢) رواه «الدارقطني» في «سننه» في (كتاب الزكاة ـ باب ليس في الخضروات صدقة) ٢ : ٩٥ من حديث «علي بن أبي طالب» ، وعن «طلحة بن معاذ» ، وعن «أنس بن مالك».

و «الترمذي» في «سننه» في (كتاب الزكاة ـ باب ما جاء في زكاة الخضروات) ٢ : ٧٥. وقال إسناد هذا الحديث غير صحيح ، وليس يصحّ في هذا الباب عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ شيء. وانظر «فيض القدير» ٥ : ٣٧٤.

(٣) تأثّره : تبع أثره ـ (قاموس).

١١٠

أو تحقيق ، ثقة في حكمهما ، أو تخففا من البحث ، وركونا إلى الراحة ، والتماسا لأيسر السبل. ولعل منشأ تلك الفكرة الخاطئة ، هو أن القدماء سكتوا عن الاستشهاد بالحديث ، واكتفوا بدخوله تحت المعنى العام لكلمة (نصوص فصحاء العرب) ، ثم حين جاء من تلوهم ودوّنوا هذه الفكرة كانوا يفهمون ذلك فلم يخصوا الحديث النبوي بنص مستقل ، فلما جاء «ابن الضائع» و «أبو حيان» وغيرهما ولم يجدوا نصا مستقلّا يعدّ الحديث من مصادر الاحتجاج ظنوا أن القدماء لم يكونوا يستشهدون به ، وسجلوا هذا الظن على أنه حقيقة واقعة ، وجاء من بعدهم فنقلوا عنهم دون تمحيص ، وتابعوهم من غير بحث.

ويؤيد هذا الافتراض أن «السيوطيّ» استنبط من قول صاحب «ثمار الصناعة» : «النحو علم يستنبط بالقياس والاستقرار من كتاب الله ـ تعالى ـ وكلام فصحاء العرب» أن النحاة لم يكونوا يستشهدون بالحديث ، فعقب على ذلك بقوله : «فقصره؟؟؟ عليهما ، ولم يذكر الحديث» (١).

وهناك أسباب كثيرة تحمل على الشك في صحة ما نسب إلى الأقدمين من رفضهم الاستشهاد بالحديث ، بل هناك من الدلائل ما يكاد يقطع ـ إن لم يكن يقطع فعلا ـ أنهم كانوا يستشهدون به ، ويبنون عليه قواعدهم ، سواء منهم من اشتغل باللغة أو النحو أو بهما معا. ولهذا لا يسع الباحث المدقق أن يسلّم بما ادعاه المتأخرون ، وسنده في ذلك ما يأتي :

(١) إن الأحاديث أصح سندا من كثير مما ينقل من أشعار العرب ، ولهذا قال «الفيومي» بعد أن استشهد بحديث : «فأثنوا عليه شرّا» (٢) على صحة إطلاق الثناء على الذكر بشرّ قال : «قد نقل هذا العدل الضابط ، عن العدل

__________________

(١) «الاقتراح» ٥٤.

(٢) أخرجه «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب الجنائز ـ باب فيمن يثنى عليه خير أو شر من الموتى) ٣ : ٥٣ ، و «ابن ماجه» في «سننه» في (كتاب الجنائز ـ باب ما جاء في الثناء على الميت) ١ : ٤٧٨ ، من حديث «أنس بن مالك». وغيرهما.

١١١

الضابط ، عن العرب الفصحاء عن أفصح العرب ، فكان أوثق من نقل أهل اللغة ، فإنهم يكتفون بالنقل عن واحد ، ولا يعرفون حاله» (١).

(٢) إنّ المحدثين الذين ذهبوا إلى جواز الرواية بالمعنى شرطوا في الراوي أن يكون محيطا بجميع دقائق اللغة ، ذاكرا جميع المحسنات الفائقة بأقسامها ، ليراعيها في نظم كلامه ، وإلا فلا يجوز له الرواية بالمعنى (٢) على أن المجوزين للرواية بالمعنى معترفون بأن الرواية باللفظ هي الأولى ، ولم يجيزوا النقل بالمعنى إلا فيما لم يدوّن في الكتب. وفي حالة الضرورة فقط (٣).

وقد ثبت أن كثيرا من الرواة في الصدر الأول كانت لهم كتب يرجعون إليها عند الرواية. ولا شك أن كتابة الحديث تساعد على روايته بلفظه وحفظه عن ظهر قلب مما يبعده عن أن يدخله غلط أو تصحيف.

(٣) إن كثيرا من الأحاديث دوّن في الصدر الأول قبل فساد اللغة على أيدي رجال يحتجّ بأقوالهم في العربية ، فالتبديل على فرض ثبوته إنما كان ممن يسوغ الاحتجاج بكلامه. فغايته تبديل لفظ يصح الاحتجاج به بلفظ كذلك (٤).

(٤) إن اللغويين احتجوا بالحديث في اللغة ؛ لأجل الاستدلال على معاني الكلمات العربية. وهو ما دفع «السهيليّ» إلى أن يقول : «لا نعلم أحدا من علماء العربية خالف في هذه المسألة إلا ما أبداه الشيخ أبو حيان في شرح التسهيل ، وأبو الحسن ابن الضائع في شرح الجمل ، وتابعهما على ذلك الجلال السيوطي» (٥).

__________________

(١) «المصباح المنير» (مادة : ثنى) ، وانظر «مجلة المجمع» ٣ : ٢٠١.

(٢) شرح الاقتراح لابن علان : ٩٤.

(٣) «مجلة المجمع» ٣ : ٢٠٤.

(٤) «خزانة الأدب» ١ : ٦ عن «الشاطبي».

(٥) سيأتي هذا القول لـ «ابن الطيب» ، وقد نسب في «أصول التفكير النحوي» ١٤١ لـ «السهيلي» ، وجاء في الذيل : انظر الاستشهاد بالحديث ، بحث منشور بمجلة المجمع اللغوي ٣ : ١٩٩ ، وقد أعيد نشره ضمن «دراسات في العربية وتاريخها» ١٦٨.

١١٢

الاتجاه الثاني : ذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى رفض الاستشهاد بالحديث والاحتجاج به صراحة.

قال «ابن الطيب» : «لا نعلم أحدا من علماء العربية خالف العلماء في الاحتجاج بالحديث الشريف إلّا ما أبداه الشيخ «أبو حيان» في شرح التسهيل ، و «أبو الحسن ابن الضائع» (١) في شرح الجمل ، وتابعها على ذلك «الجلال السيوطي» ـ رحمه‌الله ـ فأولع بنقل كلامهما ، واللهج به في كتبه ، واعتنى باستيفائه في كتابه الموسوم بـ «الاقتراح في علم أصول النحو» ، وهو كتاب بديع ، رتّبه على ترتيب أصول الفقه في الأبواب والفصول ، وأبدى فيه نكتا غريبة ، جعلها للفروع النحوية كالأصول ، واستوفاه فيما كتبه على «المغنى» ، ولهج به في غيرهما من كتبه ظانّا أنه من الفوائد الغريبة ، متلقيا له بالقبول تقليدا ، غافلا عن أنه في هذا الباب لا يسمن ولا يغنى» (٢) : ه.

قال «البغدادي» : قال «أبو الحسن ابن الضائع» في شرح الجمل :

تجويز الرواية بالمعنى هو السبب عندي في ترك الأئمة ـ كسيبويه ، وغيره ـ الاستشهاد على إثبات اللغة بالحديث ، واعتمدوا في ذلك على القرآن ، وصريح النقل عن العرب ، ولو لا تصريح العلماء بجواز النقل بالمعنى في الحديث لكان

__________________

(١) جاء في «أصول التفكير النحوي» ١٣٦ ـ ١٤١ ذكر «ابن الصائغ» ثماني مرات ، وصوابه : «ابن الضائع» بالضاد المعجمة ، والعين المهملة ، وهو «عليّ بن محمد بن عليّ بن يوسف الكتاميّ الإشبيليّ ، أبو الحسن ، المعروف بابن الضائع» ـ ٦٨٠ ه‍ ، وهو صاحب شرح الجمل. انظر «بغية الوعاة» ٢ : ٢٠٤. أما «ابن الصائغ» فهو «محمد بن عبد الرحمن بن عليّ بن أبي الحسن الزمرديّ ، شمس الدين بن الصائغ الحنفي النحوي» ـ ٧٧٦ ه‍ فلم يعرف له بحث في «الاحتجاج بالحديث» ولم يعرف عنه أنه شرح كتاب الجمل ، وعلى كل لم يقصده النحاة في هذه المسألة. انظر «بغية الوعاة» ١ : ١٥٥.

(٢) «تحرير الرواية في تقرير الكفاية» ٩٦ ، ٩٧.

١١٣

الأولى في إثبات فصيح اللغة كلام النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأنه أفصح العرب.

قال (١) : «وابن خروف يستشهد بالحديث كثيرا ، فإن كان على وجه

__________________

(١) جاء في «أصول التفكير النحوي» ١٣٩ : لم يحسن «السيوطي» في «الاقتراح» : ٥٤ ، النقل عن «ابن الضائع» ، فذكر أنه قال : «قال ابن خروف : يستشهد بالحديث كثيرا ، فإن كان على وجه الاستظهار والتبرك بالمروي فحسن ، وإن كان يرى أن من قبله أغفل شيئا وجب عليه استدراكه فليس كما رأى» فجعل «ابن خروف» من المنكرين حجية الحديث ... وهذا غير صحيح ، فإن «ابن خروف» ممن يحتجون بالحديث ، فكيف يأخذ على «ابن مالك» الاحتجاج به؟ وسر هذا الخطأ الفادح الذي وقع فيه «السيوطي» أنه أسقط حرفا من نص «ابن الضائع» ، فأساء الفهم والحكم جميعا ، إذ صحة النص هي : «قال ـ أي : ابن الضائع ـ : وابن خروف يستشهد بالحديث كثيرا» وعلى هذا فإن ما قرره النص من حكم على هذا الاستشهاد ليس صادرا من «ابن خروف» ، وإنما يعود إلى «ابن الضائع».

وجاء في الذيل : وقد تبع «السيوطيّ» في خطئه «ابن علان» ا ه.

(أقول) : لعل إسقاط الحرف حاصل من النساخ ، لأن مثل هذا لا يغيب عن «السيوطي» ، كما أن النساخ يقع منهم التصحيف والتحريف والإسقاط كثيرا. هذا في حالة تسليمي بخطأ العبارة. ولكنني أجزم بصحة عبارة «السيوطي» ، وهذه عبارته : «قال أبو الحسن ابن الضائع ... قال : وابن خروف يستشهد بالحديث كثيرا» ا ه ودليلي على سلامة العبارة : أننا نعرب «ابن» : مبتدأ ، لا فاعلا لـ «قال» ، وجملة «يستشهد» : خبرا. وفاعل «قال» ضمير يعود على «ابن الضائع». وبذلك فلا غبار على العبارة.

وجاء في «أصول التفكير النحوي» ص ١٣٩ ، ١٤٠ نصّان غلطان أيضا ، النص الأول هو :

«جعل ابن خروف من المنكرين حجية الحديث ، الذين يأخذون على ابن مالك الاحتجاج به ...».

والنص الثاني هو : «... على رأس المجيزين ابن مالك والرضي ... وقد تبع هذين الشيخين من الأعلام كثير ، منهم : ابن خروف» .. أقول : هاتان العبارتان غير صحيحتين ، لأن «ابن خروف» لا يعقل أن يأخذ على «ابن مالك» احتجاجه بالحديث ، ولا أن يتبعه ؛ لأن «ابن خروف» توفي سنة ٦٠٩ ه‍ و «ابن مالك» ولد سنة ٦٠٠ ه‍ ، وتوفي سنة ٦٧٢ ه‍ ، وكذلك لا يعقل أن يتبع «ابن خروف» «الرضيّ» ؛ لأنه توفي سنة ٦٨٦ ه‍ ، فكيف يتصوّر متابعته لهما ، ولا بد من وجود المتبوع قبل وجود التابع ، و «ابن مالك» و «الرضي» لا وجود لهما في عالم النحو في حياة «ابن خروف» ، وقد قال «أبو إسحاق الشاطبيّ» : «... ابن مالك لم يفصّل هذا التفصيل الضروري الذي لا بد منه ، وبني الكلام على الحديث مطلقا ، ولا أعرف له سلفا إلا ابن خروف ، فإنه أتى بأحاديث في بعض المسائل ...». والله أعلم.

١١٤

الاستظهار والتبرك بالمرويّ فحسن ، وإن كان يرى أن من قبله أغفل شيئا وجب عليه استدراكه فليس كما رأى» (١). ا ه

وقال «أبو حيّان» في شرح التسهيل (٢) : قد أكثر المصنف من الاستدلال بما وقع في الأحاديث على إثبات القواعد الكلية في لسان العرب. وما رأيت أحدا من المتقدمين والمتأخرين سلك هذه الطريقة غيره ، (٣) على أن الواضعين الأوّلين لعلم النحو ، المستقرئين للأحكام من لسان العرب ـ كأبي عمرو بن العلاء ، وعيسى بن عمر ، والخليل ، وسيبويه من أئمة البصريين ، والكسائي ، والفراء ، وعلى بن المبارك الأحمر ، وهشام الضرير ، من أئمة الكوفيين ـ لم يفعلوا ذلك ، وتبعهم على ذلك المسالك المتأخرون من الفريقين ، وغيرهم من نحاة الأقاليم ، كنحاة بغداد ، وأهل الأندلس.

قال «عبد القادر البغدادي» في «خزانة الأدب» ١ : ٥ : «وقد جرى الكلام في ذلك مع بعض المتأخرين الأذكياء ، فقال : إنما تر ك العلماء ذلك لعدم وثوقهم أن ذلك لفظ الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إذ لو وثقوا بذلك لجرى مجرى القرآن الكريم في إثبات القواعد الكلية ، وإنما كان ذلك لأمرين :

أحدهما : أن الرواة جوزوا النقل بالمعنى ، فتجد قصة واحدة قد جرت في

__________________

(١) قد حاول «ابن الضائع» أن يفسّر بعض جوانب هذا الاتجاه بأن الاستشهاد بالحديث نحو من التبرك بالمروي ، وقد كان من الممكن أن يصلح هذا التفسير لو أن الأحاديث المستشهد بها لم تكن الشواهد الوحيدة في موضوعها. أما وهي عند «ابن مالك» و «ابن هشام» و «الرضي» تنطق كشواهد بقواعد لا يؤيّدها فيها غيرها ، فإن مثل هذا التعليل يقصر عن تفسير هذا الاتجاه بأسره ، ويعد من قبيل الهرب عن التناول الموضوعي للقضية. «أصول التفكير النحوي» ١٤٠.

(٢) نقل «السيوطي» في «الاقتراح» ٥٢ قول «أبي حيان» هذا.

(٣) جعل الدكتور مهدي المخزومي «أبا حيان» من المستشهدين بالحديث مطلقا ، ولا شك في أن ذلك وهم لم يقل به أحد. وهذا نصه في كتابه «مدرسة الكوفة» ٦١ : «ولا يسع الدارس إلا الاطمئنان إلى سلامة ما ذهب إليه «ابن مالك» ومن شايعه في اعتبار الأحاديث من المصادر التي يعتمد اللغويّ والنحويّ عليها ، على أن بعض النّحاة قد وقف بين الفريقين ، بين الفريق المانع مطلقا وهم النحاة الأولون ، والفريق المثبت مطلقا ، وهم «ابن مالك» و «أبو حيان» ومن تابعهما ...».

١١٥

زمانه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم تقل بتلك الألفاظ جميعها ، نحو ما روي من قوله : «زوّجتكها بما معك من القرآن».

«ملّكتكها بما معك من القرآن».

«خذها بما معك من القرآن» (١).

وغير ذلك من الألفاظ الواردة ، فتعلم يقينا أنّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يلفظ بجميع هذه الألفاظ ، بل لا يجزم بأنه قال بعضها ، إذ يحتمل أنه قال لفظا مرادفا لهذه الألفاظ غيرها ، فأتت الرواة بالمرادف ولم تأت بلفظه ، إذ المعنى هو المطلوب ، ولا سيما مع تقادم السماع ، وعدم ضبطها بالكتابة ، والاتكال على الحفظ ، والضابط منهم من ضبط المعنى ، وأما من ضبط اللفظ فبعيد جدّا ولا سيما في الأحاديث الطوال.

وقد قال «سفيان الثوري» : «إن قلت لكم : إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدّقوني» إنما هو المعنى ، ومن نظر في الحديث أدنى نظر علم العلم اليقين أنهم يروون بالمعنى.

__________________

(١) أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب النكاح ـ باب تزويج المعسر ، لقول تعالى : (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ)) ٦ : ١٢١.

و «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب النكاح ـ باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد وغير ذلك ...) ٤ : ١٤٣ ، ١٤٤ ، و «أبو داود» في «سننه» في (كتاب النكاح ـ باب في التزويج على العمل يعمل) ٢ : ٢٣٦. و «النسائي» في «سننه» في «كتاب النكاح ـ باب التزويج على سور من القرآن) ٦ : ١١٣ و «الترمذي» في «سننه» في (كتاب النكاح ـ باب ما جاء في مهور النساء) ٢ : ٢٩٠.

و «ابن ماجه» في «سننه» في (كتاب النكاح ـ باب صداق النساء) ١ : ٦٠٨. بروايات متعددة ، من حديث «سهل بن سعد الساعدي». وانظر «فتح الباري» ٩ : ١٣١ ، ١٧٥ ، ١٨٠.

١١٦

الأمر الثاني : أنه وقع اللحن كثيرا فيما روي من الحديث (١) ، لأن كثيرا من الرواة كانوا غير عرب بالطبع ، ولا يعلمون لسان العرب بصناعة النحو ، فوقع اللّحن في كلامهم وهم لا يعلمون ، وقد وقع في كلامهم وروايتهم غير الفصيح من لسان العرب. ونعلم قطعا من غير شك أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان أفصح العرب ، فلم يكن يتكلّم إلا بأفصح اللغات ، وأحسن التراكيب ، وأشهرها وأجزلها ، وإذا تكلم بلغة غير لغته فإنما يتكلم بذلك مع أهل تلك اللغة على طريق الإعجاز ، وتعليم الله ذلك له من غير معلّم. والمصنف قد أكثر من الاستدلال بما ورد في الأثر متعقبا بزعمه على النحويين ؛ وما أمعن النظر في ذلك ، ولا صحب من له التمييز.

وقد قال لنا قاضي القضاة «بدر الدين بن جماعة» ـ وكان ممن أخذ عن ابن مالك ـ قلت له : يا سيدي ، هذا الحديث رواية الأعاجم ، ووقع فيه من روايتهم ما نعلم أنه ليس من لفظ الرسول ، فلم يجب بشيء.

قال «أبو حيان» : وإنما أمعنت الكلام في هذه المسألة لئلا يقول مبتدئ : ما بال النحويين يستدلون بقول العرب ، وفيهم المسلم والكافر ، ولا يستدلون بما روي في الحديث بنقل العدول ، كالبخاري ومسلم وأضرابهما؟! فمن طالع ما ذكرناه أدرك السبب الذي لأجله لم يستدلّ النحاة بالحديث» (٢). ا ه

ويقول «أبو حيان» : «إن علماء العربية الذين استنوا قوانينها وقواعدها لم يبنوا أحكامهم على ما ورد في الحديث ... وجاء هذا الرجل ـ يعني : ابن مالك ـ متأخرا في أواخر قرن سبعمائة ، فزعم أنه يستدرك على المتقدمين ما

__________________

(١) قال «الفيومي» في «المصباح المنير» ٦٥٨ : «قال أبو سليمان الخطّابي : إن لفظ الحديث تناقلته أيدي العجم حتى فشا فيه اللحن ، وتلعّبت به الألسن اللّكن حتى حرّفوا بعضه عن مواضعه ، وما هذه سبيله فلا يحتجّ به بألفاظه المخالفة ، لأن المحدّثين لم ينقلوا الحديث لضبط ألفاظه حتّى يحتجّ بها بل لمعانيه ، ولهذا أجازوا نقل الحديث بالمعنى ، ولهذا قد تختلف ألفاظ الحديث الواحد اختلافا كثيرا».

(٢) «خزانة الأدب» ١ : ٥.

١١٧

أغفلوه ، وينبه الناس على ما أهملوه ، ولله در القائل : لن يأتي آخر هذه الأمة بأفضل مما أتى به أولها» (١).

قال الأستاذ سعيد الأفغاني في كتابه «في أصول النحو» ٤٩ :ولا عجب في أن يتدارك المتأخرون ما فات المتقدمين ، بل إن ذلك هو المنتظر المعقول ، إذ كان العالم من الأوائل يعلم روايات محدودة ، وخيرهم من صنف مفردات اللغة في موضوع واحد ، كالأصمعي ، مثلا. ثم جاءت طبقة بعدهم وصل إليها كلّ ما صنف السابقون فكانت أوسع إحاطة ، ثم جاءت طبقة بعد طبقة ، وألفت المعاجم بكل ما اطلع عليه أصحابها من تصانيف ونصوص غاب أكثرها عن الأولين فكانوا أوسع علما ، ولذلك نجد ما لدى المتأخرين من ثروة نحوية أو لغوية أو حديثية شيئا وافرا مكنهم من أن تكون نظرتهم أشمل ، وأحكامهم أسدّ. ولو كانت هذه الثروة في أيدي الأقدمين كأبي عمرو بن العلاء ، والأصمعي ، وسيبويه ... لعضوا عليها بالنواجذ ولغيروا ـ فرحين مغتبطين ـ كثيرا من قواعدهم التي صاحبها ـ حين وضعها ـ شحّ المورد. ولكانوا أشدّ المنكرين على «أبي حيان» جموده ، وضيق نظرته ، وانتجاعه الجدب ، والخصب محيط به من كل جانب.

وقال «ابن الطيب» : «قد أطال «أبو حيان» ـ عفا الله عنه ـ على عادته في التحامل على «ابن مالك» بلا طائل ، وأبدى أدلة حالية بالتمويه ، خالية من الدلائل ، وحاصل ما قاله : إن نحاة البلدين البصرة والكوفة لم يستدلّوا بالحديث ، وتابعهم على ذلك نحاة الأقاليم ، وعلل ذلك بوجهين :

جواز الرواية بالمعنى.

ووقوع اللحن كثيرا في الأحاديث ، لأن كثيرا من الرواة كانوا غير عرب بالطبع ، ولا يعلمون لسان العرب بصناعة النحو ، فوقع اللحن في كلامهم. وبنى على ذلك كلامه كلّه ، واعتراضه على «ابن مالك». فأما عدم استدلالهم

__________________

(١) «تمهيد القواعد» ٥ : ١٧١ نقلا من كتاب «أصول التفكير النحوي» : ١٣٧.

١١٨

بالحديث فلا يدل على أنهم يمنعون ذلك ، ولا يجوّزونه كما توهمه ، بل تركهم له لعدم تعاطيهم إياه ، وقلّة إسفارهم عن محيّاه ، على أن كتب الأقدمين الموضوعة في اللغة لا تكاد تخلو عن الأحاديث والاستدلال بها على إثبات الكلمات ، واللغة أخت النحو. وأيضا في الصدر الأول لم يكن الحديث مدوّنا مشهورا مستعملا استعمال الأشعار العربية ، والآي القرآنية ، وإنما اشتهر ودوّن بعدهم ، فعدم احتجاجهم به لعدم اشتهاره بينهم ، وعلماء الحديث غير علماء العربية ، ولما تداخلت العلوم وتشاركت استعملوا بعضها في بعض ، وأدخلوا فنّا في فن ، حتى صارت المنقولات المحضة نوعا من المعقولات. وبالجملة فكونهم لم يحتجّوا بالحديث لا يلزم منه منعهم ذلك كما لا يخفي وأما ادّعاؤه أن نحاة الأقاليم تابعوهم على ذلك فهو مصادرة بل هذه كتب الأندلسيين ، وأهل المغرب قاطبة مشحونة بذلك».

وقال «ابن الطيب» أيضا : «أما الرواية بالمعنى فهي وإن كان رأي قوم ، فقد منعها آخرون ، منهم : مالك ـ رضي‌الله‌عنه ـ ، بل نسب المنع للجمهور من المحدّثين والأصوليين والفقهاء ، كما نقله «القرطبي» وغيره. وبعد تسليمه ، فمن أجازه اشترط له شروطا مشهورة في علوم الاصطلاح لم تذكر في شيء مما استدل به «ابن مالك» وغيره ، بل قالوا : إنه لا يجوز النقل بالمعنى إلا لمن أحاط بدقائق علم اللغة ، وكانت جميع المحسنات الفائقة بأقسامها على ذكر منه ، فيراعيها في نظم كلامه ، ثم فتح احتمال التغيير والتصرّف يؤدي إلى خرق بعيد الالتئام ، في جميع الأحكام ، لأن المخالف يقول لمخالفه المستدلّ في حكم بلفظ حديث : لعل هذا اللفظ من الراوي. وقالوا : إذا فتح هذا الباب لا يبقى لنا وثوق بحديث ، ولا اطمئنان لشيء من الآثار الواردة عنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأوجد المبتدعة مسلكا للطعن في جميع الأحاديث ، وانتقلنا إلى النظر في دلالالتها على العمومات والإطلاقات ، وغير ذلك مما يترتب على هذا القول من المفاسد العظام.

وأما ادّعاء اللحن في الحديث ، فهو باطل ؛ لأنه إن أراد اللحن الذي هو الخطأ في الإعراب بحيث لا يتخرج على وجه من الوجوه ، فهذا لا وجود له في شيء من الأحاديث أصلا ، وإن أراد أنه على خلاف الظاهر ، كنصب الجزأين

١١٩

بـ «إنّ» ونحوه من الأحاديث الواردة على لغة من اللغات الغير (١) المشهورة ، فهذا لا يضرّ ؛ لأن القرآن العظيم ـ وهو متواتر ـ فيه آيات على خلاف الظاهر في الإعراب ، احتاج هو في «بحره» و «نهره» إلى تأويلها ، وتخريجها على وجه صحيح ، ولم يدّع أنها ملحونة ، وإن ورد في كلام «عائشة» ـ رضي‌الله‌عنها ـ وغيرها التعبير في حقها باللحن ، فقد أجابوا عنه كما بسطه «الجلال» في «الإتقان» ، ولم تخرج بسبب ذلك عن القرآن» (٢).

جاء في «في أصول النحو» ٥٠ ـ ٥٥ :فأما المانع الأول ، وهو تجويز الرواية بالمعنى فيجيبون عليه بأن الأصل الرواية باللفظ ، ومعنى تجويز الرواية بالمعنى : أن ذلك احتمال عقلي فحسب ، لا يقين

__________________

(١) استعمل «سيبويه» و «الأخفش» و «الزجاجي» و «ابن المقفع» : بعضا ، وكلا ، بالألف واللام. وأنكر ذلك «الأصمعي» و «أبو حاتم» ؛ لأنه ليس من كلام العرب ، وفي القرآن : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ). قال «أبو حاتم» لـ «الأصمعي» : رأيت في كتاب «ابن المقفع» : (العلم كثير ، ولكن أخذ البعض خير من ترك الكل). فأنكره أشدّ الإنكار ، وقال : الألف واللام لا يدخلان في «بعض» و «كل» ؛ لأنهما معرفتان بغير ألف ولام. وقال «الأزهري» : النحويون أجازوا ذلك.

«لسان العرب» (بعض ـ كلّ) وقال الإمام «أبو نزار ، الحسن بن أبي الحسن» النحوي ، في كتابه «المسائل السفرية» : منع قوم دخول الألف واللام على «غير» و «كل» و «بعض» ، وقالوا :

هذه كما لا تتعرف بالإضافة لا تتعرف بالألف واللام. قال : وعندي أنه تدخل اللام على «غير» و «كل» و «بعض» ، فيقال : فعل الغير ذلك ، والكل خير من البعض ، وهذا لأن الألف واللام هنا ليستا للتعريف ، ولكنها المعاقبة للإضافة ، نحو قول الشاعر (هو : منظور بن مرثد الأسدي) :

كأنّ بين فكّها والفكّ

فأرة مسك ذبحت في سكّ

إنما هو كأن بين فكها وفكها. ثم أن «الغير» يحمل على الضد ، و «الكل» يحمل على الجملة ، و «البعض» يحمل على الجزء ، فصلح دخول الألف واللام أيضا من هذا الوجه. «تهذيب الأسماء واللغات» ٢ : ٦٥ (من القسم الثاني) يعني أنها تتعرف على طريقة حمل النظير على النظير ، فإن الغير نظير الضد ، والكل نظير الجملة ، والبعض نظير الجزء ، وحمل النظير على النظير سائغ شائع في لسان العرب ، كحمل الضدّ على الضدّ ، كما لا يخفى على من تتبع كلامهم. وقد نص «الزمخشري» على وقوع هذين الحملين ، وشيوعهما في لسانهم. «رد المحتار» ٢ : ٢٣٥.

(٢) «تحرير الرواية في تقرير الكفاية» ١٠٠.

١٢٠