الشيخ ظهير الدين ابي الفضل محمد بن سعيد بن هبة الله بن الحسن الراوندي
المحقق: السيد محمد رضا الحسيني الجلالي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-026-9
الصفحات: ٦٨
الايجاز فلا مورد لأن يختصر منها كتاب آخر.
فإنّ « العجالة » ـ بضم العين وكسرها ـ تأتي في اللغة لمعانٍ :
منها : أن يعجل الراعي من الرعي لبناً إلى أصحاب الغنم قبل أن تروح إليهم.
ومنه : ما تعجَّلته من شيء ، كطعام يُقدّم قبل إدراك الغذاء.
ومنها : ما تزوّده الراكب مما لا يُتعبه أكله كالتمر والسويق ، لأنّه يستعجله ، أو لأن السفر يعجّله عمّا سوى ذلك من الطعام المعالج (١٧).
وتستبطن الاختصار ، والاقتصار على الجاهز من الحاجة.
والمناسب لاسم الكتاب ، أنّه يؤدّي دوراً جاهزاً في « المعرفة » بشكل يغني عمّا سواه بصورة مستعجلة.
وقد سميت كتب تراثيّة بهذا الاسم « العجالة » منفردةً ، أو مضافة إلى شيء (١٨).
ولم يرد اسم هذا الكتاب في شيء من فهارس الكتب والمخطوطات إلا في فهرس مكتبة جامعة طهران المركزية ، حيث توجد النسخة المعتمدة (١٩).
٦ ـ نسخة الكتاب :
النسخة المعتمدة للكتاب هي نسخة فريدة ، موجودة في مجموعة كبيرة معروفة باسم « الدستور » وهي برقم ( ٢١٤٤ ) في المكتبة المركزية لجامعة طهران.
وتقع رسالتنا في الصفحات ( ٤١٥ ـ ٤٢٤ ).
__________________
(١٧) لسان العرب ، مادة ( عجل ) : ١٣ / ٤٥٣.
(١٨) لاحظ فهرس الفهارس والإثبات ، للكتاني ج ٣ : ٣١٤ ـ ٣١٥.
(١٩) فهرست كتابخانه مركزي دانشگاه طهران ٩ / ٨٠٤.
وقد جاء في نهايتها ما نصّه :
|
« وقد نجز تحرير هذه الرسالة ، وهي مختصر « عجالة المعرفة » من تصانيف الإمام السعيد العلامة ، قطب الدين ، محمّد ، ابن الإمام الصدر ، السعيد ، حجّة الحقّ ، هادي الخلق ، قطب الدين ، شيخ الإسلام ، أبي الحسين ، سعيد بن هبة الله بن الحسن ، الراونديّ ، قدّس الله تعالى أرواحهم. بحقّ محمّد وآله الطاهرين ، صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين الطيّبين الطاهرين ، وذلك في بعض من يـوم الخميس ثامن عشر شوّال ، تمّ بالخير والإقبال سنة ٩٨٦ ( ٢٠ ) ( ٢١ ). |
٧ ـ تحقيقه :
قمنا في سبيل إحياء هذا الكتاب بالأعمال التالية :
١ ـ ضبط نصّه ، حسب النسخة الفريدة.
٢ ـ تقطيعه بشكل تبدو قوّة بناء الجملة فيه ، ويبدو نسْق مطالبه المعروضة وفق القانون المنطقي ، باعتباره كتاباً يعتمد الحجّة والدليل في كلّ قضاياه.
وقد أشرنا إلى اعتماد المؤلّف لهذا الأسلوب في تأليف الكتاب.
٣ ـ تحصيح ما بدا من عبارته ، إمّا بتعديل النصّ مباشرة ، ثمّ الأشارة إلى ما كان في النسخة في الهوامش.
أو بجعل ما أضفناه على النصّ بين معقوفتين.
٤ ـ وقد أعربنا تمام المتن ، إبرازاً لأهميّته ، وإسهاماً في توضيح مراده.
__________________
(٢٠) كتب هنا : « قوبل ».
(٢١) فهرست كتابخانهء مركزي دانشكاه طهران ٩ / ٨٠٤.
٥ ـ ووضعنا له هذه المقدّمة المحتوية على الحديث عن المؤلّف ثمّ عن الكتاب ، سعياًَ في التعريف بالمؤلف بوسع ما بالامكان ، ومن خلال ما وقع في أيدينا من أدوات ومصادر.
٦ ـ ونرى لزاماً علينا أن نقدّم وافر التقدير إلى سماحة العلامه المحقِّق السيّد الطباطبائي ، حيث أسعفنا بمعلومات قيِّمة عن المؤلّف ، ووضع تعليقاته القيِّمة على كتاب « الفهرست » لمنتجب الدين ـ الذين حقّقه قبل سنوات ـ فاستفدنا منها.
ونحن إذْ نشكر الله على هذا التوفيق ، حيث ادّخر هذا الكتاب القيّم لنعمل في إحيائه ، نسأله أن يسهّل لنا الطريق لما يحب ويرضى ، وان يتقبل أعمالنا ، ويغفر ما سلف من سيّئاتنا ، ويعصمنا فيما بقي من عمرنا ، ويحشرنا مع الصالحين ، بحقّ محمّد وآله الطاهرين.
|
وقد تمّ تحقيقه والتقديم له يوم الجمعة العشرين من شهر شعبان المعظّم سنة ثلاث عشر وأربعمائة وألف للهجرة النبويّة المقدّسة. |
|
وكَتَبَ السيّد محمّد رضا الحُسينيّ حامداً مُصَلّياً |
متن الكتاب :
بسم الله الرحمن الرحيم (١)
الحمدُ للهِ كما هُوَ أهْلُهُ ، وصَلواتُه على محمّد وآله أجْمعين.
[ مقدِّمة ] :
إعلمْ أنَّ العبدَ إذا نشأَ بانشاءِ اللهِ إيّاهُ ؛ لا يخلُو : إمّا أنْ ينشأ وحدَهُ ، أو مع غيره :
ووحدهَُ لا يخلُو : إمّا أن يكون مُستقلاً بنفسه ، أو لا يكون.
ومعلومٌ أنّ أكثر الناسِ ـ بَل كُلّهُمْ ـ يَعلمونَ من أنْفُسِهم احتياجَهم إلى غَيْرهم ، وذلكَ أوّلُ مَراتِبِ الاحتياجِ.
وإذا كان وحْدَهُ محتاجاً ؛ يَعلَمُ أنَّ المحتاجَ إليه ممّنِ تنتهي إليه الحاجة ، وهو لا يحتاجُ إلى غيره :
إذْ لَو احتاجَ إلى غيره لانتهى إلى غير نهايةٍ : وهو محالٌ.
والذي ينشأ مع غيره يعلمُ أنّ غيرَهُ ـ في حقيقة الحاجة ـ مشارِكُه فيعلمُ أنّ حال غيره كحاله في الحاجة.
فيُضْطَرُّ : أنّ المحتاجَ لا بُدَّ [ له ] من مُحتاجٍ إليه.
__________________
(١) كتب في النسخة هنا : « ربّ وفّق بحقّ وليّك الرضا عليه الصلاة والتحية والتسليم ».
فَصْلٌ
[ في الصانع وصفاته ]
لمّا ثَبَتَ أنّ المتغيّرَ مُحتاجٌ ، والعالَم ـ بجميع أجزائه وتركيبه ـ مُتغيّر فهو مُحتاجٌ ، والمحتاجُ لا بُدّ له من مُحتاجٍ إليه ، وهو صانعه.
مسألَةٌ [ في غناه ، ووجوبه ، وقدرته ] :
ولمّا ثَبَتَ هذا ، فلا بُدَّ أنْ يكون هو غنيّاً من كلّ وَجهٍ :
إذْ بَيَّنّا أنَّ الحاجة عِلّةٌ لإثبات المحتاج إليه ، فَهُوَ ـ بذاته ـ مُستَغْنٍ كلّ شيءٍ ، فيكون واجبَ الوجودِ بذاتهِ ، وكلُّ شيءٍ سواه يحتاج اليه.
وإذا كان مُؤثّراً ؛ فلا بُدَّ أنْ يكونَ وَجْهٍ يَصِحُّ أنْ يفعلَ ، ويَصِحُّ أنْ لا يفعلَ ، وهذا معنى كونه قادراً.
مسألة [ في علمه ] :
ولمّا ميَّزَ بين أجزاءِ الأفعالِ ، وقَصَدَ بَعْضَها دُون بَعْضٍ ، ورَكَّبَها على وَجْهٍ تَصْلُحُ للنَفْعِ ، واستَمَرَّ ذلك منه ؛ دَلَّ على كَوْنِهِ عالِماً.
* * *
مسألة [ في حياته ، ووجوده ] :
ولمّا عُلِمَ أنّه عالمٌ قادرٌ ؛ ثَبَتَ أنّه حَيٌّ ، موجود :
إذْ يَسْتحيلُ تصوُّرُ عالمٍ قادرٍ غَيْرَ حَيّ ، ولا موجودٍ.
على أنّا أثْبَتْنا ـ أوّلاًَ ـ وجُوبَ وجودِهِ ، وإذا كانَ المُمكِنُ المحتاجُ مَوْجُوداً ؛ فَواجِبُ الوجُودِ ـ الذي لا يحتاجُ إلى غَيْره ـ بالوجود أوْلى.
مسألة [ في الارادة ، والاختيار ] :
ويتفرّعُ من كونه حيّاً ، وعالماً أنّهُ لا بُدَّ أنْ يَعْلَمَ الأشياء كما هِيَ ، إذْ لا اختصاصَ لِكَوْنِهِ عالماً بمعلومٍ دونَ مَعلومٍ.
فيَعْلمُ ما يُفْضي إلى صَلاحِ الخَلْقِ ، وما يُؤدّي إلى فسادِهِم ؛ فيخْتارُ ما يُفْضي إلى صَلاحِهِم ، ويُعَبَّرُ عنهُ بِالحَسَنِ ؛ ولا يَخْتارُ ما يُؤدّي إلى فَسادِهِم ، وهو القَبِيْحُ.
ثمّ ذلكَ الاختيارُ ، لا يخلُو : إمّا أنْ يتعلّقَ بِفِعلِه ، أوْ بِفِعْل غيره :
فما يَتَعَلّقُ بِفِعْلهِ يكونُ عِلْمُهُ بحُسْنِهِ داعياً إلى فِعْلهِ ؛ فيُسمّى مُريْداً.
وما يَتَعَلّق بفعل غيره ، يُعْلِمُهُ أنّ صلاحَهُ في بعضٍ ، وفسادَهُ في بَعْضٍ ، فيكونُ إعلامُهُ ، أمراً ونهياً ، وخَبراً.
ويُسمّى كارِهاً ؛ إذا تَعَلَّقَ عِلمهُ بِقُبحِ شيءٍ ، ويصرِفُهُ علمُه عنه ، أو ينهى عنه غيره.
مسألة[ في الادراك ] :
وعلمه ـ أيضاً ـ يتعلّق بالمعدوم والموجود :
فما يتعلّق بالمعدوم يسمى كونه عالماً ، فحسب.
وما يتعلّق بالموجود المدرك يسمى كونه مدركاً.
والسمع ورد بأن يوصف ـ تعالى ـ بكونه : مدركاً سميعاً ، بصيراً ، وإلا؛ فقد كفانا إثبات كونه عالماً بجميع المعلومات أنّه يعلم المدركات ، والمسموعات ، والمبصرات ؛ إذ ليس إدراكه لشيء منها من جهة الحاسة.
مسألة[ في القدم ولوازمه ] :
وإذا ثبت أنّه تعالى واجب الوجود من كلّ وجه؛ فلا يتوقف وجوده على غيره ، فلا يحتاج إلى فاعلٍ ، ولا شرطٍ ، ولا علّة ، ولا زمانٍ ، ولا مكانٍ ، ولا غاية ، ولا ابتداءٍ ، ولا انتهاءٍ :
لأن هذه الأشياء غيره ، وقد قررنا أنّه لا يحياج إلى غيره.
فيكون قديماً ـ موجوداً أزلاً؛ إذْ هو عبارة عمّا لا أوّل له ، ولا يزال؛ إذْ هو عبارة عمّا لا آخر له ـ :
إذ لو توقف وجوده على الابتداء والانتهاء؛ لبطل وجوب وجوده ، وقد ثبت وجوبه.
مسألة [ في التوحيد ولوازمه ] :
واذ قد ثبت وجوب وجوده؛ فهو واحد من كلّ وجهٍ؛ لا ثاني له :
لأنّه لوكان له ثانٍ واستَغْنى عنه من كلّ وَجْهٍ ؛ لَما استَغْنى عنه في العَدَدِ ، وهو كونُهما اثْنينِ ، وقد فرضناهُ غَنِيّاً من كلِّ وَجْهٍ.
وأيضاً : لما تَميَّزَ الواحِدُ من اثْنينِ ، إذْ كانَ من كلّ وجهٍ مِثْلَهُ ، فبماذا يَتَمَيَّزُ منه ؟!
وإثباتُ ما لا يَتَمَيَّزُ يُفضي إلى الجهالاتِ.
وكما لا ثاني له ؛ فلا جُزْءِ له :
لأنّه لو كان له جُزْءَ ؛ لاحْتاجَ إلى ذلك الجُزْءِ ؛ فيكونُ محتاجاً إلى غيره ، وقد فرضناهُ غَنِيّاً من كُلّ أحَدٍ.
فقد ثَبَتَ أنّهُ واحِدٌ لا ثاني له ، ولا جُزْءَ له.
مسألة [ في التنزيه ولوازمه ] :
ولما ثَبَتَ غِناهُ وعِلمُهُ ؛ فكُلّ ما يجوزُ على المحتاج لا يجوزُ عليه :
فلا يحتاجُ إلى الجهَةِ ، لِيَشْغَلَها ؛ فلا يكونُ جَوْهَراً.
ولا إلى التَركيبِ ، فلا يكونُ جِسْماً.
ولا إلى المحلّ ، فلا يكونُ عَرَضاً.
ولا إلى الزَمانِ ؛ إذْ قد ثَبَتَ قِدَمُهُ ، فَبَطَلَ عَدَمُهُ.
ولا إلى المَكانِ ؛ إذْ هُوَ من لواحِقِ الجِسْمِ.
ولا يختارُ إلا ما هوَ صَلاح العِبادِ ؛ لأنّهُ لا يحتاجُ إلى فِعْله ، فلا بُدّ مِن أنْ يكونَ قد خَلَقَ الخَلْقَ لِغايةٍ تُؤدّي إليها حِكْمَتُهُ ، وتلكَ الغايَةُ تكونُ كمالَ خَلقِه.
والطريقُ إلى ذلك الكمالِ لا يَخْلُو : إمّا أنْ يَفْعَلَهُ هُوَ ، [ أ ] وْ أنْ يُعَلِّمنا الطريقَ إليه :
وما يَفْعَلُه هُوَ ، لا يَخْلُو :
إمّا أنْ يَفْعَلَهُ ـ أوّلاً ـ لا مِنْ شَيءٍ ، ويُسمّى ذلكَ الفِعْلُ مُخْتَرعاً.
أو يَخلقُ شَيْئاً من شَيءٍ ، وهُو المُتولِّدُ.
والمُخْتَرَعُ يكونُ مَبْدَأ المُتَوَلّدُ ، لأنّهُ لا بُدّ وأنْ يَبتدِئ أوّلاً ، ثمّ يَخلُقَ منه شيئاً.
فقد عَرفْتَ ـ حيئنذٍ ـ أنّ الملائكةَ ملأٌ خَلَقَهم اللهُ ـ تعالى ـ لا عن شيءٍ ، لمّا عَلِمَ أنّ كُنْهَ قُدرةِ البَشَرِ لا يبلُغُ أدنى أثر ؛ جعلَ الملائكةِ واسطةَ المتولّداتِ ، وهُم الذينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ في كتابِهِ : من حَمَلة عَرشِهِ وسُكّانِ سماواتِهِ والذارياتِ والمُرْسلاتِ و غيرهم ، ممّن لا يَعْلمهُمْ إلا اللهُ ـ تعالى ـ كما قال : ( ... وما يَعْلمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلا هُوَ ... ) [ الآية ( ٣١ ) من سوره المدثر ( ٧٤ ) ].
والمقصودُ من هذا : أنَّ العَبْدَ لا يَصِلُ إلى كمالهِ ونجاتهِ إلا :
إمّا بفعله ، كخلقه.
[ أ ]وْ بَعْثَ الملائكِةِ إلى ما يحتاجُ إليه ، وإعلامِهِ بأنّ كماله فيما هو ؟
وهو الكلام في النُبوّات.
* * *
فَصْلٌ
في النبوّة
تقتضي حِكْمَةُ الصانعِ ـ تعالى ـ إعلامَ العَبْدِ أنَّ كماله فيما هُوَ ؟
وكم هُوَ ؟
وكيف هُوَ ؟
وأين هُوَ ؟
ومتى هُوَ ؟
وهذه الأشياء ممّا لا تهتدي إليه عُقولُ البَشَر ؛ لأنّها تفاصيلُ مُقْتَضَى العَقْلِ ؛ لأنّهُ يَقْتضي أنّ طَلَبَ الكَمالِ حَسَنٌ ، والهرَبَ من الهلاكِ واجِبُ ، وَهُوَ دَفْعُ المضرّةِ : ولكنّه لا يهْتَدي إلى طَريقِ كُلّ واحدٍ منهما ـ من الكمال والهلاك ...
فيختارُ الحكيمُ مَنْ (١) يستعدُّ لِقَبُول تفاصِيل الكَمال ، ولكنْ بواسطة الملائِكة ـ الّذينَ هُمْ خواصُّ حَضرنِهِ ـ فيُفضي إليه ما هُوَ سَبَبُ كمالِهِمْ ؛ فيُسمّى « نبيّاً ».
وقبولُهُ من الملائكة يُسمّى « وَحْياً ».
وتَبْليغُهُ إلى الخلْقِ يُسمّى « نبوّة ».
__________________
(١) في المخطوط جاءت كلمة ( إنْ ) هنا ، ويمكن أن تكون شرطية ، فليلاحظ.
ولا بُدّ أنْ يكونَ ممّنْ لا يُغَيِّرُ ما يُوحَى إليه ، ويؤمَنُ عليه مِن الكَذِبِ ، والتَغْيير ، وَيُسمّى « عصمة » وهِيَ : لُطْفٌ يختارُ عندَه الطاعَة ، ويَصْرِفُهُ عن المعصيَةِ ، مع قُدرته على خلافِهِ.
فيُظهِرُ الله عليه من العِلْم ما يَدلُّ على صِدْقه بَعْدَ دَعْواه ، ويكونُ ذلِكَ خارقاً للعادَةِ ، وممّا يعجُزُ عنه غيرُه ؛ فيُسمّى « مُعجِزاً ».
وما يُظهره من الطريق إلى النجاة والدرجات ، يسمّى « شريعة ».
ثمّ لا تخلُو تلكَ الشريعةُ من أنْ تَتَعَلّقَ بمصالحِ العَبْد آجِلاً ، أو عاجِلاً :
فالمصَالحُ الآجلةُ تُسمّى « عِباداتٍ ».
والمصالحُ العاجِلةُ تُسمّى « معاملاتٍ ».
كما هي مذكورة في كُتُب الفِقه.
فيضَعُ كلَّ أمْرٍ مَوضِعَهُ ، ويُعَلّمُ كلَّ مَنْ يطلبُ مَبْدأهُ ، ومَعادَهُ ، والطريقَ إليه ، ويُنَظّمُ الخَلْقَ على نِظامٍ مُستَقيم.
وتلك الغايةُ التي يُعلِمُنا أنّها كمالُنا ، تُسمّى « مَعاداً وآخرة ».
ويُعلّمنا ـ أيضاً ـ مقاديرَ العِباداتِ ، والمعامَلاتِ ، وكيفيّاتِها ، وأينَ يختصُّ بالتَوجُّهِ اليه ؟ كالقبلة ، ومتى يجبُ ؟ كأوقات العبادات.
ومتى خالفنا ذلك ؛ إلى ماذا يَصيرُ أمرُنا ؟ ونهلكُ هلاكاً دائِماً ؟ أو مُنقطعاً ؟
هذه كلّها مما لا يُعْلَمُ إلا بواسطةٍ.
فَعَلِمْنا أنّ الخلقَ محتاجونَ ـ في هذه الوجوهِ ـ إلى من يُعلّمُهُم
هذه الأشياءَ.
فلمّا ثبتَ ـ على الجملةِ ـ وجُوبُ النبوَّة ؛ بَقِيَ علينا أنْ نُثْبِتَ نبوّةَ نَبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهُوَ :
أنَّ الناسَ ضَرْبانِ :
ضربٌ منهم مَن يُنكرُ النبوّة ، أصلاً.
ومنهم مَن يُثبِتُها ، ولكنّهُ يُنكِرُ نُبُوّةَ نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وقد بيّنّا أنّ الدليلَ على صحّةِ نبوّةِ كُلّ نَبيٍ العِلمُ المعجِز.
وإذا تقرّرَ هذا ، فَظُهُورُ مُعْجز نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم أجلى ، وأمرُهُ في ذلك أعْلى ، فهو بالنبوّة أولى.
وَهُوَ : القُرآن ؛ الظاهرُ بين ظهرانيّ البرّ والفاجِرِ ، والباهِرُ بفصاحَتِهِ على فَصَاحَةِ كلّ ماهِرٍ.
وغيرُهُ ، مما ذِكْرُ أقلّهِ لا يحتملُه هذا الموضعُ ، فضلاً عن أكثره.
ولمّا ثبتَ ـ بالتَجْرِبَةِ ، وعليه البراهينُ المعقولةُ التي ليسَ هيهنا موضِعُ ذِكرها ـ أنّ الانسانَ لا يَبقى في الدُنيا أبَداً ؛ فلا بُدّ أنْ يَرْجِعَ النبيُّ إلى مَعادِهِ ، ويَبْقى بَعْدَه من يحتاجُ إلى هذِهِ الأشياءِ وإلى النِظام في أمُورِ الخلق ، فَيُفضي جميعَ ما تحتاجُ إليه أمّتهُ إلى مَن يؤمَنُ عليه من التغيير والتبديل.
وَهُوَ الكلامُ في الإمامة.
* * *
فَصْلٌ
في الإمامة
إعْلَمْ أنّ الوصولَ إلى الكمالِ والتمامِ لا يحصلُ إلا بالنظامِ ، وذلك لا يَتمُّ إلا بوجودِ الإمام.
فوجودُه مُقرّبٌ إلى الطريقِ المُفْضي إلى الكَمال.
ويأمُرُ بالعَدْل ، ويَنْهى عن الفَحْشاء والمُنْكر ، فلا بُدّ من وجوده ، ما دام التكليف باقياً.
ويجبُ أنْ يُؤْمَنَ عليه مِثْلِ ما يُؤمَنُ على النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، من التَغْيير والتَبْديلِ ، فيكونُ « معصُوماً ».
ويجبُ أنْ يكونَ أعْلَمَ أهلِ زمانه ، فيما يَتَعَلَّقَ بالمصالحِ الدينيّة والدُنيويّةِ.
ونعلَمُ أنّا لا نَعْرِفُ مَنْ هذهِ صفتُهُ إلا بإعلامٍ مِنْ قِبَلِ اللهِ ، وَهُوَ :
إمّا أنْ يُعْلِمنا على لسانِ نبيّهِ ، وهذا هو « النّصُّ ».
وإمّا بالعلمِ المعجزِ عَقيبَ دعواهُ ، عند فقدِ حضور النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وإذا ثبتَ هذا ، فالإمامُ ـ على هذه الصفاتِ ، بعدَ نبيّنا
صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بلا واسطةٍ ـ أميرُ المؤمنينَ عليٌّ عليه الصلاةُ والسلامُ.
لأنَّ الناسَ ضَرْبانِ :
أحدُهما لا يوجِبُ الإمامةَ ، وهذا يُكَذّبُهُ فِعْلُهُ ، واحتياجُهُ إلى الإمام.
والآخَرُ يوجِبُها.
والقائِلُ بوجوبها على ضرْبيْنِ :
منهم من قال بوجوبها شرعاً ، وهوَ باطلٌ ؛ لأنّهُ لو لم يرد الشرعُ لَعَلِمنا أنَّ الخلقَ لا بُدَّ لهم من ناظمٍ يكونُ أعْلَمَ منهم بِنَظْمِهم على طريقٍ مُسْتَقيمٍ.
ومَنْ قال بِوُجُوبها عَقْلاً : يَعْتَبِرُ الصفاتِ التي ذَكَرْناها ، وكُلُّ من أثبتَ الصفاتِ لم يُثْبِتْها إلا لأمير المؤمنين عليٍّ عليه الصلاةُ والسلامُ.
فالقولُ بوجوب العصمةِ ، مع إثباتها لغيره ، خروجٌ عن الإجماع.
ولأنَّ الأخبارَ المتواتِرةَ ـ من طريق الخاصَّةِ والعامَّةِ ـ دَلَّتْ على تَنْصِيْص النبيّ عليه وآله السلام ، عليه وعلى أولادِهِ.
والأخبارُ المتواترةُ تُفضي إلى العلْمِ ؛ إذا لم تكنْ عن تواطُؤٍ ، ولا ما يجري مجرى التواطُؤِ ؛ من المراسلةِ ، وهذا لا يُمكنُ في رواة أخبارِ النصّ مع تباعُدِ الديارِ ، وعدم معرفَة أهلِ كلّ بلدٍ لأهل بلدٍ آخر ؛ فَعُلِمَ
أنّهُ لا جامِعَ لهم على نقْلِ هذهِ الأخبارِ إلا صِدْقُها.
وبعدَهُ لأولادِهِ ، إلى الثاني عَشَر عَجَّل الله فَرَجَهُ ، والدليلُ على إمامتِهِ نصُّ النبي عليه ، ونَصُّ آبائِهِ ، وقولهُمُ حُجّةٌ.
ودليل وجودِهِ ـ على الجملَةِ ـ هو ما دَلَّ على أن الزمانَ ـ مع بقاء التكليفِ ـ لا يجوزُ أن يخلُو من إمامٍ معصومٍ هو أعلَمُ أهلِ زمانِهِ.
[ سَبَبُ غَيْبَة الإمام الثاني عشر عجلَ الله فرجه ]
بَقِيَ علينا أنْ نُبيّنَ سَبَبَ غيبتهِ عليه الصلاةُ والسلامُ ، وهو السببُ المحوِجُ للأنبياءِ إلى الغيبةِ :
مثل هَرَبِ موسى عليهالسلام ، الذي دلَّ عليه القرآنُ ، حيثُ قال : ( ... ففررت منكم لما خفتكم ... ) [ الآية ( ٢١ ) من سورة الشعراء ( ٢٦ ) ].
وهَرَب يونس عليهالسلام.
ودُخُول (٢) إبراهيمَ عليهالسلام النارَ.
ودُخُول نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم الغارَ.
فإذا لم يُوْجِبْ هَرَبُ الأنبياءِ خَلَلاً في نُبُوَّتهم ، فَبِأنْ لا يُوجِبَ هَرَبُ الإمامِ ـ مع أن الأعداءَ الآن أكثَرُ ـ أوْلى.
وأمّا طُولُ حياتِهِ ؛ فممّا لا يُتَعَجَّبُ منه.
لأنَّ هذا الإنكارَ : إمّا أن يكونَ ممّن يُثبِتُ قُدرَةَ الله ، أو ممّن لا
__________________
(٢) في النسخة : ودخل.