أحكام القرآن - ج ٣

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٨٢

ينكحها أفتزعم في التي تقبل ابن زوجها مثله قال والمرتدة تحرم على الناس كلهم حتى تسلم وتقبيل ابن الزوج ليس كذلك قال أبو بكر فناقض على أصله فيما أنكره على خصمه ثم أخذ في ذكر الفروق على النحو الذي مضى من كلامه ولم أذكر ذلك لأن في مثله شبهة على من ارتاض بشيء من النظر ولكن لأبين مقادير علوم مخالفي أصحابنا ومحلهم من النظر وأما ما حكى عثمان البتى في فرقه بين الزنا بأم المرأة بعد التزويج وقبله فلا معنى له لأن ما يوجب تحريما مؤبدا لا يختلف حكمه في إيجابه ذلك بعد التزويج وقبله والدليل عليه أن الرضاع لما كان موجبا للتحريم المؤبد لم يختلف حكمه في إيجابه ذلك قبل التزويج وبعده وإنما قال أصحابنا إن فعل ذلك بالرجل لا يحرم عليه أمه ولابنته من قبل أن هذه الحرمة إنما هي متعلقة بمن يصح عقد النكاح عليها ويجوز أن تملك به فيكون الوطء المحرم فيها بمنزلة الوطء الحلال في إيجاب التحريم فلما لم يصح وجود ذلك في الرجل على الوجه المباح ولا يجوز أن يملك ذلك بالعقد منه لم يتعلق به حكم التحريم ألا ترى أنه لو لمس الرجل بشهوة لا يتعلق به حكم في إيجاب تحريم الأم والبنت واللمس بمنزلة الوطء في المرأة عند الجميع فيما يتعلق به حكم التحريم فلما اتفق الجميع على أن اللمس لا حكم له في الرجل في حكم تحريم الأم والبنت كان ذلك ما سواه من الوطء وفي ذلك الدلالة من وجهين على صحة ما ذكرنا أحدهما أن لمس الرجل للرجل لشهوة لما لم يكن مما يصح أن يملك بعقد النكاح ولم يتعلق به تحريم كان كذلك حكم الوطء إذ لا يصح أن يملك بعقد النكاح والثاني أن اللمس عند الجميع في المرأة حكمه حكم الوطء ألا ترى أن الجميع متفقون على أن لمس المرأة الزوجة يحرم بنتها كما يحرمها الوطء وكذلك لمس الجارية بملك اليمين يوجب من التحريم ما يوجبه الوطء وكذلك من حرم بوطء الزنا حرم باللمس فلم لم يكن لمس الرجل موجبا للتحريم وجب أن يكون كذلك حكم وطئه لاستوائهما في المرأة* قال أبو بكر واتفق أصحابنا والثوري ومالك والأوزاعى والليث والشافعى إن اللمس لشهوة بمنزلة الجماع في تحريم أم المرأة وبنتها فكل من حرم بالوطء الحرام أوجبه باللمس إذا كان لشهوة ومن لم يوجبه بالوطء الحرام لم يوجبه باللمس لشهوة ولا خلاف أن اللمس المباح في الزوجة وملك اليمين يوجب تحريم الأم والبنت إلا شيئا يحكى عن ابن شبرمة أنه قال لا تحرم باللمس وإنما تحرم بالوطء الذي يوجب مثله الحد وهو قول شاذ قد سبقه

٦١

الإجماع بخلافه واختلف الفقهاء في النظر هل يحرم أم لا فقال أصحابنا جميعا إذا نظر إلى فرجها لشهوة كان ذلك بمنزلة اللمس في إيجاب التحريم ولا يحرم النظر للشهوة إلى غير الفرج وقال الثوري إذا نظر إلى فرجها متعمدا حرمت عليه أمها وابنتها ولم يشرط أن يكون لشهوة وقال مالك إذا نظر إلى شعر جاريته تلذذا أو صدرها أو ساقها أو شيء من محاسنها تلذذا حرمت عليه أمها وابنتها وقال ابن أبى ليلى والشافعى النظر لا يحرم ما لم يلبس قال أبو بكر روى جرير بن عبد الحميد عن حجاج عن أبى هانئ قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نظر إلى فرج امرأة حرمت عليه أمها وابنتها وروى حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها وروى الأوزاعى عن مكحول إن عمر جرد جارية له فسأله إياها بعض ولده فقال إنها لا تحل لك وروى حجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه جرد جارية ثم سأله إياها بعض ولده فقال إنها لا تحل لك وروى المثنى عن عمرو بن شعيب عن عمر أنه قال أيما رجل جرد جارية له فنظر إليه منها يريد ذلك الأمر فإنها لا تحل لابنه وعن الشعبي قال كتب مسروق إلى أهله قال انظروا جاريتي فلانة فبيعوها فإنى لم أصب منها إلا ما حرمها على ولدي من اللمس والنظر وهو قول الحسن والقاسم بن محمد ومجاهد وإبراهيم فاتفق هؤلاء السلف على إيجاب التحريم بالنظر واللمس وإنما خص أصحابنا النظر إلى الفرج في إيجاب التحريم دون النظر إلى سائر البدن لما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال من نظر إلى فرج امرأة لم تحل له أمها ولا ابنتها فخص النظر إلى الفرج بإيجاب التحريم دون النظر إلى سائر البدن وكذلك روى عن ابن مسعود وابن عمر ولم يرو عن غيرهما من السلف خلافه فثبت بذلك أن النظر إلى الفرج مخصوص بإيجاب التحريم دون غيره وكان القياس أن لا يقع تحريم بالنظر إلى غيره من سائر البدن إلا أنهم تركوا القياس فيه للأثر واتفاق السلف ولم يوجبوه بالنظر إلى غير الفرج وإن كان لشهوة على ما يقتضيه القياس ألا ترى أن النظر لا يتعلق به حكم في سائر الأصول ألا ترى أنه لو نظر وهو محرم أو صائم فأمنى لا يفسد صومه ولو كان الإنزال عن لمس فسد صومه ولزمه دم لإحرامه فعلمت أن النظر من غير لمس لا يتعلق به حكم فلذلك قلنا إن القياس لا يحرم النظر شيئا إلا أنهم تركوا القياس في النظر إلى الفرج خاصة لما ذكرنا يحتج لمذهب ابن شبرمة بظاهر قوله تعالى (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ

٦٢

بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) واللمس ليس بدخول فلا يحرم والجواب عنه أنه ليس بممتنع أن يريد الدخول أو ما يقوم مقامه كما قال تعالى (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) فذكر الطلاق ومعناه الطلاق أو ما يقوم مقامه ويكون دلالته ما ذكرنا من قول السلف واتفاقهم من غير مخالف لهم على إيجاب التحريم باللمس* ولا خلاف بين أهل العلم أن عقد النكاح على امرأة يوجب تحريمها على الابن وروى ذلك عن الحسن ومحمد بن سيرين وإبراهيم وعطاء وسعيد بن المسيب* وقوله تعالى (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) فإنه روى عن عطاء* إلا ما كان في الجاهلية* قال أبو بكر يحتمل أن يريد إلا ما كان في الجاهلية فإنكم لا تؤاخذون به ويحتمل إلا ما قد سلف فإنكم مقرون عليه وتأوله بعضهم على ذلك وهذا خطأ لأنه لم يرو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقر أحدا على عقد نكاح امرأة أبيه وإن كان في الجاهلية وقد روى البراء أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث أبا بردة بن نيار إلى رجل عرس بامرأة أبيه وفي بعض الألفاظ نكح امرأة أبيه أن يقتله ويأخذ ماله وقد كان نكاح امرأة الأب مستفيضا شائعا في الجاهلية فلو كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقر أحدا منهم على ذلك النكاح لنقل واستفاض فلما لم ينقل ذلك دل على أن المراد بقوله (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) فإنكم غير مؤاخذين به وذلك لأنهم قبل ورود الشرع بخلاف ما هم عليه كانوا مقرين على أحكامهم فأعلمهم الله تعالى أنهم غير مؤاخذين فيما لم تقم عندهم حجة السمع بتركه فلا احتمال في قوله (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) في هذا الموضع إلا ما ذكرنا وقوله تعالى (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) عند ذكر الجمع بين الأختين يحتمل غير ما ذكر هاهنا وسنذكره إذا انتهينا إليه إن شاء الله تعالى ومعنى (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) هاهنا استثناء منقطع كقوله لا تلق فلانا إلا ما لقيت يعنى لكن ما لقيت فلا لوم عليك فيه* وقوله (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) هذه الهاء كناية عن النكاح وقد قيل فيه وجهان أحدهما النكاح بعد النهى فاحشة ومعناه هو فاحشة فكان في هذا الموضع ملغاة وهو موجود في كلامهم قال الشاعر :

فإنك لو رأيت ديار قوم

وجيران لنا كانوا كرام

فأدخل كان وهي ملغاة غير معتد بها لأن القوافي مجرورة وقال الله تعالى (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) والله عليم حكيم ويحتمل أن يريد به أن ما كان منه في الجاهلية فهو فاحشة فلا تفعلوا مثله وهذا لا يكون إلا بعد قيام حجة السمع عليهم بتحريمه ومن قال هذا

٦٣

جعل قوله تعالى (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) فإنه يسلم منه بالإقلاع عنه والتوبة منه قال أبو بكر والأولى حمله على أنه فاحشة بعد نزول التحريم لأن ذلك مراد عند الجميع لا محالة ولم تقم الدلالة على أن حجة السمع قد كانت قامت عليهم بتحريمه من جهة الرسل المتقدمين فيستحقون اللوم عليه ويدل عليه قوله تعالى (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) وظاهره يقتضى نفى المؤاخذة بما سلف منه فإن قيل هذا يدل على أن من عقد نكاحا على امرأة أبيه ووطئها كان وطؤه زنا موجبا للحد لأنه سماها فاحشة وقال الله تعالى (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) قيل له الفاحشة لفظ مشترك يقع على كثير من المحظورات* وقد روى في قوله تعالى (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) أن خروجها من بيته فاحشة وروى أن الفاحشة في ذلك أن تستطيل بلسانها على أهل زوجها وقيل فيها أنها الزنا فالفاحشة اسم يتناول مواقعة المحظور وليس يختص بالزنا دون غيره حتى إذا أطلق فيه اسم الفاحشة كان زنا وما كان من وطء عن عقد فاسد فإنه لا يسمى زنا لأن المجوس وسائر المشركين المولودين على مناكحاتهم التي هي فاسدة في الإسلام لا يسمون أولاد زنا والزنا اسم لوطء في غير ملك ولا نكاح ولا شبهة عن واحد منهما فأما إذا صدر عن عقد فإن ذلك لا يسمى زنا سواء كان العقد فاسدا أو صحيحا* وقوله تعالى (وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً) يعنى أنه مما يبغضه الله تعالى ويبغضه المسلمون وذلك تأكيد لتحريمه وتقبيحه وتهجين فاعله وبين أنه طريق سوء لأنه يؤدى إلى جهنم قوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ) إلى آخر الآية حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن الفضل بن سلمة قال حدثنا سنيد بن داود قال حدثنا وكيع قال حدثنا على بن صالح عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال قوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) إلى قوله تعالى (وَبَناتُ الْأُخْتِ) قال حرم الله هذه السبع من النسب ومن الصهر سبع ثم قال (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) ما وراء هذا النسب ثم قال (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ ـ إلى قوله تعالى ـ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يعنى السبي قال أبو بكر قوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ) عموم في جميع ما يتناوله الاسم حقيقة ولا خلاف أن الجدات وإن بعدن محرمات واكتفى بذكر الأمهات لأن اسم الأمهات يشملهن كما أن اسم الآباء يتناول الأجداد وإن بعدوا وقد عقل من قوله تعالى (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ)

٦٤

تحريم ما نكح الأجداد وإن كان للجد اسم خاص لا يشاركه فيه الأب الأدنى فإن الاسم العام وهو الأبوة ينتظمهم جميعا وكذلك قوله تعالى (وَبَناتُكُمْ) قد يتناول بنات الأولاد وإن سفلن لأن الاسم يتناولهن كما يتناول اسم الآباء الأجداد وقوله تعالى (وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ) فأفرد بنات الأخ وبنات الأخت بالذكر لأن اسم الأخ والأخت لا يتناول اسم البنات بنات الأولاد فهؤلاء السبع المحرمات بنص التنزيل من جهة النسب ثم قال (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) وقال قبل ذلك (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) فهؤلاء السبع المحرمات من جهة الصهر وقد عقل من قوله تعالى (وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ) من سفل منهن كما عقل من قوله تعالى (أُمَّهاتُكُمْ) من علا منهن ومن قوله تعالى (وَبَناتُكُمْ) من سفل منهن وعقل من قوله تعالى (وَعَمَّاتُكُمْ) تحريم عمات الأب والأم وكذلك قوله تعالى (وَخالاتُكُمْ) عقل منه تحريم خالات الأب والأم كما عقل تحريم أمهات الأب وإن علون وخص تعالى العمات والخالات بالتحريم دون أولادهن ولا خلاف في جواز نكاح بنت العمة وبنت الخالة وقال تعالى (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) ومعلوم أن هذه السمة إنما هي مستحقة بالرضاع أعنى سمة الأمومة والأخوة فلما علق هذه السمة بفعل الرضاع اقتضى ذلك استحقاق اسم الأمومة والأخوة بوجود الرضاع وذلك يقتضى التحريم بقليل الرضاع لوقوع الاسم عليه* فإن قيل قوله تعالى (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) بمنزلة قول القائل وأمهاتكم اللاتي أعطينكم وأمهاتكم اللاتي كسونكم فنحتاج إلى أن نثبت أنها أم بهذه الصفة حتى يثبت الرضاع لأنه لم يقل واللاتي أرضعنكم أمهاتكم قيل له هذا غلط من قبل أن الرضاع هو الذي يكسبها سمة الأمومة فلما كان الاسم مستحقا بوجود الرضاع كان الحكم متعلقا به واسم الرضاع في الشرع واللغة يتناول القليل والكثير فوجب أن تصير أما بوجود الرضاع لقوله تعالى (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) وليس كذلك الذي ذكرت من قول القائل وأمهاتكم اللاتي كسونكم لأن اسم الأمومة غير متعلق

«٥ ـ أحكام لث»

٦٥

بوجود الكسوة كتعلقه بوجود الرضاع فلذلك احتجنا إلى حصول الاسم والفعل المتعلق به وكذلك قوله تعالى (وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) يقتضى ظاهره كونها أختا بوجود الرضاع إذا كان اسم الأخوة مستفادا بوجود الرضاع لا بمعنى آخر سواه* ويدل على أن ذلك مفهوم الخطاب ومقتضى القول ما رواه عبد الوهاب بن عطاء عن أبى الربيع عن عمرو بن دينار قال جاء رجل إلى ابن عمر فقال إن ابن الزبير يقول لا بأس بالرضعة والرضعتين فقال ابن عمر قضاء الله خير من قضاء ابن الزبير قال الله تعالى (وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) فعقل ابن عمر من ظاهر اللفظ التحريم بقليل الرضاع* واختلف السلف ومن بعدهم في التحريم بقليل الرضاع فروى عن عمرو على وابن عباس وابن عمرو الحسن وسعيد بن المسيب وطاوس وإبراهيم والزهري والشعبي قليل الرضاع وكثيره يحرم في الحولين وهو قول أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد وزفر ومالك والثوري والأوزاعى والليث قال الليث اجتمع المسلمون على أن قليل الرضاع وكثيره يحرم في المهد ما يفطر الصائم وقال ابن الزبير والمغيرة بن شعبة وزيد بن ثابت لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان وقال الشافعى لا يحرم من الرضاع إلا خمس رضعات متفرقات* قاله أبو بكر وقد ذكرنا في سورة البقرة الكلام في مدة الرضاع والاختلاف فيها وقد قدمنا ذكر دلالة الآية على إيجاب التحريم بقليل الرضاع وغير جائز لأحد إثبات تحديد الرضاع الموجب للتحريم إلا بما يوجب العلم من كتاب أو سنة منقولة من طريق التواتر ولا يجوز قبول أخبار الآحاد عندنا في تخصيص حكم الآية الموجبة للتحريم بقليل الرضاع لأنها آية محكمة ظاهرة المعنى بينة المراد لم يثبت خصوصها بالاتفاق وما كان هذا وصفه فغير جائز تخصيصه بخبر الواحد ولا بالقياس ويدل عليه من جهة السنة قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما الرضاعة من المجاعة رواه مسروق عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يفرق بين القليل والكثير فهو محمول عليهما جميعها ويدل عليه أيضا ما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جهة التواتر والاستفاضة أنه قال يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب رواه على وابن عباس وعائشة وحفصة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتلقاه أهل العلم بالقبول والاستعمال فلما حرم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الرضاع ما يحرم من النسب وكان معلوما أن النسب متى ثبت من وجه أوجب التحريم وإن لم يثبت من وجه آخر كذلك الرضاع يجب أن يكون هذا حكمه في إيجاب

٦٦

التحريم بالرضعة الواحدة لتسوية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهما فيما علق بهما حكم التحريم* واحتج من اعتبر خمس رضعات بما روت عائشة وابن الزبير وأم الفضل أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا تحرم المصة ولا المصتان وبما روى عن عائشة أنها قالت كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات فنسخن بخمس معلومات فتوفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي فيما يقرأ من القرآن* قال أبو بكر وهذه الأخبار لا يجوز الاعتراض بها على ظاهر قوله تعالى (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) لما بينا أن ما لم يثبت خصوصه من ظواهر القرآن وكان ظاهر المعنى بين المراد لم يجز تخصيصه بأخبار الآحاد فهذا أحد الوجوه التي تسقط الاعتراض بهذا الخبر* ووجه آخر وهو ما حدث أبو الحسن الكرخي قال حدثنا الحضرمي قال حدثنا عبد الله بن سعيد قال حدثنا أبو خالد عن حجاج عن حبيب بن أبى ثابت عن طاوس عن ابن عباس أنه سئل عن الرضاع فقال إن الناس يقولون لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان قال قد كان ذاك فأما اليوم فالرضعة الواحدة تحرم* وروى محمد بن شجاع قال حدثنا إسحاق بن سليمان عن حنظلة عن طاوس قال اشترطت عشر رضعات ثم قيل الرضعة الواحدة تحرم فقد عرف ابن عباس وطاوس خبر العدد في الرضاع وأنه منسوخ بالتحريم بالرضعة الواحدة* وجائز أن يكون التحديد كان مشروطا في رضاع الكبير وقد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رضاع الكبير وهو منسوخ عند فقهاء الأمصار فجائز أن يكون تحديد الرضاع كان في رضاع الكبير فلما نسخ سقط التحديد إذ كان مشروطا فيه وأيضا يلزم الشافعى إيجاب التحريم بثلاث رضعات لدلالة قوله لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان على إيجاب التحريم فيما زاد على أصله في المخصوص بالذكر* وأما حديث عائشة فغير جائز اعتقاد صحته على ما ورد وذلك لأنها ذكرت أنه كان فيما أنزل من القرآن عشر فنسخن بخمس وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم توفى وهو مما يتلى وليس أحد من المسلمين يجيز نسخ القرآن بعد موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلو كان ثابتا لوجب أن تكون التلاوة موجودة فإذا لم توجد به التلاوة ولم يجز النسخ بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يخل ذلك من أحد وجهين إما أن يكون الحديث مدخولا في الأصل غير ثابت الحكم أو يكون إن كان ثابتا فإنما نسخ في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما كان منسوخا فالعمل به ساقط وجائز أن يكون ذلك كان تحديد الرضاع الكبير وقد كانت عائشة تقول به في إيجاب التحريم في

٦٧

رضاع الكبير دون سائر أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد ثبت عندنا وعند الشافعى نسخ رضاع الكبير فسقط حكم التحديد المذكور في حديث عائشة هذا ومع ذلك لو خلا من هذه المعاني التي ذكرنا من الاستحالة والاحتمال لما جاز الاعتراض به على ظاهر القرآن إذ هو من أخبار الآحاد* ومما يدل على ما ذكرنا من سقوط اعتبار التحديد أن الرضاع يوجب تحريما مؤبدا فأشبه الوطء الموجب لتحريم الأم والبنت والعقد الموجب للتحريم كحلائل الأبناء وما نكح الآباء فلما كان القليل من ذلك ككثيره فيما يتعلق به من حكم التحريم وجب أن يكون ذلك حكم الرضاع في إيجاب التحريم بقليله* واختلف أهل العلم في لبن الفحل وهو الرجل يتزوج المرأة فتلد منه ولدا وينزل لها لبن بعد ولادتها منه فترضع به صبيا فإن من قال بتحريم لبن الفحل يحرم هذا الصبى على أولاد الرجل وإن كانوا من غيرها ومن لا يعتبره لا يوجب تحريما بينه وبين أولاده من غيرها فممن قال بلبن الفحل ابن عباس وروى الزهري عن عمرو بن الشريد عن ابن عباس أنه سئل عن رجل له امرأتان أرضعت هذه غلاما وهذه الجارية هل يصح الغلام أن يتزوج الجارية فقال لا اللقاح واحد وهو قول القاسم وسالم وعطاء وطاوس وذكر الخفاف عن سعيد عن ابن سيرين قال كرهه قوم ولم يربه قوم بأسا ومن كرهه كان أفقه من الذين لم يروا به بأسا وذكر عباد بن منصور قال قلت للقاسم بن محمد امرأة أبى أرضعت جارية من الناس بلبان إخوتى من أبى أتحل لي فقال لا أبوك أبوها فسألت طاوسا والحسن فقالا مثل ذلك وسألت مجاهدا فقال اختلف فيه الفقهاء فلست أقول فيه شيئا وسألت محمد بن سيرين فقال مثل قول مجاهد وسألت يوسف بن ماهك فذكر حديث أبى قعيس وقال أبو حنفية وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والثوري والأوزاعى والليث والشافعى لبن الفحل يحرم وقال سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعطاء ابن يسار وسليمان بن يسار أن لبن الفحل لا يحرم شيئا من قبل الرجال وروى مثله عن رافع بن خديج والدليل على صحة القول الأول حديث الزهري وهشام بن عروة عن عروة عن عائشة أن أفلح أخا أبى القيس جاء ليستأذن عليها وهو عمها من الرضاعة بعد أن نزل الحجاب قالت فأبيت أن آذن له فلما جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبرته قال ليلج عليك فإنه عمك قلت إنما أرضعتنى المرأة ولم يرضعنى الرجل قال ليلج عليك فإنه عمك تربت يمينك وكان أبو

٦٨

القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة ويدل عليه من جهة النظر أن سبب نزول اللبن هو ماء الرجل والمرأة جميعا لأن الحمل منهما جميعا فوجب أن يكون الرضاع منهما كما كان الولد منهما وإن اختلف سببهما* فإن قيل قد روى مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أنها كانت تدخل عليها من أرضعته أخواتها وبنات أخيها ولا تدخل عليها من أرضعته نساء إخوتها* قيل له هذا غير مخالف لما ورد في لبن الفحل إذ كان لها أن تأذن لمن شاءت من محارمها وتحجب من شاءت ويدل عليه أيضا من جهة النظر أن البنت محرمة على الجد وإن لم تكن من مائه لأنه كان سبب حدوث الأب الذي هو من مائه كذلك الرجل لما كان هو سبب نزول اللبن من المرأة وجب أن يتعلق به التحريم وإن لم يكن اللبن منه إذ كان هو سببه كما يتعلق به التحريم من جهة الأم* والمنصوص عليه في التنزيل من الرضاع الأمهات والأخوات من الرضاعة إلا أنه قد ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنقل المستفيض الموجب للعلم أنه قال يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب واتفق الفقهاء على استعماله والله أعلم.

باب أمهات النساء والربائب

قال الله تعالى (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) ولم تختلف الأمة أن الربائب لا يحر من بالعقد على الأم حتى يدخل بها أو يكون منه ما يوجب التحريم من اللمس والنظر على ما بيناه فيما سلف هو نص التنزيل في قوله تعالى (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) واختلف السلف في أمهات النساء هل يحرمن بالعقد دون الدخول فسوى حماد بن سلمة عن قتادة عن خلاس أن عليا قال في رجل طلق امرأته قبل الدخول بها فله أن يتزوج أمها وإن تزوج أمها ثم طلقها قبل الدخول يتزوج بنتها تجريان مجرى واحدا وأهل النقل يضعفون حديث خلاس عن على ويروى عن جابر بن عبد الله مثل ذلك وهو قول مجاهد وابن الزبير وعن ابن عباس روايتان إحداهما ما يرويه ابن جريج عن أبى بكر بن حفص عن عمرو بن مسلم ابن عويمر بن الأجدع عنه أن أم المرأة لا تحرم إلا بالدخول والأخرى ما يرويه عكرمه عنه أنها تحرم بنفس العقد وقال عمرو عبد الله بن مسعود وعمران بن حصين ومسروق وعطاء والحسن وعكرمة تحرم بالعقد دخل بها أو لم يدخل وروى أبو أسامة عن سفيان

٦٩

عن أبى فروة عن أبى عمرو الشيباني عن عبد الله بن مسعود أنه أفتى في امرأة تزوجها رجل فطلقها قبل أن يدخل بها أو ماتت قال لا بأس أن يتزوج أمها فلما أتى المدينة رجع فأفتاهم فنهاهم وقد ولدت أولادا وروى إبراهيم عن شريح أن ابن مسعود كان يقول بقول على ويفتي به يعنى في أمهات النساء فحج فلقى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذاكرهم ذلك فكرهوا أن يتزوجها فلما رجع ابن مسعود نهى من كان أفتاه بذلك وكانوا أحياء من بنى فزارة أفتاهم بذلك وقال إنى سألت أصحابى فكرهوا ذلك وروى قتادة عن سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت قال في رجل طلق امرأته قبل الدخول فأراد أن يتزوج أمها قال إن طلقها قبل الدخول يتزوج أمها وإن ماتت لم يتزوج أمها وأصحاب الحديث يضعفون حديث قتادة هذا عن سعيد بن المسيب عن زيد ويقولون إن أكثر ما يرويه قتادة عن سعيد بن المسيب بينه وبينه رجال وإن رواياته عن سعيد مخالفة لروايات أكثر أصحاب سعيد الثقات وقال عبد الرحمن بن مهدى عن مالك عن سعيد بن المسيب أحب إلى من قتادة عن سعيد وقد روى يحيى بن سعيد الأنصارى عن زيد بن ثابت خلاف رواية قتادة ويقال إن حديث يحيى وإن كان مرسلا فهو أقوى من حديث قتادة عن سعيد قال أبو بكر وهذا الذي ذكرناه طريقة أصحاب الحديث والفقهاء لا يعتبرون ذلك في قبول الأخبار وردها وإنما ذكرنا ذلك ليعرف به مذهب القوم فيه دون اعتباره والعمل عليه ويشبه أن يكون زيد بن ثابت إنما فرق بين الموت والطلاق في التحريم لأن الطلاق قبل الدخول لا يتعلق به شيء من أحكام الدخول ألا ترى أنه يجب فيه نصف المهر ولا يجب عليها العدة وأما الموت فلما كان في حكم الدخول في باب استحقاق كمال المهر ووجوب العدة جعله كذلك في حكم التحريم والدليل على أن أمهات النساء يحرمن بالعقد قوله تعالى (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) هي مبهمة عامة كقوله (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ) وقوله (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) فغير جائز تخصيصه إلا بدلالة وقوله تعالى (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) حكم مقصور على الربائب دون أمهات النساء وذلك من وجوه أحدها أن كل واحدة من الجملتين مكتفية بنفسها في إيجاب الحكم المذكور فيها أعنى قوله تعالى (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) وقوله تعالى (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) وكل كلام اكتفى

٧٠

بنفسه من غير تضمين له بغيره ولا حمله عليه وجب إجراؤه على مقتضى لفظه دون تعليقه بغيره فلما كان قوله (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) جملة مكتفية بنفسها يقتضى عمومها تحريم أمهات النساء مع وجود الدخول وعدمه وكان قوله تعالى (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) جملة قائمة بنفسها على ما فيها من شرط الدخول لم يجز لنا بناء إحدى الجملتين على الأخرى بل الواجب إجراء المطلق منهما على إطلاقه والمقيد على تقييده وشرطه إلا أن تقوم الدلالة على أن إحداهما مبنية عن الأخرى محمولة على شرطها* وأخرى وهي أن قوله تعالى (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) يجرى هذا الشرط مجرى الاستثناء تقديره وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم إلا اللاتي لم تدخلوا بهن لأن فيه إخراج بعض ما انتظمه العموم فلما كان ذلك في معنى الاستثناء وكان من حكم الاستثناء عوده إلى ما يليه إلا أن تقوم الدلالة على رجوعه إلى ما تقدم وجب أن يكون حكمه مقصورا على الربائب ولم يجز رده إلى ما تقدمه إلا بدلالة* وأخرى وهي أن شرط الدخول تخصيص لعموم اللفظ وهو لا محالة مستعمل في الربائب ورجوعه إلى أمهات النساء مشكوك فيه وغير جائز تخصيص العموم بالشك فوجب أن يكون عموم التحريم في أمهات النساء مقرا على بابه* وأخرى وهي أن إضمار شرط الدخول لا يصح في أمهات النساء مظهرا لأنه لا يستقيم أن يقال وأمهات نسائكم من نسائكم التي دخلتم بهن لأن أمهات نسائنا لسن من نسائنا والربائب من نسائنا لأن البنت من الأم وليست الأم من البنت فلما لم يستقم الكلام بإظهار أمهات النساء في الشرط لم يصح إضماره فيه* فثبت بذلك أن قوله (مِنْ نِسائِكُمْ) إنما هو من وصف الربائب دون أمهات النساء وأيضا فلو جعلنا قوله (مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) نعتا لأمهات النساء وجعلنا تقديره وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن لخرج الربائب من الحكم وصار حكم الشرط في أمهات النساء دونهن وذلك خلاف نص التنزيل فثبت أن شرط الدخول مقصور على الربائب دون أمهات النساء وقد حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إسماعيل ابن الفضل قال حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال أيما رجل نكح امرأة فدخل بها فلا يحل له نكاح ابنتها

٧١

وإن لم يدخل بها فلينكح ابنتها وأيما رجل نكح امرأة فدخل بها أو لم يدخل بها فلا يحل له نكاح أمها * وقد حكى عن السلف اختلاف في حكم الربيبة فذكر ابن جريج قال أخبرنى إبراهيم بن عبيد بن رفاعة عن مالك بن أوس عن على بن أبى طالب كرم الله وجهه أنه قال في الربيبة إذا لم تكن في حجر الزوج وكانت في بلد آخر ثم فارق الأم بعد الدخول أنه جائز له أن يتزوج الربيبة ونسب عبد الرزاق إبراهيم هذا فقال إبراهيم ابن عبيد في غير هذا الحديث وهو مجهول لا تثبت بمثله مقالة ومع ذلك فإن أهل العلم ردوه ولم يتلقه أحد منهم بالقبول وقد ذكر قتادة عن خلاس عن على أن الربيبة والأم تجريان مجرى واحدا وهو خلاف هذا الحديث لأن الأم لا محالة تحرم بالدخول بالبنت وقد جعل الربيبة مثلها فاقتضى تحريم البنت بالدخول فالأم سواء كانت في حجره أو لم تكن وذكر في حديث إبراهيم هذا أن عليا احتج في ذلك بأن الله تعالى قال (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) فإذا لم تكن في حجره لم تحرم وحكاية هذا الحجاج يدل على وهي الحديث وضعفه لأن عليا لا يحتج بمثله وذلك لأنا قد علمنا أن قوله (وَرَبائِبُكُمُ) لم يقتض أن تكون تربية زوج الأم لها شرطا في التحريم وأنه متى لم يربها لم تحرم وإنما سميت بنت المرأة ربيبة لأن الأعم الأكثر أن زوج الأم يربيها ثم معلوم أن وقوع الاسم على هذا المعنى لم يوجب كون تربيته إياها شرطا في التحريم كذلك قوله (فِي حُجُورِكُمْ) كلام خرج على الأعم الأكثر من كون الربيبة في حجر الزوج وليست هذه الصفة شرطا في التحريم كما أن تربية الزوج إياها ليست شرطا فيه وهذا كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض * وفي ست وثلاثين بنت لبون وليس كون المخاض أو اللبن بالأم شرطا في المأخوذ وإنما ذكره لأن الأغلب أنها إذا دخلت في السنة الثانية كان بأمها مخاض وإذا دخلت في الثالثة كان بأمها لبن فإنما أجرى الكلام على غالب الحال كذلك قوله تعالى (فِي حُجُورِكُمْ) على هذا الوجه* قال أبو بكر لا خلاف بين أهل العلم في تحريم من ذكر ممن لا يعتق عليه بملك اليمين وأن الأم والأخت من الرضاعة محرمتان بملك اليمين كما هما بالنكاح وكذلك أم المرأة وابنتها إذا دخل بالأم وأن كل واحدة منهما محرمة عليه تحريما مؤبدا إذا وطئ الأخرى وكذلك لا خلاف أنه لا يجوز له الجمع بين أم وبنت بملك اليمين* وروى ذلك عن عمر وابن

٧٢

عباس وابن عمر وعائشة ولا خلاف أيضا أن الوطء بالنكاح فيما يتعلق به تحريم مؤبد قوله تعالى (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) قال عطاء بن أبى رباح نزلت في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين تزوج امرأة زيد ونزلت (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) و (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) قال وكان يقال له زيد بن محمد* قال أبو بكر حليلة الابن هي زوجته ويقال* إنما سميت حليلة لأنها تحل معه في فراش* وقيل لأنه يحل له منها الجماع بعد النكاح والأمة وإن استباح فرجها بالملك لا تسمى حليلة ولا تحرم على الأب ما لم يطأها وعقد نكاح الابن عليهما يحرمها على أبيه تحريما مؤبدا وهذا يدل على أن الحليلة اسم يختص بالزوجة دون ملك اليمين ولما علق حكم التحريم بالتسمية دون ذكر الوطء اقتضى ذلك تحريمهن بالعقد دون شرط الوطء لأنا لو شرطنا الوطء لكان فيه زيادة في النص ومثلها يوجب النسخ لأنها تبيح ما حظرته الآية وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين* قال أبو بكر وقوله تعالى (الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) قد تناول عند الجميع تحريم حليلة ولد الولد على الجد وهذا يدل على أن ولد الولد يطلق عليه أنه من صلب الجد لأن إطلاق الآية قد اقتضاها عند الجميع وفيه دلالة على أن ولد الولد منسوب إلى الجد بولادة وهذه الآية في تخصيصها حليلة الابن من الصلب في معنى قوله تعالى (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) لما تضمنه من إباحة تزويج حليلة الابن من جهة التبني* وقوله (فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ) يدل على أن حليلة الابن هي زوجته لأنه عبر في هذا الموضوع عنهم باسم الأزواج وفي الآية الأولى بذكر الحلائل. قوله تعالى (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) قال أبو بكر قد اقتضى ذلك تحريم الجمع بين الأختين في سائر الوجوه لعموم اللفظ والجمع على وجوه* منها أن يعقد عليهما جميعا معا فلا يصح نكاح واحدة منهما لأنه جامع بينهما وليست إحداهما بأولى يجوز نكاحها من الأخرى ولا يجوز تصحيح نكاحهما مع تحريم الله تعالى الجمع بينهما وغير جائز تخيير الزوج في أن يختار أيتهما شاء من قبل أن العقدة وقعت فاسدة مثل النكاح في العدة أو هي تحت زوج فلا يصح أبدا* ومن الجمع أن يتزوج أحدهما ثم يتزوج الأخرى بعدها فلا يصح نكاح الثانية لأن الجمع بها حصل وعقدها وقع منهيا عنه وعقد الأولى وقع مباحا فيفرق بينه وبين الثانية

٧٣

ومن الجمع أيضا أن يجمع بين وطئهما بملك اليمين فيطأ إحداهما ثم يطأ الأخرى قبل إخراج الموطوءة الأولى من ملكه فهذا ضرب من الجمع وقد كان فيه خلاف بين السلف ثم زال وحصل الإجماع على تحريم الجمع بينهما بملك اليمين وروى عن عثمان وابن عباس أنهما أباحا ذلك وقالا أحلتهما آية وحرمتهما آية وقال عمر وعلى وابن مسعود والزبير وابن عمر وعمار وزيد بن ثابت لا يجوز الجمع بينهما بملك اليمين وقال الشعبي سئل على عن ذلك فقال أحلتهما آية وحرمتهما آية فالحرام أولى وروى عبد الرحمن المقري قال حدثنا موسى بن أيوب الغافقي قال حدثني عمى أياس بن عامر قال سألت على بن أبى طالب عن الأختين بملك اليمين وقد وطئ إحداهما هل يطأ الأخرى فقال أعتق الموطوءة حتى يطأ الأخرى وقال ما حرم الله من الحرائر شيئا إلا حرم من الإماء مثله إلا عدد الأربع وروى عن عمار مثل ذلك* قال أبو بكر أحلتهما آية يعنون به قوله تعالى (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) وقوله حرمتهما آية قوله (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) فروى عن عثمان الإباحة وروى عنه أنه ذكر التحريم والتحليل وقال لا آمر ولا أنهى عنه وهذا القول منه يدل على أنه كان ناظرا فيه غير قاطع بالتحليل والتحريم فيه فجائز أن يكون قال فيه بالإباحة ثم وقف فيه وقطع على فيه بالتحريم وهذا يدل على أنه كان من مذهبه أن الحظر والإباحة إذا اجتمعا فالحظر أولى إذا تساوى سبباهما وكذلك يجب أن يكون حكمهما في الأخبار المروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومذهب أصحابنا يدل على أن ذلك قولهم وقد بيناه في أصول الفقه وقد روى أياس بن عامر أنه قال لعلى إنهم يقولون إنك تقول أحلتهما آية وحرمتهما آية فقال كذبوا وهذا يحتمل أن يريد به نفى المساواة في مقتضى الآيتين وإبطال مذهب من يقول بالوقف فيه على ما روى عن عثمان لأنه قال في رواية الشعبي أحلتهما آية وحرمتهما آية والتحريم أولى وإنكاره أن يكون أحلتهما آية وحرمتهما آية إنما هو على جهة أن آيتي التحليل والتحريم غير متساويتين في مقتضاهما وأن التحريم أولى من التحليل ومن جهة أخرى أن إطلاق القول بأنه أحلتهما آية وحرمتهما آية من غير تقييد هو قول منكر لاقتضاء حقيقته أن يكون شيء واحد مباحا محظورا في حال واحدة فجائز أن يكون على رضى الله عنه أنكر إطلاق القول بأنه أحلتهما آية وحرمتهما آية من هذا الوجه وأنه إذا كان مقيدا بالقطع

٧٤

على أحد الوجهين كان سائغا جائزا على ما روى عنه في الخبر الآخر ومما يدل على أن التحريم أولى لو تساوت الآيتان في إيجاب حكميهما أن فعل المحظور يستحق به العقاب وترك المباح لا يستحق به العقاب والاحتياط الامتناع مما لا يأمن استحقاق العقاب به فهذه قضية واجبة في حكم العقل وأيضا فإن الآيتين غير متساويتين في إيجاب التحريم والتحليل وغير جائز الاعتراض بإحداهما على الأخرى إذ كل واحدة منهما ورودها في سبب غير سبب الأخرى وذلك لأن قوله تعالى (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) وارد حكم التحريم كقوله تعالى (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ) ، (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) وسائر من ذكر في الآية تحريمها وقوله تعالى (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) وارد في إباحة المسبية التي لها زوج في دار الحرب وأفاد وقوع الفرقة وقطع العصمة فيما بينهما فهو مستعمل فيما ورد فيه من إيقاع الفرقة بين المسبية وبين زوجها وإباحتها لمالكها فلا يجوز الاعتراض به على تحريم الجمع بين الأختين إذ كل واحدة من الآيتين واردة في سبب غير سبب الأخرى فيستعمل حكم كل واحدة منهما في السبب الذي وردت فيه* ويدل على ذلك أنه لا خلاف بين المسلمين في أنها لم تعترض على حلائل الأبناء وأمهات النساء وسائر من ذكر تحريمهن في الآية وأنه لا يجوز وطء حليلة الابن ولا أم المرأة بملك اليمين ولم يكن قوله تعالى (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) موجبا لتخصيصهن لوروده في سبب غير سبب الآية الأخرى كذلك ينبغي أن يكون حكمه في اعتراضه على تحريم الجمع وامتناع على رضى الله عنه ومن تابعه في ذلك من الصحابة من الاعتراض بقوله تعالى (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) على تحريم الجمع بين الأختين يدل على أن حكم الآيتين إذا وردتا في سببين إحداهما في التحليل والأخرى في التحريم أن كل واحدة منهما تجرى على حكمها في ذلك السبب ولا يعترض بها على الأخرى وكذلك ينبغي أن يكون حكم الخبرين إذا وردا عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مثل ذلك وقد بينا ذلك في أصول الفقه وأيضا لا نعلم خلافا بين المسلمين في حظر الجمع بين الأختين إحداهما بالنكاح والأخرى بملك اليمين نحو أن تكون عنده امرأة بنكاح فيشترى أختها أنه لا يجوز له وطؤهما جميعا وهذا يدل على أن تحريم الجمع قد انتظم ملك اليمين كما انتظم النكاح وعموم قوله تعالى (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) يقتضى تحريم جمعهما على سائر الوجوه وهو موجب لتحريم

٧٥

تزويج المرأة وأختها تعتد منه لما فيه من الجمع بينهما في استحقاق نسب ولديهما وفي إيجاب النفقة المستحقة بالنكاح والسكنى لهما وذلك كله من ضروب الجمع فوجب أن يكون محظورا منتفيا بتحريمه الجمع بينهما فإن قيل قوله تعالى (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) مقصور على النكاح دون غيره قيل له هذا غلط لاتفاق فقهاء الأمصار على تحريم الجمع بينهما بملك اليمين على ما بيناه وليس ملك اليمين بنكاح فعلمنا أن تحريم الجمع غير مقصور على النكاح وأيضا فإن اقتصارك بالتحريم على النكاح دون غيره من سائر ضروب الجمع تخصيص بغير دلالة وذلك غير سائغ لأحد وقد اختلف السلف وفقهاء الأمصار في ذلك فروى عن على وابن عباس وزيد بن ثابت وعبيدة السلماني وعطاء ومحمد بن سيرين ومجاهد في آخرين من التابعين أنه لا يتزوج المرأة في عدة أختها وكذلك لا يتزوج الخامسة وإحدى الأربع تعتد منه فبعضهم أطلق العدة وهو قول أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد وزفر والثوري والحسن بن صالح وروى عن عروة بن الزبير والقاسم بن محمد وخلاس له أن يتزوج أختها إذا كانت عدتها من طلاق بائن وهو قول مالك والأوزاعى والليث والشافعى واختلف عن سعيد بن المسيب والحسن وعطاء فروى عن كل واحد منهم روايتان إحداهما أنه يتزوجها والأخرى أنه لا يتزوجها وقال قتادة رجع الحسن عن قوله أنه يتزوجها في عدة أختها وما قدمنا من دلالة الآية وعمومها في تحريم الجمع كاف في إيجاب التحريم وما دامت الأخت معتدة منه ويدل عليه من جهة النظر اتفاق الجميع على تحريم الجمع بين وطء الأختين بملك اليمين والمعنى فيه أن إباحة الوطء حكم من أحكام النكاح وإن لم يكن نكاحا ولا عقد فواجب على ذلك تحريم الجمع بينهما في حكم من أحكام النكاح فلما كان استلحاق النسب ووجوب النفقة والسكنى من أحكام النكاح وجب أن يكون ممنوعا من الجمع بينهما فيه فإن قيل كيف يكون جامعا بينهما مع ارتفاع الزوجية وكونها أجنبية منه ولو كان قد طلقها ثلاثا ثم وطئها في العدة وجب عليه الحد وهذا يدل على أنها بمنزلة الأجنبية منه فلا تمنع تزويج أختها قيل له لا يختلفان في وجوب الحد لأنه كما يجب عليها بوطئه إياها ومع ذلك لا يجوز لها أن تتزوج وتجمع إلى حقوق نكاح الأول زوجا آخر ولم يكن وجوب الحد عليها بمطاوعتها إياه على الوطء مبيحا لها نكاح زوج آخر بل كانت في المنع من زوج ثان بمنزلة من هي في حباله وكذلك الزوج لا يجوز

٧٦

له جمع أختها في هذه الحال مع بقاء حقوق النكاح وإن كان وطؤه إياها موجبا للحد ودليل آخر وهو أنه لما كان تحريم نكاح الأخت من طريق الجمع ووجدنا تحريم نكاح زوج آخر إذا كانت عند زوج من طريق الجمع ثم وجدنا العدة تمنع من الجمع ما تمنع نفس النكاح وجب أن يكون الزوج ممنوعا من تزويج أختها في عدتها كما منع ذلك في حال بقاء نكاحها إذ كانت العدة تمنع من الجمع ما يمنعه نفس النكاح كما جرت العدة مجرى النكاح في باب منعها من نكاح زوج آخر حتى تنقضي عدتها فإن قيل هذا يوجب أن يكون الرجل في العدة إذا منعته من تزويج الأخت حتى تنقضي عدتها قيل له ليس تحريم النكاح مقصورا على العدة حتى إذا منعناه من نكاح أختها فقد جعلناه في العدة ألا ترى أنه ممنوع من تزوج أختها إذا كانت معتدة منه من طلاق رجعي ولم يوجب الرجل في العدة وكذلك قبل طلاق كل واحد منهما ممنوع من عقد نكاح على الأخت أو لزوج آخر وليس واحد منهما في العدة وقوله تعالى (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) قال أبو بكر قد ذكرنا معنى قوله (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) عند ذكر قوله تعالى (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) واختلاف المختلفين في تأويله واحتماله لما قيل فيه وقال تعالى عند ذكر تحريم الجمع بين الأختين (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) وهو في هذا الموضع يحتمل من المعاني ما احتمله الأول وفيه احتمال لمعنى آخر لا يحتمله الأول وهو أن يكون معناه أن العقود المتقدمة على الأختين لا تنفسخ ويكون أن يختار إحداهما ويدل عليه حديث أبى وهب الجيشاني عن الضحاك بن فيروز الديلمي عن أبيه قال أسلمت وعندي أختان فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال طلق إحداهما وفي بعض الألفاظ طلق أيتهما شئت فلم يأمره بمفارقتهما إن كان العقد عليهما معا ولم يأمره بمفارقة الآخرة منهما إن كان تزوجهما في عقدين ولم يسئله عن ذلك فدل ذلك على بقاء نكاحه عليهما بقوله طلق أيتهما شئت ودل ذلك على أن العقد عليهما كان صحيحا قبل نزول التحريم وأنهم كانوا مقرين على ما كانوا عليه من عقودهم قبل قيام حجة السمع ببطلانها واختلاف أهل العلم في الكافر يسلم وتحته أختان أو خمس أجنبيات فقال أبو حنيفة وأبو يوسف والثوري يختار الأوائل منهن إن كان خمسا وإن كانتا أختين اختار الأولى وإن كان تزوجهن في عقدة واحدة فرق بينه وبينهن وقال محمد بن الحسن ومالك والليث والأوزاعى والشافعى يختار من الخمس

٧٧

أربعا أيتهن شاء ومن الأختين أيتهما شاء إلا أن الأوزاعى روى عنه في الأختين أن الأولى امرأته ويفارق الآخرة وقال الحسن بن صالح يختار الأربع الأوائل فإن لم يدر أيتهن الأولى طلق كل واحدة حتى تنقضي عدتها ثم يتزوج أربعا* والدليل على صحة القول الأول قوله تعالى (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) وذلك خطاب لجميع المكلفين فكان عقد الكافر على الأختين بعد نزول التحريم كعقد المسلم في حكم الفساد فوجب التفريق بينه وبين الآخرة لوقوع عقدها على فساد بنص التنزيل كما يفرق بينهما لو نكحها بعد الإسلام لقوله تعالى (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) والجمع واقع بالثانية وإن كان تزوجهما في عقدة واحدة فهي فاسدة فيهما جميعا لوقوعها منهيا عنها بظاهر النص فدل ذلك من وجهين على ما ذكرنا أحدهما وقوع العقدة منهيا عنها والنهى عندنا يقتضى الفساد والثاني أنه منع الجمع بينهما بحال فلو بقينا عقده عليهما بعد الإسلام كنا مثبتين لما نفاه الله تعالى من الجمع فدل ذلك على بطلان العقد الذي وقع به الجمع ومن جهة النظر أنه لما لم يجز أن يبتدئ المسلم عقدا على أختين ولم يجز أيضا أن يبقى له عقد على أختين وإن لم تكونا أختين في حال العقد كمن تزوج رضيعتين فأرضعهما امرأة فاستوى حكم الابتداء والبقاء في نفى الجمع بينهما أشبه نكاح ذوات المحارم في استواء حال البقاء والابتداء فيهما فلما لم يختلف العقد على ذوات المحارم في وقوعه في حال الكفر وحال الإسلام ووجب التفريق متى طرأ عليه الإسلام وكان بمنزلة ابتداء العقد بعد الإسلام وجب مثله في نكاح الأختين وأكثر من أربع نسوة وكما لم يختلف حكم البقاء والابتداء فيهما كما قلنا في ذوات المحارم واحتج من خيره بعد الإسلام بحديث فيروز الديلمي الذي قدمناه وبما روى ابن أبى ليلى عن حميضة بن الشمر دل عن الحرث بن قيس قال أسلمت وعندي ثمان نسوة فأمرنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أختار منهن أربعا وبما روى معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر أن غيلان بن سلمة أسلم وعنده عشر نسوة فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خذ منهن أربعا فأما حديث فيروز فإن في لفظه ما يدل على صحة العقد وكان قبل نزول التحريم لأنه قال أيتهما شئت وهذا يدل على بقاء العقد عليهما بعد الإسلام وحديث الحارث بن قيس يحتمل أن يكون العقد كان قبل نزول التحريم فكان صحيحا إلى أن طرأ التحريم فلزمه اختيار الأربع منهن ومفارقة سائرهن كرجل له امرأتان فطلق إحداهما

٧٨

ثلاثا فيقال له اختر أيهما شئت لأن العقد كان صحيحا إلى أن طرأ التحريم فإن قيل لو كان ذلك يختلف لسأله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن وقت العقد* قيل له يجوز أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد علم ذلك فاكتفى بعلمه عن مسألته وأما حديث معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه في قصة غيلان فإنه مما لا يشك أهل النقل فيه أن معمرا أخطأ فيه بالبصرة وأن أصل هذا الحديث مقطوع من حديث الزهري رواه مالك عن الزهري قال بلغنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لرجل من ثقيف أسلم وعنده عشر نسوة اختر منهن أربعا ورواه عنه عقيل ابن خالد عن ابن شهاب قال بلغنا عن عثمان بن محمد بن أبى سويد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لغيلان بن سلمة وكيف يجوز أن يكون عنده عن سالم عن أبيه فيجعله بلاغا عن عثمان ابن محمد بن أبى سويد ويقال إنه إنما جاء الغلط من قبل أن معمرا كان عنده عن الزهري حديثان في قصة غيلان أحدهما هذا وهو بلاغ عن عثمان بن محمد بن أبى سويد والآخر حديثه عن سالم عن أبيه أن غيلان بن سلمة طلق نساءه في زمن عمر وقسم ماله بين ورثته فقال له عمر لئن لم تراجع نساءك ثم مت لأورثهن ثم لأرجمن قبرك كما رجم قبر أبى رغال فأخطأ معمر وجعل إسناد هذا الحديث لحديث إسلامه مع النسوة.

(فصل) قال أبو بكر والمنصوص على تحريمه في الكتاب هو الجمع بين الأختين وقد وردت آثار متواترة في النهى عن الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها رواه على وابن عباس وجابر وابن عمرو أبو موسى وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وعائشة وعبد الله ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على بنت أخيها ولا على بنت أختها وفي بعضها لا الصغرى على الكبرى ولا الكبرى على الصغرى على اختلاف بعض الألفاظ مع اتفاق المعنى وقد تلقها الناس بالقبول مع تواترها واستفاضتها وهي من الأخبار الموجبة للعلم والعمل فوجب استعمال حكمها مع الآية وشذت طائفة من الخوارج بإباحة الجمع بين من عدا الأختين لقوله تعالى (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) واخطأت في ذلك وضلت عن سواء السبيل لأن الله تعالى كما قال (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) قال (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) وقد ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحريم الجمع بين من ذكرنا فوجب أن يكون مضموما إلى الآية فيكون قوله تعالى (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) مستعملا فيمن عدا الأختين وعدا من بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحريم الجمع بينهن

٧٩

وليس يخلو قوله تعالى (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) من أن يكون نزل قبل حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتحريم من حرم الجمع بينهن أو معه أو بعده وغير جائز أن يكون قوله تعالى (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) بعد الخبر لأن قوله تعالى (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) مرتب على تحريم من ذكر تحريمهن منهن لأن قوله (ما وَراءَ ذلِكُمْ) المراد به ما وراء من تقدم ذكر تحريمهن وقد كان قبل تحريم الجمع بين الأختين جميع ذلك مباحا فعلمنا أن تحريم من ذكر تحريم الجمع بينهن في الخبر لم يكن قبل تحريم الجمع بين الأختين وإذا امتنع أن يكون الخبر قبل الآية لم يخل من أن يكون معها أو بعدها فإن كان معها فلم ترد الآية إلا خاصة فيما عدا ما ذكر في الخبر تحريم جمعهن وعلمنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذلك عقيب تلاوة الآية وبين مراد الله تعالى بها فلم يعقل السامعون للآية حكما إلا خاصا على ما بينا وإن كان حكم الآية استقر على مقتضى عموم لفظها ثم ورد الخبر فإن هذا لا يكون إلا على وجه النسخ ونسخ القرآن جائز بمثله لتواتره واستفاضته وكونه في حيز الأخبار الموجبة للعلم والعمل فإن لم يثبت عندنا تاريخ الآية والخبر مع حصول اليقين بأنه غير منسوخ بالآية لأنه لم يرد قبلها على ما بينا آنفا وجب استعماله مع الآية وأولى الأشياء أن يكون الآية والخبر وردا معا لأنه ليس عندنا علم بتاريخهما وغير جائز لنا الحكم بتأخره عن الآية ونسخ بعض أحكام الآية به لأن ذلك لا يكون إلا بعد استقرار حكم الآية على عمومها ثم ورد النسخ عليها بالخبر فوجب الحكم بورودهما معا ولأن الآية والخبر إذا لم يعلم تاريخهما وجب الحكم بهما معا كالغرقى والقوم الذين يقع عليهم البيت إذا لم يعلم موت أحدهم متقدما على الآخر حكمنا بموتهم جميعا معا والله أعلم.

باب نكاح ذوات الزوج

قال الله تعالى (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ) عطفا على من حرم من النساء من عند قوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) فروى سفيان عن حماد عن إبراهيم عن عبد الله (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) قال ذوات الأزواج من المسلمين والمشركين وقال على بن أبى طالب ذوات الأزواج من المشركين وقد روى عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس كل ذات زوج إتيانها زنا إلا ما سبيت* قال أبو بكر اتفق هؤلاء على أن المراد بقوله تعالى (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) ذوات الأزواج منهن وأن

٨٠