أحكام القرآن - ج ٣

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٨٢

المذهب الذي حكيناه عن ابن أبى ليلى وأبى يوسف إذا كان العدو في القبلة وروى أيوب وهشام عن أبى الزبير عن جابر هذا المعنى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذلك رواه داود بن حصين عن عكرمة عن ابن عباس وكذلك عبد الملك عن عطاء عن جابر وكذلك قتادة عن الحسن عن حطان عن أبى موسى من فعله ورواه عكرمة بن خالد عن مجاهد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذلك هشام بن عروة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد روى عن ابن عباس وجابر ما قدمنا ذكره قبل هذا واختلفت الرواية عنهما فيها* وروى فيها نوع آخر وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا الحسن بن على قال حدثنا أبو عبد الرحمن المقري قال حدثنا حياة بن شريح وابن لهيعة قالا أخبرنا أبو الأسود أنه سمع عروة بن الزبير يحدث عن مروان بن الحكم أنه سأل أبا هريرة هل صليت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الخوف فقال أبو هريرة نعم قال مروان متى فقال أبو هريرة عام غزوة نجد قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى صلاة العصر فقامت معه طائفة وطائفة أخرى مقابل العدو وظهورهم إلى القبلة فكبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكبروا جميعا الذين معه والذين مقابلي العدو ثم ركع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعة واحدة وركعت الطائفة التي معه ثم سجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسجدت الطائفة التي تليه والآخرون قيام مقابلي العدو ثم قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقامت الطائفة التي معه فذهبوا إلى العدو فقابلوهم وأقبلت الطائفة التي كانت مقابلي العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائم كما هو ثم قاموا فركع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعة أخرى وركعوا معه وسجد وسجدوا معه ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابلي العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاعد ومن معه ثم كان السلام فسلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسلموا جميعا فكان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعتان ولكل رجل من الطائفتين ركعة ركعة * وقد روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نوع آخر من صلاة الخوف وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبيد الله بن معاذ قال حدثنا أبى قال حدثنا الأشعث عن الحسن عن أبى بكرة قال صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خوف الظهر فصف بعضهم خلفه وبعضهم بإزاء العدو فصلى ركعتين ثم سلم فانطلق الذين صلوا فوقفوا موقف أصحابهم ثم جاء أولئك فصلوا خلفه فصلى بهم ركعتين ثم سلم فكانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربعا ولأصحابه ركعتين ركعتين وبذلك كان يفتي الحسن قال أبو داود وكذلك يحيى ابن أبى كثير عن أبى سلمة عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذلك رواه سليمان

«١٦ ـ أحكام لث»

٢٤١

اليشكري عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم * قال أبو بكر وقد قدمنا قبل ذلك أن ابن عباس وجابرا رويا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه صلى بكل طائفة ركعة ركعة فكان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعتان ولكل طائفة ركعة وأن هذا محمول عندنا على أنه كان ركعة في جماعة وفعلها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذهب ابن أبى ليلى وأبو يوسف إذا كان العدو في القبلة إلى حديث أبى عياش الزرقي الذي ذكرناه وجائز أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد صلى هذه الصلوات على الوجوه التي وردت به الروايات وذلك لأنها لم تكن صلاة واحدة فتتضاد الروايات فيها وتتنافى بل كانت صلوات في مواضع مختلفة بعسفان في حديث أبى عياش الزرقي وفي حديث جابر ببطن النخل ومنها حديث أبى هريرة في غزوة نجد وذكر فيه أن الصلاة كانت بذات الرقاع وصلاها في حرة بنى سليم ويشبه أن يكون قد صلى في بعض هذه المواضع عدة صلوات لأن في بعض حديث جابر الذي يقول فيه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بكل طائفة ركعتين ذكر أنه كان بذات الرقاع وفي حديث صالح بن خوات أيضا أنه صلاها بذات الرقاع وهما مختلفان كل واحد منهما ذكر فيه من صفة صلاته خلاف صفة الأخرى وكذلك حديث أبى عياش الزرقي ذكر أنه صلاها بعسفان وذكر ابن عباس أيضا أنه صلاها بعسفان فروى تارة نحو حديث أبى عياش وتارة على خلافه واختلاف هذه الآثار تدل على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد صلى هذه الصلوات على اختلافها على حسب ورود الروايات بها وعلى ما رآه النبي احتياطا في الوقت من كيد العدو وما هو أقرب إلى الحذر والتحرز على ما أمر الله تعالى به من أخذ الحذر في قوله (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً) ولذلك كان الاجتهاد سائغا في جميع أقاويل الفقهاء على اختلافها لما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها إلا أن الأولى عندنا ما وافق ظاهر الكتاب والأصول وجائز أن يكون الثابت الحكم منها واحدا والباقي منسوخ وجائز أن يكون الجميع ثابتا غير منسوخ توسعة وترفيها لئلا يحرج من ذهب إلى بعضها ويكون الكلام في الأفضل منها كاختلاف الروايات في الترجيع في الأذان وفي تثنية الإقامة وتكبيرات العيدين والتشريق ونحو ذلك مما الكلام فيه بين الفقهاء في الأفضل فمن ذهب إلى وجه منها فغير معنف عليه في اختياره وكان الأولى عندنا ما وافق ظاهر الآية والأصول وفي حديث جابر وأبى بكرة

٢٤٢

أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بكل طائفة ركعتين فجائز أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد كان مقيما حين صلاها كذلك ويكون قولهما أنه سلم في الركعتين المراد به تسليم التشهد وذلك لأن ظاهر الكتاب ينفيه على الوجه الذي يقتضيه ظاهر الخبر لأن الله تعالى قال (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ) وظاهر الخبر يوجب أن يكونوا مصلين مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد السجود على الحال التي كانوا عليها قبله* فإن قيل كيف يكون مقيما في البادية وهي ذات الرقاع وليست موضع إقامة ولا هي بالقرب من المدينة* قيل له جائز أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج من المدينة لم ينو سفر ثلاث وإنما نوى في كل موضع يبلغ إليه سفر يومين فيكون مقيما عندنا إذ لم ينشئ سفر ثلاث وإن كان في البادية ويحتمل أن يكون فعلها في الوقت الذي يعاد الفرض فيه وذلك منسوخ عندنا وعلى أنه لو كان كذلك لم يكن صلاة خوف وإنما هي صلاة على هيئة سائر الصلوات ولا خلاف أن صلاة الخوف مخالفة لسائر الصلوات المفعولة في حال الأمن* وأما القول الذي روى عن أبى يوسف في أنه لا تصلى بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الخوف وأنه ينبغي أن تصلى عند الخوف بإمامين فإنه ذهب فيه إلى ظاهر قول الله تعالى (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) فخص هذه الصلاة بكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم وأباح لهم فعلها معه على هذا الوجه ليدركوا فضيلة الصلاة خلفه التي مثلها لا يوجد في الصلاة خلف غيره فغير جائز بعده لأحد أن يصليها إلا بإمامين لأن فضيلة الصلاة خلف الثاني كهي خلف الأول فلا يحتاج إلى مشى واختلاف واستدبار القبلة مما هو مناف للصلاة* قال أبو بكر فأما تخصيص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخطاب بها بقوله (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) فليس بموجب بالاقتصار عليه بهذا الحكم دون غيره لأن الذي قال (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) هو الذي قال (فَاتَّبِعُوهُ) فإذا وجدنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد فعل فعلا فعلينا اتباعه فيه على الوجه الذي فعله ألا ترى أن قوله (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ) لم يوجب كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخصوصا به دون غيره من الأئمة بعده وكذلك قوله (إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) وكذلك قوله (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) وقوله (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) فيه تخصيص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمخاطبة والأئمة بعده مرادون بالحكم معه وأما إدراك فضيلة الصلاة خلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فليس يجوز أن يكون علة لإباحة المشي في الصلاة واستدبار القبلة والأفعال التي تركها

٢٤٣

من فروض الصلاة لأنه لما كان معلوما أن فعل الصلاة خلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن فرضا فغير جائز أن يكونوا أمروا بترك الفرض لأجل إدراك الفصل فلما كان هذا على ما وصفنا بطل اعتلاله بذلك وصح أن فعل صلاة الخوف على الوجه الذي روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جائز بعده كما جاز معه وقد روى جماعة من الصحابة جواز فعل صلاة الخوف بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم ابن عباس وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبو موسى وحذيفة وسعيد ابن العاص وعبد الرحمن بن سمرة في آخرين منهم من غير خلاف يحكى عن أحد منهم ومثله يكون إجماعا لا يسع خلافه والله أعلم.

باب الاختلاف في صلاة المغرب

قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والحسن بن صالح والأوزاعى والشافعى يصلى بالطائفة الأولى ركعتين وبالطائفة الثانية ركعة إلا أن مالكا والشافعى يقولان يقوم الإمام قائما حتى يتموا لأنفسهم ثم يصلى بالطائفة الثانية ركعة أخرى ثم يسلم الإمام وتقوم الطائفة الثانية فيقضون ركعتين وقال الشافعى إن شاء الإمام ثبت جالسا حتى تتم الطائفة الأولى لأنفسهم وإن شاء كان قائما ويسلم الإمام بعد فراغ الطائفة الثانية وقال الثوري يقوم صف خلفه وصف موازى العدو فيصلى بهم ركعة ثم يذهبون إلى مقام أولئك ويجيء هؤلاء فيصلى بهم ركعة ويجلسون فإذا قام ذهب هؤلاء إلى مصاف أولئك وجاء أولئك فركعوا وسجدوا والإمام قائم لأن قراءة الإمام لهم قراءة وجلسوا ثم قاموا يصلون مع الإمام الركعة الثالثة فإذا جلسوا وسلم الإمام ذهبوا إلى مصاف أولئك وجاء الآخرون فصلوا ركعتين وذهب في ذلك إلى أن عليه التعديل بين الطائفتين في الصلاة فيصلى بكل واحدة ركعة وقد ترك هذا المعنى حين جعل للطائفة الأولى أن يصلى مع الإمام الركعة الأولى والثالثة والطائفة الثانية إنما صلت الركعة الثانية معه وقال الثوري إنه إذا كان مقيما فصلى بهم الظهر أنه يصلى بالطائفة الأولى ركعتين وبالثانية ركعتين فلم يقسم الصلاة بينهم على أن يصلى كل طائفة منهم معه ركعة على حيالها ومذهب الثوري هذا مخالف للأصول من وجه آخر وذلك أنه أمر الإمام أن يقوم قائما حتى تفرغ الطائفة الأولى من الركعة الثانية وذلك خلاف الأصول على ما بينا فيما سلف من مذهب مالك والشافعى والله أعلم بالصواب.

٢٤٤

ذكر اختلاف الفقهاء في الصلاة في حال القتال

قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر لا يصلى في حال القتال فإن قاتل في الصلاة فسدت صلاته وقال مالك والثوري يصلى إيماء إذا لم يقدر على الركوع والسجود وقال الحسن بن صالح إذا لم يقدر على الركوع من القتال كبر بدل كل ركعة تكبيرة وقال الشافعى لا بأس بأن يضرب في الصلاة الضربة ويطعن الطعنة فإن تابع الطعن والضرب أو عمل عملا يطول بطلت صلاته قال أبو بكر الدليل على أن القتال يبطل الصلاة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد صلى صلاة الخوف في مواضع على ما قدمنا ذكره ولم يصل يوم الخندق أربع صلوات حتى كان هوى (١) من الليل ثم قال ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى ثم قضاهن على الترتيب فأخبر أن القتال شغله عن الصلاة ولو كانت الصلاة جائزة في حال القتال لما تركها كما لم يتركها في حال الخوف في غير قتال وقد كانت الصلاة مفروضة في حال الخوف قبل الخندق لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بذات الرقاع صلاة الخوف وقد ذكر محمد بن إسحاق والواقديّ أن غزوة ذات الرقاع كانت قبل الخندق فثبت بذلك أن القتال ينافي الصلاة وأن الصلاة لا تصح معه وأيضا فلما كان القتال فعلا ينافي الصلاة لا تصح معه في غير الخوف كان حكمه في الخوف كهو في غيره مثل الحدث والكلام والأكل والشرب وسائر الأفعال المنافية للصلاة وإنما أبيح له المشي فيها لأن المشي لا ينافي الصلاة في كل حال على ما بيناه فيما سلف ولأنهم متفقون على أن المشي لا يفسدها فسلمناه للإجماع وما عداه من الأفعال المنافية للصلاة فهو محمول على أصله وقوله تعالى (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) يحتمل أن يكون المأمورون بأخذ السلاح الطائفة التي مع الإمام ويحتمل أن تكون الطائفة التي بإزاء العدو لأن في الآية ضميرا للطائفة التي بإزاء العدو وضميرها ظاهر في نسق الآية في قوله (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) ومن وجه آخر يدل على ما ذكرنا وهو أنه أمر الطائفة المصلية مع الإمام بأخذ السلاح ولم يقل فليأخذوا حذرهم لأن في وجه العدو طائفة غير مصلية حامية لها قد كفت هذه أخذ الحذر ثم قال تعالى (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) وفي ذلك دليل من وجهين على أن

__________________

(١) قوله هوي بفتح الهاء وضمها وكسر الواو وتشديد الياء الحين الطويل من الليل.

٢٤٥

قوله (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) إنما أريد به الطائفة التي مع الإمام أحدهما أنه لما ذكر الطائفة الثانية قال (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) ولو كانوا مأمورين بأخذ السلاح بديا لاكتفى بذكرها بديا لهم والوجه الثاني قوله (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) فجمع لهم بين الأمرين من أخذ الحذر والسلاح جميعا لأن الطائفة الأولى قد صارت بإزاء العدو وهي في الصلاة وذلك أولى بطمع العدو فيهم إذ قد صارت الطائفتان جميعا في الصلاة فدل ذلك على أن قوله (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) إنما أريد به الطائفة الأولى وهذا أيضا يدل على أن الطائفة التي تقف بإزاء العدو بديا غير داخلة في الصلاة وأنها إنما تدخل في الصلاة بعد مجيئها في الركعة الثانية ولذلك أمرت بأخذ الحذر والسلاح جميعا لأن الطائفة التي في وجه العدو في الصلاة فيشتد طمع العدو فيها لعلمهم باشتغالها بالصلاة ألا ترى أن خالد بن الوليد قال لأصحابه بعسفان (١) بعد ما صلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الظهر دعوهم فإن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم فإذا صلوها حملنا عليهم فصلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الخوف ولذلك أمرهم الله بأخذ الحذر والسلاح جميعا والله أعلم ولما جاز أخذ السلاح في الصلاة وعمل ذلك فيها دل على أن العمل اليسير معفو عنه فيها قوله تعالى (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً) إخبار عما كان عزم عليه المشركون من الإيقاع بالمسلمين إذا اشتغلوا بالصلاة فأطلع الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه وأمر المسلمين بأخذ الحذر منهم* قوله تعالى (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) فيه إباحة وضع السلاح لما فيه من المشقة في حال المرض والوحل والطين وسوى الله تعالى بين أذى المطر والمرض ورخص فيهما جميعا في وضع السلاح وهذا يدل على أن من كان في وحل وطين فجائز له أن يصلى بالإيماء كما يجوز ذلك له في حال المرض إذا لم يمكنه الركوع والسجود إذ كان الله تعالى قد سوى بين أذى المطر والمرض فيما وصفنا وأمر مع ذلك بأخذ الحذر من العدو وأن لا يغفلوا عنه فيكون سلاحهم بالقرب منهم بحيث يمكنهم أخذه إن حمل عليهم العدو قوله تعالى (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ)

__________________

(١) قوله ألا ترى أن خالد بن الوليد قال لأصحابه بعسفان إلى آخره لأن خالدا رضى الله عنه لم يكن إذ ذاك أسلم وكان قائدا للمشركين في تلك الغزوة كما في صحيح أبى داود.

٢٤٦

قال أبو بكر أطلق الله تعالى الذكر في غير هذا الموضع وأراد به الصلاة في قوله (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) يروى أن عبد الله بن مسعود رأى الناس يصيحون في المسجد فقال ما هذا النكر قالوا أليس الله يقول (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) فقال إنما يعنى بهذه الصلاة المكتوبة إن لم تستطع قائما فقاعدا وإن لم تستطع فصل على جنبك وروى عن الحسن (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) هذه رخصة من الله للمريض أن يصلى قاعدا وإن لم يستطع فعلى جنبه فهذا الذكر المراد به نفس الصلاة لأن الصلاة ذكر الله تعالى وفيها أيضا أذكار مسنونة ومفروضة وأما الذكر الذي في قوله تعالى (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) فليس هو الصلاة ولكنه على أحد وجهين أما الذكر بالقلب وهو الفكر في عظمة الله وجلاله وقدرته وفيما في خلقه وصنعه من الدلائل عليه وعلى حكمه وجميل صنعه والذكر الثاني الذكر باللسان بالتعظيم والتسبيح والتقديس وروى عن ابن عباس قال لم يعذر أحد في ترك الذكر إلا مغلوبا على عقله والذكر الأول أشرفهما وأعلاهما منزلة والدليل على أنه لم يرد بهذا الذكر الصلاة أنه أمر به بعد الفراغ منها بقوله تعالى (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) وقوله تعالى (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) فإنه روى عن الحسن ومجاهد وقتادة فإذا رجعتم إلى الوطن في دار الإقامة فأتموا الصلاة من غير قصر وقال السدى وغيره فعليكم أن تتموا ركوعها وسجودها غير مشاة ولا ركبان قال أبو بكر من تأول القصر المذكور في قوله تعالى (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) على إتمام الركعات عند زوال الخوف والسفر ومن تأوله على صفة الصلاة من فعلها بالإيماء أو على إباحة المشي فيها جعل قوله تعالى (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أمرا بفعل الصلاة المعهودة على الهيئة المفعولة قبل الخوف والله أعلم.

باب مواقيت الصلاة

قال الله تعالى (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) روى عن عبد الله بن مسعود أنه قال إن للصلاة وقتا كوقت الحج وعن ابن عباس ومجاهد وعطية مفروضا وروى عن ابن مسعود أيضا أنه قال موقوتا منجما كلما مضى نجم جاء نجم آخر وعن

٢٤٧

زيد بن أسلم مثل ذلك قال أبو بكر قد انتظم ذلك إيجاب الفرض ومواقيته لأن قوله تعالى (كِتاباً) معناه فرضا وقوله (مَوْقُوتاً) معناه أنه مفروض في أوقات معلومة معينة فأجمل ذكر الأوقات في هذه الآية وبينها في مواضع أخر من الكتاب من غير ذكر تحديد أوائلها وأواخرها وبين على لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحديدها ومقاديرها فمما ذكر الله في الكتاب من أوقات الصلاة قوله (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) ذكر مجاهد عن ابن عباس لدلوك الشمس قال إذا زالت الشمس عن بطن السماء لصلاة الظهر إلى غسق الليل قال بدو الليل لصلاة المغرب وكذلك روى عن ابن عمر في دلوكها أنه زوالها وروى أبو وائل عن عبد الله بن مسعود قال إن دلوكها غروبها وعن أبى عبد الرحمن السلمى نحوه قال أبو بكر لما تأولوا الآية على المعنيين من الزوال ومن الغروب دل على احتمالهما لو لا ذلك لما تأوله السلف عليهما والدلوك في اللغة الميل فدلوك الشمس ميلها وقد تميل تارة للزوال وتارة للغروب وقد علمنا أن دلوكها هو أول الوقت وغسق الليل نهايته وغايته لأنه قال (إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) وإلى غاية ومعلوم أن وقت الظهر لا يتصل بغسق الليل لأن بينهما وقت العصر فالأظهر أن يكون المراد بالدلوك هاهنا هو الغروب وغسق الليل هاهنا هو اجتماع الظلمة لأن وقت المغرب يتصل بغسق الليل ويكون نهاية له واحتمال الزوال مع ذلك قائم لأن ما بين زوال الشمس إلى غسق الليل وقت هذه الصلاة وهي الظهر والعصر والمغرب فيفيد ذلك أن من وقت الزوال إلى غسق الليل لا ينفك من أن يكون وقتا لصلاة فيدخل فيه الظهر والعصر والمغرب ويحتمل أن يراد به العتمة أيضا لأن الغاية قد تدخل في الحكم كقوله تعالى (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) والمرافق داخلة فيها وقوله (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) والغسل داخل في شرط الإباحة فإن حمل المعنى على الزوال انتظم أربع صلوات ثم قال (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) وهو صلاة الفجر فتنتظم الآية الصلوات الخمس وهذا معنى ظاهر قد دل عليه إفراده صلاة الفجر بالذكر إذ كان بينها وبين صلاة الظهر وقت ليس من أوقات الصلاة المفروضة فأبان تعالى أن من وقت الزوال إلى وقت العتمة وقتا لصلوات مفعولة فيه وأفرد الفجر بالذكر إذ كان بينها وبين الظهر فاصلة وقت ليس من أوقات الصلاة فهذه الآية يحتمل أن يريد بها بيان وقت صلاتين إذا كان المراد بالدلوك الغروب وهو وقت المغرب والفجر بقوله تعالى (وَقُرْآنَ

٢٤٨

الْفَجْرِ) ويحتمل أن يريد بها الصلوات الخمس على الوجه الذي بينا ويحتمل أن يريد بها الظهر والمغرب والفجر وذلك لأنه جائز أن يريد بقوله (إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) أقم الصلاة مع غسق الليل كقوله تعالى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) ومعناه مع أموالكم ويكون غسق الليل حينئذ وقتا لصلاة المغرب ويجوز أن يريد به وقت صلاة العتمة وقد روى ليث عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان يقول دلوك الشمس حين تزول إلى غسق الليل حين تجب الشمس قال وقال ابن مسعود دلوك الشمس حين تجب إلى غسق الليل حين يغيب الشفق وعن عبد الله أيضا أنه لما غربت الشمس قال هذا غسق الليل وعن أبى هريرة غسق الليل غيبوبة الشمس وقال الحسن غسق الليل صلاة المغرب والعشاء وقال إبراهيم النخعي غسق الليل العشاء الآخرة وعن أبى جعفر غسق الليل انتصافه وروى مالك عن داود بن الحصين قال أخبرنى مخبر عن ابن عباس أنه كان يقول غسق الليل اجتماع الليل وظلمته فهذه الآية فيها احتمال للوجوه التي ذكرنا من مواقيت الصلوات وقال تعالى (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) روى عمر وعن الحسن في قوله تعالى (طَرَفَيِ النَّهارِ) قال صلاة الفجر والأخرى الظهر والعصر (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) قال المغرب والعشاء فعلى هذا القول قد انتظمت الآية الصلوات الخمس وروى يونس عن الحسن أقم الصلاة طرفي النهار قال الفجر والعصر* وروى ليث عن الحكم عن أبى عياض قال قال ابن عباس جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة فسبحان الله حين تمسون المغرب والعشاء وحين تصبحون الفجر وعشيا العصر وحين تظهرون الظهر وعن الحسن مثله وروى أبو رزين عن ابن عباس وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب قال الصلاة المكتوبة وقال (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى) وهذه الآية منتظمة لأوقات الصلوات أيضا فهذه الآيات كلها فيها ذكر أوقات الصلوات من غير تحديد لها إلا فيما ذكر من الدلوك فإنه جعله أول وقت لتلك الصلاة ووقت الزوال والغروب معلومان وقوله تعالى (إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) ليس فيه بيان نهاية الوقت بلفظ غير محتمل للمعاني وقوله (حِينَ تُمْسُونَ) إن أراد به المغرب كان معلوما وكذلك تصبحون لأن وقت الصبح معلوم وقوله (طَرَفَيِ النَّهارِ) لا دلالة فيه على تحديد الوقت لاحتماله أن يريد الظهر والعصر وذلك لأن وسط

٢٤٩

النهار هو وقت الزوال فما كان منه في النصف الآخر فهو طرف وكذلك ما كان منه في النصف الأول فهو طرف وجائز أن يريد به العصر لأن آخر النهار من طرفه والأولى أن يكون المراد العصر دون الظهر لأن طرف الشيء إما أن يكون ابتداءه ونهايته وآخره ويبعد أن يكون ما قرب من الوسط طرفا إلا أن الحسن في رواية عمر وقد تأوله على الظهر والعصر جميعا وقد روى عنه يونس أنه العصر وهو أشبه بمعنى الآية ألا ترى أن طرف الثوب ما يلي نهايته ولا يسمى ما قرب من وسطه طرفا* فهذه الآي دالة* على أعداد الصلوات* وقوله تعالى (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) الآية يدل على أنها وتر لأن الشفع لا وسط له وقد تواترت الآثار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونقلت الأمة عنه قولا وفعلا فرض الصلوات الخمس وقد روى أنس بن مالك وعبادة بن الصامت في حديث المعراج عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه أمر بخمسين صلاة وأنه لم يزل يسئل ربه التخفيف حتى استقرت على خمس وهذا عندنا كان فرضا موقوفا على اختيار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذلك لأنه لا يجوز نسخ الفرض قبل التمكن من الفعل وقد بيناه في أصول الفقه ولا خلاف بين المسلمين في فرض الصلوات الخمس وقال جماعة من السلف بوجوب الوتر وهو قول أبى حنيفة وليس هو بفرض عنده وإن كان واجبا لأن الفرض ما كان في أعلى مراتب الإيجاب وقد ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آثار متواترة في بيان تحديد أوقات الصلوات واتفقت الأمة في بعضها واختلفت في بعض.

وقت الفجر

فأما أول وقت الفجر فلا خلاف فيه أنه من حين يطلع الفجر الثاني الذي يعترض في الأفق وروى سليمان التيمي عن أبى عثمان النهدي عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس الفجر أن يقول هكذا وجمع كفه حتى يكون هكذا ومد إصبعيه السبابتين * وروى قيس بن طلق عن أبيه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلوا واشربوا ولا* يهدينكم الساطع المصعد فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر * وروى سفيان عن عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الفجر فجران فجر يحل فيه الطعام وتحرم فيه الصلاة وفجر تحل فيه الصلاة ويحرم فيه الطعام وروى نافع ابن جبريل في حديث المواقيت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن جبريل عليه السلام أمه عند البيت فصلى الفجر في اليوم الأول

٢٥٠

حين برق الفجر وحرم الطعام والشراب على الصائم فهذا أول وقت الفجر وقد تواترت به الآثار واتفق عليه فقهاء الأمصار وأما آخر وقتها فهو إلى طلوع الشمس عند سائر الفقهاء وذكر ابن القاسم عن مالك أنه قال وقت الصبح الإغلاس والنجوم بادية مشتبكة وآخر وقتها إذا أسفر ويحتمل أن يكون مراده الوقت المستحب وكراهة التأخير إلى بعد الإسفار لا على معنى أنها تكون فائته إذا أخرها إلى بعد الإسفار قبل طلوع الشمس وقد روى عبد الله بن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال وقت الفجر ما لم تطلع الشمس وقد روى الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن للصلاة أولا وآخرا وأن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر وأن آخر وقتها حين تطلع الشمس وروى أبو هريرة أيضا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال من أدرك ركعة من صلاة الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك فألزم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مدرك هذا القدر من الوقت جميع الصلاة مثل الحائض تطهر والصبى يبلغ والكافر يسلم فثبت أن وقت الفجر إلى طلوع الشمس.

وقت الظهر

وأما أول وقت الظهر فهو من حين نزول الشمس ولا خلاف بين أهل العلم فيه وقال الله تعالى (وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) وقال (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) وقد بينا أن دلوك الشمس تحتمل الزوال والغروب جميعا وهو عليهما فتنتظم الآية الأمر بصلاة الظهر والمغرب وبيان أول وقتيهما ومن جهة السنة حديث ابن عباس وأبى سعيد وجابر وعبد الله بن عمر وبريدة الأسلمى وأبى هريرة وأبى موسى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذكر المواقيت حين أمه جبريل وأنه صلى الظهر حين زالت الشمس وفي بعضها ابتداء اللفظ من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال أول وقت الظهر إذا زالت الشمس وهي أحاديث مشهورة كرهت الإطالة بذكر أسانيدها وسياقة ألفاظها فصار أول وقت الظهر معلوما من جهة الكتاب والسنة واتفاق الأمة* وأما آخر وقتها فقد اختلف فيه الفقهاء فروى عن أبى حنيفة فيه ثلاث روايات إحداهن أن يصير الظل أقل من قامتين والأخرى وهي رواية الحسن بن زياد أن يصير ظل كل شيء مثله والثالثة أن يصير الظل قامتين وهي رواية الأصل وقال أبو يوسف ومحمد وزفر والحسن ابن زياد والحسن بن صالح والثوري والشافعى هو أن يصير ظل كل شيء مثله وحكى عن مالك أن وقت الظهر والعصر إلى

٢٥١

غروب الشمس ويحتج لقول من قال بالمثلين في آخر وقت الظهر بظاهر قوله (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) وذلك يقتضى فعل العصر بعد المثلين لأنه كلما كان أقرب إلى وقت الغروب فهو أولى باسم الطرف وإذا كان وقت العصر من المثلين فما قبله من وقت الظهر لحديث الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن أول وقت الظهر حين تزول الشمس وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر ويحتج أيضا لهذا القول بظاهر قوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) وقد بينا أن الدلوك يحتمل الزوال فإذا أريد به ذلك اقتضى ظاهره امتداد الوقت إلى الغروب إلا أنه ثبت أن ما بعد المثلين ليس بوقت للظهر فوجب أن يثبت إلى المثلين بالظاهر ويحتج فيه من جهة السنة بحديث ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجلكم في أجل من مضى قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ومثلكم ومثل أهل الكتابين قبلكم كرجل استأجر أجراء فقال من يعمل لي ما بين غدوة إلى نصف النهار على قيراط فعملت اليهود ثم قال من يعمل لي ما بين نصف النهار إلى العصر على قيراط فعملت النصارى ثم قال من يعمل لي ما بين العصر إلى المغرب على قيراطين فعملتم أنتم فغضبت اليهود والنصارى فقالوا كنا أكثر عملا وأقل عطاء قال هل نقصتم من جعلكم شيئا قالوا لا قال فإنما هو فضلي أوتيه من أشاء لالة هذا الخبر على ما ذكرنا من وجهين أحدهما قوله أجلكم في أجل من مضى قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس وإنما أراد بذلك الإخبار عن قصر الوقت وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثت أنا والساعة كهاتين وجمع بين السبابة والوسطى وفي خبر آخر كما بين هذه وهذه فأخبر فيه أن الذي بقي من مدة الدنيا كنقصان السبابة عن الوسطى وقد قدر ذلك بنصف السبع فثبت بذلك حين شبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجلنا في أجل من مضى قبلنا بوقت العصر في قصر مدته أنه لا ينبغي أن يكون من المثل لأنه لو كان كذلك لكان أكثر من ذلك فدل ذلك على أن وقت العصر بعد المثلين والوجه الآخر من دلالة الخبر المثل الذي ضربه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنا ولأهل الكتابين بالعمل في الأوقات المذكورة وأنهم غضبوا فقالوا كنا أكثر عملا وأقل عطاء فلو كان وقت العصر في المثل لما كانت النصارى أكثر عملا من المسلمين بل كان يكون المسلمون أكثر عملا لأن ما بين المثل إلى الغروب أكثر مما بين الزوال إلى المثل فثبت بذلك أن وقت العصر أقصر من وقت الظهر فإن قيل إنما

٢٥٢

أراد أن وقتى الفريقين بذلك على حياله دون الإخبار عنهما مجموعين ألا ترى أنهم قالوا كنا أكثر عملا وأقل عطاء وليسا بمجموعهما أقل عطاء لأن عطاءهما جميعا هو مثل عطاء المسلمين ويدل عليه حديث عروة عن بشير بن أبى مسعود عن أبيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن جبريل أتاه في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله فقال قم فصل الظهر فأخبر أن جبريل أتاه بعد المثل فأمره بفعل الظهر فلو كان ما بعد المثل من وقت العصر لكان قد أخر الظهر عن وقتها فإن قيل في حديث ابن عباس وجابر وأبى سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه صلى العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله وهذا يوجب أن يكون وقت العصر بعد المثل قيل له أما حديث ابن عباس فإنه أخبر فيه عن إمامة جبريل عند باب البيت وذلك قبل الهجرة وفيه أنه صلى الظهر من اليوم الثاني لوقت العصر بالأمس وذلك يوجب أن يكون وقت الظهر ووقت العصر واحدا فيما صلاهما في اليومين فإن قيل إنما أراد أنه ابتدأ العصر في وقت فراغه من الظهر من الأمس قيل له في حديث ابن مسعود إن جبريل أتاه حين صار ظل كل شيء مثله في اليوم الأول فقال قم فصل العصر وأنه أتاه في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله فقال قم فصل الظهر فأخبر أن مجيئه إليه وأمره إياه بالصلاة كان بعد المثل وهذا يسقط تأويل من تأوله وإذا كان ذلك كذلك وقد روى عبد الله بن عمر وأبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال وقت الظهر ما لم يحضر وقت العصر وفي حديث أبى قتادة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى ثبت بذلك أن ما في حديث ابن عباس وابن مسعود على النحو الذي ذكرنا منسوخ وأنه كان قبل الهجرة وعلى أنه لو كان ثابت الحكم لوجب أن يكون الفعل الآخر ناسخا للأول وأن يكون الآخر منهما ثابتا والآخر من الفعلين أنه فعل الظهر في اليوم الثاني بعد المثل وذلك يقتضى أن يكون ما بعد المثل من وقت الظهر وفي حديث أبى موسى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سأله السائل عن مواقيت الصلاة أنه صلى العصر في اليوم الأول والشمس مرتفعة قبل أن تدخلها الصفرة وكذلك في حديث سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه صلى العصر في اليوم الأول والشمس بيضاء مرتفعة ولا يقال هذا فيمن صلاها حين يصير الظل مثله وقد ذكر أيضا في حديث ابن مسعود أنه صلى العصر في اليوم الأول والشمس بيضاء مرتفعة رواه جماعة من كبار أصحاب الزهري عن عروة منهم

٢٥٣

مالك والليث وشعيب ومعمر وغيرهم ورواه أيوب عن عتبة عن أبى بكر بن عمرو بن حزم عن عروة فذكر فيه مقادير الفيء على نحو ما قدمنا فحديث ابن مسعود يروى على هذين الوجهين فذكر في أحدهما أنه جاءه جبريل عليه السلام حين صار ظل كل شيء مثله فقال قم فصل الظهر وفي اليوم الثاني جاءه حين صار ظل كل شيء مثليه فقال قم فصل العصر وحديث الزهري عن عروة لم يذكر فيه مقدار الفيء وذكر أنه صلى العصر في اليوم الأول والشمس بيضاء مرتفعة لم تدخلها صفرة * وقد رويت أخبار في تعجيل العصر قد يحتج بها من يقول بالمثل وفيها احتمال لما قالوه ولغيره فلا تثبت بمثلها حجة في إثبات المثل دون غيره إذ لا حجة في المحتمل منها حديث أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلى العصر ثم يذهب الذاهب إلى العوالي فيجدهم لم يصلوا العصر قال الزهري والعوالي على الميلين والثلاثة وروى أبو واقد الليثي قال حدثنا أبو أروى قال كنت أصلى مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم العصر بالمدينة ثم أمشى إلى ذي الحليفة قبل أن تغرب الشمس وفي حديث أسامة ابن زيد عن الزهري عن عروة عن بشير بن أبى مسعود عن أبيه قال كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلى العصر والشمس بيضاء مرتفعة يسير الرجل حين ينصرف منها إلى ذي الحليفة ستة أميال قبل غروب الشمس وروى عن عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلى العصر والشمس في حجرتها قبل أن يظهر الفيء وفي لفظ آخر لم يفيء الفيء بعد * وليس في هذه الأخبار ذكر تحديد الوقت وما ذكر من المضي إلى العوالي وذي الحليفة فليس يمكن الوقوف منه على مقدار معلوم من الوقت لأنه على قدر الإبطاء والسرعة في المشي وقد كان شيخنا أبو الحسن رحمه الله تعالى يستدل بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم على أن ما بعد المثل وقت للظهر لأن الإبراد لا يكون عند المثل بل أشد ما يكون الحر في الصيف عند ما يصير ظل كل شيء مثله ومن قال بالمثل يجيب عن ذلك بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلى بالهجير عند الزوال والفيء قليل في ذلك الوقت فكان منهم من يصلى في الشمس أو بالقرب منها وكذلك قال خباب شكونا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حر الرمضاء فلم يشكنا ثم قال أبردوا بالظهر فأمرهم أن يصلوها بعد ما يفيء الفيء فهذا هو الإبراد المأمور به عند من قال بالمثل* وأما ما حكى عن مالك أن وقت الظهر والعصر إلى غروب الشمس فإنه قول ترده الأخبار المروية في المواقيت لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى في

٢٥٤

اليومين في حديث ابن عباس وابن مسعود وجابر وأبى سعيد وأبى موسى وغيرهم في أول الوقت وآخره ثم قال ما بين هذين وقت وفي حديث عبد الله بن عمر وأبى هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقت الظهر ما لم يحضر وقت العصر وفي بعض ألفاظ حديث أبى هريرة وآخر وقت الظهر حين يدخل وقت العصر فغير جائز لأحد أن يجعل وقت العصر وقتا للظهر مع إخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن آخر وقت الظهر حين يدخل وقت العصر وقد نقل الناس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الأوقات عملا وقولا كما نقلوا وقت الفجر ووقت العشاء والمغرب وعقلوا بتوقيفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن كل صلاة منها مخصوصة بوقت غير وقت الأخرى وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث أبى قتادة التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الآخر ولا خلاف أن تارك الظهر لغير عذر حتى يدخل وقت العصر مفرط فثبت أن للظهر وقتا مخصوصا وكذلك العصر وإن وقت كل واحدة منهما غير وقت الأخرى ولو كان الوقتان جميعا وقتا للصلاتين لجاز أن يصلى العصر في وقت الظهر من غير عذر ولما كان للجمع بعرفة خصوصية وفي امتناع جواز ذلك لغير عذر عند الجميع دلالة على أن كل واحدة من الصلاتين منفردة بوقتها* فإن احتجوا بقوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) وأن الدلوك هو الزوال وجعل ذلك كله وقتا للظهر إلى غروب الشمس لأنه روى في غسق الليل عن جماعة من السلف أنه الغروب* قيل له ظاهره يقتضى إباحة فعل هذه الصلاة من وقت الزوال إلى غسق الليل وقد اتفق الجميع على أن ذلك ليس بمراد وأنه غير مخير في فعل الظهر من وقت الزوال إلى الليل فثبت أن المراد صلاة أخرى يفعلها وهي إما العصر وإما المغرب والمغرب أشبه بمعنى الآية لاتصال وقتها بغسق الليل الذي هو اجتماع الظلمة فيكون تقدير الآية أقم الصلاة لزوال الشمس وأقمها أيضا إلى غسق الليل وهي صلاة أخرى غير الأولى فلا دلالة في الآية على أن وقت الظهر إلى غروب الشمس* وقد وافق الشافعى مالكا في هذا المعنى أيضا من وجه وذلك أنه يقول من أسلم قبل غروب الشمس لزمته الظهر والعصر جميعا وكذلك الحائض إذا طهرت والصبى إذا بلغ وذهب إلى أنه وإن لم يكن وقت اختيار فهو وقت الضرورة والعذر لأنه يجوز على أصله الجمع بين الصلاتين في السفر والمرض ونحوه بأن يؤخر الظهر إلى وقت العصر أو يجعل العصر فيصليها في وقت الظهر معها فجعل من أجل ذلك الوقت

٢٥٥

وقتا لهما في حال العذر والضرورة فإن كان هذا اعتبارا صحيحا فإنه يلزمه أن يقول في المرأة إذا حاضت في أول وقت الظهر أن تلزمها صلاة الظهر والعصر جميعا كما أنها إذا طهرت في آخر وقت العصر لزمتها صلاة الظهر والعصر جميعا وقد أدركت هذه التي حاضت في وقت الظهر من الوقت ما يجوز لها فيه الجمع بين الصلاتين للعذر وهذا لا يقوله أحد فثبت بذلك أن وقت العصر غير وقت الظهر في سائر الأحوال وأنه لا تلزم أحدا صلاة الظهر بإدراكه وقت العصر دون وقت الظهر.

وقت العصر

قال أبو بكر أما أول وقت العصر فهو على ما ذكرنا من خروج وقت الظهر على اختلافهم فيه والصحيح من قولهم أنه ليس بين وقت الظهر ووقت العصر واسطة وقت من غيرهما وما روى عن أبى حنيفة من أن آخر وقت الظهر أن يصير الظل أقل قامتين وأول وقت العصر إذا صار الظل قامتين فهو رواية شاذة وهي أيضا مخالفة للآثار الواردة في أن وقت الظهر ما لم يحضر وقت العصر وفي بعض ألفاظ حديث أبى هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآخر وقت الظهر حين يدخل وقت العصر وفي حديث أبى قتادة التفريط في الصلاة أن يتركها حتى يدخل وقت الأخرى والصحيح من مذهب أبى حنيفة أحد قولين إما المثلان وإما المثل وإن بخروج وقت الظهر يدخل وقت العصر* واتفق فقهاء الأمصار أن آخر وقت العصر غروب الشمس ومن الناس من يقول إن آخر وقتها حين تصفر الشمس ويحتج فيه بنهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصلاة عند غروب الشمس قال أبو بكر والدليل على أن آخر وقتها الغروب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من فاته العصر حتى غابت الشمس فكأنما وتر أهله وماله فجعل فواتها بالغروب وروى أبى هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك وهذا يدل على أن وقتها إلى الغروب فإن احتج محتج بحديث عبد الله بن عمر وأبى هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال آخر وقت العصر حين تصفر الشمس * فإن هذا عندنا على كراهة التأخير وبيان الوقت المستحب كما روى في حديث الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال آخر وقت العشاء الآخرة نصف الليل ومراده الوقت المستحب لأنه لا خلاف أن ما بعد نصف الليل إلى طلوع الفجر من وقت العشاء الآخرة وأن مدركه بالاحتلام أو الإسلام

٢٥٦

يلزمه فرضها وقد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال إن الرجل ليصلى الصلاة ولما فاته من وقتها خير له من أهله وماله فقد يكون وقت يلزمه به مدركه الفرض ويكره له تأخيرها إليه ألا ترى أنه يكره الإسفار بصلاة الفجر بمزدلفة ولم تخرجه كراهة التأخير إليه من أن يكون وقتا لها فكذلك الأخبار التي فيها تقدير آخر الوقت باصفرار الشمس واردة على فوات فضيلة الوقت الذي جعلها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيرا له من أهله وماله.

وقت المغرب

أول وقت المغرب من حين تغرب الشمس لا اختلاف بين الفقهاء في ذلك وقال الله عز وجل (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) وهو يقع على الغروب لما بيناه فيما سلف وقال تعالى (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) وهو ما قرب منه من النهار وهو أول أوقاته والله أعلم وقال تعالى (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ) قيل فيه إنه وقت المغرب وفي أخبار المواقيت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طريق ابن عباس وجابر وأبى سعيد وغيرهم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى المغرب في اليومين جميعا حين غابت الشمس وقال سلمة بن الأكوع كنا نصلى المغرب مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا تواترت بالحجاب * وقد ذهب شواذ من الناس إلى أن أول وقت المغرب حين يطلع النجم واحتجوا بما روى أبو تميم الجيشاني عن أبى بصرة الغفاري قال صلى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة العصر فقال إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها فمن حافظ عليها منكم أوتى أجره مرتين ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد والشاهد النجم وهذا حديث شاذ لا تعارض به الأخبار المتواترة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أول وقت المغرب أنه حين تغيب الشمس وقد روى ذلك أيضا عن جماعة من الصحابة منهم عمر وعبد الله وعثمان وأبى هريرة* ويحتمل أن يكون خبر أبى بصرة في ذكر طلوع الشاهد غير مخالف لهذه الأخبار وذلك لأن النجم قد يرى في بعض الأوقات بعد غروب الشمس قبل اختلاط الظلام فلما كان الغالب في ذلك أنه لا يكاد يخلو من أن يرى بعض النجوم بعد غروب الشمس جعل ذلك عبارة عن غيبوبة الشمس وأيضا فلو كان الاعتبار برؤية النجم لوجب أن تصلى قبل الغروب إذا رؤي النجم لأن بعض النجوم قد يرى في بعض الأوقات قبل الغروب ولا خلاف أنه غير جائز فعلها قبل

«١٧ ـ أحكام لث»

٢٥٧

الغروب مع رؤية الشاهد فسقط بذلك اعتبار طلوع الشاهد* وأما آخر وقت المغرب فإن أهل العلم مختلفون فيه فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والثوري والحسن بن صالح لوقت المغرب أول وآخر كسائر الصلوات وقال الشافعى ليس للمغرب إلا وقت واحد ثم اختلف من قال بأن له أولا وآخرا في آخر وقتها فقال أصحابنا والثوري والحسن بن صالح آخر وقتها أن يغيب الشفق ثم اختلفوا في الشفق فقال أبو حنيفة الشفق البياض وقال أبو يوسف ومحمد وابن أبى ليل ومالك والثوري والحسن ابن صالح والشافعى الشفق الحمرة وقال مالك وقت المغرب والعشاء إلى طلوع الفجر* قال أبو بكر وقد اختلف السلف أيضا في الشفق ما هو فقال بعضهم هو البياض وقال بعضهم الحمرة فممن قال أنه الحمرة ابن عباس وابن عمر وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس* وحدثنا أبو يعقوب يوسف بن شعيب المؤذن قال حدثنا أبو عمران موسى ابن القاسم العصار والحسين بن الفرج البزاز قالا حدثنا هشام بن عبيد الله قال حدثنا هياج عمن ذكر عن عطاء الخرسانى عن ابن عباس قال الشفق الحمرة قال هشام وحدثنا أبو سفيان عن العمرى عن نافع عن ابن عمر قال الشفق الحمرة* قال هشام وحدثنا محمد بن الحسن عن ثور بن يزيد عن مكحول قال كان عبادة بن الصامت وشداد بن أوس يصليان العشاء إذا غابت الحمرة ويريانها الشفق فهؤلاء الذين روى عنهم الحمرة وممن روى عنه أن الشفق البياض عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وعمر بن عبد العزيز حدثنا يوسف بن شعيب قال حدثنا موسى بن القاسم والحسين بن الفرج قالا حدثنا هشام بن عبيد الله قال حدثنا الوليد ابن مسلم قال حدثنا عنبسة بن سعيد الكلاعى قال حدثني قتادة عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب كتب إن أول وقت العشاء مغيب الشفق ومغيبه إذا اجتمع البياض من الأفق فينقطع فذلك أول وقتها قال هشام حدثنا أبو عثمان عن خالد بن يزيد عن إسماعيل بن عبيد الله عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل قال الشفق البياض* قال هشام وحدثنا محمد بن الحسن عمن ذكر عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول الشفق البياض.

(فصل) وأما الدلالة على أن لوقت المغرب أولا وآخرا وأنه غير مقدر بفعل الصلاة فحسب قوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) وقد ذكرنا من

٢٥٨

قال من السلف أنه الغروب واحتمال اللفظ له فاقتضت الآية أن يكون لوقت المغرب أول وآخر لأن قوله تعالى (إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) غاية وقد روى عن ابن عباس أن غسق الليل اجتماع الظلمة فثبت بدلالة الآية أن وقت المغرب من حين الغروب إلى اجتماع الظلمة وفي ذلك ما يقضى ببطلان قول من جعل لها وقتا واحدا مقدرا بفعل الصلاة وروى الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال أول وقت المغرب حين تسقط الشمس وأن آخر وقتها حين يغيب الأفق وفي حديث أبى بكرة عن أبى موسى عن أبيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن سائلا سأله عن مواقيت الصلاة فذكر الحديث وقال فيه وصلى المغرب في اليوم الأول حين وقعت الشمس وآخرها في اليوم الثاني حتى كان عند سقوط الشفق ثم قال الوقت فيما بين هذين وفي حديث علقمة بن مرثد عن سليمان ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن رجلا سأله عن وقت الصلاة فقال صل معنا فأقام المغرب حين غابت الشمس ثم صلى المغرب في اليوم الثاني قبل أن يغيب الشفق وكذلك في حديث جابر فثبت بذلك أن لوقت المغرب أولا وآخرا وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا همام عن قتادة عن أبى أيوب عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال وقت المغرب ما لم يغب الشفق وروى عروة بن الزبير عن زيد بن ثابت قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في صلاة المغرب بأطول الطوال وهي (المص) وهذا يدل على امتداد الوقت ولو كان الوقت مقدرا بفعل ثلاث ركعات لكان من قرأ (المص) قد أخرها عن وقتها فإن قيل روى في حديث ابن عباس وأبى سعيد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى المغرب في اليومين جميعا في وقت واحد بعد غروب الشمس قيل له هذا لا يعارض ما ذكرنا لأنه جائز أن يكون فعله كذلك ليبين الوقت المستحب وفي الأخبار التي رويناها بيان أول الوقت وآخره وإخبار منه بأن ما بين هذين وقت فهو أولى لأن فيه استعمال الخبرين ومع ذلك فإن فعله لها في اليومين في وقت واحد لو انفرد عما يعارضه من الأخبار التي ذكرنا لم تكن فيه دلالة على أنه لا وقت لها غيره كما لم يدل فعله للعصر في اليومين قبل اصفرار الشمس على أنه لا وقت لها غيره وكفعله للعشاء الآخرة في اليومين قبل نصف الليل لم يدل على أن ما بعد نصف الليل ليس بوقت لها ومن جهة النظر أن سائر الصلوات المفروضات لما كان لأوقاتها أول وآخر ولم تكن أوقاتها

٢٥٩

مقدرة بفعل الصلاة وجب أن يكون المغرب كذلك فقول من جعل الوقت مقدرا بفعل الصلاة خارج عن الأصول مخالف للأثر والنظر جميعا ومما يلزم الشافعى في هذا أنه يجيز الجمع بين المغرب والعشاء في وقت واحد إما لمرض أو سفر كما يجيزه بين الظهر والعصر فلو كان بينهما وقت ليس منهما لما جاز الجمع بينهما كما لا يجوز الجمع بين الفجر والظهر إذ كان بينهما وقت ليس منهما فإن قيل ليست علة الجمع تجاور الوقتين لأنه لا يجمع المغرب إلى العصر مع تجاوز الوقتين قيل له لم نلزمه أن يجعل تجاور الوقتين علة للجمع وإنما ألزمناه المنع من الجمع إذا لم يكن الوقتان متجاورين لأن كل صلاتين بينهما وقت ليس منهما لا يجوز الجمع بينهما والله أعلم بالصواب.

ذكر القول في الشفق والاحتجاج له

قال أبو بكر لما اختلف الناس في الشفق فقال منهم قائلون هو الحمرة وقال آخرون البياض علمنا أن الاسم يتناولهما ويقع عليهما في اللغة لو لا ذلك لما تأولوه عليهما إذ كانوا عالمين بمعاني الأسماء اللغوية والشرعية ألا ترى أنهم لما اختلفوا في معنى القرء فتأوله بعضهم على الحيض وبعضهم على الطهر ثبت بذلك أن الاسم يقع عليهما وإنما نحتاج بعد ذلك إلى أن نستدل على المراد منهما بالآية وحدثنا أبو عمر غلام ثعلب قال سئل ثعلب عن الشفق ما هو فقال البياض فقال له السائل الشواهد على الحمرة أكثر فقال ثعلب إنما يحتاج إلى الشاهد ما خفى فأما البياض فهو أشهر في اللغة من أن يحتاج إلى الشاهد قال أبو بكر ويقال إن أصل الشفق الرقة ومنه يقال ثوب شفق ومنه الشفقة وهي رقة القلب وإذا كان أصله كذلك فالبياض أخص به لأنه عبارة عن الأجزاء الرقيقة الباقية من ضياء الشمس وهو في البياض أرق منه في الحمرة ويشهد لمن قال بالحمرة قول أبى النجم.

حتى إذا الشمس اجتلاها المجتلى

بين سماطي شفق مهول (١)

فهي على الأفق كعين الأحول

ومعلوم أنه أراد الحمرة لأنه وصفها عند الغروب ومما يحتج به البياض قوله تعالى (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) قال مجاهد هو النهار ويدل عليه قوله (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) فأقسم

__________________

(١) قوله مهول هو الذي فيه تهاويل وهي الألوان المختلفة من حمرة وصفرة وغيرهما.

٢٦٠