أحكام القرآن - ج ٢

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٦

أن الفرقة قد كانت وقعت بلعان الزوج قبل لعان المرأة فبانت منه ولم يلحقها طلاق فكيف كان ينكر عليها طلاقا لم يقع ولم يثبت حكمه فإن قيل فما وجهه على مذهبك قيل له جائز أن يكون ذلك قبل أن يسن الطلاق للعدة ومنع الجمع بين التطليقات في طهر واحد فلذلك لم ينكر عليه الشارع صلّى الله عليه وسلّم وجائز أيضا أن تكون الفرقة لما كانت مستحقة من غير جهة الطلاق لم ينكر عليه إيقاعها بالطلاق وأما من قال سنة الطلاق أن لا يطلق إلا واحدة وهو ما حكيناه عن مالك بن أنس والليث والحسن بن حي والأوزاعى فإن الذي يدل على إباحة الثلاث في الأطهار المتفرقة قوله تعالى (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) وفي ذلك إباحة لإيقاع الاثنتين ولما اتفقنا على أنه لا يجمعهما في طهر واحد وجب استعمال حكمهما في الطهرين وقد روى في قوله تعالى (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) أنه للثالثة وفي تخيير له في إيقاع الثلاث قبل الرجعة ويدل عليه قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) قد انتظم إيقاع الثلاث للعدة وذلك لأنه معلوم أن المراد لأوقات العدة كما بينه الشارع صلّى الله عليه وسلّم في قوله يطلقها طاهرا من غير جماع أو حاملا قد استبان حملها فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء وإذا كان المراد به أوقات الأطهار تناول الثلاث كقوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) قد عقل منه تكرار فعل الصلاة لدلوكها في سائر الأيام كذلك قوله (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) لما كان عبارة عن أوقات الأطهار اقتضى تكرار الطلاق في سائر الأوقات وأيضا لما جاز له إيقاع الطلاق في الطهر الأول لأنها طاهر من غير جماع طهرا لم يوقع فيه طلاقا جاز إيقاعه في الطهر الثاني لهذه العلة وأيضا لما اتفقوا على أنه لو راجعها جاز له إيقاع الطلاق في الطهر الثاني وجب أن يجوز ذلك له إذا لم يراجعها لوجود المعنى الذي من أجله جاز إيقاعه في الطهر الأول إذ لا حظ للرجعة في إباحة الطلاق ولا في حظره ألا ترى أنه لو راجعها ثم جامعها في ذلك الطهر لم يجز له إيقاع الطلاق فيه ولم يكن للرجعة تأثير في إباحته فوجب أن يجوز له أن يطلقها في الطهر الثاني قبل الرجعة كما جاز له ذلك لو لم يراجع* فإن قيل لا فائدة في الثانية والثالثة لأنه إن أراد أن يبينها أمكنه ذلك بالواحدة بأن يدعها حتى تنقضي عدتها وقال تعالى (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) وهذا هو الفرق بينه إذا راجعها أو لم يراجعها في إباحة الثانية والثالثة إذا راجع وحظرهما إذا لم يراجع* قيل له في إيقاع الثانية

«٦ ـ أحكام في»

٨١

والثالثة فوائد بتعجلها لو لم يوقع الثانية والثالثة لم تحصل له وهو أن تبين منه بإيقاع الثالثة قبل انقضاء عدتها فيسقط ميراثها منه لو مات ويتزوج أختها وأربعا سواها على قول من يجيز ذلك في العدة فلم يخل في إيقاع الثانية والثالثة من فوائد وحقوق تحصل له فلم تكن لغوا مطرحا وجاز من أجلها إيقاع ما بقي من طلاقها في أوقات السنة كما يجوز ذلك لو راجعها وبالله التوفيق.

ذكر الاختلاف في الطلاق بالرجال

قال أبو بكر رحمه الله اتفق السلف ومن بعدهم من فقهاء الأمصار على أن الزوجين المملوكين خارجان من قوله تعالى (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) واتفقوا على أن الرق يوجب نقصان الطلاق فقال على وعبد الله الطلاق بالنساء يعنى أن المرأة إن كانت حرة فطلاقها ثلاث حرا كان زوجها أو عبدا وأنها إن كانت أمة فطلاقها اثنتان حرا كان زوجها أو عبدا وهو قول أبى حنيفة وأبى يوسف وزفر ومحمد والثوري والحسن بن صالح وقال عثمان وزيد بن ثابت وابن عباس الطلاق بالرجال يعنون أن الزوج إن كان عبدا فطلاقه اثنتان سواء كانت الزوجة حرة أو أمة وإن كان حرا فطلاقه ثلاث حرة كانت الزوجة أو أمة وهو قول مالك والشافعى وقال ابن عمر أيهما رق نقص الطلاق برقه وهو قول عثمان البتى وقد روى هشيم عن منصور بن زادان عن عطاء عن ابن عباس قال الأمر إلى المولى في الطلاق أذن له العبد أو لم يأذن ويتلو هذه الآية (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) روى هشام عن أبى الزبير عن أبى معبد مولى ابن عباس أن غلاما ما كان لابن عباس طلق امرأته تطليقتين فقال له ابن عباس ارجعها لا أم لك فإنه ليس لك من الأمر شيء فأبى فقال هي لك فاتخذها فهذا يدل على أنه رأى طلاقه واقعا لولاه لم يقل له ارجعها وقوله هي لك يدل على أنها كانت أمة وجائز أن يكون الغلام حرا لأنهما إذا كانا مملوكين فلا خلاف أن رقهما ينقص الطلاق* وقد روى في ذلك حديث يدل على أنه كان لا يرى طلاق العبد شيئا ويرويه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو ما حدثنا محمد ابن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا زهير بن حرب قال حدثنا يحيى بن سعيد قال حدثنا على بن المبارك قال حدثنا يحيى بن أبى كثير أن عمر بن معتب أخبره أن أبا حسن مولى بنى نوفل أخبره أنه استفتى ابن عباس في مملوك تحته مملوكة فطلقها تطليقتين ثم أعتقا بعد

٨٢

ذلك هل يصلح له أن يخطبها بعد ذلك قال نعم قضى بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال أبو داود وقد سمعت أحمد بن حنبل قال قال عبد الرزاق قال ابن المبارك لعمر من أبو حسن هذا لقد تحمل صخرة عظيمة قال أبو داود وأبو حسن هذا روى عنه الزهري وكان من الفقهاء* قال أبو بكر وهذا الحديث يرده الإجماع لأنه لا خلاف بين الصدر الأول ومن بعدهم* من الفقهاء أنهما إذا كانا مملوكين أنها تحرم بالإثنتين ولا تحل له إلا بعد زوج* والذي يدل على أن الطلاق بالنساء حديث ابن عمر وعائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان وقد تقدم ذكر سنده وقد استعملت الأمة هذين الحديثين في نقصان العدة وإن كان وروده من طريق الآحاد فصار في حيز التواتر لأن ما تلقاه الناس بالقبول من أخبار الآحاد فهو عندنا في معنى المتواتر لما بيناه في مواضع ولم يفرق الشارع في قوله وعدتها حيضتان بين من كان زوجها حرا أو عبدا فثبت بذلك اعتبار الطلاق بها دون الزوج ودليل آخر وهو أنه لما اتفق الجميع على أن الرق يوجب نقص الطلاق كما يوجب نقص الحد ثم كان الاعتبار في نقصان الحد برق من يقع به دون من يوقعه وجب أن يعتبر نقصان الطلاق برق من يقع به دون من يوقعه وهو المرأة ويدل عليه أنه لا يملك تفريق الثلاث عليها على الوجه المسنون وإن كان حرا إذا كانت الزوجة أمة ألا ترى أنه إذا أراد تفريق الثلاث عليها في أطهار متفرقة لم يمكنه إيقاع الثالثة بحال فلو كان مالكا للجميع لملك التفريق على الوجه المسنون كما لو كانت حرة وفي ذلك دليل على أنه غير مالك الثلاث إذا كانت الزوجة أمة والله أعلم.

ذكر الحجاج لإيقاع الطلاق الثلاث معا

قال أبو بكر قوله تعالى (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) الآية يدل على وقوع الثلاث معا مع كونه منهيا عنها وذلك لأن قوله (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) قد أبان عن حكمه إذا أوقع اثنين بأن يقول أنت طالق أنت طالق في طهر واحد وقد بينا أن ذلك خلاف السنة فإذا كان في مضمون الآية الحكم بجواز وقوع الاثنتين على هذا الوجه دل ذلك على صحة وقوعهما لو أوقعهما معا لأن أحدا لم يفرق بينهما وفيها الدلالة عليه من وجه آخر وهو قوله تعالى (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) فحكم بتحريمها عليه بالثالثة بعد الاثنتين ولم يفرق بين إيقاعهما في طهر واحد أو في أطهار

٨٣

فوجب الحكم بإيقاع الجميع على أى وجه أوقعه من مسنون أو غير مسنون ومباح أو محظور* فإن قيل قدمت بديا في معنى الآية أن المراد بها بيان المندوب إليه والمأمور به من الطلاق وإيقاع الطلاق الثلاث معا خلاف المسنون عندك فكيف نحتج بها في إيقاعها على غير الوجه المباح والآية لم تتضمنها على هذا الوجه* قيل له قد دلت الآية على هذه المعاني كلها من إيقاع الاثنتين والثلاث الغير السنة وأن المندوب إليه والمسنون تفريقها في الأطهار وليس يمتنع أن يكون مراد الآية جميع ذلك ألا ترى أنه لو قال طلقوا ثلاثا في الأطهار وإن طلقتم جميعا معا وقعن كان جائزا وإذا لم يتناف المعنيان واحتملتها الآية وجب حملها عليهما فإن قيل معنى هذه الآية محمول على ما بينه بقوله (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) وقد بين الشارع الطلاق للعدة وهو أن يطلقها في ثلاثة أطهار إن أراد إيقاع الثلاث ومتى خالف ذلك لم يقع طلاقه* قيل له نستعمل الآيتين على ما تقتضيانه من أحكامهما فنقول إن المندوب إليه المأمور به هو الطلاق للعدة على ما بينه في هذه الآية وإن طلق لغير العدة وجمع الثلاث وقعن لما اقتضته الآية الأخرى وهي قوله تعالى (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) وقوله تعالى (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) إذ ليس في قوله (فَطَلِّقُوهُنَ) نفى لما اقتضه هذه الآية الأخرى على أن في فحوى الآية التي فيها ذكر الطلاق للعدة دلالة على وقوعها إذا طلق لغير العدة وهو قوله تعالى (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) ـ إلى قوله تعالى ـ (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) فلو لا أنه إذا طلق لغير العدة وقع ما كان ظالما لنفسه بإيقاعه ولا كان ظالما لنفسه بطلاقه وفي هذه الآية دلالة على وقوعها إذا طلق لغير العدة ويدل عليه قوله تعالى في نسق الخطاب (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) يعنى والله أعلم أنه إذا أوقع الطلاق على ما أمره الله كان له مخرجا مما أوقع إن لحقه ندم وهو الرجعة وعلى هذا المعنى تأوله ابن عباس حين قال للسائل الذي سأله وقد طلق ثلاثا إن الله يقول (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجا عصيت ربك وبانت منك امرأتك ولذلك قال على بن أبى طالب كرم الله وجهه لو أن الناس أصابوا حد الطلاق ما ندم رجل طلق امرأته * فإن قيل لما كان عاصيا في إيقاع الثلاث معا لم يقع إذ ليس هو الطلاق المأمور به كما لو وكل رجل رجلا بأن يطلق امرأته ثلاثا في ثلاثة أطهار لم يقع إذا جمعهن في طهر واحد* قيل له أما كونه عاصيا في الطلاق

٨٤

فغير مانع صحة وقوعه لما دللنا عليه فيما سلف ومع ذلك فإن الله جعل الظهار منكرا من القول وزورا وحكم مع ذلك بصحة وقوعه فكونه عاصيا لا يمنع لزوم حكمه والإنسان عاص لله في ردته عن الإسلام ولم يمنع عصيانه من لزوم حكمه وفراق امرأته وقد نهاه الله عن مراجعتها ضرارا بقوله تعالى (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) فلو راجعها وهو يريد ضرارها لثبت حكمها وصحت رجعته وأما الفرق بينه وبين الوكيل فهو أن الوكيل إنما يطلق لغيره وعنه يعبر وليس يطلق لنفسه ولا يملك ما يوقعه ألا ترى أنه لا يتعلق به شيء من حقوق الطلاق وأحكامه فلما لم يكن مالكا لما يوقعه وإنما يصح إيقاعه لغيره من جهة الأمر إذ كانت أحكامه تتعلق بالأمر دونه لم يقع متى خالف الأمر وأما الزوج فهو مالك الطلاق وبه تتعلق أحكامه وليس يوقع لغيره فوجب أن يقع من حيث كان مالكا للثلاث وارتكاب النهى في طلاقه غير مانع وقوعه كما وصفنا في الظهار والرجعة والردة وسائر ما يكون به عاصيا ألا ترى أنه لو وطئ أم امرأته بشبهة حرمت عليه امرأته وهذا المعنى الذي ذكرناه من حكم الزوج في ملكه للثلاث من الوجوه التي ذكرنا يدل على أنه إذا أوقعهن معا وقع إذ هو موقع لما ملك ويدل عليه من جهة السنة حديث ابن عمر الذي ذكرناه سنده حين قال أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكان لي أن أراجعها فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لا كانت تبين ويكون معصية وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا جرير بن حازم عن الزبير بن سعيد عن عبد الله بن على بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده أنه طلق امرأته البتة فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال ما أردت بالبتة قال واحدة قال آلله قال آلله قال هو على ما أردت فلو لم تقع الثلاث إذا أراها لما استحلفه بالله ما أراد إلا واحدة وقد تقدم ذكر أقاويل السلف فيه وأنه يقع وهو معصية فالكتاب والسنة وإجماع السلف توجب إيقاع الثلاث معا وإن كانت معصية* وذكر بشر بن الوليد عن أبى يوسف أنه قال كان الحجاج بن أرطاة خشنا وكان يقول طلاق الثلاث ليس بشيء وقال محمد بن إسحاق الطلاق الثلاث ترد إلى الواحدة واحتج بما رواه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال طلق ركانة بن عبد يزيد امرأته ثلاثا في مجلس فحزن عليها حزنا شديدا فسأله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كيف طلقتها فقال طلقتها ثلاثا قال في مجلس واحد قال نعم قال فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت قال فرجعتها وبما روى أبو عاصم عن ابن جريج عن

٨٥

ابن طاوس عن أبيه أن أبا الصهباء قال لابن عباس ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبى بكر وصدرا من خلافة عمر ترد إلى الواحدة قال نعم وقد قيل أن هذين الخبرين منكران وقد روى سعيد بن جبير ومالك ابن الحارث ومحمد بن إياس والنعمان بن أبى عياش كلهم عن ابن عباس فيمن طلق امرأته ثلاثا أنه قد عصى ربه وبانت منه امرأته وقد روى حديث أبى الصهباء على غير هذا الوجه وهو أن ابن عباس قال كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبى بكر وصدرا من خلافة عمر واحدة فقال عمر لو أجزناه عليهم وهذا معناه عندنا أنهم إنما كانوا يطلقون ثلاثا فأجازها عليهم وقد روى ابن وهب قال أخبرنى عياش بن عبد الله الفهري عن ابن شهاب عن سهل بن سعد أن عويمر العجلاني لما لا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينه وبين امرأته قال عويمر كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فهي طالق ثلاثا فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنفذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك عليه * وما قدمنا من دلالة الآية والسنة والاتفاق يوجب إيقاع الطلاق في الحيض وإن كان معصية وزعم بعض الجهال ممن لا يعد خلافه أنه لا يقع إذا طلق في الحيض واحتج بما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن صالح قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرنى أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة يسأل ابن عمر وأبو الزبير يسمع فقال كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضا فقال طلق ابن عمر امرأته حائضا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسأل عمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال إن عبد الله طلق وهي حائض فقال فردها على ولم يرها شيئا وقال إذا طهرت فليطلق او ليمسك * قيل له هذا غلط فقد رواه جماعة عن ابن عمر أنه اعتد بتلك التطليقة من ذلك ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا ابو داود قال حدثنا القعنبي قال حدثنا يزيد بن إبراهيم عن محمد بن سيرين قال حدثنا يونس بن جبير قال سألت عبد الله ابن عمر قال قلت رجل طلق امرأته وهي حائض قال تعرف عبد الله بن عمر قلت نعم قال فإنه طلق امرأته وهي حائض فأتى عمر النبي صلّى الله عليه وسلّم فسأله فقال مره فليراجعها ثم ليطلقها في قبل عدتها قال قلت فيعتد بها قال فمه أرأيت إن عجزوا ستحمق فهذا خبر ابن عمر في هذا الحديث أنه اعتد بتلك التطليقة ومع ذلك فقد روى في سائر أخبار ابن عمر أن الشارع أمره بأن يراجعها ولو لم يكن الطلاق واقعا لما احتاج إلى الرجعة وكانت لا تصح

٨٦

رجعته لأنه لا يجوز أن يقال راجع امرأته ولم يطلقها إذ كانت الرجعة لا تكون إلا بعد الطلاق ولو صح ما روى أنه لم يره شيئا كان معناه أنه لم يبنها منه بذلك الطلاق ولم تقع الزوجية* قوله تعالى (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) قال أبو بكر لما كانت الفاء للتعقيب وقال (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) اقتضى ذلك كون الإمساك المذكور بعد الطلاق وهذا الإمساك إنما هو الرجعة لأنه ضد الطلاق وقد كان وقوع الطلاق موجبة التفرقة عند انقضاء العدة فسمى الله الرجعة إمساكا لبقاء النكاح بها بعد مضى ثلاث حيض ورفع حكم البينونة المتعلقة بانقضاء العدة وإنما أباح له إمساكها على وصف وهو أن يكون بمعروف وهو وقوعه على وجه يحسن ويجمل فلا يقصد به ضرارها على ما ذكره في قوله تعالى (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) وإنما أباح له الرجعة على هذه الشريطة ومتى أرجع بغير معروف كان عاصيا فالرجعة صحيحة بدلالة قوله تعالى (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) فلولا صحة الرجعة لما كان لنفسه ظالما بها وفي قوله تعالى (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) دلالة على وقوع الرجعة بالجماع لأن الإمساك على النكاح إنما هو الجماع وتوابعه من اللمس والقبلة ونحوها والدليل عليه أن من يحرم عليه جماعها تحريما مؤبدا لا يصح له عقد النكاح عليها فدل ذلك على أن الإمساك على النكاح مختص بالجماع فيكون بالجماع ممسكا لها وكذلك اللمس والقبلة للشهوة والنظر إلى الفرج بشهوة إذ كانت صحة عقد النكاح مختصة باستباحة هذه الأشياء فمتى فعل شيئا من ذلك كان ممسكا لها بعموم قوله تعالى (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) وأما قوله (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) فقد قيل فيه وجهان أحدهما أن المراد به الثالثة وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حديث غير ثابت من طريق النقل ويرده الظاهر أيضا وهو ما حدثنا عبد الله بن إسحاق المروزى قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع الجرجانى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا الثوري عن إسماعيل بن سميع عن أبى رزين قال قال رجل يا رسول الله أسمع الله يقول (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) فأين الثالثة قال التسريح بإحسان وقد روى عن جماعة من السلف منهم السدى والضحاك أنه تركها حتى تنقضي عدتها وهذا التأويل أصح إذ لم يكن الخبر المروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك ثابتا وذلك من وجوه أحدها أن سائر المواضع الذي ذكره الله فيها عقيب الطلاق الإمساك والفراق فإنما أراد به ترك الرجعة

٨٧

حتى تنقضي عدتها منه* قوله تعالى (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) والمراد بالتسريح ترك الرجعة إذ معلوم أنه لم يرد فأمسكوهن بمعروف أو طلقوهن واحدة أخرى ومنه قوله تعالى (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ولم يرد به إيقاعا مستقبلا وإنما أراد به تركها حتى تنقضي عدتها والجهة الأخرى أن الثالثة مذكورة في نسق الخطاب في قوله تعالى (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) فإذا كانت الثالثة مذكورة في صدر هذا الخطاب مفيدة للبينونة الموجبة للتحريم إلا بعد زوج وجب حمل قوله تعالى (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) على فائدة مجددة وهي وقوع البينونة بالإثنتين بعد انقضاء العدة وأيضا لما كان معلوما أن المقصد فيه عدد الطلاق الموجب للتحريم ونسخ ما كان جائزا من إيقاع الطلاق وبلا عدد محصور فلو كان قوله تعالى (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) هو الثالثة لما أبان عن المقصد في إيقاع التحريم بالثلاث إذ لو اقتصر عليه لما دل على وقوع البينونة المحرمة لها إلا بعد زوج وإنما علم التحريم بقوله تعالى (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) فوجب أن لا يكون قوله تعالى (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) هو الثالثة وأيضا لو كان التسريح بإحسان هو الثالثة لوجب أن يكون قوله تعالى (فَإِنْ طَلَّقَها) عقيب ذلك هي الرابعة لأن الفاء للتعقيب قد اقتضى طلاقا مستقبلا بعد ما تقدم ذكره فثبت بذلك أن قوله تعالى (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) هو تركها حتى تنقضي عدتها* قوله تعالى (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) منتظم لمعان منها تحريمها على المطلق ثلاثا حتى تنكح زوجا غيره مفيد في شرط ارتفاع التحريم الواقع بالطلاق الثلاث العقد والوطء جميعا لأن النكاح هو الوطء في الحقيقة وذكر الزوج يفيد العقد وهذا من الإيجاز والاقتصار على الكناية المفهمة المغنية عن التصريح وقد وردت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبار مستفيضة في أنها لا تحل للأول حتى يطأها الثاني منها حديث الزهري عن عروة عن عائشة أن رفاعة القرظي طلق امرأته ثلاثا فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير فجاءت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت يا نبي الله إنها كانت تحت رفاعة فطلقها آخر ثلاث تطليقات فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وإنه يا رسول الله ما معه إلا مثل هدبة الثوب فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال لعلك تريدين أن ترجعى إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك

٨٨

وروى ابن عمر وأنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مثله ولم يذكر قصة امرأة رفاعة وهذه أخبار وقد تلقاها الناس بالقبول واتفق الفقهاء على استعمالها فهي عندنا في حيز التواتر ولا خلاف بين الفقهاء في ذلك إلا شيء يروى عن سعيد بن المسيب أنه قال إنها لا تحل للأول بنفس عقد النكاح دون الوطء ولم نعلم أحدا تابعه عليه فهو شاذ* وقوله تعالى (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) غاية التحريم الموقع بالثلاث فإذا وطئها الزوج الثاني ارتفع ذلك التحريم الموقع وبقي التحريم من جهة إنها تحت زوج كسائر النساء الأجنبيات فمتى فارقها الثاني وانقضت عدتها حلت للأول وقوله تعالى (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) مرتب على ما أوجب من العدة على المدخول بها في قوله تعالى (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) وقوله تعالى (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) ونحوها من الآي الحاظرة للنكاح في العدة وقوله تعالى (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) نص على ذكر الطلاق ولا خلاف أن الحكم في إباحتها للزوج الأول غير مقصور على الطلاق وأن سائر الفرق الحادثة بينهما من نحو موت أو ردة أو تحريم بمنزلة الطلاق وإن كان المذكور نفسه هو الطلاق وفيه الدلالة أيضا على جواز النكاح بغير ولى لأنه أضاف التراجع إليها من غير ذكر الولي وفيه أحكام أخر نذكرها عند ذكرنا لأحكام الخلع بعد ذلك ولكنا قدمنا ذكر الثالثة لأنه يتصل به في المعنى بذكر الاثنتين وإن تخللهما ذكر الخلع وبالله التوفيق.

باب الخلع

قال الله تعالى (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) فحظر على الزوج بهذه الآية أن يأخذ منها شيئا مما أعطاها إلا على الشريطة كما أن قوله تعالى (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) قد دل على حظر ما فوقه من ضرب أو شتم وقوله تعالى (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) قال طاوس يعنى فيما افترض على كل واحد منهما في العشرة والصحبة وقال القاسم بن محمد مثل ذلك وقال الحسن هو أن تقول المرأة والله لا أغتسل لك من جنابة وقال أهل اللغة إلا أن يخافا معناه إلا أن يظنا وقال أبو محجن الثقفي أنشده الفراء رحمه الله تعالى :

إذا مت فادفني إلى جب كرمة

تروى عظامي بعد موتى عروقها

٨٩

ولا تدفني بالعراء فإننى

أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها

وقال آخر :

أتانى كلام عن نصيب يقوله

وما خفت يا سلام أنك عائبى

يعنى ما ظننت وهذا الخوف من ترك إقامة حدود الله على وجهين إما أن يكون أحدهما سىء الخلق أو جميعا فيفضى بهما ذلك إلى ترك إقامة حدود الله فيما ألزم كل واحد منهما من حقوق النكاح في قوله تعالى (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) وإما أن يكون أحدهما مبغضا للآخر فيصعب عليه حسن العشرة والمجاملة فيؤد به ذلك إلى مخالفة أمر الله في تقصيره في الحقوق التي تلزمه وفيما ألزم الزوج من إظهار الميل إلى غيرها في قوله تعالى (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) فإذا وقع أحد هذين وأشفقا من ترك إقامة حدود الله التي حدها لهما حل الخلع وروى جابر الجعفي عن عبد الله بن يحيى عن على كرم الله وجهه أنه قال كلمات إذا قالتهن المرأة حل له أن يأخذ الفدية إذا قالت له لا أطيع لك أمرا ولا أبر لك قسما ولا اغتسل لك من جنابة وقال المغيرة عن إبراهيم قال لا يحل للرجل أن يأخذ الفدية من امرأته إلا أن تعصيه ولا تبر له قسما وإذا فعلت ذلك وكان من قبلها حلت له الفدية وإن أبى أن يقبل منها الفدية وأبت أن تعطيه بعثا حكمين حكما من أهله وحكما من أهلها وذكر على بن أبى طلحة عن ابن عباس قال تركها إقامة حدود الله استخفافا بحق الزوج وسوء خلقها فتقول والله لا أبر لك قسما ولا أطأ لك مضجعا ولا أطيع لك أمرا فإذا فعلت ذلك فقد حل له منها الفدية ولا يأخذ أكثر مما أعطاها شيئا ويخلى سبيلها وإن كانت الإساءة من قبلها ثم قال (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) يقول إن كان عن غير ضرار ولا خديعة فهو هنيء مريء كما قال الله تعالى* وقد اختلف في نسخ هذه الآية فروى حجاج عن عقبة بن أبى الصهباء قال سألت بكر بن عبد الله عن رجل تريد منه امرأته الخلع قال لا يحل له أن يأخذ منها شيئا قلت له يقول الله في كتابه (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) قال هذه نسخت بقوله (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) وروى أبو عاصم عن ابن جريج قال قلت لعطاء أرأيت إذا كانت له ظالمة مسيئة فدعاها إلى الخلع أيحل له قال لا إما أن يرضى فيمسك وإما أن يسرح* قال أبو بكر وهو قول شاذ يرده ظاهر الكتاب والسنة واتفاق

٩٠

السلف ومع ذلك فليس في قوله (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ) الآية ما يوجب نسخ قوله تعالى (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) لأن كل واحدة منهما مقصورة الحكم على حال مذكورة فيها فإنما حظر الخلع إذا كان النشوز من قبله وأراد استبدال زوج مكان زوج غيرها وأباحه إذا خافا أن لا يقيما حدود الله بأن تكون مبغضة له أو سيئة الخلق أو كان هو سيئ الخلق ولا يقصد مع ذلك الإضرار بها لكنهما يخافان أن لا يقيما حدود الله في حسن العشرة وتوفية ما لزمهما الله من حقوق النكاح وهذه الحال غير تلك فليس في إحداهما ما يعترض به على الأخرى ولا يوجب نسخها ولا تخصيصها أيضا إذ كل واحدة مستعملة فيما وردت فيه وكذلك قوله تعالى (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) إذا كان خطابا للأزواج فإنما حظر عليهم أخذ شيء من مالها إذا كان النشوز من قبله قاصدا للإضرار بها إلا أن يأتى بفاحشة مبينة فقال ابن سيرين وأبو قلابة يعنى إن يظهر منها على زنا وروى عن عطاء والزهري وعمر وابن شعيب إن الخلع لا يحل إلا من الناشز فليس في شيء من هذه الآيات نسخ وجميعها مستعمل والله أعلم.

ذكر اختلاف السلف وسائر فقهاء الأمصار فيما يحل أخذه بالخلع

روى عن على رضى الله عنه أنه كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها وهو قول سعيد ابن المسيب والحسن وطاوس وسعيد بن جبير وروى عن عمر وعثمان وابن عمر وابن عباس ومجاهد وإبراهيم والحسن رواية أخرى أنه جائز له أن يخلعها على أكثر مما أعطاها ولو بعقاصها وقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد إذا كان النشوز من قبلها حل له أن يأخذ منها ما أعطاها ولا يزداد وإن كان النشوز من قبله لم يحل له أن يأخذ منها شيئا فإن فعل جاز في القضاء وقال ابن شبرمة تجوز المبارأة إذا كانت من غير إضرار منه وإن كانت على إضرار منه لم تجز وقال ابن وهب عن مالك إذا علم أن زوجها أضر بها وضيق عليها وأنه ظالم لها قضى عليها الطلاق ورد عليها مالها وذكر ابن القاسم عن مالك أنه جائز للرجل أن يأخذ منها في الخلع أكثر مما أعطاها ويحل له وإن كان النشوز من قبل الزوج حل له أن يأخذ ما أعطته على الخلع إذا رضيت بذلك ولم يكن في ذلك ضرر منه لها وعن الليث نحو ذلك وقال الثوري إذا كان الخلع من قبلها فلا بأس أن يأخذ منها شيئا وإذا

٩١

كان من قبله فلا يحل له أن يأخذ منها شيئا وقال الأوزاعى في رجل خالع امرأته وهي مريضة إن كانت ناشزة كان في ثلثها وإن لم تكن ناشزة رد عليها وكانت له عليها الرجعة وإن خالعها قبل أن يدخل بها على جميع ما أصدقها ولم يتبين منها نشوز أنهما إذا اجتمعا على فسخ النكاح قبل أن يدخل بها فلا أرى بذلك بأسا وقال الحسن بن حي إذا كانت الإساءة من قبله فليس له أن يخلعها بقليل ولا كثير وإذا كانت الإساءة من قبلها والتعطيل لحقه كان له أن يخالعها على ما تراضيا عليه وكذلك قول عثمان البتى وقال الشافعى إذا كانت المرأة مانعة ما يجب عليها لزوجها حلت الفدية للزوج وإذا حل له أن يأكل ما طابت به نفسا على غير فراق حل له أن يأكل ما طابت به نفسا وتأخذ الفراق به* قال أبو بكر قد أنزل الله تعالى في الخلع آيات منها قوله تعالى (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) فهذا يمنع أخذ شيء منها إذا كان النشوز من قبله فلذلك قال أصحابنا لا يحل له أن يأخذ منها في هذه الحال شيئا* وقال تعالى في آية أخرى (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) فأباح في هذه الآية الأخذ عند خوفهما ترك إقامة حدود الله وذلك على ما قدمنا من بغض المرأة لزوجها وسوء خلقها أو كان ذلك منهما فيباح له أخذ ما أعطاها ولا يزداد والظاهر يقتضى جواز أخذ الجميع ولكن ما زاد مخصوص بالسنة وقال تعالى في آية أخرى (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) قيل فيه إنه خطاب للزوج وحظر به أخذ شيء مما أعطاها إلا أن تأتى بفاحشة مبينة قيل فيها إنها هي الزنا وقيل فيها إنها النشوز من قبلها وهذه نظير قوله تعالى (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) وقال تعالى في آية أخرى (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) وسنذكر حكمها في مواضعها إن الله تعالى* وذكر الله تعالى إباحة أخذ المهر في غير هذه الآية إلا أنه لم يذكر حال الخلع في قوله (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) وقال (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) وهذه الآيات كلها مستعملة على مقتضى أحكامها فقلنا إذا كان النشوز من قبله لم يحل له

٩٢

أخذ شيء منها بقوله تعالى (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) وقوله تعالى (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) وإذا كان النشوز من قبلها أو خافا لسوء خلقها أو بعض كل واحد منهما لصاحبه أن لا يقيما جاز له أن يأخذ ما أعطاها لا يزداد وكذلك (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) وقد قيل فيه إلا أن تنشز فيجوز له عند ذلك أخذ ما أعطاها.

وأما قوله تعالى (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) فهذا في غير حال الخلع بل في حال الرضا بترك المهر بطيبة من نفسها به وقول من قال إنه لما أجاز أخذ مالها بغير خلع فهو جائز والخلع خطأ لأن الله تعالى قد نص على الموضعين في أحدهما بالحظر وهو قوله تعالى (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ) وقوله تعالى (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) وفي الآخر بالإباحة وهو قوله تعالى (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) فقول القائل لما جاز أن يأخذ مالها بطيبة نفسها من غير خلع جاز في الخلع قول مخالف لنص الكتاب قد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في الخلع ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو دود قال حدثنا القعنبي عن مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن حبيبة بنت سهل الأنصارية أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن الشماس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من هذه قالت أنا حبيبة بنت سهل قال ما شأنك قالت لا أنا ولا ثابت بن قيس لزوجها فلما جاءه ثابت بن قيس قال له هذه حبيبة بنت سهل فذكرت ما شاء الله أن تذكر فقالت حبيبة كل ما أعطانى عندي فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لثابت خذ منها فأخذ منها وجلست في أهلها وروى فيه ألفاظ مختلفة في بعضها خلى سبيلها وفي بعضها فارقها * وإنما قالوا إنه لا يسعه أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها لما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا عبد الله بن احمد بن حنبل قال حدثنا محمد بن يحيى بن أبى سمينة قال حدثنا الوليد بن مسلم عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس أن رجلا خاصم امرأته إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم تردين إليه ما أخذت منه قالت نعم وزيادة فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم أما الزيادة فلا * وقال أصحابنا لا يأخذ منه الزيادة لهذا الخبر وخصوا به ظاهر الآية وإنما جاز تخصيص هذا الظاهر

٩٣

بخبر الواحد من قبل أن قوله تعالى (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) لفظ محتمل لمعان والاجتهاد سائغ فيه وقد روى عن السلف فيه وجوه مختلفة وكذلك قوله تعالى (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) محتمل لمعان على ما وصفنا فجاز تخصيصه بخبر الواحد وهو كقوله تعالى (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) وقوله تعالى (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) لما كان محتملا للوجوه واختلف السلف في المراد به جاز قبول خبر الواحد في معناه المراد به. وإنما قال أصحابنا إذا خلعها على أكثر مما أعطاها أو خلعها على مال والنشوز من قبله أن ذلك جائز في الحكم وإن لم يسعه فيما بينه وبين الله تعالى من قبل أنه أعطته بطيبة من نفسها غير مجبرة عليه وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه وأيضا فإن النهى لم يتعلق بمعنى في نفس العقد وإنما تعلق بمعنى في غيره وهو أنه لم يعطها مثل ما أخذ منها ولو كان قد أعطاها مثل ذلك لما كان ذلك مكروها فلما تعلق النهى بمعنى في غير العقد لم يمنع ذلك جواز العقد كالبيع عند أذان الجمعة وبيع حاضر لباد وتلقى الركبان ونحو ذلك وأيضا لما جاز العتق على قليل المال وكثيره وكذلك الصلح عن دم العمد كان كذلك الطلاق وكذلك النكاح لما جاز على أكثر من مهر المثل وهو بدل البضع كذلك جاز أن تضمنه المرأة بأكثر من مهر مثلها لأنه بدل من البضع في الحالين* فإن قيل لما كان الخلع* فسخا لعقد النكاح لم يجز بأكثر مما وقع عليه العقد كما لا يجوز الإقالة بأكثر من الثمن* قيل له قولك إن الخلع فسخ للعقد خطأ وإنما هو طلاق مبتدأ كهو لو لم يشرط فيه بدل ومع ذلك فلا خلاف أنه ليس بمنزلة الإقالة لأنه لو خلعها على أقل مما أعطاها جاز بالاتفاق والإقالة غير جائزة بأقل من الثمن ولا خلاف أيضا في جواز الخلع بغير شيء* وقد اختلف السلف في الخلع دون السلطان فروى عن الحسن وابن سيرين إن الخلع لا يجوز إلا عند السلطان وقال سعيد بن جبير لا يكون الخلع حتى يعظها فإن اتعظت وإلا هجرها فإن اتعظت وإلا ضربها فإن اتعظت وإلا ارتفعا إلى السلطان فيبعث حكما من أهله وحكما من أهلها فيردان ما يسمعان إلى السلطان فإن رأى بعد ذلك أن يفرق فرق وإن رأى أن يجمع جمع وروى عن على وعمر وعثمان وابن عمر وشريح وطاوس والزهري في آخرين أن الخلع جائز دون السلطان وروى سعيد عن قتادة قال كان زياد أول من

٩٤

رد الخلع دون السلطان* ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في جوازه دون السلطان وكتاب الله يوجب جوازه وهو قوله تعالى (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) وقال تعالى (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) فأباح الأخذ منها بتراضيهما من غير سلطان وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لامرأة ثابت بن قيس أتردين عليه حديقته فقالت نعم فقال للزوج خذها وفارقها يدل على ذلك أيضا لأنه لو كان الخلع إلى السلطان شاء الزوجان أو أبيا إذا علم أنهما لا يقيمان حدود الله لم يسئلهما النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك ولا خاطب الزوج بقوله اخلعها بل كان يخلعها منه ويرد عليه حديقته وإن أبيا أو واحد منهما كما لما كانت فرقة المتلاعنين إلى الحاكم لم يقل للملاعن خل سبيلها بل فرق بينهما كما روى سهل بن سعد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم فرق بين المتلاعنين كما قال في حديث آخر لا سبيل لك عليها ولم يرجع ذلك إلى الزوج فثبت بذلك جواز الخلع دون السلطان ويدل عليه أيضا قوله صلّى الله عليه وسلّم لا يحل مال امرئ إلا بطيبة من نفسه * وقد اختلف في الخلع هل هو طلاق أم ليس بطلاق فروى عن عمر وعبد الله وعثمان والحسن وأبى سلمة وشريح وإبراهيم والشعبي ومكحول إن الخلع تطليقة بائنة وهو قول فقهاء الأمصار لا خلاف بينهم فيه وروى عن ابن عباس أنه ليس بطلاق حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا على بن محمد قال حدثنا أبو الوليد قال حدثنا شعبة قال أخبرنى عبد الملك بن ميسرة قال سأل رجل طاوسا عن الخلع فقال ليس بشيء فقلت لا تزال تحدثنا بشيء لا نعرفه فقال والله لقد جمع ابن عباس بين امرأة وزوجها بعد تطليقتين وخلع ويقال هذا مما أخطأ فيه طاوس وكان كثير الخطأ مع طلالته وفضله وصلاحه يروى أشياء منكرة منها أنه روى عن ابن عباس أنه قال من طلق ثلاثا كانت واحدة وروى من غير وجه عن ابن عباس أن من طلق امرأته عدد النجوم بانت منه بثلاث قالوا وكان أيوب يتعجب من كثرة خطأ طاوس وذكر ابن أبى نجيح عن طاوس أنه قال الخلع ليس بطلاق قال فأنكره عليه أهل مكة فجمع ناسا منهم واعتذر إليهم وقال إنما سمعت ابن عباس يقول ذلك* وقد حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار قال حدثنا أبو همام قال حدثنا الوليد عن أبى سعيد روح بن جناح قال سمعت زمعة بن أبى عبد الرحمن قال سمعت سعيد بن المسيب يقول جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخلع تطليقة ويدل على أنه طلاق قوله صلّى الله عليه وسلّم لثابت بن قيس حين

٩٥

نشزت عليه امرأته خل سبيلها وفي بعض الألفاظ فارقها بعد ما قال للمرأة ردى عليه حديقته فقالت قد فعلت ومعلوم أن من قال لامرأته قد فارقتك أو قد خليت سبيلك ونيته الفرقة أنه يكون طلاقا فدل ذلك على أن خلعه إياها بأمر الشارع كان طلاقا وأيضا لا خلاف أنه لو قال لها قد طلقتك على مال أو قد جعلت أمرك إليك بمال كان طلاقا وكذلك لو قال قد خلعتك بغير مال يريد به الفرقة كان طلاقا كذلك إذا خلعها بمال* فإن* قيل إذا قال بلفظ الخلع كان بمنزلة الإقالة في البيع فتكون فسخا لا بيعا مبتدأ* قيل له لا خلاف في جواز الخلع بغير مال وعلى أقل من المهر والإقالة لا تجوز إلا بالثمن الذي كان في العقد ولو كان الخلع فسخا كالإقالة لما جاز إلا بالمهر الذي تزوجها عليه وفي اتفاق الجميع على جوازه بغير مال وبأقل من المهر دلالة على أنه طلاق بمال وأنه ليس بفسخ وأنه لا فرق بينه وبين قوله قد طلقنك على هذا المال* ومما يحتج به من يقول أنه ليس بطلاق إن الله تعالى لما قال (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) ثم عقب ذلك بقوله تعالى (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) إلى أن قال في نسق التلاوة (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) فأثبت الثالثة بعد الخلع دل ذلك على أن الخلع ليس بطلاق إذ لو كان طلاقا لكانت هذه رابعة لأنه ذكر الخلع بعد التطليقتين ثم ذكر الثالثة بعد الخلع وهذا ليس عندنا على هذا التقدير وذلك لأن قوله تعالى (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) أفاد حكم الاثنتين إذا أوقعهما على غير وجه الخلع وأثبت معهما الرجعة بقوله تعالى (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) ثم ذكر حكمهما إذا كانتا على وجه الخلع وأبان عن موضع الحظر والإباحة فيهما والحال التي يجوز فيها أخذ المال أو لا يجوز ثم عطف على ذلك قوله تعالى (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) فعاد ذلك إلى الاثنتين المقدم ذكرهما على وجه الخلع تارة وعلى غير وجه الخلع أخرى فإذا ليس فيه دلالة على أن الخلع بعد الاثنتين ثم الرابعة بعد الخلع* وهذا مما يستدل به على أن المختلعة يلحقها الطلاق لأنه لما اتفق فقهاء الأمصار على أن تقدير الآية وترتيب أحكامها على ما وصفنا وحصلت الثالثة بعد الخلع وحكم الله بصحة وقوعها وحرمتها عليه أبدا إلا بعد زوج فدل ذلك على أن المختلعة يلحقها الطلاق ما دامت في العدة* ويدل على أن الثالثة بعد الخلع قوله تعالى في نسق التلاوة (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) عطف

٩٦

على ما تقدم ذكره وقوله تعالى (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) فأباح لهما التراجع بعد التطليقة الثالثة بشريطة زوال ما كانا عليه من الخوف لترك إقامة حدود الله لأنه جائز أن يندما بعد الفرقة ويحب كل واحد منهما أن يعود إلى الألفة فدل ذلك على أن الثالثة مذكورة بعد الخلع* وقوله تعالى (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) يدل على جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث لأنه علق الإباحة بالظن فإن قيل قوله تعالى (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) عائد على قوله (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) دون الفدية المذكورة بعدها* قيل له هذا يفسد من وجوه أحدها أن قوله (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) خطاب مبتدأ بعد ذكر الاثنتين غير مرتب عليهما لأنه معطوف عليه بالواو وإذا كان كذلك ثم قال عقيب ذكر الفدية (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) وجب أن يكون مرتبا على الفدية لأن الفاء للتعقيب وغير جائز ترتيبه على الاثنتين المبدوء بذكرهما وترك عطفه على ما يليه إلا بدلالة تقتضي ذلك وتوجبه كما تقول في الاستثناء بلفظ التخصيص أنه عائد على ما يليه ولا يرد ما تقدمه إلا بدلالة ألا ترى إلى قوله تعالى (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) إن شرط الدخول عائد على الربائب دون أمهات النساء إذ كان العطف بالفاء يليهن دون أمهات النساء مع أن هذا أقرب مما ذكرت من عطف قوله تعالى (فَإِنْ طَلَّقَها) على قوله تعالى (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) دون ما يليه في الفدية لأنك لا تجعله عطفا على ما يليه من الفدية وتجعله عطفا على ما تقدم دون ما توسط بينهما من ذكر الفدية وأيضا فإنا نجعله عطفا على جميع ما تقدم من الفدية ومما تقدمها من التطليقتين على غير وجه الفدية فيكون منتظما لفائدتين إحداهما جواز طلاقها بعد الخلع بتطليقتين والأخرى بعد التطليقتين إذا أوقعهما على غير وجه الفدية والله أعلم.

باب المضارة في الرجعة

قال الله تعالى (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) قال أبو بكر المراد بقوله (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) مقاربة البلوغ والإشراف عليه لا قيقته لأن الأجل المذكور هو العدة وبلوغه هو انقضاؤها ولا رجعة بعد انقضاء العدة وقد بر عن العدة بالأجل في مواضع منها قوله تعالى (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَ

«٧ ـ أحكام في»

٩٧

بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ومعناه معنى ما ذكر في هذه الآية وقال تعالى (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) وقال (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَ) وقال (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) فكان المراد بالآجال المذكورة في هذه الآي العدد ولما ذكره الله تعالى في قوله (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) والمراد مقاربته دون انقضائه ونظائره كثيرة في القرآن واللغة قال الله تعالى (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) ومعناه إذا أردتم الطلاق وقاربتم أن تطلقوا فطلقوا للعدة وقال تعالى (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) معناه إذا أردت قراءته وقال (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) وليس المراد العدل بعد القول ولكن قبله يعزم على أن لا يقول إلا عدلا فعلى هذا ذكر بلوغ الأجل وأراد به مقاربته دون وجود نهايته وإنما ذكر مقاربته البلوغ عند الأمر بالإمساك بالمعروف وإن كان عليه ذلك في سائر أحوال بقاء النكاح لأنه قرن إليه التسريح وهو انقضاء العدة وجمعهما في الأمر والتسريح إنما له حال واحد ليس يدوم فخص حال بلوغ الأجل بذلك لينتظم المعروف الأمرين جميعا* وقوله تعالى (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) المراد به الرجعة* قبل انقضاء العدة وروى ذلك عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة* وقوله تعالى* (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) معناه تركها حتى تنقضي عدتها* وأباح الإمساك بالمعروف وهو القيام بما يجب لها من حق على ما تقدم من بيانه وأباح التسريح أيضا على وجه يكون معروفا بأن لا يقصد مضارتها بتطويل العدة عليها بالمراجعة وقد بينه عقيب ذلك بقوله تعالى (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً) ويجوز أن يكون من الفراق بالمعروف أن يمتعها عند الفرقة ومن الناس من يحتج بهذه الآية وبقوله (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) في إيجاب الفرقة بين المعسر العاجز عن النفقة وبين امرأته لأن الله تعالى إنما خيره بين أحد شيئين إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وترك الإنفاق ليس بمعروف فمتى عجز عنه تعين عليه التسريح فيفرق الحاكم بينهما* قال أبو بكر رحمه الله وهذا جهل من قائله والمحتج به لأن العاجز عن نفقة امرأته يمسكها بمعروف إذ لم يكلف الإنفاق في هذا الحال قال الله تعالى (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) فغير جائز أن يقال إن المعسر غير ممسك بالمعروف إذ كان ترك الإمساك بمعروف ذما والعاجز غير مذموم بترك الإنفاق ولو كان العاجز عن النفقة غير ممسك

٩٨

بمعروف لوجب أن يكون أصحاب الصفة وفقراء الصحابة الذين عجزوا عن النفقة على أنفسهم فضلا عن نسائهم غير ممسكين بمعروف وأيضا فقد علمنا أن القادر على الإنفاق الممتنع منه غير ممسك بمعروف ولا خلاف أنه لا يستحق التفريق فكيف يجوز أن يستدل بالآية على وجوب التفريق على العاجز دون القادر والعاجز ممسك بمعروف والقادر غير ممسك وهذا خلفه من القول قوله تعالى (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) روى عن مسروق والحسن ومجاهد وقتادة وإبراهيم هو تطويل العدة عليها بالمراجعة إذا قاربت انقضاء عدتها ثم يطلقها حتى تستأنف العدة فإذا قاربت انقضاء العدة راجعها فأمر الله بإمساكها بمعروف ونهاه عن مضارتها بتطويل العدة عليها وقوله تعالى (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) دل على وقوع الرجعة وإن قصد بها مضارتها لولا ذلك ما كان ظالما لنفسه إذ لم يثبت حكمها وصارت رجعته لغوا لا حكم لها وقوله تعالى (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) روى عن عمر وعن الحسن عن أبى الدرداء قال كان الرجل يطلق امرأته ثم يرجع فيقول كنت لاعبا فأنزل الله تعالى (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من طلق أو حرر أو نكح فقال كنت لاعبا فهو جاد فأخبر أبو الدرداء إن ذلك تأويل الآية وأنها نزلت فيه فدل ذلك على أن لعب الطلاق وجده سواء وكذلك الرجعة لأنه ذكر عقيب الإمساك أو التسريح فهو عائد عليهما وقد أكده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما بينه وروى عبد الرحمن بن حبيب عن عطاء عن ابن ماهك عن أبى هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال ثلاث جدهن جد وهزلهن جد الطلاق والنكاح والرجعة وروى سعيد بن المسيب عن عمر قال أربع واجبات على كل من تكلم بهن العتاق والطلاق والنكاح والنذر وروى جابر عن عبد الله بن لحى عن على أنه قال ثلاث لا يلعب بهن الطلاق والنكاح والصدقة وروى القاسم بن عبد الرحمن عن عبد الله قال إذا تكلمت بالنكاح فإن النكاح جده ولعبه سواء كما أن جد الطلاق ولعبه سواء وروى ذلك عن جماعة من التابعين ولا نعلم فيه خلافا بين فقهاء الأمصار وهذا أصل في إيقاع طلاق المكره لأنه لما استوى حكم الجاد والهازل فيه وكانا إنما يفترقان مع قصدهما إلى القول من جهة وجود إرادة أحدهما لإيقاع حكم ما لفظ به والآخر غير مريد الإيقاع حكمه لم يكن للنية تأثير في دفعه وكان المكره قاصدا إلى القول غير مريد لحكمه لم يكن لفقد نية الإيقاع تأثير في دفعه فدل ذلك على أن شرط

٩٩

وقوعه وجود لفظ الإيقاع من مكلف والله أعلم.

باب النكاح بغير ولى

قال الله تعالى (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ) الآية وقوله تعالى (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) المراد حقيقة البلوغ بانقضاء العدة والعضل يعتوره معنيان أحدهما المنع والآخر الضيق يقال عضل الفضاء بالجيش إذا ضاق بهم والأمر المعضل هو الممتنع وداء عضال ممتنع وفي التضييق يقال عضلت عليهم الأمراء أضيقت وعضلت المرأة بولدها إذا عسر ولادها وأعضلت والمعنيان متقاربان لأن الأمر الممتنع يضيق فعله وزواله والضيق ممتنع أيضا وروى الشعبي سئل عن مسألة صعبة فقال زباء ذات وبر لا تنساب ولا تنقاد ولو نزلت بأصحاب محمد لأعضلت بهم وقوله تعالى (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) معناه لا تمنعوهن أو لا تضيقوا عليهن في التزويج وقد دلت هذه الآية من وجوه على جواز النكاح إذا عقدت على نفسها بغير ولى ولا إذن وليها أحدها إضافة العقد إليها من غير شرط إذن الولي والثاني نهيه عن العضل إذا تراضى الزوجان فإن قيل لو لا أن الولي يملك منعها عن النكاح لما نهاه عنه كما لا ينهى الأجنبى الذي لا ولاية له عنه قيل له هذا غلط لأن النهى يمنع أن يكون له حق فيما نهى عنه فكيف يستدل به على إثبات الحق وأيضا فإن الولي يمكنه أن يمنعها من الخروج والمراسلة في عقد النكاح فجائز أن يكون النهى عن العضل منصرفا إلى هذا الضرب من المنع لأنها في الأغلب تكون في يد الولي بحيث يمكنه منعها من ذلك ووجه آخر من دلالة الآية على ما ذكرنا وهو أنه لما كان الولي منهيا عن العضل إذا زوجت هي نفسها من كفؤ فلا حق له في ذلك كما لو نهى عن الربا والعقود الفاسدة لم يكن له حق فيما قد نهى عنه فلم يكن له فسخه وإذا اختصموا إلى الحاكم فلو منع الحاكم من مثل هذا العقد كان ظالما مانعا مما هو محظور عليه منعه فيبطل حقه أيضا في الفسخ فيبقى العقد لا حق لأحد في فسخه فينفذ ويجوز فإن قيل إنما نهى الله سبحانه الولي عن العضل إذا تراضوا بينهم بالمعروف فدل ذلك على أنه ليس بمعروف إذا عقده غير الولي قيل له قد علمنا أن المعروف مهما كان من شيء فغير جائز أن يكون عقد الولي وذلك لأن في نص الآية جواز عقدها ونهى الولي عن منعها فغير جائز أن يكون معنى المعروف أن لا يجوز عقدها لما فيه من نفى موجب

١٠٠