أحكام القرآن - ج ٢

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٦

في أدبارهن) وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال هي اللوطية الصغرى يعنى إتيان النساء في أدبارهن وروى حماد بن سلمة عن حكيم الأثرم عن أبى تميمة عن أبى هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال (من أتى حائضا أو امرأته في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد) وروى ابن جريج عن محمد بن المنكدر عن جابر أن اليهود قالوا للمسلمين من أتى امرأته وهي مدبرة جاء ولده أحول فأنزل الله تعالى (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (مقبلة ومدبرة ما كان في الفرج) وروت حفصة بنت عبد الرحمن عن أم سلمة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في صمام واحد وروى مجاهد عن ابن عباس مثله في تأويل الآية قال يعنى كيف شئت في موضع الولد وروى عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (لا ينظر الله إلى الرجل أتى امرأته في دبرها) وذكر ابن طاوس عن أبيه قال سئل ابن عباس عن الذي يأتى امرأته في دبرها فقال هذا يسألنى عن الكفر وقد روى عن ابن عمر في قوله (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) قال كيف شئت إن شئت عزلا أو غير عزل رواه أبو حنيفة عن كثير الرياح الأصم عن ابن عمر وروى نحوه عن ابن عباس وهذا عندنا في ملك اليمين وفي الحرة إذا أذنت فيه وقد روى ذلك على ما ذكرنا من مذهب أصحابنا عن أبى بكر وعمر وعثمان وابن مسعود وابن عباس وآخرين غيرهم* فإن قيل قوله عز وجل (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) يقتضى إباحة وطئهن في الدبر لورود الإباحة مطلقة غير مقيدة ولا مخصوصة قيل له لما قال الله تعالى (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) ثم قال في نسق التلاوة (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) أبان بذلك موضع المأمور به وهو موضع الحرث ولم يرد إطلاق الوطء بعد حظره إلا في موضع الولد فهو مقصور عليه دون غيره وهو قاض مع ذلك على قوله تعالى (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) كما كان حظر وطء الحائض قاضيا على قوله (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) فكانت هذه الآية مرتبة على ما ذكر من حكم الحائض ومن يحظر ذلك يحتج بقوله (قُلْ هُوَ أَذىً) فحظر وطء الحائض للأذى الموجود في الحيض وهو القذر والنجاسة وذلك موجود في غير موضع الولد في جميع الأحوال فاقتضى هذا التحليل حظر وطئهن إلا في موضع الولد ومن يبيحه يجيب عن ذلك بأن المستحاضة يجوز وطؤها باتفاق من الفقهاء مع وجود الأذى هناك وهو دم الاستحاضة وهو نجس

٤١

كنجاسة دم الحيض وسائر الأنجاس ويجيبون أيضا على تخصيصه إباحة موضع الحرث باتفاق الجميع على إباحة الجماع فيما دون الفرج وإن لم يكن موضعا للولد فدل على أن الإباحة غير مقصورة على موضع الولد ويجابون عن ذلك بأن ظاهر الآية يقتضى كون الإباحة مقصورة على الوطء في الفرج وأنه هو الذي عناه الله تعالى بقوله (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) إذ كان معطوفا عليه ولولا قيام دلالة الإجماع لما جاز الجماع فيما دون الفرج ولكنا سلمناه للدلالة وبقي حكم الحظر فيما لم تقم الدلالة عليه.

قوله تعالى (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) الآية قد قيل فيه وجهان أحدهما أن تجعل يمينه مانعة من البر والتقوى والإصلاح بين الناس فإذا طلب منه ذلك قال قد حلفت فيجعل اليمين معترضة بينه وبين ما هو مندوب إليه أو هو مأمور به من البر والتقوى والإصلاح فإن حلف حالف أن لا يفعل ذلك فليفعل وليدع يمينه ويروى ذلك عن مجاهد وسعيد بن جبير وإبراهيم والحسن وطاوس وهو نظير قوله تعالى (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ) وروى أشعث عن ابن سيرين قال حلف أبو بكر في يتيمين كانا في حجره كانا فيمن خاض في أمر عائشة أحدهما مسطح وقد شهد بدرا أن لا يصلهما وأن لا يصلهما منه خيرا فنزلت هذه الآية (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) فكسا أحدهما وحمل الآخر وقد ورد معناه في السنة أيضا وقد روى أنس بن مالك وعدى بن حاتم وأبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه) وهذا هو معنى قوله تعالى (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) على التأويل الذي ذكرنا لأن معناه على هذا التأويل أن لا يمنع بيمينه من فعل ما هو خير بل يفعل الذي هو خير ويدع يمينه والوجه الثاني أن يكون قوله (عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) يريد به كثرة الحلف وهو ضرب من الجرأة على الله تعالى وابتذال لاسمه في كل حق وباطل لأن تبروا في الحلف بها وتتقوا المأثم فيها وروى نحوه عن عائشة من أكثر ذكر شيء فقد جعله عرضة يقول القائل قد جعلتني عرضة للوم وقال الشاعر لا تجعلينى عرضة اللوائم وقد ذم الله تعالى مكثرى الحلف بقوله (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) فالمعنى لا تعترضوا اسم الله وتبذلوه في كل شيء لأن تبروا إذا حلفتم وتتقوا المآثم فيها إذا قلت أيمانكم لأن كثرتها تبعد من البر والتقوى

٤٢

وتقرب من المآثم والجرأة على الله تعالى فكان المعنى أن الله ينهاكم عن كثرة الأيمان والجرأة على الله تعالى لما في توقى ذلك من البر والتقوى والإصلاح فتكونون بررة أتقياء لقوله (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) وإذا كانت الآية محتملة للمعنيين وليسا متضادين فالواجب حملها عليهما جميعا فتكون مفيدة لحظر ابتذاله اسم الله تعالى واعتراضه باليمين في كل شيء حقا كان أو باطلا ويكون مع ذلك محظورا عليه أن يجعل يمينه عرضة مانعة من البر والتقوى والإصلاح وإن لم يكثر بل الواجب عليه أن لا يكثر اليمين ومتى حلف لم يحتجر بيمينه عن فعل ما حلف عليه إذا كان طاعة وبرا وتقوى وإصلاحا كما قال صلّى الله عليه وسلّم (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه) قوله تعالى (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) الآية قال أبو بكر رحمه الله قد ذكر الله تعالى اللغو في مواضع فكان المراد به معاني مختلفة على حسب الأحوال التي خرج عليها الكلام فقال تعالى (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) يعنى كلمة فاحشة قبيحة و(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً) على هذا المعنى وقال (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) يعنى الكفر والكلام القبيح وقال (وَالْغَوْا فِيهِ) يعنى الكلام الذي لا يفيد شيئا ليشغلوا السامعين عنه وقال (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) يعنى الباطل ويقال لغا في كلامه يلغو إذا أتى بكلام لا فائدة فيه وقد روى في لغو اليمين معان عن السلف فروى عن ابن عباس أنه قال هو الرجل يحلف على الشيء يراه كذلك فلا يكون وكذلك روى عن مجاهد وإبراهيم قال مجاهد (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) أن تحلف على الشيء وأنت تعلم وهذا في معنى قوله (بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) وقالت عائشة هو قول الرجل لا والله وبلى والله وروى عنها مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وذلك عندنا في النهى عن اليمين على الماضي رواه عنها عطاء أنها قالت قول الرجل فعلنا والله كذا وصنعنا والله كذا وروى مثله عن الحسن والشعبي وقال سعيد بن جبير هو الرجل يحلف على الحرام فلا يؤاخذه الله بتركه وهذا التأويل موافق لتأويل من تأول قوله (عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) أن يمتنع باليمين من فعل مباح أو يقدم بها على فعل محظور وإذا كان اللغو محتملا لهذه المعاني ومعلوم أنه لما عطف قوله (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ) أن مراده ما عقد قلبه فيه على الكذب والزور وجب أن تكون هذه المؤاخذة هي عقاب الآخرة وأن لا تكون الكفارة المستحقة بالحنث لأن تلك الكفارة غير متعلقة بكسب القلب لاستواء حال

٤٣

القاصد بها للخير والشر وتساوى حكم العمد والسهو فعلم أن مراده ما يستحق من العقاب بقصده إلى اليمين الغموس وهي اليمين على الماضي قال القاصد بها خلافها إلى الكذب فينبغي أن يكون اللغو هي التي لا يقصد بها إلى الكذب وهي على الماضي ويظن أنه كما حلف عليه فسماها لغوا من حيث لم يتعلق بها حكم في إيجاب كفارة ولا في استحقاق عقوبة وهي التي روى معناها عن ابن عباس وعائشة أنها قول الرجل لا والله وبلى والله في عرض كلامه وهو يظن أنه صادق فكان بمنزلة اللغو من الكلام الذي لا فائدة فيه ولا حكم له ويحتمل أن يريد به ما قال سعيد بن جبير فيمن حلف على الحرام فلا يؤاخذه الله بتركه يعنى به عقاب الآخرة وإن كانت الكفارة واجبة إذا حنث وقال مسروق كل يمين ليس له الوفاء بها فهي لغو لا تجب فيها كفارة وهذا موافق لقول سعيد بن جبير والأولى الذي قدمنا إلا أن سعيدا يوجب الكفارة ومسروقا لا يوجبها وإن حنث وقد روى عن ابن عباس رواية أخرى وهي أن لغو اليمين ما تجب فيه الكفارة منها وروى مثله عن الضحاك وروى عن ابن عباس أن لغو اليمين حنث النسيان.

باب الإيلاء

قال الله تعالى (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) قال أبو بكر الإيلاء في اللغة هو الحلف يقولون آلى يؤلي إيلاء وإليه قال كثير :

قليل الألايا حافظ ليمينه

وإن بدرت منه الآلية برت

فهذا أصله في اللغة وقد اختص في الشرع بالحلف على ترك الجماع الذي يكسب الطلاق بمضى المدة حتى إذا قيل آلى فلان من امرأته عقل به ذلك* وقد اختلف فيما يكون به موليا على وجوه أحدها ما روى عن على وابن عباس رواية الحسن وعطاء أنه إذا حلف أن لا يقربها لأجل الرضاع لم يكن موليا وإنما يكون موليا إذا حلف أن لا يجامعها على وجه الضرار والغضب والثاني ما روى عن ابن عباس أن كل يمين حالت دون الجماع إيلاء ولم يفرق بين الرضا والغضب وهو قول إبراهيم وابن سيرين والشعبي والثالث ما روى عن سعيد بن المسيب أنه في الجماع وغيره من الصفات نحو أن يحلف أن لا يكلمها فيكون موليا وقد روى جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم قال تزوجت امرأة فلقيت ابن عباس فقال بلغني أن في حلقها شيئا قال تالله لقد خرجت وما أكلمها قال عليك بها قبل أن

٤٤

تمضى أربعة أشهر فهذا يدل على موافقه قول سعيد بن المسيب ويدل على موافقة ابن عمر في أن الهجران من غير يمين هو الإيلاء والرابع قول ابن عمر أنه إن هجرها فهو إيلاء ولم يذكر الحلف فأما من فرق بين حلفه على ترك جماعها ضرارا وبينه على غير وجه الضرار فإنه ذهب إلى أن الجماع حق لها ولها المطالبة به وليس له منعها حقها من ذلك فإذا حلف على ترك حقها من الجماع كان موليا حتى تصل إلى حقها من الفرقة إذ ليس له إلا إمساكها بمعروف أو تسريح بإحسان وأما إذا قصد الصلاح في ذلك بأن تكون مرضعة فحلف أن لا يجامعها لئلا يضر ذلك بالصبي فهذا لم يقصد منع حقها ولا هو غير ممسك لها بمعروف فلا يلزم التسريح بالإحسان ولا يتعلق بيمينه حكم الفرقة وقوله (فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يستدل من اعتبر الضرار لأن ذلك يقتضى أن يكون مذنبا يقتضى الفيء غفرانه وهذا عندنا لا يدل على تخصيصه من كان هذا وصفه لأن الآية قد شملت الجميع وقاصد الضرر أحد من شمله العموم فرجع هذا الحكم إليه دون غيره ويدل على استواء حال المطيع والعاصي في ذلك أنهما يستويان في وجوب الكفارة بالحنث كذلك يجب أن يستويا في إيجاب الطلاق بمضى المدة وأيضا سائر الأيمان المعقودة لا يختلف فيها حكم المطيع والعاصي فيما يتعلق بها من إيجاب الكفارة وجب أن يكون كذلك حكم الطلاق لأنهما جميعا يتعلقان باليمين وأيضا لا يختلف حكم الرجعة على وجه الضرار وغيره كذلك الإيلاء وفقهاء الأمصار على خلاف ذلك لأن الآية لم تفرق بين المطيع والعاصي فهي عامة في الجميع وأما قول من قال إنه إذا قصد ضرارها بيمين على الكلام ونحوه فلا معنى له لأن قوله (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) لا خلاف أنه قد أضمر فيه اليمين على ترك الجماع لاتفاق الجميع على أن الحالف على ترك جماعها مول فترك الجماع مضمر في الآية عند الجميع فأثبتناه وما عدا ذلك من ترك الكلام ونحوه لم تقم الدلالة على إضماره في الآية فلم يضمره ويدل على ما بيناه قوله (فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ومعلوم عند الجميع أن المراد بالفيء هو الجماع ولا خلاف بين السلف فيه فدل ذلك على أن المضمر في قوله (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) هو الجماع دون غيره وأما ما روى عن ابن عمر من أن الهجران يوجب الطلاق فإنه قول شاذ وجائز أن يكون مراده إذا حلف ثم هجرها مدة الإيلاء وهو مع ذلك خلاف الكتاب قال الله تعالى (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) والآلية اليمين على ما بينا وهجرانها ليس

٤٥

بيمين فلا يتعلق به وجوب الكفارة وروى أشعث عن الحسن أن أنس بن مالك كانت عنده امرأة في خلقها سوء فكان يهجرها خمسة أشهر وستة أشهر ثم يرجع إليها ولا يرى ذلك إيلاء وقد اختلف السلف وفقهاء الأمصار بعدهم في المدة التي إذا حلف عليها يكون موليا فقال ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء إذا حلف على أقل من أربعة أشهر ثم تركها أربعة أشهر لم يجامعها لم يكن موليا وهو قول أصحابنا ومالك والشافعى والأوزاعى* وروى عن عبد الله بن مسعود وإبراهيم والحكم وقتادة وحماد أنه يكون موليا إن تركها أربعة أشهر بانت وهو قول ابن شبرمة والحسن بن صالح قال الحسن بن صالح وكذلك إن حلف أن لا يقربها في هذا البيت فهو مول فإن تركها أربعة أشهر بانت بالإيلاء وإن قربها في غيره قبل المدة سقط الإيلاء ولو حلف أن لا يدخل هذه الدار وفيها امرأته ومن أجلها حلف فهو مول* قال أبو بكر قال الله تعالى (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) والإيلاء هو اليمين وقد ثبت بما قدمنا إن ترك جماعها بغير يمين لا يكسبه حكم الإيلاء وإذا حلف على أقل من أربعة أشهر فمضت مدة اليمين كان تاركا لجماعها فيما بقي من مدة الأربعة الأشهر التي هي التربص بغير يمين وترك جماعها بغير يمين لا تأثير له في إيجاب البينونة وما دون الأربعة أشهر لا يكسبه حكم البينونة لأن الله تعالى قد جعل له تربص أربعة أشهر فلم يبق هناك معنى يتعلق به إيجاب الفرقة فكان بمنزلة تارك جماعها بغير يمين فلا يلحقه حكم الإيلاء وأما قول الحسن بن صالح أنه إذا حلف أن لا يقربها في هذا البيت أنه يكون موليا فلا معنى له لأن الإيلاء كل يمين في زوجة يمنع جماعها أربعة أشهر لا يحنث على ما بينا وهذه اليمين لم تمنعه جماعها هذه المدة لأنه يمكنه الوصول إلى جماعها بغير حنث بأن يقربها في غير ذلك البيت* وقد اختلف أيضا فيمن حلف على أربعة أشهر سواء فقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد والثوري هو مول فإن لم يقربها في المدة حتى مضت بانت بالإيلاء وروى عطاء عن ابن عباس قال كان إيلاء أهل الجاهلية السنة والسنتين فوقت الله تعالى لهم أربعة أشهر فمن كان إيلاؤه دون ذلك فليس بمول وقال مالك والشافعى إذا حلف على أربعة أشهر فليس بمول حتى يحلف على أكثر من ذلك* قال أبو بكر هذا قول يدفعه ظاهر الكتاب وهو قوله تعالى (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) فجعل هذه المدة تربصا للفيء فيها ولم يجعل له التربص أكثر منها فمن

٤٦

امتنع من جماعها باليمين هذه المدة أكسبه ذلك حكم الإيلاء الطلاق ولا فرق بين الحلف على الأربعة الأشهر وبينه على أكثر منها إذ ليس له تربص أكثر من هذه المدة ومع ذلك فإن ظاهر الكتاب يقتضى كونه موليا في حلفه على أربعة أشهر وأقل منها وأكثر منها لأن مدة الحلف غير مذكورة في الآية وإنما خصصنا ما دونها بدلالة وبقي حكم اللفظ في الأربعة الأشهر وما فوقها* فإن قيل إذا حلف على أربعة أشهر سواء لم يصح تعلق* الطلاق بها لأنك توقع الطلاق بمضيها ولا إيلاء هناك* قيل له لا يمتنع لأن مضى المدة إذا كان سببا للإيقاع لم يجب اعتبار بقاء اليمين في حال وقوعه ألا ترى أن مضى الحول لما كان سببا لوجوب الزكاة فليس بواجب أن يكون الحول موجودا في حال الوجوب بل يكون معدوما منقضيا وإن من قال لامرأته إن كلمت فلانا فأنت طالق كانت هذه يمينا معقودة فإن كلمته طلقت في الحال وقد انحلت فيها اليمين وبطلت كذلك مضى مدة الإيلاء لما كان سببا لوقوع الطلاق لم يمتنع وقوعه واليمين غير موجودة* وقوله تعالى (فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قال أبو بكر الفيء في اللغة هو الرجوع إلى الشيء ومنه قوله تعالى (حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) يعنى حتى ترجع من البغي إلى العدل الذي هو أمر الله وإذا كان الفيء الرجوع إلى الشيء اقتضى ظاهر اللفظ أنه إذا حلف أن لا يجامعها على وجه الضرار ثم قال لها قد فئت إليك وقد أعرضت عما عزمت عليه من هجران فراشك باليمين أن يكون قد فاء إليها سواء كان قادرا على الجماع أو عاجزا هذا هو مقتضى ظاهر اللفظ إلا أن أهل العلم متفقون على أنه إذا أمكنه الوصول إليها لم يكن فيئه إلا الجماع* واختلفوا فيمن آلى وهو مريض أو بينه وبينها مسيرة أربعة أشهر أو هي رتقاء أو صغيرة أو هو مجبوب فقال أصحابنا إذا فاء إليها بلسانه ومضت المدة والعذر قائم فذلك فيء صحيح ولا تطلق بمضى المدة ولو كان محرما بالحج وبينه وبين الحج أربعة أشهر لم يكن فيئه إلا الجماع وقال زفر فيئه بالقول وقال ابن القاسم إذا آلى وهي صغيرة لا تجامع مثلها لم يكن موليا حتى تبلغ الوطء ثم يوقف بعد مضى أربعة أشهر مذ بلغت الوطء وهو رأى ابن القاسم بن عمرو ولم يروه عن مالك وقال ابن وهب عن مالك في المولى إذا وقف عند انقضاء الأربعة الأشهر ثم راجع امرأته أنه إن لم يصبها حتى تنقضي عدتها فلا سبيل له إليها ولا رجعة إلا أن يكون له عذر من مرض أو سجن أو ما أشبه

٤٧

ذلك فإن ارتجاعه إياها ثابت عليها وإن مضت عدتها ثم تزوجها بعد ذلك فإن لم يصبها حتى ينقضي أربعة أشهر وقف أيضا وقال إسماعيل بن إسحاق قال مالك إن مضى الأربعة الأشهر وهو مريض أو محبوس لم يوقف حتى يبرأ لأنه لا يكلف ما لا يطيق وقال مالك لو مضت أربعة أشهر وهو غائب إن شاء كفر عن يمينه وسقط عنه الإيلاء قال إسماعيل وإنما قال ذلك في هذا الموضع لأن الكفارة قبل الحنث جائزة عنده وإن كان لا يستحب أن يكون إلا بعد الحنث وقال الأشجعى عن الثوري في المولى إذا كان له عذر من مرض أو كبر أو حبس أو كانت حائضا أو نفساء فليفىء بلسانه يقول قد فئت إليك يجزيه ذلك وهو قول الحسن بن صالح وقال الأوزاعى إذا آلى من امرأته ثم مرض أو سافر فأشهد على الفيء من غير جماع وهو مريض أو مسافر ولا يقدر على الجماع فقد فاء فليكفر عن يمينه وهي امرأته وكذلك إن ولدت في الأربعة الأشهر أو حاضت أو طرده السلطان فإنه يشهد على الفيء ولا إيلاء عليه وقال الليث بن سعد إذا مرض بعد الإيلاء ثم مضت أربعة أشهر فإنه يوقف كما يوقف الصحيح فإما فاء وإما طلق ولا يؤخر إلى أن يصح وقال المزني عن الشافعى إذا آلى المجبوب ففيئه بلسانه وقال في الإيلاء لا إيلاء على المجبوب قال ولو كانت صبية فآلى منها استؤنفت به أربعة أشهر بعد ما تصير إلى حال يمكن جماعها والمحبوس يفيء باللسان ولو أحرم لم يكن فيئه إلا الجماع ولو آلى وهي بكر فقال لا أقدر على اقتضاضها أجل أجل العنين* قال أبو بكر الدليل على أنه إذا لم يقدر على جماعها في المدة كان فيئه باللسان قوله (فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وهذا قد فاء لأن الفيء الرجوع إلى الشيء وهو قد كان ممتنعا من وطئها بالقول وهو اليمين فإذا فاء بالقول فقال قد فئت إليك فقد رجع عما منع نفسه منه بالقول إلى ضده فتناوله العموم وأيضا لما تعذر جماعها قام القول فيه مقام الوطء في المنع من البينونة وأما تحريم الوطء بالإحرام والحيض فليس بعذر أما الإحرام فلأنه كان يفعله ولا يسقط حقها من الوطء وأما الحيض والنفاس فإن الله جعل للمولى تربص أربعة أشهر مع علمه بوجود الحيض فيها واتفق السلف على أن المراد الفيء بالجماع في حال إمكان الجماع فلم يجز أن ينقله عنه إلى غيره مع إمكان وطئها وتحريم الوطء لا يخرجه من إمكانه فصار بمنزلة الإحرام والظهار ونحو ذلك لأنه منع من الوطء بتحريمه لا بالعجز وتعذره ولأن حقها باق في الجماع ويدل على ذلك على أنه لو أبانها

٤٨

يخلع وهو مول منها لم يكن التحريم الواقع موجبا لجواز فيئه بالقول وهو مع ذلك لو وطئها في هذه الحال بطل الإيلاء* فإن قيل إذا كان الفيء بالقول لا يسقط اليمين فواجب بقاؤها إذ لا تأثير للفيء بالقول في إسقاطها قيل له هذا غير واجب من قبل أنه جائز ببقاء اليمين وبطلان الإيلاء من جهة ما تعلق به من الطلاق ألا ترى أنه إذا طلقها ثلاثا ثم عادت إليه بعد زوج كانت اليمين باقية لو وطئها حنث ولم يلحقها بها طلاق وإن ترك وطئها وكذلك لو أن رجلا قال لامرأة أجنبية والله لا أقربك لم يكن إيلاء فإن تزوجها كانت اليمين باقية لو وطئها لزمته الكفارة ولا يكون موليا في حكم الطلاق فليس بقاء اليمين إذا علة في حكم الطلاق فجاز من أجل ذلك أن يفيء إليها بلسانه فيسقط حكم الطلاق في هذه اليمين ويبقى حكم الحنث بالوطء وإنما شرط أصحابنا في صحة الفيء بالقول وجود الضرر في المدة كلها ومتى كان الوطء مقدورا عليه في شيء من المدة لم يكن فيئه عندهم إلا الجماع من قبل أن الفيء بالقول قائم مقام الوطء عند عدمه لئلا يقع الطلاق بمضى المدة فمتى قدر على الوطء في المدة بطل الفيء بالقول كالمتيمم إذا أقيم تيممه مقام الطهارة بالماء في إباحة الصلاة كان متى وجد الماء قبل الفراغ منها بطل تيممه وعاد إلى أصل فرضه سواء كان وجوده للماء في أول الصلاة أو في آخرها كذلك القدرة على الوطء في المدة تبطل حكم الفيء بالقول وقال محمد إذا فاء بالقول لوجود العذر في المدة ثم انقضت المدة والعذر قائم فقد بطل حكم الإيلاء منها فكان بمنزلة من حلف على أجنبية أن لا يقربها ثم تزوجها فيكون يمينه باقية إن قربها حنث وإن ترك جماعها أربعة أشهر لم تطلق.

قوله تعالى (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) قال أبو بكر اختلف السلف في عزيمة الطلاق إذا لم يفيء على ثلاثة أوجه فقال ابن عباس عزيمة الطلاق انقضاء الأربعة الأشهر وهو قول ابن مسعود وزيد بن ثابت وعثمان بن عفان وقالوا إنها تبين بتطليقة واختلف عن على وابن عمر وأبى الدرداء فروى عنهم مثل قول الأولين وروى عنهم أنه يوقف بعد مضى المدة فإما أن يفيء إليها وإما أن يطلقها وهو قول عائشة وأبى الدرداء والقول الثالث قول سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله وأبى بكر بن عبد الرحمن والزهري وعطاء وطاوس قالوا إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة رجعية وذهب أصحابنا إلى قول ابن عباس ومن تابعه فقالوا إذا مضت أربعة أشهر قبل أن يفيء بانت بتطليقة وهو قول

«٤ ـ أحكام في»

٤٩

الثوري والحسن بن صالح وقال مالك والليث والشافعى بما روى عن أبى الدرداء وعائشة أنه يوقف بعد مضى المدة فإما أن يفيء وإما أن يطلق ويكون تطليقة رجعية إذا طلق قال مالك ولا تصح رجعته حتى يطأها في العدة وقال الشافعى ولو عفت عن ذلك بعد المدة كان لها بعد ذلك أن تطلب ولا يؤجل في الجماع أكثر من يوم وقال الأوزاعى بقول سعيد بن المسيب وسالم ومن تابعهما أنها تطلق واحدة رجعية بمضى المدة قال أبو بكر قوله تعالى (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يحتمل الوجوه التي حصل عليها اختلاف السلف ولو لا احتماله لها لما تأولوه عليها لأنه غير جائز تأويل اللفظ المأول على ما لا احتمال فيه وقد كان السلف من أهل اللغة والعالمين بما يحتمل من الألفاظ والمعاني المختلفة وما لا يحتملها فلما اختلفوا فيه على هذه الوجوه دل ذلك على احتمال اللفظ لها ومن جهة أخرى وهي أن هذا الاختلاف قد كان شائعا مستفيضا فيما بينهم من غير نكير ظهر من واحد منهم على غيره فصار ذلك إجماعا منهم على توسع الاجتهاد في حمله على أحد هذه الوجوه وإذا ثبت ذلك احتجنا أن ننظر في الأولى من هذه الأقاويل وأشبهها بالحق فوجدنا ابن عباس قد قال عزيمة الطلاق انقضاء الأربعة الأشهر قبل الفيء إليها فسمى ترك الفيء حتى تمضى المدة عزيمة الطلاق فوجب أن يصير ذلك اسما له لأنه لم يخل من أن يكون قاله شرعا أو لغة وأى الوجهين كان فحجته ثابتة واعتبار عمومه واجب إذا كانت أسماء الشرع لا تؤخذ إلا توقيفا وإذا كان هكذا وقد علمنا أن حكم الله في المولى أحد شيئين إما الفيء وإما عزيمة الطلاق وجب أن يكون الفيء مقصورا على الأربعة الأشهر وأنه فائت بمضيها فتطلق لأنه لو كان الفيء باقيا لما كان مضى المدة عزيمة للطلاق ومن جهة أخرى وهو أنه معلوم أن العزيمة إنما هي في الحقيقة عقد القلب على الشيء تقول عزمت على كذا أى عقدت قلبي على فعله وإذا كان كذلك وجب أن يكون مضى المدة أولى بمعنى عزيمة الطلاق من الوقف لأن الوقف يقتضى إيقاع طلاق بالقول إما أن يوقعه الزوج وإما أن يطلقها القاضي عليه على قول من يقول بالوقف وإذا كان كذلك كان وقوع الفرقة بمضى المدة لتركه الفيء فيها أولى بمعنى الآية لأن الله لم يذكر إيقاعا مستأنفا وإنما ذكر عزيمة فغير جائز أن نزيد في الآية ما ليس فيها ووجه آخر وهو أنه لما قال (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)

٥٠

اقتضى ذلك أحد أمرين من فيء أو عزيمة طلاق لا ثالث لهما والفيء إنما هو مراد في المدة مقصور الحكم عليها والدليل عليه قوله تعالى (فَإِنْ فاؤُ) والفاء للتعقيب يقتضى أن يكون الفيء عقيب اليمين لأنه جعل الفيء عقيب اليمين لأنه جعل الفيء لمن له تربص أربعة أشهر وإذا كان حكم الفيء مقصورا على المدة ثم فات بمضيها وجب حصول الطلاق إذ غير جائز له أن يمنع الفيء والطلاق جميعا ويدل على أن المراد الفيء في المدة اتفاق الجميع على صحة الفيء فيها فدل على أنه مراد فيها فصار تقديره فإن فاؤا فيها وكذلك قرئ في حرف عبد الله بن مسعود فحصل الفيء مقصورا عليها دون غيرها وتمضى المدة بفوت الفيء وإذا فات الفيء حصل الطلاق* فإن قيل لما قال تعالى (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ) فعطف بالفاء على التربص في المدة دل على أن الفيء مشروط بعد التربص وبعد مضى المدة وأنه متى ما فاء فإنما عجل حقا لم يكن عليه تعجيله كمن عجل دينا مؤجلا قيل له لو لا أن الفيء مراد الله تعالى لما صح وجوده فيها وكان يحتاج بعد هذا الفيء إلى فيء بعد مضيها فلما صح الفيء في هذه المدة دل على أنه مراد الله بالآية ولذلك بطل معه عزيمة الطلاق ثم قولك إن المراد بالفيء إنما هو بعد المدة مع قولك إن الفيء في المدة صحيح كهو بعدها تبطل معه عزيمة الطلاق مناقضة منك في اللفظ كقولك إنه مراد في المدة غير مراد فيها وقولك إنه كالدين المؤجل إذا عجله لا يزيد عنك ما وصفنا من المناقضة لأن الدين المؤجل لا يخرجه التأجيل من حكم اللزوم ولو لا ذلك لما صح البيع بثمن مؤجل لأن ما تعلق ملكه من الأثمان على وقت مستقبل لا يصح عقد البيع عليه ألا ترى أنه لو قال بعتكه بألف درهم لا يلزمك إلا بعد أربعة أشهر كان البيع باطلا والتأجيل الذي ذكرت لا يخرجه من أن يكون الثمن واجبا ملكا للبائع ومتى عجله وأسقط الأجل كان ذلك من موجب العقد إلا أنه مخالف للفيء في الإيلاء من قبل إن فوات الفيء يوجب الطلاق وإذا كان الفيء مرادا في المدة فواجب أن يكون فواته فيها موجبا للطلاق على ما بينا وأيضا فإن قوله تعالى (فَإِنْ فاؤُ) فيه ضمير المولى المبدوء بذكره في الآية وهو الذي له تربص أربعة أشهر والذي يقتضيه الظاهر إيقاع الفيء عقيب اليمين ودليل آخر وهو قوله (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) كقوله تعالى (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) فلما كانت البينونة واقعة بمضى المدة في تربص الإقراء وجب أن يكون كذلك

٥١

حكم تربص الإيلاء من وجوه أحدها أنا لو وقفنا المولى لحصل التربص أكثر من أربعة أشهر وذلك خلاف الكتاب ولو غاب المولى عن امرأته سنة أو سنتين ولم ترفعه المرأة ولم تطالب بحقها لكان التربص غير مقدور بوقت وذلك خلاف الكتاب والوجه الثاني أنه لما كانت البينونة واقعة بمضى المدة في تربص الإقراء وجب مثله في الإيلاء والمعنى الجامع بينهما ذكر التربص في كل واحدة من المدتين والوجه الثالث أن كل واحدة من المدتين واجبة عن قوله وتعلق بها حكم البينونة فلما تعلقت في إحداهما بمضيها كانت الأخرى مثلها للمعنى الذي ذكرناه* فإن قيل تأجيل العنين حولا بالاتفاق تخيير امرأته بعد مضى الحول إذا لم يصل إليها في الحول ولم يوجب ذلك زيادة في الأجل كذلك ما ذكرت من حكم الإيلاء إيجاب الوقف بعد المدة لا يوجب زيادة فيها قيل له ليس في الكتاب ولا في السنة تقدير أجل العنين وإنما أخذ حكمه من قول السلف والذين قالوا إنه يؤجل حولا هم الذين خيروها بمضيه قبل الوصول إليها ولم يوقعوا الطلاق قبل مضى المدة ومدة الإيلاء مقدرة بالكتاب من غير ذكر التخيير معها فالزائد فيها مخالف لحكمه وأيضا فإن أجل العنين إنما يوجب لها الخيار بمضيه وأجل المولى عندك إنما يوجب عليه الفيء فإن قال أفىء لم يفرق بينهما ولو قال العنين أنا أجامعها بعد ذلك لم يلتفت إلى قوله وفرق بينهما باختيارها فإن قيل لما لم يكن الإيلاء بصريح الطلاق ولا كناية عنه فالواجب أن لا يقع الطلاق* قيل له وليس اللعان بصريح الطلاق ولا كناية عنه فيجب على قول المخالف أن لا توقع الفرقة حتى يفرق الحاكم ولا يلزمنا على أصلنا لأن الإيلاء يجوز أن يكون كناية عن الفرقة إذ كان قوله لا أقربك يشبه كناية الطلاق ولما كان أضعف أمرا من غيرها فلا يقع به الطلاق إلا بانضمام أمر آخر إليه وهو مضى المدة على النحو الذي يقوله إذ قد وجدنا من الكنايات ما لا يقع فيه الطلاق بقول الزوج إلا بانضمام معنى آخر إليه وهو قول الزوج لامرأته قد خيرتك وقوله أمرك بيدك فلا يقع الطلاق فيه إلا باختيارها فكذلك لا يمتنع أن يقال في الإيلاء أنه كناية إلا أنه أضعف حالا من سائر الكنايات فلا يقع فيه الطلاق باللفظ دون انضمام معنى آخر إليه فأما اللعان فلا دلالة فيه على معنى الكنايات لأن قذفه إياها بالزنا وتلاعنهما لا يصلح أن يكون عبارة عن البينونة بحال وأيضا فإن اللعان مخالف للإيلاء من جهة أن حكمه لا يثبت إلا عند الحاكم

٥٢

والإيلاء يثبت حكمه بغير الحاكم فكذلك ما يتعلق به من الفرقة وبهذا المعنى فارق العنين أيضا لأن تأجيل متعلق بالحاكم والإيلاء يثبت حكمه من غير حاكم فكذلك ما يتعلق به من حكم الفرقة واحتج من قال بالوقف بقوله تعالى (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) إنه لما قال سميع عليم دل على أن هناك قولا مسموعا وهو الطلاق قال أبو بكر وهذا جهل من قائله من قبل أن السميع لا يقتضى مسموعا لأن الله تعالى لم يزل سميعا ولا مسموعا وأيضا قال الله تعالى (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وليس هناك قول لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال (لا تتمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموهم فاثبتوا وعليكم بالصمت) وأيضا جائز أن يكون ذلك راجعا إلى أول الكلام وهو قوله تعالى (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) فأخبر أنه سامع لما تكلم به عليم بما أضمره وعزم عليه ومما يدل على وقوع الفرقة بمضى المدة أن القائلين بالوقف يثبتون هناك معاني أخر غير مذكورة في الآية إذ كانت الآية إنما اقتضت أحد شيئين من فيء أو طلاق وليس فيها ذكر مطالبة المرأة ولا وقف القاضي الزوج على الفيء أو الطلاق فلم يجز لنا أن نلحق بالآية ما ليس فيها ولا أن نزيد فيها ما ليس منها وقول مخالفينا يؤدى إلى ذلك ولا يوجب الاقتصار على موجب حكم الآية وقولنا يوجب الاقتصار على حكم الآية من غير زيادة فيها فكان أولى ومعلوم أيضا أن الله تعالى إنما حكم في الإيلاء بهذا الحكم لإيصال المرأة إلى حقها من الجماع أو الفرقة وهو على معنى قوله تعالى (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) وقول من قال بالوقف يقول إن لم يفيء أمره بالطلاق فإذا طلق لم يخل من أن يجعله طلاقا بائنا أو رجعيا فإن جعله بائنا فإن صريح الطلاق لا يكون بائنا عند أحد فيما دون الثلاث وإن جعله رجعيا فلا حظ للمرأة في ذلك لأنه متى شاء راجعها فتكون امرأته كما كانت فلا معنى لإلزامه طلاقا لا تملك به المرأة بضعها وتصل به إلى حقها وأما قول مالك إنه لا يصح رجعته حتى يطأها في العدة فقول شديد الاختلال من وجوه أحدها أنه قال إذا طلقها طلاقا رجعيا والطلاق الرجعى لا تكون الرجعة فيه موقوفة على معنى غيرها والثاني أنه إذا منعه الرجعة إلا بعد الوطء فقد نفى أن يكون رجعيا وهو لو راجعها لم تكن رجعة والثالث أنه محظور عليه الوطء بعد الطلاق عنده ولا تقع الرجعة فيه بنفس الوطء فكيف يباح له وطؤها وأما قول من قال أنه تقع تطليقة رجعية بمضى المدة فإنه قول ظاهر الفساد من وجوه

٥٣

أحدها ما قدمنا ذكره في الفصل الذي قبل هذا والثاني أن سائر الفرق الحادثة في الأصول بغير تصريح فإنها توجب البينونة من ذلك فرقة العنين واختيار الأمة وردة الزوج واختيار الصغيرين فلما لم يكن معه تصريح بإيقاع الطلاق وجب أن يكون بائنا* وقد اختلف في إيلاء الذمي فقال أصحابنا جميعا إذا حلف بعتق أو طلاق أن لا يقربها فهو مول وإن حلف بصدقة أو حج لم يكن موليا وإن حلف بالله كان موليا في قول أبى حنيفة ولم يكن موليا في قول صاحبيه وقال مالك لا يكون موليا في شيء من ذلك وقال الأوزاعى إيلاء الذمي صحيح ولم يفصل بين شيء من ذلك وقال الشافعى الذمي كالمسلم فيما يلزمه من الإيلاء* قال أبو بكر لما كان معلوما أن الإيلاء إنما يثبت حكمه لما يتعلق بالحنث من الحق الذي يلزمه فواجب على هذا أن يصح إيلاء الذمي إذا كان بالعتق والطلاق لأن ذلك يلزمه كما يلزم المسلم وأما الصدقة والصوم والحج فلا يلزمه إذا حنث لأنه لو أوجبه على نفسه لم يلزمه بإيجابه ولأنه لا يصح منه فعل هذه القرب لأنه لا قربة له ولذلك لم يلزمه الزكوات والصدقات الواجبة على المسلمين في أموالهم في أحكام الدنيا فوجب على هذا أن لا يكون موليا بحلفه الحج والعمرة والصدقة والصيام إذ لا يلزمه بالجماع شيء فكان بمنزلة من لم يحلف وقوله تعالى (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) يقتضى عموم المسلم والكافر ولكنا خصصناه بما وصفنا وأما إذا حلف بالله تعالى فإن أبا حنيفة جعله موليا وإن لم تلزمه كفارة في أحكام الدنيا من قبل أن حكم تسمية الله تعالى قد تعلق على الكافر كهي على المسلم بدلالة أن إظهار الكافر تسمية الله تعالى على الذبيحة يبيح أكلها كالمسلم ولو سمى الكافر باسم المسيح لم تؤكل فثبت حكم تسميته وصار كالمسلم في حكمها فكذلك الإيلاء لأنه يتعلق به حكمان أحدهما الكفارة والآخر الطلاق فثبت حكم التسمية عليه في باب الطلاق ومن الناس من يزعم أن الإيلاء لا يكون إلا بالحلف بالله عز وجل وأنه لا يكون بحلفه بالعتاق والطلاق والصدقة ونحوها وهذا غلط من قائله لأن الإيلاء إذا كان هو الحلف وهو حالف بهذه الأمور ولا يصل إلى جماعها إلا بعتق أو طلاق أو صدقة يلزمه وجب أن يكون موليا كحلفه بالله لأن عموم اللفظ ينتظم الجميع إذ كان من حلف بشيء منه فهو مول.

(فصل) ومما تفيد هذه الآية من الأحكام ما استدل به منها محمد بن الحسن على

٥٤

امتناع جواز الكفارة قبل الحنث فقال لما حكم الله للمولى بأحد حكمين من فيء أو عزيمة الطلاق فلو جاز تقديم الكفارة على الحنث لسقط الإيلاء بغير فيء ولا عزيمة طلاق لأنه إن حنث لا يلزمه بالحنث شيء ومتى لم يلزم الحالف بالحنث شيء لم يكن موليا وفي جواز تقديم الكفارة إسقاط حكم الإيلاء بغير ما ذكر الله وذلك خلاف الكتاب والله الموفق للصواب.

باب الإقراء

قال الله تعالى (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) واختلف السلف في المراد بالقرء المذكور في هذه الآية فقال على وعمر وعبد الله بن مسعود وابن عباس وأبو موسى هو الحيض وقالوا هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة وروى وكيع عن عيسى الحافظ عن الشعبي عن ثلاثة عشر رجلا من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم الخبر فالخبر منهم أبو بكر وعمر وابن مسعود وابن عباس قالوا الرجل أحق بامرأته ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة وهو قول سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وقال ابن عمر وزيد بن ثابت وعائشة إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا سبيل له عليها قالت عائشة الإقراء الأطهار وروى عن ابن عباس رواية أخرى أنها إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا سبيل له عليها ولا تحل للأزواج حتى تغتسل وقال أصحابنا جميعا الإقراء الحيض وهو قول الثوري والأوزاعى والحسن بن صالح إلا أن أصحابنا قد قالوا لا تنقضي عدتها إذا كانت أيامها دون العشرة حتى تغتسل من الحيضة الثالثة أو يذهب وقت صلاة وهو قول الحسن بن صالح إلا أنه قال اليهودية والنصرانية في ذلك مثل المسلمة وهذا لم يقله أحد ممن جعل الإقراء الحيض غير الحسن ابن صالح وقال أصحابنا الذمية تنقضي عدتها بانقطاع الدم من الحيضة الثالثة لا غسل عليها فهي في معنى من اغتسلت فلا تنتظر بعد انقطاع الدم شيئا آخر وقال ابن شبرمة إذا انقطع من الحيضة الثالثة بطلت الرجعة ولم يعتبر الغسل وقال مالك والشافعى الإقراء الأطهار فإذا طعنت في الحيضة الثالثة فقد بانت وانقطعت الرجعة قال أبو بكر قد حصل من اتفاق السلف وقوع اسم الإقراء على المعنيين من الحيض ومن الأطهار من وجهين أحدهما أن اللفظ لو لم يكن محتملا لهما لما تأوله السلف عليهما لأنهم أهل اللغة والمعرفة بمعاني الأسماء وما يتصرف عليه المعاني من العبارات فلما تأولها فريق على الحيض وآخرون على الأطهار

٥٥

علمنا وقوع الاسم عليهما ومن جهة أخرى أن هذا الإختلاف قد كان شائعا بينهم مستفيضا ولم ينكر واحد منهم على مخالفيه في مقالته بل سوغ له القول فيه فدل ذلك على احتمال اللفظ للمعنيين وتسويغ الاجتهاد فيه ثم لا يخلو من أن يكون الاسم حقيقة فيهما أو مجازا فيهما أو حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر فوجدنا أهل اللغة مختلفين في معنى القرء في أصل اللغة فقال قائلون منهم هو اسم للوقت حدثنا بذلك أبو عمر وغلام ثعلب عن ثعلب أنه كان إذا سئل عن معنى القرء لم يزدهم على الوقت وقد استشهد لذلك بقول الشاعر :

يا رب مولى حاسد مباغض

على ذي ضغن وضب فارض

له قروء كقروء الحائض يعنى وقتا تهيج فيه عداوته وعلى هذا تألوا قول الأعشى :

وفي كل عام أنت جاشم غزوة

تشد لأقصاها عزيم عزائكا

مورثة ما لا وفي الحي رفعة

لما ضاع فيها من قروء نسائكا

يعنى وقت وطئهن ومن الناس من يتأوله على الطهر نفسه كأنه قال لما ضاع فيها من طهر نسائك وقال الشاعر :

كرهت العقر عقر بنى شليل

إذا هبت لقارئها الرياح

يعنى لوقتها في الشتاء وقال آخرون هو الضم والتأليف ومنه قوله :

تريك إذا دخلت على خلاء

وقد أمنت عيون الكاشحينا

ذراعي عطيل أدماء بكر

هجان اللون لم تقرأ جنينا

يعنى لم تضم في بطنها جنينا ومنه قولهم قريت الماء في الحوض إذا جمعته وقروت الأرض إذا جمعت شيئا إلى شيء وسيرا إلى سير ويقولون ما قرأت الناقة سلى قط أى ما اجتمع رحمها على ولد قط ومنه اقرأت النجوم إذا اجتمعت في الأفق ويقال اقرأت المرأة إذا حاضت فهي مقرئ ذكره الأصمعى والكسائي والفراء وحكى عن بعضهم أنه قال هو الخروج من شيء إلى شيء وهذا قول ليس عليه شاهد من اللغة ولا هو ثابت عمن يوثق به من أهلها وليس فيما ذكرنا من الشواهد ما يليق بهذا المعنى فهو ساقط مردود ثم يقول وإن كانت حقيقته الوقت فالحيض أولى به لأن الوقت إنما يكون وقتا لما يحدث فيه والحيض هو الحادث وليس الطهر شيئا أكثر من عدم الحيض وليس هو شيء حادث

٥٦

فوجب أن يكون الحيض أولى بمعنى الاسم وإن كان هو الضم والتأليف فالحيض أولى به لأن دم الحيض إنما يتألف ويجتمع من سائر أجزاء البدن في حال الحيض فمعناه أولى بالاسم أيضا* فإن قيل إنما يتألف الدم ويجتمع في أيام الطهر ثم يسيل في أيام الحيض قيل له أحسبت أن الأمر كذلك ودلالته قائمة على ما ذكرنا لأنه قد صار القرء اسما للدم إلا أنك زعمت أنه يكون اسما له في حال الطهر وقلنا يكون اسما له في حال الحيض فلا مدخل إذا للطهر في تسميته بالقرء لأن الطهر ليس هو الدم ألا ترى أن الطهر قد يكون موجودا مع عدم الدم تارة ومع وجوده أخرى على أصلك فإذا القرء اسم للدم وليس باسم للطهر ولكنه لا يسمى بهذا الاسم إلا بعد ظهوره لأنه لا يتعلق به حكم إلا في هذه الحال ومع ذلك فلا يتيقن كونه في الرحم في حال الطهر فلم يحركونه في حال الطهر أن نسميه باسم القرء لأن القرء اسم يتعلق به حكم ولا حكم له قبل سيلانه وقبل العلم بوجوده وأيضا فمن أين لك العلم باجتماع الدم في الرحم في حال الطهر واحتباسه فيه ثم سيلانه في وقت الحيض فإن هذا قول عار من دليل يقوم عليه ويرده ظاهر الكتاب قال الله تعالى (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) فاستأثر تعالى بعلم ما في الأرحام ولم يطلع عباده عليه فمن أين لك القضاء باجتماع الدم في حال الطهر ثم سيلانه في وقت الحيض وما أنكرت ممن قال إنما يجتمع من سائر البدن ويسيل في وقت الحيض لا قبل ذلك ويكون أولى بالحق منك لأنا قد علمنا يقينا وجوده في هذا الوقت ولم نعلم وجوده في وقت قبله فلا يحكم به لوقت متقدم وإذ قد بينا وقوع الاسم عليهما وبينا حقيقة ما يتناوله هذا الاسم في اللغة فليدل على أنه اسم للحيض دون الطهر في الحقيقة وأن إطلاقه على الطهر إنما هو مجاز واستعارة وإن كان ما قدمنا من شواهد اللغة وما يحتمله اللفظ من حقيقتها كافية في الدلالة على أن حقيقته تختص بالحيض دون الطهر فنقول لما وجدنا اسماء الحقائق التي لا تنتفى عن مسمياتها بحال ووجدنا اسماء المجاز قد يجوز أن تنتفى عنها في حال وتلزمها في أخرى ثم وجدنا اسم القرء غير منتف عن الحيض بحال ووجدناه قد ينتفى عن الطهر لأن الطهر موجود في الآيسة والصغيرة وليستا من ذوات الإقراء علمنا أن اسم القرء للطهر الذي بين الحيضتين مجاز وليس بحقيقة سمى بذلك لمجاورته للحيض كما يسمى الشيء باسم غيره إذا كان مجاورا له وكان منه بسبب ألا ترى أنه حين جاور الحيض سمى به وحين لم

٥٧

يجاوره لم يسم به فدل ذلك على أنه مجاز في الطهر حقيقة في الحيض ومما يدل على أن المراد الحيض دون الطهر أنه لما كان اللفظ محتملا للمعنيين واتفقت الأمة على أن المراد أحدهما فلو أنهما تساويا في الاحتمال لكان الحيض أولاها وذلك لأن لغة النبي صلّى الله عليه وسلّم وردت بالحيض دون الطهر بقوله المستحاضة تدع الصلاة أيام إقرائها وقال لفاطمة بنت أبى حبيش فإذا أقبل قرؤك فدعى الصلاة وإذا أدبر فاغتسلي وصلى ما بين القرء إلى القرء فكان لغة النبي صلّى الله عليه وسلّم أن القرء الحيض فوجب أن لا يكون معنى الآية إلا محمولا عليه لأن القرآن لا محالة نزل بلغته صلّى الله عليه وسلّم وهو المبين عن الله عز وجل مراد الألفاظ المحتملة للمعاني ولم يرد لغته بالطهر فكان حمله على الحيض أولى منه على الطهر ويدل عليه ما حدثنا محمد بن بكر البصري قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن مسعود قال حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن مظاهر بن أسلم عن القاسم بن محمد عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال (طلاق الأمة ثنتان وقرؤها حيضتان) قال أبو عاصم فحدثني مظاهر قال حدثني به القاسم عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مثله إلا أنه قال وعدتها حيضتان وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا محمد ابن شاذان قال حدثنا معلى قال حدثنا عمر بن شبيب عن عبد الله بن عيسى عن عطية عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال تطليق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان فنص على الحيضتين في عدة الأمة وذلك خلاف قول مخالفينا لأنهم يزعمون أن عدتها طهران ولا يستوعبون لها حيضتين وإذا ثبت أن عدة الأمة حيضتان كانت عدة الحرة ثلاث حيض وهذان الحديثان وإن كان ورودهما من طريق الآحاد فقد اتفق أهل العلم على استعمالها في أن عدة الأمة على النصف من عدة الحرة فأوجب ذلك صحته* ويدل عليه أيضا حديث أبى سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في سبايا أوطاس لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرئ بحيضة ومعلوم أن أصل العدة موضوع للاستبراء فلما جعل النبي صلّى الله عليه وسلّم استبراء الأمة بالحيضة دون الطهر وجب أن تكون العدة بالحيض دون الطهر إذ كل واحد منهما موضوع في الأصل للاستبراء أو لمعرفة براءة الرحم من الحبل وإن كان قد تجب العدة على الصغيرة والآيسة لأن الأصل للاستبراء ثم حمل عليه غيره من الآيسة والصغيرة لئلا يترخص في التي قاربت البلوغ وفي الكبيرة التي قد يجوز أن تحيض وترى الدم بترك العدة فأوجب على الجميع العدة احتياطا للاستبراء الذي ذكرنا* ويدل عليه

٥٨

أيضا قوله تعالى (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) فأوجب الشهور عند عدم الحيض فأقامها مقامها فدل ذلك على أن الأصل هو الحيض كما أنه لما قال (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) علمنا أن الأصل الذي نقل عنه إلى الصعيد هو الماء* ويدل عليه أن الله حصر الإقراء بعدد يقتضى استيفاءه للعدة وهو قوله تعالى (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) واعتبار الطهر فيه يمنع استيفاءها بكمالها فيمن طلقها للسنة لأن طلاق السنة أن يوقعه في طهر لم يجامعها فيه فلا بد إذا كان كذلك من أن يصادف طلاقه طهرا قد مضى بعضه ثم تعتد بعده بطهرين آخرين فهذان طهران وبعض الثالث فلما تعذر استيفاء الثلاث إذا أراد طلاق السنة علمنا أن المراد الحيض الذي يمكن استيفاء العدد المذكور في الآية بكماله وليس هذا كقوله تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) فالمراد شهران وبعض الثالث لأنه لم يحصرها بعدد وإنما ذكرها بلفظ الجمع والإقراء محصورة بعدد وإنما ذكرها بلفظ الجمع والإقراء محصورة بعدد لا يحتمل الأقل منه ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول رأيت ثلاثة رجال ومرادك رجلان وجائز أن تقول رأيت رجالا والمراد رجلان وأيضا فإن قوله تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) معناه عمل الحج في أشهر معلومات ومراده في بعضها لأن عمل الحج لا يستغرق الأشهر وإنما يقع في بعض الأوقات منها فلم يحتج فيه إلى استيفاء العدد وأما الإقراء فواجب استيفاؤها للعدة فإن كانت الإفراد الأطهار فواجب أن يستوفى العدد المذكور كما يستغرق الوقت كله فيكون جميع أوقات الطهر عدة إلى انقضاء عددها فلم يجز الاقتصار به على ما دون العدد المذكور فوجب أن يكون المراد الحيض إذا أمكن استيفاء العدد عند إيقاع طلاق السنة وكما لم يجز الاقتصار في هذه الآيسة والصغيرة على شهرين وبعض الثالث بقوله تعالى (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) كذلك لما ذكر ثلاثة قروء على شهرين وبعض الثالث* فإن قيل إذا طلقها في الطهر* فبقيته قرء تام* قيل له فينبغي أن تنقضي عدتها بوجود جزء من الطهر الثالث إذا كان الجزء* منه قرءا تاما* فإن قيل القرء هو الخروج من حيض أو من طهر إلى حيض إلا أنهم قد اتفقوا أنه لو طلقها وهي حائض لم يكن خروجها من حيض إلى طهر معتدا به قرء فإذا ثبت أن خروجها من حيض إلى طهر غير مراد بقي الوجه الآخر وهو خروجها من طهر إلى حيض ويمكن استيفاء ثلاثة أقراء كاملة إذا طلقها في الحيض* قيل له قول القائل القرء هو خروج من طهر إلى حيض أو من حيض إلى طهر قول يفسد من وجوه أحدها أن السلف اختلفوا

٥٩

في معنى قوله تعالى (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) فقال منهم قائلون هي الحيض وقال آخرون هي الأطهار ولم يقل أحد منهم إنه خروج من حيض إلى طهر أو من طهر إلى حيض فقول القائل بما وصفت خارج عن إجماع السلف وقد انعقد الإجماع منهم بخلافه فهو ساقط ومن جهة أخرى أن أهل اللغة اختلفوا في معناه في أصل اللغة على ما قدمنا من أقوالهم فيه ولم يقل منهم أحد فيما ذكر من حقيقته ما يوجب احتمال خروجها من حيض فيفسد من هذا الوجه أيضا ويفسد أيضا من جهة أن كل من ادعى معنى لاسم من طريق اللغة فعليه أن يأتى بشاهد منها عليه أو رواية عن أهلها فيه فلما عرى هذا القول من دلالة اللغة ورواية فيها سقط وهن أخرى ومن جهة وهي أنه لو كان القرء اسما للانتقال على الوجه الذي ذكرت لوجب أن يكون قد سمى به في الأصل غيره على وجه الحقيقة ثم ينتقل من الانتقال من طهر إلى حيض إذ معلوم أنه ليس باسم موضوع له في أصل اللغة وإنما هو منقول من غيره فإذا لم يسم شيء من ضروب الانتقال بهذا الاسم علمنا أنه ليس باسم له وأيضا لو كان كذلك لوجب أن يكون انتقالها من الطهر إلى الحيض قرءا ثم انتقالها من الحيض إلى الطهر قرءا ثانيا ثم انتقالها من الطهر الثاني إلى الحيض قرءا ثالثا فتنقضي عدتها بدخولها في الحيضة الثانية إذ ليس بحيض على أصلك اسم القرء بالانتقال من الحيض إلى الطهر دون الانتقال من الطهر إلى الحيض* فإن قيل الظاهر يقتضيه إلا أن دلالة الإجماع منعت منه* قيل له ما أنكرت ممن قال لك إن المراد الانتقال من الحيض إلى الطهر إلا أنه إذا طلقها في الحيض لم يعتد بانتقالها من الحيض إلى الظهر فيه بدلالة الإجماع وحكم اللفظ باق بعد ذلك في سائر الانتقالات من الحيض إلى الطهر فإذا لم يمكنه الانفصال مما ذكرنا وتعارضا سقطا وزال الاحتجاج به* فإن قيل اعتبار خروجها من طهر إلى حيض أولى من اعتبار خروجها من حيض إلى طهر لأن في انتقالها من طهر إلى حيض دلالة على براءة رحمها من الحبل وخروجها من حيض إلى طهر غير دال على ذلك لأنه قد يجوز أن تحبل المرأة في آخر حيضها ويدل عليه قول تأبط شرا :

ومبرأ من كل غبر حيضة

وفساد مرضعة وداء مغيل

يعنى إن أمه لم تحبل به في بقية حيضها فيقال له قولك أنه يجوز أن تحبل به في بقية حيضها قول خطأ لأن الحبل لا يجامعه الحيض قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل

٦٠