أحكام القرآن - ج ٢

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٦

والضحاك والسدى في قوله (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) قال لا تجعلوا الزائف بدل الجيد والمهزول بدل السمين وأما قوله (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) فإنه روى عن مجاهد والسدى لا تأكلوا أموالهم مع أموالكم مضيفين لها إلى أموالكم فنهوا عن خلطها بأموالهم على وجه الاستقراض لتصير دينا في ذمته فيجوز لهم أكلها وأكل أرباحها* قوله تعالى (إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة إثما كبيرا وفي هذه الآية دلالة على وجوب تسليم أموال اليتامى بعد البلوغ وإيناس الرشد إليهم وإن لم يطالبوا بأدائها لأن الأمر بدفعها مطلق متوعد على تركه غير مشروط فيه مطالبة الأيتام بأدائها ويدل على أن من له عند غيره مال فأراد دفعه إليه أنه مندوب على الإشهاد عليه لقوله تعالى (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) والله الموفق.

باب تزويج الصغار

قال الله تعالى (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) روى الزهري عن عروة قال قلت لعائشة قوله تعالى (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) الآية فقالت يا ابن أختى هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ويريد أن ينكحها بأدنى من صداقها فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن وأمروا أن ينكحوا سواهن من النساء قالت عائشة ثم أن الناس استفتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد هذه الآية فيهن فأنزل الله (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) ـ إلى قوله تعالى ـ (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) قالت والذي ذكر الله تعالى أنه يتلى عليكم في الكتاب الآية الأولى التي قال فيها (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) وقوله في الآية الأخرى (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حتى تكون قليلة المال والجمال فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن قال أبو بكر وروى عن ابن عباس نحو تأويل عائشة في قوله تعالى (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) وروى عن سعيد بن جبير والضحاك والربيع تأويل غير هذا وهو ما حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع الجرجانى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن أيوب عن سعيد بن جبير في قوله تعالى (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ)

٣٤١

يقول ما أحل لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع وخافوا في النساء مثل الذي خفتم في اليتامى ألا تقسطوا فيهن وروى عن مجاهد وإن خفتم ألا تقسطوا فحرجتم من أكل أموالهم وكذلك فتحرجوا من الزنا فانكحوا النساء نكاحا طيبا مثنى وثلاث ورباع وروى فيه قول ثالث وهو ما روى شعبة عن سماك عن عكرمة قال كان الرجل من قريش تكون عنده النسوة ويكون عنده الأيتام فيذهب ماله فيميل على مال الأيتام فنزلت (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) الآية وقد اختلف الفقهاء في تزويج غير الأب والجد الصغيرين فقال أبو حنيفة لكل من كان من أهل الميراث من القربات أن يزوج الأقرب فالأقرب فإن كان المزوج الأب أو الجد فلا خيار لهم بعد البلوغ وإن كان غيرهما فلهم الخيار بعد البلوغ وقال أبو يوسف ومحمد لا يزوج الصغيرين إلا العصبات الأقرب فالأقرب قال أبو يوسف ولا خيار لهما بعد البلوغ وقال محمد لهما الخيار إذا زوجهما غير الأب والجد وذكر ابن وهب عن مالك في تزويج الرجل يتيمه إذا رأى له الفضل والصلاح والنظر أن ذلك جائز له عليه وقال ابن القاسم عن مالك في الرجل يزوج أخته وهي صغيرة أنه لا يجوز ويزوج الوصي وإن كره الأولياء والوصي أولى من الولي غير أنه لا يزوج الثيب إلا برضاها ولا ينبغي أن يقطع عنها الخيار الذي جعل لها في نفسها ويزوج الوصي بنيه الصغار وبناته الصغار ولا يزوج البنات الكبار إلا برضاهن وقول الليث في ذلك كقول مالك وكذلك قال يحيى بن سعيد وربيعة أن الوصي أولى وقال الثوري لا يزوج العم ولا الأخ الصغيرة ولا أموال إلى الأوصياء والنكاح إلى الأولياء وقال الأوزاعى لا يزوج الصغيرة إلا الأب وقال الحسن بن صالح لا يزوج الوصي إلا أن يكون وليا وقال الشافعى لا يزوج الصغار من الرجال والنساء إلا الأب أو الجد إذا لم يكن أب ولا ولاية للوصي على الصغيرة قال أبو بكر روى جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال قال عمر من كان في حجره تركة لها عوار فليضمها إليه فإن كانت رغبة فليزوجها غيره وروى عن على وابن مسعود وابن عمر وزيد بن ثابت وأم سلمة والحسن وطاوس وعطاء في آخرين جواز تزويج غير الأب والجد الصغيرة وروى عن ابن عباس وعائشة في تأويل الآية ما ذكرنا وأنها في اليتيمة فتكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ولا يقسط لها في صداقها فنهوا أن ينكحوهن أو يبلغوا بهن أعلى سننهن في الصداق ولما كان ذلك عندهما تأويل الآية دل على أن جواز ذلك

٣٤٢

من مذهبهما أيضا ولا نعلم أحدا من السلف منع ذلك والآية يدل على ما تأولها عليه ابن عباس وعائشة لأنهما ذكر أنها في اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ولا يقسط لها في الصداق فنهوا أن ينكحوهن أو يقسطوا لهن في الصداق وأقرب الأولياء الذي تكون اليتيمة في حجره ويجوز له تزوجها هو ابن العم فقد تضمنت الآية جواز تزوج ابن العم اليتيمة التي في حجره* فإن قيل لم جعلت هذا التأويل أولى من* تأويل سعيد بن جبير وغيره الذي ذكرت مع احتمال الآية للتأويلات كلها* قيل له ليس يمتنع أن يكون المراد المعنيين جميعا لاحتمال اللفظ لهما وليسا متنافيين فهو عليهما جميعا ومع ذلك فإن ابن عباس وعائشة قد قالا إن الآية نزلت في ذلك وذلك لا يقال بالرأى وإنما يقال توقيفا فهو أولى لأنهما ذكرا سبب نزولها والقصة التي نزلت فيها فهو أولى فإن قيل يجوز أن يكون المراد الجد* قيل له إنما ذكرا أنها نزلت في اليتيمة التي في حجره ويرغب في نكاحها والجد لا يجوز له نكاحها فعلمنا أن المراد ابن العم ومن هو أبعد منه من سائر الأولياء* فإن قيل إن الآية إنما هي في الكبيرة لأن عائشة قالت أن الناس استفتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد هذه الآية فيهن فأنزل الله (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ) يعنى قوله (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) قال فلما قال (فِي يَتامَى النِّساءِ) دل على أن المراد الكبار منهن دون الصغار لأن الصغار لا يسمين نساء* قيل له هذا غلط من وجهين أحدهما أن قوله (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) حقيقته تقتضي اللاتي لم يبلغن لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يتم بعد بلوغ الحلم ولا يجوز صرف الكلام عن حقيقته إلى المجاز إلا بدلالة والكبيرة تسمى يتيمة على وجه المجاز وقوله تعالى (فِي يَتامَى النِّساءِ) لا دلالة فيه على ما ذكرت لأنهن إذا كن من جنس النساء جازت إضافتهن إليهن وقد قال الله تعالى (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) والصغار والكبار داخلات فيهن وقال (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) والصغار والكبار مرادات به وقال (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) ولو تزوج صغيرة حرمت عليه أمها تحريما مؤبدا فليس إذا في إضافة اليتامى إلى النساء دلالة على أنهن الكبار دون الصغار* والوجه الآخر أن هذا التأويل الذي ذكره ابن عباس وعائشة لا يصح في الكبار لأن الكبيرة إذا رضيت بأن يتزوجها بأقل من مهر مثلها جاز النكاح وليس لأحد

٣٤٣

أن يعترض عليها فعلمنا أن المراد الصغار اللاتي يتصرف عليهن في التزويج من هن في حجره* ويدل عليه ما روى محمد بن إسحاق قال أخبرنى عبد الله بن أبى بكر بن حزم وعبد الله بن الحارث ومن لا أتهم عن عبد الله بن شداد قال كان زوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أم سلمة ابنها سلمة فزوجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنت حمزة وهما صبيان صغيران فلم يجتمعا حتى ماتا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هل جزيت سلمة بتزويجه إياى أمه وفيه الدلالة على ما ذكرنا من وجهين أحدهما أنه زوجهما وليس بأب ولا جد فدل على أن تزويج غير الأب والجد جائز للصغيرين والثاني أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما فعل ذلك وقد قال الله تعالى (فَاتَّبِعُوهُ) فعلينا اتباعه فيدل على أن للقاضي تزويج الصغيرين وإذا جاز ذلك للقاضي جاز لسائر الأولياء لأن أحدا لم يفرق بينهما ويدل عليه أيضا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لا نكاح إلا بولي فأثبت النكاح إذا كان بولي والأخ وابن العم أولياء والدليل عليه أنها لو كانت كبيرة كانوا أولياء في النكاح ويدل عليه من طريق النظر اتفاق الجميع على أن الأب والجد إذا لم يكونا من أهل الميراث إن كانا كافرين أو عبدين لم يزوجا فدل على أن هذه الآية مستحقة بالميراث فكل من كان أهل الميراث فله أن يزوج الأقرب فالأقرب ولذلك قال أبو حنيفة أن للأم ومولى الموالاة أن يزوجوا إذا لم يكن أقرب منهم لأنهم من أهل الميراث* فإن قيل لما كان في النكاح* مال وجب أن لا يجوز عقد من لا يجوز تصرفه في المال* قيل له إن المال يثبت في النكاح من غير تسمية فلا اعتبار فيه بالولاية في المال ألا ترى أن عند من لا يجيز النكاح بغير ولى فللأولياء حتى في التزويج وليست لهم ولاية في المال على الكبيرة ويلزم مالكا والشافعى أن لا يجيز تزويج الأب لابنته البكر الكبيرة إذ لا ولاية له عليها في المال فلما جاز عند مالك والشافعى لأب البكر الكبيرة تزويجها بغير رضاها مع عدم ولايته عليها في المال دل ذلك على أنه لا اعتبار في استحقاق الولاية في عقد النكاح بجواز التصرف في المال ولما ثبت بما ذكرنا من دلالة الآية جواز تزويج ولى الصغيرة إياها من نفسه دل على أن لولى الكبيرة أن يزوجها من نفسه برضاها ويدل أيضا على أن العاقد للزوج والمرأة يجوز أن يكون واحدا بأن يكون وكيلا لهما كما جاز لولى الصغيرة أن يزوجها من نفسه فيكون الموجب للنكاح والقابل له واحدا ويدل أيضا على أنه إذا كان وليا لصغيرين جاز له أن يزوج أحدهما من صاحبه فالآية دالة من هذه الوجوه على بطلان مذهب الشافعى في قوله إن الصغيرة

٣٤٤

لا يزوجها غير الأب والجد وفي قوله إنه لا يجوز لولى الكبيرة أن يتزوجها برضاها بغير محضر منها ويدل على بطلان قوله في أنه لا يجوز أن يكون رجل واحد وكيلا لهما جميعا في عقد النكاح عليهما* وإنما قال أصحابنا إنه لا يجوز للوصي تزويج الصغيرة من قبل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لا نكاح إلا بولي والوصي ليس بولي لها ألا ترى أن قوله (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) فلو وجب لها قود لم يكن الوصي لها وليا في ذلك ولم يستحق الولاية فيه فثبت أن الوصي لا يقع عليه اسم الولي فواجب أن لا يجوز تزويجه إياها إذ ليس بولي لها* فإن قيل فواجب على هذا أن لا يكون الأخ أو العم وليا للصغيرة لأنهما* لا يستحقان الولاية في القصاص* قيل له لم نجعل عدم الولاية في القصاص علة في ذلك حتى يلزمنا عليها وإنما بينا أن ذلك الاسم لا يتناوله ولا يقع عليه من جهة ما يستحق من التصرف في المال وأما الأخ والعم فهما وليان لأنهما من العصبات واحد لا يمتنع من إطلاق اسم الولي على العصبات قال الله تعالى (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) قيل إنه أراد به بنى أعمامه وعصباته فاسم الولي يقع على العصبات ولا يقع على الوصي فلما قال صلّى الله عليه وسلّم لا نكاح إلا بولي انتفى بذلك جواز تزويج الوصي للصغيرة إذ ليس بولي وقال صلّى الله عليه وسلّم أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها وفي لفظ آخر بغير إذن مواليها فنكاحها باطل فقد اقتضى بطلان نكاح المجنونة والبكر الكبيرة إذا زوجها الوصي أو تزوجت بإذن الوصي دون إذن الولي لحكم النبي صلّى الله عليه وسلّم ببطلان نكاحها إذ كانت متزوجة بغير إذن وليها وأيضا فإن هذه الولاية في النكاح مستحقة بالميراث لما دللنا عليه وليس الوصي من أهل الميراث فلا ولاية له وأيضا فإن السبب الذي به يستحق الولاية في النكاح هو النسب وذلك لا يصح النقل فيه ولا يستحقه الوصي لعدم السبب الذي به يستحق الولاية وليس التصرف في المال بعد الموت كالتصرف في النكاح لأن المال يصح النقل فيه والنكاح لا يصح النقل فيه إلى غير الزوجين فلم يجز أن يكون للوصي ولاية فيه وليس الوصي كالوكيل في حال حياة الأب لأن الوكيل يتصرف بأمر الموكل وأمره باق لجواز تصرفه وأمر الميت منقطع فيما لا يصح فيه النقل وهو النكاح فلذلك اختلفا* فإن قيل فإن الحاكم* يزوج عندكم الصغيرين مع عدم الميراث والولاية من طريق النسب* قيل له إن الحاكم قائم مقام جماعة المسلمين فيما يتصرف فيه من ذلك وجماعة المسلمين هم من أهل ميراث

٣٤٥

الصغيرين وهم باقون فاستحق الولاية من حيث هو كالوكيل لهم وهم من أهل ميراثه لأنه لو مات ولا وارث له من ذوى أنسابه ورثه المسلمون* وفي هذه الآية دلالة أيضا على أن للأب تزويج ابنته الصغيرة من حيث دلت على جواز تزويج سائر الأولياء إذ كان هو أقرب الأولياء ولا نعلم في جواز ذلك خلافا بين السلف والخلف من فقهاء الأمصار إلا شيئا رواه بشر بن الوليد عن ابن شبرمة أن تزويج الآباء على الصغار لا يجوز وهو مذهب الأصم ويدل على بطلان هذا المذهب سوى ما ذكرنا من دلالة هذه الآية قوله تعالى (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) فحكم بصحة طلاق الصغيرة التي لم تحض والطلاق لا يقع إلا في نكاح صحيح فتضمنت الآية جواز تزويج الصغيرة* ويدل عليه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم تزوج عائشة وهي بنت ست سنين زوجها إياه أبو بكر الصديق رضى الله عنه وقد حوى هذا الخبر معنيين أحدهما جواز تزويج الأب الصغيرة والآخر أن لا خيار لها بعد البلوغ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يخيرها بعد البلوغ وأما قوله تعالى (ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) فإن مجاهدا قال معناه أنكحوا نكاحا طيبا وعن عائشة والحسن وأبى مالك ما أحل لكم وقال الفراء أراد بقوله تعالى (ما طابَ) المصدر كأنه قال فانكحوا من النساء الطيب أى الحلال قال ولذلك جاز أن يقول ما ولم يقل من* وأما قوله تعالى (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) فإنه إباحة للثنتين إن شاء وللثلاث إن شاء وللرباع إن شاء على أنه مخير في أن يجمع في هذه الأعداد من شاء قال فإن خاف أن لا يعدل اقتصر من الأربع على الثلاث فإن خاف أن لا يعدل اقتصر من الثلاث على الاثنتين فإن خاف أن لا يعدل بينهما اقتصر على الواحدة* وقيل إن الواو هاهنا بمعنى أو كأنه قال مثنى أو ثلاث أو رباع وقيل أيضا فيه أن الواو على حقيقتها ولكنه على وجه البدل كأنه قال وثلاث بدلا من مثنى ورباع بدلا من ثلاث لا على الجمع بين الأعداد ومن قال هذا قال أنه لو قيل بأو لجاز أن لا يكون الثلاث لصاحب المثنى ولا الرباع لصاحب الثلاث فأفاد ذكر الواو إباحة الأربع لكل أحد ممن دخل في الخطاب وأيضا فإن المثنى داخل في الثلاث والثلاث في الرباع إذ لم يثبت أن كل واحد من الأعداد مراد مع الأعداد الأخر عن وجه الجمع فتكون تسعا وهذا كقوله تعالى (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها)

٣٤٦

إلى قوله (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) والمعنى في أربعة أيام باليومين المذكورين بديا ثم قال (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) ولولا أن ذلك كذلك لصارت الأيام كلها ثمانية وقد علم أن ذلك ليس كذلك لقوله تعالى (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) فكذلك المثنى داخل في الثلاث والثلاث في الرباع فجميع ما أباحته الآية من العدد أربع لا زيادة عليها وهذا العدد إنما هو للأحرار دون العبيد في قول أصحابنا والثوري والليث والشافعى. وقال مالك للعبد أن يتزوج أربعا والدليل على أن الآية في الأحرار دون العبيد قوله تعالى (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ) إنما هو مختص بالأحرار لأن العبد لا يملك عقد النكاح لاتفاق الفقهاء أنه لا يجوز له أن يتزوج إلا بأذن المولى وأن المولى أملك بالعقد عليه منه بنفسه لأن المولى لو زوجه وهو كاره لجاز عليه ولو تزوج هو بغير إذن المولى لم يجز نكاحه وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر وقال الله تعالى (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) فلما كان العبد لا يملك عقد النكاح لم يكن من أهل الخطاب بالآية فوجب أن تكون الآية في الأحرار وأيضا لا يختلفون أن للرق تأثيرا في نقصان حقوق النكاح المقدرة كالطلاق والعدة فلما كان العدد من حقوق النكاح وجب أن يكون للعبد النصف مما للحر وقد روى عن ستة من الصحابة أن العبد لا يتزوج إلا اثنتين ولا يروى عن أحد من نظرائهم خلافه فيما نعلمه* وقد روى سليمان بن يسار عن عبد الله بن عتبة قال قال عمر بن الخطاب ينكح العبد اثنتين ويطلق اثنتين وتعتد الأمة حيضتين فإن لم تحض فشهر ونصف وروى الحسن وابن سيرين عن عمر وعبد الرحمن بن عوف أن العبد لا يحل له أكثر من امرأتين وروى جعفر بن محمد عن أبيه أن عليا قال لا يجوز للعبد أن ينكح فوق اثنتين وروى حماد عن إبراهيم أن عمر وعبد الله قالا لا ينكح العبد أكثر من اثنتين وشعبة عن الحكم عن الفضل بن العباس قال يتزوج العبد اثنتين وابن سيرين قال قال عمر أيكم يعلم ما يحل للعبد من النساء فقال رجل من الأنصار أنا فقال عمر كم قال اثنتين فسكت ومن يشاوره عمر ويرضى بقوله فالظاهر أنه صحابى وروى ليث عن الحكم قال اجتمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أن العبد لا يجمع من النساء فوق اثنتين فقد ثبت بإجماع أئمة الصحابة ما ذكرناه ولا نعلم أحدا من نظرائهم قال أنه يتزوج أربعا فمن خالف ذلك كان محجوجا بإجماع الصحابة وقد روى نحو قولنا

٣٤٧

عن الحسن وإبراهيم وابن سيرين وعطاء والشعبي* فإن قيل روى يحيى ابن حمزة عن أبى وهب عن أبى الدرداء قال يتزوج العبد أربعا وهو قول مجاهد والقاسم وسالم وربيعة الرأى* قيل له إسناد حديث أبى الدرداء فيه رجل مجهول وهو أبو وهب ولو ثبت لم يجز الاعتراض به على قول الأئمة الذين ذكرنا أقاويلهم واستفاض ذلك عنهم وقد ذكر الحكم وهو من جلة فقهاء التابعين إجماع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن العبد لا يتزوج أكثر من اثنتين* وأما قوله تعالى (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) فإن معناه والله أعلم العدل في القسم بينهن لما قال تعالى في آية أخرى (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) والمراد ميل القلب والعدل الذي يمكنه فعله ويخاف أن لا يفعل إظهار الميل بالفعل فأمره الله تعالى بالاقتصار على الواحدة إذا خاف إظهار الميل والجور ومجانبة العدل* وقوله عطفا على ما تقدم من إباحة العدد المذكور بعقد النكاح (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يقتضى حقيقته وظاهره إيجاب التخيير بين أربع حرائر وأربع إماء بعقد النكاح فيوجب ذلك تخييره بين تزويج الحرة والأمة وذلك لأن قوله تعالى (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) كلام مستقل بنفسه بل هو مضمن بما قبله وفيه ضمير لا يستغنى عنه وضميره ما تقدم ذكره مظهرا في الخطاب وغير جائز لنا إضمار معنى لم يتقدم له ذكر إلا بدلالة من غيره فلم يجز لنا أن نجعل الضمير في قوله تعالى (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) الوطء فيكون تقديره قد أبحت لكم وطء ملك اليمين لأنه ليس في الآية ذكر الوطء وإنما الذي في أول الآية ذكر العقد لأن قوله تعالى (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ) لا خلاف أن المراد به العقد فوجب أن يكون قوله تعالى (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ضميره أو فانكحوا ما ملكت أيمانكم وذلك النكاح هو العقد فالضمير الراجع إليه أيضا هو العقد دون الوطء* فإن قيل لما صلح أن يكون النكاح اسما للوطء ثم عطف عليه قوله (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) صار كقوله فانكحوا ما ملكت أيمانكم فيكون معناه الوطء في هذا الموضع وإن كان معناه العقد في أول الخطاب* قيل له لا يجوز هذا لأنه إذا كان ضميره ما تقدم ذكره بديا في أول الخطاب فوجب أن يكون بعينه ومعناه المراد به ضميرا فيه فإذا كان النكاح المذكور هو العقد فكأنه قيل فاعقدوا عقدة النكاح فيما طاب لكم فإذا أضمره في ملك اليمين كان الضمير هو العقد إذ لم يجز للوطء ذكر من جهة المعنى ولا من طريق اللفظ

٣٤٨

فامتنع من أجل ذلك إضمار الوطء فيه وإن كان اسم النكاح قد يتناوله ومن جهة أخرى أنه لما لم يكن في الآية ذكر النكاح إلا ما تقدم في أولها وثبت أن المراد به العقد لم يجز أن يكون ضمير ذلك اللفظ بعينه وطء لامتناع أن يكون لفظ واحد مجازا حقيقة لأن أحد المعنيين يتناوله اللفظ مجازا والآخر حقيقة ولا يجوز أن ينتظمهما لفظ واحد فوجب أن يكون ضميره عقد النكاح المذكور بديا في الآية* فإن قيل الذي يدل على أن ضميره هو الوطء دون العقد إضافته لملك اليمين إلى المخاطبين ومعلوم استحالة تزوجه بملك يمينه ويجوز له وطء ملك يمينه فعلمنا أن المراد الوطء دون العقد* قيل له لما أضاف ملك اليمين إلى الجماعة كان المراد نكاح ملك يمين الغير كقوله تعالى (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) فأضاف عقد النكاح على ملك أيمانهم إليهم والخطاب متوجه إلى كل واحد في إباحة تزويج ملك غيره كذلك قوله تعالى (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) محمول على هذا المعنى فليس إذا فيما ذكرت دليل على وجوب إضمار لا ذكر له في الخطاب فوجب أن يكون ضميره ما تقدم ذكره مظهرا وهو عقد النكاح* وفيما وصفنا دليل على اقتضاء الآية التخيير بين تزوج الأمة والحرة لمن يستطيع أن يتزوج حرة لأن التخيير لا يصح إلا فيما يمكنه فعل كل واحد منهما على حاله فقد حوت هذه الآية الدلالة من وجهين على جواز تزويج الأمة مع وجود الطول إلى الحرة أحدهما عموم قوله تعالى (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) وذلك شامل للحرائر والإماء لوقوع اسم النساء عليهن والثاني قوله تعالى (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) وذلك يقتضى التخيير بينهن وبين الحرائر في التزويج وقد قدمنا دلالة قوله تعالى (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ) على ذلك في سورة البقرة ويدل عليه أيضا قوله تعالى (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ) وذلك عموم شامل للحرائر والإماء وغير جائز تخصيصه إلا بدلالة* وأما قوله تعالى (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) فإن ابن عباس والحسن ومجاهد وأبا رزين والشعبي وأبا مالك وإسماعيل وعكرمة وقتادة قالوا يعنى لا تميلوا عن الحق وروى إسماعيل ابن أبى خالد عن أبى مالك الغفاري ذلك أدنى ألا تعولوا أن لا تميلوا وأنشد عكرمة شعرا لأبى طالب :

بميزان صدق لا يخس شعيرة

ووزان قسط وزنه غير عائل

٣٤٩

قال غير مائل قال أهل اللغة أصل العول المجاوزة للحد فالعول في الفريضة مجاوزة حد السهام المسماة والعول الميل الذي هو خلاف العدل لخروجه عن حد العدل وعال يعول إذا جار وعال يعيل إذا تبختر وعال يعيل إذا افتقر حكى لنا ذلك أبو عمر غلام ثعلب وقال الشافعى في قوله تعالى (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) معناه أن لا يكثر من تعولون قال وهذا يدل على أن على الرجل نفقة امرأته وقد خطأه الناس في ذلك من ثلاثة أوجه أحدها أنه لا خلاف بين السلف وكل من روى عنه تفسير هذه الآية أن معناه أن لا تميلوا وأن لا تجوروا وإن هذا الميل هو خلاف العدل الذي أمر الله به من القسم بين النساء والثاني خطأوه في اللغة لأن أهل اللغة لا يختلفون في أنه لا يقال في كثرة العيال عال يعول ذكره المبرد وغيره من أئمة اللغة وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى أن لا تعولوا قال أن لا تجوروا يقال علت على أى جرت والثالث أن في الآية ذكر الواحدة أو ملك اليمين والإماء في العيال بمنزلة النساء ولا خلاف أن له أن يجمع من العدد من شاء بملك اليمين فعلمنا أنه لم يرد كثرة العيال وأن المراد نفى الجور والميل بتزوج امرأة واحدة إذ ليس معها من يلزمها القسم بينه وبينها لا قسم للإماء بملك اليمين والله أعلم.

باب هبة المرأة المهر لزوجها

قال الله تعالى (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) روى عن قتادة وابن جريج في قوله تعالى (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) قالا فريضة كأنهما ذهبا إلى نحلة الدين وإن ذلك فرض فيه وروى عن أبى صالح في قوله تعالى (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) قال كان الرجل إذا زوج موليته أخذ صداقها فنهوا عن ذلك فجعله خطابا للأولياء أن لا يحبسوا عنهن المهور إذا قبضوها إلا أن معنى النحلة يرجع إلى ما ذكره قتادة في أنها فريضة وهذا على معنى ما ذكره الله عقيب ذكر المواريث فريضة من الله* قال بعض أهل العلم إنما سمى المهر نحلة والنحلة في الأصل العطية والهبة في بعض الوجوه لأن الزوج لا يملك بدله شيئا لأن البضع في ملك المرأة بعد النكاح كهو قبله ألا ترى أنها لو وطئت بشبهة كان المهر لها دون الزوج فإنما سمى المهر نحلة لأنه لم يعتض من قبلها عوضا يملكه فكان في معنى النحلة التي ليس بإزائها بدل وإنما الذي يستحقه الزوج منها بعقد النكاح هو الاستباحة لا الملك وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى

٣٥٠

في قوله تعالى (نِحْلَةً) يعنى بطيبة أنفسكم يقول لا تعطوهن مهورهن وأنتم كارهون ولكن آتوهم ذلك وأنفسكم به طيبة وإن كان المهر لهن دونكم قال أبو بكر فجائز على هذا المعنى أن يكون إنما سماه نحلة لأن النحلة هي العطية وليس يكاد يفعلها الناحل إلا متبرعا بها طيبة بها نفسه فأمروا بإيتاء النساء مهورهن بطيبة من أنفسهم كالعطية التي يفعلها المعطى بطيبة من نفسه* ويحتج بقوله تعالى (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) في إيجاب كمال المهر للمخلو* بها لاقتضاء الظاهر له* وأما قوله تعالى (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) فإنه يعنى عن المهر لما أمرهم بإيتائهن صدقاتهن عقبه بذكر جواز قبول إبرائها وهبتها له لئلا يظن أن عليه إيتاءها مهرها وإن طابت نفسها بتركه* قال قتادة في هذه الآية ما طابت به نفسها من غيره كره فهو حلال وقال علقمة لامرأته أطعمينى من الهنيء والمريء* فتضمنت الآية معاني منها أن المهر لها وهي المستحقة له لا حق للولي فيه ومنها أن على الزوج أن يعطيها بطيبة من نفسه ومنها جواز هبتها المهر للزوج والإباحة للزوج في أخذه بقوله تعالى (فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) ومنها تساوى قال قبضها للمهر وترك قبضها في جواز هبتها للمهر لأن قوله تعالى (فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) يدل على المعنيين ويدل أيضا على جواز هبتها للمهر قبل القبض لأن الله تعالى لم يفرق بينهما* فإن قيل قوله تعالى (فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) يدل على أن المراد فيما تعين من المهر إما أن يكون عرضا بعينه فقبضته أو لم تقبضه أو دراهم قد قبضتها فإما دين في الذمة فلا دلالة في الآية على جواز هبتها له إذ لا يقال لما في الذمة كله هنيئا مريئا قيل له ليس المراد في ذلك مقصورا على ما يتأتى فيه الأكل دون ما لا يتأتى لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون خاصا في المهر إذا كان شيئا مأكولا وقد عقل من مفهوم الخطاب أنه غير مقصور على المأكول منه دون غيره لأن قوله تعالى (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) عام في المهور كلها سواء كانت من جنس المأكول أو من غيره وقوله تعالى (فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) شامل لجميع الصدقات المأمور بإيتائها فدل أنه لا اعتبار بلفظ الأكل في ذلك وإن المقصد فيه جواز استباحته بطيبة من نفسها وقال الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) وقال تعالى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) وهو عموم النهى عن سائر وجوه التصرف في مال اليتيم من الديون والأعيان المأكول وغير المأكول وشامل للنهى في أخذ أموال الناس إلا على وجه

٣٥١

التجارة عن تراض وليس المأكول بأولى بمعنى الآية من غيره وإنما خص الأكل بالذكر لأنه معظم ما يبتغى له الأموال إذ به قوام بدن الإنسان وفي ذكره للأكل دلالة على ما دونه وهذا كقوله تعالى (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) فخص البيع بالذكر وإن كان ما عداه من سائر ما يشغله عن الصلاة بمثابته في النهى لأن الاشتغال بالبيع من أعظم أمورهم في السعى في طلب معايشهم فعقل من ذلك إرادة ما هو دونه وأنه أولى بالنهى إذ قد نهاهم عما هم إليه أحوج والحاجة إليه أشد وكما قال تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) فخص اللحم بذكر التحريم وسائر أجزائه مثله دونه لأنه معظم ما يراد منه وينتفع به فكان في تحريمه أعظم منافعه دلالة على ما دونه فكذلك قوله تعالى (فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) قد اقتضى جواز هبتها للمهر من أى جنس كان عينا أو دينا قبضته أو لم تقبضه* ومن جهة أخرى أنه إذا جازت هبتها للمهر إذا كان مقبوضا معينا فكذلك حكمه إذا كان دينا لأنه قد ثبت جواز تصرفها في مالها فلا يختلف حكم العين والدين فيه ولأن أحدا لم يفرق بينهما* وقد دلت هذه الآية على جواز هبة الدين والبراءة منه كما جازت هبة المرأة للمهر وهو دين ويدل أيضا على أن من وهب لإنسان دينا له عليه أن البراءة قد وقعت بنفس الهبة لأن الله تعالى قد حكم بصحته وأسقطه عن ذمته ويدل على أن من وهب لإنسان مالا فقبضه وتصرف فيه أنه جائز له ذلك وإن لم يقل بلسانه قد قبلت لأن الله تعالى قد أباح له أكل ما وهبته من غير شرط القبول بل يكون التصرف فيه بحضرته حين وهبه قبولا ويدل على أنها لو قالت قد طبت لك نفسا عن مهري وأرادت الهبة والبراءة أن ذلك جائز لقوله تعالى (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) وقد اختلف الفقهاء في هبة المرأة مهرها لزوجها فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد والشافعى إذا بلغت المرأة واجتمع لها عقلها جاز لها التصرف في مالها بالهبة أو غيرها بكرا كانت أو ثيبا وقال مالك لا يجوز أمر البكر في مالها ولا ما وضعت عن زوجها من الصداق وإنما ذلك إلى أبيها في العفو عن زوجها ولا يجوز لغير الأب من أوليائها ذلك قال وبيع المرأة ذات الزوج دارها وخادمها جائز وإن كره الزوج إذا أصابت وجه البيع فإن كانت فيه محاباة كان من ثلث مالها وإن تصدقت أو وهبت أكثر من الثلث لم يجز من ذلك قليل ولا كثير قال مالك والمرأة الأيم

٣٥٢

إذا لم يكن لها زوج في مالها كالرجل في ماله سواء وقال الأوزاعى لا تجوز عطية المرأة حتى تلد وتكون في بيت زوجها سنة وقال الليث لا يجوز عتق المرأة ذات الزوج ولا صدقتها إلا في الشيء اليسير الذي لا بد لها منه لصلة رحم أو غيره ذلك مما يتقرب به إلى الله تعالى قال أبو بكر الآية قاضية بفساد هذه الأقوال شاهدة بصحة قول أصحابنا الذي قدمنا لقوله عز وجل (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) ولم يفرق فيه بين البكر والثيب ولا بين من أقامت في بيت زوجها سنة أو لم تقم وغير جائز الفرق بين البكر والثيب في ذلك إلا بدلالة تدل على خصوص حكم الآية في الثيب دون البكر وأجاز مالك هبة الأب والله تعالى أمرنا بإعطائها جميع الصداق إلا أن تهب هي شيئا منه له فالآية قاضية ببطلان هبة الأب لأنه مأمور بإيتاء جميع الصداق إلا أن تطيب نفسها بتركه ولم يشرط الله تعالى طيبة نفس الأب فمنع ما أباحه الله له بطيبة نفسها من مهرها وأجاز ما حظره الله تعالى من منع شيء من مهرها إلا بطيبة نفسها بهبة الأب وهذا الاعتراض على الآية من وجهين بغير دلالة أحدهما منعها الهبة مع اقتضاء ظاهر الآية لجوازها والثاني جواز هبة الأب مع أمر الله الزوج بإعطائها الجميع إلا أن تطيب نفسا بتركه ويدل على ذلك قوله تعالى (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) فمنع أن يأخذ منها شيئا مما أعطاها إلا برضاها بالفدية فقد شرط رضا المرأة ولم يفرق مع ذلك بين البكر والثيب ويدل عليه حديث زينب امرأة عبد الله بن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال للنساء تصدقن ولو من حليكن وفي حديث ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج يوم الفطر فصلى ثم خطب ثم أتى النساء فأمرهن أن يتصدقن ولم يفرق في شيء منه بين البكر والثيب ولأن هذا حجر ولا يصح الحجر على من هذه صفته والله أعلم.

باب دفع المال إلى السفهاء

قال الله تعالى (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) قال أبو بكر قد اختلف أهل العلم في تأويل هذه الآية فقال ابن عباس لا يقسم الرجل ماله على أولاده فيصير عيالا عليهم بعد إذ هم عيال له والمرأة من أسفه السفهاء فتأول ابن عباس الآية

«٢٣ ـ أحكام في»

٣٥٣

على ظاهرها ومقتضى حقيقتها لأن قوله تعالى (أَمْوالَكُمُ) يقتضى خطاب كل واحد منهم بالنهى عن دفع ماله إلى السفهاء لما في ذلك من تضييعه لعجز هؤلاء عن القيام بحفظه وتثميره وهو يعنى به الصبيان والنساء الذين لا يكملون لحفظ المال ويدل ذلك أيضا على أنه لا ينبغي له أن يوكل في حياته بمال ويجعله في يد من هذه صفته وأن لا يوصى به إلى أمثالهم ويدل أيضا على ورثته إذا كانوا صغارا أنه لا ينبغي أن يوصى بماله إلا إلى أمين مضطلع بحفظه عليهم* وفيه الدلالة على النهى عن تضييع المال ووجوب حفظه وتدبيره والقيام به لقوله تعالى (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) فأخبر أنه جعل قوام أجسادنا بالمال فمن رزقه الله منه شيئا فعليه إخراج حق الله تعالى منه ثم حفظ ما بقي وتجنب تضييعه وفي ذلك ترغيب من الله تعالى لعباده في إصلاح المعاش وحسن التدبير وقد ذكر الله تعالى ذلك في مواضع من كتابه العزيز منه قوله تعالى (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) وقوله تعالى (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) وقوله تعالى (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) وما أمر الله به من حفظ الأموال وتحصين الديون بالشهادات والكتاب والرهن على ما بينا فيما سلف وقد قيل في قوله تعالى (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) يعنى أنه جعلكم قواما عليها فلا تجعلوها في يد من يضيعها* والوجه الثاني من التأويل ما روى سعيد بن جبير أنه أراد لا تؤتوا السفهاء أموالهم وإنما أضافها إليهم كما قال الله تعالى (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) يعنى لا يقتل بعضكم بعضا وقوله تعالى (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) وقوله تعالى (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) يريد من يكون فيها وعلى هذا التأويل يكون السفهاء محجورا عليهم فيكونون ممنوعين من أموالهم إلى أن يزول السفه* وقد اختلف في معنى السفهاء هاهنا فقال ابن عباس السفيه من ولدك وعيالك وقال المرأة من أسفه السفهاء وقال سعيد بن جبير والحسن والسدى والضحاك وقتادة النساء والصبيان وقال بعض أهل العلم كل من يستحق صفة سفيه في المال من محجور عليه وغيره وروى الشعبي عن أبى بردة عن أبى موسى الأشعرى قال ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ورجل أعطى ماله سفيها وقد قال الله تعالى (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) ورجل داين رجلا فلم يشهد عليه وروى عن مجاهد أن السفهاء النساء وقيل إن أصل السفه

٣٥٤

خفة الحلم ولذلك سمى الفاسق سفيها لأنه لا وزن له عند أهل الدين والعلم ويسمى الناقص العقل سفيها لخفة عقله وليس السفه في هؤلاء صفة ذم ولا يفيد معنى العصيان لله تعالى وإنما سموا سفهاء لخفة عقولهم ونقصان تميزهم عن القيام بحفظ المال* فإن قيل لا خلاف أنه جائز أن نهب النساء والصبيان المال وقد أراد بشير أن يهب لابنه النعمان فلم يمنعه النبي صلّى الله عليه وسلّم منه إلا لأنه لم يعط سائر بنيه مثله فكيف يجوز حمل الآية على منع إعطاء السفهاء أموالنا* قيل له ليس المعنى فيه التمليك وهبة المال وإنما المعنى فيه أن نجعل الأموال في أيديهم وهم غير مضطلعين بحفظها وجائز للإنسان أن يهب الصغير والمرأة كما يهب الكبير العاقل ولكنه يقبضه له من يلي عليه ويحفظ ماله ولا يضيعه وإنما منعنا الله تعالى بالآية أن نجعل أموالنا في أيدى الصغار والنساء اللاتي لا يكملن بحفظها وتدبيرها* وقوله عز وجل (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) يعنى وارزقوهم من هذه الأموال لأن في هاهنا بمعنى من إذ كانت حروف الصفات تتعاقب فيقام بعضها مقام بعض كما قال تعالى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) وهو بمعنى مع فنهانا الله عن دفع الأموال إلى السفهاء الذين لا يقومون بحفظها وأمرنا بأن نرزقهم منها ونكسوهم* فإن قيل كان مراد الآية النهى عن إعطائهم مالنا على ما اقتضى ظاهرها ففي ذلك دليل على وجوب نفقة الأولاد السفهاء والزوجات لأمره إيانا بالإنفاق عليهم من أموالنا وإن كان تأويلها ما ذهب إليه القائلون بأن مرادها أن لا نعطيهم أموالهم وهم سفهاء فإنما فيه الأمر بالإنفاق عليهم من أموالهم وهذا يدل على الحجر من وجهين أحدهما منعهم من أموالهم والثاني إجازته تصرفنا عليهم في الإنفاق عليهم وشرى أقواتهم وكسوتهم* وقوله تعالى (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) قال مجاهد وابن جريج قولا معروفا عدة جميلة بالبر والصلة على الوجه الذي يجوز ويحسن ويحتمل أن يريد به إجمال المخاطبة لهم وإلانة القول فيما يخاطبون به كقوله تعالى (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) وكقوله (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) وقد قيل إنه جائز أن يكون القول المعروف هاهنا التأديب والتنبيه على الرشد والصلاح والهداية للأخلاق الحسنة ويحتمل أن يريد به إذا أعطيتموهم الرزق والكسوة من أموالكم أن تجعلوا لهم القول ولا تؤذوهم بالتذمر عليهم والاستخفاف بهم كما قال تعالى (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً

٣٥٥

مَعْرُوفاً) يعنى والله أعلم إجمال اللفظ وترك التذمر والامتنان وكما قال تعالى (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) وجائز أن تكون هذه المعاني كلها مرادة بقوله تعالى (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) والله أعلم.

باب دفع المال إلى اليتيم

قال الله تعالى (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) قال الحسن ومجاهد وقتادة والسدى يعنى اختبروهم في عقولهم ودينهم قال أبو بكر أمرنا باختبارهم قبل البلوغ لأنه قال (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) فأمر بابتلائهم في حال كونهم يتامى ثم قال (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) فأخبر أن بلوغ النكاح بعد الابتلاء لأن حتى غاية مذكورة بعد الابتلاء فدلت الآية من وجهين على أن هذا الابتلاء قبل البلوغ وفي ذلك دليل على جواز الإذن للصغير الذي يعقل في التجارة لأن ابتلاءه لا يكون إلا باستبراء حاله في العلم بالتصرف وحفظ المال ومتى أمر بذلك كان مأذونا في التجارة* وقد اختلف الفقهاء في إذن الصبى في التجارة فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد والحسن بن صالح جائز للأب أن يأذن لابنه الصغير في التجارة إذا كان يعقل الشرى والبيع وكذلك وصى الأب أو الجد إذا لم يكن وصى أب ويكون بمنزلة العبد المأذون له وقال ابن القاسم عن مالك لا أرى إذن الأب والوصي للصبي في التجارة جائزا وإن لحقه في ذلك دين لم يلزم الصبى منه شيء وقال الربيع عن الشافعى في كتابه في الإقرار وما أقر به الصبى من حق الله تعالى أو الآدمي أو حق في مال أو غيره فإقراره ساقط عنه سواء كان الصبى مأذونا له في التجارة أذن له أبوه أو وليه من كان أو حاكم ولا يجوز للحاكم أن يأذن له فإن فعل فإقراره ساقط عنه وكذلك شراؤه وبيعه مفسوخ قال أبو بكر ظاهر الآية يدل على جواز الإذن له في التجارة لقوله تعالى (وَابْتَلُوا الْيَتامى) والابتلاء هو اختبارهم في عقولهم ومذاهبهم وحرمهم فيما يتصرفون فيه فهو عام في سائر هذه الوجوه وليس لأحد أن يقتصر بالاختبار على وجه دون وجه فيما يحتمله اللفظ والاختبار في استبراء حاله في المعرفة بالبيع والشرى وضبط أموره وحظ ماله ولا يكون إلا بإذن له في التجارة ومن قصر الابتلاء على اختبار عقله بالكلام دون التصرف في التجارة وحفظ المال فقد خص عموم اللفظ بغير دلالة* فإن قيل

٣٥٦

الذي يدل على أنه لم يرد الإذن له في التصرف في حال الصغر* قوله تعالى في نسق التلاوة (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) وإنما أمر بدفع المال إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد ولو جاز الإذن له في التجارة في صغره لجاز دفع المال إليه في حال الصغر والله تعالى إنما أمر بدفع المال إليه بعد البلوغ وإيناس الرشد قيل له ليس الإذن له في التجارة من دفع المال إليه في شيء لأن الإذن هو أن يأمره بالبيع والشرى وذلك ممكن بغير مال في يده كما يأذن للعبد في التجارة من غير مال يدفعه إليه فنقول إن الآية اقتضت الأمر بابتلائه ومن الابتلاء الإذن له في التجارة وإن لم يدفع إليه مالا ثم إذا بلغ وقد أونس منه رشده دفع المال إليه ولو كان الابتلاء لا يقتضى اختباره بالإذن له في التصرف في الشرى والبيع وإنما هو اختبار عقله من غير استبراء حاله في ضبطه وعلمه بالتصرف لما كان للابتلاء وجه قبل البلوغ فلما أمر بذلك قبل البلوغ علمنا أن المراد اختبار أمره بالتصرف ولأن اختبار صحة عقله لا ينبئ عن ضبطه لأموره وحفظه لماله وعلمه بالبيع والشرى ومعلوم أن الله تعالى أمر بالاحتياط له في استبراء أمره في حفظ المال والعلم بالتصرف فوجب أن يكون الابتلاء المأمور به قبل البلوغ مأمورا بذلك لا لاختبار صحة عقله فحسب وأيضا فإن لم يجز الإذن له في التجارة قبل البلوغ لأنه محجور عليه فالابتلاء إذا ساقط من هذا الوجه فلا يخلو بعد البلوغ متى أردنا التوصل إلى إيناس رشده من أن نختبره بالإذن له في التجارة أو لا نختبره بذلك فإن وجب اختباره فقد أجزت له التصرف وهو عندك محجور عليه بعد البلوغ إلى إيناس الرشد فإن جاز الإذن له في التجارة وهو محجور عليه بعد البلوغ فقد أخرجته من الحجر وإن لم يخرج من الحجر وهو ممنوع من ماله بعد البلوغ وهو مأذون له فهلا أذنت له قبل البلوغ في التجارة لاستبراء حاله كما يستبرأ بها بالإذن بعد البلوغ مع بقاء الحجر إلى إيناس الرشد وإن لم يستبرأ حاله بعد البلوغ بالإذن فكيف يعلم إيناس الرشد منه فقول المخالف لا يخلو من ترك الابتلاء أو دفع المال قبل إيناس الرشد ويدل على جواز الإذن للصغير في التجارة ما روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر عمر بن أبى سلمة وهو صغير بتزويج أم سلمة إياه وروى عبد الله ابن شداد أنه أمر سلمة بن أبى سلمة بذلك وهو صغير وفي ذلك دليل على جواز الاذن له في التصرف الذي يملكه عليه غيره من بيع أو شرى ألا ترى أنه يقتضى جواز توكيل

٣٥٧

الأب إياه بشرى عبد للصغير أو بيع عبد له هذا هو معنى الإذن له في التجارة وأما تأويل من تأول قوله تعالى (وَابْتَلُوا الْيَتامى) على اختبارهم في عقولهم ودينهم فإن اعتبار الدين في دفع المال غير واجب باتفاق الفقهاء لأنه لو كان رجلا فاسقا ضابطا لأموره عالما بالتصرف في وجوه التجارات لم يجز أن يمنع ماله لأجل فسقه فعلمنا أن اعتبار الدين في ذلك غير واجب وإن كان رجلا ذا دين وصلاح إلا أنه غير ضابط لماله يغبن في تصرفه كان ممنوعا من ماله عند القائلين بالحجر لقلة الضبط وضعف العقل فعلمنا أن اعتبار الدين في ذلك لا معنى له* وأما قوله تعالى (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) فإن ابن عباس ومجاهد والسدى قالوا هو الحلم وهو بلوغ حال النكاح من الاحتلام وأما قوله تعالى (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) فإن ابن عباس قال فإن علمتم منهم ذلك وقيل أن أصل الإيناس هو الإحساس حكى عن الخليل وقال الله تعالى (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) يعنى أحسستها وأبصرتها وقد اختلف في معنى الرشد هاهنا فقال ابن عباس والسدى الصلاح في العقل وحفظ المال وقال الحسن وقتادة الصلاح في العقل والدين وقال إبراهيم النخعي ومجاهد العقل* وروى سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) قال إذا أدرك بحلم وعقل ووقار قال أبو بكر إذا كان اسم الرشد يقع على العقل لتأويل من تأول عليه ومعلوم أن الله تعالى شرط رشدا منكورا ولم يشرط سائر ضروب الرشد اقتضى ظاهر ذلك أن حصول هذه الصفة له بوجود العقل موجبا لدفع المال إليه ومانعا من الحجر عليه فهذا يحتج به من هذا الوجه في إبطال الحجر على الحر العاقل البالغ وهو مذهب إبراهيم ومحمد بن سيرين وأبى حنيفة وقد بينا هذه المسألة في سورة البقرة* وقوله تعالى (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) يقتضى وجوب دفع المال إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد على ما بينا وهو نظير قوله تعالى (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) وهذه الشريطة معتبرة فيها أيضا وتقديره وآتوا اليتامى أموالهم إذا بلغوا وآنستم منهم رشدا* وأما قوله تعالى (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) فإن السرف مجاوزة حد المباح إلى المحظور فتارة يكون السرف في التقصير وتارة في الإفراط لمجاوزة حد الجائز في الحالين* وقوله تعالى (وَبِداراً) قال ابن عباس وقتادة والحسن والسدى مبادرة والمبادرة الإسراع في الشيء فتقديره النهى عن أكل أموالهم مبادرة أن يكبروا فيطالبوا بأموالهم وفيها دلالة على أنه إذا صار في

٣٥٨

حد الكبر استحق المال إذا كان عاقلا من غير شرط إيناس الرشد لأنه إنما شرط إيناس الرشد بعد البلوغ وأفاد بقوله تعالى (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) أنه لا يجوز له إمساك ماله بعد ما يصير في حد الكبر ولولا ذلك لما كان لذكر الكبر هاهنا معنى إذ كان الوالي عليه هو المستحق لماله قبل الكبر وبعده فهذا يدل على أنه إذا صار في حد الكبر استحق دفع المال إليه وجعل ابو حنيفة حد الكبر في ذلك خمسا وعشرين سنة لأن مثله يكون جدا ومحال أن يكون جدا ولا يكون في حد الكبر والله أعلم.

باب أكل ولى اليتيم من ماله

قال الله تعالى (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) قال أبو بكر قد اختلف السلف في تأويله فروى معمر عن الزهري عن القاسم بن محمد قال جاء رجل إلى ابن عباس فقال إن في حجري أيتاما لهم أموال وهو يستأذنه أن يصيب منها فقال ابن عباس ألست تهنأ جرباءها قال بلى قال ألست تبغى ضالتها قال بلى قال ألست تلوط حياضها قال بلى قال ألست تفرط عليها يوم ورودها قال بلى قال فاشرب من لبنها غير ناهك في الحلب ولا مضر بنسل وروى الشيباني عن عكرمة عن ابن عباس قال الوصي إذا احتاج وضع يده مع أيديهم ولا يكتسى عمامة فشرط في الحديث الأول عمله في مال اليتيم في إباحة الأكل ولم يشرط في حديث عكرمة وروى ابن لهيعة عن يزيد بن أبى حبيب قال حدثني أبو الخير مرثد بن عبد الله اليزني أنه سأل أناسا من الأنصار من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قوله تعالى (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) فقالوا فينا نزلت أن الوصي كان إذا عمل في نخل اليتيم كانت يده مع أيديهم* وقد طعن في هذا الحديث من جهة سنده ويفسد أيضا من جهة أنه لو أبيح لهم الأكل لأجل عملهم لما اختلف فيه الغنى والفقير فعلمنا أن هذا التأويل ساقط وأيضا في حديث ابن عباس إباحة الأكل دون أن يكتسى منه عمامة ولو كان ذلك مستحقا لعمله لما اختلف فيه حكم المأكول والملبوس فهذا أحد الوجوه التي تأولت عليه الآية وهو أن يقتصر على الأكل فحسب إذا عمل لليتيم وقال آخرون يأخذه قرضا ثم يقضيه* وروى شريك عن ابن إسحاق عن حارثة بن مضرب عن عمر قال إنى أنزلت مال الله تعالى بمنزلة مال اليتيم إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف وقضيت وروى عن عبيدة السلماني وسعيد بن

٣٥٩

جبير وأبى العالية وأبى وائل ومجاهد مثل ذلك وهو أن يأخذ قرضا ثم يقضيه إذا وجد وقول ثالث قال الحسن وإبراهيم وعطاء بن أبى رباح ومكحول أنه يأخذ منه ما يسد الجوعة ويوارى العورة ولا يقضى إذا وجد وقول رابع وهو ما روى عن الشعبي أنه بمنزلة الميتة يتناوله عند الضرورة فإذا أيسر قضاه وإذا لم يوسر فهو في حل وقول خامس وهو ما روى مقسم عن ابن عباس فليستعفف قال بغناه ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف قال فلينفق على نفسه من ماله حتى لا يصيب من مال اليتيم شيئا حدثنا عبد الباقي بن قانع حدثنا محمد ابن عثمان بن أبى شيبة قال حدثنا منجاب بن الحارث قال حدثنا أبو عامر الأسدى قالا حدثنا سفيان عن الأعمش عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس بمعنى ذلك وقد روى عكرمة عنه أنه يقضى وروى عن ابن عباس أنه منسوخ وقال مجاهد في رواية أخرى فليأكل بالمعروف من مال نفسه ولا رخصة له في مال اليتيم وهو قول الحكم قال أبو بكر فحصل الاختلاف بين السلف على هذه الوجوه وروى عن ابن عباس أربع روايات على ما ذكرنا أحدها أنه إذا عمل لليتيم في إبله شرب من لبنها والثانية أنه يقضى والثالثة لا ينفق من مال اليتيم شيئا ولكنه يقوت على نفسه من ماله حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم والرابعة أنه منسوخ والذي نعرفه من مذهب أصحابنا أنه لا يأخذه قرضا ولا غيره غنيا كان أو فقيرا ولا يقرضه غيره أيضا وقد روى إسماعيل بن سالم عن محمد قال أما نحن فلا نحب للوصي أن يأكل من مال اليتيم قرضا ولا غيره وهو قول أبى حنيفة وذكر الطحاوي أن مذهب أبى حنيفة أنه يأخذ قرضا إذا احتاج ثم يقضيه كما روى عن عمر ومن تابعه وروى بشر بن الوليد عن أبى يوسف أنه لا يأكل من مال اليتيم إذا كان مقيما فإن خرج لتقاضى دين لهم أو إلى ضياع لهم فله أن ينفق ويكتسى ويركب فإذا رجع رد الثياب والدابة إلى اليتيم قال وقال أبو يوسف وقوله تعالى (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) يجوز أن يكون منسوخا بقوله تعالى (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) قال أبو بكر جعل أبو يوسف الوصي في هذه الحال كالمضارب في جواز النفقة من ماله في السفر وقال ابن عبد الحكم عن مالك ومن كان له يتيم فخلط نفقته بماله فإن كان الذي يصيب اليتيم أكثر مما يصيب وليه من نفقته فلا بأس وإن كان الفضل لليتيم فلا يخلطه ولم يفرق بين الغنى والفقير وقال المعافى عن الثوري يجوز لولى اليتيم أن يأكل طعام اليتيم ويكافئه عليه وهذا

٣٦٠