أحكام القرآن - ج ٢

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٦

عن قتال الفئة الباغية وعن الإنكار على السلطان الظلم والجور حتى أدى ذلك إلى تغلب الفجار بل المجوس وأعداء الإسلام حتى ذهبت الثغور وشاع الظلم وخربت البلاد وذهب الدين والدنيا وظهرت الزندقة والغلو ومذهب الثنوية والخرمية والمزدكية والذي جلب ذلك كله عليهم ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والإنكار على السلطان الجائر والله المستعان* وقد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عباد الواسطي قال حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا إسرائل قال حدثنا محمد بن جحادة عن عطية العوفى عن أبى سعيد الخدري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر أو أمير جائر * وحدثنا محمد بن عمر قال أخبرنى أحمد بن محمد بن عمرو بن مصعب المروزى قال سمعت أبا عمارة قال سمعت الحسن بن رشيد يقول سمعت أبا حنيفة يقول أنا حدثت إبراهيم الصائغ عن عكرمة عن ابن عباس قال النبي صلّى الله عليه وسلّم سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله * قوله تعالى (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) قد اقتضى ذلك نفى إرادة الظلم من كل وجه فلا يريد هو أن يظلمهم ولا يريد أيضا ظلم بعضهم لبعض لأنهما سواء في منزلة القبح ولو جاز أن يريد ظلم بعضهم لجاز أن يريد ظلمه لهم ألا ترى أنه لا فرق في العقول بين من أراد ظلم نفسه لغيره وبين من أراد ظلم إنسان لغيره وأنهما سواء في القبح فكذلك ينبغي أن تكون إرادته للظلم منتفية منه ومن غيره* قوله عز وجل (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) قيل في معنى قوله (كُنْتُمْ) وجوه روى عن الحسن أنه يعنى فيما تقدمت البشارة والخبر به من ذكر الأمم في الكتب المتقدمة قال الحسن نحن آخرها وأكرمها على الله* وحدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول في قوله تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) قال أنتم تتمنون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى فكان معناه كنتم خير أمة أخبر الله بها أنبياءه فيما أنزل إليهم من كتبه وقيل إن دخول كان وخروجها بمنزلة إلا بمقدار دخولها لتأكيد وقوع الأمر لا محالة إذ هو بمنزلة ما قد كان في الحقيقة كما قال تعالى (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ، (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) والمعنى الحقيقي وقوع ذلك* وقيل كنتم خير أمة بمعنى حدثتم خير أمة فيكون خير أمة بمعنى

«٢١ ـ أحكام في»

٣٢١

الحال وقيل كنتم خير أمة في اللوح المحفوظ وقيل كنتم منذ أنتم ليدل أنهم كذلك من أول أمرهم* وفي هذه الآية دلالة على صحة إجماع الأمة من وجوه أحدها كنتم خير أمة ولا يستحقون من الله صفة مدح إلا وهم قائمون بحق الله تعالى غير ضالين والثاني إخباره بأنهم يأمرون بالمعروف فيما أمروا به فهو أمر الله تعالى لأن المعروف هو أمر الله والثالث أنهم ينكرون المنكر والمنكر هو ما نهى الله عنه ولا يستحقون هذه الصفة إلا وهم لله رضى فثبت بذلك أن ما أنكرته الأمة فهو منكر وما أمرت به فهو معروف وهو حكم الله تعالى وفي ذلك ما يمنع وقوع إجماعهم على ضلال ويوجب أن ما يحصل عليه إجماعهم هم حكم الله تعالى قوله تعالى (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) الآية فيه الدلالة على صحة نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه أخبر عن اليهود الذين كانوا أعداء المؤمنين وهم حوالى المدينة بنو النضير وقريظة وبنو قينقاع ويهود خيبر فأخبر الله تعالى أنهم لا يضرونهم إلا أذى من جهة القول وأنهم متى قاتلوهم ولوا الأدبار فكان كما أخبر وذلك من علم الغيب* قوله تعالى (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) وهو يعنى به اليهود المتقدم ذكرهم فيه الدلالة على صحة نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأن هؤلاء اليهود صاروا كذلك من الذلة والمسكنة إلا أن يجعل المسلمون لهم عهد الله وذمته لأن الحبل في هذا الموضع هو العهد والأمان* قوله تعالى (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) قال ابن عباس وقتادة وابن جريج لما أسلم عبد الله بن سلام وجماعة معه قالت اليهود ما آمن بمحمد إلا شرارنا فأنزل الله تعالى هذه الآية* قال الحسن قوله (قائِمَةٌ) يعنى عادلة وقال ابن عباس وقتادة والربيع بن أنس ثابتة على أمر الله تعالى وقال السدى قائمة بطاعة الله تعالى وقوله (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) قيل فيه أنه السجود المعروف في الصلاة وقال بعضهم معناه يصلون لأن القراءة لا تكون في السجود ولا في الركوع فجعلوا الواو حالا وهو قول الفراء وقال الأولون الواو هاهنا للعطف كأنه قال يتلون آيات الله آناء الليل وهم مع ذلك يسجدون قوله تعالى (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) صفة لهؤلاء الذين آمنوا من أهل الكتاب لأنهم آمنوا بالله ورسوله ودعوا الناس إلى تصديق النبي صلّى الله عليه وسلّم والإنكار على من خالفه فكانوا ممن قال الله تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) في الآية المتقدمة وقد بينا ما دل عليه القرآن من وجوب

٣٢٢

الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر* فإن قيل فهل تجب إزالة المنكر من طريق اعتقاد* المذاهب الفاسدة على وجه التأويل كما وجب في سائر المناكير من الأفعال* قيل له هذا على وجهين فمن كان منهم داعيا إلى مقالته فيضل الناس بشبهته فإنه تجب إزالته عن ذلك بما أمكن ومن كان منهم معتقدا ذلك في نفسه غير داع إليها فإنما يدعى إلى الحق بإقامة الدلالة على صحة قول الحق وتبين فساد شبهته ما لم يخرج على أهل الحق بسفيه ويكون له أصحاب يمتنع بهم عن الإمام فإن خرج داعيا إلى مقالته مقاتلا عليها فهذا الباغي الذي أمر الله تعالى بقتاله حتى يفيء إلى أمر الله تعالى* وقد روى عن على كرم الله وجهه أنه كان قائما على المنبر بالكوفة يخطب فقالت الخوارج من ناحية المسجد لا حكم إلا لله فقطع خطبته وقال كلمة حق يراد بها باطل أما أن لهم عندنا ثلاثا أن لا نمنعهم حقهم من الفيء ما كانت أيديهم مع أيدينا ولا نمنعهم مساجد الله أن يذكروا فيها اسمه ولا نقاتلهم حتى يقاتلونا فأخبر أنه لا يجب قتالهم حتى يقاتلونا وكان ابتدأهم على كرم الله وجهه بالدعاء حين نزلوا حروراء وحاجهم حتى رجع بعضهم وذلك أصل في سائر المتأولين من أهل المذاهب الفاسدة أنهم ما لم يخرجوا داعين إلى مذاهبهم لم يقاتلوا وأقروا على ما هم عليه ما لم يكن ذلك المذهب كفرا فإنه غير جائز إقرار أحد من الكفار على كفره إلا بجزية وليس يجوز إقرار من كفر بالتأويل على الجزية لأنه بمنزلة المرتد* لإعطائه بديا جملة* التوحيد والإيمان بالرسول فمتى نقض ذلك بالتفصيل صار مرتدا* ومن الناس من يجعلهم بمنزلة أهل الكتاب كذلك كان يقول أبو الحسن فتجوز عنده مناكحتهم ولا يجوز للمسلمين أن يزوجوهم وتؤكل ذبائحهم لأنهم منتحلون بحكم القرآن وإن لم يكونوا مستمسكين به كما أن من انتحل النصرانية أو اليهودية فحكمه حكمهم وإن لم يكن مستمسكا بسائر شرائعهم وقال تعالى (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) وقال محمد في الزيادات لو أن رجلا دخل في بعض الأهواء التي يكفر أهلها كان في وصاياه بمنزلة المسلمين يجوز منها ما يجوز من وصايا المسلمين ويبطل منها ما يبطل من وصاياهم وهذا يدل على موافقة المذهب الذي يذهب إليه أبو الحسن في بعض الوجوه ومن الناس من يجعلهم بمنزلة المنافقين الذين كانوا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم فأقروا على نفاقهم مع علم الله تعالى بكفرهم ونفاقهم ومن الناس من يجعلهم كأهل الذمة ومن أبى ذلك ففرق بينهما بأن المنافقين لو وقفنا على نفاقهم لم نقرهم عليه ولم نقبل

٣٢٣

منهم إلا الإسلام أو السيف وأهل الذمة إنما أقروا بالجزية وغير جائز أخذ الجزية من الكفار المتأولين المنتحلين للإسلام ولا يجوز أن يقروا بغير جزية فحكمهم في ذلك متى وقفنا على مذهب واحد منهم اعتقاد الكفر لم يجز إقراره عليه وأجرى عليه أحكام المرتدين ولا يقتصر في إجرائه حكم الكفار على إطلاق لفظ عسى أن يكون غلطه فيه دون الاعتقاد دون أن يبين عن ضميره فيعرب لنا عن اعتقاده بما يوجب تكفيره فحينئذ يجوز عليه أحكام المرتدين من الاستتابة فإن تاب وإلا قتل والله أعلم.

باب الاستعانة بأهل الذمة

قال الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) الآية قال أبو بكر بطانة الرجل خاصته الذين يستبطنون أمره ويثق بهم في أمره فنهى الله تعالى المؤمنين أن يتخذوا أهل الكفر بطانة من دون المؤمنين وأن يستعينوا بهم في خوص أمورهم وأخبر عن ضمائر هؤلاء الكفار للمؤمنين فقال (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) يعنى لا يقصرون فيما يجدون السبيل إليه من إفساد أموركم لأن الخبال هو الفساد ثم قال (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) قال السدى ودوا ضلالكم عن دينكم وقال ابن جريج ودوا أن تعنتوا في دينكم فتحملوا على المشقة فيه لأن أصل العنت المشقة فكأنه أخبر عن محبتهم لما يشق عليكم وقال الله تعالى (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) وفي هذه الآية دلالة على أنه لا تجوز الاستعانة بأهل الذمة في أمور المسلمين من العمالات والكتبة وقد روى عن عمر أنه بلغه أن أبا موسى استكتب رجلا من أهل الذمة فكتب إليه يعنفه وتلا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) أى لا تردوهم إلى العز بعد أن أذلهم الله تعالى وروى أبو حيان التيمي عن فرقد ابن صالح عن أبى دهقانة قال قلت لعمر بن الخطاب أن هاهنا رجلا من أهل الحيرة لم نر رجلا أحفظ منه ولا أخط منه بقلم فإن رأيت أن نتخذه كاتبا قال قد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين* وروى هلال الطائي عن وسق الرومي قال كنت مملوكا لعمر فكان يقول لي أسلم فإنك إن أسلمت استعنت بك على أمانة المسلمين فإنه لا ينبغي أن أستعين على أمانتهم من ليس منهم فأبيت فقال لا إكراه في الدين فلما حضرته الوفاة أعتقنى فقال اذهب حيث شئت وقوله تعالى (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) قيل في معنى (أَضْعافاً مُضاعَفَةً) وجهان أحدهما المضاعفة بالتأجيل أجلا بعد أجل ولكل

٣٢٤

أجل قسط من الزيادة على المال والثاني ما يضاعفون به أموالهم وفي هذا دلالة على أن المخصوص بالذكر لا يدل على أن ما عداه بخلافه لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون ذكر تحريم الربا أضعافا مضاعفة دلالة على إباحته إذا لم يكن أضعافا مضاعفة فلما كان الربا محظورا بهذه الصفة وبعدمها دل ذلك على فساد قولهم في ذلك ويلزمهم في ذلك أن تكون هذه الدلالة منسوخة بقوله تعالى (وَحَرَّمَ الرِّبا) إذا لم يبق لها حكم في الاستعمال وقوله تعالى (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) قيل كعرض السموات والأرض وقال في آية أخرى (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) وكما قال (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) أى إلا كبعث نفس واحدة ويقال إنما خص العرض بالذكر دون الطول لأنه يدل على أن الطول أعظم ولو ذكر الطول لم يقم مقامه في الدلالة على العظم وهذا يحتج به في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم ذكاة الجنين ذكاة أمه معناه كذكاة أمه وقوله تعالى (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) قال ابن عباس (فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) في العسر واليسر يعنى في قلته وكثرته وقيل في حال السرور والغم لا يقطعه شيء من ذلك عن إنفاقه في وجوه البر فمدح المنفقين في هاتين الحالتين ثم عطف عليه الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس فمدح من كظم غيظه وعفا عمن اجترم إليه وقال عمر بن الخطاب من خاف الله لم يشف غيظه ومن اتقى الله لم يصنع ما يريد ولو لا يوم القيامة لكان غير ما ترون وكظم الغيظ والعفو مندوب إليهما موعود بالثواب عليهما من الله تعالى قوله تعالى (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) فيه حض على الجهاد من حيث لا يموت أحد فيه إلا بإذن الله تعالى وفيه التسلية عما يلحق النفس بموت النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه بإذن الله تعالى لأنه قد تقدم ذكر موت النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) الآية* وقوله تعالى (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) قيل فيه من عمل للدنيا وفر حظه المقسوم له فيها من غير أن يكون له حظ في الآخرة روى ذلك عن ابن إسحاق وقيل إن معناه من أراد بجهاده ثواب الدنيا لم يحرم حظه من الغنيمة وقيل من تقرب إلى الله بعمل النوافل وليس هو ممن يستحق الجنة بكفره أو بما يحبط عمله جوزي بها في الدنيا من غير أن يكون له حظ في الآخرة وهو نظير قوله تعالى (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ

٣٢٥

يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً) قوله تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) قال ابن عباس والحسن علماء وفقهاء وقال مجاهد وقتادة جموع كثيرة* وقوله تعالى (فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا) فإنه قيل في الوهن بأنه انكسار الجسد ونحوه والضعف نقصان القوة وقيل في الاستكانة أنها إظهار الضعف وقيل فيه أنه الخضوع فبين تعالى أنهم لم يهنوا بالخوف ولا ضعفوا لنقصان القوة ولا استكانوا بالخضوع وقال ابن إسحاق فما وهنوا بقتل نبيهم ولا ضعفوا عن عدوهم ولا استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن دينهم وفي هذه الآية الترغيب في الجهاد في سبيل الله والحض على سلوك طريق العلماء من صحابة الأنبياء والأمر بالاقتداء بهم في الصبر على الجهاد* وقوله تعالى (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) الآية فيه حكاية دعاء الربيين من أتباع الأنبياء المتقدمين وتعليم لنا لأن نقول مثل قولهم عند حضور القتال فينبغي للمسلمين أن يدعوا بمثله عند معاينة العدو لأن الله تعالى حكى ذلك عنهم على وجه المدح لهم والرضا بقولهم لنفعل مثل فعلهم ونستحق من المدح كاستحقاقهم قوله تعالى (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) قال قتادة والربيع بن أنس وابن جريج ثواب الدنيا الذي أوتوه هو النصر على عدوهم حتى قهروهم وظفروا بهم وثواب الآخرة الجنة وهذا دليل على أنه يجوز اجتماع الدنيا والآخرة لواحد روى عن على رضى الله عنه أنه قال من عمل لدنياه أضر بآخرته ومن عمل لآخرته أضر بدنياه وقد يجمعهما الله تعالى لأقوام قوله تعالى (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) فيه دليل على بطلان التقليد لأن الله تعالى حكم ببطلان قولهم إذ لم يكن معهم برهان عليه والسلطان هاهنا هو البرهان ويقال إن أصل السلطان القوة فسلطان الملك قوته والسلطان الحجة لقوتها على قمع الباطل وقهر المبطل بها والتسليط على الشيء التقوية عليه مع الإغراء به وفيه الدلالة على صحة نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أخبر به من إلقاء الرعب في قلوب المشركين فكان كما أخبر به وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم نصرت بالرعب حتى أن العدو ليرعب منى وهو على مسيرة شهر قوله تعالى (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) فيه إخبار بتقدم وعد الله تعالى لهم بالنصر على عدوهم ما لم يتنازعوا ويختلفوا فكان كما أخبر به يوم أحد ظهروا على عدوهم وهزموهم وقتلوا منهم وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر الرماة بالمقام في موضع

٣٢٦

وأن لا يبرحوا فعصوا وخلوا مواضعهم حين رأوا هزيمة المشركين وظنوا أنه لم يبق لهم باقية واختلفوا وتنازعوا فحمل عليهم خالد بن الوليد من ورائهم فقتلوا من المسلمين من قتلوا بتركهم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعصيانهم * وفي ذلك دليل على صحة نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنهم وجدوا موعود الله كما وعد قبل العصيان فلما عصوا وكلوا إلى أنفسهم وفيه دليل على أن النصر من الله في جهاد العدو مضمون باتباع أمره والاجتهاد في طاعته وعلى هذا جرت عادة الله تعالى للمسلمين في نصرهم على أعدائهم وقد كان المسلمون من الصدر الأول إنما يقاتلون المشركين بالدين ويرجون النصر عليهم وغلبتهم به لا بكثرة العدد ولذلك قال الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) فأخبر أن هزيمتهم إنما كانت لتركهم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الإخلال بمراكزهم التي رتبوا فيها* وقال تعالى (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) وإنما أتوا من قبل من كان يريد الدنيا منهم قال عبد الله بن مسعود ما ظننت أن أحدا ممن قاتل مع النبي صلّى الله عليه وسلّم يريد الدنيا حتى أنزل الله تعالى (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) وعلى هذا المعنى كان الله قد فرض على العشرين أن لا يفروا من مائتين بقوله تعالى (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) لأنه في ابتداء الإسلام كانوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم مخلصين لنية الجهاد لله تعالى ولم يكن فيهم من يريد الدنيا وكانوا يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا رجالة قليلي العدة والسلاح وعدوهم ألف فرسان ورجالة بالسلاح الشاك فمنحهم الله أكتافهم ونصرهم عليهم حتى قتلوا كيف شاءوا وأسروا كيف شاءوا ثم لما خالطهم بعد ذلك من لم يكن له مثل بصائرهم وخلوص ضمائرهم خفف الله تعالى عن الجميع فقال (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ) ومعلوم أنه لم يرد ضعف قوى الأبدان ولا عدم السلاح لأن قوى أبدانهم كانت باقية وعددهم أكثر وسلاحهم أوفر وإنما أراد به أنه خالطهم من ليس له قوة البصيرة مثل ما للأولين فالمراد بالضعف هاهنا ضعف النية وأجرى الجميع مجرى واحدا في التخفيف إذا لم يكن من المصلحة تمييز ذوى البصائر منهم بأعيانهم وأسمائهم من أهل ضعف اليقين وقلة البصيرة ولذلك قال أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم في يوم القيامة حين انهزم الناس أخلصونا أخلصونا يعنون المهاجرين والأنصار* قوله

٣٢٧

تعالى (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) قال طلحة وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وقتادة والربيع بن أنس كان ذلك يوم أحد بعد هزيمة من انهزم من المسلمين وتوعدهم المشركون بالرجوع فكان من ثبت من المسلمين تحت الحجف متأهبين للقتال فأنزل الله تعالى الأمنة على المؤمنين فناموا دون المنافقين الذين أرعبهم الخوف لسوء الظن قال أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فنمنا حتى اصطفقت الحجف من النعاس ولم يصب المنافقين ذلك بل أهمتهن أنفسهم فقال بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم سمعت وأنا بين النائم واليقظان معتب بن قشير وناسا من المنافقين يقولون هل لنا من الأمر من شيء وهذا من لطف الله تعالى للمؤمنين وإظهار أعلام النبوة في مثل تلك الحال التي العدو فيها مطل عليهم وقد انهزم عنهم كثير من أعوانهم وقد قتلوا من قتلوا من المسلمين فينامون وهم مواجهون العدو في الوقت الذي يطير فيه النعاس عمن شاهده ممن لا يقاتل فكيف بمن حضر القتال والعدو قد أشرعوا فيهم الأسنة وشهروا سيوفهم لقتلهم واستيصالهم* وفي ذلك أعظم الدلائل وأكبر الحجج في صحة نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم من وجوه أحدها وقوع الأمنة مع استعلاء العدو من غير مدد أتاهم ولا نكاية في العدو ولا انصرافهم عنهم ولا قلة عددهم فينزل الله تعالى على قلوبهم الأمنة وذلك في أهل الإيمان واليقين خاصة والثاني وقوع النعاس عليهم في مثل تلك الحال التي يطير في مثلها النعاس عمن شاهدها بعد الانصراف والرجوع فكيف في حال المشاهدة وقصد العدو نحوهم لاستيصالهم وقتلهم والثالث تمييز المؤمنين من المنافقين حتى خص المؤمنين بتلك الأمنة والنعاس دون المنافقين فكان المؤمنون في غاية الأمن والطمأنينة والمنافقون في غاية الهلع والخوف والقلق والاضطراب فسبحان الله العزيز العليم الذي لا يضيع أجر المحسنين* قوله تعالى (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) قيل إن ما هاهنا صلة معناه فبرحمة من الله روى ذلك عن قتادة كما قال (عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) وقوله تعالى (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) واتفق أهل اللغة على ذلك وقالوا معناها التأكيد وحسن النظم كما قال الأعشى : * (١) اذهبى ما إليك أدركنى الحلم* عداني عن هيجكم أشفاقى

__________________

(١) (قوله فاذهبي ما إليك) يقال أذهب إليك معناه اشتغل بنفسك وأقبل عليها وما في الكلام زائدة كما ذكره المصنف (لمصححه).

٣٢٨

وفي ذلك دليل على بطلان قول من نفى أن يكون في القرآن مجاز لأن ذكر ما هاهنا مجاز وإسقاطها لا يغير المعنى قوله تعالى (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) يدل على وجوب استعمال اللين والرفق وترك الفظاظة والغلظة في الدعاء إلى الله تعالى كما قال تعالى (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وقوله تعالى لموسى وهارون (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) قوله تعالى (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) اختلف الناس في معنى أمر الله تعالى إياه بالمشاورة مع استغنائه بالوحي عن تعرف صواب الرأى من الصحابة فقال قتادة والربيع بن أنس ومحمد بن إسحاق إنما أمره بها تطييبا لنفوسهم ورفعا من أقدارهم إذ كانوا ممن يوثق بقوله ويرجع إلى رأية قال سفيان ابن عيينة أمره بالمشاورة لتقتدى به أمته فيها ولا تراها منقصة كما مدحهم الله تعالى بأن أمرهم شورى بينهم وقال الحسن والضحاك جمع لهم بذلك الأمرين جميعا في المشاورة ليكون لإجلال الصحابة ولتقتدى الأمة به في المشاورة وقال بعض أهل العلم إنما أمره بالمشاورة فيما لم ينص له فيه على شيء بعينه فمن القائلين بذلك من يقول إنما هو في أمور الدنيا خاصة وهم الذين يأبون أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول شيئا من أمور الدين من طريق الاجتهاد وإنما هو في أمور الدنيا خاصة فجائز أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم يستعين بآرائهم في ذلك ويتنبه بها على أشياء من وجوه التدبير ما جائز أن يفعلها لولا المشاورة واستشارة آراء الصحابة وقد أشار الحباب بن المنذر يوم بدر على النبي صلّى الله عليه وسلّم بالنزول على الماء فقبل وأشار منه عليه السعدان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة يوم الخندق بترك مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة لينصرفوا فقبل منهم وخرق الصحيفة في أشياء من نحو هذا من أمور الدنيا وقال آخرون كان مأمورا بمشاورتهم في أمور الدين والحوادث التي لا توقيف فيها عن الله تعالى وفي أمور الدنيا أيضا مما طريقه الرأى وغالب الظن وقد شاورهم يوم بدر في الأسارى وكان ذلك من أمور الدين وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا شاورهم فأظهروا آراءهم ارتأى معهم وعمل بما أداه إليه اجتهاده وكان في ذلك ضروب من الفوائد أحدها إعلام الناس أن ما لا نص فيه من الحوادث فسبيل استدراك حكمه الاجتهاد وغالب الظن والثاني إشعارهم بمنزلة الصحابة رضى الله عنهم وأنهم أهل الاجتهاد وجائز اتباع آرائهم إذ رفعهم الله إلى المنزلة التي يشاورهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ويرضى اجتهادهم ويحريهم لموافقة النصوص من

٣٢٩

أحكام الله تعالى والثالث أن باطن ضمائرهم مرضى عند الله تعالى لو لا ذلك لم يأمره بمشاورتهم فدل ذلك على يقينهم وصحة إيمانهم وعلى منزلتهم مع ذلك من العلم وعلى تسويغ الاجتهاد في أحكام الحوادث التي لا نصوص فيها لتقتدى به الأمة بعده صلّى الله عليه وسلّم في مثله وغير جائز أن يكون الأمر بالمشاورة على جهة تطبيب نفوسهم ورفع أقدارهم ولتقتدى الأمة به في مثله لأنه لو كان معلوما عندهم أنهم إذا استفرغوا مجهودهم في استنباط ما شاوروا فيه وصواب الرأى فيما سئلوا عنه ثم لم يكن ذلك معمولا عليه ولا متلقى منه بالقبول بوجه لم يكن في ذلك تطبيب نفوسهم ولا رفع لأقدارهم بل فيه إيحاشهم وإعلامهم بأن آراءهم غير مقبولة ولا معمول عليها فهذا تأويل ساقط لا معنى له فكيف يسوغ تأويل من تأوله لتقتدى به الأمة مع علم الأمة عند هذا القائل بأن هذه المشورة لم تفد شيئا ولم يعمل بشيء أشاروا به فإن كان على الأمة الاقتداء به فيها فواجب على الأمة أيضا أن يكون تشاورهم فيما بينهم على هذا السبيل وأن لا تنتج المشورة رأيا صحيحا ولا قولا معمولا لأن مشاورتهم عند القائلين بهذه المقالة كانت على هذا الوجه فإن كانت مشورة الأمة فيما بينها تنتج رأيا صحيحا وقولا معمولا عليه فليس في ذلك اقتداء بالصحابة عند مشاورة النبي صلّى الله عليه وسلّم إياهم وإذ قد بطل هذا فلا بد من أن تكون لمشاورته إياهم فائدة تستفاد بها وأن يكون للنبي صلّى الله عليه وسلّم معهم ضرب من الارتئاء والاجتهاد فجائز حينئذ أن توافق آراؤهم رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم وجائز أن يوافق رأى بعضهم رأيه وجائز أن يخالف رأى جميعهم فيعمل صلّى الله عليه وسلّم حينئذ برأيه ويكون فيه دلالة على أنهم لم يكونوا معنقين في اجتهادهم بل كانوا مأجورين فيه لفعلهم ما أمروا به ويكون عليهم حينئذ ترك آرائهم واتباع رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا بد من أن تكون مشاورة النبي صلّى الله عليه وسلّم إياهم فيما لا نص فيه إذ غير جائز أن يشاورهم في المنصوصات ولا يقول لهم ما رأيكم في الظهر والعصر والزكاة وصيام رمضان ولما لم يخص الله تعالى أمر الدين من أمور الدنيا في أمره صلّى الله عليه وسلّم بالمشاورة وجب أن يكون ذلك فيهما جميعا ولأنه معلوم أن مشاورة النبي صلّى الله عليه وسلّم في أمر الدنيا إنما كانت تكون في محاربة الكفار ومكايدة العدو وإن لم يكن للنبي صلّى الله عليه وسلّم تدبيره في أمر دنياه ومعاشه يحتاج فيه إلى مشاورة غيره لاقتصاره صلّى الله عليه وسلّم من الدنيا على القوت والكفاف الذي لا فضل فيه وإذا كانت مشاورته لهم في محاربة العدو ومكايدة الحروب فإن ذلك من أمر الدين ولا

٣٣٠

فرق بين اجتهاد الرأى فيه وبينه في أحكام سائر الحوادث التي لا نصوص فيها وفي ذلك دليل على صحة القول باجتهاد الرأى في أحكام الحوادث وعلى أن كل مجتهد مصيب وعلى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد كان يجتهد رأيه فيما لا نص فيه* ويدل على أنه قد كان يجتهد رأيه معهم ويعمل بما يغلب في رأيه فيما لا نص فيه قوله تعالى في نسق ذكر المشاورة (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ولو كان فيما شاور فيه شيء منصوص قد ورد التوقيف به من الله لكانت العزيمة فيه متقدمة للمشاورة إذ كان ورد النص موجبا لصحة العزيمة قبل المشاورة وفي ذكر العزيمة عقيب المشاورة دلالة على أنها صدرت عن المشورة وأنه لم يكن فيها نص قبلها* قوله تعالى (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) قرئ (يَغُلَ) برفع الياء ومعناه يخان وخص النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك وإن كانت خيانة سائر الناس محظورة تعظيما لأمر خيانته على خيانة غيره كما قال تعالى (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) وإن كان الرجس كله محظورا ونحن مأمورون باجتنابه وروى هذا التأويل عن الحسن وقال ابن عباس وسعيد ابن جبير في قوله تعالى (يَغُلَ) برفع الياء أن معناه يخون فينسب إلى الخيانة وقال نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض الناس لعل النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذها فأنزل الله هذه الآية* ومن قرأ (يَغُلَ) ينصب الياء معناه يخون والغلول الخيانة في الجملة إلا أنه قد صار* الإطلاق فيها يفيد الخيانة في المغنم* وقد عظم النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر الغلول حتى أجراه مجرى الكبائر وروى قتادة عن سالم بن أبى الجعد عن معدان بن أبى طلحة عن ثوبان مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول من فارق الروح جسده وهو برىء من ثلاث دخل الجنة الكبر والغلول والدين * وروى عبد الله بن عمر أن رجلا كان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقال له كركرة فمات فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم هو في النار فذهبوا ينظرون فوجدوا عليه كساء أو عباءة قد غلها وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم أدوا الخيط والمخيط فإنه عار ونار وشنار يوم القيامة والأخبار في أمر تغليظ الغلول كثيرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم* وقد روى في إباحة أكل الطعام وأخذ علف الدواب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم والصحابة والتابعين أخبار مستفيضة قال عبد الله بن أبى أوفى أصبنا طعاما يوم خيبر فكان الرجل منا يأتى فيأخذ منه ما يكفيه ثم ينصرف وعن سلمان أنه أصاب يوم المداين أرغفة حوارى وجبنا وسكينا فجعل يقطع من الجبنة ويقول كلوا بسم الله وقد روى رويفع بن ثابت الأنصارى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لا يحل لأحد يؤمن

٣٣١

بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه وهذا محمول على الحال التي يكون فيها مستغنيا عنه فأما إذا احتاج إليه فلا بأس به عند الفقهاء وقد روى عن البراء بن مالك أنه ضرب رجلا من المشركين يوم اليمامة فوقع على قفاه فأخذ سيفه وقتله به* قوله تعالى (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا) قال السدى وابن جريج في قوله (أَوِ ادْفَعُوا) إن معناه بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا وقال أبو عون الأنصارى معناه ورابطوا بالقيام على الخيل إن لم تقاتلوا* قال أبو بكر وفي هذا دلالة على أن فرض الحضور لازم لمن كان في حضوره نفع في تكثير السواد والدفع وفي القيام على الخيل إذا احتيج إليهم وقوله تعالى (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) قيل فيه وجهان أحدهما تأكيد لكون القول منهم إذ قد يضاف الفعل إلى غير فاعله إذا كان راضيا به على وجه المجاز كما قال تعالى (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها) وإنما قتل غيرهم ورضوا به وقوله تعالى (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ) ونحو ذلك والثاني أنه فرق بذكر الأفواه بين قول اللسان وقول الكتاب* وقوله تعالى (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) زعم قوم أن المراد أنهم يكونون أحياء في الجنة قالوا لأنه لو جاز أن ترد عليهم أرواحهم بعد الموت لجاز القول بالرجعة ومذهب أهل التناسخ* قال أبو بكر وقال الجمهور إن الله تعالى يحييهم بعد الموت فينيلهم من النعيم بقدر استحقاقهم إلى أن يفنيهم الله تعالى عند فناء الخلق ثم يعيدهم في الآخرة ويدخلهم الجنة لأنه أخبر أنهم أحياء وذلك يقتضى أنهم أحياء في هذا الوقت ولأن تأويل من تأوله على أنهم أحياء في الجنة يؤدى إلى إبطال فائدته لأن أحدا من المسلمين لا يشك أنهم سيكونون أحياء مع سائر أهل الجنة إذ الجنة لا يكون فيها ميت ويدل عليه أيضا وصفه تعالى لهم بأنهم فرحون على الحال بقوله تعالى (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) ويدل عليه قوله تعالى (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) وهم في الآخرة قد لحقوا بهم وروى ابن عباس وابن مسعود وجابر بن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في حواصل طيور خضر تحت العرش ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل

٣٣٢

معلقة تحت العرش وهو مذهب الحسن وعمرو بن عبيد وأبى حذيفة وواصل بن عطاء وليس ذلك من مذهب أصحاب التناسخ في شيء لأن المنكر في ذلك رجوعهم إلى دار الدنيا في خلق مختلفة وقد أخبر الله تعالى عن قوم أنه أماتهم ثم أحياهم في قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) وأخبر أن إحياء الموتى معجزة لعيسى عليه السّلام فكذلك يحييهم بعد الموت ويجعلهم حيث يشاء* وقوله تعالى (عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) معناه حيث لا يقدر لهم أحد على ضر ولا نفع إلا ربهم عز وجل وليس يعنى به قرب المسافة لأن الله تعالى لا يجوز عليه القرب والبعد بالمسافة إذ هو من صفة الأجسام وقيل عند ربهم من حيث يعلمهم هو دون الناس.

قوله تعالى (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) الآية* روى عن ابن عباس وقتادة وابن إسحاق إن الذين قالوا كانوا ركبا وبينهم أبو سفيان ليحبسوهم عند منصرفهم من أحد لما أرادوا الرجوع إليهم وقال السدى هو أعرابى ضمن له جعلا على ذلك فأطلق الله تعالى اسم الناس على الواحد على قول من تأوله على أنه كان رجلا واحدا فهذا على أنه أطلق لفظ العموم وأراد به الخصوص* قال أبو بكر لما كان الناس اسما للجنس وكان من المعلوم أن الناس كلهم لم يقولوا ذلك تناول ذلك أقلهم وهو الواحد منهم لأنه لفظ الجنس وعلى هذا قال أصحابنا فيمن قال إن كلمت الناس فعبدي حر أنه على كلام الواحد منهم لأنه لفظ الجنس ومعلوم أنه لم يرد به استغراق الجنس فيتناول الواحد منهم وقوله تعالى (فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً) فيه أخبار بزيادة يقينهم عند زيادة الخوف والمحنة إذ لم يبقوا على الحال الأولى بل ازدادوا عند ذلك يقينا وبصيرة في دينهم وهو كما قال تعالى في الأحزاب (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) فازدادوا عند معاينة العدو إيمانا وتسليما لأمر الله تعالى والصبر على جهادهم وفي ذلك أتم ثناء على الصحابة رضى الله عنهم وأكمل فضيلة وفيه تعليم لنا أن نقتدي بهم ونرجع إلى أمر الله والصبر عليه والاتكال عليه وأن نقول حسبنا الله ونعم الوكيل وأنا متى فعلنا ذلك أعقبنا ذلك من الله النصر والتأييد وصرف كيد العدو وشرهم مع حيازة رضوان الله وثوابه بقوله تعالى (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ) وقوله تعالى (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ

٣٣٣

بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ـ إلى قوله ـ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ) قال السدى بخلوا أن ينفقوا في سبيل الله وأن يؤدوا الزكاة وقال ابن عباس هو في أهل الكتاب بخلوا أن يبينوه للناس وهو بالزكاة أولى كقوله (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) ـ إلى قوله ـ (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ) وقوله تعالى (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ) يدل على ذلك أيضا* وروى سهل بن أبى صالح عن أبيه عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما من صاحب كنز لا يؤدى زكاة كنزه إلا جيء به يوم القيامة وبكنزه فيحمى بها جبينه وجبهته حتى يحكم الله بين عباده وقال مسروق يجعل الحق الذي منعه حية فيطوقها فيقول مالي ومالك فتقول الحية أنا مالك وقال عبد الله يطوق ثعبانا في عنقه له أسنان فيقول أنا ملك الذي بخلت به.

قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) قد تقدم نظيرها في سورة البقرة وقد روى في ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير والسدى أن المراد به اليهود وقال غيرهم المراد به اليهود والنصارى وقال الحسن وقتادة المراد به كل من أوتى علما فكتمه قال أبو هريرة لو لا آية من كتاب الله تعالى ما حدثتكم به ثم تلا قوله (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) فيعود الضمير في قوله (لَتُبَيِّنُنَّهُ) في قول الأولين على النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنهم كتموا صفته وأمره وفي قول الآخرين على الكتاب فيدخل فيه بيان أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم وسائر ما في كتب الله عز وجل.

قوله تعالى (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) الآيات التي فيها من جهات أحدها تعاقب الأعراض المتضادة عليها مع استحالة وجودها عارية منها والأعراض محدثة وما لم يسبق المحدث فهو محدث وقد دلت أيضا على أن خالق الأجسام لا يشبهها لأن الفاعل لا يشبه فعله وفيها الدلالة على أن خالقها قادر لا يعجزه شيء إذ كان خالقها وخالق الأعراض المضمنة بها وهو قادر على أضدادها إذ ليس بقادر يستحيل منه الفعل ويدل على أن فاعلها قديم لم يزل لأن صحة وجودها متعلقة بصانع قديم لو لا ذلك لاحتاج الفاعل إلى فاعل آخر إلى ما لا نهاية له ويدل على أن صانعها عالم من حيث استحال وجود الفعل المتقن المحكم إلا من عالم به قبل أن يفعله ويدل على أنه حكيم عدل لأنه مستغن عن فعل القبيح عالم بقبحه فلا تكون أفعاله إلا

٣٣٤

عدلا وصوابا ويدل على أنه لا يشبهها لأنه لو أشبهها لم يخل من أن يشبهها من جميع الوجوه أو من بعضها فإن أشبهها من جميع الوجوه فهو محدث مثلها وإن أشبهها من بعض الوجوه فواجب أن يكون محدثا من ذلك الوجه لأن حكم المشبهين واحد من حيث اشتبها فوجب أن يتساويا في حكم الحدوث من ذلك الوجه ويدل وقوف السموات والأرض من غير عمد أن ممسكها لا يشبهها لاستحالة وقوفها من غير عمد من جسم مثلها إلى غير ذلك من الدلائل المضمنة بها ودلالة الليل والنهار على الله تعالى أن الليل والنهار محدثان لوجود كل واحد منهما بعد أن لم يكن موجودا ومعلوم أن الأجسام لا تقدر على إيجادها ولا على الزيادة والنقصان فيها وقد اقتضيا محدثا من حيث كانا محدثين لاستحالة وجود حادث لا محدث له فوجب أن محدثهما ليس بجسم ولا مشبه للأجسام لوجهين أحدهما أن الأجسام لا تقدر على إحداث مثلها والثاني المشبه للجسم يجرى عليه ما يجرى عليه من حكم الحدوث فلو كان فاعلها حادثا لاحتاج إلى محدث ثم كذلك يحتاج الثاني إلى الثالث إلى ما لا نهاية له وذلك محال فلا بد من إثبات صانع قديم لا يشبه الأجسام والله أعلم.

باب فضل الرباط في سبيل الله تعالى

قال الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا) قال الحسن وقتادة وابن جريج والضحاك اصبروا على طاعة الله وصابروا على دينكم وصابروا أعداء الله ورابطوا في سبيل الله وقال محمد بن كعب القرظي اصبروا على الجهاد وصابروا وعدى إياكم ورابطوا أعداءكم وقال زيد بن أسلم اصبروا على الجهاد وصابروا العدو ورابطوا الخيل عليه وقال أبو مسلمة بن عبد الرحمن ورابطوا بانتظار الصلاة بعد الصلاة* وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في انتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط وقال تعالى (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) وروى سليمان عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال رباط يوم في سبيل الله أفضل من صيام شهر ومن قيامه ومن مات فيه وقى فتنة القبر ونما له عمله إلى يوم القيامة وروى عثمان عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة قيام ليلها وصيام نهارها والله الموفق.

٣٣٥

سورة النساء

قال الله تعالى (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) قال الحسن ومجاهد وإبراهيم هو قول القائل أسألك بالله وبالرحم وقال ابن عباس وقتادة والسدى والضحاك اتقوا الأرحام أن تقطعوها وفي الآية دلالة على جواز المسألة بالله تعالى وقد روى ليث عن مجاهد عن ابن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من سأل بالله فأعطوه وروى معاوية بن سويد ابن مقرن عن البراء بن عازب قال أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسبع منها إبرار القسم وهذا يدل على مثل ما دل عليه قوله صلّى الله عليه وسلّم من سألكم بالله فأعطوه * وأما قوله (وَالْأَرْحامَ) ففيه تعظيم لحق الرحم وتأكيد للنهى عن قطعها قال الله تعالى في موضع آخر (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) فقرن قطع الرحم إلى الفساد في الأرض وقال تعالى (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) قيل في الآل أنه القربى وقال تعالى (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في تعظيم حرمة الرحم ما يواطئ ما ورد به التنزيل روى سفيان بن عيينة عن الزهري عن أبى سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن عوف قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول الله أنا الرحمن وهي الرحم شققت لها اسما من اسمى فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا خالي حيان ابن بشر قال حدثنا محمد بن الحسن عن أبى حنيفة قال حدثني ناصح عن يحيى بن أبى كثير عن أبى سلمة عن أبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال ما من شيء أطيع الله فيه أعجل ثوابا من صلة الرحم وما من عمل عصى الله به أعجل عقوبة من البغي واليمين الفاجرة وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا خالد بن خداش قال حدثنا صالح المري قال حدثنا يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن الصدقة وصلة الرحم يزيد الله بهما في العمر ويدفع بهما ميتة السوء ويدفع الله بهما المحذور والمكروه وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أمه أم كلثوم بنت عقبة قالت سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح قال الحميدي الكاشح العدو ورواه أيضا

٣٣٦

سفيان عن الزهري عن أيوب بن بشير عن حكيم بن حزام عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاش * وروت حفصة بنت سيرين عن الرباب عن سليمان بن عامر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال الصدقة على المسلمين صدقة وعلى ذي الرحم اثنتان لأنها صدقة وصل قال أبو بكر فثبت بدلالة الكتاب والسنة وجوب صلة الرحم واستحقاق الثواب بها وجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم الصدقة على ذي الرحم اثنتين صدفة وصلة وأخبر باستحقاق الثواب لأجل الرحم سوى ما يستحقه بالصدقة فدل على أن الهبة لذي الرحم المحرم لا يصح الرجوع فيها ولا فسخها أيا كان الواهب أو غيره لأنها قد جرت مجرى الصدقة في أن موضوعها القربة واستحقاق الثواب بها كالصدقة لما كان موضوعها القربة وطلب الثواب لم يصح الرجوع فيها كذلك الهبة لذي الرحم المحرم ولا يصح للأب بهذه الدلالة الرجوع فيما وهبه للابن كما لا يجوز لغيره من ذوى الرحم المحرم إذ كانت بمنزلة الصدقة إلا أن يكون الأب محتاجا فيجوز له أخذه كسائر أموال الإبن* فإن قيل لم يفرق الكتاب والسنة فيما أوجبه من صلة الرحم بين ذي الرحم المحرم وغيره فالواجب أن لا يرجع فيما وهبه لسائر ذوى أرحامه وإن لم يكن ذا رحم محرم كابن العم والأباعد من أرحامه قيل له لو اعتبرنا كل من بينه وبينه نسب لوجب أن يشترك فيه آدم عليه السّلام كلهم لأنهم ذووا أنسابه ويجمعهم نوح النبي عليه السّلام وقبله آدم عليه السّلام وهذا فاسد فوجب أن يكون الرحم الذي يتعلق به هذا الحكم هو ما يمنع عقد النكاح بينهما إذا كان أحدهما رجلا والآخر امرأة لأن ما عدا ذلك لا يتعلق به حكم وهو بمنزلة الأجنبيين وقد روى زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك قال أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يخطب بمنى وهو يقول أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك فأدناك * فذكر ذوى الرحم المحرم في ذلك فدل على صحة ما ذكرنا وهو مأمور مع ذلك بمن بعد رحمه أن يصله وليس في تأكيد من قرب كما يأمر بالإحسان إلى الجار ولا يتعلق بذلك حكم في التحريم ولا في منع الرجوع في الهبة فكذلك ذوو رحمه الذين ليسوا بمحرم فهو مندوب إلى الإحسان إليهم ولكنه لما لم يتعلق به حكم التحريم كانوا بمنزلة الأجنبيين والله أعلم بالصواب.

«٢٢ ـ أحكام في»

٣٣٧

باب دفع أموال الأيتام إليهم بأعيانها ومنعه الوصي من استهلاكها

قال الله تعالى (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) روى عن الحسن أنه قال لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم وجعل ولى اليتيم يعزل مال اليتيم عن ماله فشكوا ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) قال أبو بكر وأظن ذلك غلطا من الراوي لأن المراد بهذه الآية إيتاءهم أموالهم بعد البلوغ إذ لا خلاف بين أهل العلم أن اليتيم لا يجب إعطاؤه ماله قبل البلوغ وإنما غلط الراوي بآية أخرى وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبى شيبة قال حدثنا جرير عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما أنزل الله تعالى (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ـ و ـ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) الآية أنطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم فهذا هو الصحيح في ذلك* وأما قوله تعالى (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) فليس من هذا في شيء لأنه معلوم أنه لم يرد به إيتاءهم أموالهم في حال اليتيم وإنما يجب الدفع إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد وأطلق اسم الأيتام عليهم لقرب عهدهم باليتم كما سمى مقارنة انقضاء العدة بلوغ الأجل في قوله تعالى (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) والمعنى مقاربة البلوغ ويدل على ذلك قوله تعالى في نسق الآية (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) والإشهاد عليه لا يصح قبل البلوغ فعلم أنه أراد بعد البلوغ وسماهم يتامى لأحد معنيين إما لقرب عهدهم بالبلوغ أو لانفرادهم عن آبائهم مع أن العادة في أمثالهم ضعفهم عن التصرف لأنفسهم والقيام بتدبير أمورهم على الكمال حسب تصرف المتحنكين الذين قد جربوا الأمور واستحكمت آراؤهم وقد روى يزيد بن هرمز أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسئله عن اليتيم متى ينقطع يتمه فكتب إليه إذا أونس منه الرشد انقطع عنه يتمه وفي بعض الألفاظ إن الرجل ليقبض على لحيته ولم ينقطع عنه يتمه بعد فأخبر ابن عباس أن اسم اليتيم قد يلزمه بعد البلوغ إذا لم يستحكم رأيه ولم يؤنس منه رشده فجعل بقاء ضعف الرأى

٣٣٨

موجبا لبقاء اسم اليتيم عليه واسم اليتيم قد يقع على المنفرد عن أبيه وعلى المرأة المنفردة عن زوجها قال النبي صلّى الله عليه وسلّم تستأمر اليتيمة في نفسها وهي لا تستأمر إلا وهي بالغة وقال الشاعر :

إن القبور تنكح الأيامى

النسوة الأرامل اليتامى

إلا أنه معلوم أنه إذا صار شيخا أو كهلا لا يسمى يتيما وإن كان ضعيف العقل ناقص الرأى فلا بد من اعتبار قرب العهد بالصغر والمرأة الكبيرة المسنة تسمى يتيمة من جهة انفرادها عن زوج والرجل الكبير المسن لا يسمى يتيما من جهة انفراده عن أبيه وإنما كان كذلك لأن الأب يلي على الصغير ويدبر أمره ويحوطه فيكنفه فسمى الصغير يتما لانفراده عن أبيه الذي هذه حاله فما دام على حال الضعف ونقصان الرأى يسمى يتيما بعد البلوغ وأما المرأة فإنما سميت يتيمة لانفرادها عن الزوج الذي هي في حباله وكنفه فهي وإن كبرت فهذا الاسم لازم لها لأن وجود الزوج لها في هذه الحال بمنزلة الأب للصغير في أنه هو الذي يلي حفظها وحياطتها فإذا انفردت عمن هذه حاله معها سميت يتيمة كما سمى الصغير يتيما لانفراده عمن يدبر أمره ويكنفه ويحفظه ألا ترى إلى قوله تعالى (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) كما قال (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) فجعل الرجل قيما على امرأته كما جعل ولى اليتيم قيما عليه وقد روى على بن أبى طالب وجابر بن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لا يتم بعد حلم وهذا هو الحقيقة في اليتيم وبعد البلوغ يسمى يتيما مجازا لما وصفنا وما ذكرنا من دلالة اسم اليتيم على الضعيف على ما روى عن ابن عباس يدل على صحة قول أصحابنا فيمن أوصى ليتامى بنى فلان وهم لا يحصون أنها جائزة للفقراء من اليتامى لأن اسم اليتيم يدل على ذلك* ويدل عليه ما حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الحسن في قوله عز وجل (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) قال السفهاء ابنك السفيه وامرأتك السفيهة قال وقوله (قِياماً) قيام عيشك وقد ذكر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال اتقوا الله في الضعيفين اليتيم والمرأة فسمى اليتيم ضعيفا ولم يشرط في هذه الآية إيناس الرشد في دفع المال إليهم وظاهره يقتضى وجود دفعه إليهم بعد البلوغ أونس منه الرشد أو لم يؤنس إلا أنه قد شرطه في قوله تعالى (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ

٣٣٩

مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) فكان ذلك مستعملا عند أبى حنيفة ما بينه وبين خمس وعشرين سنة فإذا بلغها ولم يؤنس منه رشد وجب دفع المال إليه لقوله تعالى (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) فيستعمله بعد خمس وعشرين سنة على مقتضاه وظاهره وفيما قبل ذلك لا يدفعه إلا مع إيناس الرشد لاتفاق أهل العلم أن إيناس الرشد قبل بلوغ هذه السن شرط وجوب دفع المال إليه وهذا وجه شائع من قبل أن فيه استعمال كل واحدة من الآيتين على مقتضى ظواهرهما على فائدتهما ولو اعتبرنا إيناس الرشد على سائر الأحوال كان فيه إسقاط حكم الآية الأخرى رأسا وهو قوله تعالى (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) من غير شرط لإيناس الرشد فيه لأن الله تعالى أطلق إيجاب دفع المال من غير قرينة ومتى وردت آيتان إحداهما خاصة مضمنة بقرينة فيما تقتضيه من إيجاب الحكم والأخرى عامة غير مضمنة بقرينة وأمكننا استعمالهما على فائدتهما ولم يجز لنا الاقتصار بها على فائدة إحداهما وإسقاط فائدة الأخرى ولما ثبت بما ذكرنا وجوب دفع المال إليه لقوله تعالى (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) وقال في نسق التلاوة (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) دل ذلك على أنه جائز الإقرار بالقبض إذ كان قوله (فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) قد تضمن جواز الإشهاد على إقرارهم بقبضها وفي ذلك دلالة على نفى الحجر وجواز التصرف لأن المحجور عليه لا يجوز إقراره ومن وجب الإشهاد عليه فهو جائز الإقرار* وأما قوله تعالى (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) فإنه روى عن مجاهد وأبى صالح الحرام بالحلال أى لا تجعل بدل رزقك الحلال حراما تتعجل بأن تستهلك مال اليتيم فتنفقه أو تتجر فيه لنفسك أو تحبسه وتعطيه غيره فيكون ما تأخذه من مال اليتيم خبيثا حراما وتعطيه مالك الحلال الذي رزقك الله تعالى ولكن آتوهم أموالهم بأعيانها وهذا يدل على أن ولى اليتيم لا يجوز له أن يستقرض مال اليتيم من نفسه ولا يستبدله فيحبسه لنفسه ويعطيه غيره وليس فيه دلالة على أنه لا يجوز له التصرف فيه بالبيع والشرى لليتيم لأنه إنما حظر عليه أن يأخذه لنفسه ويعطى اليتيم غيره وفيه الدلالة على أنه ليس له أن يشترى من مال اليتيم لنفسه بمثل قيمته سواء لأنه قد حظر عليه استبدال مال اليتيم لنفسه فهو عام في سائر وجوه الاستبدال إلا ما قام دليله هو أن يكون ما يعطى اليتيم أكثر قيمة مما يأخذه على قول أبى حنيفة لقوله تعالى (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وقال سعيد بن المسيب والزهري

٣٤٠