أحكام القرآن - ج ٢

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٦

زيد فكان زيد أوجد في نفسه فلما رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك منه قال أما الله تعالى فقد قبلها * وروى عن الحسن أنه قال هو الزكاة الواجبة وما فرض الله تعالى في الأموال* قال أبو بكر عتق ابن عمر للجارية على تأويل الآية على أنه رأى كل ما أخرج على وجه القربة إلى الله فهو من النفقة المراد بالآية ويدل على أن ذلك كان عنده عاما في الفروض والنوافل وكذلك فعل أبى طلحة وزيد بن حارثة يدل على أنهم لم يروا ذلك مقصورا على الفرض دون النفل ويكون حينئذ معنى قوله تعالى (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) على أنكم لن تنالوا البر الذي هو في أعلى منازل القرب حتى تنفقوا مما تحبون على وجه المبالغة في الترغيب فيه لأن الإنفاق مما يحب يدل على صدق نيته كما قال تعالى (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) وقد يجوز إطلاق مثله في اللغة وإن لم يرد به نفى الأصل وإنما يريد به نفى الكمال كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد ما ينفق ولا يفطن له فيتصدق عليه فأطلق ذلك على وجه المبالغة في الوصف له بالمسكنة لا على نفى المسكنة عن غيره على الحقيقة* قوله تعالى (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) قال أبو بكر هذا يوجب أن يكون جميع المأكولات قد كان مباحا لبنى إسرائيل إلى أن حرم إسرائيل ما حرمه على نفسه* وروى عن ابن عباس والحسن أنه أخذه وجع عرق النسا فحرم أحب الطعام* إليه إن شفاه الله على وجه النذر وهو لحوم الإبل* وقال قتادة حرم العروق* وروى أن إسرائيل وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السّلام نذر إن برىء من عرق النسا أن يحرم أحب الطعام والشراب إليه وهو لحوم الإبل وألبانها* وكان سبب نزول هذه الآية أن اليهود أنكروا تحليل النبي صلّى الله عليه وسلّم لحوم الإبل لأنهم لا يرون النسخ جائزا فأنزل الله هذه الآية وبين أنها كانت مباحة لإبراهيم وولده إلى أن حرمها إسرائيل على نفسه وحاجهم بالتوراة فلم يجسروا على إحضارها لعلمهم بصدق ما أخبر أنه فيها وبين بذلك بطلان قولهم في أباء النسخ إذ ما جاز أن يكون مباحا في وقت ثم حظر جازت إباحته بعد حظره وفيه الدلالة على صحة نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه صلّى الله عليه وسلّم كان أميا لا يقرأ الكتاب ولم يجالس أهل الكتاب فلم يعرف سرائر كتب الأنبياء المتقدمين إلا بإعلام الله إياه وهذا الطعام الذي حرمه إسرائيل على نفسه صار محظورا عليه وعلى بنى إسرائيل يدل

٣٠١

عليه قوله تعالى (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) فاستثنى ذلك مما أحله تعالى لبنى إسرائيل ثم حظره إسرائيل على نفسه فدل على أنه صار محظورا عليه وعليهم* فإن قيل كيف يجوز للإنسان أن يحرم على نفسه شيئا وهو لا يعلم* موقع المصلحة في الحظر والإباحة إذ كان علم المصالح في العبادات لله تعالى وحده* قيل هذا جائز بأن يأذن الله له فيه كما يجوز الاجتهاد في الأحكام بإذن الله تعالى فيكون ما يؤدى إليه الاجتهاد حكما لله تعالى وأيضا فجائز للإنسان أن يحرم امرأته على نفسه بالطلاق ويحرم جاريته بالعتق فكذلك جائز أن يأذن الله له في تحريم الطعام أما من جهة النص أو الاجتهاد وما حرمه إسرائيل على نفسه لا يخلو من أن يكون تحريمه صدر عن اجتهاد منه في ذلك أو توقيفا من الله له في إباحة التحريم له إن شاء وظاهر الآية يدل على أن تحريمه صدر عن اجتهاد منه في ذلك لإضافة الله تعالى التحريم إليه ولو كان ذلك عن توقيف لقال إلا ما حرم الله على بنى إسرائيل فلما أضاف التحريم إليه دل ذلك على أنه كان جعل إليه إيجاب التحريم من طريق الاجتهاد* وهذا يدل على أنه جائز أن يجعل للنبي صلّى الله عليه وسلّم الاجتهاد في الأحكام كما جاز لغيره والنبي صلّى الله عليه وسلّم أولى بذلك لفضل رأيه وعلمه بوجوه المقاييس واجتهاد الرأى وقد بينا ذلك في أصول الفقه* قال أبو بكر قد دلت الآية على أن تحريم إسرائيل لما حرمه من الطعام على نفسه قد كان واقعا ولم يكن موجب لفظه شيئا غير التحريم وهذا المعنى هو منسوخ بشريعة نبينا صلّى الله عليه وسلّم وذلك لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم حرم مارية على نفسه وقيل أنه حرم العسل فلم يحرمهما الله تعالى عليه وجعل موجب لفظه كفارة يمين بقوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) ـ إلى قوله تعالى ـ (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) فجعل في التحريم كفارة يمين إذا استباح ما حرم بمنزلة الحلف أن لا يستبيحه وكذلك قال أصحابنا فيمن حرم على نفسه جارية أو شيئا من ملكه أنه لا يحرم عليه وله أن يستبيحه بعد التحريم وتلزمه كفارة يمين بمنزلة من حلف أن لا يأكل هذا الطعام إلا أنهم خالفوا بينه وبين اليمين من وجه وهو أن القائل والله لا أكلت هذا الطعام لا يحنث إلا بأكل جميعه ولو قال قد حرمت هذا الطعام على نفسي حنث بأكل جزء منه لأن الحالف لما حلف عليه بلفظ التحريم فقد قصد إلى الحنث بأكل الجزء منه بمنزلة قوله والله لا آكل شيئا منه لأن ما حرمه الله تعالى من الأشياء

٣٠٢

فتحريمه شامل لقليله وكثيره وكذلك المحرم له على نفسه عاقد لليمين على كل جزء منه أن لا يأكل. قوله عز وجل (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) قال مجاهد وقتادة لم يوضع قبله بيت على الأرض وروى عن على والحسن أنهما قالا هو أول بيت وضع للعبادة * وقد اختلف في بكه فقال الزهري بكة المسجد ومكة الحرم كله وقال مجاهد بكة هي مكة ومن قال هذ القول يقول قد تبدل الباء مع الميم كقوله سبد رأسه وسمده إذا حلقه وقال أبو عبيدة بكة هي بطن مكة* وقيل إن البك الزحم من قولك بكه يبكه بكا إذا زاحمه وتباك الناس بالموضع إذا ازدحموا فيجوز أن يسمى بها البيت لازدحام الناس فيه للتبرك بالصلاة ويجوز أن يسمى به ما حول البيت من المسجد لازدحام الناس فيه للطواف قوله تعالى (وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) يعنى بيانا ودلالة على الله لما أظهر فيه من الآيات التي لا يقدر عليها غيره وهو أمن الوحش فيه حتى يجتمع الكلب والظبى في الحرم فلا الكلب يهيج الظبى ولا الظبى يتوحش منه وفي ذلك دلالة على توحيد الله وقدرته وهذا يدل على أن المراد بالبيت هاهنا البيت وما حوله من الحرم لأن ذلك موجود في جميع الحرم وقوله (مُبارَكاً) يعنى أنه ثابت الخير والبركة لأن البركة هي ثبوت الخير ونموه وتزيده والبرك هو الثبوت يقال برك بركا وبروكا إذا ثبت على حاله هذه في الآية ترغيب في الحج إلى البيت الحرام بما أخبر عنه من المصلحة فيه والبركة ونمو الخير وزيادته مع اللطف في الهداية إلى التوحيد والديانة قوله تعالى (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ) قال أبو بكر الآية في مقام إبراهيم عليه السّلام أن قدميه دخلتا في حجر صلد بقدرة الله تعالى ليكون ذلك دلالة وآية على توحيد الله وعلى صحة نبوة إبراهيم عليه السّلام ومن الآيات فيه ما ذكرنا من أمن الوحش وأنسه فيه مع السباع الضارية المتعادية وأمن الخائف في الجاهلية فيه ويتخطف الناس من حولهم وإمحاق الجمار على كثرة الرمي من لدن إبراهيم عليه السّلام إلى يومنا هذا مع أن حصى الجمار إنما تنقل إلى موضع الرمي من غيره وامتناع الطير من العلو عليه وإنما يطير حوله لا فوقه واستشفاء المريض منها به وتعجيل العقوبة لمن انتهك حرمته وقد كانت العادة بذلك جارية ومن إهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا لإخرابه بالطير الأبابيل فهذه كلها من آيات الحرم سوى ما لا نحصيه منها وفي جميع ذلك دليل على أن المراد بالبيت هنا الحرم كله لأن هذه الآيات موجودة في الحرم

٣٠٣

ومقام إبراهيم ليس في البيت إنما هو خارج البيت والله أعلم.

باب الجاني يلجأ إلى الحرم أو يجنى فيه

قال الله تعالى (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) قال أبو بكر لما كانت الآيات المذكورة عقيب قوله (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) موجودة في جميع الحرم ثم قال (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) وجب أن يكون مراده جميع الحرم وقوله (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) يقتضى أمنه على نفسه سواء كان جانيا قبل دخوله أو جنى بعد دخوله إلا أن الفقهاء متفقون على أنه مأخوذ بجنايته في الحرم في النفس وما دونها ومعلوم أن قوله (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) هو أمر وإن كان في صورة الخبر كأنه قال هو آمن في حكم الله تعالى وفيما أمر به كما نقول هذا مباح وهذا محظور والمراد به كذلك في حكم الله وما أمر به عباده وليس المراد أن مبيحا يستبيحه ولا أن معتقدا للحظر يحظره وإنما هو بمنزلة قوله في المباح افعله على أن لا تبعة عليك فيه ولا ثواب وفي المحظور لا تفعله فإنك تستحق العقاب به وكذلك قوله تعالى (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) هو أمر لنا بإيمانه وحظر دمه ألا ترى إلى قوله تعالى (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) فأخبر بجواز وقوع القتل فيه وأمرنا بقتل المشركين فيه إذا قاتلونا ولو كان قوله تعالى (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) خبرا لما جاز أن لا يوجد مخبره فثبت بذلك أن قوله تعالى (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) هو أمر لنا بإيمانه ونهى لنا عن قتله ثم لا يخلوا ذلك من أن يكون أمرا لنا بأن نؤمنه من الظلم والقتل الذي لا يستحق أو أن تؤمنه من قتل قد استحقه بجنايته فلما كان حمله على الإيمان من قتل غير مستحق عليه بل على وجه الظلم تسقط فائدة تخصيص الحرم به لأن الحرم وغيره في ذلك سواء إذا كان علينا إيمان كل أحد من ظلم يقع به من قبلنا أو من قبل غيرنا إذا أمكننا ذلك علمنا أن المراد الأمر بالإيمان من قبل مستحق فظاهره يقتضى أن نؤمنه من المستحق من ذلك بجنايته في الحرم وفي غيره إلا أن الدلالة قد قامت من اتفاق أهل العلم على أنه إذا قتل في الحرم قتل قال الله تعالى (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) ففرق بين الجاني في الحرم وبين الجاني في غيره إذا لجأ إليه وقد اختلف الفقهاء فيمن جنى في غير الحرم ثم لاذ إليه فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد إذا قتل في غير الحرم ثم دخل الحرم

٣٠٤

لم يقتص منه ما دام فيه ولكنه لا يبايع ولا يؤاكل إلى أن يخرج من الحرم فيقتص منه وإن قتل في الحرم قتل وإن كانت جنايته فيما دون النفس في غير الحرم ثم دخل الحرم اقتص منه وقال مالك والشافعى يقتص منه في الحرم ذلك كله قال أبو بكر روى عن ابن عباس وابن عمر وعبيد الله بن عمير وسعيد بن جبير وعطاء وطاوس والشعبي فيمن قتل ثم لجأ إلى الحرم أنه لا يقتل قال ابن عباس ولكنه لا يجالس ولا يؤوى ولا يبايع حتى يخرج من الحرم فيقتل وإن فعل ذلك في الحرم أقيم عليه وروى قتادة عن الحسن أنه قال لا يمنع الحرم من أصاب فيه أو في غيره أن يقام عليه قال وكان الحسن يقول (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) كان هذا في الجاهلية لو أن رجلا جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتعرض له حتى يخرج من الحرم فأما الإسلام فلم يزده إلا شدة من أصاب حدا في غيره ثم لجأ إليه أقيم عليه الحد وروى هشام عن الحسن وعطاء قالا إذا أصاب حدا في غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم أخرج عن الحرم حتى يقام عليه وعن مجاهد مثله وهذا يحتمل أن يريد به أن يضطر إلى الخروج بترك مجالسته وإيوائه ومبايعته ومشاراته وقد روى ذلك عن عطاء مفسرا فجائز أن يكون ما روى عنه وعن الحسن في إخراجه من الحرم على هذا الوجه وقد ذكرنا دلالة قوله تعالى (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) على مثل ما دل عليه قوله تعالى (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) في موضعه وبينا وجه دلالة ذلك على أن دخول الحرم يحظر قتل من لجأ إليه إذا لم تكن جنايته في الحرم وأما ما ذكرنا من قول السلف فيه يدل على أنه اتفاق منهم على حظر قتل من قتل في غير الحرم ثم لجأ إليه لأن الحسن روى عنه فيه قولان متضادان أحدهما رواية قتادة عنه أنه يقتل والآخر رواية هشام بن حسان في أنه لا يقتل في الحرم ولكنه يخرج منه فيقتل وقد بينا أنه يحتمل قوله يخرج فيقتل أنه يضيق عليه في ترك المبايعة والمشاراة والأكل والشرب حتى يضطر إلى الخروج فلم يحصل للحسن في هذا قول لتضاد الروايتين وبقي قول الآخرين من الصحابة والتابعين في منع القصاص في الحرم بجناية كانت منه في غير الحرم ولم يختلف السلف ومن بعدهم من الفقهاء أنه إذا جنى في الحرم كان مأخوذا بجنايته يقام عليه ما يستحقه من قتل أو غيره* فإن قيل قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) وقوله (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) وقوله (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) يوجب

«٢٠ ـ أحكام في»

٣٠٥

عمومه القصاص في الحرم على من جنى فيه أو في غيره قيل له قد دللنا على أن قوله (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) قد اقتضى وقوع الأمن من القتل بجناية كانت منه في غيره وقوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) وسائر الآي الموجبة للقصاص مرتب على ما ذكرنا من الأمن بدخول الحرم ويكون ذلك مخصوصا من آي القصاص وأيضا فإن قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) وارد في إيجاب القصاص لا في حكم الحرم وقوله (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) وارد في حكم الحرم ووقوع الأمن لمن لجأ إليه فيجري كل واحد منهما على بابه ويستعمل فيما ورد فيه ولا يعترض بآى القصاص على حكم الحرم* ومن جهة أخرى أن إيجاب القصاص لا محالة متقدم لإيجاب أمانه بالحرم لأنه لو لم يكن القصاص واجبا قبل ذلك استحال أن يقال هو آمن مما لم يجن ولم يستحق عليه فدل ذلك على أن الحكم بأمنه بدخول الحرم متأخر عن إيجاب القصاص ومن جهة الأثر حديث ابن عباس وأبى شريح الكعبي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال إن الله حرم مكة ولم تحل لأحد قبلي ولا لاحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار فظاهر ذلك يقتضى حظر قتل اللاجئ إليه والجاني فيه إلا أن الجاني فيه لا خلاف فيه أنه يؤخذ بجنايته فبقى حكم اللفظ في الجاني إذا لجأ إليه* وروى حماد بن سلمة عن حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال إن أعتى الناس على الله عز وجل رجل قتل غير قاتله أو قتل في الحرم أو قتل بذحل الجاهلية وهذا أيضا يحظر عمومه قتل كل من كان فيه فلا يخص منه شيء إلا بدلالة وأما ما دون النفس فإنه يؤخذ به لأنه لو كان عليه دين فلجأ إلى الحرم حبس به لقوله صلّى الله عليه وسلّم لي الواجد يحل عرضه وعقوبته والحبس في الدين عقوبة فجعل الحبس عقوبة وهو فيما دون النفس فكل حق وجب فيما دون النفس أخذ به وإن لجأ إلى الحرم قياسا على الحبس في الدين* وأيضا لا خلاف بين الفقهاء أنه مأخوذ بما يجب عليه فيما دون النفس وكذلك لا خلاف أن الجاني في الحرم مأخوذ بجنايته في النفس وما دونها ولا خلاف أيضا أنه إذا جنى في غير الحرم ثم دخل الحرم أنه إذا لم يجب قتله في الحرم أنه لا يبايع ولا يشارى ولا يؤوى حتى يخرج ولما ثبت عندنا أنه لا يقتل وجب استعمال الحكم الآخر فيه في ترك مشاراته ومبايعته وإيوائه فهذه الوجوه كلها لا خلاف فيها وإنما الخلاف فيمن جنى في غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم وقد دللنا عليه وما عدا ذلك فهو محمول على ما حصل عليه الاتفاق*

٣٠٦

وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل قال حدثنا يعقوب بن حميد قال حدثنا عبد الله بن الوليد عن سفيان الثوري عن محمد بن المنكدر عن جابر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يسكن مكة سافك دم ولا آكل ربا ولا مشاء بنميمة وهذا يدل على أن القاتل إذا دخل الحرم لم يؤو ولم يجالس ولم يبايع ولم يشار ولم يطعم ولم يسق حتى يخرج لقوله صلّى الله عليه وسلّم لا يسكنها سافك دم * وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار قال حدثنا داود بن عمرو قال حدثنا محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس قال إذا دخل القاتل الحرم لم يجالس ولم يبايع ولم يؤو واتبعه طالبه يقول له اتق الله في دم فلان واخرج من الحرم* ونظير قوله تعالى (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) قوله عز وجل (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) وقوله (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) وقوله (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) فهذه الآي متقاربة المعاني في الدلالة على حظر قتل من لجأ إليه وإن كان مستحقا للقتل قبل دخوله ولما عبر تارة بذكر البيت وتارة بذكر الحرم دل على أن الحرم في حكم البيت في باب الأمن ومنع قتل من لجأ إليه ولما لم يختلفوا أنه لا يقتل من لجأ إلى البيت لأن الله تعالى وصفه بالأمن فيه وجب مثله في الحرم فيمن لجأ إليه* فإن قيل من قتل في البيت لم* يقتل فيه ومن قتل في الحرم قتل فيه فليس الحرم كالبيت* قيل له لما جعل الله حكم الحرم حكم البيت فيما عظم من حرمته وعبر تارة بذكر البيت وتارة بذكر الحرم اقتضى ذلك التسوية بينهما إلا فيما قام دليل تخصيصه وقد قامت الدلالة في حظر القتل في البيت فخصصناه وبقي حكم الحرم على ما اقتضاه ظاهر القرآن من إيجاب التسوية بينهما والله تعالى أعلم.

باب فرض الحج

قال الله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) قال أبو بكر هذا ظاهر في إيجاب فرض الحج على شريطة وجود السبيل إليه والذي يقتضيه من حكم السبيل إن كل من أمكنه الوصول إلى الحج لزمه ذلك إذ كانت استطاعة السبيل إليه هي إمكان الوصول إليه كقوله تعالى (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) يعنى من وصول (هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) يعنى من وصول وقد جعل النبي صلّى الله عليه وسلّم من شرط استطاعة السبيل إليه وجود الزاد والراحلة وروى أبو إسحاق عن الحارث عن على عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال من ملك

٣٠٧

زادا وراحلة يبلغه بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا وذلك أن الله تعالى يقول في كتابه (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) وروى إبراهيم ابن يزيد الجوزي عن محمد بن عباد عن ابن عمر قال سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قوله عز وجل (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) قال السبيل إلى الحج الزاد والراحلة وروى يونس عن الحسن لما نزلت هذه الآية (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) الآية قال رجل يا رسول الله ما السبيل قال زاد وراحلة وروى عطاء الخراساني عن ابن عباس قال السبيل الزاد والراحلة ولم يحل بينه وبينه أحد وقال سعيد بن جبير هو الزاد والراحلة قال أبو بكر فوجود الزاد والراحلة من السبيل الذي ذكره الله تعالى ومن شرائط وجوب الحج وليست الاستطاعة مقصورة على ذلك لأن المريض الخائف والشيخ الذي لا يثبت على الراحلة والزمنى وكل من تعذر عليه الوصول إليه فهو غير مستطيع السبيل إلى الحج وإن كان واجدا للزاد والراحلة فدل ذلك على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يرد بقوله الاستطاعة الزاد والراحلة إن ذلك جميع شرائط الاستطاعة وإنما أفاد ذلك بطلان قول من يقول إن من أمكنه المشي إلى بيت الله ولم يجد زادا وراحلة فعليه الحج فبين صلّى الله عليه وسلّم أن لزوم فرض الحج مخصوص بالركوب دون المشي وأن من لا يمكنه الوصول إليه إلا بالمشي الذي يشق ويعسر فلا حج عليه* فإن قيل فينبغي أن لا يلزم فرض الحج إلا من كان بينه وبين مكة* مسافة ساعة إذا لم يجد زادا وراحلة وأمكنه المشي* قيل له إذا لم يلحقه في المشي مشقة شديدة فهذا أيسر أمر من الواجد للزاد والراحلة إذا بعد وطنه من مكة ومعلوم أن شرط الزاد والراحلة إنما هو لأن لا يشق عليه ويناله ما يضره من المشي فإذا كان من أهل مكة وما قرب منها ممن لا يشق عليه المشي في ساعة من نهار فهذا مستطيع للسبيل بلا مشقة وإذا كان لا يصل إلى البيت إلا بالمشقة الشديدة فهو الذي خفف الله عنه ولم يلزمه الفرض إلا على الشرط المذكور ببيان النبي صلّى الله عليه وسلّم قال الله تعالى (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) يعنى من ضيق وعندنا أن وجود المحرم للمرأة من شرائط الحج لما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا فوق ثلاث إلا مع ذي محرم أو زوج وروى عمرو بن دينار عن أبى معبد عن ابن عباس قال خطب النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال لا تسافر امرأة إلا ومعها ذو محرم فقال رجل يا رسول الله إنى

٣٠٨

قد اكتتبت في غزوة كذا وقد أرادت امرأتى أن تحج فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم احجج مع امرأتك * وهذا يدل على أن قوله لا تسافر امرأة إلا ومعها ذو محرم قد انتظم المرأة إذا أرادت الحج من ثلاثة أوجه أحدها أن السائل عقل منه ذلك ولذلك سأله عن امرأته وهي تريد الحج ولم ينكر النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك عليه فدل على أن مراده صلّى الله عليه وسلّم عام في الحج وغيره من الأسفار والثاني قوله حج مع امرأتك وفي ذلك إخبار منه بإرادة سفر الحج في قوله لا تسافر المرأة إلا ومعها ذو محرم والثالث أمره إياه بترك الغزو للحج مع امرأته ولو جاز لها الحج بغير محرم أو زوج لما أمره بترك الغزو وهو فرض للتطوع وفي هذا دليل أيضا على أن حج المرأة كان فرضا ولم يكن تطوعا لأنه لو كان تطوعا لما أمره بترك الغزو الذي هو فرض لتطوع المرأة* ومن وجه آخر وهو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يسئله عن حج المرأة أفرض هو أم نفل وفي ذلك دليل على تساوى حكمهما في امتناع خروجها بغير محرم فثبت بذلك أن وجود المحرم للمرأة من شرائط الاستطاعة ولا خلاف أن من شرط استطاعتها أن لا تكون معتدة لقوله تعالى (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ) فلما كان ذلك معتبرا في الاستطاعة وجب أن يكون نهيه للمرأة أن تسافر بغير محرم معتبرا فيها* ومن شرائطه ما ذكرنا من إمكان ثبوته على الراحلة وذلك لما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا موسى بن الحسن بن أبى عبادة قال حدثنا محمد بن مصعب قال حدثنا الأوزاعى عن الزهري عن سليمان بن يسار عن ابن عباس أن امرأة من خثعم سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع فقالت يا رسول الله إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبى شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة أفأحج عنه قال نعم حجى عن أبيك فأجاز صلّى الله عليه وسلّم للمرأة أن تحج عن أبيها ولم يلزم الرجل الحج بنفسه فثبت بذلك أن من شرط الاستطاعة إمكان الوصول إلى الحج وهؤلاء وإن لم يلزمهم الحج بأنفسهم إذا كانوا واجدين للزاد والراحلة فإن عليهم أن يحجوا غيرهم عنهم أعنى المريض والزمن والمرأة إذا حضرتهم الوفاة فعليهم أن يوصوا بالحج وذلك أن وجود ما يمكن به الوصول إلى الحج في ملكهم يلزمهم فرض الحج في أموالهم إذا لم يمكنهم فعله بأنفسهم لأن فرض الحج يتعلق بمعنيين أحدهما بوجود الزاد والراحلة وإمكان فعله بنفسه فعلى من كانت هذه صفته الخروج والمعنى الآخر أن يتعذر فعله بنفسه لمرض أو كبر سن أو زمانة أو

٣٠٩

لأنها امرأة لا محرم لها ولا زوج يخرج معها فهؤلاء يلزمهم الحج بأموالهم عند الإياس والعجز عن فعله بأنفسهم فإذا أحج المريض أو المرأة عن أنفسهما ثم لم يبرأ المريض ولم تجد المرأة محرما حتى ماتا أجزأهما وإن برىء المريض ووجدت المرأة محرما لم يجزهما وقول الخثعمية للنبي صلّى الله عليه وسلّم إن أبى أدركته فريضة الله في الحج وهو شيخ كبير لا يستمسك على الراحلة وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم إياها بالحج عنه يدل على أن فرض الحج قد لزمه في ماله وإن لم يثبت على الراحلة لأنها أخبرته أن فريضة الله تعالى أدركته وهو شيخ كبير فلم ينكر النبي صلّى الله عليه وسلّم قولها ذلك فهذا يدل على أن فرض الحج قد لزمه في ماله وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم إياها بفعل الحج الذي أخبرت أنه قد لزمه يدل على لزومه أيضا* وقد اختلف في حج الفقير فقال أصحابنا والشافعى لا حج عليه وإن حج أجزأه من حجة الإسلام وحكى عن مالك أن عليه الحج إذا أمكنه المشي وروى عن ابن الزبير والحسن أن الاستطاعة ما تبلغه كائنا ما كان وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم أن الاستطاعة الزاد والراحلة يدل على أن لا حج عليه فإن هو وصل إلى البيت مشيا فقد صار بحصوله هناك مستطيعا بمنزلة أهل مكة لأنه معلوم أن شرط الزاد والراحلة إنما هو لمن بعد من مكة فإذا حصل هناك فقد استغنى عن الزاد والراحلة للوصول إليه فيلزمه الحج حينئذ فإذا فعله كان فاعلا فرضا* واختلف في العبد إذا حج هل يجزيه من حجة الإسلام فقال أصحابنا لا يجزيه وقال الشافعى يجزيه والدليل على صحة قولنا ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال حدثنا مسلم ابن إبراهيم قال حدثنا هلال بن عبد الله مولى ربيعة بن سليم قال حدثنا أبو إسحاق عن الحارث عن على قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ثم لم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا وذلك أن الله تعالى يقول (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) فأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن شرط لزوم الحج ملك الزاد والراحلة والعبد لا يملك شيئا فليس هو إذا من أهل الخطاب بالحج وسائر الأخبار المروية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في الاستطاعة أنها الزاد والراحلة هي على ملكهما على ما بين في حديث على رضى الله عنه وأيضا فمعلوم من مراد النبي صلّى الله عليه وسلّم في شرطه الزاد والراحلة أن يكون ملكا للمستطيع وأنه لم يرد به زادا وراحلة في ملك غيره وإذا كان العبد لا يملك بحال لم يكن من أهل الخطاب بالحج فلم يجزه حجه* فإن قيل

٣١٠

ليس الفقير من أهل الخطاب بالحج لعدم ملك الزاد والراحلة ولو حج جاز حجه كذلك العبد* قيل له إن الفقير من أهل الخطاب لأنه ممن يملك والعبد ممن لا يملك وإنما سقط الفرض عن الفقير لأنه غير واجد لا لأنه ليس ممن يملك فإذا وصل إلى مكة فقد استغنى عن الزاد والراحلة وصار بمنزلة سائر الواجدين الواصلين إليها بالزاد والراحلة والعبد إنما سقط عنه الخطاب به لا لأنه لا يجد لكن لأنه لا يملك وإن ملك فلم يدخل في خطاب الحج فلذلك لم يجزه وصار من هذا الوجه بمنزلة الصغير الذي لم يخاطب بالحج لا لأنه لا يجد ولكنه ليس من أهل الخطاب بالحج لأن من شرط الخطاب به أن يكون ممن يملك كما أن من شرطه أن يكون ممن يصح خطابه به وأيضا فإن العبد لا يملك منافعه وللمولى منعه من الحج بالاتفاق ومنافع العبد هي ملك للمولى فإذا فعل بها الحج صار كحج فعله المولى فلا يجزيه من حجة الإسلام ويدل عليه أن العبد لا يملك منافعه أن المولى هو المستحق لإبدالها إذا صارت مالا وأن له أن يستخدمه ويمنعه من الحج فإذا أذن له فيه صار معيرا له ملك المنافع فهي متلفة على ملك المولى فلا يجزئ العبد وليس كذلك الفقير لأنه يملك منافع نفسه وإذا فعل بها الحج أجزأه لأنه قد صار من أهل الاستطاعة فإن قيل للمولى منع العبد من الجمعة وليس العبد من أهل الخطاب بها وليس عليه فرضها ولو حضرها وصلاها أجزأته فهلا كان الحج كذلك* قيل له إن فرض الظهر قائم على العبد ليس للمولى منعه منها فمتى فعل الجمعة فقد أسقط بها فرض الظهر الذي كان العبد يملك فعله من غير إذن المولى فصار كفاعل الظهر فلذلك أجزأه ولم يكن على العبد فرض آخر يملك فعله فأسقط بفعل الحج حتى نحكم بجوازه ونجعله في حكم ما هو مالكه فلذلك اختلفا وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في حج العبد ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا يحيى بن إسحاق قال حدثنا يحيى بن أيوب عن حرام بن عثمان عن ابني جابر عن أبيهما قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لو أن صبيا حج عشر حجج ثم بلغ لكانت عليه حجة إن استطاع إليها سبيلا ولو أن أعرابيا حج عشر حجج ثم هاجر لكانت عليه حجة إن استطاع إليها سبيلا ولو أن مملوكا حج عشر حجج ثم أعتق لكانت عليه حجة إن استطاع إليها سبيلا وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا موسى بن الحسن بن أبى عباد قال حدثنا محمد بن المنهال قال حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا شعبة عن الأعمش عن أبى ظبيان عن ابن عباس قال قال

٣١١

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيما صبي حج ثم أدرك الحلم فعليه أن يحج حجة أخرى وأيما أعرابى حج ثم هاجر فعليه أن يحج حجة أخرى وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه أن يحج حجة أخرى فأوجب النبي صلّى الله عليه وسلّم على العبد أن يحج حجة أخرى ولم يعتد له بالحجة التي فعلها في حال الرق وجعله بمنزلة الصبى* فإن قيل فقد قال مثله في الأعرابى وهو مع ذلك يجزيه الحجة المفعولة قبل* الهجرة* قيل له كذلك كان حكم الأعرابى في حال ما كانت الهجرة فرضا لأنه يمتنع أن يقول ذلك بعد نسخ فرض الهجرة فلما قال صلّى الله عليه وسلّم لا هجرة بعد الفتح نسخ الحكم المتعلق به من وجوب إعادة الحج بعد الهجرة إذ لا هجرة هناك واجبة وقد روى نحو قولنا في حج العبد عن ابن عباس والحسن وعطاء* قال أبو بكر والذي يقتضيه ظاهر قوله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) حجة واحدة إذ ليس فيه ما يوجب تكرارا فمتى فعل الحج فقد قضى عهدة الآية وقد أكد ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم بما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا زهير بن حرب وعثمان بن أبى شيبة قالا حدثنا يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين عن الزهري عن أبى سنان قال أبو داود هو الدؤلي عن ابن عباس أن الأقرع بن حابس سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم قال يا رسول الله الحج في كل سنة أو مرة واحدة فقال بل مرة واحدة فمن زاد فتطوع * قوله تعالى (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) روى وكيع عن فطر بن خليفة عن نفيع أبى داود قال سأل رجل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن هذه الآية (وَمَنْ كَفَرَ) قال هو إن حج لا يرجو ثوابه وإن حبس لا يخاف عقابه وروى مجاهد من قوله مثله وقال الحسن من كفر بالحج وقد دلت هذه الآية على بطلان مذهب أهل الجبر لأن الله تعالى جعل من وجد زادا وراحلة مستطيعا للحج قبل فعله ومن مذهب هؤلاء أن من لم يفعل الحج لم يكن مستطيعا له قط فواجب على مذهبهم أن يكون معذورا غير ملزم إذا لم يحج إذ كان الله تعالى إنما ألزم الحج من استطاع وهو لم يكن مستطيعا قط إذ لم يحج ففي نص التنزيل واتفاق الأمة على لزوم فرض الحج لمن كان وصفه ما ذكرنا من صحة البدن ووجود الزاد والراحلة ما يوجب بطلان قولهم* قوله تعالى (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) قال زيد بن أسلم نزلت في قوم من اليهود كانوا يغرون الأوس والخزرج بذكرهم الحروب التي كانت بينهم حتى ينسلخوا من الدين بالعصبية وحمية الجاهلية وعن الحسن أنها نزلت في اليهود والنصارى

٣١٢

جميعا في كتمانهم صفته في كتبهم* فإن قيل قد سمى الله الكفار شهداء وليسوا حجة على غيرهم فلا يصح لكم الإحتجاج بقوله (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) في صحة إجماع الأمة وثبوت حجته* قيل له أنه جل وعلا لم يقل في أهل الكتاب وأنتم شهداء على غيركم وقال هناك (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) كما قال (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) فأوجب ذلك تصديقهم وصحة إجماعهم وقال في هذه الآية (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) ومعناه غير معنى قوله (شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) وقد قيل في معناه وجهان أحدهما وأنتم شهداء إنكم عالمون ببطلان قولكم في صدكم عن دين الله تعالى وذلك في أهل الكتاب منهم والثاني أن يريد بقوله (شُهَداءَ) عقلاء كما قال الله تعالى (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) يعنى وهو عاقل لأنه يشهد الدليل الذي يميز به الحق من الباطل* قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) روى عن عبد الله والحسن وقتادة في قوله (حَقَّ تُقاتِهِ) هو أن يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى وقيل أن معناه اتقاء جميع معاصيه وقد اختلف في نسخه فروى عن ابن عباس وطاوس أنها محكمة غير منسوخة وعن قتادة والربيع بن أنس والسدى أنها منسوخة بقوله تعالى (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) فقال بعض أهل العلم لا يجوز أن تكون منسوخة لأن معناه اتقاء جميع معاصيه وعلى جميع المكلفين اتقاء جميع المعاصي ولو كان منسوخا لكان فيه إباحة بعض المعاصي وذلك لا يجوز وقيل إنه جائز أن يكون منسوخا بأن يكون معنى قوله (حَقَّ تُقاتِهِ) القيام بحقوق الله تعالى في حال الخوف والأمن وترك التقية فيها ثم نسخ ذلك في حال التقية والإكراه ويكون قوله تعالى (مَا اسْتَطَعْتُمْ) فيما لا تخافون فيه على أنفسكم يريد فيما لا يكون فيه احتمال الضرب والقتل لأنه قد يطلق نفى الاستطاعة فيما يشق على الإنسان فعله كما قال تعالى (وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) ومراده مشقة ذلك عليهم قوله تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في معنى الحبل هاهنا أنه القرآن وكذلك روى عن عبد الله وقتادة والسدى وقيل أن المراد به دين الله وقيل بعهد الله لأنه سبب النجاة كالحبل الذي يتمسك به للنجاة من غرق أو نحوه ويسمى الأمان الحبل لأنه سبب النجاة وذلك في قوله تعالى (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) يعنى به الأمان إلا أن قوله (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) هو أمرا بالاجتماع ونهى عن الفرقة وأكده بقوله (وَلا تَفَرَّقُوا) معناه

٣١٣

التفرق عن دين الله الذي أمروا جميعا بلزومه والاجتماع عليه وروى نحو ذلك عن عبد الله وقتادة وقال الحسن ولا تفرقوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد يحتج به فريقان من الناس أحدهما نفاة القياس والاجتهاد في أحكام الحوادث مثل النظام وأمثاله من الرافضة والآخر من يقول بالقياس والاجتهاد يقول مع ذلك أن الحق واحد من أقاويل المختلفين في مسائل الاجتهاد ويخطئ من لم يصب الحق عنده لقوله تعالى (وَلا تَفَرَّقُوا) فغير جائز أن يكون التفرق والاختلاف دينا لله تعالى مع نهى الله تعالى عنه وليس هذا عندنا كما قالوا لأن أحكام الشرع في الأصل على أنحاء منها ما لا يجوز الخلاف فيه وهو الذي دلت العقول على حظره في كل حال أو على إيجابه في كل حال فأما ما جاز أن يكون تارة واجبا وتارة محظورا وتارة مباحا فإن الاختلاف في ذلك سائغ يجوز ورود العبادة به كاختلاف حكم الطاهر والحائض في الصوم والصلاة واختلاف حكم المقيم والمسافر في القصر والإتمام وما جرى مجرى ذلك فمن حيث جاز ورود النص باختلاف أحكام الناس فيه فيكون بعضهم متعبدا بخلاف ما تعبد به الآخر لم يمتنع تسويغ الاجتهاد فيما يؤدى إلى الخلاف الذي يجوز ورود النص بمثله ولو كان جميع الاختلاف مذموما لوجب أن لا يجوز ورود الاختلاف في أحكام الشرع من طريق النص والتوقيف فما جاز مثله في النص جاز في الاجتهاد قد يختلف المجتهدان في نفقات الزوجات وقيم المختلفات وأروش كثير من الجنايات فلا يلحق واحدا منهما لوم ولا تعنيف وهذا حكم مسائل الاجتهاد ولو كان هذا الضرب من الاختلاف مذموما لكان للصحابة في ذلك الحظ الأوفر ولما وجدناهم مختلفين في أحكام الحوادث وهم مع ذلك متواصلون يسوغ كل واحد منهم لصاحبه مخالفته من غير لوم ولا تعنيف فقد حصل منهم الاتفاق على تسويغ هذا الضرب من الاختلاف وقد حكم الله تعالى بصحة إجماعهم وثبوت حجته في مواضع كثيرة من كتابه وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال اختلاف أمتى رحمة وقال لا تجتمع أمتى على ضلال فثبت بذلك أن الله تعالى لم ينهنا بقوله (وَلا تَفَرَّقُوا) عن هذا الضرب من الاختلاف وأن النهى منصرف إلى أحد وجهين إما في النصوص أو فيما قد أقيم عليه دليل عقلي أو سمعي لا يحتمل إلا معنى واحدا وفي فحوى الآية ما يدل على أن المراد هو الاختلاف والتفرق في أصول الدين لا في فروعه وما يجوز ورود العبارة بالاختلاف فيه وهو قوله تعالى (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ

٣١٤

كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) يعنى بالإسلام وفي ذلك دليل على أن التفرق المذموم المنهي عنه في الآية هو في أصول الدين والإسلام لا في فروعه والله أعلم.

باب فرض الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر

قال الله تعالى (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) قال أبو بكر قد حوت هذه الآية معنيين أحدهما وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والآخر أنه فرض على الكفاية ليس بفرض على كل أحد في نفسه إذا قام به غيره لقوله تعالى (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) وحقيقته تقتضي البعض دون البعض فدل على أنه فرض على الكفاية إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين ومن الناس من يقول هو فرض على كل أحد في نفسه ويجعل مخرج الكلام مخرج الخصوص في قوله (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) مجازا كقوله تعالى (لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) ومعناه ذنوبكم والذي يدل على صحة هذا القول أنه إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين كالجهاد وغسل الموتى وتكفينهم والصلاة عليهم ودفنهم ولو لا أنه فرض على الكفاية لما سقط عن الآخرين بقيام بعضهم به وقد ذكر الله تعالى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر في مواضع أخر من كتابه فقال عز وجل (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وقال فيما حكى عن لقمان (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) وقال تعالى (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) وقال عز وجل (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) فهذه الآي ونظائرها مقتضية لإيجاب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وهي على منازل أولها تغييره باليد إذا أمكن فإن لم يمكن وكان في نفيه خائفا على نفسه إذا أنكره بيده فعليه إنكاره بلسانه فإن تعذر ذلك لما وصفنا فعليه إنكاره بقلبه كما حدثنا عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس قال حدثنا يونس بن حبيب قال حدثنا أبو داود الطيالسي قال حدثنا شعبة قال أخبرنى قيس بن مسلم قال سمعت طارق بن شهاب قال قدم مروان الخطبة قبل الصلاة فقام رجل فقال خالفت السنة كانت الخطبة بعد الصلاة قال ترك ذلك يا أبو فلان قال شعبة وكان لحانا فقام أبو

٣١٥

سعيد الخدري فقال من هذا المتكلم فقد قضى ما عليه قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من رأى منكم منكرا فلينكره بيده فإن لم يستطع فلينكره بلسانه فإن لم يستطع فلينكره بقلبه وذاك أضعف الإيمان وحدثنا محمد بن بكر البصري قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن العلاء قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه عن أبى سعيد وعن قيس ابن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبى سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول من رأى منكم منكرا فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذاك أضعف الإيمان فأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن إنكار المنكر على هذه الوجوه الثلاثة على حسب الإمكان ودل على أنه إذا لم يستطع تغييره بيده فعليه تغييره بلسانه ثم إذا لم يمكنه ذلك فليس عليه أكثر من إنكاره بقلبه وحدثنا عبد الله بن جعفر قال حدثنا يونس بن حبيب قال حدثنا أبو داود قال حدثنا شعبة عن أبى إسحاق عن عبد الله بن جرير البجلي عن أبيه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال ما من قوم يعمل بينهم بالمعاصي هم أكثر وأعز ممن يعمله ثم لم يغيروا إلا عمهم الله منه بعقاب وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبد الله بن محمد النفيلى قال حدثنا يونس بن راشد عن على بن بذيمة عن أبى عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن أول ما دخل النقص على بنى إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله تعالى قلوب بعضهم ببعض ثم قال (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) ـ إلى قوله ـ (فاسِقُونَ) ثم قال كلا والله لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق إطرا وتقصرنه على الحق قصرا قال أبو داود حدثنا خلف بن هشام قال حدثنا أبو شهاب الحناط عن العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرة عن سالم عن أبى عبيدة عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بنحوه وزاد فيه أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم فأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن من شرط النهى عن المنكر أن ينكره ثم لا يجالس المقيم على المعصية ولا يؤاكله ولا يشاربه وكان ما ذكره النبي صلّى الله عليه وسلّم من ذلك بيانا لقوله تعالى (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) فكانوا بمؤاكلتهم إياهم ومجالستهم لهم تاركين للنهى عن المنكر لقوله تعالى (كانُوا

٣١٦

لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) مع ما أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم من إنكاره بلسانه إلا أن ذلك لم ينفعه مع مجالسته ومؤاكلته ومشاربته إياه* وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك أيضا ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا وهب بن بقية قال أخبرنا خالد عن إسماعيل عن قيس قال قال أبو بكر بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) وأنا سمعنا النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله بعقاب وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أبو الربيع سليمان ابن داود العتكي قال حدثنا ابن المبارك عن عتبة بن أبى حكيم قال حدثني عمرو بن جارية اللخمي قال حدثني أبو أمية الشعبانى قال سألت أبا ثعلبة الخشني فقلت يا أبا ثعلبة كيف تقول في هذه الآية (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) فقال أما والله لقد سألت عنها خبيرا سألت عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأى برأيه فعليك يعنى بنفسك ودع عنك العوام فإن من ورائكم أيام الصبر الصبر فيه كقبض على الجمر للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله قال وزادني غيره قال يا رسول الله أجر خمسين منهم قال أجر خمسين منكم وفي هذه الأخبار دلالة على أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لهما حالان حال يمكن فيها تغيير المنكر وإزالته ففرض على من أمكنه إزالة ذلك بيده أن يزيله وإزالته باليد تكون على وجوه منها أن لا يمكنه إزالته إلا بالسيف وأن يأتى على نفس فاعل المنكر فعليه أن يفعل ذلك كمن رأى رجلا قصده أو قصد غيره بقتله أو بأخذ ماله أو قصد الزنا بامرأة أو نحو ذلك وعلم أنه لا ينتهى إن أنكره بالقول أو قاتله بما دون السلاح فعليه أن يقتله لقوله صلّى الله عليه وسلّم من رأى منكرا فليغيره بيده فإذا لم يمكنه تغييره بيده إلا بقتل المقيم على هذا المنكر فعليه أن يقتله فرضا عليه وإن غلب في ظنه أنه إن أنكره بيده ودفعه عنه بغير سلاح انتهى عنه لم يجز له الإقدام على قتله وإن غلب في ظنه أنه إن أنكره بالدفع بيده أو بالقول امتنع عليه ولم يمكنه بعد ذلك دفعه عنه ولم يمكنه إزالة هذا المنكر إلا بأن يقدم عليه بالقتل من غير إنذار منه له فعليه أن يقتله وقد ذكر ابن رستم عن محمد في رجل غصب متاع رجل وسعك قتله حتى تستنقذ المتاع وترده إلى صاحبه وكذلك قال أبو حنيفة

٣١٧

في السارق إذا أخذ المتاع وسعك أن تتبعه حتى تقتله إن لم يرد المتاع قال محمد وقال أبو حنيفة في اللص الذي ينقب البيوت يسعك قتله وقال في رجل يريد قلع سنك قال فلك أن تقتله إذا كنت في موضع لا يعينك الناس عليه وهذا الذي ذكرناه يدل عليه قوله تعالى (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) فأمر بقتالهم ولم يرفعه عنهم إلا بعد الفيء إلى أمر الله تعالى وترك ما هم عليه من البغي والمنكر وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم من رأى منكم منكرا فليغيره بيده يوجب ذلك أيضا لأنه قد أمر بتغييره بيده على أى وجه أمكن ذلك فإذا لم يمكنه تغييره إلا بالقتل فعليه قتله حتى يزيله وكذلك قلنا في أصحاب الضرائب والمكوس التي يأخذونها من أمتعة الناس أن دماءهم مباحة وواجب على المسلمين قتلهم ولكل واحد من الناس أن يقتل من قدر عليه منهم من غير إنذار منه له ولا التقدم إليهم بالقول لأنه معلوم من حالهم أنهم غير قابلين إذا كانوا مقدمين على ذلك مع العلم بحظره ومتى أنذرهم من يريد الإنكار عليهم امتنعوا منه حتى لا يمكن تغيير ما هم عليه من المنكر فجائز قتل من كان منهم مقيما على ذلك وجائز مع ذلك تركهم لمن خاف إن أقدم عليهم بالقتل أن يقتل إلا أن عليه اجتنابهم والغلظة عليهم بما أمكن وهجرانهم وكذلك حكم سائر من كان مقيما على شيء من المعاصي الموبقات مصرا عليها مجاهرا بها فحكمه حكم من ذكرنا في وجوب النكير عليهم بما أمكن وتغيير ما هم عليه بيده وإن لم يستطع فلينكره بلسانه وذلك إذا رجا أنه إن أنكر عليهم بالقول أن يزولوا عنه ويتركوه فإن لم يرج ذلك وقد غلب في ظنه أنهم غير قابلين منه مع علمهم بأنه منكر عليهم وسعه السكوت عنهم يعد أن يجانبهم ويظهر هجرانهم لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال فليغيره بلسانه فإن لم يستطع فليغيره بقلبه وقوله صلّى الله عليه وسلّم فإن لم يستطع قد فهم منه أنهم إذا لم يزولوا عن المنكر فعليه إنكاره بقلبه سواء كان في تقية أو لم يكن لأن قوله إن لم يستطع معناه أنه لا يمكنه إزالته بالقول فأباح له السكوت في هذه الحال وقد روى عن ابن مسعود في قوله تعالى (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) مر بالمعروف وانه عن المنكر ما قبل منك فإذا لم يقبل منك فعليك نفسك وحديث أبى ثعلبة الخشني أيضا الذي قدمناه يدل على ذلك لأنه قال صلّى الله عليه وسلّم ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأى برأيه فعليك نفسك ودع عنك العوام يعنى والله أعلم إذا لم يقبلوا ذلك

٣١٨

واتبعوا أهواءهم وآراءهم فأنت في سعة من تركهم وعليك نفسك ودع أمر العوام وأباح ترك النكير بالقول فيمن هذه حاله وروى عن عكرمة أن ابن عباس قال له قد أعيانى أن أعلم ما فعل بمن أمسك عن الوعظ من أصحاب السبت فقلت له أنا أعرفك ذلك اقرأ الآية الثانية قوله تعالى (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) قال فقال لي أصبت وكساني حلة فاستدل ابن عباس بذلك على أن الله أهلك من عمل السوء ومن لم ينه عنه فجعل الممسكين عن إنكار المنكر بمنزلة فاعليه في العذاب وهذا عندنا على أنهم كانوا راضين بأعمالهم غير منكرين لها بقلوبهم وقد نسب الله تعالى قتل الأنبياء المتقدمين إلى من كان في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم من اليهود الذين كانوا متوالين لأسلافهم القاتلين لأنبيائهم بقوله (قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ) وبقوله (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فأضاف القتل إليهم وإن لم يباشروه ولم يقتلوه إذ كانوا راضين بأفعال القاتلين فكذلك ألحق الله تعالى من لم ينه عن السوء من أصحاب السبت بفاعليه إذ كانوا به راضين ولهم عليه متوالين فإذا كان منكرا للمنكر بقلبه ولا يستطيع تغييره على غيره فهو غير داخل في وعيد فاعليه بل هو ممن قال الله تعالى (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) وحدثنا مكرم بن أحمد القاضي قال حدثنا أحمد بن عطية الكوفي وقال حدثنا الحماني قال سمعت ابن المبارك يقول لما بلغ أبا حنيفة قتل إبراهيم الصائغ بكى حتى ظننا أنه سيموت فخلوت به فقال كان والله رجلا عاقلا ولقد كنت أخاف عليه هذا الأمر قلت وكيف كان سببه قال كان يقدم ويسألنى وكان شديد البذل لنفسه في طاعة الله وكان شديد الورع وكنت ربما قدمت إليه الشيء فيسألنى عنه ولا يرضاه ولا يذوقه وربما رضيه فأكله فسألنى عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إلى أن اتفقنا على أنه فريضة من الله تعالى فقال لي مد يدك حتى أبايعك فأظلمت الدنيا بيني وبينه فقلت ولم قال دعاني إلى حق من حقوق الله فامتنعت عليه وقلت له إن قام به رجل وحده قتل ولم يصلح للناس أمر ولكن إن وجد عليه أعوانا صالحين ورجلا يرأس عليهم مأمونا على دين الله لا يحول قال وكان يقتضى ذلك كلما قدم على تقاضى الغريم الملح كلما قدم على تقاضانى فأقول له هذا أمر لا يصلح بواحد ما أطاقته الأنبياء حتى عقدت عليه من السماء وهذه فريضة ليست كسائر الفرائض لأن سائر الفرائض يقوم بها الرجل وحده وهذا متى أمر به الرجل وحده

٣١٩

أشاط بدمه وعرض نفسه للقتل فأخاف عليه أن يعين على قتل نفسه وإذا قتل الرجل لم يجترئ غيره أن يعرض نفسه ولكنه ينتظر فقد قالت الملائكة (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) ثم خرج إلى مرو حيث كان أبو مسلم فكلمه بكلام غليظ فأخذه فاجتمع عليه فقهاء أهل خراسان وعبادهم حتى أطلقوه ثم عاوده فزجره ثم عاوده ثم قال ما أجد شيئا أقوم به لله تعالى أفضل من جهادك ولأجاهدنك بلساني ليس لي قوة بيدي ولكن يراني الله وأنا أبغضك فيه فقتله* قال أبو بكر لما ثبت بما قدمنا ذكره من القرآن والآثار الواردة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وجوب فرض الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وبينا أنه فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين وجب أن لا يختلف في لزوم فرضه البر والفاجر لأن ترك الإنسان لبعض الفروض لا يسقط عنه فروضا غيره ألا ترى أن تركه للصلاة لا يسقط عنه فرض الصوم وسائر العبادات فكذلك من لم يفعل سائر المعروف ولم ينته عن سائر المناكير فإن فرض الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر غير ساقط عنه وقد روى طلحة ابن عمرو عن عطاء بن أبى رباح عن أبى هريرة قال اجتمع نفر من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا يا رسول الله أرأيت إن عملنا بالمعروف حتى لا يبقى من المعروف شيء إلا عملناه وانتهينا عن المنكر حتى لم يبق شيئا من المنكر إلا انتهينا عنه أيسعنا أن لا نأمر بالمعروف ولا ننهى عن المنكر قال مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به كله وانهو عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه كله فأجرى النبي صلّى الله عليه وسلّم فرض الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مجرى سائر الفروض في لزوم القيام به مع التقصير في بعض الواجبات* ولم يدفع أحد من علماء الأمة وفقهائها سلفهم وخلفهم وجوب ذلك إلا قوم من الحشو وجهال أصحاب الحديث فإنهم أنكروا قتال الفئة الباغية والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بالسلاح وسموا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فتنة إذا احتيج فيه إلى حمل السلاح وقتال الفئة الباغية مع ما قد سمعوا فيه من قول الله تعالى (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) وما يقتضيه اللفظ من وجوب قتالها بالسيف وغيره* وزعموا مع ذلك أن السلطان لا ينكر عليه الظلم والجور وقتل النفس التي حرم الله وإنما ينكر على غير السلطان بالقول أو باليد بغير سلاح فصاروا شرا على الأمة من أعدائها المخالفين لها لأنهم أقعدوا الناس

٣٢٠