أحكام القرآن - ج ٢

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٦

إما للمتشابه الذي يرد إليه ويحمل معناه عليه وإما المتشابه الذي عم به جميع القرآن في قوله تعالى (كِتاباً مُتَشابِهاً) فهو التماثل ونفى الاختلاف والتضاد عنه وأما المتشابه الخصوص به بعض القرآن فقد ذكرنا أقاويل السلف فيه وما روى عن ابن عباس أن المحكم هو الناسخ والمتشابه هو المنسوخ فهذا عندنا هو أحد أقسام المحكم والمتشابه لأنه لم ينف أن يكون للمحكم والمتشابه وجوه غيرهما وجائز أن يسمى الناسخ محكما لأنه ثابت الحكم والعرب تسمى البناء الوثيق محكما ويقولون في العقد الوثيق الذي لا يمكن حله محكما فجائز أن يسمى الناسخ محكما إذ كانت صفته الثبات والبقاء ويسمى المنسوخ متشابها من حيث أشبه في التلاوة المحكم وخالفه في ثبوت الحكم فيشتبه على التالي حكمه في ثبوته ونسخه فمن هذا الوجه جائز أن يسمى المنسوخ متشابها وأما قول من قال إن المحكم هو الذي لم تتكرر ألفاظه والمتشابه هو الذي تتكرر ألفاظه فإن اشتباه هذا من جهة اشتباه وجه الحكمة فيه على السامع وهذا سائغ عام في جميع ما يشتبه فيه وجه الحكمة فيه على السامع إلى أن يتبينه ويتضح له وجهه فهذا مما يجوز فيه إطلاق اسم المتشابه وما لا يشتبه فيه وجه الحكمة على السامع فهو المحكم الذي لا تشابه فيه على قول هذا القائل فهذا أيضا أحد وجوه المحكم والمتشابه وإطلاق الاسم فيه سائغ جائز وأما ما روى عن جابر ابن عبد الله أن المحكم ما يعلم تعيين تأويله والمتشابه ما لا يعلم تأويله كقوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) وما جرى مجرى ذلك فإن إطلاق اسم المحكم والمتشابه سائغ فيه لأن ما علم وقته ومعناه فلا تشابه فيه وقد أحكم بيانه وما لا يعلم تأويله ومعناه ووقته فهو مشتبه على سامعه فجائز أن يسمى بهذا الاسم فجميع هذه الوجوه يحتمله اللفظ على ما روى فيه ولو لا احتمال اللفظ لما ذكروا لما تأولوه عليه وما ذكرناه من قول من قال إن المحكم هو ما لا يحتمل إلا معنى واحدا والمتشابه ما يحتمل معنيين فهو أحد الوجوه الذي ينتظمها هذا الاسم لأن المحكم من هذا القسم سمى محكما لأحكام دلالته وإيضاح معناه وإبانته والمتشابه منه سمى بذلك لأنه أشبه المحكم من وجه واحتمل معناه وأشبه غيره مما يخالف معناه معنى المحكم فسمى متشابها من هذا الوجه فلما كان المحكم والمتشابه يعتورهما ما ذكرنا من المعاني احتجنا إلى معرفة المراد منها بقوله تعالى (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ

٢٨١

الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) مع علمنا بما في مضمون هذه الآية وفحواها من وجوب رد المتشابه إلى المحكم وحمله على معناه دون حمله على ما يخالفه لقوله تعالى في صفة المحكمات (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) والأم هي التي منها ابتداؤه وإليها مرجعه فسماها أما فاقتضى ذلك بناء المتشابه عليها ورده إليها ثم أكد ذلك بقوله (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) فوصف متبع المتشابه من غير حمله له على معنى المحكم بالزيغ في قلبه وأعلمنا أنه مبتغ للفتنة وهي الكفر والضلال في هذا الموضع كما قال تعالى (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) يعنى والله أعلم الكفر فأخبر أن متبع المتشابه وحامله على مخالفة المحكم في قلبه زيغ يعنى الميل عن الحق يستدعى غيره بالمتشابه إلى الضلال والكفر فثبت بذلك أن المراد بالمتشابه المذكور في هذه الآية هو اللفظ المحتمل للمعاني الذي يجب رده إلى المحكم وحمله على معناه ثم نظرنا بعد ذلك في المعاني التي تعتور هذا اللفظ وتتعاقب عليه مما قدمنا ذكره في أقسام المتشابه عن القائلين بها على اختلافها مع احتمال اللفظ فوجدنا قول من قال بأنه الناسخ والمنسوخ فإنه إن كان تاريخهما معلوما فلا اشتباه فيهما على من حصل له العلم بتاريخهما وعلم يقينا أن المنسوخ متروك الحكم وأن الناسخ ثابت الحكم فليس فيهما ما يقع فيه اشتباه على السامع العالم بتاريخ الحكمين اللذين لا احتمال فيهما لغير الناسخ وإن اشتبه على السامع من حيث أنه لم يعلم التاريخ فهذا ليس أحد اللفظين أولى بكونه محكما من الآخر ولا يكونا متشابها منه إذ كل واحد منهما يحتمل أن يكون ناسخا ويحتمل أن يكون منسوخا فهذا لا مدخل له في قوله تعالى (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) وأما قول من قال إن المحكم ما لم يتكرر لفظه والمتشابه ما تكرر لفظه فهذا أيضا لا مدخل له في هذه الآية لأنه لا يحتاج إلى رده إلى المحكم وإنما يحتاج إلى تدبيره بعقله وحمله على ما في اللغة من تجويزه وأما قول من قال إن المحكم ما علم وقته وتعيينه والمتشابه ما لا يعلم تعيين تأويله كأمر الساعة وصغائر الذنوب التي آيسنا الله من وقوع علمنا بها في الدنيا وإن هذا الضرب أيضا منها خارج عن حكم هذه الآية لأنا لا نصل إلى علم معنى المتشابه برده إلى المحكم فلم يبق من الوجوه التي ذكرنا من أقسام المحكم والمتشابه مما يجب بناء أحدهما على الآخر وحمله على معناه إلا الوجه الأخير الذي قلنا وهو أن يكون المتشابه اللفظ المحتمل للمعاني فيجب حمله على

٢٨٢

المحكم الذي لا احتمال فيه ولا اشتراك في لفظه من نظائر ما قدمنا في صدر الكتاب وبينا أنه ينقسم إلى وجهين من العقليات والسمعيات وليس يمتنع أن تكون الوجوه التي ذكرناها عن السلف على اختلافها بتناولها الاسم على ما روى عنهم فيه لما بينا من وجوهها ويكون الوجه الذي يجب حمله على المحكم هو هذا الوجه الأخير لامتناع إمكان حمل سائر وجوه المتشابه على المحكم على ما تقدم من بيانه ثم يكون قوله تعالى (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) معناه تأويل جميع المتشابه حتى لا يستوعب غيره علمها فنفى إحاطة علمنا بجميع معاني المتشابهات من الآيات ولم ينف بذلك أن نعلم نحن بعضها بإقامته لنا الدلالة عليه كما قال تعالى (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) لأن في فحوى الآية ما قد دل على أنا نعلم بعض المتشابه برده إلى المحكم وحمله على معناه على ما بينا من ذلك ويستحيل أن تدل الآية على وجوب رده إلى المحكم وتدل أيضا على أنا لا نصل إلى علمه ومعرفته فإذا ينبغي أن يكون قوله تعالى (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) غير ناف لوقوع العلم ببعض المتشابه فمما لا يجوز وقوع العلم لنا به وقت الساعة والذنوب الصغائر ومن الناس من يجوز ورود لفظ مجمل في حكم يقتضى البيان ولا يبينه أبدا فيكون في حيز المتشابه الذي لا نصل إلى العلم به* وقد اختلف أهل العلم في معنى قوله (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) فمنهم من جعل تمام الكلام عند قوله تعالى (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) وجعل الواو التي في قوله (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) للجمع كقول القائل لقيت زيدا وعمرا وما جرى مجراه ومنهم من جعل تمام الكلام عند قوله (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) وجعل الواو للاستقبال وابتداء خطاب غير متعلق بالأول فمن قال بالقول الأول جعل الراسخين في العلم عالمين ببعض المتشابه وغير عالمين بجميعه وقد روى نحوه عن عائشة والحسن وقال مجاهد فيما رواه ابن أبى نجيح في قوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) ـ يعنى شكا ـ (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) الشبهات بما هلكوا لكن الراسخون في العلم يعلمون تأويله يقولون آمنا به وروى عن ابن عباس ويقولون الراسخون في العلم وكذلك روى عن عمر بن عبد العزيز وقد روى عن ابن عباس أيضا وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يعلمونه قائلين آمنا به وعن الربيع بن أنس مثله والذي يقتضيه اللفظ على ما فيه من الاحتمال أن يكون تقديره وما يعلم تأويله إلا الله يعنى تأويل جميع المتشابه على ما بينا والراسخون في العلم يعلمون

٢٨٣

بعضه قائلين آمنا به كل من عند ربنا يعنى ما نصب لهم من الدلالة عليه في بنائه على المحكم ورده إليه وما لم يجعل لهم سبيل إلى علمه من نحو ما وصفنا فإذا علموا تأويل بعضه ولم يعلموا البعض قالوا آمنا بالجميع كل من عند ربنا وما أخفى عنا علم ما غاب عنا علمه إلا لعلمه تعالى بما فيه من المصلحة لنا وما هو خير لنا في ديننا ودنيانا وما أعلمنا وما يعلمناه إلا لمصلحتنا ونفعنا فيعترفون بصحة الجميع والتصديق بما علموا منه وما لم يعلموه* ومن الناس من يظن أنه لا يجوز إلا أن يكون منتهى الكلام وتمامه عند قوله تعالى (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) وأن الواو للاستقبال دون الجمع لأنها لو كانت للجمع لقال ويقولون آمنا به ويستأنف ذكر الواو لاستئناف الخبر وقال من ذهب إلى القول الأول هذا سائغ في اللغة وقد وجد مثله في القرآن وهو قوله تعالى في بيان قسم الفيء (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) ـ إلى قوله تعالى ـ (شَدِيدُ الْعِقابِ) ثم تلاه بالتفصيل وتسمية من يستحق هذا الفيء فقال (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) ـ إلى قوله تعالى ـ (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) وهم لا محالة داخلون في استحقاق الفيء كالأولين والواو فيه للجمع ثم قال تعالى (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) معناه قائلين ربنا اغفر لنا ولإخواننا كذلك قوله تعالى (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ) معناه والراسخون في العلم يعلمون تأويل ما نصب لهم الدلالة عليه من المتشابه قائلين ربنا آمنا به فصاروا معطوفين على ما قبله داخلين في حيزه وقد وجد مثله في الشعر قال يزيد بن مفرغ الحميرى :

وشريت بردا ليتني

من بعد برد كنت هامة

فالريح تبكى شجوه

والبرق يلمع في الغمامه

والمعنى والبرق يبكى شجوه لا معا في الغمامة وإذا كان ذلك سائغا في اللغة وجب حمله على موافقة دلالة الآية في وجوب رد المتشابه إلى المحكم فيعلم الراسخون في العلم تأويله إذا استدلوا بالمحكم على معناه ومن جهة أخرى أن الواو لما كانت حقيقتها الجمع فالواجب حملها على حقيقتها ومقتضاها* ولا يجوز حملها على الابتداء إلا بدلالة ولا دلالة معنا* توجب صرفها عن الحقيقة فوجب استعمالها على الجمع* فإن قيل إذا كان استعمال المحكم مقيدا بما في العقل وقد يمكن كل مبطل أن يدعى ذلك لنفسه فيبطل فائدة الاحتجاج

٢٨٤

بالمحكم* قيل له إنما هو مقيد بما هو في تعارف العقول فيكون اللفظ مطابقا لما تعارفه العقلاء من أهل اللغة ولا يحتاج في استعمال حكم العقل فيه إلى مقدمات بل يوقع العلم لسامعه بمعنى مراده على الوجه الذي هو ثابت في عقول العقلاء دون عادات فاسدة قد جروا عليها فما كان كذلك فهو المحكم الذي لا يحتمل معناه إلا مقتضى لفظه وحقيقته فأما العادات الفاسدة فلا اعتبار بها* فإن قيل كيف وجه اتباع من في قلبه زيغ ما تشابه منه* دون ما أحكم* قيل له نحو ما روى الربيع بن أنس أن هذه الآية نزلت في وفد نجران لما حاجوا النبي صلّى الله عليه وسلّم في المسيح فقالوا أليس هو كلمة الله وروح منه فقال بلى فقالوا حسبنا فأنزل الله (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) ثم أنزل الله تعالى (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فصرفوا قوله كلمة الله إلى ما يقولونه في قدمه مع الله وروحه صرفوه إلى أنه جزء منه قديم معه كروح الإنسان وإنما أراد الله تعالى بقوله كلمة أنه بشر به في كتاب الأنبياء المتقدمين فسماه كلمة من حيث قدم البشارة به وسماه روحه لأن الله تعالى خلقه من غير ذكر بل أمر جبريل عليه السّلام فنفخ في جيب مريم عليها السّلام وأضافه إلى نفسه تعالى تشريفا له كبيت الله وسماء الله وأرضه ونحو ذلك وقيل إنه سماه روحا كما سمى القرآن روحا بقوله تعالى (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) وإنما سماه روحا من حيث كان فيه حياة الناس في أمور دينهم فصرف أهل الزيغ ذلك إلى مذاهبهم الفاسدة وإلى ما يعتقدونه من الكفر والضلال وقال قتادة أهل الزيغ المتبعون للمتشابه منه هم الحرورية والسبائية* قوله تعالى (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ) روى عن ابن عباس وقتادة وابن إسحاق أنه لما هلكت قريش يوم بدر جمع النبي صلّى الله عليه وسلّم اليهود بسوق قينقاع فدعاهم إلى الإسلام وحذرهم مثل ما نزل بقريش من الانتقام فأبوا وقالوا ألسنا كقريش الأغمار الذين لا يعرفون القتال لئن حاربتنا لتعرفن أنا الناس فأنزل الله تعالى (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ) وفي هذه الآية دلالة على صحة نبوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما فيها من الأخبار عن غلبة المؤمنين المشركين فكان على ما أخبر به ولا يكون ذلك على الاتفاق مع كثرة ما أخبر به عن الغيوب في الأمور المستقبلة فوجد مخبره على ما أخبر به من غير خلف وذلك لا يكون إلا من عند الله تعالى العالم بالغيوب إذ ليس في وسع أحد من

٢٨٥

الخلق الأخبار بالأمور المستقبلة ثم يتفق مخبر أخباره على ما أخبر به من غير خلف لشيء منه* وقوله تعالى (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية روى عن ابن مسعود والحسن أن ذلك خطاب للمؤمنين وإن المؤمنين هي الفئة الرائية للمشركين مثليهم رأى العين فرأوهم مثلي عدتهم وقد كانوا ثلاثة أمثالهم لأن المشركين كانوا نحو ألف رجل والمسلمون ثلاثمائة وبضعة عشر فقللهم الله تعالى في أعين المسلمين لتقوية قلوبهم وقال آخرون قوله (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) مخاطبة للكفار الذين ابتدأ بذكرهم في قوله (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ) وقوله (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) معطوف عليه وتمام له والمعنى فيه إن الكافرين رأوا المؤمنين مثليهم وأراهم الله تعالى كذلك في رأى العين ليجنب قلوبهم ويرهبهم فيكون أقوى للمؤمنين عليهم وذلك أحد أبواب النصر للمسلمين والخذلان للكافرين وفي هذه الآية الدلالة من وجهين على صحة نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم أحدهما غلبة الفئة القليلة العدد والعدة للكثيرة العدد والعدة وذلك على خلاف مجرى العادة لما أمدهم الله به من الملائكة والثاني أن الله تعالى قد كان وعدهم إحدى الطائفتين وأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم المسلمين قبل اللقاء بالظفر والغلبة وقال هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان وكان كما وعد الله وأخبر به النبي صلّى الله عليه وسلّم* قوله تعالى (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) قال الحسن زينها الشيطان لأنه لا أحد أشد ذما لها من خالقها وقال بعضهم زينها الله بما جعل في الطباع من المنازعة إليها كما قال تعالى (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها) وقال آخرون زين الله ما يحسن منه وزين الشيطان ما يقبح منه* وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) الآية روى عن أبى عبيدة بن الجراح أنه قال قلت يا رسول الله أى الناس أشد عذابا يوم القيامة قال رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بمعروف ونهى عن منكر ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ثم قال يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل وإثنا عشر رجلا من عباد بنى إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار في ذلك اليوم وهو الذي ذكر الله تعالى* وفي هذه الآية جواز إنكار المنكر مع خوف القتل وأنه منزلة شريفة

٢٨٦

يستحق بها الثواب الجزيل لأن الله مدح هؤلاء الذين قتلوا حين أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وروى أبو سعيد الخدري وغيره عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر وفي بعض الروايات يقتل عليه وروى أبو حنيفة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتل قال عمرو بن عبيد لا نعلم عملا من أعمال البر أفضل من القيام بالقسط يقتل عليه* وإنما قال الله تعالى (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) وإن كان الأخبار عن أسلافهم من قبل أن المخاطبين من الكفار كانوا راضين بأفعالهم فأجملوا معهم في الأخبار بالوعيد لهم وهذا كقوله تعالى (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ) وقوله تعالى (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فنسب القتل إلى المخاطبين لأنهم رضوا بأفعال أسلافهم وتولوهم عليها فكانوا مشاركين لهم في استحقاق العذاب كما شاركوهم في الرضا بقتل الأنبياء عليهم السّلام* قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ) الآية روى عن ابن عباس أنه أراد اليهود حين دعوا إلى التوراة وهي كتاب الله وسائر الكتب التي فيها البشارة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فدعاهم إلى الموافقة على ما في هذه الكتب من صحة نبوته كما قال تعالى في آية أخرى (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فتولى فريق من أهل الكتاب عن ذلك لعلمهم بما فيه من ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم وصحة نبوته ولو لا أنهم علموا ذلك لما أعرضوا عند الدعاء إلى ما في كتبهم وفريق منهم آمنوا وصدقوا لعلمهم بصحة نبوته ولما عرفوه من التوراة وكتب الله من نعته وصفته* وفي هذه الآية دلالة على صحة نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنهم لو لا أنهم كانوا عالمين بما ادعاه مما في كتبهم من نعته وصفته وصحة نبوته لما أعرضوا عن ذلك بل كانوا يسارعون إلى الموافقة على ما في كتبهم حتى يتبينوا بطلان دعواه فلما أعرضوا ولم يجيبوا إلى ما دعاهم إليه دل ذلك على أنهم كانوا عالمين بما في كتبهم من ذلك وهو نظير ما تحدى الله تعالى به العرب من الإتيان بمثل سورة من القرآن فأعرضوا عن ذلك وعدلوا إلى القتال والمحاربة لعلمهم بالعجز عن الإتيان بمثلها وكما دعاهم إلى المباهلة في قوله تعالى (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ) ـ إلى قوله تعالى ـ (ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ)

٢٨٧

وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لو حضروا وباهلوا لأضرم الله تعالى عليهم الوادي نارا ولم يرجعوا إلى أهل ولا ولد وهذه الأمور كلها من دلائل النبوة وصحة الرسالة وروى عن الحسن وقتادة إنما أراد بقوله تعالى (يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ) إلى القرآن لأن ما فيه يوافق ما في التوراة في أصول الدين والشرع والصفات التي قد قدمت بها البشارة في الكتب المتقدمة والدعاء إلى كتاب الله تعالى في هذه الآية يحتمل معاني جائز أن يكون نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم على ما بينا ويحتمل أن يكون أمر إبراهيم عليه السلام وأن دينه الإسلام ويحتمل أن يريد به بعض أحكام الشرع من حد أو غيره كما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه ذهب إلى بعض مدارسهم فسألهم عن حد الزاني فذكروا الجلد والتحميم وكتموا الرجم حتى وقفهم النبي صلّى الله عليه وسلّم على آية الرجم بحضرة عبد الله بن سلام وإذا كانت هذه الوجوه محتملة لم يمتنع أن يكون الدعاء قد وقع إلى جميع ذلك وفيه الدلالة على أن من دعا خصمه إلى الحكم لزمته إجابته لأنه دعاه إلى كتاب الله تعالى ونظيره أيضا قوله تعالى (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) قوله تعالى (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) قيل في قوله تعالى (مالِكَ الْمُلْكِ) أنه صفة لا يستحقها إلا الله تعالى ومن أنه مالك كل ملك وقيل مالك أمر الدنيا والآخرة وقيل مالك العباد وما ملكوا وقال مجاهد أراد بالملك هاهنا النبوة* وقوله (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) يحتمل وجهين أمر ملك الأموال والعبيد وذلك مما يجوز أن يؤتيه الله للمسلم والكافر والآخر أمر التدبير وسياسة الأمة فهذا مخصوص به المسلم العدل دون الكافر ودون الفاسق وسياسة الأمة وتدبيرها متعلقة بأوامر الله تعالى ونواهيه وذلك لا يؤتمن الكافر عليه ولا الفاسق لا يجوز أن تجعل إلى من هذه صفته سياسة المؤمنين لقوله تعالى (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فإن قيل قال الله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) فأخبر أنه آتى الكافر الملك قيل له يحتمل أن يريد به المال إن كان المراد إيتاء الكافر الملك وقد قيل إنه أراد به آتى إبراهيم الملك يعنى النبوة وجواز الأمر والنهى في طريق الحكمة وقوله تعالى (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) الآية فيه نهى عن اتخاذ الكافرين أولياء لأنه جزم الفعل فهو إذا نهى وليس بخبر قال ابن عباس نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية أن يلاطفوا ونظيرها من الآي قوله تعالى (لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ

٢٨٨

دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) وقال تعالى (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ) الآية وقال تعالى (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) وقال تعالى (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) وقال تعالى (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) وقال تعالى (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) وقال تعالى (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) وقال تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) وقال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) وقال تعالى (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) فنهى بعد النهى عن مجالستهم وملاطفتهم عن النظر إلى أموالهم وأحوالهم في الدنيا روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مر بإبل لبنى المصطلق وقد عبست بأبوالها من السمن فتقنع بثوبه ومضى لقوله تعالى (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) وقال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال أنا برىء من كل مسلم مع مشرك فقيل لم يا رسول الله فقال لا تراءى نارهما وقال أنا برىء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين فهذه الآي والآثار دالة على أنه ينبغي أن يعامل الكفار بالغلظة والجفوة دون الملاطفة والملاينة ما لم تكن حال يخاف فيها على تلف نفسه أو تلف بعض أعضائه أو ضررا كبيرا يلحقه في نفسه فإنه إذا خاف ذلك جاز له إظهار الملاطفة والموالاة من غير صحة اعتقاد والولاء ينصرف على وجهين أحدهما من يلي أمور من يرتضى فعله بالنصرة والمعونة والحياطة وقد يسمى بذلك المعان المنصور قال الله تعالى (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) يعنى أنه يتولى نصرهم ومعونتهم والمؤمنون أولياء الله بمعنى أنهم معانون بنصرة الله قال الله تعالى (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

وقوله تعالى (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) يعنى إن تخافوا تلف النفس أو بعض الأعضاء فتتقوهم بإظهار الموالاة من غير اعتقاد لها وهذا هو ظاهر ما يقتضيه اللفظ وعليه الجمهور من أهل العلم* وقد حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزى قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع الجرجانى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) قال لا يحل لمؤمن أن يتخذ كافرا وليا في

«١٩ ـ أحكام في»

٢٨٩

دينه وقوله تعالى (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) إلا أن تكون بينه وبينه قرابة فيصله لذلك فجعل التقية صلة لقرابة الكافر وقد اقتضت الآية جواز إظهار الكفر عند التقية وهو نظير قوله تعالى (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) وإعطاء التقية في مثل ذلك إنما هو رخصة من الله تعالى وليس بواجب بل ترك التقية أفضل قال أصحابنا فيمن أكره على الكفر فلم يفعل حتى قتل أنه أفضل ممن أظهر وقد أخذ المشركون خبيب بن عدى فلم يعط التقية حتى قتل فكان عند المسلمين أفضل من عمار بن ياسر حين أعطى التقية وأظهر الكفر فسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فقال كيف وجدت قلبك قال مطمئنا بالإيمان فقال صلّى الله عليه وسلّم وإن عادوا فعد وكان ذلك على وجه الترخيص * وروى أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال لأحدهما أتشهد أن محمدا رسول الله قال نعم قال أتشهد أنى رسول الله قال نعم فخلاه ثم دعا بالآخر وقال أتشهد أن محمدا رسول الله قال نعم قال أتشهد أنى رسول الله قال إنى أصم قالها ثلاثا فضرب عنقه فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال أما هذا المقتول فمضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضيلة فهنيئا له وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه * وفي هذا دليل على أن إعطاء التقية رخصة وأن الأفضل ترك إظهارها وكذلك قالوا أصحابنا في كل أمر كان فيه إعزاز الدين فالإقدام عليه حتى يقتل أفضل من الأخذ بالرخصة في العدول عنه ألا ترى أن من بذل نفسه لجهاد العدو فقتل كان أفضل ممن انحاز وقد وصف الله أحوال الشهداء بعد القتل وجعلهم أحياء مرزوقين فكذلك بذل النفس في إظهار دين الله تعالى وترك إظهار الكفر أفضل من إعطاء التقية فيه* وفي هذه الآية ونظائرها دلالة على أن لا ولاية للكافر على المسلم في شيء وإنه إذا كان له ابن صغير مسلم بإسلام أمه فلا ولاية له عليه في تصرف ولا تزويج ولا غيره ويدل على أن الذمي لا يعقل جناية المسلم وكذلك المسلم لا يعقل جنايته لأن ذلك من الولاية والنصرة والمعونة قوله تعالى (وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ) روى عن ابن عباس والحسن إن آل إبراهيم هم المؤمنون الذين على دينه وقال الحسن وآل عمران المسيح عليه السّلام لأنه ابن مريم بنت عمران وقيل آل عمران هم آل إبراهيم كما قال ذرية بعضها من بعض وهم موسى وهارون ابنا عمران وجعل أصحابنا الآل وأهل البيت واحدا فيمن يوصى لآل فلان إنه بمنزلة قوله لأهل بيت فلان فيكون لمن يجمعه وإياه الجد

٢٩٠

الذي ينسبون إليه من قبل الآباء نحو قولهم آل النبي صلّى الله عليه وسلّم وأهل بيته هما عبارتان عن معنى واحد قالوا إلا أن يكون من نسب إليه الآل هو بيت ينسب إليه مثل قولنا آل العباس وآل على والمعنى فيه أولاد العباس وأولاد على الذين ينسبون إليهما بالآباء* وهذا محمول على المتعارف المعتاد وقوله عز وجل (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) روى عن الحسن وقتادة بعضها من بعض في التناصر في الدين كما قال تعالى (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) يعنى في الاجتماع على الضلال [والمؤمنون بعضهم من بعض] في الاجتماع على الهدى وقال بعضهم ذرية بعضها من بعض في التناسل لأن جميعهم ذرية آدم ثم ذرية نوح ثم ذرية إبراهيم عليهم السّلام* قوله عز وجل (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) روى عن الشعبي أنه قال مخلصا للعبادة وقال مجاهد خادما للبيعة وقال محمد بن جعفر بن الزبير عتيقا من أمر الدنيا لطاعة الله تعالى والتحرير ينصرف على وجهين أحدهما العتق من الحرية والآخر تحرير الكتاب وهو إخلاصه من الفساد والاضطراب وقولها إنى نذرت لك ما في بطني محررا إذا أرادت مخلصا للعبادة أنها تنشئه على ذلك وتشغله بها دون غيرها وإذا أرادت به أنها تجعله خادما للبيعة أو عتيقا لطاعة الله تعالى فإن معاني جميع ذلك متقاربة كان نذرا من قبلها نذرته لله تعالى بقولها نذرت ثم قالت فتقبل منى إنك أنت السميع العليم والنذر في مثل ذلك صحيح في شريعتنا أيضا بأن ينذر الإنسان أن ينشئ ابنه الصغير على عبادة الله وطاعته وأن لا يشغله بغيرهما وأن يعلمه القرآن والفقه وعلوم الدين وجميع ذلك نذور صحيحة لأن في ذلك قربة إلى الله تعالى وقولها نذرت لك يدل على أنه يقتضى الإيجاب وأن من نذر لله تعالى قربة يلزمه الوفاء بها ويدل على أن النذور تتعلق على الأخطار وعلى أوقات مستقبلة لأنه معلوم أن قولها نذرت لك ما في بطني محررا أرادت به بعد الولادة وبلوغ الوقت الذي يجوز في مثله أن يخلص لعبادة الله تعالى ويدل أيضا على جواز النذر بالمجهول لأنها نذرته وهي لا تدرى ذكرا أم أنثى ويدل على أن للأم ضربا من الولاية على الولد في تأديبه وتعليمه وإمساكه وتربيته لولا أنها تملك ذلك لما نذرته في ولدها ويدل أيضا على أن للأم تسمية ولدها وتكون تسمية صحيحة وإن لم يسمه الأب لأنها قالت وإنى سميتها مريم وأثبت الله تعالى لولدها هذا الاسم* وقوله تعالى (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) المراد به والله

٢٩١

أعلم رضيها للعبادة في النذر الذي نذرته بالإخلاص للعبادة في بيت المقدس ولم يقبل قبلها أنثى في هذا المعنى قوله تعالى (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) إذا قرئ بالتخفيف كان معناه أنه تضمن مؤنتها كما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين وأشار بإصبعيه يعنى به من يضمن مؤنة اليتيم وإذا قرئ بالتثقيل كان معناه أن الله تعالى كفله إياها وضمنه مؤنتها وأمره بالقيام بها والقراءتان صحيحتان بأن يكون الله تعالى كفله إياها فتكفل بها قوله تعالى (قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) الهبة تمليك الشيء من غير ثمن ويقولون قد تواهبوا الأمر بينهم وسمى الله تعالى ذلك هبة على وجه المجاز لأنه لم تكن هناك هبة على الحقيقة إذ لم يكن تمليك شيء وقد كان الولد حرا لا يقع فيه تمليك ولكنه لما أراد أن يخلص له الولد على ما أراد من عبادة الله تعالى ووراثته النبوة والعلم أطلق عليه لفظ الهبة كما سمى الله تعالى بذل النفس للجهاد في الله شراء بقوله (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) هو تعالى مالك الجميع من الأنفس والأموال قبل أن جاهدوا وبعده وسمى ذلك شراء لما وعدهم عليه من الثواب الجزيل وقد يقول القائل لي جناية فلان ولا تمليك فيه وإنما أراد إسقاط حكمها* وقوله تعالى (وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) يدل على أن غير الله تعالى يجوز أن يسمى بهذا الاسم لأن الله تعالى سمى بيحيى سيدا والسيد هو الذي تجب طاعته* وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال للأنصار حين أقبل سعد بن معاذ للحكم بينه وبين بنى قريظة قوموا إلى سيدكم وقال صلّى الله عليه وسلّم للحسن إن ابني هذا سيد وقال لبنى سلمة من سيدكم يا بنى سلمة قالوا الحر بن قيس على بخل فيه قال وأى داء أدوى من البخل ولكن سيدكم الجعد الأبيض عمرو بن الجموح فهذا كله يدل على أن من تجب طاعته يجوز أن يسمى سيدا وليس السيد هو المالك فحسب لأنه لو كان كذلك لجاز أن يقال سيد الدابة وسيد الثوب كما يقال سيد العبد* وقد روى أن وفد بنى عامر قدموا على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا أنت سيدنا وذو الطول علينا فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم السيد هو الله تكلموا بكلامكم ولا يستهوينكم الشيطان * وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم أفضل السادة من بنى آدم ولكنه رآهم متكلفين لهذا القول فأنكره عليهم كما قال أبغضكم إلى الثرثارون المتشدقون المتفيهقون فكره لهم تكلف الكلام على وجه التصنع وقد روى عن النبي أنه قال لا تقولوا للمنافق سيدا فإنه إن يك سيدا فقد هلكتم فنهى أن يسمى المنافق سيدا لأنه لا تجب

٢٩٢

طاعته فإن قيل قال الله تعالى (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) فسموهم سادات وهم ضلال* قيل له لأنهم أنزلوهم منزلة من تجب طاعته وإن لم يكن مستحقا لها فكانوا عندهم وفي اعتقادهم ساداتهم كما قال تعالى (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ) ولم يكونوا آلهة ولكنهم سموهم آلهة فأجرى الكلام على ما كان في زعمهم واعتقادهم* قوله تعالى (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) يقال إنه طلب آية لوقت الحمل ليعجل السرور به فأمسك على لسانه فلم يقدر أن يكلم الناس إلا بالإيماء يروى ذلك عن الحسن والربيع بن أنس وقتادة وقال في هذه الآية (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) وفي موضع آخر في سورة مريم في هذه القصة بعينها (ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) عبر تارة بذكر الأيام وتارة بذكر الليالى وفي هذا دليل على أن أحد العددين من الجميع عند الإطلاق يعقل به مقداره من الوقت الآخر فيعقل من ثلاثة أيام ثلاث ليال معها ومن ثلاث ليال ثلاثة أيام ألا ترى أنه لما أراد التفرقة بينهما أفرد كل واحد منهما بالذكر فقال (سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) لأنه لو اقتصر على العدد الأول عقل مثله من الوقت الآخر قوله تعالى (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) قيل في قوله (اصْطَفاكِ) اختارك بالتفضيل على نساء العالمين في زمانهم يروى ذلك عن الحسن وابن جريج وقال غيرهما معناه أنه اختارك على نساء العالمين بحال جليلة من ولادة المسيح وقال الحسن ومجاهد وطهرك من الكفر بالإيمان قال أبو بكر هذا سائغ كما جاز إطلاق اسم النجاسة على الكافر لأجل الكفر في قوله تعالى (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) والمراد نجاسة الكفر فكذلك يكون وطهرك بطهارة الإيمان وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن المؤمن ليس بنجس يعنى به نجاسة الكفر وهو كقوله تعالى (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) والمراد طهارة الإيمان والطاعات وقيل إن المراد وطهرك من سائر الأجناس من الحيض والنفاس وغيرهما وقد اختلف في وجه تطهير الملائكة لمريم وإن لم تكن نبية لأن الله تعالى قال (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) فقال قائل كان ذلك معجزة لزكريا عليه السّلام وقال آخرون على وجه إرهاص نبوة المسيح كحال الشهب وإظلال الغمامة ونحو ذلك مما كان لنبينا صلّى الله عليه وسلّم قبل المبعث قوله تعالى (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) قال سعيد أخلصى لربك وقال قتادة أديمى الطاعة وقال

٢٩٣

مجاهد أطيلى القيام في الصلاة وأصل القنوت الدوام على الشيء وأشبه هذه الوجوه بالحال الأمر بإطالة القيام في الصلاة وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال أفضل الصلاة طول القنوت يعنى طول القيام ويدل عليه قوله عطفا على ذلك واسجدي واركعى فأمرت بالقيام والركوع والسجود وهي أركان الصلاة ولذلك لم يكن هذا موضع سجدة عند سائر أهل العلم كسائر مواضع السجود لأجل ذكر السجود فيها لأنه قد ذكر مع السجود القيام والركوع فكان أمرا بالصلاة وفي هذا دلالة على أن الواو لا توجب الترتيب لأن الركوع مقدم على السجود في المعنى وقدم السجود هاهنا في اللفظ* قوله تعالى (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) قال أبو بكر حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع الجرجانى قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) قال تساهموا على مريم أيهم يكفلها فقرعهم زكريا ويقال إن الأقلام هاهنا القداح التي يتساهم عليها وأنهم ألقوها في جرية الماء فاستقبل قلم زكريا عليه السّلام جرية الماء مصعدا وانحدرت أقلام الآخرين معجزة لزكريا عليه السّلام فقرعهم يروى ذلك عن الربيع بن أنس ففي هذا التأويل أنهم تساهموا عليها حرصا على كفالتها* ومن الناس من يقول إنهم تدافعوا كفالتها لشدة الأزمة والقحط في زمانها حتى وفق لها زكريا خير الكفلاء والتأويل الأول أصح لأن الله تعالى قد أخبر أنه كفلها زكريا وهذا يدل على أنه كان حريصا على كفالتها* ومن الناس من يحتج بذلك على جواز القرعة في العبيد يعتقهم في مرضه ثم يموت ولا مال له غيرهم وليس هذا من عتق العبيد في شيء لأن الرضا بكفالة الواحد منهم بعينه جائز في مثله ولا يجوز التراضي على استرقاق من حصلت له الحرية وقد كان عتق الميت نافذا في الجميع فلا يجوز نقله بالقرعة عن أحد منهم إلى غيره كما لا يجوز التراضي على نقل الحرية عمن وقعت عليه* وإلقاء الأقلام يشبه القرعة في القسمة وفي تقديم الخصوم إلى الحاكم وهو نظير ما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه وذلك لأن التراضي على ما خرجت به القرعة جائز من غير قرعة وكذلك حكم كفالة مريم عليها السّلام وغير جائز وقوع التراضي على نقل الحرية عمن وقعت عليه* قوله تعالى (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ) البشارة هي خبر على وصف وهو في الأصل لما يسر لظهور السرور في بشرة وجهه إذا

٢٩٤

بشر والبشرة هي ظاهر الجلد فأضافت الملائكة البشارة إلى الله تعالى وكان الله هو مبشرها وإن كانت الملائكة خاطبوها وكذلك قال أصحابنا فيمن قال إن بشرت فلانا بقدوم فلان فعبدي حر فقدم وأرسل إليه رسولا يخبره بقدومه فقال له الرسول إن فلانا يقول لك قد قدم فلان أنه يحنث في يمينه لأن المرسل هو المبشر دون الرسول ولأجل ما ذكرنا من تضمن البشارة إحداث السرور قال أصحابنا إن المبشر هو المخبر الأول وأن الثاني ليس بمبشر لأنه لا يحدث بخبره سرور وقد تطلق البشارة ويراد بها الخبر فحسب كقوله تعالى (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) قوله تعالى (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) قد قيل فيه ثلاثة أوجه أحدها أنه لما خلقه الله تعالى من غير والد كما قال الله تعالى (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فلما كان خلقه على هذا الوجه من غير والد أطلق عليه اسم الكلمة مجازا كما قال (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) والوجه الثاني أنه لما بشر به في الكتب القديمة أطلق عليه الاسم والوجه الثالث إن الله يهدى به كما يهدى بكلمته* قوله تعالى (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) الاحتجاج المتقدم لهذه الآية على النصارى في قولهم إن المسيح هو ابن الله وهم وفد نجران وفيهم السيد والعاقب قالا للنبي صلّى الله عليه وسلّم هل رأيت ولدا من غير ذكر فأنزل الله تعالى (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) روى ذلك عن ابن عباس والحسن وقتادة وقال قبل ذلك فيما حكى عن المسيح (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) ـ إلى قوله تعالى ـ (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) وهذا موجود في الإنجيل لأن فيه إنى ذاهب إلى أبى وأبيكم وإلهى وإلهكم والأب السيد في تلك اللغة ألا تراه قال وأبى وأبيكم فعلمت أنه لم يرد به الأبوة المقتضية للبنوة فلما قامت الحجة عليهم بما عرفوه واعترفوا به وأبطل شبهتهم في قولهم أنه ولد من غير ذكر بأمر آدم عليه السّلام دعاهم حينئذ إلى المباهلة فقال تعالى (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ) الآية فنقل رواة السير ونقلة الأثر لم يختلفوا فيه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذ بيد الحسن والحسين وعلى وفاطمة رضى الله عنهم ثم دعا النصارى الذين حاجوه إلى المباهلة فأحجموا عنها وقال بعضهم لبعض إن باهلتموه اضطرم الوادي عليكم نارا ولم يبق نصراني ولا نصرانية إلى يوم القيامة * وفي هذه الآيات دحض شبه النصارى في أنه إله أو ابن الإله وفيه دلالة على صحة نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم لو لا أنهم عرفوا يقينا أنه

٢٩٥

نبي ما الذي كان يمنعهم من المباهلة فلما أحجموا وامتنعوا عنها دل أنهم قد كانوا عرفوا صحة نبوته بالدلائل المعجزات وبما وجدوا من نعته في كتب الأنبياء المتقدمين* وفيه الدلالة على أن الحسن والحسين ابنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنه أخذ بيد الحسن والحسين حين أراد حضور المباهلة وقال تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ولم يكن هناك للنبي صلّى الله عليه وسلّم بنون غيرهما وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال للحسن رضى الله عنه إن ابني هذا سيد وقال حين بال عليه أحدهما وهو صغير لا تزرموا ابني وهما من ذريته أيضا كما جعل الله تعالى عيسى من ذرية إبراهيم عليهما السّلام بقوله تعالى (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ) ـ إلى قوله تعالى ـ (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى) وإنما نسبته إليه من جهة أمه لأنه لا أب له* ومن الناس من يقول أن هذا مخصوص في الحسن والحسين رضى الله عنهما أن يسميا ابني النبي صلّى الله عليه وسلّم دون غيرهما وقد روى في ذلك خبر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم يدل على خصوص إطلاق اسم ذلك فيهما دون غيرهما من الناس لأنه روى عنه أنه قال سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببى ونسبي وقال محمد فيمن أوصى لولد فلان ولم يكن له ولد لصلبه وله ولد ابن وولد ابنة أن الوصية لولد الإبن دون ولد الإبنة وقد روى الحسن بن زياد عن أبى حنيفة إن ولد الإبنة يدخلون فيه وهذا يدل على أن قوله تعالى وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك مخصوص به الحسن والحسين في جواز نسبتهما على الإطلاق إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم دون غيره من الناس لما ورد فيه من الأثر وأن غيرهما من الناس إنما ينسبون إلى الآباء وقومهم دون قوم الأم ألا ترى أن الهاشمي إذا استولد جارية رومية أو حبشية أن ابنه يكون هاشميا منسوبا إلى قوم أبيه دون أمه وكذلك قال الشاعر :

بنونا بنوا أبنائنا وبناتنا

بنوهن أبناء الرجال الأباعد

فنسبة الحسن والحسين رضى الله عنهما إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بالبنوة على الإطلاق مخصوص بهما لا يدخل فيه غيرهما هذا هو الظاهر المتعالم من كلام الناس فيمن سواهما لأنهم ينسبون إلى الأب وقومه دون قوم الأم* قوله تعالى (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) الآية* قوله تعالى (كَلِمَةٍ سَواءٍ) يعنى والله أعلم كلمة عدل بيننا وبينكم نتساوى جميعا فيها إذ كنا جميعا عباد الله ثم فسرها بقوله تعالى (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) وهذه هي

٢٩٦

الكلمة التي تشهد العقول بصحتها إذ كان الناس كلهم عبيد الله لا يستحق بعضهم على بعض العبادة ولا يجب على أحد منهم طاعة غيره إلا فيما كان طاعة لله تعالى وقد شرط الله تعالى في طاعة نبيه صلّى الله عليه وسلّم ما كان منها معروفا وإن كان الله تعالى قد علم أنه لا يأمر إلا بالمعروف لئلا يترخص أحد في إلزام غيره طاعة نفسه إلا بأمر الله تعالى كما قال الله تعالى مخاطبا لنبيه صلّى الله عليه وسلّم في قصة المبايعات (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَ) فشرط عليهن ترك عصيان النبي صلّى الله عليه وسلّم في المعروف الذي يأمرهن به تأكيدا لئلا يلزم أحدا طاعة غيره إلا بأمر الله وما كان منه طاعة لله تعالى* وقوله تعالى (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) أى لا يتبعه في تحليل شيء ولا تحريمه إلا فيما حلله الله أو حرمه وهو نظير قوله تعالى (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) وقد روى عبد السّلام بن حرب عن عطيف بن أعين عن مصعب بن سعد عن عدى بن حاتم قال أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي عنقي صليب من ذهب فقال ألق هذا الوثن عنك ثم قرأ (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) قلت يا رسول ما كنا نعبدهم قال أليس كانوا يحلون لهم ما حرم الله عليهم فيحلونه ويحرمون عليهم ما أحل الله لهم فيحرمونه قال فتلك عبادتهم وإنما وصفهم الله تعالى بأنهم اتخذوا أربابا لأنهم أنزلوهم منزلة ربهم وخالقهم في قبول تحريمهم وتحليلهم لما لم يحرمه الله ولم يحلله ولا يستحق أحد أن يطاع بمثله إلا الله تعالى الذي هو خالقهم والمكلفون كلهم متساوون في لزوم عبادة الله واتباع أمره وتوجيه العبادة إليه دون غيره* قوله تعالى (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) إلى قوله تعالى (أَفَلا تَعْقِلُونَ) روى عن ابن عباس والحسن والسدى أن أحبار اليهود ونصارى نجران اجتمعوا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فتنازعوا في إبراهيم عليه السّلام فقالت اليهود ما كان إلا يهوديا وقالت النصارى ما كان إلا نصرانيا فأبطل الله دعواهم بقوله تعالى (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) فاليهودية والنصرانية حادثتان بعد إبراهيم فكيف يكون يهوديا أو نصرانيا* وقد قيل إنهم سموا بذلك لأنهم من ولد يهودا والنصارى سموا بذلك لأن أصلهم من ناصرة قرية بالشام ومع ذلك فإن اليهودية ملة محرفة عن ملة موسى عليه السّلام والنصرانية ملة محرفة عن شريعة عيسى عليه السّلام فلذلك قال تعالى (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ

٢٩٧

إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) فكيف يكون إبراهيم منسوبا إلى ملة حادثة بعده* فإن قيل فينبغي أن* لا يكون حنيفا مسلما لأن القرآن نزل بعده* قيل له لما كان معنى الحنيف الدين المستقيم لأن الحنف في اللغة هو الاستقامة والإسلام هاهنا هو الطاعة لله تعالى والانقياد لأمره وكل واحد من أهل الحق يصح وصفه بذلك فقد علمنا بأن الأنبياء المتقدمين إبراهيم ومن قبله قد كانوا بهذه الصفة فلذلك جاز أن يسمى إبراهيم حنيفا مسلما وإن كان القرآن نزل بعده لأن هذا الاسم ليس بمختص بنزول القرآن دون غيره بل يصح صفة جميع المؤمنين به واليهودية والنصرانية صفة حادثة لمن كان على ملة حرفها منتحلوها من شريعة التوراة والإنجيل فغير جائز أن ينسب إليها من كان قبلها وفي هذه الآيات دليل على وجوب المحاجة في الدين وإقامة الحجة على المبطلين كما احتج الله تعالى على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في أمر المسيح عليه السّلام وأبطل بها شبهتهم وشغبهم وقوله تعالى (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) أوضح دليل على صحة الاحتجاج للحق لأنه لو كان الحجاج كله محظورا لما فرق بين المحاجة بالعلم وبينها إذا كانت بغير علم* وقيل في قوله تعالى (حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) فيما وجدوه في كتبهم وأما ما ليس لهم به علم فهو شأن إبراهيم في قولهم إنه كان يهوديا أو نصرانيا قوله تعالى (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) معناه تأمنه على قنطار لأن الباء وعلى تتعاقبان في هذا الموضع كقولك مررت بفلان ومررت عليه وقال الحسن في القنطار هو ألف مثقال ومائتا مثقال وقال أبو نضرة ملء مسك ثور ذهبا وقال مجاهد سبعون ألفا وقال أبو صالح مائة رطل فوصف الله تعالى بعض أهل الكتاب بأداء الأمانة في هذا الموضع ويقال إنه أراد به النصارى ومن الناس من يحتج بذلك في قبول شهادة بعضهم على بعض لأن الشهادة ضرب من الأمانة كما أن بعض المسلمين لما كان مأمونا جازت شهادته فكذلك الكتابي من حيث كان منهم موصوفا بالأمانة دل على جواز قبول شهادته على الكفار* فإن قيل فهذا يوجب جواز قبول شهادتهم على المسلمين* لأنه وصفه بأداء الأمانة إلى المسلمين إذا ائتمنوه عليها* قيل له كذلك يقتضى ظاهر الآية إلا أنا خصصناه بالاتفاق وأيضا فإنما دلت على جواز شهادتهم للمسلمين لأن أداء أمانتهم حق لهم فأما جوازه عليهم فلا دلالة في الآية عليه* وقوله تعالى (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ

٢٩٨

بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) قال مجاهد وقتادة إلا ما دمت عليه قائما بالتقاضي وقال السدى إلا ما دمت قائما على رأسه بالملازمة له واللفظ محتمل للأمرين من التقاضي ومن الملازمة وهو عليهما جميعا وقوله تعالى (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) بالملازمة أولى منه بالتقاضي من غير ملازمة* وقد دلت الآية على أن للطالب ملازمة المطلوب* بالدين* وقوله تعالى (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) روى عن قتادة والسدى أن اليهود قالت ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل لأنهم مشركون وزعموا أنهم وجدوا ذلك في كتبهم وقيل أنهم قالوا ذلك في سائر من يخالفهم في دينهم ويستحلون أموالهم لأنهم يزعمون أن على الناس جميعا اتباعهم وادعوا ذلك على الله أنه أنزل عليهم فأخبر الله تعالى عن كذبهم في ذلك بقوله تعالى (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنه كذب قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) روى الأعمش عن سفيان عن عبد الله قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم وهو فاجر فيها لقى الله وهو عليه غضبان وقال الأشعث بن قيس في نزلت كان بيني وبين رجل خصومة فخاصمته إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال ألك بينة قلت لا قال فيمينه قلت إذا يحلف فذكر مثل قول عبد الله فنزلت (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ) الآية وروى مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن معبد بن كعب عن أخيه عبد الله بن كعب ابن مالك عن أبى أمامة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال من اقتطع حق مسلم بيمنه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار قالوا وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله قال وإن كان قضيبا من أراك وروى الشعبي عن علقمة عن عبد الله قال سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول من حلف على يمين صبر ليقطع بها مال أخيه لقى الله وهو عليه غضبان * وظاهر الآية وهذه الآثار تدل على أنه لا يستحق أحد بيمينه مالا هو في الظاهر لغيره وكل من في يده شيء يدعيه لنفسه فالظاهر أنه له حتى يستحقه غيره وقد منع ظاهر الآية والآثار التي ذكرنا أن يستحق بيمينه مالا هو لغيره في الظاهر ولو لا يمينه لم يستحقه لأنه معلوم أنه لم يرد به مالا هو له عند الله دون ما هو عندنا في الظاهر إذ كانت الأملاك لا تثبت عندنا إلا من طريق الظاهر دون الحقيقة* وفي ذلك دليل على بطلان قول القائلين برد اليمين لأنه يستحق بيمينه ما كان ملكا لغيره في الظاهر وفيه الدلالة على أن الأيمان ليست

٢٩٩

موضوعة للاستحقاق وإنما موضوعها لإسقاط الخصومة وروى العوام بن حوشب قال حدثنا إبراهيم بن إسماعيل أنه سمع ابن أبى أوفى يقول أقام رجل سلعة فحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد أعطيت بها ثمنا لم يعط بها ليوقع فيها مسلما فنزلت (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ) الآية وروى عن الحسن وعكرمة أنها نزلت في قوم من أحبار اليهود كتبوا كتابا بأيديهم ثم حلفوا أنه من عند الله ممن ادعوا أنه ليس علينا في الأميين سبيل قوله تعالى (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) ـ إلى قوله تعالى ـ (وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) يدل على أن المعاصي ليست من عند الله ولا من فعله لأنها لو كانت من فعله لكانت من عنده وقد نفى الله نفيا عاما كون المعاصي من عنده ولو كانت من فعله لكانت من عنده من آكد الوجوه فكان لا يجوز إطلاق النفي بأنه ليس من عنده فإن قيل فقد يقال إن الإيمان من عند الله ولا يقال إنه من عنده من كل الوجوه كذلك الكفر والمعاصي قيل له لأن إطلاق النفي يوجب العموم وليس كذلك إطلاق الإثبات ألا ترى أنك لو قلت ما عند زيد طعام كان نفيا لقليله وكثيره ولو قلت عنده طعام ما كان عموما في كون جميع الطعام عنده* قوله تعالى (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) قيل في معنى البر هاهنا وجهان أحدهما الجنة وروى ذلك عن عمرو بن ميمون والسدى وقيل فيه البر بفعل الخير الذي يستحقون به الأجر والنفقة هاهنا إخراج ما يحبه في سبيل الله من صدقة أو غيرها وروى يزيد بن هارون عن حميد عن أنس قال لما نزلت (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ، و(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) قال أبو طلحة يا رسول الله حائطي الذي بمكان كذا وكذا لله تعالى ولو استطعت أن أسره ما أعلنته فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اجعله في قرابتك أو في أقربائك وروى يزيد بن هارون عن محمد بن عمرو عن أبى عمرو بن حماس عن حمزة بن عبد الله عن عبد الله بن عمر قال خطرت هذه الآية (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) فتذكرت ما أعطانى الله فلم أجد شيئا أحب إلى من جاريتي أميمة فقلت هي حرة لوجه الله فلو لا أن أعود في شيء فعلته لله لنكحتها فأنكحتها نافعا وهي أم ولده* حدثنا عبد الله بن محمد ابن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن أيوب وغيره أنها حين نزلت (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) جاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها فقال يا رسول الله هذه في سبيل الله فحمل النبي صلّى الله عليه وسلّم عليها أسامة بن

٣٠٠