أحكام القرآن - ج ٢

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٦

له عليه فهو جائز وهو أقوى من أن يرتهن دينا على غيره لأنه جائز لما عليه قال ويجوز في قول مالك أن يرهن الرجل الدين الذي يكون له على ذلك الرجل ويبتاع من رجل بيعا ويرهن منه الدين الذي يكون له على ذلك الرجل ويقبض ذلك الحق له ويشهد له وهذا قول لم يقل أحد به من أهل العلم سواه وهو فاسد أيضا لقوله تعالى (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) وقبض الدين لا يصح ما دام دينا لا إذا كان عليه ولا إذا كان على غيره لأن الدين هو حق لا يصح فيه قبض وإنما يتأتى القبض في الأعيان ومع ذلك فإنه لا يخلو ذلك الدين من أن يكون باقيا على حكم الضمان الأول أو منتقلا إلى ضمان الرهن فإن انتقل إلى ضمان الرهن فالواجب أن يبرأ من الفضل إذا كان الدين الذي به الرهن أقل من الرهن وإن كان باقيا على حكم الضمان الأول فليس هو رهنا لبقائه على ما كان عليه والدين الذي على الغير أبعد في الجواز لعدم الحيازة فيه والقبض بحال* وقد اختلف الفقهاء في الرهن إذا وضع على يدي عدل فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والثوري يصح الرهن إذا جعلاه على يدي عدل ويكون مضمونا على المرتهن وهو قول الحسن وعطاء والشعبي وقال ابن أبى ليلى وابن شبرمة والأوزاعى لا يجوز حتى يقبضه المرتهن وقال مالك إذا جعلاه على يدي عدل فضياعه من الراهن وقال الشافعى في رهن شقص السيف إن قبضه أن يحول حتى يضعه الراهن والمرتهن على يدي عدل أو على يدي الشريك قال أبو بكر قوله عز وجل (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) يقتضى جوازه إذا قبضه العدل إذ ليس فيه فصل بين قبض المرتهن والعدل وعمومه يقتضى جواز قبض كل واحد منهما وأيضا فإن العدل وكيل للمرتهن في القبض فكان القبض بمنزلة الوكالة في الهبة وسائر المقبوضات بوكالة من له القبض فيها* فإن قيل لو كان العدل وكيلا للمرتهن لكان له أن يقبضه منه ولما كان* العدل أن يمنعه إياه* قيل له هذا لا يخرجه عن أن يكون وكيلا وقابضا له وإن لم يكن له حق القبض من قبل أن الراهن لم يرض بيده وإنما رضى بيد وكيله ألا ترى أن الوكيل بالشرى هو قابض للسلعة للموكل وله أن يحبسها بالثمن ولو هلك قبل الحبس هلك من مال الموكل وليس جواز حبس الوكيل الرهن عن المرتهن علما لنفى الوكالة وكونه قابضا له ويدل على أن يد العدل يد المرتهن وأنه وكيله في القبض أن للمرتهن متى شاء أن يفسخ هذا الرهن ويبطل يد العدل ويرده إلى الراهن وليس للراهن إبطال يد العدل فدل ذلك

٢٦١

على أن العدل وكيل للمرتهن* فإن قيل لو جعلا المبيع على يدي عدل لم يخرج عن ضمان* البيع ولم يصح أن يكون العدل وكيلا للمشتري في قبضه كذلك المرتهن* قيل له الفرق بينهما أن العدل في البيع لو صار وكيلا للمشتري لخرج عن ضمان البائع وفي خروجه من ضمان بائعه سقوط حقه منه ألا ترى أنه لو أجاز قبضه بطل حقه ولم يكن له استرجاعه لأن المبيع ليس له إلا قبض واحد فمتى وجد سقط حق البائع ولم يكن له أن يرده إلى يده وكذلك إذا أودعه إياه فلذلك لم يكن العدل وكيلا للمشتري لأنه لو صار وكيلا له لصار قابضا له قبض بيع ولم يكن المشترى ممنوعا منه فكان لا معنى لقبض العدل بل يكون المشترى كأنه قبضه والبائع لم يرض بذلك فلم يجز إثباته ولم يصح أن يكون العدل وكيلا للمشتري ومن جهة أخرى أنه لو قبضه للمشتري لتم البيع فيه وفي تمام البيع سقوط حق البائع فيه فلا معنى لبقائه في يدي العدل بل يجب أن يأخذه المشترى والبائع لم يرض بذلك وليس كذلك الرهن لأن كون العدل وكيلا للمرتهن لا يوجب إبطال حق الراهن ألا ترى أن حق الراهن باق بعد قبض المرتهن فكذلك بعد قبض العدل فلا فرق بين قبض العدل وقبض المرتهن وفارق العدل في الشرى لامتناع كونه وكيلا للمشتري إذ كان يصير في معنى قبض المشترى في خروجه من ضمان البائع ودخوله في ضمانه وفي معنى تمام البيع فيه وسقوط حق البائع منه والبائع لم يرض بذلك ولا يجوز أن يكون عدلا للبائع من قبل أن حق الحبس موجب له بالعقد فلا يسقط ذلك أو يرضى بتسليمه إلى المشترى أو يقبض الثمن والله أعلم.

باب ضمان الرهن

قال الله تعالى (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) فعطف بذكر الأمانة على الرهن فذلك يدل على أن الرهن ليس بأمانة وإذا لم يكن أمانة كان مضمونا إذ لو كان الرهن أمانة لما عطف عليه الأمانة لأن الشيء لا يعطف على نفسه وإنما يعطف على غيره* واختلف الفقهاء في حكم الرهن فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وابن أبى ليلى والحسن بن صالح الرهن مضمون بأقل من قيمته ومن الدين وقال الثقفي عن عثمان البتى ما كان من رهن ذهبا أو فضة أو ثيابا فهو مضمون يترادان الفضل وإن كان عقارا أو حيوانا فهلك فهو من مال الراهن والمرتهن على حقه إلا أن يكون الراهن

٢٦٢

اشترط الضمان فهو على شرطه وقال ابن وهب عن مالك إن علم هلاكه فهو من مال الراهن ولا ينقص من حق المرتهن شيء وإن لم يعلم هلاكه فهو من مال المرتهن وهو ضامن لقيمته يقال له صفه فإذا وصفه حلف على صفته وتسمية ماله فيه ثم يقومه أهل البصر بذلك فإن كان فيه فضل عما سمى فيه أخذه الراهن وإن كان أقل مما سمى الراهن حلف على ما سمى وبطل عنه الفضل وإن أبى الراهن أن يحلف أعطى المرتهن ما فضل بعد قيمة الرهن وروى عنه ابن القاسم مثل ذلك وقال فيه إذا شرط أن المرتهن مصدق في ضياعه وأن لا ضمان عليه فيه فشرطه باطل وهو ضامن وقال الأوزاعى إذا مات العبد الرهن فدينه باق لأن الرهن لا يغلق ومعنى قوله لا يغلق الرهن أنه لا يكون بما فيه إذا علم ولكن يترادان الفضل إذا لم يعلم هلاكه وقال الأوزاعى في قوله له غنمه وعليه غرمه قال فأما غنمه فإن كان فيه فضل رد إليه وأما غرمه فإن كان فيه نقصان وفاه إياه وقال الليث الرهن مما فيه إذا هلك ولم تقم بينة على ما فيه إذا اختلفا في ثمنه فإن قامت البينة على ما فيه ترادا الفضل وقال الشافعى هو أمانة لا ضمان عليه فيه بحال إذا هلك سواء كان هلاكه ظاهرا أو خفيا* قال أبو بكر قد اتفق السلف عن الصحابة والتابعين على ضمان الرهن لا نعلم بينهم خلافا فيه إلا أنهم اختلفوا في كيفية ضمانه واختلفت الرواية عن على رضى الله عنه فيه فروى إسرائيل عن عبد الأعلى عن محمد بن على عن على قال إذا كان أكثر مما رهن فهلك فهو بما فيه لأنه أمين في الفضل وإذا كان بأقل مما رهنه به فهلك رد الراهن الفضل وروى عطاء عن عبيد بن عمير عن عمر مثله وهو قول إبراهيم النخعي وروى الشعبي عن الحرث عن على في الرهن إذا هلك قال يترادان الفضل وروى قتادة عن خلاس بن عمرو عن على قال إذا كان فيه فضل فأصابته جائحة فهو بما فيه وإن لم تصبه جائحة واتهم فإنه يرد الفضل فروى عن على هذه الروايات الثلاث وفي جميعها ضمانه إلا أنهم اختلفوا عنه في كيفية الضمان على ما وصفنا وروى عن ابن عمر أنه يترادان الفضل وقال شريح والحسن وطاوس والشعبي وابن شبرمة أن الرهن بما فيه وقال شريح وإن كان خاتما من حديد بمائة درهم فلما اتفق السلف على ضمانه وكان اختلافهم إنما هو في كيفية الضمان كان قول القائل إنه أمانة غير مضمون خارجا عن قول الجميع وفي الخروج عن اختلافهم مخالفة لإجماعهم وذلك أنهم لما اتفقوا على ضمانه فذلك اتفاق منهم على

٢٦٣

بطلان قول القائل بنفي ضمانه ولا فرق بين اختلافهم في كيفية ضمانه وبين اتفاقهم على وجه واحد فيه أن يكون قد حصل من اتفاقهم أنه مضمون فهذا اتفاق قاض بفساد قول من جعله أمانة وقد تقدم ذكر دلالة الآية على ضمانه* ومما يدل عليه من جهة السنة حديث عبد الله بن المبارك عن مصعب بن ثابت قال سمعت عطاء يحدث أن رجلا رهن فرسا فنفق في يده فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للمرتهن ذهب حقك وفي لفظ آخر لا شيء لك فقوله للمرتهن ذهب حقك إخبار بسقوط دينه لأن حق المرتهن هو دينه* وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا الحسن بن على الغنوي وعبد الوارث بن إبراهيم قالا حدثنا إسماعيل بن أبى أمية الزارع قال حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال الرهن بما فيه * وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا الحسين بن إسحاق قال حدثنا المسيب ابن واضح قال حدثنا ابن المبارك عن مصعب بن ثابت قال حدثنا علقمة بن مرثد عن محارب بن دثار قال قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن الرهن بما فيه والمفهوم من ذلك ضمانه بما فيه من الدين ألا ترى إلى قول شريح الرهن بما فيه ولو خاتما من حديد وكذلك قول محارب ابن دثار إنما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في خاتم رهن بدين فهلك أنه بما فيه وظاهر ذلك يوجب أن يكون بما فيه قل الدين أو كثر إلا أنه قد قامت الدلالة على أن مراده إذا كان الدين مثل الرهن أو أقل وأنه إذا كان الدين أكثر رد الفضل ويدل على أنه مضمون اتفاق الجميع على أن المرتهن أحق به بعد الموت من سائر الغرماء حتى يباع فيستوفي دينه منه فدل ذلك على أنه مقبوض للاستيفاء فقد وجب أن يكون مضمونا ضمان الإستيفاء لأن كل شيء مقبوض على وجه فإنما يكون هلاكه على الوجه الذي هو مقبوض به كالمغصوب متى هلك هلك على ضمان الغصب وكذلك المقبوض على بيع فاسد أو جائز إنما يهلك على الوجه الذي حصل قبضه عليه فلما كان الرهن مقبوضا للاستيفاء بالدلالة التي ذكرنا وجب أن يكون هلاكه على ذلك الوجه فيكون مستوفيا بهلاكه لدينه الذي يصح عليه الإستيفاء فإذا كان الرهن أقل قيمة فغير جائز أن يجعل استيفاء العدة بما هو أقل منها وإذا كان أكثر منه لم يجز أن يستوفى منه أكثر من مقدار دينه فيكون أمينا في الفضل ويدل على ضمانه اتفاق الجميع على بطلان الرهن بالأعيان نحو الودائع والمضاربة والشركة لا يصح الرهن بها لأنه لو هلك لم يكن مستوفيا للعين وصح بالديون المضمونة وفي هذا دليل على أن الرهن مضمون

٢٦٤

بالدين فيكون المرتهن مستوفيا له بهلاكه* ويدل عليه أنا لم نجد في الوصول حبسا لملك الغير لحق لا يتعلق به ضمان ألا ترى أن المبيع مضمون على البائع حتى يسلمه إلى المشترى لما كان محبوسا بالثمن وكذلك الشيء المستأجر يكون محبوسا في يد مستأجره مضمونا بالمنافع استعمله أو لم يستعمله ويلزمه بحبسه ضمان الأجرة التي هي بدل المنافع فثبت أن حبس ملك الغير لا يخلو من تعلق ضمان* واحتج الشافعى لكونه أمانة بحديث ابن أبى ذؤيب عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه قال الشافعى ووصله ابن المسيب عن أبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال أبو بكر إنما يوصله يحيى بن أبى أنيسة وقوله له غنمه وعليه غرمه من كلام سعيد ابن المسيب كما روى مالك ويونس وابن أبى ذؤيب عن ابن شهاب عن ابن المسيب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لا يغلق الرهن قال يونس بن زيد قال ابن شهاب وكان ابن المسيب يقول الرهن لمن رهنه له غنمه وعليه غرمه فأخبر ابن شهاب أن هذا قول ابن المسيب لا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولو كان ابن المسيب قد روى ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قال وكان ابن المسيب يقول ذلك بل كان يغرمه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فاحتج الشافعى بقوله له غنمه وعليه غرمه بأنه قد أوجب لصاحب الرهن زيادته وجعل عليه نقصانه والدين بحاله* قال أبو بكر فأما قوله لا يغلق الرهن فإن إبراهيم النخعي وطاوسا ذكرا جميعا أنهم كانوا يرهنون ويقولون إن جئتك بالمال إلى وقت كذا وإلا فهو لك فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يغلق الرهن وتأوله على ذلك أيضا مالك وسفيان وقال أبو عبيد لا يجوز في كلام العرب أن يقال للرهن إذا ضاع قد غلق الرهن إنما يقال غلق إذا استحقه المرتهن فذهب به وهذا كان من فعل أهل الجاهلية فأبطله النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله لا يغلق الرهن وقال بعض أهل اللغة إنهم يقولون غلق الرهن إذا ذهب بغير شيء قال زهير :

وفارقتك برهن لا فكاك له

يوم الوداع فأمسى رهنها غلقا

يعنى ذهبت بقلبه شيء ومنه قول الأعشى :

فهل يمنعني ارتياد البلا

دمن حذر الموت أن يأتين

على رقيب له حافظ

فقل في امرئ غلق مرتهن

فقال في البيت الثاني فقل في امرئ غلق مرتهن يعنى أنه يموت فيذهب بغير شيء كأن لم

٢٦٥

يكن فهذا يدل على أن قوله لا يغلق الرهن ينصرف على وجهين أحدهما إن كان قائما بعينه لم يستحقه المرتهن بالدين عند مضى الأجل والثاني عند الهلاك لا يذهب بغير شيء وأما قوله له غنمه وعليه غرمه فقد بينا أنه من قول سعيد بن المسيب أدرجه في الحديث بعض الرواة وفصله بعضهم وبين أنه من قوله وليس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأما ما تأوله الشافعى من أن له زيادته وعليه نقصانه فإنه تأويل خارج عن أقاويل الفقهاء خطأ في اللغة وذلك لأن الغرم في أصل اللغة هو اللزوم قال الله تعالى (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) يعنى ثابتا لازما والغريم الذي قد لزمه الدين ويسمى به أيضا الذي له الدين لأن له اللزوم والمطالبة وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يستعيذ بالله من المأثم والمغرم فقيل له في ذلك فقال إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف فجعل الغرم هو لزوم المطالبة له من قبل الآدمي وفي حديث قبيصة بن المخارق أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال إن المسألة لا تحل إلا من ثلاث فقر مدقع أو غرم مفظع أو دم موجع وقال تعالى (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) ـ إلى قوله ـ (وَالْغارِمِينَ) وهم المدينون وقال تعالى (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) يعنى ملزمون مطالبون بديوننا فهذا أصل الغرم في أصل اللغة وحدثنا أبو عمر غلام ثعلب عن ثعلب عن ابن الأعرابى في معنى الغرم قال أبو عمر أخطأ من قال إن هلاك المال ونقصانه يسمى غرما لأن الفقير الذي ذهب ماله لا يسمى غريما وإنما الغريم من توجهت عليه المطالبة للآدمي بدين وإذا كان كذلك فتأويل من تأوله وعليه غرمه أنه نقصانه خطأ وسعيد بن المسيب هو راوي الحديث وقد بينا أنه هو القائل له غنمه وعليه غرمه ولم يتأوله على ما قاله الشافعى لأن من مذهبه ضمان الرهن وذكر عبد الرحمن بن أبى الزناد في كتاب السبعة عن أبيه عن سعيد بن المسيب وعروة والقاسم بن محمد وأبى بكر بن عبد الرحمن وخارجة بن زيد وعبيد الله بن عبيد الله وغيرهم أنهم قالوا الرهن بما فيه إذا هلك وعميت قيمته ويرفع ذلك منهم الثقة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد ثبت أن من مذهب سعيد بن المسيب ضمان الرهن فكيف يجوز أن يتأول متأول قوله وعليه غرمه على نفى الضمان فإن كان ذلك رواية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فالواجب على مذهب الشافعى أن يقضى بتأويل الراوي على مراد النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه زعم أن الراوي للحديث أعلم بتأويله فجعل قول عمرو بن دينار في الشاهد واليمين أنه في الأموال حجة في أن لا يقضى في غير الأموال وقضى بقول ابن جريج في حديث القلتين أنه بقلال

٢٦٦

هجر على مراد النبي صلّى الله عليه وسلّم وجعل مذهب ابن عمر في خيار المتبايعين ما لم يفترقا إنه على التفرق بالأبدان قاضيا على مراد النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك فلزمه على هذا أن يجعل قول سعيد بن المسيب قاضيا على مراد النبي صلّى الله عليه وسلّم إن كان قوله وعليه غرمه ثابتا عنه وإنما معنى قوله له غنمه أن للراهن زيادته وعليه غرمه يعنى دينه الذي به الرهن وهو تفسير قوله صلّى الله عليه وسلّم لا يغلق الرهن لأنهم كانوا يوجبون استحقاق ملك الرهن للمرتهن بمضى الأجل قبل انقضاء الدين فقال صلّى الله عليه وسلّم لا يغلق الرهن أى لا يستحقه المرتهن بمضى الأجل ثم فسره فقال لصاحبه يعنى للراهن غنمه يعنى زيادته فبين أن المرتهن لا يستحق غير عين الرهن لا نماءه وزيادته وإن دينه باق عليه كما كان وهو معنى قوله وعليه غرمه كقوله وعليه دينه فإذا ليس في الخبر دلالة على كون الرهن غير مضمون بل هو دال على أنه مضمون على ما بينا* قال أبو بكر وقوله صلّى الله عليه وسلّم لا يغلق الرهن إذا أراد به حال بقائه عند الفكاك وإبطال النبي صلّى الله عليه وسلّم شرط استحقاق ملكه بمضى الأجل قد حوى معاني منها أن الرهن لا تفسده الشروط الفاسدة بل يبطل الشرط ويجوز هو لإبطال النبي صلّى الله عليه وسلّم شرطهم وإجازته الرهن ومنها أن الرهن لما كان شرط صحته القبض كالهبة والصدقة ثم لم تفسده الشروط وجب أن يكون كذلك حكم ما لا يصح إلا بالقبض من الهبات والصدقات في أن الشروط لا تفسدها لاجتماعها في كون القبض شرطا لصحتها وقد دل هذا الخبر أيضا على أن عقود التمليكات لا تعلق على الأخطار لأن شرطهم لملك الرهن بمضى المدة كان تمليكا معلقا على خطر وعلى مجيء وقت مستقبل فأبطل النبي صلّى الله عليه وسلّم شرط التمليك على هذا الوجه فصار ذلك أصلا في سائر عقود التمليكات والبراءة في امتناع تعلقها على الأخطار ولذلك قال أصحابنا فيمن قال إذا جاء غد فقد وهبت لك العبد أو قال قد بعتكه أنه باطل لا يقع به الملك وكذلك إذا قال إذا جاء غد فقد أبرأتك مما لي عليك من الدين كان ذلك باطلا وفارق ذلك عندهم العتاق والطلاق في جواز تعلقهما على الأخطار لأن لهما أصلا آخر وهو أن الله تعالى قد أجاز الكتابة بقوله صلّى الله عليه وسلّم (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) وهو أن يقول كاتبتك على ألف درهم فإن أديت فأنت حر وإن عجزت فأنت رقيق وذلك عتق معلق على خطر وعلى مجيء حال مستقبلة وقال في شأن الطلاق (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) ولم يفرق بين إيقاعه في الحال وبين إضافته إلى وقت السنة ولما كان إيجاب هذا العقد أعنى العتق على مال والخلع بمال

٢٦٧

مشروط للزوج يمنع الرجوع فيما أوجبه قبل قبول العبد والمرأة صار ذلك عتقا معلقا على شرط بمنزلة شروط الأيمان التي لا سبيل إلى الرجوع فيها وفي ذلك دليل على جواز تعلقهما على شروط وأوقات مستقبلة والمعنى في هذين أنهما لا يلحقهما الفسخ بعد وقوعهما وسائر العقود التي ذكرناها من عقود التمليكات يلحقها الفسخ بعد وقوعها فلذلك لم يصح تغلقها على الأخطار ونظير دلالة قوله صلّى الله عليه وسلّم لا يغلق الرهن على ما ذكرنا ما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه نهى عن بيع المنابذة والملامسة وعن بيع الحصاة وهذه بياعات كان أهل الجاهلية يتعاملون بها فكان أحدهم إذا لمس السلعة أو ألقى الثوب إلى صاحبه أو وضع عليه حصاة وجب البيع فكان وقوع الملك متعلقا بغير الإيجاب والقبول بل بفعل آخر يفعله أحدهما فأبطله النبي صلّى الله عليه وسلّم فدل ذلك على أن عقود التمليكات لا تتعلق على الأخطار وإنما جعل أصحابنا الرهن مضمونا بأقل من قيمته ومن الدين من قبل أنه لما كان مقبوضا للاستيفاء وجب اعتبار ما يصح الاستيفاء به وغير جائز أن يستوفى من عدة أقل منها ولا أكثر فوجب أن يكون أمينا في الفضل وضامنا لما نقص الرهن عن الدين ومن جعله بما فيه قل أو كثر شبهة بالمبيع إذا هلك في يد البائع أنه يهلك بالثمن قل أو كثر والمعنى الجامع بينهما أن كل واحد محبوس بالدين وليس هذا كذلك عندنا لأن المبيع إنما كان مضمونا بالثمن قل أو كثر لأن البيع ينتقض بهلاكه فسقط الثمن إذ غير جائز بقاء الثمن مع انتقاض البيع وأما الرهن فإنه يتم بهلاكه ولا ينتقض وإنما يكون مستوفيا للدين به فوجب اعتبار ضمانه بما وصفنا فإن قيل إذا جاز أن يكون الفضل عن الدين أمانة فما أنكرت أن يكون جميعه أمانة وأن لا يكون حبسه بالدين للاستيفاء موجبا لضمانه لوجودنا هذا المعنى في الزيادة مع عدم الضمان فيها وكذلك ولد المرهونة المولود بعد الرهن يكون محبوسا في يد المرتهن مع الأم ولو هلك هلك بغير شيء فيه ولم يكن كونه محبوسا في يد المرتهن علة لكونه مضمونا قيل له إن الزيادة على الدين من مقدار قيمة الرهن وولد المرهونة كلاهما تابع للأصل غير جائز إفرادهما دون الأصل إذا أدخلا في العقد على وجه التبع وإذا كان كذلك لم يجز إفرادهما بحكم الضمان لامتناع إفرادهما بالعقد المتقدم قبل حدوث الولادة وليس حكم ما يدخل في العقد على وجه التبع حكم ما يفرد به ألا ترى أن ولد أم الولد يدخل في حكم الأم ويثبت له حق الاستيلاد على وجه التبع ولا يصح انفراده في الأصل

٢٦٨

بهذا الحق لا على وجه التبع وكذلك ولد المكاتبة يدخل في الكتابة وهو حمل مع استحالة إفراده بالعقد في تلك الحال فكذلك ما ذكرت من زيادة الرهن وولد المرهونة لما دخلا في العقد على وجه التبع لم يلزم على ذلك أن يجعل حكمهما حكم الأصل ولا أن يلحقهما بمنزلة ما ابتدئ العقد عليهما ويدل على ذلك أن رجلا لو أهدى بدنة فزادت في بدنها أو ولدت أن عليه أن يهديها بزيادتها وولدها ولو ذهبت الزيادة وهلك الولد لم يلزمه بالهلاك شيء غير ما كان عليه وكذلك لو كان عليه بدنة وسط فأهدى بدنة خيارا مرتفعة أن هذه الزيادة حكمها ثابت ما بقي الأصل فإن هلك قبل أن ينحر بطل حكم الزيادة وعاد إلى ما كان عليه في ذمته وكذلك لو كان بدل الزيادة ولدا ولدته كان في هذه المنزلة فكذلك ولد المرهونة وزيادتها على قيمة الرهن هذا حكمهما في بقاء حكمها ما داما قائمين وسقوط حكمهما إذا هلكا والله أعلم.

ذكر اختلاف الفقهاء في الانتفاع بالرهن

قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والحسن بن زيادة وزفر لا يجوز للمرتهن الانتفاع بشيء من الرهن ولا الراهن أيضا وقالوا إذا آجر المرتهن الراهن بإذن الراهن أو آجره الراهن بإذن المرتهن فقد خرج من الراهن ولا يعود وقال ابن أبى ليلى إذا آجره المرتهن بإذن الراهن فهو رهن على حاله والغلة للمرتهن قضاء من حقه وقال ابن القاسم عن مالك إذا خلى المرتهن بين الرهن والراهن يكريه أو يسكنه أو يعيره لم يكن رهنا وإذا آجره المرتهن بإذن الراهن لم يخرج من الرهن وكذلك إذا أعاره المرتهن بإذن الراهن فهو رهن على حاله فإذا آجره المرتهن بإذن الراهن فالأجر لرب الأرض ولا يكون الكرى رهنا بحقه إلا أن يشترط المرتهن فإن اشتراطه في البيع أن يرتهن ويأخذ حقه من الكرى فإن مالكا كره ذلك وإن لم يشترط ذلك في البيع وتبرع به الراهن بعد البيع فلا بأس به وإن كان البيع وقع بهذا الشرط إلى أجل معلوم أو شرط فيه البائع بيعه الرهن ليأخذها من حقه فإن ذلك جائز عند مالك في الدور والأرض وكرهه في الحيوان وذكر المعاني عن الثوري أنه كره أن ينتفع من الرهن بشيء ولا يقرأ في المصحف المرهون وقال الأوزاعى غلة الرهن لصاحبه ينفق عليه منها والفضل له فإن لم تكن له غلة وكان يستخدمه فطعامه بخدمته فإن لم يكن يستخدمه فنفقته على صاحبه وقال الحسن ابن صالح لا يستعمل الرهن

٢٦٩

ولا ينتفع به إلا أن يكون دارا يخاف خرابها فيسكنها المرتهن لا يريد الانتفاع بها وإنما يريد إصلاحها وقال ابن أبى ليلى إذا لبس المرتهن الخاتم للتجمل ضمن وإن لبسه ليحوزه فلا شيء عليه وقال الليث بن سعد لا بأس بأن يستعمل العبد الرهن بطعامه إذا كانت النفقة بقدر العمل فإن كان العمل أكثر أخذ أفضل ذلك من المرتهن وقال المزني عن الشافعى فيما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم الرهن محلوب ومركوب أى من رهن ذات ظهر ودر لم يمنع الرهن من ظهرها ودرها وللراهن أن يستخدم العبد ويركب الدابة ويحلب الدر ويجز الصوف ويأوى بالليل إلى المرتهن أو الموضوع على يده* قال أبو بكر لما قال الله تعالى (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) فجعل القبض من صفات الرهن أوجب ذلك أن يكون استحقاق القبض موجبا لإبطال الرهن فإذا آجره أحدهما بإذن صاحبه خرج من الرهن لأن المستأجر قد استحق القبض الذي به يصح الرهن وليس ذلك كالعارية عندنا لأن العارية لا توجب استحقاق القبض إذ للمعير أن يرد العارية إلى يده متى شاء واحتج من أجاز أجازته والانتفاع به بما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا هناد عن ابن المبارك عن زكريا عن أبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لبن الدر يحلب بنفقته إذا كان مرهونا والظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب ويحلب النفقة فذكر في هذا الحديث أن وجوب النفقة لركوب ظهره وشرب لبنه ومعلوم أن الراهن إنما يلزمه نفقته لملكه لا لركوبه ولبنه لأنه لو لم يكن مما يركب أو يحلب لزمته النفقة فهذا يدل على أن المراد به أن اللبن والظهر للمرتهن بالنفقة التي ينفقها وقد بين ذلك هشيم في حديثه فإنه رواه عن زكريا بن أبى زائدة عن الشعبي عن أبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها ولبن الدر يشرب وعلى الذي يشرب نفقتها ويركب فبين في هذا الخبر أن المرتهن هو الذي تلزمه النفقة ويكون له ظهره ولبنه وقال الشافعى إن نفقته على الراهن دون المرتهن فهذا الحديث حجة عليه لا له وقد روى الحسن بن صالح عن إسماعيل بن أبى خالد عن الشعبي قال لا ينتفع من الرهن بشيء فقد ترك الشعبي ذلك وهو رواية عن أبى هريرة فهذا يدل على أحد معنيين إما أن يكون الحديث غير ثابت في الأصل وإما أن يكون ثابتا وهو منسوخ عنده وهو كذلك عندنا لأن مثله كان جائزا قبل تحريم الربا فلما حرم الربا وردت الأشياء إلى مقاديرها صار ذلك منسوخا ألا ترى أنه جعل النفقة بدلا من اللبن قل أو كثر وهو نظير

٢٧٠

ما روى في المصراة أنه يردها ويرد معها صاعا من تمر ولم يعتبر مقدار اللبن الذي أخذه وذلك أيضا عندنا منسوخ بتحريم الربا ويدل على بطلان قول القائلين بإيجاب الركوب واللبن للراهن إن الله تعالى جعل من صفات الرهن القبض كما جعل من صفات الشهادة العدالة بقوله (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) وقوله (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) ومعلوم أن زوال هذه الصفة عن الشهادة يمنع جواز الشهادة فكذلك لما جعل من صفات الرهن أن يكون مقبوضا بقوله (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) وجب إبطال الرهن لعدم هذه الصفة وهو استحقاق القبض فلو كان الراهن مستحقا للقبض الذي به يصح الرهن لمنع ذلك من صحته بديا لمقارنة ما يبطله ولو صح بديا لوجب أن يبطل باستحقاق قبضه وجوب رده إلى يده وأيضا لما اتفق الجميع على أن الراهن ممنوع من وطء الأمة المرهونة والوطء من منافعها وجب أن يكون ذلك حكم سائر المنافع في بطلان حق الراهن فيها ومن جهة أخرى أن الراهن إنما لم يستحق الوطء لأن المرتهن يستحق ثبوت يده عليها كذلك الاستخدام واختلف الفقهاء فيمن شرط ملك الرهن للمرتهن عند حلول الأجل فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد إذا رهنه رهنا وقال إن جئتك بالمال إلى شهر وإلا فهو بيع فالرهن جائز والشرط باطل وقال مالك الرهن فاسد وينقض فإن لم ينقض حتى حل الأجل فإنه لا يكون للمرتهن بذلك الشرط وللمرتهن أن يحبسه بحقه وهو أحق به من سائر الغرماء فإن تغير في يده لم يرد ولزمته القيمة في ذلك يوم حل الأجل وهذا في السلع والحيوان وأما في الدور والأرضين فإنه يردها إلى الراهن وإن تطاول إلا أن تنهدم الدار أو يبنى فيها أو يغرس في الأرض فهذا فوت ويغرم القيمة مثل البيع الفاسد وقال المعافى عن الثوري في الرجل يرهن صاحبه المتاع ويقول إن لم آتك فهو لك قال لا يغلق ذلك الرهن وقال الحسن بن صالح ليس قوله هذا بشيء وقال الربيع عن الشافعى لو رهنه وشرط له إن لم يأته بالحق إلى كذا فالرهن له بيع فالرهن فاسد والرهن لصاحبه الذي رهنه* قال أبو بكر اتفقوا أنه لا يملكه بمضى الأجل واختلفوا في جواز الرهن وفساده وقد بينا فيما سلف أن قوله لا يغلق الرهن أنه لا يملك بالدين بمضى الأجل للشرط الذي شرطاه فإنما نفى النبي صلّى الله عليه وسلّم غلقه بذلك ولم ينف صحة الرهن الذي شرطاه فدل ذلك على جواز الرهن وبطلان الشرط وهو أيضا قياس العمرى التي أبطل النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها الشرط وأجاز الهبة والمعنى الجامع

٢٧١

بينهما أن كل واحد منهما لا يصح بالعقد دون القبض واختلفوا أيضا في مقدار الدين إذا اختلف فيه الراهن والمرتهن فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد إذا هلك واختلف الراهن والمرتهن في مقدار الدين فالقول قول الراهن في الدين مع يمينه وهو قول الحسن بن صالح والشافعى وإبراهيم النخعي وعثمان البتى وقال طاوس يصدق المرتهن إلى ثمن الرهن ويستحلف وكذلك قول الحسن وقتادة والحكم وقال أياس بن معاوية قولا بين هذين القولين قال إن كان للراهن بينة بدفعه الرهن فالقول قول الراهن وإن لم تكن له بينة فالقول قول المرتهن لأنه لو شاء جحده الراهن ومتى أقر بشيء وليست عليه بينة فالقول قوله وقال ابن وهب عن مالك إذا اختلفا في الدين والرهن قائم فإن كان الرهن قدر حق المرتهن أخذه المرتهن وكان أولى به ويحلفه إلا أن يشاء رب الرهن أن يعطيه حقه عليه ويأخذ رهنه وقال ابن القاسم عن مالك القول قول المرتهن فيما بينه وبين قيمة الرهن لا يصدق على أكثر من ذلك قال أبو بكر قال الله تعالى (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) فيه الدلالة على أن القول قول الذي عليه الدين لأنه وعظه في البخس وهو النقصان فيدل على أن القول قوله وأيضا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه والمرتهن هو المدعى والراهن هو المدعى عليه فالقول قوله بقضية قوله صلّى الله عليه وسلّم وأيضا لو لم يكن رهن لكان القول قول الذي عليه الدين في مقداره بالاتفاق كذلك إذا كان به رهن لأن الرهن لا يخرجه من أن يكون مدعى عليه* قال أبو بكر وزعم بعض من يحتج لمالك أن قوله أشبه بظاهر القرآن لأنه قال (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) فأقام الرهن مقام الشهادة ولم يأتمن الذي عليه الحق حين أخذ منه وثيقة كما لم يأتمنه على مبلغه إذا أشهد عليه الشهود لأن الشهود والكتاب تنبئ عن مبلغ الحق فلم يصدق الراهن وقام الرهن مقام الشهود إلى أن يبلغ قيمته فإذا جاوز قيمته فلا وثيقة فيه والمرتهن مدع فيه والراهن مدعى عليه* قال أبو بكر وهذا من عجيب الحجاج وذلك أنه زعم أنه لما لم يأتمنه حتى أخذ الرهن قام الرهن مقام الشهادة وزعم مع ذلك أن ذلك موافق لظاهر القرآن وقد جعل الله تعالى القول قول الذي عليه الحق حين قال (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) فجعل القول قوله في الحال التي أمر فيها بالإشهاد والكتاب ولم يجعل عدم ائتمان الطالب

٢٧٢

للمطلوب مانعا من أن يكون القول قول المطلوب فكيف يكون ترك ائتمانه إياه بالتوثق منه بالرهن مانعا من قبول قول المطلوب وموجبا لتصديق الطالب على ما يدعيه والذي ذكره مخالف لظاهر القرآن والعلة التي نصبها لتصديق المرتهن في ترك ائتمانه منتقضة بنص الكتاب ثم دعواه موافقته لظاهر القرآن أعجب الأشياء وذلك لأن القرآن قد قضى ببطلان قوله حين جعل القول قول المطلوب في الحال التي لم يؤتمن فيها حتى استوثق منه الكتاب والإشهاد وهو فإنما زعم أنه لم يأتمنه حين أخذ الرهن وجب أن يكون القول قول الطالب ثم زعم أن قوله موافق لظاهر القرآن وبنى عليه أنه لم يأتمنه وأن الرهن توثق كما أن الشهادة توثق فقام الرهن مقام الشهادة وليس ما ذكره من المعنى من ظاهر القرآن في شيء وأنا كنا قد دللنا على أنه مخالف له وإنما هو قياس ورد لمسألة الرهن إلى مسألة الشهادة بعلة أنه لم يؤتمن في الحالين على الدين الذي عليه وهو قياس باطل من وجوه أحدها أن ظاهر القرآن يرده وهو ما قدمناه والثاني أنه منتقض باتفاق الجميع على أن من له على رجل دين فأخذ منه كفيلا ثم اختلفوا في مقداره كان القول قول المطلوب فيما يلزمه ولم يكن عدم الائتمان بأخذه الكفيل موجبا لتصديق الطالب مع وجود علته فيه فانتقضت علته بالكفالة والثالث أن المعنى الذي من أجله لم يصدق الطالب إذا قامت البينة أن شهادة الشهود مقبولة محكوم بتصديقهم فيها وهم قد شهدوا على إقراره بأكثر مما ذكره وبما ادعاه المدعى فصار كإقراره عند القاضي بالزيادة ولا دلالة في قيمة الرهن على أن الدين بمقداره لأنه لا خلاف أنه جائز أن يرهن بالقليل الكثير وبالكثير القليل ولا تنبئ قيمة الرهن عن مقدار الدين ولا دلالة فيه عليه فكيف يكون الرهن بمنزلة الشهادة ويدل على فساد قياسه هذا أنهما لو اتفقا على أن الدين أقل من قيمة الرهن لم يوجب ذلك بطلان الرهن ولو أقر الطالب أن دينه أقل مما شهد به شهوده بطلت شهادة شهوده فهذه الوجوه كلها توجب بطلان ما ذكره هذا المحتج.

وقوله تعالى (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) قال أبو بكر قوله تعالى (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) كلام مكتف بنفسه وإن كان معطوفا على ما تقدم ذكره من الأمر بالإشهاد عند التبايع بقوله (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) فهو عموم في سائر الشهادات التي يلزم الشاهد إقامتها وأداؤها وهو نظير قوله تعالى (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) وقوله (يا أَيُّهَا

«١٨ ـ أحكام في»

٢٧٣

الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) فنهى الله تعالى الشاهد بهذه الآيات عن كتمان الشهادة التي تركها يؤدى إلى تضييع الحقوق وهو على ما بيننا من إثبات الشهادة في كتب الوثائق وأدائها بعد إثباتها فرض على الكفاية فإذا لم يكن من يشهد على الحق غير هذين الشاهدين فقد تعين عليهما فرض أدائها ويلحقهما إن تخلفا عنها الوعيد المذكور في الآية وقد كان نهيه عن الكتمان مفيدا لوجوب أدائها ولكنه تعالى أكد الفرض فيها بقوله (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) وإنما أضاف الإثم إلى القلب وإن كان في الحقيقة الكاتم هو الآثم لأن المأثم فيه إنما يتعلق بعقد القلب ولأن كتمان الشهادة إنما هو عقد النية لترك أدائها باللسان فعقد النية من أفعال القلب لا نصيب للجوارح فيه وقد انتظم الكاتم للشهادة المأثم من وجهين أحدهما عزمه على أن لا يؤديها والثاني ترك أدائها باللسان وقوله (آثِمٌ قَلْبُهُ) مجاز لا حقيقة وهو آكد في هذا الموضع من الحقيقة لو قال ومن يكتمها فإنه آثم وأبلغ منه وأدل على الوعيد من بديع البيان ولطيف الإعراب عن المعاني تعالى الله الحكيم قال أبو بكر وآية الدين بما فيه من ذكر الاحتياط بالكتاب والشهود المرضيين والرهن تنبيه على موضع صلاح الدين والدنيا معه فأما في الدنيا فصلاح ذات البين ونفى التنازع والاختلاف وفي التنازع والاختلاف فساد ذات البين وذهاب الدين والدنيا قال الله عز وجل (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) وذلك أن المطلوب إذا علم أن عليه دينا وشهودا وكتابا ورهنا بما عليه وثيقة في يد الطالب قل الخلاف علمنا منه أن خلافه وبخسه لحق المطلوب لا ينفعه بل يظهر كذبه بشهادة الشهود عليه وفيه وثيقة واحتياط للطالب وفي ذلك صلاح لهما جميعا في دينهما ودنياهما لأن في تركه بخس حق الطالب صلاح دينه وفي جحوده وبخسه ذهاب دينه إذا علم وجوبه وكذلك الطالب إذا كانت له بينة وشهود أثبتوا ماله وإذا لم تكن له بينة وجحد الطالب حمله ذلك على مقابلته بمثله والمبالغة في كيده حتى ربما لم يرض بمقدار حقه دون الإضرار به في أضعافه متى أمكنه وذلك متعالم من أحوال عامة الناس وهذا نظير ما حرمه الله تعالى على لسان نبيه صلّى الله عليه وسلّم من البياعات المجهولة القدر والآجال المجهولة والأمور التي كانت عليها الناس قبل مبعثه صلّى الله عليه وسلّم مما كان يؤدى إلى الإختلاف وفساد ذات البين وإيقاع العداوة والبغضاء ونحوه مما حرم الله تعالى من الميسر والقمار وشرب الخمر وما يسكر فيؤدى إلى

٢٧٤

العداوة والبغضاء والاختلاف والشحناء قال الله تعالى (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) فأخبر الله تعالى أنه إنما نهى عن هذه الأمور لنفى الاختلاف والعداوة ولما في ارتكابها من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة* فمن تأدب بأدب الله وانتهى إلى أوامره وانزجر بزواجره حاز صلاح الدين والدنيا قال الله تعالى (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) وفي هذه الآيات التي أمر الله فيها بالكتاب والإشهاد على الدين والعقود والاحتياط فيها تارة بالشهادة وتارة بالرهن دلالة على وجوب حفظ المال والنهى عن تضييعه وهو نظير قوله تعالى (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) وقوله (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) وقوله (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) الآية فهذه الآي دلالة على وجوب حفظ المال والنهى عن تبذيره وتضييعه وقد روى نحو ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حدثنا بعض من لا أتهم في الرواية قال أخبرنا معاذ بن المثنى قال حدثنا مسدد قال حدثنا بشر بن الفضل قال حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن سعيد المقبري عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يحب الله إضاعة المال ولا قيل ولا قال وحدثنا من لا أتهم قال أخبرنا محمد بن إسحاق قال حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقى قال حدثنا حسن الجعفي عن محمد ابن سوقة عن وراد قال كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة أكتب إلى بشيء سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليس بينك وبينه أحد قال فأملى على وكتبت أنى سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إن الله حرم ثلاثا ونهى عن ثلاث فأما الثلاث التي حرم فعقوق الأمهات ووأد البنات ولا وهات والثلاث التي نهى عنهن فقيل وقال وإلحاف السؤال وإضاعة المال قال تعالى (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) قال أبو بكر روى أنها منسوخة بقوله (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزى قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع الجرجانى قال حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) قال نسخها قوله تعالى (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق عن معمر قال سمعت الزهري يقول في قوله تعالى (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ)

٢٧٥

قال قرأها ابن عمر وبكى وقال إنا لمأخوذون بما نحدث به أنفسنا فبكى حتى سمع نشيجه فقام رجل من عنده فأتى ابن عباس فذكر ذلك له فقال يرحم الله ابن عمر لقد وجد منها المسلمون نحوا مما وجد حتى نزلت بعدها (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) وروى عن الشعبي عن أبى عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال نسختها الآية التي تليها (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) وروى معاوية بن صالح عن على بن أبى طلحة عن ابن عباس (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) أنها لم تنسخ لكن الله إذا جمع الخلق يوم القيامة يقول إنى أخبركم مما في أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم وهو قوله (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) قوله تعالى (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) من الشك والنفاق وروى عن الربيع بن أنس مثل ذلك وقال عمرو بن عبيد كان الحسن يقول هي محكمة لم تنسخ وروى عن مجاهد أنها محكمة في الشك واليقين* قال أبو بكر لا يجوز أن تكون منسوخة لمعنيين أحدهما أن الأخبار لا يجوز فيها النسخ لأن نسخ مخبرها يدل على البداء والله تعالى عالم بالعواقب غير جائز عليه البداء والثاني أنه لا يجوز تكليف ما ليس في وسعها لأنه سفه وعبث والله تعالى يتعالى عن فعل العبث وإنما قول من روى عنه أنها منسوخة فإنه غلط من الراوي في اللفظ وإنما أراد بيان معناها وإزالة التوهم عن صرفه إلى غير وجهه وقد روى مقسم عن ابن عباس أنها نزلت في كتمان الشهادة وروى عن عكرمة مثله وروى عن غيرهما أنها في سائر الأشياء وهذا أولى لأنه عموم مكتف بنفسه فهو عام في الشهادة وغيرها ومن نظائر ذلك في المؤاخذة بكسب القلب قوله تعالى (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وقال تعالى (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أى شك* فإن قيل روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال إن الله عفا لأمتى* عما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا به أو يعملوا به * قيل له هذا فيما يلزمه من الأحكام فلا يقع عتقه ولا طلاقه ولا بيعه ولا صدقته ولا هبته بالنية ما لم يتكلم به وما ذكر في الآية فيما يؤاخذ به مما بين العبد وبين الله تعالى* وقد روى الحسن بن عطية عن أبيه عن عطية عن ابن عباس في قوله تعالى (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) فقال سر عملك وعلانيته يحاسبك به الله وليس من عبد مؤمن يسر في نفسه خيرا ليعمل

٢٧٦

به فإن عمل به كتب له به عشر حسنات وإن هو لم يقدر يعمل به كتب له به حسنة من أجل أنه مؤمن وأن الله رضى بسر المؤمنين وعلانيتهم وإن كان شرا حدث به نفسه اطلع الله عليه أخبر به يوم تبلى السرائر فإن هو لم يعمل به لم يؤاخذه الله به حتى يعمل به فإن هو عمل به تجاوز الله عنه كما قال (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) وهذا على معنى قوله إن الله عفا لأمتى عما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا به أو يعملوا به. قوله تعالى (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) فيه نص على أن الله تعالى لا يكلف أحدا ما لا يقدر عليه ولا يطيقه ولو كلف أحدا ما لا يقدر عليه ولا يستطيعه لكان مكلفا له ما ليس في وسعه ألا ترى قول القائل ليس في وسعى كيت وكيت بمنزلة قوله لا أقدر عليه ولا أطيقه بل الوسع دون الطاقة ولم تختلف الأمة في أن الله لا يجوز أن يكلف الزمن المشي والأعمى البصر والأقطع اليدين البطش لأنه لا يقدر عليه ولا يستطيع فعله ولا خلاف في ذلك بين الأمة وقد وردت السنة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن من لم يستطع الصلاة قائما فغير مكلف للقيام فيها ومن لم يستطعها قاعدا فغير مكلف للقعود بل يصليها على جنب يومئ إيماء لأنه غير قادر عليها إلا على هذا الوجه ونص التنزيل قد أسقط التكليف عمن لا يقدر على الفعل ولا يطيقه وزعم قوم جهال نسبت إلى الله فعل السفه والعبث فزعموا أن كل ما أمر به أحد من أهل التكليف أو نهى عنه فالمأمور به منه غير مقدور على فعله والمنهي عنه غير مقدور على تركه وقد أكذب الله قيلهم بما نص عليه من أنه لا يكلف الله نفسا إلا وسعها مع ما قد دلت عليه العقول من قبح تكليف ما لا يطاق وإن العالم بالقبيح المستغنى عن فعله لا يقع منه فعل القبيح ومما يتعلق بذلك من الأحكام سقوط الفرض عن المكلفين فيما لا تتسع له قواهم لأن الوسع هو دون الطاقة وأنه ليس عليهم استفراغ المجهود في أداء الفرص نحو الشيخ الكبير الذي يشق عليه الصوم ويؤديه إلى ضرر يلحقه في جسمه وإن لم يخش الموت بفعله فليس عليه صومه لأن الله لم يكلفه إلا ما يتسع لفعله ولا يبلغ به حال الموت وكذلك المريض الذي يخشى ضرر الصوم وضرر استعمال الماء لأن الله قد أخبر أنه لا يكلف أحدا إلا ما اتسعت له قدرته وإمكانه دون ما يضيق عليه ويعنته وقال الله تعالى (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) وقال في صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) فهذا حكم مستمر في سائر أوامر الله وزواجره ولزوم التكليف فيها على ما يتسع له ويقدر

٢٧٧

عليه قوله عز وجل (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) قال أبو بكر النسيان على وجهين أحدهما أنه قد يتعرض الإنسان للفعل الذي يقع معه النسيان فيحسن الاعتذار به إذا وقعت منه جناية على وجه السهو والثاني أن يكون النسيان بمعنى ترك المأمور به لشبهة تدخل عليه أو سوء تأويل وإن لم يكن الفعل نفسه واقعا على وجه السهو فيحسن أن يسأل الله مغفرة الأفعال الواقعة على هذا الوجه والنسيان بمعنى الترك مشهور في اللغة قال الله تعالى (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) يعنى تركوا أمر الله تعالى فلم يستحقوا ثوابه فأطلق اسم النسيان على الله تعالى على وجه مقابلة الاسم كقوله (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) وقوله (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) قال أبو بكر النسيان الذي هو ضد الذكر فإن حكمه مرفوع فيما بين العبد وبين الله تعالى في استحقاق العقاب والتكليف في مثله ساقط عنه والمؤاخذة به في الآخرة غير جائزة لا أنه لا حكم له فيما يكلفه من العبادات فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد نص على لزوم حكم كثير منها مع النسيان واتفقت الأمة أيضا على حكمها من ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها وتلا عند ذلك (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) فدل على أن مراد الله تعالى بقوله (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) فعل المنسية منها عند الذكر وقال تعالى (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) وذلك عموم في لزومه قضاء كل منسى عند ذكره ولا خلاف بين الفقهاء في أن ناسى الصوم والزكاة وسائر الفروض بمنزلة ناسى الصلاة في لزوم قضائها عند ذكرها وكذلك قال أصحابنا في المتكلم في الصلاة ناسيا أنه بمنزلة العامد لأن الأصل أن العامد والناسي في حكم الفروض سواء وإنه لا تأثير للنسيان في إسقاط شيء منها إلا ما ورد به التوقيف ولا خلاف أن تارك الطهارة ناسيا كتاركها عامدا في بطلان حكم صلاته وكذلك قالوا في الأكل في نهار شهر رمضان ناسيا إن القياس فيه إيجاب القضاء وإنهم إنما تركوا القياس فيه للأثر ومع ما ذكرنا فإن الناسي مؤد لفرضه على أى وجه فعله إذ لم يكلفه الله في تلك الحال غيره وإنما القضاء فرض آخر ألزمه الله تعالى بالدلائل التي ذكرنا فكان تأثير النسيان في سقوط المأثم فحسب فأما في لزوم فرض فلا وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم رفع عن أمتى الخطأ والنسيان مقصور على المأثم أيضا دون رفع الحكم ألا ترى أن الله تعالى قد نص على لزوم حكم قتل الخطأ في إيجاب الدية والكفارة فلذلك ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم النسيان مع الخطأ وهو على هذا المعنى* فإن قال قائل

٢٧٨

من أصلكم إيجاب فرض التسمية على الذبيحة ولو تركها عامدا كانت ميتة وإذا تركها ناسيا حلت وكانت مذكاة ولم تجعلوها بمنزلة تارك الطهارة ناسيا حتى صلى فيكون مأمورا بإعادتها بالطهارة قطعا وكذلك الكلام في الصلاة ناسيا* قيل له لما بينا من أنه لم يكلف في الحال غير ما فعل على وجه النسيان والذي لزمه بعد الذكر فرض مبتدأ آخر وكذلك نجيز في هذه القضية أن لا يكون مكلفا في حال النسيان للتسمية فصحت الزكاة ولا تتأتى بعد الزكاة فيه ذبيحة أخرى فيكون مكلفا لها كما كلف إعادة الصلاة والصوم ونحوه قوله تعالى (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) هو مثل قوله تعالى (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) وقوله (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) وفيه الدلالة على أن كل واحد من المكلفين فأحكام أفعاله متعلقة به دون غيره وإن أحدا لا يجوز تصرفه على غيره ولا يؤاخذ بجريرة سواه وكذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبى رمثة حين رآه مع ابنه فقال هذا ابنك قال نعم قال إنك لا تجنى عليه ولا يجنى عليك وقال صلّى الله عليه وسلّم لا يؤاخذ أحد بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه فهذا هو العدل الذي لا يجوز في العقول غيره وقوله تعالى (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) يحتج به في نفى الحجر وامتناع تصرف أحد من قاض أو غيره على سواه ببيع ماله أو منعه منه إلا ما قامت الدلالة على خصوصه ويحتج به في بطلان مذهب مالك بن أنس في أن من أدى دين غيره بغير أمره أن له أن يرجع به عليه لأن الله تعالى إنما جعل كسبه له وعليه ومنع لزومه غيره* قوله عز وجل (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) قد قيل في معنى الإصر إنه الثقل وأصله في اللغة يقال إنه العطف ومنه أو أصر الرحم لأنها تعطفه عليه والواحد آصرة والمأصر يقال أنه حبل يمد على طريق أو نهر تحبس به المارة ويعطفون به عن النفوذ ليؤخذ منهم العشور والمكس والمعنى في قوله (لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) يريد به عهدا وهو الأمر الذي يثقل روى نحوه عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وهو في معنى قوله تعالى (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) يعنى من ضيق وقوله (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) الآية وقوله تعالى (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم جئتكم بالحنيفية السمحة وروى عنه أن بنى إسرائيل شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فقوله (وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) يعنى من ثقل الأمر والنهى (كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) وهو كقوله (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ

٢٧٩

وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) وهذه الآية ونظائرها يحتج بها على نفى الحرج والضيق والثقل في كل أمر اختلف الفقهاء فيه وسوغوا فيه الاجتهاد فالموجب للثقل والضيق والحرج محجوج بالآية نحو إيجاب النية في الطهارة وإيجاب الترتيب فيها وما جرى مجرى ذلك في نفى الضيق والحرج يجوز لنا الاحتجاج بالظواهر التي ذكرناها قوله تعالى (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) قيل فيه وجهان أحدهما ما يشتد ويثقل من التكليف كنحو ما كلف بنو إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم وجائز أن يعبر بما يثقل أنه لا يطيقه كقولك ما أطيق كلام فلان ولا أقدر أن أراه ولا يراد به نفى القدرة وإنما يريدون أنه يثقل عليه فيكون بمنزلة العاجز الذي لا يقدر على كلامه ورؤيته لبعده من قلبه وكراهته لرؤيته وكلامه وهو كما قال تعالى (وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) وقد كانت لهم أسماع صحيحة إلا أن المراد أنهم استثقلوا استماعه فأعرضوا عنه وكانوا بمنزلة من لم يسمع والوجه الثاني أن لا يحملنا من العذاب ما لا نطيقه وجائز أن يكون المراد الأمرين جميعا والله أعلم بالصواب.

سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) إلى آخر القصة* قال الشيخ أبو بكر قد بينا في صدر الكتاب معنى المحكم والمتشابه وأن كل واحد منهما ينقسم إلى معنيين أحدهما يصح وصف القرآن بجميعه والآخر إنما يختص به بعض القرآن دون بعض قال الله تعالى (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) وقال تعالى (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) فوصف جميع القرآن في هذه المواضع بالأحكام وقال تعالى (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) فوصف جميعه بالمتشابه ثم قال في موضع آخر (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) فوصف هاهنا بعضه بأنه محكم وبعضه متشابه والأحكام الذي عم به الجميع هو الصواب والإتقان اللذان يفضل بهما القرآن كل قول وأما موضع الخصوص في قوله تعالى (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) فإن المراد به اللفظ الذي لا اشتراك فيه ولا يحتمل عند سامعه إلا معنى واحدا وقد ذكرنا اختلاف الناس فيه إلا أن هذا المعنى لا محالة قد انتظمه لفظ الأحكام المذكور في هذه الآية وهو الذي جعل

٢٨٠