أحكام القرآن - ج ٢

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٦

نفى التهمة عن الشهادة وإن كان الشاهد عدلا فإن الفقهاء متفقون على بعضها ومختلفون في بعضها فمما اتفق عليه فقهاء الأمصار بطلان شهادة الشاهد لولده إلا شيء يحكى عن عثمان البتى قال تجوز شهادة الولد لوالديه وشهادة الأب لابنه ولامرأته إذا كانوا عدولا مهذبين معروفين بالفضل ولا يستوي الناس في ذلك ففرق بينهما لوالده وبينها للأجنبى فأما أصحابنا ومالك والليث والشافعى والأوزاعى فإنهم لا يجيزون شهادة واحد منهما للآخر فقد حدثنا عبد الرحمن بن سيما قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبى قال حدثنا وكيع عن سفيان عن جابر عن الشعبي عن شريح قال لا تجوز شهادة الإبن لأبيه ولا الأب لابنه ولا المرأة لزوجها ولا الزوج لامرأته وروى عن إياس ابن معاوية أنه أجاز شهادة رجل لابنه حدثنا عبد الرحمن بن سيما قال حدثنا عبد الله بن أحمد قال حدثني أبى قال حدثنا عفان قال حدثنا حماد بن زيد قال حدثنا خالد الحذاء عن إياس بن معاوية بذلك والذي يدل على بطلان شهادته لابنه قوله عز وجل (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ) ولم يذكر بيوت الأبناء لأن قوله تعالى (مِنْ بُيُوتِكُمْ) قد انتظمها إذ كانت منسوبة إلى الآباء فاكتفى بذكر بيوتهم عن ذكر بيوت أبنائهم وقال صلّى الله عليه وسلّم أنت ومالك لأبيك فأضاف الملك إليه وقال إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه فكلوا من كسب أولادكم فلما أضاف ملك الإبن إلى الأب وأباح أكله له وسماه له كسبا كان المثبت لابنه حقا بشهادته بمنزلة مثبته لنفسه ومعلوم بطلان شهادته لنفسه فكذلك لابنه وإذا ثبت ذلك في الإبن كان ذلك حكم شهادة الإبن لأبيه إذ لم يفرق أحد بينهما* فإن قيل إذا كان الشاهد عدلا فواجب قبول شهادته لهؤلاء كما نقبلها لأجنبى وإن كانت شهادته لهؤلاء غير مقبولة لأجل التهمة فغير جائز قبولها للأجنبى لأن من كان متهما في الشهادة لابنه بما ليس بحق له فجائزة عليه مثل هذه التهمة للأجنبى* قيل له ليست التهمة المانعة من قبول شهادته لابنه ولأبيه تهمة فسق ولا كذب وإنما التهمة فيه من قبل أنه يصير فيها بمعنى المدعى لنفسه ألا ترى أن أحدا من الناس وإن ظهرت أمانته وصحت عدالته لا يجوز أن يكون مصدقا فيما يدعيه لنفسه لا على جهة تكذيبه ولكن من جهة أن كل مدع لنفسه فدعواه غير ثابتة إلا ببينة تشهد له بها فالشاهد لابنه بمنزلة المدعى لنفسه لما بينا وكذلك قال أصحابنا إن كل شاهد يجر بشهادته

«١٦ ـ أحكام في»

٢٤١

إلى نفسه مغنما أو يدفع بها عن نفسه مغرما فغير مقبول الشهادة لأنه حينئذ يقوم مقام المدعى والمدعى لا يجوز أن يكون شاهدا فيما يدعيه ولا أحد من الناس أصدق من نبي الله صلّى الله عليه وسلّم إذ دلت الأعلام المعجزة على أنه لا يقول إلا حقا وإن الكذب غير جائز عليه مع وقوع العلم لنا بمغيب أمره وموافقة باطنه لظاهره ولم يقتصر فيما ادعاه لنفسه على دعواه دون شهادة غيره حين طالبه الخصم بها وهو قصة خزيمة بن ثابت حدثنا عبد الرحمن ابن سيما قال حدثنا عبد الله بن أحمد قال حدثني أبى قال حدثنا أبو اليمان قال حدثنا شعيب عن الزهري قال حدثنا عمارة بن خزيمة الأنصارى أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ابتاع فرسا من أعرابى وذكر القصة وقال فطفق الأعرابى يقول هلم شهيدا يشهد أنى قد بايعتك فقال خزيمة أنا أشهد أنك بايعته فأقبل النبي صلّى الله عليه وسلّم على خزيمة فقال بم تشهد فقال بتصديقك يا رسول الله فجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم شهادة خزيمة بشهادة رجلين فلم يقتصر النبي صلّى الله عليه وسلّم في دعواه على ما تقرر وثبت بالدلائل والأعلام أنه لا يقول إلا حقا ولم يقل للأعرابى حين قال هلم شهيدا أنه لا بينة عليه وكذلك سائر المدعين فعليهم إقامة بينة لا يجر بها إلى نفسه مغنما ولا يدفع بها عنها مغرما وشهادة الوالد لولده يجر بها إلى نفسه أعظم المغنم كشهادته لنفسه والله تعالى أعلم.

ومن هذا الباب أيضا شهادة أحد الزوجين للآخر

وقد اختلف الفقهاء فيها فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والأوزاعى والليث لا تجوز شهادة واحد منهما للآخر وقال الثوري تجوز شهادة الرجل لامرأته وقال الحسن بن صالح لا تجوز شهادة المرأة لزوجها وقال الشافعى تجوز شهادة أحد الزوجين للآخر* قال أبو بكر هذا نظير شهادة الوالد للولد والولد للوالد وذلك من وجوه أحدها أنه معلوم تبسط كل واحد من الزوجين في مال الآخر في العادة وأنه كالمباح الذي لا يحتاج فيه إلى الاستيذان فما يثبته الزوج لامرأته بمنزلة ما يثبته لنفسه وكذلك ما تثبته المرأة لزوجها ألا ترى أنه لا فرق في المعتاد بين تبسطه في مال الزوج والزوجة وبينه في مال أبيه وابنه ولما كان كذلك وكانت شهادته لوالده وولده غير جائزة كان كذلك حكم شهادة الزوج والزوجة وأيضا فإن شهادته لزوجته بمال توجب زيادة قيمة البضع الذي في ملكه لأن مهره مثلها يزيد بزيادة مالها فكان شاهدا لنفسه بزيادة قيمة ما هو ملكه وقد

٢٤٢

روى عن عمر بن الخطاب أنه قال لعبد الله بن عمرو بن الحضرمي لما ذكر له أن عبده سرق مرة لامرأته عبدكم سرق مالكم لا قطع عليه فجعل مال كل واحد منهما مضافا إليهما بالزوجية التي بينهما فما يثبته كل واحد لصاحبه فكأنه يثبته لنفسه ومن جهة أخرى أنه كلما كثر مال الزوج كانت النفقة التي تستحقها أكثر فكأنها شاهدة إذ كانت مستحقة للنفقة بحق الزوجية في حالي الفقر والغنى* فإن قال قائل فالأخت الفقيرة والأخ الزمن يستحقان* للنفقة على أخيهما إذا كان غنيا ولم يمنع ذلك جواز شهادتهما له* قيل له ليست الأخوة موجبة للاستحقاق لأن الغنى لا يستحقها مع وجود النسب والفقير لا تجب عليه مع وجود الأخوة والزوجية سبب لاستحقاقها فقيرا كان الزوج أو غنيا فكانت المرأة مثبتة بشهادتها لنفسها زيادة النفقة مع وجود الزوجية الموجبة لها والنسب ليس كذلك لأنه غير موجب للنفقة لوجوده بينهما فلذلك اختلفا.

ومن هذا الباب أيضا شهادة الأجير

وقد ذكر الطحاوي عن محمد بن سنان عن عيسى عن محمد عن أبى يوسف عن أبى حنيفة أن شهادة الأجير غير جائزة لمستأجره في شيء وإن كان عدلا استحسانا* قال أبو بكر روى هشام وابن رستم عن محمد أن شهادة الأجير الخاص غير جائزة لمستأجره وتجوز شهادة الأجير المشترك له ولم يذكر خلافا عن أحد منهم وهو قول عبيد الله بن الحسن وقال مالك لا تجوز شهادة الأجير لمن استأجره إلا أن يكون مبرزا في العدالة وإن كان الأجير في عياله لم تجز شهادته له وقال الأوزاعى لا تجوز شهادة الأجير لمستأجره وقال الثوري شهادة الأجير جائزة إذا كان لا يجر إلى نفسه حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا أبو عمر الحوضي قال حدثنا محمد بن راشد عن سليمان ابن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رد شهادة الخائن والخائنة وشهادة ذي الغمر على أخيه ورد القانع لأهل البيت وأجازها على غيرهم وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا حفص بن عمر قال حدثنا محمد بن راشد بإسناده مثله إلا أنه قال ورد شهادة القانع لأهل البيت * قال أبو بكر قوله القانع لأهل البيت يدخل فيه الأجير الخاص لأن معناه التابع لهم والأجير الخاص هذه صفته وأما الأجير المشترك فهو وسائر الناس في ماله بمنزلة فلا يمنع ذلك جواز شهادته وكذلك شريك العنان تجوز شهادته

٢٤٣

له في غير مال الشركة* وقال أصحابنا كل شهادة ردت للتهمة لم تقبل أبدا مثل شهادة أحد الزوجين للآخر إذا ردت لفسقه ثم تاب وأصلح فشهد بتلك الشهادة لم تقبل أبدا ومثل شهادة أحد الزوجين للآخر إذا ردت ثم شهد بها بعد زوال الزوجية لم تقبل أبدا وقالوا لو شهد عبد بشهادة أو كافر أو صبي فردت ثم أعتق العبد أو أسلم الكافر أو كبر الصبى أو عتق العبد وشهد بها لم تقبل أبدا ولو لم تكن ردت قبل ذلك فإنها جائزة وروى عن عثمان بن عفان مثل قول مالك* وإنما قال أصحابنا أنها إذا ردت لتهمة لم تقبل أبدا من قبل أن الحاكم قد حكم بإبطالها وحكم الحاكم لا يجوز فسخه إلا بحكم ولا يصح فسخه بما لا يثبت من جهة الحكم فلما لم يصح الحكم بزوال التهمة التي من أجلها ردت الشهادة كان حكم الحاكم بإبطال تلك الشهادة ماضيا لا يجوز فسخه أبدا وأما الرق والكفر والصغر فإن المعاني التي ردت من أجلها وحكم الحاكم بإبطالها محكوم بزوالها لأن الحرية والإسلام والبلوغ كل ذلك مما يحكم به الحاكم فلما صح حكم الحاكم بزوال المعاني التي من أجلها بطلت شهادتهم وجب أن تقبل ولما لم يصح أن يحكم الحاكم بزوال التهمة لأن ذلك معنى لا تقوم به البينة ولا يحكم به الحاكم كان حكم الحاكم بإبطالها ماضيا إذا كان ما ثبت من طريق الحكم لا ينفسخ إلا من جهة الحكم* فهذه الأمور الثلاثة التي ذكرناها من العدالة ونفى التهمة وقلة الغفلة هي من شرائط الشهادات وقد انتظمها قوله تعالى (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) فانظر إلى كثرة هذه المعاني والفوائد والدلالات على الأحكام التي في ضمن قوله تعالى (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) مع قلة حروفه وبلاغة لفظه ووجازته واختصاره وظهور فوائده وجميع ما ذكرنا من عند ذكرنا لمعنى هذا اللفظ من أقاويل السلف والخلف واستنباط كل واحد منهم ما في مضمونه وتحريم موافقته مع احتماله لجميع ذلك يدل على أنه كلام الله ومن عنده تعالى وتقدس إذ ليس في وسع المخلوقين إيراد لفظ يتضمن من المعاني والدلالات والفوائد والأحكام ما تضمنه هذا القول مع اختصاره وقلة عدد حروفه وعسى أن يكون ما لم يحط به علمنا من معانيه مما لو كتب لطال وكثر والله نسئل التوفيق لنعلم أحكامه ودلائل كتابه وأن يجعل ذلك خالصا لوجهه* قوله تعالى عز وجل (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) قرئ فتذكر إحداهما الأخرى بالتشديد وقرئ فتذكر إحداهما الأخرى بالتخفيف وقيل إن معناهما قد يكون

٢٤٤

واحدا يقال ذكرته وذكرته وروى ذلك عن الربيع بن أنس والسدى والضحاك وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أبو عبيد مؤمل الصيرفي قال حدثنا أبو يعلى البصري قال حدثنا الأصمعى عن أبى عمرو قال من قرأ (فَتُذَكِّرَ) مخففة أراد تجعل شهادتهما بمنزلة شهادة ذكر ومن قرأ (فَتُذَكِّرَ) بالتشديد أراد من جهة التذكير وروى ذلك عن سفيان ابن عيينة قال أبو بكر إذا كان محتملا للأمرين وجب حمل كل واحدة من القراءتين على معنى وفائدة مجددة فيكون قوله تعالى (فَتُذَكِّرَ) بالتخفيف تجعلهما جميعا بمنزلة رجل واحد في ضبط الشهادة وحفظها وإتقانها وقوله تعالى (فَتُذَكِّرَ) من التذكير عند النسيان واستعمال كل واحد منهما على موجب دلالتيهما أولى من الاقتصار بها على موجب دلالة أحدهما ويدل على ذلك أيضا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم ما رأيت ناقصات عقل ودين أغلب لعقول ذوى الألباب منهن قيل يا رسول الله وما نقصان عقلهن قال جعل شهادة امرأتين بشهادة رجل فهذا موافق لمعنى من تأول فتذكر إحداهما الأخرى على أنهما تصيران في ضبط الشهادة وحفظها بمنزلة رجل وفي هذه الآية دلالة على أنه غير جائز لأحد إقامة شهادة وإن عرف خطه إلا أن يكون ذاكرا لها ألا ترى ذكر ذلك بعد الكتاب والإشهاد ثم قال تعالى (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) فلم يقتصر بنا على الكتاب والخط دون ذكر الشهادة وكذلك قوله تعالى (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) فدل ذلك على أن الكتاب إنما أمر به لتستذكر به كيفية الشهادة وأنها لا تقام إلا بعد حفظها وإتقانها وفيها الدلالة على أن الشاهد إذا قال ليس عندي شهادة في هذا الحق ثم قال عندي شهادة فيه أنها مقبولة لقوله تعالى (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) فأجازها إذا ذكرها بعد نسيانها وذكر ابن رستم عن محمد رحمه الله في رجل سئل عن شهادة في أمر كان يعلمه فقال ليس عندي شهادة ثم أنه شهد بها في ذلك عند القاضي قال تقبل منه إذا كان عدلا لأنه يقول نسيتها ثم ذكرتها ولأن الحق ليس له فيجوز قوله عليه وإنما الحق لغيره فكذلك تقبل شهادته فيه قال أبو بكر يعنى أنه ليس هذا مثل أن يقول المدعى ليس لي عنده هذا الحق ثم يدعيه فلا تقبل دعواه له بعد إقراره لأنه أبرأه من الحق وأقر على نفسه فجاز إقراره فلا تقبل دعواه بعد ذلك لذلك الحق لنفسه لأنه قد أبطلها بإقراره وأما الشهادة فإنما هي حق للغير فلا يبطلها قوله ليس عندي شهادة وقوله

٢٤٥

تعالى (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) يدل على صحة هذا القول وقد اختلف الفقهاء في الشهادة على الخط فقال أبو حنيفة وأبو يوسف لا يشهد بها حتى يذكرها وهذا هو المشهور من قولهم وروى ابن رستم قال قلت لمحمد رجل يشهد على شهادة وكتبها بخطه وختمها أو لم يختم عليها وقد عرف خطه قال إذا عرف خطه وسعه أن يشهد عليها ختم عليها أو لم يختم قال فقلت إن كان أميا لا يقرأ فكتب غيره له قال لا يشهد حتى يحفظ ويذكرها وقال أبو حنيفة ما وجد القاضي في ديوانه لا يقتضى به إلا أن يذكره وقال أبو يوسف يقتضى به إذا كان في قمطره وتحت خاتمه لأنه لو لم يفعله أضر بالناس وهو قول محمد ولا خلاف بينهم أنه لا يمضى شيئا منه إذا لم يكن تحت خاتمه وأنه لا يمضى ما وجده في ديوانه غيره من القضاة إلا أن يشهد به الشهود على حكم الحاكم الذي قبله وقال ابن أبى ليلى مثل قول أبى يوسف فيما يجده في ديوانه وذكر أبو يوسف أيضا عن ابن أبى ليلى إذا أقر عند القاضي لخصمه فلم يثبته في ديوانه ولم يقض به عليه ثم سأله المقر له به أن يقضى له على خصمه فإنه لا يقضى به عليه في قول ابن أبى ليلى وقال أبو حنيفة وأبو يوسف يقضى به عليه إذا كان يذكره وقال مالك فيمن عرف خطه ولم يذكر الشهادة أنه لا يشهد على ما في الكتاب ولكن يؤدى شهادته إلى الحاكم كما علم وليس للحاكم أن يجيزها فإن كتب الذي عليه الحق شهادته على نفسه في ذكر الحق ومات الشهود فأنكر فشهد رجلان أنه خط نفسه فإنه يحكم عليه بالمال ولا يستحلف رب المال وذكر أشهب عنه فيمن عرف خطه ولا يذكر الشهادة أنه يؤديها إلى السلطان ويعلمه ليرى فيه رأيه وقال الثوري إذا ذكر أنه شهد ولا يذكر عدد الدراهم فإنه لا يشهد وإن كتبها عنده ولم يذكر إلا أنه يعرف الكتاب فإنه إذا ذكر أنه شهد وأنه قد كتبها فأرى أن يشهد على الكتاب وقال الليث إذا عرف أنه خط يده وكان ممن يعلم أنه لا يشهد إلا بحق فليشهد وقال الشافعى إذا ذكر إقرار المقر حكم به عليه أثبته في ديوانه أو لم يثبته لأنه لا معنى للديوان إلا الذكر وقال في كتاب المزني أنه لا يشهد حتى يذكر قال أبو بكر قد ذكرنا دلالة قوله تعالى (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) ودلالة قوله تعالى بعد ذكر الكتاب (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) على أن من شرط جواز إقامة الشهادة ذكر الشاهد لها وأنه لا يجوز الاقتصار فيها على الخط إذ الخط والكتاب مأمور به لتذكر به

٢٤٦

الشهادة ويدل عليه أيضا قوله تعالى (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) فإذا لم يذكرها فهو غير عالم بها وقوله تعالى (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) يدل على ذلك ويدل عليه حديث ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال إذا رأيت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع وقد تقدم ذكر سنده وأما الخط فقد يزور عليه وقد يشتبه على الشاهد فيظن أنه خطه وليس بخطه ولما كانت الشهادة من مشاهدة الشيء وحقيقة العلم به فمن لا يذكر الشهادة فهو بخلاف هذه الصفة فلا تجوز له إقامة الشهادة به وقد أكد أمر الشهادة حتى صار لا يقبل فيها إلا صريح لفظها ولا يقبل ما يقوم مقامها من الألفاظ فكيف يجوز العمل على الخط الذي يجوز عليه التزوير والتبديل وقد روى عن أبى معاوية النخعي عن الشعبي فيمن عرف الخط والخاتم ولا يذكر الشهادة أنه لا يشهد به حتى يذكرها وقوله تعالى (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) معناه أن ينساها لأن الضلال هو الذهاب عن الشيء فلما كان الناسي ذاهبا عما نسيه جاز أن يقال ضل عنه بمعنى أنه نسيه وقد يقال أيضا ضلت عنه الشهادة وضل عنها والمعنى واحد والله تعالى أعلم.

باب لالشاهد واليمين

اختلف الفقهاء في الحكم بشاهد واحد مع يمين الطالب فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وابن شبرمة لا يحكم إلا بشاهدين ولا يقبل شاهد ويمين في شيء وقال مالك والشافعى يحكم به في الأموال خاصة قال أبو بكر قوله تعالى (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) يوجب بطلان القول بالشاهد واليمين* وذلك لأن قوله (وَاسْتَشْهِدُوا) يتضمن الإشهاد على عقود المداينات التي ابتدأ في الخطاب بذكرها ويتضمن إقامتها عند الحاكم ولزوم الحاكم الأخذ بها لاحتمال اللفظ للحالين ولأن الإشهاد على العقد إنما الغرض فيه إثباته عند التجاحد فقد تضمن لا محالة استشهاد الشاهدين أو الرجل والمرأتين على العقد عند الحاكم وإلزامه الحكم به وإذا كان كذلك فظاهر اللفظ يقتضى الإيجاب لأنه أمر وأوامر الله على الوجوب فقد ألزم الله الحاكم الحكم بالعدد المذكور* كقوله تعالى (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) وقوله تعالى (فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) ولم يجز الاقتصار على ما دون العدد المذكور كذلك العدد المذكور للشهادة غير جائز الاقتصار فيه على ما دونه وفي تجويز أقل منه

٢٤٧

مخالفة الكتاب كما لو أجاز مجيز أن يكون حد القذف سبعين أو حد الزنا تسعين كان مخالفا للآية وأيضا قد انتظمت الآية شيئين من أمر الشهود أحدهما العدد والآخر الصفة وهي أن يكونوا أحرارا مرضيين لقوله تعالى (مِنْ رِجالِكُمْ) وقوله تعالى (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) فلما لم يجز إسقاط الصفة المشروطة لهم والاقتصار على دونها لم يجز إسقاط العدد إذ كانت الآية مقتضية لاستيفاء الأمرين في تنفيذ الحكم بها وهو العدد والعدالة والرضا فغير جائز إسقاط واحد منهما والعدد أولى بالاعتبار من العدالة والرضا لأن العدد معلوم من جهة اليقين والعدالة إنما نثبتها من طريق الظاهر لا من طريق الحقيقة فلما لم يجز إسقاط العدالة المشروطة من طريق الظاهر لم يجز إسقاط العدد المعلوم من جهة الحقيقة واليقين* وأيضا فلما أراد الله الاحتياط في إجازة شهادة النساء أوجب شهادة المرأتين وقال (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) ثم قال (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) فنفى بذلك أسباب التهمة والريب والنسيان وفي مضمون ذلك ما ينفى قبول يمين الطالب والحكم له بشاهد واحد لما فيه من الحكم بغير ما أمر به من الاحتياط والاستظهار ونفى الريبة والشك وفي قبول يمينه أعظم الريب والشك وأكبر التهمة وذلك خلاف مقتضى الآية ويدل على بطلان الشاهد واليمين قول الله تعالى (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) وقد علمنا أن الشاهد الواحد غير مقبول ولا مراد بالآية ويمين الطالب لا يجوز أن يقع عليها إثم الشاهد ولا يجوز أن يكون رضى فيما يدعيه لنفسه فالحكم بشاهد واحد ويمينه مخالف للآية من هذه الوجوه ورافع لما قصد به من أمر الشهادات من الاحتياط والوثيقة على ما بين الله في هذه الآية وقصد به من المعاني المقصودة بها ويدل عليه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه وفرق بين اليمين والبينة فغير جائز أن تكون اليمين بينة لأنه لو جاز أن تسمى اليمين بينة لكان بمنزلة قول القائل البينة على المدعى والبينة على المدعى عليه وقوله البينة اسم للجنس فاستوعب ما تحتها فما من بينة إلا وهي التي على المدعى فإذا لا يجوز أن يكون عليه اليمين وأيضا لما كانت البينة لفظا مجملا قد يقع على معان مختلفة واتفقوا أن الشاهدين والشاهد والمرأتين مرادون بهذا الخبر وأن الاسم يقع عليهم صار كقوله الشاهدان أو الشاهد والمرأتان على المدعى فغير جائز الاقتصار على ما دونهم * وهذا الخبر وإن كان وروده من طريق الآحاد فإن

٢٤٨

الأمة قد تلقته بالقبول والاستعمال فصار في حيز المتواتر ويدل عليه قوله صلّى الله عليه وسلّم لو أعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم فحوى هذا الخبر ضربين من الدلالة على بطلان القول بالشاهد واليمين أحدهما أن يمينه دعواه لأن مخبرها ومخبر دعواه واحد فلو استحق بيمينه كان مستحقا بدعواه وقد منع النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك والثاني إن دعواه لما كانت ومنع النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يستحق بها شيئا لم يجز أن يستحق بيمينه إذ كانت يمينه قوله ويدل على ذلك حديث علقمة بن وائل بن حجر عن أبيه في الحضرمي الذي خاصم الكندي في أرض ادعاها في يده وجحد الكندي فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم للحضرمى شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك فنفى النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يستحق شيئا بغير شاهدين وأخبر أنه لا شيء له غير ذلك* فإن قيل لم ينف بذلك أن يستحق بإقرار المدعى* عليه كذلك لا ينفى أن يستحق بشاهد ويمين* قيل له قد كان المدعى عليه جاحدا فبين النبي صلّى الله عليه وسلّم حكم ما يوجب صحة دعواه عند الجحود فأما حال الإقرار فلم يجز لها ذكر وهي موقوفة على الدلالة وأيضا فإن ظاهره يقتضى أن لا يستحق شيئا إلا ما ذكرنا في الخبر والإقرار قد ثبت بالإجماع وجوب الاستحقاق به فحكمنا به أو الشاهد واليمين مختلف فيه فقضى قوله شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك ببطلانه* واحتج القائلون بالشاهد واليمين بأخبار رويت مبهمة ذكر فيها قضية النبي صلّى الله عليه وسلّم به أنا ذاكرها ومبين ما فيها أحدها ما حدثنا عبد الرحمن بن سيما قال حدثنا عبد الله بن أحمد قال حدثني أبى قال حدثنا أبو سعيد قال حدثنا سليمان قال حدثنا ربيعة بن أبى عبد الرحمن عن سهل بن أبى صالح عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قضى باليمين مع الشاهد وروى عثمان بن الحكم عن زهير ابن محمد عن سهيل بن أبى صالح عن أبيه عن زيد بن ثابت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مثله وحديث آخر وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبى شيبة والحسن بن على أن زيد بن الحباب حدثهم قال حدثنا سيف يعنى ابن سليمان المكي عن قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قضى بيمين وشاهد وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن يحيى وسلمة بن شبيب قالا حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار بإسناده ومعناه* وحدثنا عبد الرحمن بن سيما قال حدثنا عبد الرحمن بن أحمد قال حدثني أبى قال حدثنا عبد الله بن الحرث قال حدثنا

٢٤٩

سيف بن سليمان عن قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قضى باليمين مع الشاهد قال عمرو وإنما ذاك في الأموال* وحدثنا عبد الرحمن بن سيما قال حدثنا عبد الله بن أحمد قال حدثني أبى قال حدثنا وكيع قال حدثنا خلد بن أبى كريمة عن أبى جعفر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أجاز شهادة رجل مع يمين المدعى في الحقوق ورواه مالك وسفيان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قضى بشهادة رجل مع اليمين * قال أبو بكر والمانع من قبول هذه الأخبار وإيجاب الحكم بالشاهد واليمين بها وجوه أحدها فساد طرقها والثاني جحود المروي عنه روايتها والثالث رد نص القرآن لها والرابع أنها لو سلمت من الطعن والفساد لما دلت على قول المخالف والخامس احتمالها لموافقة الكتاب فأما فسادها من طريق النقل فإن حديث سيف بن سليمان غير ثابت لضعف سيف بن سليمان هذا ولأن عمرو بن دينار لا يصح له سماع من ابن عباس فلا يصح لمخالفنا الاحتجاج به وحدثنا عبد الرحمن بن سيما قال حدثنا عبد الله بن أحمد قال حدثني أبى قال حدثنا أبو سلمة الخزاعي قال حدثنا سليمان بن بلال عن ربيعة بن أبى عبد الرحمن عن إسماعيل بن عمرو بن قيس بن سعد بن عبادة عن أبيه أنهم وجدوا في كتاب سعد بن عبادة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قضى باليمين مع الشاهد فلو كان عنده عن عمرو بن دينار عن ابن عباس لذكره ولم يلجأ إلى ما وجده في كتاب* وأما حديث سهيل فإن محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن أبى بكر أبو مصعب الزهري قال حدثنا الدراوردى عن ربيعة بن أبى عبد الرحمن عن سهيل بن أبى صالح عن أبيه عن أبى هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قضى باليمين مع الشاهد قال أبو داود وزادني الربيع بن سليمان المؤذن في هذا الحديث قال أخبرنا الشافعى عن عبد العزيز قال فذكرت ذلك لسهيل فقال أخبرنى ربيعة وهو عندي ثقة أنى حدثته إياه ولا أحفظه* قال عبد العزيز وقد كان أصابت سهيلا علة أزالت بعض عقله ونسى بعض* حديثه فكان سهيل بعد يحدثه عن ربيعة عنه عن أبيه* وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن داود الإسكندرانى قال حدثنا زياد يعنى ابن يونس قال حدثني سليمان بن بلال عن ربيعة بإسناد أبى مصعب ومعناه قال سليمان فلقيت سهيلا فسألته عن هذا الحديث فقال ما أعرفه فقلت له إن ربيعة أخبرنى به عنك قال فإن كان ربيعة أخبرك عنى فحدث به عن ربيعة عنى ومثل هذا الحديث لا يثبت به شريعة مع إنكار من روى

٢٥٠

عنه إياه وفقد معرفته به* فإن قال قائل يجوز أن يكون رواه ثم نسيه* قيل له ويجوز أن يكون قد وهم بديا فيه وروى ما لم يكن سمعه وقد علمنا أنه كان آخر أمره جحوده وفقد العلم به فهو أولى* وأما حديث جعفر بن محمد فإنه مرسل وقد وصله عبد الوهاب الثقفي وقيل إنه أخطأ فيه فذكر فيه جابرا وإنما هو عن أبى جعفر محمد بن على عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال أبو بكر فهذه الأمور التي ذكرنا إحدى العلل المانعة من قبول هذه الأخبار وإثبات الأحكام بها ومن جهة أخرى وهو ما حدثنا عبد الرحمن بن سيما قال حدثنا عبد الله بن أحمد قال حدثني أبى قال حدثنا إسماعيل عن سوار بن عبد الله قال سألت ربيعة الرأى قلت قولكم شهادة الشاهد ويمين صاحب الحق قال وجدت في كتاب سعد فلو كان حديث سهيل صحيحا عند ربيعة لذكره ولم يعتمد على ما وجد في كتاب سعد وحدثنا عبد الرحمن ابن سيما قال حدثنا عبد الله بن أحمد قال حدثني أبى قال حدثنا عبد الرزاق قال حدثنا معمر عن الزهري في اليمين مع الشاهد قال هذا شيء أحدثه الناس لا إلا شاهدين حدثنا حماد بن خالد الخياط قال سألت ابن أبى ذئب إيش كان الزهري يقول في اليمين مع الشاهد قال كان يقول بدعة وأول من أجازه معاوية وروى محمد بن الحسن عن ابن أبى ذئب قال سألت الزهري عن شهادة شاهد ويمين الطالب فقال ما أعرفه وأنها البدعة وأول من قضى به معاوية والزهري من أعلم أهل المدينة في وقته فلو كان هذا الخبر ثابتا كيف كان يخفى مثله عليه وهو أصل كبير من أصول الأحكام وعلى أنه قد علم أن معاوية أول من قضى به وأنه بدعة* وقد روى عن معاوية أنه قضى بشهادة امرأة واحدة في المال من غير يمين الطالب حدثنا عبد الرحمن بن سيما قال حدثنا عبد الله بن أحمد قال حدثني أبى قال حدثنا عبد الرزاق وروح ومحمد بن بكر قالوا أخبرنا ابن جريج قال أخبرنى عبد الله ابن أبى مليكة أن علقمة بن أبى وقاص أخبره أن أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم شهدت لمحمد بن عبد الله بن زهير وأخوته أن ربيعة بن أبى أمية أعطى أخاه زهير بن أبى أمية نصيبه من ريعه ولم يشهد على ذلك غيرها فأجاز معاوية شهادتها وحدها وعلقمة حاضر ذلك من قضاء معاوية فإن كان قضاء معاوية بالشاهد مع اليمين جائزا فينبغي أن يجوز أيضا قضاؤه بالشاهد من غير يمين الطالب فاقضوا بمثله وأبطلوا حكم الكتاب والسنة وحدثنا عبد الرحمن بن سيما قال حدثنا عبد الله بن أحمد قال حدثني أبى قال حدثنا عبد الرزاق قال

٢٥١

أخبرنا ابن جريج قال كان عطاء يقول لا يجوز شهادة على دين ولا غيره دون شاهدين حتى إذا كان عبد الملك بن مروان جعل مع شهادة الرجل الواحد يمين الطالب وروى مطرف بن مازن قاضى أهل اليمن عن ابن جريج عن عطاء بن أبى رباح قال أدركت هذا البلد يعنى مكة وما يقضى فيه في الحقوق إلا بشاهدين حتى كان عبد الملك بن مروان يقضى بشاهد ويمين وروى الليث بن سعد عن زريق بن حكيم أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز وهو عامله إنك كنت تقضى بالمدينة بشهادة الشاهد ويمين صاحب الحق فكتب إليه عمر إنا قد كنا نقضي كذلك وإنا وجدنا الناس على غير ذلك فلا تقضين إلا بشهادة رجلين أو برجل وامرأتين فقد أخبر هؤلاء السلف أن القضاء باليمين سنة معاوية وعبد الملك وأنه ليس بسنة النبي صلّى الله عليه وسلّم فلو كان ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما خفى على علماء التابعين فهذان الوجهان اللذان ذكرنا أحدهما فساد السند واضطرابه والثاني جحود سهيل له وهو العمدة فيه وأخبار ربيعة أن أصله ما وجد في كتاب سعد وإنكار علماء التابعين وأخبارهم أنه بدعة وأن معاوية وعبد الملك أول من قضى به والوجه الثالث أنها لو وردت من طرق مستقيمة تقبل أخبار الآحاد في مثلها وعريت من ظهور نكير السلف على روايتها وأخبارهم أنها بدعة لما جاز الاعتراض بها على نص القرآن إذ غير جائز نسخ القرآن بأخبار الآحاد ووجه النسخ منه أن المفهوم منه الذي لا يرتاب به أحد من سامعى الآية من أهل اللغة حظر قبول أقل من شاهدين أو رجل وامرأتين وفي استعمال هذا الخبر ترك موجب الآية والاقتصار على أقل من العدد المذكور إذ غير جائز أن ينطوى تحت ذكر العدد المذكور في الآية الشاهد واليمين كما كان المفهوم من قوله (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) وقوله (فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) منع الاقتصار على أقل منها في كونها حدا* فإن قال قائل جائز أن يكون حد القاذف أقل من ثمانين وحد الزاني أقل من مائة كان مخالفا للآية كذلك من قبل شهادة رجل واحد فقد خالف أمر الله تعالى في استشهاد شاهدين وهو مخالف لمعنى الآية كذلك من وجه آخر وهو ما أبان الله تعالى به عن المقصد في الكتاب واستشهاد الشهود في قوله (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) وقوله (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) فأخبر أن المقصد فيه الاحتياط والتوثق لصاحب الحق والاستظهار بالكتاب والشهود لنفى الريبة

٢٥٢

والشك والتهمة عن الشهود في قوله (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) وفي الحكم بشاهد ويمين رفع هذه المعاني كلها وإسقاط اعتبارها فثبت بما وصفنا أن الحكم بها خلاف الآية فهذان الوجهان مما قد ظهر بهما مخالفة الحكم بالشاهد واليمين للآية وأيضا فلما كان حكم القرآن في الشاهدين والرجل والمرأتين مستعملا ثابتا وكانت أخبار الشاهد واليمين مختلفا فيها وجب أن يكون خبر الشاهد واليمين منسوخا بالقرآن لأنه لو كان ثابتا لا تفق على استعمال حكمه كاتفاقهم على استعمال حكم القرآن والوجه الرابع أن خبر الشاهد واليمين لو سلم من معارضة الكتاب وورد من طرق مستقيمة لما صح الاحتجاج به في الاستحقاق فشاهد ويمين الطالب وذلك أن أكثر ما فيه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قضى بشاهد ويمين وهذه حكاية قضية من النبي صلّى الله عليه وسلّم ليس بلفظ عموم في إيجاب الحكم بشاهد ويمين حتى يحتج به في غيره ولم يبين لنا كيفيتها في الخبر وفي حديث أبى هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قضى باليمين مع الشاهد وذلك محتمل أن يريد به أن وجود الشاهد الواحد لا يمنع استحلاف المدعى عليه إن استحلفه مع شهادة شاهد فأفاد أن شهادة الشاهد الواحد لا تمنع استحلاف المدعى عليه وأن وجوده وعدمه بمنزلة وقد كان يجوز أن يظن ظان أن اليمين إنما تجب على المدعى عليه إذا لم يكن للمدعى شاهد أصلا فأبطل الراوي بنقله لهذه القضية ظن الظان لذلك وأيضا فإن الشاهد قد يكون اسما للجنس فجائز أن يكون مراد الراوي أنه قضى باليمين في حال وبالبينة في حال فلا يكون حكم الشاهد مفيدا للقضاء بشهادة واحد وهذا كقوله تعالى (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) لما كان اسما للجنس لم يكن المراد سارقا واحدا وجائز أن يكون قضى بشاهد واحد وهو خزيمة بن ثابت الذي جعل شهادته بشهادة رجلين فاستحلف الطالب مع ذلك لأن المطلوب ادعى البراءة والوجه الخامس احتماله لموافقة مذهبنا وذلك بأن تكون القضية فيمن اشترى جارية وادعى عيبا في موضع لا يجوز النظر إليه إلا لعذر فتقبل شهادة الشاهد الواحد في وجود العيب واستحلف المشترى مع ذلك بالله ما رضى فيكون قد قضى بالرد على البائع بشهادة شاهد مع يمين الطالب وهو المشترى وإذا كان خبر الشاهد واليمين محتملا لما وصفنا وجب حمله عليه وأن لا يزال به حكم ثابت من جهة نص القرآن لما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما أتاكم عنى فاعرضوه على كتاب الله فما وافق كتاب الله فهو منى وما خالفه فليس منى

٢٥٣

وأيضا فإن القضية المروية في الشاهد واليمين ليس فيها أنها كانت في الأموال أو غيرها وقد اتفق الفقهاء على بطلانه في غير الأموال فكذلك في الأموال* فإن قيل قال عمرو ابن دينار ومذهبه وليس فيه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قضى بها في الأموال فإذا جاز أن لا يقضى في غير الأموال وإن كانت القضية مبهمة ليس فيها بيان ذكر الأموال ولا غيرها فكذلك لا يقضى به في الأموال إذا لم يبين كيفيتها وليس القضاء بها في الأموال بأولى منه في غيرها فإن قيل إنما يقضى به فيما تقبل فيه شهادة رجل وامرأتين وهو الأموال فتقوم يمين الطالب مقام شاهد واحد مع شهادة الآخر* قيل له هذه دعوى لا دلالة عليها ومع ذلك فكيف صارت يمين الطالب قائمة مقام شاهد آخر دون أن تقوم مقام امرأة ويقال له أرأيت لو كان المدعى امرأة هل تقيم يمينها مقام شهادة رجل فإن قال نعم قيل له فقد صارت اليمين آكد من الشهادة لأنك لا تقبل شهادة امرأة واحدة في الحقوق وقبلت يمينها وأقمتها مقام شهادة رجل واحد والله تعالى إنما أمرنا بقبول من نرضى من الشهداء وإن كانت هذه شاهدة وقامت يمينها مقام شهادة رجل فقد خالفت القرآن لأن أحدا لا يكون مرضيا فيما يدعيه لنفسه ومما يدل على تناقض قولهم أنه لا خلاف أن شهادة الكافر غير مقبولة على المسلم في عقود المداينات وكذلك شهادة الفاسق غير مقبولة ثم إن كان المدعى كافرا أو فاسقا وشهد منه شاهد واحد استحلفوه واستحق ما يدعيه بيمينه وهو لو شهد مثل هذه الشهادة لغيره وحلف عليها خمسين يمينا لم تقبل شهادته ولا أيمانه وإذا ادعى لنفسه وحلف استحق ما ادعى بقوله مع أنه غير مرضى ولا مأمون لا في شهادته ولا في أيمانه وفي ذلك دليل على بطلان قولهم وتناقض مذهبهم.

قوله عز وجل (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) روى عن سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد والشعبي وطاوس إذا ما دعوا لإقامتها وعن قتادة والربيع بن أنس إذا دعوا لإثبات الشهادة في الكتب وقال ابن عباس والحسن هو على الأمرين جميعا من إثباتها في الكتاب وإقامتها بعد علم الحاكم* قال أبو بكر الظاهر أنه عليهما جميعا لعموم اللفظ هو في الابتداء على إثبات الشهادة كأنه قال إذا دعوا لإثبات شهاداتهم في الكتاب ولا خلاف أنه ليس على الشهود الحضور عند المتعاقدين وإنما على المتعاقدين أن يحضرا عند الشهود فإذا حضرا هم وسألاهم إثبات شهاداتهم في الكتاب فهذه الحال هي المرادة بقوله

٢٥٤

(إِذا ما دُعُوا) لإثبات الشهادة وأما إذا ما أثبتا شهادتهما ثم دعيا لإقامتها عند الحاكم فهذا الدعاء هو كحضورهم عند الحاكم لأن الحاكم لا يحضر عند الشاهدين ليشهدا عنده وإنما الشهود عليهم الحضور عند الحاكم فالدعاء الأول إنما هو لإثبات الشهادة في الكتاب والدعاء والثاني لحضورهم عند الحاكم وإقامة الشهادة عنده* وقوله تعالى (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) يجوز أن يكون أيضا على الحالين من الابتداء والإقامة لها عند الحاكم وقوله تعالى (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) لا يدل على أن المراد ابتداء الشهادة لأنه ذكر بعض ما انتظمه اللفظ فلا دلالة فيه على خصوصه فيه دون غيره فإن قال قائل لما قال (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) فسماهم شهداء دل على أن المراد حال إقامتها عند الحاكم لأنهم لا يسمون شهداء قبل أن يشهدوا في الكتاب قيل له هذا غلط لأن الله تعالى قال (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) فسماهما شهيدين وأمر باستشهادهما قبل أن يشهدا لأنه لا خلاف أن حال الابتداء مرادة بهذا اللفظ وهو كما قال تعالى (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) فسماه زوجا قبل أن تتزوج وإنما يلزم الشاهد إثبات الشهداء ابتداء ويلزمه إقامتها على طريق الإيجاب إذا لم يجد من يشهد غيره وهو فرض على الكفاية كالجهاد والصلاة على الجنائز وغسل الموتى ودفنهم ومتى قام به بعض سقط عن الباقين وكذلك حكم الشهادة في تحملها وأدائها والذي يدل على أنها فرض على الكفاية أنه غير جائز للناس كلهم الامتناع من تحمل الشهادة ولو جاز لكل واحد أن يمتنع من تحملها لبطلت الوثائق وضاعت الحقوق وكان فيه سقوط ما أمر الله تعالى به وندب إليه من التوثق بالكتاب والاشهاد فدل ذلك على لزوم فرض إثبات الشهادة في الجملة والدليل على أن فرضها غير معين على كل أحد في نفسه اتفاق المسلمين على أنه ليس على كل أحد من الناس تحملها ويدل عليه قوله تعالى (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) فإذا ثبت فرض التحمل على الكفاية كان حكم الأداء عند الحاكم كذلك إذا قام بها البعض منهم سقط عن الباقين وإذا لم يكن في الكتاب إلا شاهدان فقد تعين الفرض عليهما متى دعيا لإقامتها بقوله تعالى (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) وقال (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) وقال (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) وقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) وإذا كان منهما مندوحة بإقامة غيرهما فقد سقط

٢٥٥

الفرض منهما لما وصفنا* قوله عز وجل (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ) يعنى والله أعلم لا تملوا ولا تضجروا أن تكتبوا القليل الذي جرت العادة بتأجيله والكثير الذي ندب فيه الكتاب والإشهاد لأنه معلوم أنه لم يرد به القيراط والدانق ونحوه إذ ليس في العادة المدينة بمثله إلى أجل فأبان أن حكم القليل المتعارف فيه التأجيل كحكم الكثير فيما ندب إليه من الكتابة والإشهاد لما ثبت أن النزر اليسير غير مراد بالآية وإن قليل ما جرت به العادة فهو مندوب إلى كتابته والإشهاد فيه وكل ما كان مبنيا على العادة فطريقه الاجتهاد وغالب الظن وهذا يدل على جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث التي لا توقيف فيها ولا اتفاق وقوله (إِلى أَجَلِهِ) يعنى إلى محل أجله فيكتب ذكر الأجل في الكتاب ومحله كما كتب أصل الدين وهذا يدل على أن عليهما أن يكتبا في الكتاب صفة الدين ونقده ومقداره لأن الأجل بعض أوصافه فحكم سائر أوصافه بمنزلته وقوله تعالى (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) فيه بيان أن الغرض الذي أجرى بالأمر وبالكتاب واستشهاد الشهود هي الوثيقة والاحتياط للمتداينين عند التجاحد ورفع الخلاف وبين المعنى المراد بالكتابة فأعلمهم أن ذلك أقسط عند الله بمعنى أنه أعدل وأولى أن لا يقع فيه بينهم التظالم وأنه مع ذلك أقوم للشهادة يعنى والله أعلم أنه أثبت لها وأوضح منها لو لم تكن مكتوبة وأنه مع ذلك أقرب إلى نفى الريبة والشك فيها فأبان لنا جل وعلا أنه أمر بالكتاب والإشهاد احتياطا لنا في ديننا ودنيانا ودفع التظالم فيما بيننا وأخبر مع ذلك أن في الكتاب من الاحتياط للشهادة ما نفى عنها الريب والشك وأنه أعدل عند الله من أن لا يكون مكتوبا فيرتاب الشاهد فلا ينفك بعد ذلك من أن يقيمها على ما فيها من الارتياب والشك فيقدم على محظور أو يتركها فلا يقيمها فيضيع حق الطالب وفي هذا دليل على أن الشهادة لا تصح إلا مع زوال الريب والشك فيها وأنه لا يجوز للشاهد إقامتها إذا لم يذكرها وإن عرف خطه لأن الله تعالى أخبر أن الكتاب مأمور به لئلا يرتاب بالشهادة فدل ذلك على أنه لا تجوز له إقامتها مع الشك فيها فإذا كان الشك فيها يمنع فعدم الذكر والعلم بها أولى أن يمنع صحتها قوله تعالى (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) يعنى والله أعلم البياعات التي يستحق كل واحد منهما على صاحبه تسليم ما عقد عليه من جهته بلا تأجيل فأباح ترك الكتاب فيها وذلك توسعة منه جل

٢٥٦

وعز لعباده ورحمة لهم لئلا يضيق عليهم أمر تبايعهم في المأكول والمشروب والأقوات التي حاجتهم إليها ماسة في أكثر الأوقات ثم قال تعالى في نسق هذا الكلام (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) وعمومه يقتضى الإشهادة على سائر عقود البياعات بالأثمان العاجلة والآجلة وإنما خص التجارات الحاضرة غير المؤجلة بإباحة ترك الكتاب فيها فأما الإشهاد مندوب إليه في جميعها إلا النزر اليسير الذي ليس في العادة التوثق فيها بالإشهاد نحو شرى الخبز والبقل والماء وما جرى مجرى ذلك وقد روى عن جماعة من السلف أنهم رأوا الإشهاد في شرى البقل ونحوه ولو كان مندوبا إليه لنقل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم والصحابة والسلف والمتقدمين ولنقله الكافة لعموم الحاجة إليه وفي علمنا بأنهم كانوا يتبايعون الأقوات وما لا يستغنى الإنسان عن شرائه من غير نقل عنهم الإشهاد فيه دلالة على أن الأمر بالإشهاد وإن كان ندبا وإرشادا فإنما هو في البياعات المعقودة على ما يخشى فيه التجاحد من الأثمان الخطيرة والأبدال النفيسة لما يتعلق بها من الحقوق لبعضهم على بعض من عيب إن وجده ورجوع ما يجب لمبتاعيه باستحقاق مستحق لجميعه أو بعضه وكان المندوب إليه فيما تضمنته هذه الآية الكتاب والإشهاد على البياعات المعقودة على أثمان آجلة والإشهاد على البياعات الحاضرة دون الكتاب وروى الليث عن مجاهد في قوله تعالى (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) قال إذا كان نسيئة كتب وإذا كان نقدا أشهد وقال الحسن في النقد إن أشهدت فهو ثقة وإن لم تشهد فلا بأس وعن الشعبي مثل ذلك وقد قال قوم إن الأمر بالإشهاد منسوخ بقوله تعالى (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) وقد بينا الصواب عندنا من ذلك فيما سلف* قوله عز وجل (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) روى يزيد بن أبى زياد عن مقسم عن ابن عباس قال هي أن يجيء الرجل إلى الكاتب أو الشاهد فيقول إنى على حاجة فيقول إنك قد أمرت أن تجيب فلا يضار وعن طاوس ومجاهد مثله وقال الحسن وقتادة لا يضار كاتب فيكتب ما لم يؤمر به ولا يضار الشهيد فيزيد في شهادته وقرأ الحسن وقتادة وعطاء ولا يضار كاتب بكسر الراء وقرأ عبد الله بن مسعود ومجاهد لا يضار بفتح الراء فكانت إحدى القرائتين نهيا لصاحب الحق عن مضارة الكاتب والشهيد والقراءة الأخرى فيها نهى الكاتب والشهيد عن مضارة صاحب الحق وكلاهما صحيح مستعمل فصاحب الحق منهى عن مضارة الكاتب والشهيد بأن يشغلهما عن حوائجهما ويلح عليهما في الاشتغال

«١٧ ـ أحكام في»

٢٥٧

بكتابه وشهادته والكاتب والشهيد كل واحد منهما منهى عن مضارة الطالب بأن يكتب الكتاب ما لم يمل ويشهد الشهيد بما لم يستشهد ومن مضارة الشهيد للطالب القعود عن الشهادة وليس فيها إلا شاهدان فعليهما فرض أدائها وترك مضارة الطالب بالامتناع من إقامتها وكذلك على الكاتب أن يكتب إذا لم يجدا غيره* فإن قيل قوله تعالى في التجارة (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) فرق بينها وبين الدين المؤجل دلالة على أن عليهم كتب الدين المؤجل والإشهاد فيه* قيل له ليس كذلك لأن الأمر بالإشهاد على عقود المداينات المؤجلة لما كان مندوبا إليه وكان تاركه تاركا لما ندب إليه من الاحتياط لما له جاز أن يعطف عليه قوله (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) بأن لا تكونوا تاركين لما ندبتم إليه بترك الكتابة كما تكونوا تاركين الندب والاحتياط إذا لم تكتبوا الديون المؤجلة ولم تشهدوا عليها ويحتمل قوله (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) أنه لا ضرر عليكم في باب حياطة الأموال لأن كل واحد منهما يسلم ما استحق عليه بإزاء تسليم الآخر وقوله (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) عطفا على ذكر المضارة تدل على أن مضارة الطالب للكاتب والشهيد ومضارتهما له فسق لقصد كل واحد منهم إلى مضارة صاحبه بعد نهى الله تعالى عنها والله أعلم.

باب الرهن

قال الله تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) يعنى والله أعلم إذا عدمتم التوثق بالكتاب والإشهاد فالوثيقة برهان مقبوضة وقام الرهن في باب التوثق في الحال التي لا يصل فيها إلى التوثق بالكتاب والإشهاد مقامها وإنما ذكر حال السفر لأن الأغلب فيها عدم الكتاب والشهود وقد روى عن مجاهد أنه كان يكره الرهن إلا في السفر وكان عطاء لا يرى به بأسا في الحضر فذهب مجاهد إلى أن حكم الرهن لما كان مأخوذا من الآية وإنما أباحته الآية في السفر لم يثبت في غيره وليس هذا عند سائر أهل العلم كذلك ولا خلاف بين فقهاء الأمصار وعامة السلف في جوازه في الحضر و

قد روى إبراهيم عن الأسود عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم اشترى من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعه وروى قتادة عن أنس قال رهن النبي صلّى الله عليه وسلّم درعا عند يهودي بالمدينة وأخذ منه شعيرا لأهله فثبت جواز الرهن في الحضر بفعله صلّى الله عليه وسلّم وقال تعالى (فَاتَّبِعُوهُ) وقال (لَقَدْ كانَ

٢٥٨

لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) فدل على أن تخصيص الله لحال السفر بذكر الرهن إنما هو لأن الأغلب فيها عدم الكاتب والشهيد وهذا كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في خمس وعشرين من الإبل ابنة مخاض وفي ست وثلاثين ابنة لبون لم يرد به وجود المخاض واللبن بالأم وإنما أخبر عن الأغلب الأعم من الحال وإن كان جائزا أن لا يكون بأمها مخاض ولا لبن فكذلك ذكر السفر هو على هذا الوجه وكذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لا قطع في ثمر حتى يؤويه الجرين والمراد استحكامه وجفافه لا حصوله في الجرين لأنه لو حصل في بيته أو حانوته بعد استحكامه وجفافه فسرقه سارق قطع فيه فكان ذكر الجرين على الأغلب الأعم من حاله في استحكامه فكذلك ذكره لحال السفر هو على هذا المعنى* وقوله (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) يدل على أن الرهن لا يصح إلا مقبوضا من وجهين أحدهما أنه عطف على ما تقدم من قوله (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) فلما كان استيفاء العدد المذكور والصفة المشروطة للشهود واجبا وجب أن يكون كذلك حكم الرهن فيما شرط له من الصفة فلا يصح إلا عليها كما لا تصح شهادة الشهود إلا على الأوصاف المذكورة إذ كان ابتداء الخطاب توجه إليهم بصيغة الأمر المقتضى للإيجاب والوجه الثاني أن حكم الرهن مأخوذ من الآية والآية إنما أجازته بهذه الصفة فغير جائز إجازته على غيرها إذ ليس هاهنا أصل آخر يوجب جواز الرهن غير الآية ويدل على أنه لا يصح إلا مقبوضا أنه معلوم أنه وثيقة لمرتهن بدينه ولو صح غير مقبوض لبطل معنى الوثيقة وكان بمنزلة سائر أموال الراهن التي لا وثيقة للمرتهن فيها وإنما جعل وثيقة له ليكون محبوسا في يده بدينه فيكون عند الموت والإفلاس أحق به من سائر الغرماء ومتى لم يكن في يده كان لغوا لا معنى فيه وهو وسائر الغرماء فيه سواء ألا ترى أن المبيع إنما يكون محبوسا بالثمن ما دام في يد البائع فإن هو سلمه إلى المشترى سقط حقه وكان هو وسائر الغرماء سواء فيه* واختلف الفقهاء في إقرار المتعاقدين بقبض الرهن فقال أصحابنا جميعا والشافعى إذا قامت البينة على إقرار الراهن بالقبض والمرتهن يدعيه جازت الشهادة وحكم بصحة الرهن وعند مالك أن البينة غير مقبولة على إقرار المصدق بالقبض حتى يشهدوا على معاينة القبض فقيل إن القياس قوله في الرهن كذلك والدليل على جواز الشهادة على إقرارهما بقبض الرهن اتفاق

٢٥٩

الجميع على جواز إقراره بالبيع والغصب والقتل فكذلك قبض الرهن والله أعلم.

ذكر اختلاف الفقهاء في رهن المشاع

قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر لا يجوز رهن المشاع فيما يقسم ولا فيما لا يقسم وقال مالك والشافعى يجوز فيما لا يقسم وما يقسم وذكر ابن المبارك عن الثوري في رجل يرتهن الرهن ويستحق بعضه قال يحرج من الرهن ولكن له أن يجبر الراهن على أن يجعله رهنا فإن مات قبل أن يجعله رهنا كان بينه وبين الغرماء وقال الحسن بن صالح يجوز رهن المشاع فيما لا يقسم ولا يجوز فيما يقسم* قال أبو بكر لما صح بدلالة الآية أن الرهن لا يصح إلا مقبوضا من حيث كان رهنه على جهة الوثيقة وكان في ارتفاع القبض ارتفاع معنى الرهن وهو الوثيقة وجب أن لا يصح رهن المشاع فيما يقسم وفيما لا يقسم لأن المعنى الموجب لاستحقاق القبض وإبطال الوثيقة مقارن العقد وهو الشركة التي يستحق بها دفع القبض للمهايأة فلم يجز أن يصح مع وجود ما يبطله ألا ترى أنه متى استحق ذلك القبض بالمهايأة وعاد إلى يد الشريك فقد بطل معنى الوثيقة وكان بمنزلة الرهن الذي لم يقبض وليس ذلك بمنزلة عارية الرهن المقبوض إذا أعاده لراهن فلا يبطل الرهن وله أن يرده إلى يده من قبل أن هذا القبض غير مستحق وللمرتهن أخذه منه متى شاء وإنما هو ابتدأ به من غير أن يكون ذلك القبض مستحقا بمعنى يقارن العقد وليس هذا أيضا بمنزلة هبة المشاع فيما لا يقسم فيجوز عندنا وإن كان من شرط الهبة القبض كالرهن من قبل أن الذي يحتاج إليه في الهبة من القبض لصحة الملك وليس من شرط بقاء الملك استصحاب اليد فلما صح القبض بديا لم يكن في استحقاق اليد تأثير في رفع الملك ولما كان في استحقاق المرتهن رفع معنى الوثيقة لم يصح مع وجود ما يبطله وينافيه* فإن قيل هلا أجزت رهنه من شريكه إذ ليس فيه استحقاق يده في الثاني لأن يده تكون باقية عليه إلى وقت الفكاك* قيل له لأن للشريك استخدامه إن كان عبدا بالمهايأة بحق ملكه ومن فعل ذلك لم يكن يده فيه يد رهن فقد استحقت يد الرهن في اليوم الثاني فلا فرق بين الشريك وبين الأجنبى لوجود المعنى الموجب لاستحقاق قبض الرهن مقارنا للعقد* واختلف في رهن الدين فقال سائر الفقهاء لا يصح رهن الدين بحال وقال ابن القاسم عن مالك في قياس قوله إذا كان لرجل على رجل دين فبعته بيعا وارتهنت منه الدين الذي

٢٦٠